الوقاية خير من العلاج
الوقاية خير من العلاج ..... بقلم / فهمي هويدي
دعيت إلي حلقة تليفزيونية لمناقشة موضوع القنوات الهابطة وكيفية احتواء تأثيراتها السلبية في المجتمعات العربية، وكان ذلك بمناسبة انعقاد مؤتمر حول موضوع شهدته الدوحة في الأسبوع الماضي، دعت إليه الشيخة موزة بنت ناصر قرينة أمير قطر، واشترك فيه حوالي 300 من الخبراء والمتخصصين العرب والأجانب، وكان رأيي أن ثورة الاتصال قطعت أشواطاً بعيدة بحيث جعلت عملية البث والتواصل بين البشر خارجة عن السيطرة، وذلك أمر مفيد سياسياً لأنه أتاح لكثيرين أن يتنفسوا بعيداً عن تحكم الأنظمة المستبدة، خصوصاً في العالم العربي،
وهي الأنظمة التي أزعجها كثيراً هذا التطور، وما برحت تحاول إخضاع برامج التليفزيون لرقابتها، وكانت وثيقة ما سمي بتنظيم البث الفضائي التي أقرها مؤخراً وزراء الإعلام العرب من أبرز تجليات هذه المحاولة، صحيح أن الوثيقة تمسحت في موضوع الأخلاق والفضائل وحمايتها، لكن عين الذين طبخوها كانت علي السياسة، بدليل أنهم يشرفون علي قنوات لم تُقصر في إشاعة الخلاعة والميوعة بين الناس، واحتفظت بالخطوط الحمراء للأمور السياسية وحدها
قلت أيضاً إن التحدي الحقيقي الذي يواجهنا يتمثل في كيفية الاحتفاظ بإيجابيات ثورة الاتصال ومحاصرة سلبياتها، وكيف يمكن ألا تؤثر جهود الحصار تلك في حرية الإعلام في التعبير عن هموم الناس وأحلامهم، وهو الحاصل الآن في الديمقراطيات الغربية التي تدرس باستمرار كيف يمكن الحد من أضرار البث المفتوح، بعدما تبين أن البعض استخدموا تقنياته في ارتكاب الجرائم والإتجار بالبشر، ولا تكمن الصعوبة فقط في إساءة استخدام عمليات البث، ولكنها تكمن أيضاً في اختلاف ضوابط ومعايير القيم في المجتمعات المختلفة، ذلك أن مفهوم الأخلاق والآداب العامة، بل حتي مفهوم الأسرة ذاته، أصبح مختلفاً تماماً في الغرب عنه في العالم العربي وفي المقدمة منه الأقطار الخليجية.
أضفت أننا ينبغي أن نعترف بأننا لن نستطيع القضاء علي المشكلة، ولكننا فقط نتمني أن نخفف من أضرارها، ببساطة لأن كل ما يُراقب أو يُمنع في عالمنا العربي، يظل في متناول الجميع، لأن الباحث عنه سيجده في قنوات أخري متاحة للكافة، بسبب كل ذلك فإن الجهد الذي يبذل في الوقاية ينبغي أن يكون أسبق وأن ينال اهتماماً أكبر من ذلك الذي يبذل في محاولة العلاج، ما أقصده بالوقاية هو أن نسعي إلي تحصين الأجيال الجديدة بالقيم والسلوكيات والمعارف التي تجعلهم أقل عرضة للانحراف والاختراق، وهذا التحصين هو مسئولية أطراف عدة تبدأ بالبيت وتنتهي بالمدرسة وتمر بوسائل الإعلام المحلية التي تملكها أو تسهم فيها الدولة، والمشكلة أن هذه الأطراف الثلاثة لا تقوم بالدور الذي يفترض أن تنهض به في هذا الصدد، فالأباء والأمهات أصبحوا يلهثون وراء توفير متطلبات الحياة ويعملون طول النهار خارج البيت، والقادرون منهم تركوا أطفالهم لكي تتولي المربيات رعايتهم «علي الأقل فذلك حاصل في أغلب دول الخليج»،وتكون النتيجة أن الأجيال الجديدة تتأثر بالتليفزيون والمربيات والأقران في الشارع، أما المدارس وأجهزة الإعلام الخاضعة لسلطات الدولة، فإنها لن تقوم بما عليها إلا إذا كانت الدول لديها استراتيجية واضحة إزاء مسألة التربية والدفاع عن الهوية، ولأن هذه الاستراتيجية مُغيبة في الغالب، فإن الأجيال الجديدة تُترك للتغريب والتليفزيون وتظل بلا حصانة، وعلي صعيد آخر فإن جهداً يجب أن يُبذل لتقديم برامج تليفزيونية مبتكرة وراقية تجذب الشباب والأجيال الجديدة إليها، وتصرفهم عن متابعة ما هو هابط ومبتذل في القنوات الأخري.
أما وسائل العلاج الأخري فينبغي أن توافق عليها قنوات البث في العالم العربي، من خلال حوارات خبرائها ووزارات الإعلام فيها، التي مازالت مشغولة بأمن الأنظمة ولا تشغلها كثيراً مسألة أمن المجتمعات، وأثبتت التجربة أنها معنية بإخضاع الشعوب بأكثر من عنايتها بتربيتها.