الهجرة النبوية والعام الجديد

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
مقالة-مراجعة.gif
الهجرة النبوية والعام الجديد

'بقلم': الإمام حسن البنا

الإمام البنا-في-حديث-الثلاثاء

يقول الإمام البنا: "لقد حاولتُ أن أكتب بمناسبة العام الجديد في ذكريات الهجرة وقصص الهجرة وعيد الهجرة، وكيف نحتفل بالهجرة؛ فوجدتُني مسوقًا على غير هذا كله إلى مناجاة هؤلاء الإخوة الأعزاء الذين أهملوا حق الوقت، وغفلوا عن سر الحياة، ولم يتدبَّروا حكمة الابتلاء الذي وُجدنا من أجله".

غير أن الإمام البنا تحدث عن الهجرة؛ ليذكِّر الأمة بحقيقة هذه الهجرة وقيمتها في حياة المسلمين، وكيف أنها غيَّرت مجرى التاريخ بل مسرى الكون وقت أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته، ومما قال:

"أيها الإخوة الكرام..

من حقكم علينا وقد لبَّيتم الدعوة، وأسعدتمونا بهذا الشعور الفيَّاض، وهذه الأريحية الكريمة، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

إن هذه ساعةٌ كريمةٌ نتحدَّث فيها بكلام كريم من كتاب الله تعالى وسنة رسوله في آثار حبيبه، نسأل الله تعالى أن يجعله عملاً مقبولاً، ويكتب لنا ولكم أجره وثوابه، فإنه اجتماع على طاعة الله تعالى والحب فيه، قال الله تعالى في الحديث القدسي: "وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ.. اليوم أظلهم بجلالي يوم لا ظل إلا ظلي"، وها أنتم قد اجتمعتم من بلدان مختلفة، وأقطار بعيدة، يحدوكم الحب وتجمعكم طاعة الله تعالى وطلب رضوانه، اجتمعتم في طيبة وفي الحرم النبوي، وقد أتاح الله لكم فرصة التعارف والتآلف والعمل للوحدة، قال صلى الله عليه وسلم "إن من عباد الله أناسًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء والآخرون يوم القيامة لمكانهم من الله". قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله.. إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس"، وقرأ هذه الآية: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)﴾ (يونس).

وقد اجتمعنا في هذا المكان على غير أرحام وتعارف سابق، وما جمعنا إلا العقيدة وأخوة الإسلام، وفي الحق إن هذا الاجتماع لم يكن لدرسٍ ولا لتبادل منفعةٍ، وإنما هو اجتماع للتعارف الذي دعا إليه القرآن بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية 13)، اجتمعنا لنتذاكر في الحق ونتواصى به ونعمل عليه، نسأل الله تعالى أن يوفِّقنا للمساهمة فيه.

خطر لي أن أسعد بكم في هذا الاجتماع وفي تلك الليلة العظيمة وهذه المدينة المباركة؛ لأن ذلك هو الواجب.. إننا الآن نستقبل عامًا جديدًا ونودِّع عامًا ماضيًا، ومن حق الماضي علينا أن نذكر فيه أعمالنا، ونحاسب فيه نفوسنا؛ فإن وجدنا خيرًا حمدنا الله تعالى، وإن وجدنا شرًّا استغفرناه، ومن حق الحاضر أن نستقبله بعمل جديد وخطط جديدة فيها نفع الإسلام والمسلمين، وهل هناك موضع أولى بالذكرى من مدينة الرسول ومهبط الوحي ومأوى الأنصار والمهاجرين.. هذا معنى يوحي إليّ كثيرًا من الذكريات، وتذكِّرني هذه المناسبة بذلك الحادث العظيم العميق الأثر، وهو حادث الهجرة.. نستقبل عامًا جديدًا من أعوامها يذكرنا بذلك الشعور الفيَّاض، وتلك النفوس الكريمة، وقد صدقت في بلائها وجهادها وعملها.

حضرات الإخوان..

إن الناس رجلان: رجل لم يدرك سر الوجود، ولم يتبيَّن وظيفته في الحياة، إن سألناه: لِمَ خُلقتَ؟ وماذا تصنع؟ ولِمَ وُجدتَ؟ قال لك: دعني؛ فإني عنك مشغول، فهو لا يدري شيئًا في الحياة؛ كالشجرة العقيمة التي لا ثمر لها ولا خير فيها إلا الوقود للنار، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ (179)﴾ (الأعراف)، ولحكمةٍ يعلمها الله إن هذا الصنف ليس بالقليل، ولكنه كثير.

وصنف آخر أراد أن يتبيَّن سر الوجود ويعرف مهمته في الحياة، فظن الحياة مركبًا فارهًا ومتعةً جميلةً، فأقبل على العمل بنفس راضية وقلب منشرح، وفي كلا الصنفين قال الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (17)﴾ (آل عمران).

فالصنف الأول أخطأ الطريق فضلَّ ضلالاً بعيدًا، والصنف الثاني أنار الله بصيرته فأشرقت مصابيح الهداية في طريقه، وعلم أن متعة الآخرة لا تعدلها متعة الحياة الدنيا.. عرف الحق وعرف وظيفة الحياة، وهي الإقبال على الله بكُلِّيَّته ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)﴾ (الذاريات)، ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)﴾ (الذاريات)، ففَرُّوا إلى الله تعالى بقلوبهم وأحاسيسهم، وجعلوا أعمالهم خالصة لله.

لهذا أحب- ونحن في مستقبل عام جديد نودع العام الماضي- أن نقف بينهما وقفة المدقِّق المعتبِر.. إنه في أول السنة الدراسية عندنا نوزِّع على التلاميذ الكراسات الجديدة، وبالطبع تكون نظيفةً، وهنا يهتم المدرس بملاحظة الكراسات وخلوها من الإتلاف، ويأمرهم بقيد ما وجب عليهم فيها، ويضع العقاب لكل تلميذ يهمل في أداء واجبه، ونحن الآن بيننا كراسة جديدة؛ عددها ثلاثمائة وستون ورقة، وسنكتب فيها كل يوم ورقة، فيجب أن تكون كراستنا نظيفة؛ فإن المعلم دقيق، وإن الناقد بصير؛ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)﴾ (ق)، ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾ (الإسراء)،

هذا معنى من معاني التذكرة، وإن النظام الوضعي لا يجوز فيه الشطب والمحو، لكن الله تعالى كريم يحب العفو، رحيم بعباده؛ يُجازي التائبين على توبتهم متى أخلصوا فيها ولم يصروا على ما فعلوا ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)﴾ (آل عمران)، ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)﴾ (الشورى)؛

فإن أردتم أن تُعيدوا نظرةً على الماضي فالنظرة أن تحاسبوا أنفسكم فيما عملتم من خير وشر، فاحمدوا الله على الخير، وتوبوا إلى الله من الشر، فردُّوا الحقوق إلى أصحابها، وتوبوا إلى الله من تقصيركم في حقه، أما النظرة إلى الحاضر فبالعزم على عدم فعل الذنوب واقتراف المعاصي، والعزم على فعل الطاعة والخير هذا.

وإني أحب أن نمر مرًّا سريعًا على بعض المواقف البارزة، وعلى الحوادث المهمة، والتي تفيدنا في حياتنا العملية، ومن أهم هذه الحوادث "حادث الهجرة" السعيد؛ حادث كله دروس وعبر وعظات؛ لو أخذ المسلمون ببعض ما فيها لظلوا سادة الناس؛ فإن هجرته كانت فاصلاً بين عملين من أعمال: العمل الأول: الإصلاح الفردي بمكة، والإصلاح الجماعي بالمدينة؛ ففي مكة كُوِّنت العقيدة ووُضِعَت اللبنات التي أُسِّست عليها الدعوة، وكان ذلك تارةً في السر وتارةً في العلن وهكذا، والمشركون يحاربون دعوته ويقومون عقبةً في سبيل نشرها، ولكن أبى الله إلا أن يكون من هؤلاء المؤمنين خير أمة أخرجت للناس، أما في المدينة فكان الأمر على خلاف ذلك؛ فقد بنى النبي من هذه اللبنات أمةً عظيمةً بعد أن كوَّن أفرادها تكوينًا صحيحًا، وبنى هذه النفوس على صفتين، وكوَّنها على لونين: إيمان عجيب في قلوب عجيبة أفيض عليها من لدن الحق- تبارك وتعالى- ما نزل به الروح الأمين ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾ (النمل)، آمن بربه الذي لا يُقهر، وآمن بكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وآمن بالنبي- وقد بلَّغ الرسالة- وآمن بهمته ليحرص على تلك الرسالة، فكان إيمانًا عجيبًا في تصرفاته، كانوا يعبدون أصنامًا فحطَّموها، وكانوا يشربون خمرًا فأراقوه، وكانوا يتخاصمون فوحَّدهم الإيمان، وتغيَّرت ألوان حياتهم.

والعجب في أمرهم أنهم تربَّوا مع مجاوزة وقت التربية، لكن الإيمان إذا حلَّ في قلب المؤمن هدى إلى صراط مستقيم، لم يخرجوا من مكة كراهيةً فيها، ولكن نصرةً لدين الله، ونشرًا لدعوة رسول الله.

وأريد أن أستقصيَ تطورات هذه النفوس، ولكن أريد أن أستخلص هذه النفس الكريمة، وأبيِّن أنها لم تأسف على شيء في سبيل نصرة النبي، وحملوا الدعوة حملاً كريمًا، ونشروا دين الله نشرًا حكيمًا؛ فلا همّ لهم إلا تبليغ الرسالة، قال الله فيهم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (64)﴾ (الأنفال).

التقى رستم قائد الفرس بعربي من طلائع جيش المسلمين فقال له: ما الذي أخرجكم من دياركم؟ فقال: ما لهذه الدنيا خرجنا، بل كنا ضعافًا فقوَّانا الله، وكنا ضالِّين فهدانا الله، وأُمرنا أن نبلِّغ الرسالة، فإن دخلت فيما دخلنا فنحن وأنتم سواء، وإلا فالسيف بيننا وبينكم. فقال له رستم: انظر إلى هذه الجيوش. فنظر الرجل ساخرًا ثم قال: يا هذا.. إنك لا تحارب الناس، ولكنك تحارب القدر، فنحن قدر الله؛ سلَّطنا الله عليك.

فلو أن معنا بعض هذا الإيمان لاستطعنا أن نجدِّد فينا الحياة، وأن نحل مصاعب الحياة.

سُجن بعض الصالحين في قلعة بمصر فدخل عليه بعض تلامذته يتألمون من حالته فقال: "سجني جنتي، وقتلي شهادة، فانظر إلى هذه النفس كيف ترى السجن مغنمًا".

إذن.. لا بد من الإيمان والصبر والصدق والوفاء والوحدة والحب والإيثار؛ فإن هذه الأخلاق الكريمة هي التي بُني عليها المجتمع الإسلامي ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9)﴾ (الحشر).

كنت أتصور المدينة وقد نزلها النبي فجعل منها ثكنة عسكرية، فإذا النساء والرجال حول القلعة الواحدة تتحرك حركة واحدة؛ يتدربون كل يوم خمس مرات حين يسمعون أذان ابن أم مكتوم، تجد منهم وحدة العمل ووحدة الكلمة؛ فإذا ما اختلفوا في أمرٍ نزل القرآن للفصل بينهم ﴿قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)﴾ (المجادلة)، إلى هذه الدرجة كانت صلة المجتمع بعضه ببعض؛ يخضع الناس لهذا النظام، ويألفون هذا النظام حبًّا في النظام وواضع النظام، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ووفَّقنا وإياكم للعمل بما عملوا، إنه تعالى سميع الدعاء، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم".

ولم يكن الإمام البنا ليدرك مناسبةً إلا ويستغلها في تذكير الأمة بأهمية الترابط والتلاحم، وأن الآمة الإسلامية نسيج واحد، فكتب يقول تحت عنوان "في مستهل عام جديد":

"لعل هذا العام الجديد من أعظم الأعوام خطرًا، وأعمقها أثرًا في حياة هذا الجيل والأجيال المقبلة بعده عامةً، وفي حياتنا نحن العرب والمسلمين بصفة خاصة؛ فإن ما تكشَّف عنه العام الماضي من حوادث، وما ينتظر من تطورات ومفاجآت في هذا العام.. كل ذلك يهيب بنا أن ننظر إلى المستقبل بعينٍ كلها يقظة وترقُّب، وينادينا ألا نضيِّع لحظة واحدة في غير عمل وإعداد؛ فاذكروا أيها المسلمون في مشرق هذا العام أنكم ورثة القرآن الكريم، وهو الهدى الجامع لخير الدنيا والآخرة، وأنكم حملة رسالة الإسلام، وهي النعمة الكبرى والمنة العظمى ورحمة الله للعالمين، وأنكم تستطيعون بهذا الدواء الرباني النافع أن تَطُبُّوا داء العالم كله، لا يضركم أن الناس لا يسمعون لكم لأول مرة؛ فكذلك دعوات الحق جميعًا؛ لا بد فيها من الصوت العالي وطول الأناة حتى تظهر فائدتها فيعم نفعها.

لقد جاء الإسلام الحنيف يحمل في ثنايا أحكامه الصلاح كله للنفس الإنسانية والجماعة الإنسانية، وتحل بكلمات هذه المشاكل العالمية التي عجز عن حلها المصلحون والفلاسفة، وحسب الناس أن يضعوا نصب أعينهم مثل قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: من الآية 159).

﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: من الآية 228).

﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)﴾ (المعارج).

﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾ (الحجرات: من الآية 9).

﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: من الآية 28).

وإلى جانب قوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس).

حسب الناس أن يُطيلوا النظر في هذه القواعد بإخلاص ليضعوا أيديَهم تمامًا على مفاتيح الإصلاح الكامل، وعلى الحلول الموافقة لمشاكل الدنيا المعذَّبة بأسرها لو كانوا يعملون.

إننا نحن المسلمين لا نريد علوًا في الأرض ولا فسادًا؛ لأن الله عوَّضنا عن ذلك الآخرة، ولكنا كذلك نجد من العقوق لأنفسنا وللناس أن نرى الدنيا تحترق في نيران الأهواء الفاسدة والآراء الفاشلة ولا نتقدم للإنقاذ وفي يدنا مضخة الإطفاء، ولو كان للأصوات الفردية أثر لاكتفينا بهذه الصيحات، ولكان فيها للناس بلاغ، ولكن هكذا كان رأي الإنسان: ألا يسمع دائمًا إلا الصوت القوي الداوي المُجهَّز بالصفات الرسمية والمظاهر القوية؛ لهذا كان على دول الإسلام ألا تخشى، وأن تتقدَّم في شجاعة وثقة بنفسها، وبما يحمل دينها من معادن الخير والصلاح لتقول للناس جميعًا: ﴿هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ (الحاقة: من الآية 19)، وهي إن فعلت ستفتح عين الدنيا الحائرة على طريق الاستقامة والسعادة والسلام ﴿.... قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾ (المائدة).

اذكروا هذا أيها المسلمون، واذكروا معه أن الدنيا لن تُصغيَ لكم، ولن تستمع منكم، ولن تجيبكم إلى ما تطلبون إليها إلا إن كنتم أنتم نماذج صالحة للتمسك بما تدعون الناس إليه والعمل بهذا المنهاج الكريم القويم كتاب الله الذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)﴾ (فصلت)، وكنتم مع هذا يدًا واحدة وقلبًا واحدًا واتجاهًا واحدًا؛ لأن الإسلام وِحدة وتوحيد، ولا شيء بعد هذا. إن الوحدة واجتماع الكلمة وائتلاف القلوب هي لُبُّ الإسلام ولا شكَّ، والأمة الإسلامية أمة واحدة بحكم أخوة الإسلام ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: من الآية 103)، "ولن تؤمنوا حتى تحابوا".

فإذا وُفِّق العرب والمسلمون في مفتتح عامهم هذا الجديد إلى أن يؤمنوا بأنفسهم كأمة واحدة مجيدة تحمل رسالة الحق والخير والنور، ثم حملوا أنفسهم بإخلاص على اتباع هدي كتابهم وسنة نبيهم، وتآخَوا في سبيل هذه الغاية، واجتمعت كلمتهم عليها؛ فلا شك أنهم واصلون إلى أهدافهم بإذن الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

وإن الإخوان المسلمين ليعملون بهذا ولهذا، وإنهم ليأخذون أنفسهم به أخذًا شديدًا، وإنهم ليهيبون بالأمة الإسلامية كلها أن تكون كذلك، وإن هذه المجلة ستكون المصباح المتواضع الذي يضيء للسائرين ممن أعجبتهم هذه الفكرة طريقهم؛ حتى يصلوا إلى ما يبتغون من إعزازٍ للإسلام، وإعلاءٍ لتعاليمه، وجمعٍ لكلمة المؤمنين به، والعاقبة للمتقين.