الوقفة النبيلة
2010-06-10
بقلم : محمد السهلي
الحكومة الإسرائيلية غير صالحة قانونا للبحث في موضوع التحقيق في جريمة هي أوعزت بارتكابها، فالتحقيق يجب أن يتم وفق قواعد القانون الدولي والإنساني وبإشراف دولي وضعت الحملة التضامنية مع الشعب الفلسطيني الأمور في نصابها الصحيح. وإذا كان هذا الأمر جليا للعيان خلال الأسبوعين الماضيين ربطا بالوقائع وردات الفعل على الجريمة الصهيونية، إلا أن الجهود التي بذلت تحضيرا لانطلاق «أسطول الحرية» وما سبقه من مبادرات، هي حجر الأساس في هذا الإنجاز العظيم.
وعلى الرغم من أن هذا الأسطول بمن وما عليه لم يصل إلى القطاع المحاصر، إلا أن الموقف من الجريمة قد وضع معاناة سكان القطاع خاصة والشعب الفلسطيني عموما على رأس اهتمامات الرأي العام في مختلف دول العالم.
من هذه الزاوية يمكن لنا أن نقول ومن غير مبالغة بأن ما جرى على يد المتضامنين بدءا من «أسطول الحرية» وصولا إلى مئات آلاف الحناجر التي هتفت منددة بما ارتكبته القرصنة الصهيونية بحق مناصري الشعب الفلسطيني وقضيته بأنها مأثرة ستبقى في ضمير الشعب الفلسطيني ووجدانه ووقفة نبيلة لن ينساها.
لقد أعادت أحداث الأسبوعين الماضيين تسليط الضوء على جوانب هامة من العمل الوطني الفلسطيني بأبعاده ومستوياته المختلفة، كان البعض ينظر إليها باعتبارها هوامش في سياق العمل الوطني المقاوم.
- فعلى الرغم مما وقع في البيت الفلسطيني على يد أصحابه أولا، لم يفقد الشعب الفلسطيني أنصاره ومؤيدي حقوقه من القوى والأحزاب والمنظمات والشخصيات الفاعلة في صياغة الرأي العام في بلدانها من مشرق العالم إلى مغربه، بغض النظر عن المواقف الرسمية لحكومات هذه البلدان وقواها المسيطرة، مع الإشارة إلى أن التحركات الجماهيرية في بلدان مثل دول الاتحاد الأوروبي لها وزن لا يستهان به ولا تستطيع الحكومات تجاهله على اعتبار أن ما يجري على صعيد الرأي العام الشعبي سيجد تعبيراته في صندوق الاقتراع الذي لا يستهان به في صياغة الأنظمة السياسية في هذه البلدان. لذلك رفع عدد من الأصوات الرسمية من حدة مواقفه المنددة بالجريمة الصهيونية، ودعا بعضهم إلى إجراء تحقيقات جدية في هذا الأمر.
- وقد أثبتت الجاليات الفلسطينية في عدد واسع من البلدان، وبخاصة في الاتحاد الأوروبي قدرتها على التحرك وإقامة الصلات مع القوى والأحزاب والشخصيات المؤيدة لحقوقنا، ونشطت باتجاه تحشيد الرأي العام في تلك البلدان من أجل فضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي والدعوة إلى محاسبته وفق القانون الدولي والإنساني وجمع نشطاؤها التبرعات على خلاف أنواعها ونظموا المسيرات والتظاهرات والفعاليات التضامنية في مختلف المدن التي يتواجدون فيها.
هذا يؤكد ما ذهبنا إليه سابقا من أن العمل الوطني الفلسطيني يستطيع التقدم أشواطا كبيرة نحو الأمام على طريق انجاز الحقوق الوطنية فيما إذا تم توحيد الجهود المتوافرة وتجاوز واقع الانقسام المقيت، بل ربما يؤدي الانخراط في انجاز هذه المهام إلى عزل الانقسام (تفكيرا وسياسة)، وإطلاق سراح إمكانيات الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده للعودة مرة أخرى إلى دائرة المبادرة والفعل الإيجابي. وهذا يعني بالنسبة لنشطاء الجاليات الفلسطينية وأوساطها القيادية البحث الدائم عن نقاط الالتقاء في كل ما يمكن أن يثمر الجهود المبذولة في العلاقة مع أركان الرأي العام في هذا البلد أو ذاك. وبذلك لا يقف العالم بشقيه المؤيد والمناهض لحقوقنا أمام لوحة بمشهد واحد هو التجاذبات الداخلية. ولقد ثبت بالتجربة الأخيرة أن الفعل الوطني المنظم في هذه البلدان قد شجع كثيرا من القوى والأحزاب على التخلي عن ترددها أو تحفظها في إعلان مواقف أكثر تقدما تجاه حقوق الشعب الفلسطيني.
- وهذا يفتح بالضرورة على إعادة الاعتبار لوحدة العمل الوطني في إطار هذه الجاليات وتغليب المصلحة الوطنية وإعلائها فوق أي اعتبار آخر بما يكفل تعزيز دور هذه الجاليات، وزيادة قدرتها على التأثير في الرأي العام المحلي، ولا نعتقد أننا هنا نتحدث عن «تنازلات مؤلمة»، لأن وحدة العمل المطلوبة إنما تأتي وفق القواسم الوطنية المشتركة وهي أكثر مما يحصى في ظل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من مؤامرات سافرة على حقوقه الوطنية.
- ولا يمكن لنا أن نتجاهل دور الجاليات الشقيقة إلى جانب الجاليات الفلسطينية من حيث الدور الداعم الذي تنهض به في مختلف المحطات والمراحل التي مرت بها قضية الشعب الفلسطيني، ويمكن أن تتكامل هذه الجهود في سياق العمل المشترك الذي تعجز عنه للأسف هذه الأيام أركان النظام الرسمي العربي في تشتتها وانقسامها.
- على المقلب الآخر تحاول الحكومة الإسرائيلية العدوانية الانحناء أمام عاصفة الإدانة الدولية فتوهم بأنها على وشك القيام بالتحقيق مع جنودها وضباطها مرتكبي الجريمة بحق «أسطول الحرية»، من خلال تشكيل لجنة لهذا الغرض.
إلا أن الصحافة العبرية ذاتها كشفت بأن هذه اللجنة ستسعى إلى استيضاح مجموعة من المعلومات وتنحصر مهمتها بالمساعدة الإدارية وتهدف إلى البحث عن نقاط خلل في «تنفيذ الأوامر». وهي عمليا من غير صلاحيات لأن مهمتها لا تشمل إعداد وثائق يمكن أن تقدم لأية محكمة، وليس لها صلاحية طلب الشهود وإلزامهم بالمثول أمامها، ويرهن نجاح عملها بتعاون الخبراء الذين تطلب مساعدتهم، لكن «يسمح» لأعضاء اللجنة بالوصول إلى استنتاجات شخصية (!). وهي ـ بحسب الصحافة العبرية أيضا ـ لن تبحث عن مذنبين وستكون بعيدة عن أجهزة الإعلام.
ومع ذلك، ينبري وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك بالدفاع عن القتلة تحت عنوان أنه لا ينبغي وضع الجنود في حالة تردد وهم في ساحة المعركة، كما قال.
خلاصة موقف حكومة نتنياهو من هذا الموضوع تتلخص في الإعلان عن تشكيل اللجنة وتسويقها على أنها جدية في الوقت الذي فرغت، من أية صلاحيات. هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون فإن تعليقنا لا ينصب أساسا على تشكيل هذه اللجنة من عدمه لأن الحكومة الإسرائيلية غير صالحة قانونا للبحث في موضوع التحقيق في جريمة هي أوعزت بارتكابها، فالتحقيق برأينا يجب أن يتم أولا وفق قواعد القانون الدولي والإنساني وبإشراف دولي على اعتبار أن ما ارتكب هو جريمة متعمدة بحق مواطنين من أربعين جنسية، وبالتالي فإن الولاية على التحقيق ينبغي أن تكون وفق القواعد التي ذكرناها، وأمام محكمة الجنايات الدولية، وهي قضية متوافرة العناصر بشكل واضح وأمام الجميع، فالجاني معروف وهو حدد الهوية والعنوان، والضحايا معرفون والشهود كثر، وجميعهم جاهزون للإدلاء بشهاداتهم ولا ينقص سوى أن يقف المجتمع الدولي باحترام أمام القوانين التي أنتجها هو ليس غيره. وربما ما يهدئ من خاطر نتنياهو وحكومته، ويقلل من مخاوفهم أن الإدارة الأميركية جاهزة لحمايتهم من العقاب، من خلال الالتفاف على القانون الدولي وطرح آليات هي أقرب إلى قوننة الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني وتشريعه، وإعطاء الجيش الإسرائيلي صلاحيات إضافية في الرقابة والتفتيش تحت دعوى تفسيرات القرار الدولي 1860، وهو ما حاولت إسرائيل في مجلس الأمن أن تستنجد به تحت دعوى أن «أسطول الحرية» ينقل موادا «ممنوعة»، من الدخول إلى قطاع غزة.
يجري هذا كله دون أن يتأثر مسار المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، على أمل أن تنجح الجهود الأميركية في إيصال التسوية إلى أهدافها المعلنة ولا نعرف هنا كيف يمكن لهذه الجهود أن تنجح بما يحقق مصالحنا وأصحابها لا يألون جهدا في الدفاع عن عدونا.. حتى وهو يقتلنا..