انتصار المقاومة الفلسطينية
بعد مرور ما يقرب من شهر على الحرب الصِّهْيَوْنية على قطاع غزة، لم يَعُد الحديث عن انتصار المقاومة الفلسطينية مجردَ كلام، أو تقارير تصدر هنا أو هناك بهدف ملء قلوب الفلسطينيين، أو الذين تعاطفوا معهم بالأمل، وعدم الاستسلام لهذه القوة الغاشمة، التي تخلَّت عن أية أخلاقيات في عدوانها؛ فقد أصبح هذا الانتصار حقيقة واضحة، وواقعًا مشاهدًا على أرض الواقع، بعد أن أعلنت قوات الاحتلال وقفَها لإطلاق النار، وبدء عمليات الانسحاب من القطاع، دون أن تحقق أيًّا من أهدافها التي أعلنت عنها قبل بدء عدوانها؛ لتكرر بذلك قوات الاحتلال مأساتها التي تعرضت لها خلال عدوانها على الجنوب اللبناني عام 2006، وكانت سببًا في قيام الكيان الصهيوني بتشكيل لجان للتحقيق حول المسؤول عن الهزيمة هناك.
وقد حاول رئيس الوزراء الصهيوني أن يخفف من حدة الهزيمة، فادَّعى أن انسحابه إنما جاء استجابة لنداء الرئيس المصري حسني مبارك، الذي كان قد طالب في خطاب له بضرورة وقف إسرائيل لعدوانها والانسحاب من غزة، وهو بالطبع مبرِّر غير منطقي بالأساس؛ فقد وقعت مناشدة سابقة للرئيس المصري بعد أيام قليلة من العدوان دون أن تستجيب له إسرائيل، كما لم تستجب لنداءات دولية كثيرة، كان على رأسها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1860، والذي صدر يوم التاسع من شهر يناير 2009؛ أي: بعد ما يقرب من 12 يومًا فقط من شن العدوان الصهيوني، الذي بدأ ظُهر يوم السبت 27/ 12/ 2008.
لكن الواقع يشهد بأن الموقف الصهيوني جاء نتيجة عدة عوامل، أغلبها مرتبط أساسًا بالأهداف الرئيسة التي من أجلها كان العدوان؛ إذ كان يسعى الاحتلال من خلال عدوانه إلى:
1- توجيه ضربة عسكرية قوية؛ لإضعاف قدرات المقاومة وحركة حماس على المواجهة.
2- الحد من قدرة المقاومة على توجيه صواريخها باتجاه الكيان الصهيوني.
3- منع تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة، سواءٌ كان ذلك عبر الأراضي المصرية أم عبر البحر.
4- إحداث حالة من فقدان الثقة الشعبية الفلسطينية في رجالات المقاومة وحركة حماس، بما يعمل على إعادة السلطة الفلسطينية - الرئاسة - مرة أخرى في غزة، بعد أن همشتها حركةحماس.
5- فرض التهدئة مجددًا بعد أن أعلنت المقاومة إنهاءها في 19/ 12/ 2008.
6- إطلاق سراح الجندي الصهيوني جلعاد شاليط، الذي تمكنت المقاومة من أسره عام 2006.
غير أن استقراء الواقع يشير بوضوح إلى ما مُني به الاحتلال من فشل ذريع في تحقيق هذه الأهداف، ففيما يخص الهدف الأول، أشارت البيانات الصادرة عن المقاومة إلى أن عدد الذين استشهدوا من المقاومين لم يتجاوز العشرات من عناصرها، وهو ما لن يؤثر بطبيعة الحال على قوة المقاومة، في حين استطاعت هذه المقاومة الفقيرة والبسيطة في عدَّتها أن توقع خسائرَ فادحةً في صفوف العدو، فقد أكدت المقاومة أنها قتلت ما لا يقل عن 80 جنديًّا صهيونيًّا، في حين أشارت بعض التقارير إلى أن المقاومة قتلت 256 إسرائيليًّا، بينهم 203 جندي و53 مستوطنًا خلال أيام العدوان، وإصابة 1327 آخرين.
وشنَّت فصائل المقاومة الفلسطينية (كتائب القسام، وكتائب شهداء الأقصى، وسرايا القدس، وألوية الناصر صلاح الدين، وكتائب الجبهة الشعبية "الشهيد أحمد أبو الريش"، و"الشهيد أبو علي مصطفى"، و"الشهيد جهاد جبريل") - 191 عملية نوعية ضد العدو.
لكنه - وكالمعتاد - حاول الإعلام الصهيوني إخفاءَ تلك الحقائق؛ حتى لا يعطي للمقاومين الفلسطينيين معنوياتٍ عاليةً، وحتى لا يخسر جيشه المهزوم معنوياته، على حد قول الصحفي والخبير الصهيوني في الشؤون العسكرية آفي فاكسمان، في مقالة له نشرتها صحيفة معاريف، والذي أشار أيضًا إلى أن إسرائيل لم تعلن حتى الآن إلا عن مقتل 10 جنود، ولن تعلن أكثر من ذلك، حتى لو وصل العدد إلى مائة؛ لأن هناك قرارًا حكوميًّا بمنع زيادة عدد القتلى عن عشرة.
أما فيما يخص الهدف الثاني من الحد من القدرة على إطلاق الصواريخ، فقد كان العدوان سببًا في تزايد سقوط الصواريخ على الصهاينة، الذين ساءت حالتهم النفسية والمعنوية إلى أقل من الصفر، فقد أكدت كتائب القسام أنها أطلقت وحدها (194 صاروخ غراد، و312 صاروخ قسام، و373 قذيفة هاون، و69 عبوة تفجيرية، و5 صواريخ تاندوم، وصاروخين عيار 107، وقذيفة بي - 29، قذيفتي ياسين، و55 قذيفة آر بي جي)، بالإضافة إلى ما أطلقته بقية فصائل المقاومة، وهو بالطبع كان ردًّا عمليًّا على فشل العدوان، وأن بإمكان المقاومة الاستمرار في قصف المدن والأحياء الصهيونية.
وقد اعترف جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك" بأن نحو 565 صاروخًا، و200 قذيفة هاون أُطلقت على المستوطنات الإسرائيلية، وجنوب فلسطين المحتلة، إضافةً إلى عدد غير محدد من الصواريخ التي سقطت على المستوطنات في الأيام القليلة الماضية قبل وقف إطلاق النار، في حين أشارت إحصائية إلى أن 10 % من الصواريخ كانت بعيدةَ المدى، وصُنفت أنها صواريخ غراد، وأن 1272 إسرائيليًّا أُصيبوا بجراحٍ من جرَّاء سقوط الصواريخ منذ بداية العدوان.
كذلك تيقَّن الاحتلال أنه لن يمكنه بهذه الحرب أن يمنع استمرارَ تدفق الأسلحة على قطاع غزة، على الرغم من قصفه لما يقرب من 1000 نفق على الحدود بين مصر والقطاع، وحثّه الدائم للسلطات المصرية على تشديد رقابتها على الحدود، ومنع عمليات التسلل، فضلاً عن محاولاته المستميتة لمراقبة بحر غزة، وهو ما دفع وزيرة خارجية الاحتلال مؤخرًا إلى الإسراع بتوقيع مذكرة تفاهم مع الولايات المتحدة، تهدف إلى وقف تهريب الأسلحة إلى القطاع، وذلك عبر سلسلة من الإجراءات التي سيتخذها البلدان.
حيث تشير المذكرة إلى أن البلدين سيعملان بالتعاون مع البلدان المجاورة، وغيرها من دول المنطقة؛ لمنع وصول الأسلحة وغيرها من المواد إلى المنظمات الإرهابية، مثل حركة حماس وغيرها من المنظمات الإرهابية، بحسب نص المذكرة، وأن ذلك سيكون بالتعاون مع شركاء واشنطن في حلف الناتو ودول المنطقة.
وبدا أن توقيع المذكرة بين طرفين فقط هما إسرائيل وأمريكا، أنهما القادران بمفردهما على منع تهريب الأسلحة، على الرغم من أن الطرف الأمريكي بالأساس طرفٌ منحاز إلى إسرائيل، وهو ما دفع القيادةَ المصرية إلى التأكيد على أن هذه الاتفاقية غير ملزمة لها بالأساس، وهو ربما يكون موقفًا لحفظ ماء وجه السيادة المصرية، خاصة وأن مصر لا تعارض بالأساس اتخاذ تدابير لمنع تهريب الأسلحة؛ بل إنه يربطها بالاحتلال الصهيوني اتفاقاتٌ تؤكد على ذلك، حيث كشفت إسرائيل - بحسب ما أوردت إذاعة راديو "سَوا" - عن وجود اتفاق مع مصر لمنع تهريب الأسلحة عبر أراضيها إلى قطاع غزة.
بل إن بعض الأنباء الصحفية أكدت أن مصر سمحت - وأثناء العدوان - لضباط عسكريين أمريكيين بالمشاركة في مراقبة الحدود المصرية مع قطاع غزة؛ من أجل منع تهريب الأسلحة إلى المقاومة الفلسطينية.
ومع ذلك فإن إسرائيل ومعها أمريكا يعلمان جيدًا أن كل هذه الإجراءات لن تستطيع وقف ومنع تهريب السلاح إلى غزة، فسواء كان التهريب عبر الأنفاق أم عبر البحر، فليس هما الوسيلتين الوحيدتين لإمداد المقاومة بالسلاح؛ إذ تمكنت الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية من اختراق المجتمع الإسرائيلي، وشراء السلاح من الجنود والمستوطنين، وتوفير كميات كافية منه لمقاتليها، فضلاً عن الإمكانيات والصناعات المحلية.
كذلك ليس من شك في أن إسرائيل فشلت في هدف إبعاد الشعب عن مقاومته، الذي التفَّ حولها، وحَظِيت بثقته، وأبى أن يتخلى عنها، أو أن يوجه لها سهامَ نقده، على الرغم من قيام طائرات العدو بإسقاط ملايين البيانات والمنشورات، التي استهدفت تفجير حالة من الاحتقان بين الشعب والمقاومة؛ إذ إننا لم نسمع خلال فترة العدوان أيَّ فلسطيني يناشد المقاومةَ بالتوقف أو الاستسلام للعدو؛ بل على العكس كانت أصوات أطفال غزة أسبقَ من الكبار في الحديث عن الصمود والتضحية، وأن أجسادهم وأرواحهم فداء لغزة؛ ليكون الانتصار بيد الفلسطينيين جميعهم، وليس بيد المقاومة وحدها.
في حين قدمت المقاومة ثلاثة من قياداتها بأُسرهم شهداء للقصف الصهيوني، كدليل قاطع على أن هؤلاء القادة ليسوا ببعيدين عن الاستهداف؛ بل هم المستهدفون الأُول من هذا العدوان.
بالمثل فقد فشل العدوان في تحقيق هدف إلزام حماس والمقاومة مرة أخرى بالتهدئة، بعد أن أعلنوا عن إنهائها في ديسمبر من العام الماضي، فقد كان رد فصائل المقاومة على إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد، قاطعًا وواضحًا لأقصى درجة؛ إذ أكدت المقاومة أنها ستلتزم بوقف إطلاق النار من جانبها لمدة أسبوع، كمهلة تعطى للاحتلال حتى ينسحب من القطاع، وفي حال عدم الاستجابة لذلك، فإنها ستعاود مرة أخرى قصفها للكيان، واستهداف قوات الاحتلال، فالمقاومة لم تعد في وضع من يرضخ لسلوك العدو؛ بل هي التي أصبحت تملي شروطها، وتحدد زمن تنفيذها.وأخيرًا: فإن العدو الصهيوني فشل حتى في مجرد إطلاق سراح الجندي جلعاد شاليط، الذي يمضي على أسره ما يزيد على العامين، والذي ما زال حيًّا حتى اللحظة، دون أن تتمكن قوات الاحتلال من معرفة مكانه.
هذه بعض دلائل انتصار المقاومة، التي تتمثل في تعجيز العدو عن تحقيق أهدافه، يضاف لها أن المقاومة استطاعت صد محاولات التوغُّل البَرِّي للقطاع، فبقيت قوات العدو على الرغم من محاولاتها طيلة خمسة عشر يومًا قريبة جدًّا من الحدود مع الكيان الصهيوني، لم تستطع السيطرة على القطاع؛ مخافة التوغل في المناطق السكنية، مما يعرضها لمزيد من الخسائر.
كذلك كان العدوان الصهيوني سببًا مباشرًا في أن تحقق المقاومة ثلاثة مكاسب:
أولها:
الاعتراف بحركة حماس باعتبار الأمر الواقع، بعد محاولات جادة ومضنية من أجل تهميشها وتجاهلها، وإرغامها على القبول بالإملاءات الأمريكية.
والثاني:
هو أن الحركة اكتسبت تأييدًا عربيًّا وعالميًّا كبيرًا، ربما يصبح مستقبلاً عاملَ ضغطٍ قويًّا على إسرائيل، للحد من اختراقاتها المتتالية للقوانين الدولية، وربما يعرض قادةَ إسرائيل للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
أما الثالث:
فهو الرفض العالمي للسلوك الصهيوني، والذي كانت نتيجته تجميدَ العلاقات مع بعض الدول العربية، مثل قطر وموريتانيا، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع بعض الدول، كفنزويلا وبوليفيا.
إن القول بالانتصار لا يعود اعتباره إلى حسابات المكسب والخسارة من الناحية البشرية والمادية في المعركة؛ ولكنه يعود بالأساس إلى قدرة أحد الأطراف على تحقيق أهدافه، أو إفشال أهداف الطرف الآخر، فضلاً عن قدرة أحد الطرفين على الاستمرار في الصمود والتحدي، فعلى الرغم من أن معركة السادس من أكتوبر - العاشر من رمضان - كانت نتائجها الأخيرة لصالح مصر والعرب، إلا أن عدد الشهداء المصريين والسوريين وغيرهم كان أكبر من عدد القتلى الصهاينة في المعركة، كما أن الصهاينة انهزموا في العدوان الذي شنُّوه على جنوب لبنان منذ عامين، على الرغم من أن عدد الشهداء اللبنانيين فاق بكثير عدد القتلى الصهاينة أيضًا.
لهذا؛ فإن المقاومة الفلسطينية ومعها الشعب الفلسطيني حققوا - وبامتياز - انتصارًا ساحقًا على العدو، خاصة وأنه يوجد اختلال كبير في الميزان العسكري بين طرفي النزاع المسلح، فبالحسابات العسكرية كانت الحرب تشبه معركة بين فيل ونملة، ولم يكن بمقدور الفلسطينيين كلهم - وليس أهل غزة فحسب - أن يقفوا ليوم واحد أمام هذه الترسانة، المدعومة بإمكانيات أمريكية، وخذلان عربي؛ لكن: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
إن العدو لم يستطع خلال هذا العدوان سوى أن يحقق هدفًا واحدًا، هو تغيير الواقع على أرض غزة، فبالفعل قد تغير الواقع؛ لكنه لصالح المقاومة والفلسطينيين الذين حظوا باحترام الدنيا كلها، بعدما صمدوا للدفاع عن أرضهم وحقهم في المقاومة.