المفكر والتنظيم في الحركة الإسلامية .. علاقة متوترة

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
المفكر والتنظيم في الحركة الإسلامية ... علاقة متوترة

بقلم/ الشيخ عصام تليمة


مقدمة

الشيخ عصام تليمة

للمفكر دور كبير في الجماعات والحركات الإسلامية، فغالبا ما تبنى الجماعات على أصحاب الفكر، سواء كان الفكر معتدلا أو متطرفا، وسواء أكان فكره منضبطا أم فيه لون من ألوان التهور الفكري، فهو بمثابة الميزان الذي يضبط الحركة، وبمثابة الموجه لحركة الجماعات.

ولكن تأتي أحيانا بعض الإشكاليات التي تنهي العلاقة بين المفكر والتنظيم، مثل: أن يضيق المفكر بالتنظيم، أو أن يضيق التنظيم بآراء المفكر، وهذا القول ليس عاما على إطلاقه، فقد يضيق بعض أفراد التنظيم، ولا يتحمل ما يكتبه المفكر، متهما إياه بالخروج على ثوابت العمل، أو يحس القائم على إدارة التنظيم أنه أكثر ولاء من صاحب الفكر الذي ربما خالفه الرأي، أو أعمل عقله في وسيلة جديدة للعمل.


توتر العلاقة بين المفكر والتنظيم

هناك أسباب لا شك تؤدي إلى صدام المفكر بالتنظيم، أو ضيق أحدهما بالآخر، منها:


1 - الخلط بين التنظيم المدني والعسكري

وهو يأتي من عدم فهم طبيعة العمل التنظيمي الدعوي، فالمفترض في العمل الدعوي المنظم: أنه تنظيم مدني، تحكمه طبيعة وقوانين وأخلاقيات العمل المدني، وليس تنظيما عسكريا، بما فيه من الغلظة والشدة وعدم إعمال العقل كثيرا.

والخطورة هنا تتمثل في استدعاء أدبيات وطريقة إدارة التنظيم العسكري لتنظيم دعوي مدني، تؤدي إلى انسداد العلاقة بين المفكر والتنظيم، ويؤدي إلى مسخ أفراد العمل الدعوي إلى مجرد دمى تتحرك، وهذا خطأ كبير يقع في إدارة العمل الحركي الدعوي أحيانا.

فمن المعلوم أن التنظيم العسكري ينبغي فيه إعلاء مبدأ السمع والطاعة بلا نقاش، بل كثرة النقاش تعوق نجاح أي تنظيم عسكري، وليس مطلوبا فيه كثرة الرءوس المفكرة، بقدر ما هو مطلوب منها أن تكون جنودا مخلصة، ملتزمة بسرعة التنفيذ.

ومطلوب في التنظيم العسكري: قلة الاعتراض، بل انعدامه من الأساس، على خلاف العمل الدعوي؛ وهو تنظيم مدني لابد فيه أن يناقش كل فرد ما يقوم به، وأن يكون ما يؤمن به من أفكار وما يؤديه من أعمال عن قناعة تامة، ولا بد أن تكون الطاعة فيه طاعة مبصرة، وليست طاعة عمياء، وينبغي فيه أن يمنع كل مستبد بالرأي ضيق به، أو مانع للنقاش، وأن يحال بينه وبين توسد أي مسئولية في التنظيم الدعوي؛ لأنه يودي بالعمل الدعوي إلى سراديب العمل السري العسكري، وهو ليس مطلوبا، ولا هو الأساس في الدعوة.

ونتج هذا الخطأ في الخلط كذلك عن طريق استدعاء أدبيات مرحلة تطلبت أن ترتفع أدبيات العمل العسكري فيها بحكم طبيعتها؛ من حيث التضييق والمحنة، أو عن طريق استدعاء أدبيات كانت لفئة خاصة فتم تعميمها خطأ، ومن ذلك: ما نقرؤه في رسالة التعاليم للأستاذ حسن البنا، وفيها فقرات -مثلا- واضح أن الخطاب فيها موجه لجنود في عمل عسكري، وهي بلا شك كانت تدرس للتنظيم الخاص في الإخوان المسلمين، ولكن ما يخص الدعوة العامة منها، هو ركن الفهم، وبقية الأركان، أما ركن الطاعة، والثقة، ففيهما كلام ينبغي أن يحرر، ويرفع ما فيه مما هو خاص بالتربية العسكرية، وهذا ما لاحظه مسئول التربية في جماعة الإخوان المسلمين على عهد الإمام البنا؛ الدكتور عبد العزيز كامل، فاعترض عليه اعتراضا شديدا. (كما يذكر في مذكراته: في نهر الحياة).


2 - عدم الدراية بأهمية وعظم دور المفكر في الحركة

فقد يأتي من لا يقدر قيمة المفكر، ودوره، وما يقوم به من تأصيل للفكرة، وشرح لها، واستشراف لمستقبلها، وهو دور ربما استخف به البعض دون قصد، أو ربما يتسرب إلى البعض بسبب مقولة قالها حسن البنا رحمه الله، وهي رسالة: (نحن قوم عمليون)، ولا تعارض بلا شك بين الفكر والعلم والعمل، والظن بأن المفكر مجرد رجل يجلس ليجادل جدلا بيزنطيا، وهذا الفهم الخاطئ يرد عليه بأنه لا قيمة لعمل ليس مبنيا على العلم الصحيح، وقد صنف أئمة الحديث في كل كتبهم أبوابا في أهمية العلم، وقيمته، وأنه يأتي قبل العمل.


3 - الضيق بالنقد، وسد منافذه

ومن الأسباب التي تفسد العلاقة بين المفكر والتنظيم، بل بين التنظيم وبقية أفراده من أصحاب الفكر الحر، والرأي الضيق بالنقد، والرأي الآخر، وسد كل منفذ يؤدي إليه، من باب: إغلاق باب الجدل، وشتان بين الجدل، والنقاش والتحاور. فالمفكر لا يحيا بدون إعمال عقله، وتقليب النظر فيما مضى من مواقف للحركة، وفيما هو قائم من أعمال، وفيما هو مستشرف من مستقبل، وهذا يتطلب منه نقد ما فات، ونقد ما هو قائم، وتقييمه، حتى يبني رؤية لمستقبل يتماشى مع ما تهدف إليه الحركة، وعندئذ تتفاوت وجهات النظر في تقبل هذا النقد، فعند قبوله تستمر العلاقة بين المفكر والتنظيم، ولكن عند رفضه رفضا تاما -بل والضيق به- تسوء العلاقة، خاصة عندما يظن البعض أن النقد باب للخروج على ثوابت الجماعة.

لقد قمت بما يشبه الحصر للنقد في عهد الإمام البنا لشخصه وعلمه وجماعته، فوجدت ما يقرب من أربعين نقدا منشورا في مجلات الإخوان المسلمين، بل خصص البنا صفحة كاملة في مجلة (الإخوان المسلمين) نصف الشهرية، جعل عنوانها: باب النقد، وكان غالبا يكتب فيها الشيخ محمد الحامد الحموي نقدا على ما ينشر في المجلة، ونقد فيها رمزين كبيرين من رموز الإخوان: حسن البنا، ومحمد الغزالي. بل وصل الأمر بأحد المنتقدين لحسن البنا أن أرسل له نقدا في صورة سؤال، وكان السؤال كالتالي: يا شيخ حسن أنت رجل مدرس، ونحن نعلم مرتب المدرس جيدا، ونعلم أنك لا تتقاضى راتبا على عملك الدعوي، ومع ذلك نراك أنيقا في ملبسك، أنيقا في مظهرك، فمن أين لك هذا وأنت رجل مدرس بسيط؟!

ومع ذلك نشر حسن البنا سؤال السائل الناقد، ووعدت المجلة بالإجابة في العدد القادم، وأجاب حسن البنا بما يلي: نعم صدقت يا أخي أنا لا أتقاضى راتبا على عملي الدعوي، أما ما لاحظته من أناقة المظهر وغيره وأن راتبي لا يكفي فهو صدق، وكان صلى الله عليه وسلم ينفق من مال خديجة، وأنا أنفق من مال أخي خديجة (يقصد صهره)، ولي أخوان يقرضانني دائما، وأعرض عليك ثلاثة حلول: أن تزورني في المركز العام للإخوان المسلمين، وأطلعك على اسم الأخوين الكريمين، وإما أن تسدد لهما ديوني عندهما، وبذلك أصبح مدينا لشخص واحد، أو أن تكون الثالث الذي أقترض منه عند الحاجة، أو أن تدعو الله تعالي لي بأن يسدد عني. وقد فكرت في سبيل لتحسين حالتي المادية، وسوف أصدر بإذن الله مجلة (الشهاب) بترخيص شخصي لي؛ لعلها بذلك تكون سببا من أسباب الدنيا في تحسين وضعي. وجزاك الله خيرا. أخوك: حسن البنا.


4 - تضخيم جانب الإداري والمنظم على حساب المفكر، أو طغيان أحدهما على الآخر

ويأتي ذلك نتيجة تضخيم جانب الإداري، وتقزيم جانب المفكر، أو محاولة الإداري الجمع بين المهمتين: أن يكون إداريا ومفكرا في الوقت ذاته، وهي مهمة صعبة ندر من يقوى على الجمع بينهما، وغالبا ما يكون الجامع بينهما -على ندرتها- المفكر في الأساس.

وأوضح هذه النقطة بمثال معاصر في الحركة الإسلامية المعاصرة، فقد خرج أفراد الحركة الإسلامية من السجون والمعتقلات بعد وفاة جمال عبد الناصر، وقد كان للحركة رصيد ضخم من الفكر والثقافة، ولم تكن حاجتها في ذلك الوقت إلى تصدر المفكر بقدر حاجتها إلى المنظم الذي يعيد حبات العقد المنفرط، فقد كان هذا الرصيد الثقافي يكفيها لبضع سنوات، فتولى أمر الحركة من يدير شئونها، ومن يهتم بالبناء التنظيمي، وقد كانت تحتاج لهذا بحق في هذه الفترة، وشيئا فشيئا بدأ ينحسر دور المفكر أو الباحث في الحركة، وفوجئنا بالطبيب -وكذلك المهندس وغيره من بقية التخصصات العلمية- الذي يلقي الخاطرة الخفيفة التي تصلح في مجال التجميع الدعوي البسيط، ثم تعمقت الفكرة وتأصلت في قدرة الطبيب والمهندس والمنظم والإداري في الدعوة إلى التكلم باسم الدعوة، والتنظير لها، وشتان بين الموعظة الدعوية، وبين التنظير الفكري، والتأصيل العلمي، فأدوات كل منهما تختلف عن الآخر.

كان ينبغي أن تفهم الحركة أن هذا الدور لغير المفكر دور مؤقت، إذ أن سيلا من الأسئلة والمواقف الفكرية سوف يطرح نفسه تلقائيا بعد عودة نشاط الحركة، ولن يقوى على مواجهة هذه الأسئلة والتنظيرات الفكرية والعلمية سوى المفكر والباحث. وقد تسبب هذا الخطأ في إقصاء المفكر بدرجة ما، وأدى إلى بروز أفكار ليست من صحيح الدعوة ولا صلبها ولا جوهرها، نتجت عن ذلك، مما يجعل هوة تحدث بين المفكر والتنظيم.


5 - تقييم المفكر عن طريق أدائه التنظيمي

فهو ينظر له بنفس المقياس الذي يقاس به الحركي أو التنظيمي، من حيث الالتزام بما يلتزم به التنظيمي، من واجبات وحقوق وأداء دعوي إداري، مما يجعله في نظر الإداري أقل دورا، بل لا دور له أساسا، وينسى هؤلاء أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن أداؤهم جميعا بمقياس واحد، فلم نر مثلا صحابيا جليلا كخالد بن الوليد من رواة الأحاديث، ولم أجد له اللهم إلا حديثا أو حديثين، فلا نستطيع أن نقيم خالدا في باب العلم ورواية الحديث، كذلك لا يمكن أن نقيم صحابيا كأبي هريرة في الميزان العسكري، فهو رجل حفظ على الأمة حديث رسولها صلى الله عليه وسلم، وهكذا.


6 - استخفاف المفكر بالقرارات التنظيمية الجادة، التي تبنى على شورى

وهو خطأ يقع من جانب المفكر، فهو يريد إمضاء رأيه، وإن كان الأمر جرى على شورى معتبرة، وهو خطأ يحدث أيضا من جانب بعض المفكرين، فالصواب في مثل هذه الأمور: أن الشورى إذا تمت ونوقشت الأمور، وانتهى النقاش فيها إلى رأي معين، وكان بناء على أغلبية الآراء، فعندئذ يلتزم الجميع بالرأي المتفق عليه، ويظل كل صاحب قناعة فكرية على قناعته في نفسه، كرأي علمي قابل للنقاش وقت فتح باب النقاش.


مقترحات لمنع الصدام

لحل هذا الصدام -أو عدم الوفاق- الذي سرعان ما يجعل المفكر أو الباحث يضيق بالتنظيم أو العمل الحركي، أو يضيق التنظيم بالمفكر، لابد من اتخاذ عدة إجراءات ومبادئ تريح كلا الطرفين، وتحفظ لكل منهما مكانه ومكانته، وهي:


1 - إفساح المجال لعقل المفكر وقلمه

فلابد من إفساح المجال لعقل المفكر وقلمه في تشريح حال الأمة والحركة، أو حال العاملين في الدعوة للإسلام، فليس مقبولا أن يشعر المفكر أو الكاتب أن سيفا مسلطا على رقبته، هو سيف السمع والطاعة، وسيف عدم إثارة النقاش، خاصة عندما يكون المفكر ممثلا لشخصه وفكره الخاص، لا متحدثا رسميا باسم التنظيم أو الجماعة.

المفكر يحتاج إلى فضاء واسع ينطلق فيه، لا يوقفه شيء، ولا تحده حدود إلا حدود ثوابت الإسلام، لا أن نظل مهيمنين على مساحة المفكر، فالمفكر أشبه بالصاروخ الذي يحتاج إلى التخلي عن قاعدته كي ينطلق، والانطلاق بالرأس فقط، ثم بعد ذلك في مرحلة أخرى يتطور الصاروخ لينطلق بقاعدته ورأسه معا.

أشبه المفكر والتنظيم، بحرية الحركة في الأول، وبمحدودية الحركة في الثاني، فحرية الحركة للمفكر تتيح له السبق دوما بأفكاره، ومن ثم يتبعه التنظيم فيما بعد، حيث يقبل من المفكر ما لا يقبل من التنظيم؛ من حيث الأفكار السباقة، أو التجارب غير المحسوبة، فالأول يتحرك بالطائرة، والثاني يتحرك بالسيارة، ولا شك أن الثاني سيأتيه اليوم الذي يركب الطائرة مثله مثل من سبقه، ولكن لابد من مغامر يبدأ التجربة، والمغامر هنا يتمثل في المفكر، وليس في التنظيم الذي ليست المغامرة لصالحه، والتي قد تودي لفشل التجربة معه، وتكون التكلفة باهظة، وهذا أمر مقبول في كل حركات التغيير والفكر على مدار التاريخ.

فلو أخذنا مثلا نموذجا كالشيخ يوسف القرضاوي في آرائه التي لو حكمنا فيها بمنطق التنظيم لحكم عليه بأنه خالف الجماعة التي ينتمي إليها، ولعوقب إداريا عليها، فالشيخ القرضاوي وقت أن كان ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين تنظيميا، وبعد طلب إعفائه من الأمور التنظيمية، تمثل كتبه المرجع الأبرز والأهم في الحركة، وكذلك الشيخ محمد الغزالي، والشيخ سيد سابق رحمهما الله.


2 - الفصل بين ما هو من مساحة المفكر وما هو من مساحة التنظيم

فهناك مساحة هي مساحة المفكر والداعية، وليس مقبولا أن يقحم التنظيم نفسه فيها، وهي مجال الكتابة والتأليف، والتعبير عن المواقف الفكرية، والبحث العلمي، الذي لا ينبغي أن يوضع سقف للباحث فيه، بل المطلوب أن يطلق لقلمه العنان يحلق حيث شاء، وكيفما شاء، يسوقه البحث والدليل إلى ما يقتنع به، لا أن توضع له النتائج مسبقا.

لقد رفض الشيخ حسن البنا ضم الشيخ الغزالي للتنظيم الخاص، ولما سئل في ذلك قال: التنظيم الخاص نظام عسكري يتطلب طاعة مطلقة... والشيخ الغزالي يعترض على ما لا يروقه من أوامر، ويقول لك: ما السبب؟ وأين الدليل؟ ثم هو لا يحسن الكتمان، إذا سخط بدا سخطه على وجهه، والسرية المطلقة أساس هذا النظام...! دعوه يكتب، ويخطب، وينشر الدعوة الإسلامية في الميدان الذي يصلح له، ولا يصلح لغيره.


3 - استقلالية المفكر العلمية

لصالح الدعوة والجماعة أن يكون أهل الفكر فيها مستقلين، وليسوا تابعين تبعية مطلقة، وألا يحسب المفكر الرمز عليها؛ لأن تصنيفه عليها لا يفيدها أبدا، والنموذج الواضح في ذلك، هو مبادرة الشيخ يوسف القرضاوي في تكليم الرئيس الليبي معمر القذافي بشأن مسجوني الإخوان المسلمين في ليبيا، وقد كانت هناك أحكام بالإعدام على بعضهم، فكلمه بشأن العفو عنهم، وقد انتهت المبادرة والوساطة بالعفو عن معتقلي الإخوان المسلمين في ليبيا. فلا شك أن القرضاوي خاطبه بوصفه رمزا للأمة، ورئيسا لاتحاد علماء المسلمين، وليس بوصفه القرضاوي ذي العلاقة التنظيمية السابقة بالإخوان المسلمين.


4 - السماح للمفكر بالعمل خارج الأطر التنظيمية

فلابد ألا يحاصر المفكرون والباحثون الذين لهم مستقبل واضح في الأمة في الإطار التنظيمي، بل الصواب: إفساح المجال لهم، وتركهم للعمل خارج التنظيم، وفي الإطار الفكري للحركة وأهدافها، وهو ما فعله الإمام البنا في حياته مع أكثر من عالم، وفي سن الشباب، وأراد بذلك أن يصنع صفوفا متراصة خلف الجماعة تحميها وقت المحنة، وتكون شهادتها شهادة غير مجروحة إذا وقفت في صفه وقت المحن والاتهامات، فعندما أراد الشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق دعوة الأستاذ خالد محمد خالد للجماعة، وهما صديقان عزيزان له، قال لهما الإمام البنا: دعا خالدا وشأنه، هو في مجاله أصلح. ونفس الأمر فعله البنا مع علماء الجمعية الشرعية الذين ربطتهم به علاقة قوية، مثل: الشيخ محمود عبد الوهاب فايد، والشيخ حسن عيسى عاشور، وكانوا نعم السند -بعد الله عز وجل- لجماعته وقت المحنة التي تعرضت لها الجماعة في العهد الناصري.

بل وفعلها البنا أيضا مع أناس في صفوف الجماعة، ومن العاملين في التنظيم، يقول أحد تلامذة الإمام البنا: في النصف الثاني من الأربعينيات كنتُ أستعد للتخرج من الجامعة.. وكنت عصبيًّا جدًّا، وكل يوم يذهب زملائي في الجامعة من الإخوان ويشتكون للأستاذ البنا: محرم تشاجر اليوم مع الشيوعيين.. محرم تشاجر اليوم مع الوفديين.. كل يوم أورط إخواني في خناقة مع آخرين.

وفي إحدى هذه المرات انفرد بي الأستاذ البنا، وقال لي: يا محرم اختف من الحركة.. قلت: تفصلني يا أستاذ؟ قال: لا، ولكن أريد أن أضعك في عملٍ آخر.. ثم قال لي: أنت ستتخرج هذا العام؛ ففي أي مجال تنوي العمل؟ قلتُ: في ميدان التدريس. فقال لي: أريدك أن تختفي في وزارةِ المعارف، حتى تصل إلى أعلى المناصب وتخدم دينك وأمتك في صمتٍ.. وتعاهدنا على ذلك، وبدأت رحلتي في وزارةِ المعارف، ثم وزارة التربية والتعليم؛ حتى وجدتني مديرًا لمكتب الوزير كمال الدين حسين في الستينيات.

ثم فوجئتُ برجلٍ آخر كنتُ أعرف صلته القديمة بالأستاذ البنا، وهو أيضًا يعمل مستشارًا للوزير.. إنه الأستاذ الأديب فريد أبو حديد، وتصارحنا؛ فإذا قصته مثل قصتي، ولم ينكشف أمرنا إلا عندما كتب الدكتور نظمي لوقا كتابه الشهير "محمد الرسالة والرسول"، والذي يقول في آخر صفحةٍ فيه: "لا خيرةَ في الأمرِ ما نطق هذا الرسول عن الهوى، لا خيرةَ في الأمر ما ضلَّ هذا الرسول وما غوى، لا خيرةَ في الأمر ما صدق بشر إن لم يكن هذا الرسول بالصادق الأمين، فسلام عليه بما هدى، وسلام عليه في الخالدين".

المهم أننا قررنا هذا الكتاب على طلبةِ الإعدادية في مادةِ النصوص، وبدأت اعتراضات محلية وغير محلية، وانكشف أمر الجنديين الذين أرسلهما حسن البنا ليحفظا لمصر نصوصها الدراسية في وقتٍ تطاولت فيه الأيدي العلمانية. وقد روى الدكتور سيد دسوقي فصولا من هذه الوقائع في كتابه الرائع: (أمثلة على التربية الحضارية عند البنا).


5- مبدأ: ولأهل الرخص في دعوتنا مكان

فقد قال حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان المسلمين، عند تعرض الإخوان لمحنة السجون: (تقوم الدعوة على أصحاب العزائم، ولأهل الرخص في دعوتنا مكان) أراد بذلك أن يرفع الحرج، وقد تكون المحنة بالمنع أخف من المحنة بالمنح.


6 - زيادة مساحة الحرية النقدية في الحركة

فليس مقبولا أن يفسر كل رأي للمفكر في ظل التنظيم بأنه خروج عن ثوابتها، أو اتهام قائل الرأي بأنه فتن عن الدعوة، أو هناك غبش في رؤيته، وادعاء الإخلاص فيمن يسكت ويسمع ويطيع دون نقاش، فمسألة الولاء الدعوي والإخلاص فيه مسألة قلبية ليس لأحد أن يحكم فيها، بل الحكم فيها لله وحده، وهي من الدجل الدعوي، ويجب أن ننأى بأنفسنا عن الحكم على النيات، بل إن ادعاء حب الدعوة من إنسان أكثر من آخر هو بعينه الهلاك، يقول تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).

بل إن الحركة الناجحة هي التي تفتح باب النقاش، وتصنع أفرادا أصحاب رأي، رءوسا لا أذنابا، تملك القرار وحسن التصرف، ولا تكون كريشة في مهب الريح، أو كعبد السوء الذي ذكره القرآن الكريم (أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ).


7 - البعد عن شخصنة الدعوة

فمن الأخطاء القاتلة التي تعجل بنهاية العلاقة بين المفكر والتنظيم: شخصنة الدعوة، فكل نقد يوجه لإدارة فرد ما في التنظيم لملف من ملفات الدعوة، دون التجريح في شخصه بلا شك، يفسره البعض تفسيرا غريبا، وأنه هجوم على الدعوة ذاتها، وهذا الداء القاتل أصابنا من كتاب السلطة للأسف، فكتاب السلطة لو أن كاتبا نقد النظام الحاكم، ولو بصورة فجائية تراهم يطلقون التهم على الكاتب بأنه يهاجم مصر، بحضارتها، وتاريخها، وما لها من حب في قلب كل مصري يحب وطنه؛ لتصبح "بقدرة قادر" كل كلمة في فساد النظام الحاكم هجوما على الوطن الغالي العزيز، وكأن الوطن يختزل في فرد، أو في ثلة، لتتدثر بفسادها في عباءة الوطن، والوطن يبرأ من كل فساد، ولا يشرفه أن ينتسب مفسد إليه، ويبدو أن هذا الداء للأسف انتقل إلى العمل الدعوي، ولابد من التخلص منه، ومن التفريق بين الأشخاص والدعوة، الدعوة شيء سام لا يزايد أحد على حبه لها، أما الأفراد فهم زائلون.


8- التمييز في الحركة بين مدرستي الدعوة والتنظيم

فمدرسة الدعوة تسع كل داعية يتفق مع مجمل أفكار الحركة وأهدافها، وإن اختلف في بعض أو كثير من تفاصيلها. ومدرسة التنظيم، خاصة بمن ينتقل إلى مرحلة أخرى من الإدارة يلتزم فيها بتفاصيل وعموميات الجماعة، وأعتقد أن الإمام "أبو الأعلى المودودي" رحمه الله في أدبياته صيغة مقترحة لمثل هذه العلاقة، وبخاصة في كتابه (تذكرة دعاة الإسلام) في تصنيفه للمنتمين للجماعة الإسلامية، ودرجات الانتماء.

وعلى الحركة أن توجد صيغة توائم بها بين الأمرين؛ بحيث يكون من يقتنع بمدرسة الدعوة في إطار من أطرها، وله مكانته فيها، وأن تكون هذه المكانة مكانة اعتراف وتقدير، وليست مكانة تأليف القلوب، من باب (والمؤلفة قلوبهم).

هذه بعض التأملات في العلاقة بين المفكر والتنظيم في الحركة الإسلامية، وكيف تقوى هذه العلاقة، ويستفاد من كلا الطرفين، وهي نظرة وتحليل شخصي، قابلة للصواب والخطأ، أعرضها للبحث والمناقشة، مستفيدا بكل صاحب تجربة، أو دراسة لهذه العلاقة.