المسار
بقلم : محمد أحمد الراشد
محتويات
- ١ مقدمة
- ٢ الآثــــار القائدة
- ٣ آفاق الهمم السامية
- ٤ فصاحة الحزم المخبت
- ٥ حوار الداعية المفاوض
- ٦ النشــأة الأولى
- ٧ انسياب الانفتاح
- ٨ نشر الأشرعة
- ٩ فنون التجميع
- ١٠ فقه الاصطفاء
- ١١ مسالك التوغل
- ١٢ التدارك والتكميل
- ١٣ عوامل الجدية الجماعية
- ١٣.١ (العامل الأول): وضوح الفكرة الإسلامية في نفس الداعية
- ١٣.٢ (العامل الثاني) البرمجة الفردية والجماعية
- ١٣.٣ (العامل الثالث): التخصص وتوزيع الأعمال
- ١٣.٤ (العامل الرابع من عوامل الجدية): منع الهجرة، حفاظًا على تكامل أدوار الدعاة في كل جيل منهم
- ١٣.٥ (العامل الخامس): تهيئة الأوليات الممهدة والظروف المساعدة وزخم الاستدامة لكل عمل مهم أو مهم أو انعطاف خططي
- ١٣.٦ (العامل السادس): ضبط حقوق وواجبات الدعاة بنظام داخلي صريح
- ١٣.٧ (العامل السابع): اتخاذ الاحتياطات قيادية تدرأ الفتن
- ١٣.٨ (العامل الثامن): وفرة المال الكافي لتنفيذ الخطط
- ١٣.٩ (العامل التاسع):رؤية تزايد المخاطر الخارجية الحدقة بالدعوة
- ١٣.١٠ (العامل العاشر من عوامل الجدية)
- ١٤ التكيف المرن
- ١٥ الإطلالة الراجية
- ١٦ نبرات الآذان
- ١٧ حوافز التطوير
- ١٨ أصول التخطيط
- ١٩ مقومات الشخصية التنفيذية
- ٢٠ نظرية الأجيال القيادية
- ٢١ اختيار الاستيعاب
- ٢٢ الخاتمة
مقدمة
إحياء فقه الدعوة
الكتاب الخامس
المســار
إنها الحركات الخمس للراكض..
وفقًا للتحليل الفيزياوي..
في وسطها... يحلق...
ومن قبلها استناد ودفع يعليه...
وفي آخرها استقرار... لاستئناف...
وكذلك مراحل الدعوة...
إذهى في مسارها المبارك...
تنطلق من أرض صلبة...
وتعلم قبل الخطو موضع نزول قدمها...
تتجانس مع سنة المخلوقات....
وتتوغل في دربها....
بلا عائق...
مسرعة ... منصورة...
مقدمة وميض النقد
تتوزع تصرفات الدعوة الإسلامية في سياسات ثلاث:
السياسة الخارجية المحددة لطبائع علاقات الدعوة بالحكومات والأحزاب والجماعات الأخرى، وتنوع مواقفها ما بين حرب وهدنة وحلف وإعانة واستعانة.
والسياسة الداخلية البانية لشكل التنظيم، المقررة لشروط العضوية والتأمير، وحقوق وواجبات الدعاة.
والسياسة التربوية التي تختار طرق تعليم الدعاة ومدهم بأنواع الثقافات، وكيفية تهذيبهم أخلاقيًا وإكسابهم الصفات الإيمانية.
والمفروض أن تتم توعية الدعاة في هذه السياسات الثلاث كلها، لنحوز نموذج الداعية المؤمن، الفقيه، المربي، المتقن، المنسق، العادل، المحتاط، اليقظ لاستغلال الفرص، المستتر عن رمية الأعداء.
وتمثل هذه الجهود في التوعية جانبًا من أهم الجوانب التي تتصدى لها الدعوة، وكل نجاح تناله في توعية الدعاة يفتح أمامها مزيدًا من أبواب الآمال.
وقد رصدت سلسلة (إحياء فقه الدعوة) نفسها للمشاركة في هذه التوعية، معتمدة أساليب التحليل، مستشهدة بالتجارب الوافرة، مقتفية آثار الإفتاء الفقهي، أصيل القديم، مكمله الحديث.
وكتاب المسار يتولى التوعية في هذه السياسات الثلاث معًا، لا من ناحية تفصيل مفرداتها وشرح أحكامها الجزئية، بل من الناحية التخطيطية الإجمالية التي تعتمد النظرة الشمولية الناقدة لكل مرحلة من مراحل العمل، وهي نظرة تحرص على التعليل واكتشاف الأسباب، وتتولى التعداد الذي يحصر الأنواع والفروع، وتشير إلى الفروق والتباين النسبي، وتنبه إلى المصالح التي تسوغ اختلاف المواقف تبعا لتغير الظروف.
ولكن (المسار) لا يمكن أن يفهم مفردًا، بل يجب عليك حين تقرأ فيه أن تعيد التعرف على طبائع (المنطق) وعرقلة (العوائق)، وأن ترطب قلبك بنداوة (الرقائق) وأن تقتدي بومضات (البوارق).
سياسية العبادة
إن الطالب لفقه الدعوة سرعان ما يدرك أن التخطيط الإسلامي له سمت خاص يختلف عما عند الأحزاب العلمانية، يتمثل في الاقتران الكامل بين التربية الإيمانية الأخلاقية والتوغل السياسي.
إن خطتنا ليست هي خطة سياسية مجردة، ولا يكفي فيها العطاء التربوي الذي تتيحه للداعية مواقفه السياسية، بل يجب أن تسبق التدخل السياسي مرحلة تأسيسية مخصصة للتربية والبناء التنظيمي، ثم تظل التربية من بعد وتستمر مواكبة للانفتاح العملي والصراع السياسي، ويكون عطاء المواقف ظهيرا لها ومؤكدًا,.
إن تاريخ الجماعة يشير إلى أن الجهود التربوية تضمن سلامة العمل وبعده عن الانحراف، وتساعد على انتقاء الفتن ومعالجة الفتور، فوق كونها من الإرشادات الشرعية، وإنها هي السنة العملية التي سار عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- في تكوين أصحابه وتأسيس دولة الإسلام.
سياسية العبادة
وإنما نعنيها بشمولها هذه التربية، فكما أن الممارسة الجماعية والتدريبات العملية وانتصاب القدوات تعتبر جوانب مهمة فيها، فإن العيش في المساجد وتلاوة القرآن الكريم ومجال دراسة الحديث النبوي الشريف ومطالعة كتب التذكير وسماع الوعظ والتلقين تعتبر جوانب أخرى تماثلها في الأهمية أيضًا، أو تمهد لها وتعين على دوام تأثيرها.
هكذا هو الخط الوسط والمقدار الصحيح، وإنما يغفل عنه اثنان جافل من سذاجة دعاة يعزفون عن التدخل السياسي ويبالغون في التربية القاعدة الجامدة، فيخرج إلى تطرف ينكر معه أصل التربية كله، ويقذف لسانه في غمرة الحماسة ألفاظًا غير موزونة.
وجافل من دعاة يستعجلون وضع أنفسهم في محيط السياسة، ويقربون من التهور، فيخرج إلى تطرف مقابل يتحول به إلى مجرد زاهد عابد.
والصواب ليس مع أحد من هذين، بل هو كامن في الشمول، والتدرج، والاقتران الدائم خلال كل المسار بين التربية والتدخل السياسي.
السمت الفذ
وسبب ذلك أن خطتنا ليست ككل الخطط، وإن لعملنا طبيعة فذة يهبها الإيمان له، تجعل مجهودنا يستمد قابلية تأثيره من ميزات ثلاث:
(الميزة الأولى): قدرة الصلاح الحماسة: فإن تخطيطنا يجب أن لا يعتمد فيا نتظار النصر على حجم حشده وقوته فقط، بل أن نجعل مقدار الصلاح الذي نحوزه عاملا أساسيًا، وكلما شاعت الأخلاق الإيمانية الفاضلة فينا وزادت نسبة صفاء القلب وكثر الاستغفار وتوالت التوبة: كانت خطتنا أقرب إلى النصر في التصور الإسلامي، وأجدر بالوصول إلى غايتها.
والمروي في هذا المعني عن السلف شيء متواتر، والمأثور عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يوصي جنده بالتوبة قبل النزال، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: (أيها الناس: عمل صالح قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم)، وكان الفضيل بن عياض يقول للمجاهدين إذا أرادوا أن يخرجوا: (عليكم بالتوبة، فإنها ترد عنكم ما لا ترده السيوف)، وإنما نصارع أحزاب الإلحاد اليوم وحكومات الكفر بأعمالنا قبل أن نقاتلهم بفنوننا وشهاداتنا واختصاصاتنا وسلاحنا.
(الميزة الثانية): انعكاس الاختيار الذاتي: فإننا نستطيع توجيه غيرنا متى نجحنا في توجيه أنفسنا نحن معاشرة الدعاة، ولإمام مصر عبد الله بن وهب رحمه الله التفاتة حسنة إلى هذه الظاهرة، وكان يكثر أن يقول: (إنما يحسن الاختيار لغيره من يحسن الاختيار لنفسه).
هكذا هما وجهان متقابلان: شرط وعطاء، فالداعية محروم من التأثير في غيره ما لم يكن هو متأثرًا منصبغا بما يدعو إليه، كما أن تمثيله لحقائق دعوته وترجمته لمعاني إيمانه تهبانه قدرة تلقائية على شد المقابل إلى مساواة أو الإحسان في تربيته.
إن جمهورنا سيبني أفكاره وشخصيته، ويحدد أنماط سلوكه مقلدًا لنا ومحاكيًا، وسيسرع فهم دعوتنا إذا فهمناها قبله.
(الميزة الثالثة): حركة أصداء الورع: فإن الداعية إذا ألزم نفسه بالورع، كانت لورعه أصداء يحدث تكررها وترددها تحريكا للناس، ويوضح ذلك ما اكتشفه الزاهد يحيي بن معاذ من أنك (على قدر شغلك بالله: يشتغل في أمرك الخلق) ، وتوفيق الله تعالى لنا في عملنا التجميعي منوط بإقبالنا عيه، وما أزمة صدود الناس عنا إلا من نتائج أزمة قلة اهتمامنا بما أوجبه الله، ومن أقبل بقبله على الله تعالى: أقبل بقلوب العباد إليه.
إن الدعاة كثيرا ما يشكون عزوف الناس عنهم والتهاءهم بشكليات عادية يجدونها عند الأحزاب الأخرى، وبالغث لا بالسمين، وباللغو لا بالعلم، وما من شك في أن هذه الظاهرة هي من الجهالة التي قوبل بها الأنبياء عليهم السلام وبعض الصالحين، وإنها صفة متوقعة من الشر، وأنها علامات اقتراب الساعة، ولكن يبدو أن صدود الناس هذه الأيام قد فاق كل صدود سابق، وأن جهالة الناس بلغت حضيضا واطئًا، وأصبح أمر الإصلاح عسيرًا على المقل الماشي في طريق الإيمان بهدوء وبرود، ولابد أن يتصدى المكثر، الراكض، الفائر، ذو الحرارة.
إن للتقوى آثار تشغيل، وبمقدار جديتنا: يكون الناس جديين، ولنا شاهد دائم في أنفسنا، فإننا نتفاوت بين يوم ويوم، وإيماننا يزيد وينقص، فإذا كنا حينا في إيمان جيد: رأينا إقبال الناس علينا، وإذا كان فينا جزر إيماني وقسوة قلب في حين آخر: رأينا قلة جدوى نشاطنا، مع كثرة غدونا ورواحنا، وكل منا قد تعاقبت عليه مثل هذه الأحوال ولمس بنفسه اختلاف مواقف الناس منه، وضوابط إنتاج الجماعة تعتمد في كثير من جوانبها على ضوابط إنتاج الفرد.
صمت المليء
إن هذه الميزات الثلاث تقترب بطابع مهم يطبع التخطيط الإسلامي يمكن أن يسمي: كفاية تعبير الحقيقة، ويكشف عنه قول لأحد السلف كان يلاحظ أنه (ما ادعى أحد قط إلا لخلوه عن الحقائق، ولو تحقق في شيء لنطق عنه الحقيقة، وأغنته عن الدعوى).
فكما أن الفرد إذا ا متلأ: سكت، ونطق عنه حاله، ولم تكن به حاجة إلى دعاية لنفسه، فكذلك جماعة المؤمنين، إذا اتصفت بما تدعو إليه، وانبثت، وأحكمت صفوفها، ووفرت أسباب القوة: أغنتها هذه الحقائق عن الدعوى والمقال، وكان فعلها مغنيا لها عن الوصف أو التهديد، ولست ترى جماعة كثيرة الكلام إلا كان كلامها دليلا على ضعف رصيدها العملي.
إنها حقائق معبرة تتمثل في كل جزء من مفردات الأخلاق تحوزه، وفي كل لبنة من البناء التنظيمي، وفي كل فن من فنون التخصص والخبرة العملية، وتعبيرها يكفي ويغني، وإنما يطيل اللسان ويذكر الأمنيات من لا يملك الشيء، وأما من يملك فإن ملكه يفصح عنه، والناس تشعر بالقوة الحقيقية تلقائيا، ويأسرها النظر، وتتبع الأثر.
رجال يترجمون المقال
ولو أن الدعاة كان منهم انكباب على فقه الدعوة، يتدارسونه ويكتشفونه من مظانه العلمية والتجريبية لكان خيرًا لهم من الادعاء والضوضاء، والذي هو أكثر خيرا لهم وأوجب: أن يوجد في كل حاضرة من حواضر الإسلام دعاة أهل نزوع إلى الجد يترجون بصمت ما في ثنايا فقه الدعوة من اقتراحات إلى ارتباطات وعلاقات وخطط واقعية.
ولابد أن نعلم أن هناك احتمالا دائما ينذر بخطر تحول هذه المعاني إلى مادة تسلية لبعض من يلفهم الفراغ من المنتسبين للدعوة، فيحدوهم الترف إلى حوار متكرر حولها أشبه بالجدل الذي لا يقترن بتطبيق، فيكثر الكلام، ويقل العمل، في عزلة عن حركة المجتمع، أو يميلون إلى التبجح والإعلان، إذ السباق الخفي ماض.
كما أن همم البعض قد تقصر، فيرى بعض الذي ذهبنا إليه أحلاما، وإنها لكذلك عند من لم يصعد عزمه إلى مستوى الأحداث، ولكننا ندري من أنفسنا إننا لم نجنح لخيال أو هذر، ولم نوجب ما هو فوق طاقة البشر، وإن الذي أتينا به ليس هو غير استجابة لنداء الواقع.
إنها أفكار واقتراحات موضوعة للعزائم العالية دون الهابطة، وللقلوب الحرة لا القلوب الواجفة، ولطلاب الآخرة لا للمخلطين في إشارات منع رصد العدو عنها الصراحة، ولكن يفهمها من لذعت مآسي المسلمين قلبه.
يكفي اللبيب إشارة مكتومة
- وسواه يدعي بالنداء العالي
وماذا يفيد تكديس كراريس تروى تجارب الدعوة إن لم يتلقها عزم وتحتفل بها همة تستدرك وتعوض؟
إذا المرء لم تبدهـك بالحزم كله
- قريحته: لم تغن عنـك تجاربه
وإذا الداعية لم تكن فيه مبادرة، ولم يكن منه بذلك: لم ينفعه أن نقص ع ليه القصص، أو نقتبس له الخطط.
على أن من الضرورة بمكان أن ينتبه كل داعية إلى أن (المسار) يحاول أن يرسم الصورة النموذجية لعمل الدعوة وتقلبها في المراحل، فهو لم يؤلف على أنه خطة لقطر معين، ولا لفترة معينة، وهذا يعني أن كل قطر يقتبس منه في كل مرحلة ما يناسبه ويليق لظروفه حسب مقدار القوة والكفاية التي يملكها، والقول في ذلك إنما هو قول القيادات، واختياراتها مقدمة ومفضلة على مثالياتنا وأمنياتنا وكلامنا المطلق.
الآثــــار القائدة
هذا المجتمع، في كل حقبة: إنما هو انعكاس لشخصيات المجموعة التي تقود جيل الناس في تلك الحقبة أكثر مما هو انعكاس للقوانين المسنونة التي يراد لها أن تنظم الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإنما تعود هذه الظاهرة لسببين:
إن المفاهيم والأخلاق والطباع توغل في التأثير المعنوي النفسي أبعد من الأمر المفروض المنفذ بالقوة، وتغرس من معاني الاقتداء ما لا يملكه التسلط.
وأن الفلسفة وأنواع الأدب البلاغي، وتحاور الآراء، وحجج الفقه، تضرب على أوتار العقول والعواطف، والأرواح فتدعها في موقف منجذب أو نافر، وليس يقوى جمود الصرامة على احتلال القلوب، ولا له في شغاف مستقر.
من هنا كان آكد قانون أو شرع: قانون أو شرع تظاهره من خلفه قناعة قادة يطبقونه؛ إذ التحايل والالتفاف، والتاؤل المتملص، أساليب مطروقة عند انعدام الرضا.
ولهذا لن يكون (الإسلام) بدون (مسلمين)، أو (الإيمان) بدون (مؤمنين).
والحياة الإسلامية لا تبنيها النصوص، إنما ترفع أركانها مجموعة قيادية من المؤمنين ذات تأثير متكامل، من رجال الإدارة، والسياسيين، والاقتصاديين، والصناعيين، والفقهاء، والقضاة، والأدباء، والمفكرين، يؤمهم رجل جامع للخصال، شامل الاهتمام، وليس لقانون إسلامي فرصة تغيير بدون أفئدة ملذوعة تتعبد بتطبيقه.
وهذا المفهوم ما هو بالجديد، وإنما هو تصور قديم صرح به السلف من الفقهاء، إذ كانوا يفهمون أن أولياء الله الذين ينصرون دينه ( يوجدون في جميع أصناف أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يكونوا من أهلا لبدع الظاهرة والفجور، فيوجدون في أهل القرآن والعلم، ويوجدون في أ÷ل الجهاد والسيف، ويوجدون في التجار، والصناع، والزراع)([1]).
فإقرار بمثل هذه الحقيقة، أو الانتكاس، وانقلاب الموازين.
بل هو ارتكاس قديم
وذاك هو خبر الإمام أحمد بن حنبل لما أطل ببصيرته، فرأى إهمال الثقات، وصعود النكرات، وتمكين أهل البدع، وتوسيد الأمور إلى غير أهلها، فقال: (إذا رأيت اليوم شيئا مستويا فتعجبوا)([2]).
فهو عجب مبرر، قد انبغت له أسباب الصدق، إذ غلبت الأهواء أعراف الإيمان في تزكية الرجال، وصار (يقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثال حبة خردل من إيمان)([3])، حتى تولى الظلمة الوزارات ومراكز الحكم، وأصبح الجهد صدور مجالس العلم.
وتكررت هذه الانحرافات أكثر من مرة بعد أحمد وندر الاستواء، حتى انعقد إجماع المؤرخين على رد كل مظاهر ضعف الأمة إلى سوء معادن المنفذين، ولم تأت نكبة زوال الدولة العباسية إلا نتيجة منطقية لبلوغ الاعوجاج مداه.
ولم تكن لتلك النكبة أخت تعظ بمثل وعظها، ومع ذلك أغفلت قلوب من في البلاد التي نجت من يد التتار عن الانتفاع، وشهدت ربوع الشام ومصر من أصناف أهل النقص ما أرهقها.
ولابن القيم نص ذو طبيعة تاريخية يصف لنا فيه تلك الفترة، يرجع فيه سبب باطل المبطلين إلى إغراء الشيطان عدو الإنسان، جريا مع التحليل الإسلامي لصراع الخير والشر، واعتقادًا بعقيدة الإسلام، ويحدثنا كيف أ، الشيطان صادف نفرًا يتبعونه (اتخذ منهم حزبا ظاهروه ووالوه على ربهم، وكانوا أ‘داء له مع هذا العدو، يدعون إلى سخطه، ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته، ويسبونه ويكذبونه، ويفتنون أولياءه، ويؤذونهم بأنواع الأذى، ويجهدون على إعدامهم من الوجود، وإقامة الدولة لهم)([4]).
واللافت للنظر في هذا النص هذه الكلمات والاصطلاحات التي أوردها ابن القيم، كأنه يصف طبيعة الصراع الحاضر بين الحركات الإسلامية ومعسكر الجاهلية، فهو يذكر: الحزب، والفتنة، والأذى، والإعدام، وإقامة الدولة الباطلة، فيأسر اهتمامك، لتنتبه إلى صورة معركة واحدة ما زلت تعيشها اليوم كما عاشها جيل بن القيم، وكما عاناها الرهط الذين مع أحمد.
فليس جديدًا ما نرى من تصارع
- هو البغي لكن بالاسامي تجددا
وأصبح أحزابا تناحر بينهمــا
- وتبدو بوجه الدين صفا موحدا([5])
إنه اليوم صراع سياسي حزبي منظم لإقامة الدولة الجاهلية، ولقد أقاموها، وصراعهم مستمر لإدامتها، وترسيخها وتربية الأجيال الجديدة على الكفر، وليس الأمر مجرد فساد خلقي وفجور وخمور يمكن أن ينحصر وعظ الواعظين إزاءها.
وفي هذا ما يوجب على أصحاب الغيرة الإسلامية والعقيدة الإيمانية في كل مكان أشياء من التعاون، والانتظام، والتخطيط، وتكميل النقص التربوي، والتوسع العددي، في عملية استدراكية، من خلال ممارسة جهادية سياسية غير متهورة، تقام بها دولة إسلامية، رجالها دعاة حركيون.
أثر.. مع قافلة الهجرة
وكل مسلم مطالب بإبداء أثر في هذا الاستدراك، والمشاركة فيه بنوع من الخير، حسب استطاعته، ولا معنى لحياة إمرئ سلبي، يرتع في هذه الدنيا: أكلا وشربا وتلذذا بالنساء، والمفكرون من حوله لا يحاول أن يبدي موقفه منهم، والسياسيون عن يمينه وشماله بين صالح وطالح يصطرعون وهو يتفرج.
إن السلبية والانعزال والتفرج مع هي إلا تعابير مخففة مجازية بيأبها عبد الريحم بن الأخوة الشيباني الشاعر مفسر القرآن، ويعد ذلك موتا، فالمرء والسيف –عنده- ما لم يبديا أثرًا: حي كميت، مسلول كمغمود.
وبلغ الرافعي مبلغا أقصى، فرأى وجود السلبي غير مبرر، وأنذرك بوجوب الجلاء، وأنك (إن لم تزد شيئا على الدنيا: كنت أنت زائدًا على الدنيا)([6]).
وذاك شأن لذعة القلب حين يكويه برود المسلمين، تنسيه اللذعة الألفاظ اللينة، ويغيب عن باله أنك لا تطيق الصراحة، فيقسو عليك وأنت لا تحتمل!
فتعالى نتركهما، لنمر معًا على ذي رفق، لا يزيد على أن ينبهك إلى أن إبداء أثر الخير صفة كبقية الصفات الإيمانية التي طولبت حواسك بها.
إنه يقرن لك رفقين، رفق المبنى، ورفق المعنى، ويدلك على زادين..
فخذ لك زادين: من سيرة
- ومن عمل صالح يدخر
وكن في الطريق عفيف الخطا
- شريف السماع، كريم النظر
وكن رجلا إن أتوا بعــده
- يقولون: مر، وهــذا الأثر
وما نحسب أن الهمم تتعاقد على أقل من هذا:
أن يكون لك أثر يطبعه قدمك مع الركب السائر، يمنحك حقا في العب معنا من المؤمنين مصلين، أكتافهم في المساجد بأكتافنا، مازالوا يتأخرون عن المسير مع قافلتنا، ويسألون عن وجهتنا، وربما يتشككون، وما دروا أن قد سبقهم من سبق، وأن قد جد الرعيل في الرحيل، وإن المتأخر في الالتحاق: متأخر في الفضل.
أنشــأت أسألـه عن حـال رفقته
- فقال حـي، فإن الركب قد نصبا
إن أمرنا ليس بحاجة إلى سؤال من بعد ما انتشر شذانا، وعبق عطرنا، واستأنس كل مزامل لنا، بل هو التشمير، والحرص على إجابة دعوة إلى فلاح رفعنا صوتنا بها، قد يممت قافلتنا وجهها إليه، فوصل البعض: شهداء وآخرون: سائرون في الوعظ والتربية والتهيؤ، ومنا: الراكضون السجناء. تجربة اليقظــان وعبادة المحسان
ولكن.. احذر أيها الأخ المشمر..!
فإنه قد شرع لنا أن ننافسك في الخير وحجم الأثر، ولك أن توسع خطوك ما تستيع، وإلا فلسنا –إن سبقناك- بملومين.
نعم، لن نحتكر الخير، بل نهبك بعد من غنيمتنا، حتى نغنيك، ولكن ليس من أخذ من فرع كمن أخذ الأصل، وليس من سمع الوصف كمن ذاق لذة اشتداد السباق.
وحضورك نشاطنا بحواسك أجمع: وتجردك النابذ لتطلعات الفضول: كفيلان بأن تنال يوما بعد يوم حكمة صافية تفهم بها قواعد العمل الحركي الإسلامي، غير مشوبة بوهم رواية ناقل، ولا جمود مقلد ليس له إبداع ونظرة تحليل.
ولسنا منك إلا بمنزلة الدليل، ويستطيع قلبك أن يزداد فقها لهذه القواعد بمقدار ما يحرص على المعنى الكامن في دلالتنا، دون طلب للفصاحة في الظاهر من ألفاظنا.
وهذا مبدأ في التفقه راسخ في العرف القديم قل أتباعه في الحاضر، وليست حاجة مجاوزيه له دون حاجة الأولين، ولقد وجدنا هماما من السلف يؤكده، فيوصيك أن: (لا تشتغل بالفصاحة والبلاغة، فإن ذلك شغل لك عن مرادك، بل افحص عن آثار الصالحين في العمل وواظب على الذكر).
وقوله إيجاز جيد لوصف طريق الدعاية المسلم نحو الوعي.
الفحص عن آثار الصالحين في العمل أولا، وهي حروف محكمة متداولة في تعابير الأمس، تترجم في اللغة المعاصرة بدراسة تجارب الدعوة الإسلامية في العمل السياسي والتنظيمي والتربوي.
ولكن هذه الدراسة تستلزم خلفية من السكينة الإيمانية التي يطفى بردها حرارة التتبعات الدنيوية، وهي المواظبة على الذكر، المشار إليها ثانيا، وتشمل معان متكاملة، من الزهد، والإخبات، والتواضع، في سلسلة من العبادات القلبية، تبطئ بالداعية، لتمكنه خلال التأني من اعتدال التحليل، ودقة القياس، وصواب التعليل، مثلما تسرع به سموًا نحو اندفاعة جهادية.
فإذا اجتمعت المعرفة الإيمانية، مع الموازنة التجريبية: كان أمر الدعوة والداعية تامًا.
([1]) مجموع فتاوى ابن تيمية 11/194.
([2]) رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال /113.
([3]) مجلة الوعي الإسلامي الكويتية عدد ذي الحجة 1398.
([4]) مدارج السالكين 1/211، وقوله مع هذا العدو، أي: مع الشيطان.
([5]) أغاني المعركة/ 143.
([6]) رمي القلم 2/86.
آفاق الهمم السامية
إن المفهوم الإيجابي للسكينة الإيمانية الضرورية لفهم تجارب العمل الحركي لا يسمح لأحد أن يهبط بمستواها ومعناها إلى نوع من الانعزالية والركود يكسوهما بغلاف من نوافل الصلاة وخلوات التفكر، فإن ذلك نمط سلبي مفضل، إن لم يكن مبتدعا.
سكينتنا أرفع، وألصق بحركات الحياة، ولها نبضات لا تتيح ارتخاء، بله الجمود، وحقيقتها: طمأنينة تغمر القلب وتحتله، بعد صراع داخلي فيه، تغلب به القناعة وشدة التصديق ما هنالك من هواجس تشكك في الغيب الذي بلغنا به الوحي، فيدفع الجوارح وكل البدن إلى بذل الجهد في تنفيذ فرائض العبادة، وأعمال الفضائل، والنهي عن منكر الظالمين، وقتال الكافرين، في غيرها ما وجل ولا حرص على ملذت العيش، توكلا، ونظرًا إلى ثواب آجل.
ولهذا فإنك تجد الأبدان في الحركات دائبة، وتحتها القلوب وادعة ساكنة.
انتصار المؤمن المراغم
وتبدأ مسيرة الداعية لاكتساب هذه السكينة الإيمانية القلبية بصراع مع الشيطان متواصل، معاندة له، وعصيانا لتزيينه، وإزاحة لتسلطه، حتى يجليه عن مواضع ستة يحتلها.
وتسمى هذه بمعركة المراغمة، قد كشف ابن القيم طبيعتها، ووضع خارطة موقعها، وبين المدارج التي يسلكها المؤمن لنيل النصر فيها على هذا العدو الذي يجري منه مجرى الدم.
• وفي أول تماس في هذه المعركة الأبدية يحاول الشيطان أن يستغل عنصر المفاجأة، فيوقع في القلب شبهات الكفر الكامل، ويصرع بذلك أكثر البشر في كل جيل، إلا أن صراعاه قلائل في اتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد إذ تخالط بشاشة الإيمان القلوب، وهم أقل وأندر في الماشين مع ركب الدعاة، وإن كان ثمة نكوص فإنما يكون بأوهام تصاحب التفلسف، تغرى باعتقاد وحدة الوجود، وأمثالها، إن هذا الوجود حقيقة إلهية واحدة، ليس ثم خالق ومخلوق.
• فإن لم يظفر الشيطان بالمسلم هنالك: دعاه إلى شبهات من الابتداع، زيادة ونقصا في الاعتقاد والعمل، والمتورطون في ذلك من الأمة كثير، ولا يخلو مجتمع الدعاة من جديد لم يكمل فقهه، أو قديم لم يتمحض ومصاحبة الصحيحين تكفل البراءة وتجاوز بالداعية، تقربه نحو النصر.
• إلا أن الشيطان طويل الأنفاس، فيقتحم على المسلم مزينا الكبائر من الشهوات، وله في ذلك انتصارات، لكن نمط التربية عند الدعاة جعلهم بحمد الله تعالى في حماية.
• إنما صغائر الشهوات هي ساحة الشيطان الرابعة التي تتسع صولاته فيها، وما ينجو مسلم ولا يكاد، أما الغافل فيخرج طريحا مثخنا بالجراح، وأما الداعية فقائم منافح، غير أنها الخدوش.
• فيعرف الشيطان أن عليه أن لا يصادم الداعية جباها، إذ فيه من صفات الفطنة والذكاء فوق الهمة والحمية ما يتاح له بها التملص إن لم يتقن الطعان، فيجري على خطته التحوير، ويندس له بأسلوب الناصح، يحثه أن يستكثر من مباح لم يختلف الفقهاء في حله، لينغمس، فيثقل ويركن، فيبرد، ولذلك كانت التربية على معاني التقلل من المباحات الملهية من ضرورات العمل الحركي الإسلامي، فإن الدعاة ثلة مستنفرة أبدًا، متأهبة للجهاد دومًا، ولا بد أن تكون سريعة الاستجابة لمتطلبات الظروف، ومن شأن المباح إذا كثر أن يزداد تفكير صاحبه به، ويأنس قلبه له، فيقعده عن نجدة واجبة، أو فرصة سانحة. ولقد تعلم الدعوات هذا الخطر، فترسلها مواعظ ووصايا للدعاة، ولكن المباح يدب دبيبا خفيا.
• فإن تملص الداعية وسل نفسه: لم يك استعلاؤه على الراحة والرغد كافيا لحصار الشيطان في زاوية اليأس، بل للشيطان محاولة سادسة، فيكون له التفاف واقتحام من ثغرة أخرى، فينثر ترتيب قائمة الأولويات النسبية، ويعكس القواعد الشرعية في تفاضل الأعمال الإيمانية، ويلهي المؤمن بالمفضول المرجوح، فيقصى من له علم نافع عن جمهور المنتفعين منه، ويشغله بزيادة ركوع وسجود، هما جليلان، لكن التعليم أوجب عليه بعد الفرض منهما، وينقل آخر له وفرة قوة وبسطة في الجسم والذكاء، وخبرة في السياسة والإدارة من تفاعله المنتج مع يوميات الخطة الجماعية، ومن صولاته في ساحةالفكر، إلى إشراف على بناء مدرة أو إغاثة منكوب.
فمن استمسك بالفاضل الراجح، وزهد، وأبى تلبية نداء الشهوات، ولم تستز له الشبهات، فقد راغم الشيطان أبلغ المراغمة.
ويحكم بيننا الخلق الجميل
لكن تبقى على الداعية بقية لتكمل سكينته: أن يتخلق مع إخوانه الدعاة بخلق العفو والتجاوز، فإن الصدور وإضمار الانتقام وانتظار الرد بالمثل لن تنفك تزيد حرارة القلب حتى تدعه قلقا مضطربا.
إن دعوى المراغمة لن تستقيم دون حلم، إذ ما تزال التقوى تدور بين تنفيذ فرض ومندوب يحاول الشيطان تخذيلنا إزاءهما، أو الكف عن حرام ومكروه يستدرجنا الشيطان نحوهما ويفرح إذا زلت أقدامنا إليهما، وللشيطان نشوة عند غيظ يراه من مؤمن أو غضب يعتيره يستتم به عليه ذهول وإغلاق، يحجبانه عن خلق في السماحة أمثل، وينزعان عنه رداء من المهابة قشيبا.
وفي الالتفاتات الإنسانية المتأملة لأسرار الحياة والعلاقات الاجتماعية نظرات رائعة، صادقة، وتتيسر لها في كثير من الأحيان إطلالة على حقائق النفس من زاوية معينة تريك منها إذا صحبتها ما لا ترى مجابهة، حتى ليأسرك جمال ما هنالك أو يخفيك، تبعا لواحدة من حالتين طبعت عليها: ذكاء أو فجور، والمستزيد يرى في مجموع هذه الالتفاتات رصيدا من الحكمة يشارك في تفسير الوحي، فيحرص عليه.
وما هي بأول الحكمة ولا آخرها، ولكنها لمحة من على ثنية في طريقها، لمحها الخليفة المأمون، فرأى أن (من لم يحمدك على حسن النية: لم يشكرك على جميل الفعال)([1]).
وإنما اكتشف ذلك لما فيه من نبل وافر، إذ هو تربية خلافة، ووارث رشيد، والذي بدر منه من ظلم لأهل الحديث ونصر للبدعة استزلال شيطان لم يجتث الفضل كله، بل أبقى منه بقية.
وأهمية قول المأمون تكمن في أنه يحيلك على ابتداء من النية لا ينبغي إهماله إذا أردت قياس الفعل في النهاية، فإن الفعل الخطأ تشفع له النية الصالحة حتى تثنيك عن الملامة، والفعل الصائب بمقابله: واجب عليك شكره، لا يصرفك عن الشكر إنه قدر مقضى، فإن صاحبه قد امتحن قلبه بنيتين، فاختار الطيبة دون السوء.
فالأظهر من قوله: إنها همسة لك خفية، لكنها قوية، أرادك بها إذ أنكر على غيرك، ونصحك ظالما في صورة مظلوم، وجاحدًا في هيئة واهب.
بشاشة المهدي
لكن هذا ليس أكثر من العدل وما يقتضيه الإنصاف، وفوقه منزلة في الفضل أسمى: أن يكون تقويم النكوب بإقبال، وأن يبذل الإحسان ردًأ على العدوان.
وما يذوق أحد للحياة من حلاوة، ولا يرى لها من زينة، إلا يوم يوجد هذا الباذل، فيملؤها حبا كما امتلأت عبوسا.
وذهب المأمون في ذلك مذهبا نادرًا، ففضل صحبه مثل هذا على مكث في خلافته ليس في الدنيا في عصره أعز منها، وشهد عليه بذلك نديمه مخارق حين أنشده قول أبي العتاهية:
وإني لمحتــاج إلى ظل صاحب
- يروق ويصفو إن كدرت عليـه
قال مخارق: (فقال لي: أعد. فأعدت سبع مرات، فقال لي: يا مخارق :خذ مني الخلافة وأعطني هذا الصاحب)([2]).
وذلك لأنها اعوجت الحياة يوم ولي المأمون، فتبدلت موازين الخير، من بعد ما كان ثم الصفاء، وبيده حرم نفسه من جمال الحياة، وعلى نفسه جني وما درى، لما جعل المبتدعة وعتاة الشعوبية رؤوسا وقادة، ومن مثل خطئه عرفنا الذي قلناه آنفا، حين ربطنا صلاح الحياة بصلاح المجموعة التي تقود.
وكلانا نرثي للمأمون حاله، نحن والسائبون، إلا أن السائب ترهبه حسرة المأمون، فينقلب يائسا، وتائها، ونسارع نحن الحركيين إلى إصلاح عرفنا طريقه، هو ممكن وقريب ممن سعى.
لم ينفذ جمال الحياة، لكنه غطى وستر بحجاب، سترته أخلاق الحكام المنحرفين، ويم يزولون: ينجلي الغبار، فيشع بهاء من المحبة أصيل، جوهرته مركوزة في فطرة الناس، أكثر الناس. وذاك توغل حقا. وإسراء إلى الأقاصي، يتدرب الدعاة عليهما منذ البداية، فما تدري إذ تسمع نغمتهم وطربهم: أأنفسهم يعظون وبينهم يتواصون؟ أم صاحبهم يلقنون وله يقولون:
سامح أخاك إذا خلــط
- منه الإصابة بالغلــط
وتجــاف عن تعنيفهـه
- إن زاغ يوما أو قسـط
وأ‘لم بأنك إن طلبـــ
- ـت مهذبا رمت الشطط
من ذا الذي ما ساء قــ
- ـط ومن له الحسنى فقط
لا أحد، لا أحد، لا أحد.
وتلك عودة في النهاية، من بعد الحكمة، إلى هيبة البديهات الواضحة المكملة لنظرات النبلاء العزيزة، قد تغفل عنها حينا، لكنها تعود تنتصب وتستهدف لك، تتحداك بساطة صراحتها أن تصوب لها سهمك، كما يتحدى الواثق القوى الرامي المتردد، ويبرز له صدره، فيسقط القوس من يد أطالت بريه.
إن الاعتداء عليك قد يحفزك لرد بمثل، فتحوم حول طلب الانتصار لنفسك وتتعالى كبرياؤك، ولكن تذكر انتفاء العصمة عن جملة البشر تسرع بك إلى الإبطاء، فإن لم تفعل: رجع بصرك إلى التحديق نحو هذه البديهية الشاخصة له كرتين، فينقلب القلب راعشا، ثم مذعنا لصدق الحقيقة، بعد إذ أبى سكون الإقرار لمنطق الفضل.
حكمة الدعاة وعدل القضاة.. معًا
وآداب الشرع من بعد الفطرة والبديهة تضيق عليك، وتحدو بك نحو إتمام، بل الأمر صريح أن (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)([3]).
ولذلك استثناهم الشافعي أن تسري عليهم بسبب عثرة يعثرونها عقوبة تعزيزية يقدرها القضاة.
(وحكي الماوردي في ذوي الهيئات وجهين:
أحدهما: أنهم أصحاب الصغائر، دون الكبائر.
وثانيها: أنهم الذين إذا أتوا الذنب ندموا عليه وتابوا منه.
ونص الشافعي على أنهم الذين لا يعرفون بالشر)([4]).
وتفسير الشافعي أقرب إلى مقصود الحديث دون شك، وشروط الانضمام إلى صفوف الدعوة، أو شروط قبول إعانة المعين، قد تجاوزت مجرد هذا الستر وشهرة الخير إلى حالة من اجتماع طبائع المروءة، ورفعة الهمة، ونبل المقاصد، والإقالة لمثل هؤلاء أولى وأوجب.
أم تريد أن ينجو الأشراف من تعزيز القضاة ليكسر نفوسهم تعزيز الدعاة؟
إن الغلظة لم يشر عليك بها الناصحون لمعاملة مثل هؤلاء الذين تدلك فراستك أنهم قد يتوبون من قريب، لكنها الرد المناسب لأنفار يقعون في هاوية الفتنة، فما يزالون في وساوسهم من بعد، حتى يخرجوا إلى (تقبيح المحاسن، وصدع الملتئم، وحل المعقود).
وحتى هؤلاء ليسوا سواء، وعليك أن تنتبه لنفسك، فتعتدل إذا دعتك الحماس لتطرف في التعامل مع المخالف، ما لم يكن ملحاحا جريئا في الهجوم، إذ الاعتدال يوجبه أكثر من نظر فقهي واحد.
§ فمن ذلك: قاعدة التأويل، وهي من القواعد الفقهية الصحيحة التي سدت أبوابا من الأذى، أن تتأول للمخطئ، وأنه ضحية شبهة غير متعمد، مجتهد غير منحرف، ركبته ساعة غفلة غير مبيت للأمر، ولقد اقتتل الصحابة رضي الله عنهم فتأ,لوا لهم، والقضاة يجتهدون في درء الحدود بالشبهات، واحتاطوا أبعد الاحتياط في تكفير المسلم ما لم يكن قد أتى أمرًا لا يمكن صرفه عن معنى الكفر، وأشياء من هذا الجنس تجعل تأنيك ورفقك ليس بغريب على الحس الفقهي.
§ ومن ذلك: ترك مجال التوبة لمرتكب الإثم، وفتح باب الأوبة للمخالف، لكنك إن قطعت كل الجسور التي بينك وبينه: ملكه اليأس، أو حكمه الانتصار للنفس، فاترك له معبرا ما أمكنك.
§ ومن ذلك: سد الذريعة، فإن النصوص الشرعية التي تندب لبعض الخير يتعطل العمل بها في حالة تولد ضرر عنها، والقرارات التنفيذية في الجماعة المسلمة العاملة شأنها أ÷ون، في وضوح لا يحتاج إلى جدل وإتيان ببرهان، ولربما أدى الجمود في تطبيقها إلى ضرر لم يكن مقصودًا حين اتخاذها، وعلى الداعية أن ينبه مسؤولية إلى استثناء الحالات الخاصة، وأن يجذب اللجام، لا يرخيه، ألا تسبق حماسته حماسة قادته.
§ ومن ذلك: جواز الجمع بين المصلحتين والخيرين، فتقرن بين مصلحة الجماعة في إخراج المخالف عن صفها، حفاظًا لوحدتها ابتعادًا عن جدل يعوق تسارع انطلاقتها، وبين مصلحة المخالف في احتمال أوبته إذا رفقت به وأصغيت لبعض الحق الذي معه، مما أساء التعبير عنه وجنح عن الصواب إذ ابتغي الدلالة عليه.
إننا قد ننسى البديهات أحيانًا في غمرة التفتيش عما يحل المعضلات، حتى لنكاد نجهل منطق الجمع بين المصالح في زحمة البحث مع الفقهاء عن المخرج عند تعارضها.
في التجارب علم مستأنف
فذلك خبر سكينة القلب في الصدر الواسع، وبها يؤذن لداعية الإسلام أن يفهم تجربة سلفه، ليطورها، ويدفعها إلى خلف ينتظر.
فللناس في الماضي بصائر يهتـدي
- عليهن غاو، أو يسير رشيد
هكذا هي التجارب، بصائر هادية، تهبك الاتزان إذا أوقعتك الغفلة في غواية، وترسم لك الطريق إذا أردت الصعود.
إنها علم أصيل، واضح في إشارته، قوى في برهانه، ولذلك زادك الشاعر فأوصاك أن:
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر
- ضاع قوم ليس يدرون الخبر
إنه خبر من قبلنا يصوغ خبرنا لمن بعدنا، فيريهم مدى اتعاظنا بالذي يرويه، ومن انقطع سنده وفقد الاتصال: تاه وتخبط، بما يهدر من طاقته في محاولات فاشلة طرقت بابها زمرة سابقة فلم يفتح لها، أو بما صرف نظره عن علامات في الطريق هاديات إلى الغاية، نصبها له من اقتحم آنفا.
ولذلك فإن الوعي يظل ناقصا ما لم يكن إضغاء من طالبه لقصص الرواد، والأصل أن:
كل ما علـك الدهــر أعلم
- فالتجاريب علوم الفهم
وذاك أساس تنبني عليه مواعظ فقه الدعوة، ومجرى يتنقل بك في أودية الانتفاع، يمنعك أن تتفلت تفلت الضياع، ويدع قضية الإسلام عزيزة بك، إذ أنت في مسالك الانسياب، هادئًا تارة، وتيارًا مجتمع الزخم تارة أخرى.
قم عاند الأصنام واهزز كبرها
وفي هذا ما يعيدك إلى الممارسة الجهادية من بعد سكينة الإخبات وهدوء الحلم، لتنتهي إلى معركة مراغمة لأعداء الله من بعد معركة مراغمة للشيطان بدأت بها السير. (وهي تسمى: عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له)([5]).
كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، وقال تعالى في مثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه: (وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)([6]).
(فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له، فموافقته فيها من كمال العبودية، وشرع النبي -صلى الله عليه وسلم- للمصلى إذا سها في صلاته سجدتين وقال: إن كانت صلاته تامة كانتا ترغمان أنف الشيطان، وفي رواية: ترغيما للشيطان، وسماهما: المرغمتين.
فمن تعبد الله بمراغمة عدو فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه، يكون نصيبه من هذه المراغمة، ولأجل هذه المرغمة حمد التبختر بين الصفين)([7]).
([1]) تاريخ الخلفاء للسيوطي /321.
([2]) تاريخ الخلفاء للسيوطي/321.
([3]) صحيح الجامع الصغير للألباني 1/382.
([4])
([5]) مدارج السالكين 1/226.
([6]) مدارج السالكين 1/226.
([7]) مدارج السالكين 1/226.
فصاحة الحزم المخبت
لقد أرسله وليد الأعظمى بيتا فصلا، يقضي بين تنافس الأخيار، أن:
أجدر الناس بالكرامة: عبـد
- تلفت نفسه، ليسلم دينــه
ليس دون التلف، بل هو، بتمامه يوفى، وإن داعية الإسلام ليقرأ في حروف لفظ التلف معنى المراغمة واضحا، فإن هذا العبد الكريم لم يستعجل حين قذف نفسه في المعركة، ولم يدفعه الشوق إلى الجنة نحو هجمة خاطفة تنفجر بها دماء الشهادة، بل كايد وغايظ، وترك طريق التعب الطويل يستهلك نفسه ويمتص طاقاته، حتى إذا ذبل ونحل، وكان للمراغمة مستوفيا: إذن آنذاك لجسده أن يستقبل ذبحة الصدر. إن لم تكن رصاصة الاغتيال إليه أسرع؛ فيذهب قدوة للأحرار، ومثلا للنفس الإنسانية حين تعلو؛ ويذهب الظالم متخبطا، ومثلا للنفس حين تسف وتسفل.
إنها مقدرة دعاة الإسلام على العطاء الدائم، كيف حية أعمالهم وإن سجنوا، وكيف أنها تقود الناس أفكارهم وإن قتلوا، إن لم يكن لهم التمكين.
لا كثرة الأقوال ، كلا، ولا نظم القصائد
إنه من الواجب أن تمد يد التغيير الإسلامية لهذه الجاهلية ومن الواجب إنكار منكرها، ومن الواجب الجهاد.
إن الدعوة الإسلامية لا تعادي ولا تكفر سواد المجتمع من المستضعفين الذين غررت بهم أجهزة الإعلام والتربية فألهتهم عن السجود وشجعتهم على إجابة نداء شهواتهم فكانت فيهم جرأة على الخطو وراء حدود الحلال، فإن فطرة هؤلاء سليمة، وأصل إيمانهم باق، ولكنه فرض تؤديه الدعوة حين تنكر على المستكبرين المتمردين على الفطرة، من الذين يحلون ما حرم الله، ويجثمون على صدر الأمة قسرًا وكرها، يقودونها إلى الإباحية، ويظلمون، ويفرطون في مصالح الأمة، وعن القرآن يبعدون.
لم يعرف دعاة الإسلام أنفسهم عطاشي لدماء، ولا قلوبهم فرحة بصدام، إنما الإسراف عند ذوي التسلط، ونحوهم تشير أصابع الاتهام يمنعون الكلام ويستأصلون الحرية، وينفردون بالناس:يكشفون عورات نسائهم، ويملأون بالإلحاد أدمغة أبنائهم ويروجون لآراء العقول والفلسفات، فإذا نصح عاقل: سجنوه، أو اعترض داعية مسلم: أعدموه، كأن الصواب لهم محتكر، أو قد اشترى لهم آباؤهم الرقاب.
إن الحصار يقحم المحصور إقحامًا، وللداعية أعرف بنفسه إذ تحب الإقناع، والحوار، والجدال بالتي هي أحسن، في أناة رفيقة، ما لم يرتكب المتغطرس لجاجة في الغي، ويبالغ في الكبت، إذ حينئذ لا يقوى الكلام على حمل معناه، ويبقى شاخصا منه مجرد مبناه، وتعود الخطب الرنانة هذرا، ويكون الحزم طريقا أوحدًا.
لما أطال ارتجال القول قلت له
- الحزم يثني خطوب الدهر، لا الخطب
إن ثقل وطأة أحزاب الضلالة العلمانية ومجاميع الطغاة على صدر الأمة اليوم لمن أشد الكرب التي أرهقتها عبر تاريخها، ولقد نشأ عند الدعاة فهم لأوصاف المحنة ومسالك الخلاص، وتوطد رأي سديد، إلا أن خطط الأمس لم تستطع أن تعبر رؤية الحق تعبيرًا، ولم ينتصب الحزم للوعي ظهيرًا.
وللإسلام وضوح قديم وإرشاد أصيل انطق الإمام البنا رحمه الله في المؤتمر الخامس، فانبرى يسأل أن:
(ماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قويا في كل شيء، شعاره: القوة في كل شيء؟).
وأوضح أن الدعاة (لابد أن يكونوا أقوياء، ولا بد أن يعملوا في قوة).
لم يكن ذاك ارتجال خطيب متسرع، ولا تصاعد حماسة قائد مندفع، إذ عاد وأعلن ثانية في مذكراته أننا:
(نحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ولا تسير في الطريق لاستعادة حكم الإسلام ومجد الإسلام. سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة معها، حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الفاتحين)([1]).
المبشــرات...!
وما نظن هذا التصارع السياسي والاجتماعي الذي يشهده العالم الإسلامي اليوم، وسقوط الرؤوس، وحصاد أئمة الكفر بعضهم بأيدي بعض، إلا أمرًا يقدمه الله تعالى بين يدي الدعاة، كنسًا للأصنام المعوقة، وإشارة للحيارى الذين أتبعتهم الضلالات الجاهلية أن يدخلوا في دين الله أفواجًا.
ويومنا هذا كاليوم الذي سبق الهجرة الشريفة، ووصفته عائشة رضي الله عنها فقالت:
(كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- فقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم، وجرحوا، قدمه الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- في دخولهم في الإسلام)([2]).
وإنما يكون حتف الطغاة على غير قياس، كما يكون فيه عبرة وعظة.
ولو جرت الأمور على قياس
- لوقي شرها الفطن اللبيب
وذكاء الذكي لا ينفعه في كل موطن، وإلا لنفع الهدهد، فإنه يهتدي للماء في الأرض الفيفاء، ثم ينصب له صبى فخا بدودة أو حبة فيصيده، كما قيل.
(وليس على الإنسان أن يدرك النجاح في العواقب، وإنما عليه أن يتحرر في المبادئ.
ولهذا قال القائل:
لأمر عليهم أن تتم صدوره
- وليس عليهم أن تتم عواقبه
وقال سليمان بن عبد الملك –أو غيره من أهل بيته- ما لمت نفسي على فوت أمر بدأته بحم، ولا حمدته على درك أمر بدأته بعجز)([3]).
تربية الحماسة اللاهبة
فهذا هو ما يوجب بدء التربية الإسلامية الحركية بتأجيج شعلة الحماسة في قلوب الدعاة، لتساعد على توفير الحزم.
إن الفقهاء والمفكرين كثير عددهم، ولكن قضية الإسلام الحاضرة تريد أصحاب القلوب الملذوعة، الذين يتفاعلون مع الأحداث أولا بأول، ولهم تعبد في مراغمة الباطل ومعاندته ومحاربته، فعلى مثلهم ينعقد الرجاء، لا على أصحاب الأصوات المرفوعة.
وذلك يعطي لمنهج الدعوة سمتا خاصا في تجاوز مجرد الدراسات الفقهية والتوجيه الفكري القريب من طبيعة المنطق الجامد، إلى مخاطبات قلبية، تسبقه، وتقارنه وتتلوه، تغذي الأرواح، وتنمي الأشواق، وتحبب البذل، وتدفع نحو الجهاد.
وهو مذهب إقبال، اكتشفه لما رأى براعة الإمام الرازي في الفلسفة خلال تفسيره للقرآن الكريم براعة وافية وافرة، إلا أنها عجزت عن تحريك القلوب.
يقول، غير غافل عن الإقرار لفضل أهل الفضل:
من الرازي كتاب الله فافهم
- ومنه النور خذ، فالليل أظلم
ولكن لي كلام فيه، فانظـر:
- أنحيا بالفؤاد وما تضــرم؟([4])
كلا، وقراء كتاب الرازي يشهدون، فإنهم آمنوا وحسن إيمانهم، وأفحموا الملاحدة وأبانوا خطل آرائهم، غير أنهم لم يتقنوا تربية أبناء الأمة وإيقاد الجذوة فيهم وقيادتهم نحو الجهاد، بل ولدت مجالس الحوار العقلي ترفا علميا خفض الهمم ولم يرفعها، وأذهل عن الحاجات المتكاملة، ولم يوفرها وبرز نموذج فقيه:
خلي الغمد، ما في الكف مال
- وهذا الرف يهوي بالكتاب([5])
وهو نموذج ناقص، كأن الدعوة الإسلامية المعاصرة قد كررته فغزارة الإنتاج الفكري عندها لم يبلغها حزب آخر، حتى لتئن الرفوف وتتقوس هابطة، لتكسر غمدًا فارغًا تتخذه الدعاة عمادًا لها تحتها، يضحك الرائي له ضحك الرافعي لما هته خدعة سيوف الخشب في الأيدي المتوضئة.
إنها حيرة الإسلام المتكررة بين جهل أبنائه، وعجز علمائه، ووداعة دعاته.
أغاني الحصاد
ولذلك فإن تربية الدعاة في أسلوبها الحاضر لا تبدأ بمخاطبة عقولهم ببحوث جافة كالتي تتداولها الجامعات، بل تخرجهم إلى جولة واقعية يتفاعلون خلالها مع يوميات الحياة.
إن أول نداء ينبغي أن يسمعه السائر مع ركب الدعوة نداء عبد الوهاب عزام حين يقول:
يا حبيسا بالدور خدن كتـأب
- قارئا من مقال كل عليم
ابرزن للحياة واقرأ سطـورا
- ماثلات لعين كل حكيـم([6])
سطور معاملة الناس، ومعرفة أطوار جاهليتهم، والمساعي المبذولة لإصلاحهم، وصبر الأحرار في المحن، وكيف يسبق المراهق المغامر الفاسق الشيخ الحكيم المؤمن.
بهذه السطور تكتشف النفس المعانين فإن الحياة إن خلت من حركة التغيير: فقدت مغزاها، وحركة التغيير إن انحرفت عن حدود حقائق الفطرة: أخطأت هدف المسير، وهدف المسير إن لم تستعن على بلوغه، بما وراء المعادلات العقلية من منح التوكل: طال دربك، وتبدد من جهدك الكثير.
وذاك هو تعليل ما يصيب الدعاة من انخلاع عما حولهم من طبائع التوكل العام، فالأدعية من كل جانب تطرق سمعهم، لكنها لا تلقي منهم الاهتمام، إذ لا تعدو همس طالب غني، أو منتظر لذائذ، إلا صوتا يأسرهم من بعيد عبر القرون، تطرب له قلوبهم، فتنجذب، فتقترب، فتنصت، فتجد نبرة الزاهد سديف بن ميمون، يلقنهم دعاء المفاصلين، ويعلمهم كيف يلبون:
اللهم قد (حكم في أبشار المسلمين أهل الذمة، وتولى القيام بأمورهم فاسق كل محلة. اللهم وقد استحصد زرع الباطل، وبلغ نهايته، واجتمع طريده، اللهم فأتح له يدًا من الحق حاصدة، تبدد شمله، وتفرق أمره، ليظهر الحق في أحسن صوره وأتم نوره)([7]).
فتأخذهم إطراقة حين يوازنون: في أيهما كان هذا الصالح أبلغ: أفي كشفه سبب واقع السوء، أم في وصفه الحصاد؟
وما تدري أهم لسديف يقدمون، وله يقلدون، أم للخليفة العباسي، القائم بأمر الله بن القادر لما تفنن في تضرعه إلى الله تعالى عندما تغلب المفتتن الباطني الفاطمي المسمى بالبساسيري عليه، وأرسل رسالته:
إلى الله العظيم، من المسكين عبده.
اللهم إنك العالم بالسرائر، المطلع على الضمائر، اللهم إنك غني بعلمك، واطلاعك على خلقك، عن إعلامي. هذا –أي البساسيري- عبد قد كفر نعمتك وما شكرك، وألغى العواقب وما ذكرها، أطغاه حلمك حتى تعدى علينا بغيا، وأساء إلينا عتوا وعدوا.
اللهم قل الناصر، واعتز الظالم، وأنت المطلع العالم، المنصف الحاكم. بك نعتز عليه، وإليك نهرب من بين يديه فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز بك، وقد حاكمناه إليك، وتوكلنا في إنصافنا منه عليك، ورفعنا ظلامتنا هذه.. ووثقنا في كشفها بكرمك، فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين).
وقد علقت رسالة القائم في الكعبة، فقتل البساسيري بعد تعليقها بقليل.
استعلاء.. بعد الموت أيضًا
وفي كل خير، في الخليفة، وفي سديف، ومن كليهما الداعية ينتفع ولإخباتهما يواطئ، فيكون أبدع منهما في دعائه وأبرع، وأتم منهما في انتداب نفسه للمهمة الجسيمة، فإن من أزهر بدعاء حقيق أن يثمر بفعل، فهو في مضى نحو همته، يطلب النصر قرة عين لإخوانه الدعاة، وله الشهادة جزاء، ويلح سائلا:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن
- على شرجع يعلي بخضر المطارف
ولكن قبري بطــن نسر مقيلـه
- بجو السماء، في نسور عواكـــف
وأمسى شهيدًا ثاويا في عصابـة
- يصابون في فج من الأرض خائـف
فوارس من بغداد ألف بينهـــم
- تقى الله، نزالون، عند التزاحـــف
إذا فارقوا دنياهم فارقـوا الأذى
- وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
هكذا في الرواية الراجحة، أنهم من بغداد، وفي روايات أخرى أنهم فوارس من صنعاء، أو من بيروت، أو من عمان، وكل ذلك وارد، وفي وزن الشعر سائغ.
والشرجع: النعش، والمطارف: الأطراف، أي الأيدي، والخائف: المنخفض.
وبذلك يبتكر داعية اليوم في المراغمة ابتكارا، إذ ليست تنقطع فنونها: أنه لا يحلق بروحه سامية في فلك الشموخ فحسب، بل ببدنه أيضًا، أنهم لن يصلوا إليه، بل في بطون النسور، فيراغمهم ميتا، كما راغمهم حيا.
([1]) مذكرات الدعوة والداعية /136.
([2]) صحيح البخاري 5/55 طبعة صبيح.
([3]) لأبي حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة 3/221.
([4]) ديوان هدية الحجاز /90 ترجمة الدكتور حسين مجيب المصري.
([5]) المرجع السابق /52.
([6]) ديوان المثاني/139.
([7]) عيون الأخبار لابن قتيبة 1/76.
حوار الداعية المفاوض
إن سبب الافتراق بين دعاة الإسلام وبين جميع الحكام سبب مهم وواضح في المنطق الإسلامي، لكن الحاكمين يجهلونه أو يتجاهلونه.
ذلك أن القرآن والسنة همامصدر دين الدعاة، ومنهج تفكيرهم مستمد منهما، ومن إرشادهما يعرفون محاسن الأخلاق، وكلا هذين المصدرين، مفترق عن ما هنالك من آراء العقول، وشهوات النفوس.
أما القرآن: فقد سماه الله تعالى فرقانًا في قوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا).
أي يفرق بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، ويفصل طريق الإيمان عن طريق الجاهلية.
وأما السنة فقد تبع وصفها صاحبها -صلى الله عليه وسلم- فإن الملائكة قد أنطقها الله، فأثنت عليه، وأطنبت، ثم قالت:
(ومحمد فرق بين الناس)([1]).
فرق فرقان بينهم، كما يكشفه هذا النص الخفي الثمين من تبعه وانقاد لكلامه، منفذا مراده: كان مسلما، حاكما أو محكومًا. ومن كسل عن ذلك ومنعته الشهوات: فسق وعصى، واستحق النصح، فالتأنيب، فالتقويم إن لم يسارع إلى ارتداع.
ومن عاند، وحرف، وضاد، وأحل الذي حرم، وحرم الذي أحل: ففي الكفر وقع، وليس للكافر أن يقود.
هذه هي منطلقات دائمة يصدر عنها دعاة الإسلام في تحديد صلتهم بالحاكمين، فيؤيدون، أو ينصحون، أو يقارعون، تبعا لمنهج الحاكم وسلوكه.
وقد صاغ إقبال ميزانهم في هذا ببيتين فصلين، فقال:
ليس هذا العقل ذو الوهــ
- ـن حريا بالإمامــة
فحياة الظــن والتخميــن
- ضعف وسقـــامـة([2])
فهم يعارضون الأنظمة الرأسمالية وديمقراطيتها الزائفة كمثل معارضتهم للأنظمة الاشتراكية والشيوعية وصراعها الطبقي المدمر، ويرفضون أي شكل علماني آخر، لأنها نتاج العقول والعقل يخمن، فيخطئ ويصيب، ليس كالوحي.
إنما يقود الناس البصير
وهم لا يملكن السكوت، وأن يتركوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، لأنهم يفهمون أن الإسلام رحمة مهداة شاملة، صفته الكمال والتكامل، ولا يمكن أن تصان عبادات الناس إلا بحاكم متعبد مثلهم يفهم عباداتهم كما يفهمونها، كما أن أخلاقه تفترض خلفية من العدل وأنواعا من العلاقات كي توجد وتنمو، وطريق ذلك السياسة، بما تعتمد من أمر مهيب، وتربية تقنع، ولذلك يدخل الدعاة أبواب السياسة، في غير ما طمع بمناصبها، وبهرجهان وإنما تكميلا للنقص، وقد صاغ أبو حيان التوحيدي ميزانا لهم آخر في ذلك، فقال:
(إن الشريعة متى خلت من السياسة: كانت ناقصة.
والسياسة مت عريت من الشريعة: كانت ناقصة)([3]).
فمن آمن من الحاكمين أو السائرين إلى الحكم بمثل ما آمن به الدعاة فقد اهتدى، وإن تولوا فإنما هم في شقاق هم بدءوه، وسيكفي الله الدعاة أذاهم، كما أذن لهم يكف الأذى.
مناهضة الشعوبية عبادة
بهذه البساطة يرى دعاة الإسلام حقهم على جميع الحاكمين اليوم في أ، يفسحوا مجال العمل للحركات الإسلامية، وأن يعطوا لفكرها وصحابتها حرية التواجد والتعبير، ولنواب الأمة وممثليها حرية الانتخاب والاجتماع والبحث، تشبها بالأعراف العالمية إن لم يكن إيمانا بشورى الإسلام، فإنهم والكافرين قد اشتركوا في اتباع الرأي العقلي، فكانوا أقرب منهم في هذا إلى الصواب، ولو أنهم فعلوا ذلك لقضوا على أساس أي تفكير بصراع، ولأغنت الوسائل الحرة في ترويج كل ذي منهج لمبادئه، ولكن الحاكمين يتعسفون.
وكلهم في ذلك سواء، والقوميون منهم بالذات يزيدون على التعسف عدم استيعاب لمقاييسهم القومية نفسها، وشيئا من البعد عن إدراك المصلحة القومية، ذلك أن أكثر البلاد الإسلامية تسودها تيارات شعوبية تلقي في روع العامة المشاعر الإقليمية، والحنين إلى الفرعونية والفينيقية وأمثالها من الأصول الجاهلية، ويوم كان عبد الناصر ينفخ في العرب الروح القومية كانت مصر أبعد بلاد العرب عنها بسبب قوة تلك الحملة الشعوبية فيها، ولو فكر القوميون بإنصاف لأدركوا أن الساحة المصرية خاصة لم تشهد خصما للشعوبية أشد من دعاة الإسلام.
وكذلك شأنهم في بلاد العرب الأخرى، وهو شأنهم في غير بلاد العرب، إذ أن دعاة الإسلام في تركيا مثلا قد أخلصوا لمصالحها الاقتصادية أيما إخلاص يوم كان دعاة الطورانية وأتباع أتاتورك يحولون الاقتصاد إلى قبضة اليد اليهودية.
وقيادات الأحزاب الحاكمة، والملوك والأمراء، وأصحاب الانقلابات، كأنهم جميعا يجهلون ذلك، بل الأظهر من أمرهم أنهم يخضعون في فهمهم لهذه الأمور لإيحاء موتور يلقيه في روعهم من يتظاهر بحمل المعاني القومية من النصارى، أو من برع في الاقتصاد والإدارة وقربوه مستشارا لهم، ولولا هذا الإيحاء والإملاء لوعي الحاكمون ارتباط محق الاتجاهات الشعوبية بحرية الحركات الإسلامية أكثر من ارتباطها بدعاة القومية.
استقلال المحتسبين لاتبعية المكتسبين
إن مجاميع الحكام مازالت تحركها تقارير غامضة يرفعها المصلحيون المداهنون لها، ولم يستطع الحكام تجاوز الانشغال بالحيثيات اليومية الكثيفة الناتجة عن مراقبتهم للشباب المسلم إلى نظر مصلحي في أفق واسع ترى من خلاله صدق دعاة الإسلام في توجههم، وضرورة تواجدهم في الساحة، وإمكانياتهم في المساهمة بإكساب الحياة عناصر التعادل السياسي والأصالة الفكرية.
وتتكرر تسرعات بعض الحاكمين حين يشترطون لحرية العمل الإسلامي ما يشترطونه على الأحزاب الأخرى من حتمية اعترافهم بعمل جبهي تكون فيه القيادة للحزب الحاكم، وهم يقيسون هاهنا قياسا مع الفارق، فإن الأحزاب تسيرها أهواؤها واجتهادات زعمائها، والعمل الإسلامي محكوم بفرائض القرآن آداب السنة، وحدود الحلال والحرام، ويمنعه الميزان الشرعي في (تجريد الولاء) عن تبعية حاكم أو حزب آخر، إذ الولاء عند المسلم لله تعالى، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ، ولجماعة المؤمنين، وفي المجموعة السياسية المتحالفة التي قد يعاملها دعاة الإسلام نصارى، وملاحدة، ومسلمون لم تسجد جباههم سجدة العبودية الحقة لرب العالمين، وعشرات الآيات صريحة في منع المسلم الملتزم العابد من بذل ولائه وتبعيته لهؤلاء، وإن كان لقاء بعض السياسات بينهما ممكنا، أن إذا أحسن الحاكم أو الحزب في فعله مدحوها وأسهموا فيها، وإن أخطأ في أخرى نقدوها، عن دراسة وبتعليل، في إطار من التحليل، وما هم بحاجة إلى تجريح، ولا لهم في مفردات لغة السباب إسعاف، فإن متانة الفكر الإسلامي، ووضوح المنطق الإيماني، لا تحوجان دعاة الإسلام إلى إسفاف.
إن على كل حاكم أو حزب علماني أ، يفهما نفسية الداعية المسلم التي تسيره وتضعه في مواقفه السياسية والفكرية الرافضة، وعليهما أن يميزا طبيعة رفضه عن طبيعة تشنجات محترفي السياسة وطلاب المناصب، إذ للداعية تقويم ثابت للأمور وميزان واحد ونظر كلي شامل لا يفصل فيه السيرة التربوية الأخلاقية وشكل العلاقات الاقتصادية عن الموقف السياسي.
أفيكات الأفاكين
لكن الداعية المسلم يملك في نفس الوقت مرونة في الفهم والتخريج الفقهي يراعي بهما الاعتبارات المصلحية واستثناء الضرورات، ويتمكن من خلالهما أن يكيف خطته وفقا لمتطلبات التدرج المرحلي، ليصل إلى تطبيق الإسلام عبر استعداد وظرف ملائم وتربية وعظية موجهة إلى الجماهير اللاهية، تخاطبها بمعاني الفضائل الخلقية في موازاة تامة مع التوعية السياسية.
إن هذه المرونة يفترض أنها لا تدع مجالا لجفلة تستولي على الحاكمين وتدعهم في رهبة يترقبون معها أنواعا من الإشكالات عند تنفيذ أنظمة الإسلام في مجتمع زاد ابتعاده عنها، أو عند منحهم حرية العمل والصحابة لدعاة الإسلام، والتخوفات الواردة إن هي إلا أثر تركته الحرب النفسية، ولا يليق بأحد أن يسترسل في الحذر من دين هو رحمة مهداة نم رب العالمين، وتقوم تعاليمه ابتداء على اختيار الأيسر من الأمرين، والتبشير دون التنفير.
ليست إلا حرية العمل الإسلامي، فلم الحذر؟
لم خوف الحكومات وهي في المركز الأقوى، تسندها أموالها الطائلة ووزاراتها وجيشها، وجهازها الإعلامي الإذاعي والصحافي، ومناهجها التربوية المدرسية، وانبثاثها الرقابي الأمني، أمام دعوة إسلامية فقيرة لا مال في يدها، عزل لا سلاح لها؟
أم يقولون أن الدعوة ستمد بعون خارجي، فذلك قول من لم يعرف التاريخ الحديث، وشهادته لها بالصفاء، ولم تدع الوثائق اسما ذائعا لم تدنه وتبين عمالته، إلا دعاة الإسلام، فإن قول المغرضين فيهم كثير، لكنه غير معزز بوثيقة واحدة تقنع طلاب الحقائق.
إن دعاة الإسلام يستندون إلى تاريخ طاهر وحاضر نقي، وتشهد قضايا فلسطين، ومناهضة الاستعمار، ومدافعة الشعوبية، أنهم هم الأساتذة في الجهاد والحرص على مصلحة الأمة، المعلمون لغيرهم، القدماء البادئون وينبغي أن يفسح لهم مجال القول والعمل.
فضائح الإصلاح الهامشي
إلا أن المجال لم يفتح، فحاكم تحكمه الشهوات، فيحتكر ويمنع، يظن التقويم والنقد منافسة، وآخر ينبعث من فلسفة علمانية وتحليلات عقلية، فيرفض أن تزول الحواجز بين حجج الوحي والناس، فتستيقظ الفطر.
وإلا فما ضر المهيمن أن يدع الضعاف من حوله أحرارًا وقد ملك فرصة السبق، وإذا فاز الضعيف في نهاية الشوط، والتف حوله جمهور الأمة مؤيدًا مقتنعًا، فأي ظلم في ذلك للقوى المستولي؟
وبعض الحكام ينادي الحركة الإسلامية بالتخلي عن دعوتها لمجرد إصدارهم بعض القوانين الإسلامية، مع أن مبرر وجود الدعوة لا يمكن أن ينتفي أبدًا.
• وإلا فأين بقية القوانين؟ إن الحكومات التي تبغي كسب بسطاء المصلين قد أصدرت مواد قانونية في قطع يد السارق والحرابة وأمور الحدود، كأن الإسلام دين عقاب قبل أن يكون دين هداية وعدل، وما دامت القوانين لم تخلص كلها شرعية فإن مبرر وجود الدعوة الإسلامية باق.
• ثم أين التنفيذ؟ وهل هو مجرد الإعلان؟ وإذا نفذ فهل سينفذ على كبار الملأ الذين ينهبون أموال الأمة بالرشاوى والعمولات المأخوذة من شركات المقاولات الكبرى وشركات التصنيع والتسليح أم هو الفقير تقطع يده فقط؟ إن الدعوة باقية ما دام التمييز الظالم.
• وهل هؤلاء الوزراء والموظفون وعموم جهاز الحكومة الذين لا يصلون ولم تسجد جباههم لله تعالى ولم يلتزموا حدود الحلال والحرام يصلحون لتطبيق القوانين الشرعية، أم أن داعية الإسلام المتحرق قلبيا مع معناها ومغزاها هو الأصلح؟ إن السعي نحو الأمثل والأحسن مقصد من مقاصد الإسلام، ودعاة الإسلام أمثل وأصدق من المتحللين، بإجماع الجميع، وطالما أن الدعاة قد أقصتهم الحكومات عن مراكز الثقل الوظيفية والتنفيذية فإن لهم مبررًا في تجمعهم في حركة تدعو إلى كمال الإسلام.
• ثم هل إن الإسلام مجرد قوانين تطبق أم هو عبادة وخلق يكون بهما الحاكم ووزراؤه وجهاز دولته قدوات للعامة يعلمونهم الضراعة لله، والعفة، وصيانة المرأة؟ فما دام دعاة الإسلام أبرع منهم في هذه الفرائض والمحاسن فإنهم أجدر بالصدارة منهم.
• ثم هل أن الإسلام تطبيق مجرد للأحكام في إقليم أم هو حمل لراية الجهاد ودفاع عن قضايا الأمة كلها وعن أرض الإسلام العريضة؟ فطالما أن الحكومة لا تتعدى الاهتمام المحلي فإن للدعوة الإسلامية مبررًا للتواجد.
• ثم ما ضر الحاكم المخلص أن توجد بجانبه حركة إسلامية تنصحه وتشجعه على الخير وتمده بالرأي؟
وهل يعد النقد الذي تتقدم به الدعوة على ضوء القرآن والسنة لخطط الحكومات وسياساتها جريمة حتى تبادر الحكومات لمثل هذا النداء للدعوة الإسلامية تأمرها بحل نفسها وإنهاء عملها، أم هو الاستبداد؟
إن من لم يجد في هذه الأسباب تبريرًا لاستمرار الحركة الإسلامية فهو أحد اثنين: إما أن يكون مكابرًا مغرضًا، أو أنه ساذج تلفه الغفلة.
إنها أسباب ستة تعطي الحركة الإسلامية مبرر وجودها حتى في ظل الحكومات التي لها بعض الاحترام للإسلام وسن لبعض قوانينها وفق أحكامه، ولا يجب افتراض وجود كفر صريح دوما لتصارعه حركة إسلامية، بل إن طلب الأحسن غاية شرعية، ووجود حكم ناقص الإسلام يحتم وجود حركة إسلامية تسعى لتكميله، وعلى جمهور المسلمين أن لا يطالب دعاة الإسلام بإلغاء وجودهم لمجرد صدور قوانين إسلامية مبتسرة أو لمجرد كثرة كلام الحاكم حول الإسلام، وإنما عليهم أن يكونوا أعلى وعيا وأوفر إنصافا، وإن يقيسوا أمرنا على ضوء هذا المنطق الذي ندلي به، والذي لا يجحد صوابه إلا معاند، وعلى الحاكم مثل الذي على جمهور المسلمين، وواجب عليهم أن يفسحوا للحركة الإسلامية المجال.
نحن أصحاب التقى والأدب المنتقى
لكن الحكام هاهنا، حين يصل الحوار إلى هذا الحد، يحتجون بسذاجة الجمهور، وأنهم أمناء عليه أن ينطلي عليه تدليس وتمويه رجعي، ويتسع لهم القاموس في مرادفات ذلك، إلا أن لغتهم عجزت عن وصف رجعية يمكن أن يتقمصها أتباع وحي نصعت سابقاتهم، وعلت شهاداتهم الدراسية وبحوثهم العلمية وثقافتهم العامة على شهادات وثقافة من بإزائهم من الحاكمين، وهذا العجز يغلق ولا بد باب الحوار والتفاهم المنطقي، ولو أنهم صدقوا لبينوا أن السبب الحقيقي في ذلك كامن في كون الدعاة إلى الله أهل عقل أكبر من عقول أتباعهم، وأن المواجهة الحرة لا تبقي لهم مجال تأثير.
إن داعية الإسلام يعشق الحرية عشقا، وليس هو أقل هياما بها من أي مظلوم سيم معاناة الكبت والصمت.
بل تالله إن المسلم لأعمق تفاعلا معها داخل نفسه من أي إنسان آخر تبدد النساء والخمور بعض انعكاسات الرفض التي تستولي عليه.
وإن من منطلق التناقض أن يرفض الحاكمون حرية العمل الإسلامي ابتداء، ثم يضطرون للإذعان للضغط الشعبي انتهاء.
([1]) صحيح البخاري 9/115.
([2]) ديوان ضرب الكليم/24.
([3]) الإمتاع والمؤانسة 2/32.
النشــأة الأولى
أبلغ مراتب الجهاد في الإسلام وأعلاها، أن يقاتل المسلم برغبة وإقبال وحب للبذل، متمنيا الموت في سبيل الله، ملتذا به، مستعجلا له.
وقد خلد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصف هذه الحالة التي يوفق الله تعالى لها الصفوة من أحبائه، فقال، فلما قتل عامر بن الأكوع رضي الله عنه:
(إنه لجاهد مجاهد)([1]).
والجاهد الرجل الشهوان، الذي يقبل على الشيء بشهوة عارمة، ونفس طامحة، وقلب وثوب.
فالجاهد المجاهد: رجل مزدوج الصفة، خرج يخاطر بروحه، ويسابق أقرانه، مستأنسا بسيره، متحرشا مبادئا، منجذبا للصراع، سواء إنكارا على الظالم، أم قتالا في ساحة معركة مع الكفار.
وهو وصف قريب مما وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- به نفسه الزكية وجهاده الشريف يوم قال: (والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل)([2]).
فتلك، دونما شك، أفضل حالات الإيمان، وأصدق صور الجهاد.
بيد أن صدقها لا يدفع صدق صورة أخرى للمجاهد، تمثله عاقلا كيسا فطنا، يناقش ويتأنى، في بعد عن التهور، ولذلك جعل الإمام حسن البنا بينه وبين أتباعه حد تمييز، وأوقفهم في مفرق طريق، وقال لهم:
(إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة، والجد والعمل الدائب. فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها، أو يقتطف زهرة قبل أوانها: فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات. ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف: فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين، إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة)([3]).
ريث... لا جمود
إن الانتظار الإيجابي، والتجميع الهادئ: ليسا وقوفا، ولا تلكؤا، بل تلبية لنداء الحكمة، وإن لم ير الساذج، والمبتدى، والجالس على التل، حركة وسيرا، وإنك لترى المرجل من بعيد ساكنا، لست تسمع غليانه، (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ...).
فهذا الانتهاك، لمحارم الله، الذي كثر في هذه الأيام، ليس بواجب على الداعية أن يرده فورًا.. فإن الفورية دونما استعداد تؤدي إلى الفشل، في الأغلب، بل يكظم غيظه، ويصبر طويلا، ويحشد، حتى تكون له هيبة وافرة، فيهاب قوله وأمره، ونقده ونهيه.
إن مما كان يبعث الجرأة في نفوس الظالمين ويسرع بهم نحو البطش بدعاة الإسلام: أن الدعاة أنفسهم كانوا يهددون ويتوعدون من مركز ضعيف في ساحة مكشوفة.
ولقد طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حول الكعبة في عمرة القضية أيام الهدنة، والأصنام من حوله مئون لم يرفع معولا لهدمها، ولا جعلها جذاذا.
وفي مثل هذا ما يقنعك، بالتزام القياس المصلحي: إن أي نهي عن منكر إذا رجع عليك بصورة من المنكر أخرى أكبر: عدلت عنه إلى حين مقدرة لا تعتريها رجفة.
فريث المثابر أمضى خطــى
- وأبلغ من قفزات الصخــب
وكانت أناة الفتى في التقــدم
- أهدى وأجــدى لنيل الأرب
ومستعجل الشيء قبــل الأوان
- يصيب الخسار ويجني النصيب([4])
على أن ذلك لا يمنع بعض الدعاة من إجراء قرعة بينهم، أيهم يخرج بنفسه حاسر الرأس منكرا، ليفجر من عروقه المداد الأحمر القاني، يدون به اسمه مع الإثبات، في سلسلة إسنادعال يروي به حديث الشاهدة الصحيح الحسن العزيز، ليكون من ثم اتصال أناب له نفسه عن أهل جيله، تحيا به معاني الجهاد، ليس يثلمها انقطاع.
الطبيعة الإيجابية لنظرية المرحلية
أما الأصل: فهو ترك القفز، وإلغاء العجلة، وإن يناور، وأن يحيد عن الرمية، لا ينتصب هدفا، بل أن لا يتواجد في عرصة يمكن أن يأتيه فيها سهم غرب، وقذفة طائشة.
وجماع ذلك: أن تسير الدعوة في مرحلية موزونة، إذ لا بد من تعادل تقدمها مع رصيدها من جانب، ومع الظرف المحيط من جانب آخر، كمن يدخل السوق فيشتري بمقدار نقوده، ويتحرى الرخص عند تماثل البضاعة.
فذلك هو خبر التدرج، في صورته البسيطة البعيدة عن تعقيد الألفاظ.
فالذاهب للسوق لا يتمنى الأماني العريضة، وإنما هو أعرف بجيبه، يشترى بمقدار ما فيه، إلا أن يكون معه دفتر الشيكات، فيحيل البائع على البنوك دون مبالاة.
إن قوة الجماعة، ورصيدها الواقعي، من إنتاج فكري ومواقف وتاريخ، كأنها النقود، إذ تتصرف الجماعة بمقدار حجمها الطبيعي ولا تخطو خطوة إلا بمقدار ما تجد من مقدرة على التنفيذ.
والمشترى لا يعتني لسوق بعيدة بضاعتها تجاوره في سوق قريبة، وكذلك الجماعة، تسلك الطريق الأقصر. وهو يربأ أن يشترى قميصا سريع التمزق من قماش رديء، ويدفع ثمنا أجزل لقميص أجود، وكذلك الجماعة، لا تفرغ جهدها في عمل سريع التبدد، بل تمد قدمها في خطوة ناقلة، ثابتة واثقة، قاطعة.
ولكن هذه الأوصاف مثلما توجبا لابتعاد عن التهور والاندفاع السريع، فإنها أيضًا، من باب آخر، توجب المبادرة لاغتنام الفرص، والتهيؤ للولوج من كل ثغرة متاحة، في الحين المناسب، إذ قد يكون الباب المنفتح سريع الانغلاق.
كالذي يلازم السوق، يترصد الصفقات المواتية، فالصافق، المتاجر، يجلس الأيام والأسابيع ينتظر ولا يشترى، ثم فجأة تعرض له صفقة بثمن بخس يدرك بحواسه وحدسه أ،ه سيربح منها من بعد، فيسارع إلى الشراء، فلو لم يكن جالسا في السوق مراقبا منافسيه: لما عرفها، ولو لم تكون نقوده بجيبه: لسبقه غيره، فلأنه كان يقظا متحفزا مليء الجيب: أتاه الربح، ولو اكتفى منصتا في ركن خلفي من مقهى السوق إلى قاص يقص عليه خبر نجاح التجار لألهته القصص، وخدرته الأحلام والأوهام.
فلا يصح إذن أن تتبادر إلى ذهن الداعية معاني السكينة، والتؤدة، والتأني، كتفسيرات وحيدة للمرحلية، وأوصاف تقترن بها لأول وهلة عندما يسمع لفظها، وإنما يجب عليه أن يفهمها على أنها نداء لبناء القوة ولتصريف الطاقة وفق تقدير وحساب، فهي تقدم إلى الأمام، نتيجة هذا البناء والتصريف الموزون، وهي انتباه واستباق.
ومن هنا نفهم أن المرحلية ليست مجرد واعظ يمسك باللجام عند فرط الرغبة والإقدام، ونتصورها مثل شيخ مسن وقور جمع أولاده وأحفاده حوله يوصيهم بالسير الرفيق، ويضخم لهم موجبات الحذر، بل المرحلية مثل خطيب مصقع أيضًا، يستجيش الحماس عند الغفلة، ويحث عند طروء الرهبة.
فيجب إذن أن نحل عقدة الخوف من المجهول المتمثلة في عدم إقدام بعض الدعوات على التجربة، فإن ضمان النجاح غير ممكن، وإنما هي احتمالات نجاح أو فشل، تكون موازناتنا بينها هي المشجعة أو الناصحة بمكث.
وبهذا الفهم نحفظ للمرحلية سمتها الإيجابي، من بعدها غلب على تفسيرها جانبها السلبي.
بل المرحلية معظمها إيجاب واختصار للطريق إذا كان هناك ثمة تخطيط دقيق لتحديد مكانة الدعوة وإمكاناتها وطاقاتها من الواقع المحيط بها، ولا يطول طريقها إلا حينما يكون هناك شكل من الإسراف أو الخطأ في تقدير الواقع وما يتبع ذلك من تسمية الحاجات.
(وإن الأمر الصعب يسهله الأمل والعمل، وإن أصعب الصعاب: اليأس، وأكأد العقاب: التردد في الأمر والتمريض فيه.
لا يعرف اليأس، ولا يعترف بالصعاب، ولا يشك في بلوغ الغاية، من أمل فعمل فصبر، وإن مع العسر يسرا، والله مع الصابرين)([5]).
حساب وكتاب
إن التقديرات يجب ألا تعتمد على التخمين المجرد، لأن الخطأ فيه ينعكس على التنفيذ بنفس النسبة، بل الاعتماد يكون على أرقام صحيحة وإحصاء يقوم به المتواجدون في كل قطاع.
إن الأرقام وحدها تقدر أن تترجم نفسها إلى لغة تخطيط.
والإحصاء مرة واحدة لا تتم به الدقة، بل لا بد من تكراره سنويا، لنستطيع رسم خط بياني نراه، إن كان نازلا يفضح التأخر، أو أفقيا يواري ضعفا وجمودًا، أو صاعدًا يحدث بالنعمة، وبدون ذلك لا تأمن الارتجال.
الفقه يبرر الأناة
ولكن لا جدال في أن الناظر إلى المرحلة يجد جوهرها كامنا في الانتظار عند نقص التأهب، والبعض يرى أن الأمر متجه له بأن يجاهد الكفار والمنافقين في غلظة عليهم، فيسأل: كيف يجوز السكوت عن منكر يراه ويتحداه، وهو المؤمن العزيز؟
من هنا وجب أن نفتش عن تبرير شرعي للمرحلية، وهو أمر ليس بالصعب على من له نظر في وصايا الفقهاء، فإن التبرير يكمن واضحا في قاعدة تعارض المصالح والمفاسد: إن المصلحة اليسيرة إذا زاحمتها المصلحة العظيمة: أمكن تفويتها وتقديم العظيمة، واحتمال قليل المفسدة لدفع التي هي أكبر منها، كما أبقي النبي الأعز -صلى الله عليه وسلم- المنافق الأذل عبد الله بن أبي بن سلول حيا يكيد ويظاهر اليهود، ويؤذي، واحتمل مفسدته حذرا من وقوع مفسدة أكبر، ألا يجفل أشراف العرب عن الإسلام خوفا من القتل.
ثم العقل يؤيد هذا المذهب، فقد قيل: أن المنبت –أي المسرع المجهد لنفسه في السير- لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي، أي ظهر دابته التي أماتها بالتعب، فتركته وحيدًا وسط الصحراء.
إن احتمال المنكر مدة أيسر من مجازفة متهور تفشل وتبقيه، وقاعدة الترجيح بين المصالح المتعارضة أثناء قيام الداعية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما هي قاعدة صحيحة شرعا ومنطقًا، وعلى الداعية أن يوازن بين ضرر المنكر قبل إزالته، والضرر الذي قد ينشأ ويرافق إزالته: أيهما أكبر؟ وبين كمية المعروف الموجودة وكمية المعروف التي قد تفوت منها إذا أمرنا بمعروف آخر، أيهما أجزل؟
إن هذه القاعدة هي من أهم القواعد التي تكفل للدعاة حسن السياسة وواقعية الخطوات، وإذا غابت عن ذهن الدعاة فإن غيابها سيوقعهم في إحدى سيئتين:
إما التهور، وإما اليأس الذي يحول دون اغتنام الفرص.
والتهور هو الأخطر.
فالداعية يرى أمامه حزبا كافرًا، أو حكومة كافرة، أو ما هو أدنى من الكفر من صور المنكر، فينسى قاعدة الموازنة هذه، ويشدد على وجوب محق هذا المنكر توا، ويردد آيات وأحاديث النهي عن المنكر، دون أن يسأل نفسه: هل لي بهذا المنكر طاقة؟ وهل زواله يمهد لحلول ما هو أنكر منه؟
أما انعدام التفاؤل الذي يقع فيه الداعية إذا غابت عن ذهنه قاعدة الموازنة بين آثار الأمر بالمعروف هذه فيكمن في تصور غريب للمدى الذي يجب أن تبلغه جهودنا في تكوين الفرد المسلم، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم.
لقد قال الإمام البنا رحمه الله بوجوب إيجادنا لهذه الثلاث، فيشاع تفسير ساذج لكلامه عند البعض يفهمون معه أننا لا يجوز أن نحكم حتى ولو كانت لنا قدرة على ذلك، ما لم نقلب كل المجتمع إلى مجتمع إسلامي.
وليس ذلك بصواب أبدًا، فإن مجتمع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومجتمع الخلافة الراشدة لم يخلوا من المنافقين، وخطتنا تقوم على طلب الحكم عند المقدرة عليه، ثم نحاول تغيير المنكر المتبقي في المجتمع، مستعملين لإزالته أموال الدولة وأجهزتها الإدارية والتربوية والصحف والإذاعة والتلفزيون، ومعنا الهيبة والقوة، وليس من المنطق أن نلبث نزيله بجهودنا الفردية المجردة، ومخاطر المحن مكلكلة علينا.
مد الجذور
ولكن التفاؤل لا يعفيك من أن تميز الفترة الأولى لعملك الإسلامي بالهدوء، وهي تسمى: مرحلة (التأسيس الصامت) أو (إرساء القواعد) أو (بناء الصفوة)، وكل ذلك مترادف.
ويبدأ التأسيس في كل قطر مع تواجد الرواد الأوائل حتى الانتشار في معظم المرافق والقطاعات، وصفته الرئيسية: الصمت المتواري، لئلا تتعرض المجموعة لاستئصال قبل وقوفها على أقدامها، ولئلا يثير إغراء الأعمال العامة في الدعاة فضول التطلعات.
إن عناية مكثفة يجب أن توجه لدعاة جيل التأسيس، إذ عليهم يقع الثقل، من تربية الأجيال اللاحقة، واستمرار التبشير، وإذا امتدت يد بطش فإنما تمتد إليهم.
وإن مجالات الانتشار، وإعداد من يتحقق بهم الانتشار الكافي لوقف التأسيس: لها مقادير وأبعاد نسبية، تبعا لطبيعة المحيط، وطبائع مراكز التأثير الاجتماعي والسياسي، يقدرها الرواد أنفسهم، بالحسنى، دونما استخفاف بالمقابلين، ولا رهبة لهم تمنع الإقدام، إنما المهم أن لا تبدي خلال النشأة معارضة، ولا تخوض صدامًا، ولا تشعرهم بوجودك في الساحة، أو تأتي شيئا يستفز، ومن أنكر ذلك عليك فأحله إلى خبر إعلان تواجد حصل في المغرب والجزائر قبل رسوخ القدم وكيف تسبب في محنة، وخذ منه فتوى عن البديل الواقعي لهذه النشأة في بلد تسيطر عليه حفنة من الملاحدة نصبوا المشانق والمقاصل.
ويقولون: كيف سيتربى الداعية عند ذاك. أهو حبس له بين الجدران الأربعة، أم اسطوانة متكررة من الكلام تلقي عليه؟
ويقولون: هذا تزمت!
والحقيقية: إن هذا المسلك التأسيسي بريء من التزمت، وإنما هو منطق واقعي في مجابهة الظروف والأعداء الأقوياء.
إن سير الهدوء لا نعنى به التباطؤ، بل اندفع بكل سرعتك وطاقتك، ولكن بدون ضجة.
كتاب الأمير.. دستورهم
ولربما تكون مجموعة غير إسلامية قد سبقتك إلى التواجد، فيسمح المسيطر بتواجدك أيضًا ويغض بصره، تحقيقا لتوازن القوى لا اقتناعا بأفكارك، ولا جودًا بحرية هي من حقوقك، إذ ما زالت نظرية القوى المتوازنة المنشغلة ببعضها من قواعد العمل السياسي، فإن الحديد لا يفله إلا الحديد، والأفكار لا تقارع إلا الأفكار.
ولربما لا يحاربونك إن كنت السابق المتفرد، بل يسمحون في هذه الحالة الثانية بنشوء تجمع فكري مضاد لك، هو خطر عليهم، لكنه يحقق التوازن، ويطيل أعمارهم من خلال محاربة هذا التجمع لك وإشاعته الإشاعات الباطلة حولك.
وعليك في الحالة الأولى أن لا تغتر بحرية اضطروا لها، كما أن عليك في الحالة الثانية أن تقلد خصمك في خطواته السريعة، فإن الحرية قد منحت له، لا لك، فاسلك في الحالتين سلوكًا لا يتعدى التوازن المبتغي إلى إخلال إذا كنت ما تزال في طور التأسيس، ولا تتكلفن شد كفتك في الميزان تكلفا وافتعالا، بل دع رسوخك يثقل كفتك، إثقالا طبيعيا، وأخرج عن التوازن يوم تكون لك حقيقة وزن زائد تضيفه لذاتك، وليس قبل ذلك.
وللمسيطر ذكاء لا يلجؤه دائما إلى التضييق، بل يستطع مراكز الثقل في المجموعة الإسلامية، فيبعث بعضهم سفراء، ينفيهم في بلدان ثانوية وراء البحار السبعة، ويمتن، حتى ليرى المراقب الساذج ذلك فضلا، أو يكلف آخرين بإدارات وظيفة صعبة واسعة الحيثيات، لتشغلهم إشغالا قبل اكتمال التربية، وتمتص جهدهم كاملا، في استنزاف للطاقات مرهق، يظنه أهل القلوب الطيبة منحة أو ثقة بهم.
إن إحلال التوازن بين القوى، واستخدام الترغيب رديفا للترهيب: قواعد في المكيافيلية القديمة، ما زالت توجه السياسية الحديثة.
ضريبة الشمول
ولكن احتمالات البطش إن لم تكن سببا يقنعك بالهدوء، وكان في البد الذي تنشأ فيه بقية حرية، فإن عاملا آخر قد يكبح الجماح، ذلك أن مجموعة الشباب الرائدة، تطرح مفاهيم شمولية وأساليب جديدة لا يعيها العلماء الرسميون وكثير من أئمة وخطباء المساجد الذين يؤدون عملهم تأدية مهنية. وكذلك لا يستمرؤها بعض الكتاب المسلمين الذين ينطلقون في الكتابة من منطلق تقليدي وتلهيهم المباحث الجزئية التي يتداولونها عن النظرة الشمولية، وكثيرا ما تعد الطرق الصوفية ما عليه الدعوة من الصفاء العقائدي أو الممارسة السياسية خروجا عن منهج الإسلام، أو يري محاربو البدع ما عليه الدعوة من رفق تربوي وقول لين عند إنكارها مداهنة محرمة أو ضعفا في ا لاتباع السني، فيجتمع عدم فهم كل هؤلاء لحقيقتنا ليكون انتقادًا مرًا لنا متعدد التأويل، ومتضارب الوجهات ومختلف الخلفيات، ويضرب حصار حول المجموعة الناشئة يشل حيويتها، ويكسر معنوياتها ويجفل طائفة كبيرة من الناس يمكنها أن تلتف حولها معينة ومؤيدة لو لم يتمتم في آذانها الهامسون.
إن هذه الظاهرة لم يخل أي مجتمع إسلامي منها، في البلاد العربية وغيرها، وكم من معمعة دخلتها الدعوة مع هؤلاء من غير ما ذنب اقترفته، سوى وصولها إلى سعة في الفهم واعتدال في الأسلوب قصر عنهما الآخرون.
وهم إذا يقاومون شباب الدعوة ويصدون لا يصدون عن سوء نية، بل ذلك مبلغهم من العلم ومقدار استيعابهم، وإنك لن تستطيع تجنب المعارك الجانبية معهم دون سير هادئ لا تعلن فيه عن نفسك.
ونحذر سلاح الجبناء
ويعظك سبب ثالث أيضًا يتمثل في حملة الإشاعات الظالمة الكاذبة التي تواجهك بها الأحزاب الأخرى.
إن الإشاعة وقول الافتراء، واختلاق القصص، قد أصبحت وسائل مبررة سارية في العمل السياسي مع الأسف، وإنك لتعجب حقا من الملاحدة كيف أنهم ينسبون لأنفسهم فلسفة، ويكلمونك عن القضايا المصيرية بلسان عريض وعرض إحصائي، يدعون الدقة، فإذا تكلموا عن العمل الإسلامي ودعاة الإسلام، ملأوا حديثهم ومقالاتهم بالأكاذيب وتهم الزور، وجنحوا إلى خلق ضعيف ينم عن نفس مريضة معلولة.
ويزيد المحنة ما عليه أغلب الجيل الحاضر من أبناء الأمة من سرعة التصديق والتأثر بما يقال دون تمحيص وفحص، فيصدون عن الدعاة، ويتشككون، ولا يكلفون أنفسهم عناء تجربتهم بالمخالطة، وما هو بعناء، ولا يرفعون رؤوسهم قليلا ليروا نور الصدق وضاء في جبين كل داعية، أو ينصتوا بآذانهم ليسمعوا نغمة الإخلاص مميزة في صوته.
وهكذا يضرب حصارا على مجموعة الدعوة الناشئة، فيه قسوة بالغة وعدوان جبان، فتلوذ المجموعة بعفافها وسموا أخلاقها، وتربأ بنفسها عن رد بمثل، حتى تنعزل.
فمن أجل تجاوز احتمالات مثل هذه العزلة التي يفرضها الملاحدة علينا: يكون هدوء النشأة، والتروي في النزول إلى ميدان المنافسة.
بين حقائق الواقع وتمنيات التفاؤل
وثمة سبب رابع مهم يعظ بالتروي قبل الإعلان، والبعد في مرحلة النشأة وفترة الحضانة عن المجال العام، فإننا حين نصف الرواد بأنهم دعاة فإننا لا نعنى أنهم قد قطعوا شوطًا كبيرًا في تربية أنفسهم، بل ما زالت فيهم بقية من الجاهلية، من رياء وتحاسد، وحب جدل وغرور، واستئناس بمحمدة وشيوع ذكر، والنزول المبكر إلى الميدان يعرضهم لمغريات كثيرة تكبر بها نفوسهم لأكثر مما تحتمل حقائقها، من رئاسة، وصيت حسن، ودعاية صحفية، وتصفيق وهتاف، ووميض آلات التصوير، ووفود المعجبين، فتكون الفتنة في محيطهم جد محتملة، وتبدأ عوائق النزاع والتنافس الدنيوي بينهم، وبخاصة إن كانوا أقرانًا ليس لهم رئيس قائد أكبر منهم سنا وأجزل علما وأوف رهيبة.
فكما أنك تمنع الصبي عن بعض الطعام وقاية له: تمنع العمل عن المنابر والترشيح البرلماني ووسائل الانتشار السريع.
إن المؤسس ينال ثقتك بهمته العالية وحميته الدافعة، لكنه لا يزال مبتدئا في الفقه، سطحيا في التجربة، وإذا استشكلت ذلك فقس نفسك بما كنت عليه قبل سنوات، فإنك ستضحك من جهلك القديم إذا ذكرت وقائعك، وسترى أن نموًا واسعا قد ضخم رصيدك التربوي والفكري أضعافا عما كان عليه.
ولقد تجاهلت الدعوة في بعض البلاد هذا المنطق الوقائي، أو جهلته ولم تعرفه، فدعت الثمن غاليا، وتفرق جيل كما اجتمع.
الاشتقاق والقياس ينميان التراث التخطيطي
وقد يختلف التقدير، فالإمام البنا رحمه الله كان ميالا في المؤتمر الخامس إلى العلنية، وذكر أن المرحلة الأولى هي مرحلة تعريف وإيصال للدعوة إلى جماهير الناس، ولكن التجربة في كثير من البلدان أفادت بغير ذلك، والمحن التي تعرضت لها الجامعة توجب إعادة النظر، وليس في ذلك بأس، ولا هو منازعة له، وإنما أدلى بما قال على ضوء الظروف السائدة آنذاك، والنظر النسبي يجيز التكيف للواقع المستجد، بل إن التعريف لا يمكن أن يكون إلا بدعاة كثيرين يقومون به هم المؤسسون.
إن بعض الأقطار قد بدأت الدعوة هذه البداية التعريفية بحملة واسعة من الدعاية والخطيب في المساجد والمظاهرات، حتى صار يتسمى باسم الدعوة آلاف الشباب، فلما أريدت لهم التربية والسير المنضبط والتوزع إلى طبقات: اختلفوا، لأنهم أقران، وأنت الدعوة أنينا متواصلا لسنوات نتيجة لخلافهم وتنازعهم.
وقد لا تكون الحكومة ظالمة صاحبة تضييق، ولا يؤذينا عدوان أو اختلاف، ولكن اليد المربية ترهق بالمجموعة الكبيرة، ويظل المستوى التربوي هابطا، ولهذا فإن سير التأني توجبه الكفاية التربوية أيضًا، وأن يتوازن الانتشار بمقدارها، وربما كان من الضروري عدم الاشتغال بالسياسة لمدة طويلة، في نوع من التكتم وتربية الخلوات بمجالس علمية ودراسية في البيوت، إلى أن يتم تكوين جيل التأسيس.
الاستدراك.. ممكن
وحتى الأقطار التي أخطأت التدرج فتعرضت لضيق: يمكنها الاستدراك والعودة إلى الهدوء، إذ ليس في ذلك حرج شرعي ولا عيب عرفي.
ويسارع بعض الدعاة إلى نفي هذا الجواز والدعوة إلى مواصلة السير مهما كانت الظروف، ويرتجلون خطبا في الحث، والتحريض على عدم التراجع، ولربما أتوا بمثال من جرأة الأحزاب الشيوعية وجلدها في العمل يدللون به على وجوب التقدم.
ولقد أخطأ هؤلاء في افتراضهم، فإن فنون المرحلية لا تعرف مسلما وكافرا، بل يخاطبهما العقل معا، ويدعوهما إلى قياس منطقي ونظر مصلحي يتساويان فيهما.
وقد كان للشيوعيين في روسيا استعجال إلى الثورة على القيصر سنة 1905، ففشلت ثورتهم، فقاد لينين تراجعهم الماهر، ثم استأنفوا الثورة أيام الحرب العالمية. وفي موجز تاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي وصف لتلك الفترة وطبيعة العمل، وهو تاريخ دونته لجنة من قدماء الحزبين ومطبوع بالعربية بموسكو نفسها، مما ينفي أي احتمال للمغالطة والتزوير.
(وفي ظروف انتصار الرجعية لم يكن ينبغي دعوة الجماهير إلى الهجوم المباشر على الملكية القيصرية، إنما كان ينبغي التراجع والانتقال إلى طرائق ملتوية للنضال. ولهذا الغرض كان ينبغي على الحزب السري أن يستغل إلى الحد الأقصى منبر دوما الدولة([6])، والمنظمات العلنية السلمية: النقابات، التعاونيات، نوادي العمال.
وقد ربى لينين في البلاشفة احتقار الجملة الثورية، وعلمهم أنه ينبغي للثوري الحقيقي أن يؤدي واجبه كذلك في العمل اليومي، العادي، الممل، غير الملحوظ، بين الجماهير مهما بلغ من الصعوبة والمشقة، فإن هذا العمل لا يذهب أبدًا عبثا.
وهكذا جابه الحزب الماركسي بعد هزيمة الثورة مهمة لم يتأت له من قبل أن يؤدي نظيرا لها، وهي التراجع بانتظام، واستغلال كل ذريعة علنية استغلالا ثوريا لأجل إقامة الصلة مع القاعدة، لأجل تثقيف الجماهير سياسيًا. وقد تعلم البلاشفة هذا العمل العسير بعناد، واتسم كل عمل الحزب بالجمع بين العمل السري والعمل العلني)([7]).
(وفي زمن الرجعية العصيب اغتنى الحزب بتجربة سياسية جديدة، وبطرائق جديدة للنضال، وبأشكال جديدة للتنظيم، وإبان الثورة تعلم البلاشفة الهجوم، والهزيمة علمتهم التراجع بانتظام، مع الاحتفاظ بقواهم الأساسية، وقد كان لهذه التجربة أهمية تفوق التقدير بالنسبة لانتصار الثورة المقبلة، وقد علم لينين أنه يستحيل النصر بدون تعلم الهجوم الصحيح والتراجع الصحيح)([8]).
أن لا داعي لأن تعجل بإنكارك علينا عند هذا الاستئناس بما كان من خطة الشيوعيين في العمل، فنحن ننكر باطلهم وإلحادهم، وكذبهم ومجازرهم، وسوء أخلاقهم، وعدوانهم على الأعراض والأموال، ولكن ما وراء ذلك من البصر السياسي والحزم الإداري: يتساوى فيه المسلم والكافر، بل ليس تراجع المسلمين اليوم إلا لغلبة الكافرين عليهم بهذا البصر والحزم، والسبق الذي لهم فيهما.
فقف قليلا، وانظر ما أجمع عليه المسلمون من جواز تقليد الكافر في التعبية وأساليب الحرب وخططها العسكرية، واجعل نظرك هذا دليلا على جواز ما وازاه من أساليب السياسة.
وقف ثانية، وانظر ما شاع من الاستئناس بتجارب ساسة العالم في العمل السياسي، الدولي والحزبي، تجد التفاتك إلى تجارب ساسة الأحزاب الشيوعية قريبا في ذلك.
فلا تغرنك حماسة مرتجلة، وإباء مصطنع، أيها الأخ الداعية، بهما تصد أذنك عن سماع تجربة شيوعية نرويها لك، فإن لك من قواعد الشريعة وأخلاقها ميزانا فرقانا، يعصمك التقليد الجزاف، كما أن لك في قلبك الرقيق المخبت واعظًا يرفعك عن مثل عنفهم وصراعهم الدموي.
ورويدا بك أنت أيضًا أيها المسلم المخالف لنا، في نقدك، لا تنسب لنا بمثل هذا ولوغنا في الطريق الشيوعي، فإن في كلامنا من الوضوح ما يهيب بك أن تتهيب، وفي وقوفنا عند أحكام الحلال والحرام، ما يبعدنا عن الشبهات.
إنها ليست أكثر من قناعة بجدوى محاربة الكفر كله، الشيوعي وغيره، بأسلحة الكفر نفسه.
أشواقنا الحبيسة
وبمثل هذا المنطق: يؤذن للدعوة التي لم تكتمل بعد مراحل تأسيسها أن تنسحب من ميدان القيام بقضايا الأمة الكبرى، وترد عتب من يعتب عليها أنها قد سطرت لها من قبل المفاخر والأمجاد.
إن الدعاة لا يمتنعون عن بذل هم أول من بدأه، لكن تجربتهم أعطتهم وعيا من بعد ما رأوا الحكومات العميلة تضربهم من الخلف إذ هم في مصاولة الأعداء، وتجمعهم من معسكرات الجهاد إلى معسكرات الاعتقال فهم يحفظون أنفسهم هداة للناس مربين يدلونهم على أصل الداء.
إن الحجة بالحجة تقال، وفوات رضا الناس اليوم إذ لم ينصفونا يشكل أمرًا سلبيا نود أن نتحاشاه، ولكن في الضرب المتوقع سلب أكبر.
إن العاتب متبطر، فإن اندفاع دعاة الإسلام لخدمة قضايا الأمة والتفاني فيها قد بلغ أوجا عاليا، وما تزال قلوبهم تحلق في ذلك الأفق السامي، ولن يكون منهم إبطاء إذا حصلت لهم القوة وساعدتهم الظروف، ولكنهم يبطؤون إذا رأوا السجون وقيود الأغلال الظالمة تحجزهم عن لقاء اليهود والمستعمرين الذين ما زالوا يجثمون على بعض أقطار العالم الإسلامي، والبذل لا يكون مع ظهر مكشوف تأتي فيه الرصاصة الأولى من الخلف، من الحكام الخونة، قبل رصاصة العدو في الصدر، وجدير بالدعاة أن يقودوا الناس لاجتثاث هذه الكيانات، الظالمة الهزيلة التي تقع عليها مسؤولية ضياع قضايا الأمة أولا وآخرًا.
([1]) صحيح البخاري 9/9.
([2]) صحيح البخاري 4/21/64.
([3]) المجموعة/ المؤتمر الخامس/ 256.
([4])
([5]) لعبد الوهاب عزام في الشوارد /360.
([6]) مجلس منتخب أشبه بالبرلمان.
([7]) موجز تاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي/ 94 دار التقدم بموسكو 1970.
([8]) موجز تاريخ الحزب الشيوعي/95.
انسياب الانفتاح
مثلما أن التقديرات المصلحية تدعو إلى مثابرة الجيل الرائد في العمل الفردي الهادئ، فإن المصلحة نفسها تدعو بالمقابل إلى الظهور بعد انتهاء التأسيس، واستخدام الأساليب الجماعية العامة، والمقارعة الفكرية، والمنافسة السياسية.
إنه لا يسوغ لداعية أبدًا أن يرى جودة معان الصفوة فيستطرد ويود بقاء التخطيط الأول ليحصل على المعادن الجيدة فقط، العالية الهمة، القوية الشكيمة، ذلك لأن الكثرة العددية مطلوبة أيضًا، وأثرها في الصراع كأثر الجزالة والجودة النوعية، ولن تكون معادن الصفوة في المجتمع كثيرة.
نحن في ذلك محكومون بقدر من الله مقدور علينا، كشف عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)([1]).
والراحلة هي الناقة القوية السريعة السير، لا تجدها إلا قليلة في الإبل، كأن نسبتها، لقلتها، لا تتعدى الواحدة في القطيع.
وكذلك العنصر القيادي في الناس، لا تجد النبه الشجاع الدؤوب ذا الفطرة السليمة، إلا بنسبة ضئيلة في الناس، وأكثرهم تتعدد فيهم أنواع الضعف والنقص:
فمرحلة الابتداء كنت تحرص فيها على الرواحل فحسب، أو لا يأتيك أصلا ويتصدى لمجازفة التأسيس إلا الرواحل، ولكن إكمال الشوط يستدعي منك انفتاحًا وانبثاثا واسعة بعد انتظار التأسيس، ولا تستطيع ذلك إلا بأنصاف الرواحل.
التشدد في الانتقاء أصل
إن لكل مرحلة جيلها وأهلها.
فالاستعداد للموت في سبيل الله، وبذلك الروح، ووضع قطرة الدم في الحساب: صفات أساسية في الرواد، لقميص كل منهم زر واحد وليست أزرارًا عشرين، فإذا طلب منه أن يفتح صدره للرصاص: فتحه دونما تأخير وتسويف، وكل منهم، روحه في يده، إذا قيل له: هات روحك! قال: هاك، وليست روحه في القفص الصدري، يريد مهلة ليفتح القفص، فيفتش عن مفتاحه في جيوبه فلا يجده، فإذا ذهب إلى بيته ليجلبه: وجد حسن زوجته يخذله، ويعود ويعتذر ويبرر.
إن كل تشدد في انتقاء جيل الرواد مستحسن، بل يجب أن يبلغ أبعد مداه، فإنه هو الجيل الذي سيقود الأجيال التي بعده، وعليه يقع ثقل البناء، ومنه يطلب الصبر على طول الرحلة، وإليه تشرئب الأعناق، تنتظر مبادرته إلى ضرب الأمثال، وهو الذي سيقص القصص للذين يقتدون، ويبتدع السنن للذين يقتفون.
إن أمر هذا الجيل كأمر المهاجرين وقدماء الأنصار في الثبات يوم كثر ا لنفاق بعد بدر، وفي الشجاعة يوم انهزم الطلقاء في حنين، وفي الوفاء يوم ارتدت العرب بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-.
تساهل.. بعد التشدد
فإذا ما اجتمعت الصفوة بعدد كاف، وأمنت الدعوة صفاء الجيل القيادي، فقد جاز لها أن تتساهل بعض التساهل كي تتمكن من تكوين جيل منفذ يرابط أفراده في قطاعات المجتمع المختلفة، فتقبل الأقل شجاعة، والأقل ذكاء، والأضعف شخصية، والقادر على المحاكاة دون ابتكار، والذي تهزه المواعظ ويحركه الحث وإن فقد المسارعة والابتدار، لا الجبان الرعديد، ولا المغفل البليد، ولا التائه المعقد، أو الجامد الكثيف.
إن هذا التساهل اصطلاح مجازي أكثر مما هو حقيقة، فإن توافر عناصر الواقعية في عمليتك التجميعية، يخبرك على العدول عن التزمت، إذ أن معظم الناس يفتقدون الصفات العالية، ولا بد من تكثير سواد العاملين، وضخامة العدد تتطبها الظروف في أغلب الأحيان، ولن تصل إلى هذه الزيادجة، إلا بأن تصحب معك في قافلتك من فيه عيب يسير، وإذا حرصت على الرواحل القوية فقط فإن السنين الثمينة ستمر بزيادة قليلة، وتسبقنا التكتلات الأخرى، ولربما ينعدم تكرر الفرصة.
فهاهنا مصلحة كبيرة متمثلة في المبادرة إلى اغتنام مجال المنافسة الذي ما يزال مفتوحا، وتصادمها مصلحة أصغر منها متمثلة في الحرص على الانتقاء الجيد، أو مفسدة كبيرة تتمثل في فوات الفرصة، ومفسدة أصغر منها في احتمال من لم تتسام صفاته إلى الفلك، الأرفع، والقاعدة الفقهية تقتضي بتفويت أقل المصلحتين ودفع أكبر المفسدتين، من غير غفلة عن شروط الإيمان عند الاثنين، ومع بذلك منا لهما، نبذل لهما التهذيب، والتربية والوعي.
ولست بحاجة إلى تنبيهك هاهنا إلى أن هذا التساهل لا يعدم أصل الحرص على النماذج العالية الرواحل في هذه المرحلة أيضًا، كي يشاركوا في تخفيف الثقل الجديد الذي يلقيه التوسع على عاتق المؤسسين، فالتساهل إسالة لمورد جديد ثري لا يقتضي غلق المورد الأول أو تضييقه.
تكامل الهمم
وضرب بعض الدعاة مثلا لنا في ذلك كمثل أهل قرية، يمر بهم رجل عالم فقيه لا يسمع خلال دورهم أذانا، فيبتئس، ويعظهم، ويطلب منهم حملة يتعاونون فيها على بناء مسجد، فهو الرائد المؤسس.
ثم يتنادون، من كل حسب استطاعته، فيقول أحدهم: أهب للمسجد ناحية من أرضي تبنونه عليها وليس لي مال، ويقول آخرون:لكم أكتافا نخلط الطين ونصنع اللبن، ويقول ثالث: وعلى إقامة اللبن جدارًا، و يتبرع رابع بالأبواب، وخامس بالفرش، وسادس يسرجه وينيره، وسابع يقول: ما عندي كتف ولا مال ولكن صوتي جميل، فأنا المؤذن، ويقول المستضعفون: وعلينا تكثير السواد، والانتظام صفوفا، وإظهار هيبة الإسلام، وتعميره بالتسبيح والتكبير، ثم يؤمهم الرائد، وتقام الصلاة.
فانظر كيف اجتمعت الجهود والهمم بحيث إنك لا تستطيع أن تفضل صاحب الفكرة الفقيه، وتقول: لولاه لما بنى المسجد، ولا صاحب الأرض، ولا من عمل بساعده، ولا المؤذن والمنير، بل كل منهم قد أصاب ووفقه الله لعمل صالح تراكب بعضه على بعض وأسنده.
وكذلك الجهود التي لا بد منها لبناء الدعوة: هي متكاملة، متضافرة، وكلها مهمة، حتى الصغير منها، فلابد من القيادة التي تخطط، ولابد من المفكرين الذين يكتبون، ومن يبشر ويربي، ومن يدير وينظم، وتحتاج الصحفي، وصاحب المال، وذا الجاه، والعسكري، والمفتاح الانتخابي، والطالب، والعامل والفلاح، والمرأة والناشئ الصغير.
وهو جدل بارد، جدل المفاضلة المطلقة بين أنواع الجهود المبذولة لخدمة الدعوة.
فالجهود مترابطة متلازمة، بعضها لبعض ظهير، ورديف، فإن تفاضلت كان تفاضلها نسبيا، تبعا لوقت معين أو مكان معين.
ولإقبال إنكار على مثل هذا الجدل الملهي، يقول فيه:
شرار الفأس دع من قال عنه: أمن فأس؟ أمن حجر يكون؟
فالمهم أن يمسك داعية الإسلام بفأس ويحرث أرض الخير ويبذر فيها، حبة مثمرة، أو يهوي بها على دارة باطل فيهدمها، وليس له أن يدور في حلقة مفرغة من فضول التفضيل.
إن الشرارة لن تنقح إلا بتماس الحديد والحجر، وشرارة الدعوة لن تنير طريق المسلمين اليوم ما لم تتكامل الجهود.
استقطاب عناصر التأثير
من هذا المفهوم نستطيع رسم صورة مرحلة النمو والتوسع والانفتاح فهؤلاء المنتشرون المبثوثون الرواد عليهم الاستمرار في الأذان والصدع، والتبشير والإنذار، والتجميع والتربية، حتى تتنامى القوة الإسلامية، في البلد الذي هي فيه لتقارب قوة أعداء الإسلام، مستخدمة ما يمكنها من وسائل الكتب والنشرات والبيانات والصحف، والحفلات والخطابة والتجمهر والتظاهر، وإقامة النوادي والجمعيات المتخصصة، ودخول انتخابات الاتحادات الطلابية والنقابات العمالية، وخوض المعارك البرلمانية، وإنشاء مرافق الخدمات الشعبية، وإقامة المؤسسات الصناعية عند الاستطاعة والمنافسة المالية والتجارية، وكل وسيلة حرة أو مقبولة شرعًا.
وهكذا توجه الجهود من خلال هذا التغلغل والنشاط لاستقطاب الذين يحترمون الإسلام ويتحلون بالأخلاق الفاضلة من عناصر التأثير في الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية، كأساتذة الجامعة والمدرسين، وكبار الموظفين الحكوميين، ورجال الصحافة والإعلام، والأدباء والشعراء، والفقهاء وخطباء المساجد والوعاظ، والمحامين والقضاة، وصفوة من الأطباء والمهندسين، وعمداء العوائل ذات النسب أو الهيبة وأبنائهم، وشيوخ القبائل وأقاربهم، والتجار، ورؤساء الجمعيات والنقابات والنوادي الرياضية والفكرية والاجتماعية والمهنية وأعضاء اللجان الإدارية الذين معهم، والمذكورين في الناس ببطولة أو فعلة خير، ونواب الشعب في البرلمان، حتى من يكسل عن الصلاة من كل هؤلاء ما دامت فطرهم سليمة، فإن نصائحنا وتربيتنا يرجى لها أن تبعث فيهم حمية وهمة كافية لالتزام العبادات وعدم الوقوع في حرام، ولا نبعد إلا عن المصلحي الطامع منهم، الذي تدلنا فراستنا على أنه يريد استغلال الدعوة لمأرب شخصي دنيوي.
نهدر المشاعر والممارسات الطبقية
إنها ليست الروح الطبقية المتعالية تدعو لتجميع هؤلاء أو كسب تأييدهم للدعوة، فإنهم والعامل والفلاح البسيط يحيون في رحاب من الأخوة الإيمانية في ظلال دعوتنا، ولكن تأثيرهم الفكري والسياسي المضاعف هو الذي يفرض الحرص عليهم.
إن الأحزاب الاشتراكية تتخوف من أن يستغل بعض أصحاب الأموال والمراكز من هؤلاء الحزب لأغراض نفعية ومكاسب طبقية، ولذلك يعنون بتجميع العمال والضعاف، ويحركون لهم الحق في السلطة، وذلك علاج رديء لواقع منحرف ظالم، أما عندنا فإن الأخوة الإسلامية التي نربي الجميع عليها تعتبر فريدة من نوعها وتأثيرها، والعدل الذي جاء به الإسلام لا يسمح للظلم أن يوجد ويزداد، ومن شأن إخوتنا أن تستل من الأنفس كل سخيمة طبقية، من أصحاب الأموال والنفوذ، أو من الفقراء والمستضعفين، وأما من يظل سافلا في مشاعره وينوي الاستغلال فإن الحركة الإسلامية أبعد من كل بعيد عنه، ولقد أرساها الإمام البنا رحمه الله قاعدة في تجميعنا ماضيا: أن نحذر هيمنة الكبراء والأعيان، كما سماهم، وهل كانت البعثة النبوية الكريمة إلا ثورة على سطوة الملأ المتعجرف من بيوتات قريش، وظلمة العرب، وعلى استغلال اليهود ومن حالفهم من المنافقين؟ وهل كانت الفتوح الإسلامية الغراء إلا هدما للطواغيت وأعداء الشعوب؟ وهل للدعوة الإسلامية اليوم غير تلك السيرة الشريفة والطريقة الراشدة نبراسا تهتدي به؟.
تجميع شامل
كلا، إن الخطر لا يأتي من هذا الباب، ولن يجد الكبراء لهم في دعوتنا مكانا، ولكن الخطر المحتمل يأتي من أن الدعوة، في أعوام من غياب التخطيط، قد تتحول إلى مجرد حركة مثقفين مدنية تهمل العامل والفلاح، فتنصب العناية على المدارس والجامعات وطوائف التخريجين، لما لهم من استعداد للمباحث الفكرية، ولا يكون ثمة نزول لمستوى العامل والفلاح ورعاية مشاكلهما وتبني حلولها، ولقد تلبست الحركة في بعض البلدان بمثل هذا التقصير، وسبقها اليسار إليهما سبقا لم تستطيع معه الاستدراك، ولم يعد بالإمكان قيام تعادل في الممارسة السياسية، وصدق على الدعوة المثل القائل بأن العين بصيرة واليد قصيرة، فإن لمجموعة الدعاة المثقفين بصائر من الوعي، إلا أن يدهم التي يمدونها إلى الباطل قصيرة، لا تطيلها يد العامل والفلاح.
ولربما سلكت الدعوة مسلكان قصوريا آخر تتحول به إلى اتجاه فكري أدبي يكثرمن البحوث الفقهية، والتأليف والنشر، والمحاضرة والخطبة، ومجالس الحوار والنقاش، وهو اتجاه أخطر من الأول، يمس أصل مفهوم الدعوة، بابتعاده عن التجميع الواسع والتنظيم الدقيق، وبانصرافه عن النهي العملي عن المنكر، وليست الدعوة ذات استغناء عن التأليف والنشر والحوار، ولكنها ليست مجرد مجمع علمي.
إن الشمولية في التجميع ضرورية، ويجب أن تكون رديفة لشمولية الأفكار والأساليب.
خلاصة المجتمع.. لا الغثاء
ويخطئ بعض الدعاة من باب آخر حين يسرفون في تصور معنى مقاربتنا لقوة الاتجاهات الأخرى، فيتصورون أن الدعوة، لوصولها إلى هذا الوصف لابد أن تجعل لها تماسًا بنصف عدد السكان، وهو تصور مغرق في البدائية.
فإن بلدًا تعمل فيه تشطب من عدد أهله بجرة قلم واحدة تسعة أعشار عدد النساء، إذ لا يزال تأثيرهن ودورهن الفكري والسياسي في العالم الإسلامي غير كامل، ويكاد أن يكون ضعيفا، وتشطب ملايين الأطفال، ومثلهم من أهل البداوة أو الحياة المنعزلة، وأعدادًا هائلة نم الجبناء والسلبيين والبلداء الذين لا يحملون رأيا ولا يعتنقون فكرة ولا يعارضون سياسة أو يؤيدون، وشيوخًا عجزة، ومرضى تشغلهم الآلام، ومن لا يزال أميا ومفرطا في السذاجة، وأمثال هؤلاء.
وهكذا فإنه لا يتفاعل مع تطور الأحداث أكثر من عشر السكان، أو أكثر قليلا، ومعظمهم أتباع مقودون، مقلدون يفتقدون إمكانية تحليل المواقف ويعوزهم الاجتهاد والإبداع، وأما قيادة التيارات وتحريك الصراع فلا تتجاوز بضع عشرات من الألوف في مجتمع الملايين، وهم أصحاب مراكز التأثير المذكورة وبعض الطلاب والعمال والفلاحين، ومساواة القوة الإسلامية ضمن هذه القلة للقوة الأخرى، أو القوى المتحالفة هي التي نعنيها ونتخذها مقياسًا يأذن لنا بتطلعات بعيدة، ومع ذلك فإن الله تعالى قد يهب الدعوة بضع عشرات قليلة من أصحاب الكفاية العالية أو البراعة يكون لهم من ثقل الوزن ما يعوض عن مئات من عناصر التأثير التي عددناها، وبهم يتم اختصار الطريق ويقصر، كأستاذ جامعي مكتشف أو تلفت بحوثه الانتباه، وصحفي قدير سيال القلم ذي خلفية واسعة ويسنده أرشيف دقيق، وفقيه مليء يملك عقلية مستنبطة واطلاعا على كتب التراث، وخطيب مصقع بليغ يأسر القلوب، وشاعر فحل جزل يتفنن في تحريك النفوس، ومقدام يركض إلى الموت فيستشهد، فيؤجج الحماسة، وتعلو هادرة من بعدة الأصوات.
إن النصر قريب الطريق، حتى لتكاد أن تتناوشه أيدي الدعاة، ولكن متى كانوا شجعانا، ولفن الانسياب وعاة.
ولابد أن تتذكر أيضًا أن المسلم منصور بإذن الله على اثنين من الكفار على الأقل والتفوق عليهما، كما قررت سورة الأنفال، وإن دفعك للباطل قد يكون في جولات متعددة، أو في جولة واحدة، كجولات الملاكم، فإن الذي ينزل إلى الحلبة لا يدري متى ينتصر بالضربة القاضية، فينتصر بالنقاط، ولكن احتمالا لضربة في الجولة الأولى ليس ببعيد.
شروط الانفتاح
إلا أن هذا الأمل الذي يفتح بابه الوعي الحسن يجب أن لا يذهل الدعاة عن فحص الأرض التي يقفون عليها، بأن يعرفوا مقدار نفوسهم، وحجمهم الحقيقي، فإن الأمل نافع ما دام يبعث الثقة ويضاد اليأس ويشير إلى درب الوصول، لكنه يصب مهلكًا متى استحال إلى أحلام مغرية وخطوات قافزة ليست ذات تدرج.
إن التقدم الموزون الانتقالي من مرحلة النشأة إلى مرحلة الانسياب لا بد له من شروط أربعة: تواجد يكفي، وظرف يواتي، ومجتمع يرحب، ومركب يحمل.
• وذلك أن تتواجد في الساحة بعدد لا يمكن معه للمقابل أن يستأصلك، وإن كانت رغبة المقابل ليست ممكنة التنفيذ له دائمًا، فإنه قد يشتهي الأمر وتصده احتمالات النقمة الشعبية عليه، أو يشتهيه فيخاف أن يضطرب التوازن بين مجموعة الذين بإزائه، فيكظم غيظه، ويدعك حرا، مضطرًا، ليس بمتفضل عليك ولا كريم.
• ثم يجب أن تترصد فرصة سانحة، بأن لا يصادف إعلانك عن نفسك ظرفا دوليا متأزما في المنطقة المحيطة بك، كتبدل في بلد مجاور، أو توحيد جهود بين الحكومات قريب، بل انتظر وراقب ما تأتي به الأيام، ألا تندم لمفاجأة لم تحسب لها حسابا.
• وأما التقبل الاجتماعي فمطلوب أيضًا، لا تهدر رغبات عموم الناس، فلربما تكون في بلد لم تتطور فيه الحياة الفكرية والسياسية بعد إلى درجة كافية يستسيغ معها أهله أن تتصارع التيارات، بل يعدونك آنذاك مضيفا عنصر تعقيد واضطرب وتناحر، ويغفلون عن مقدمك الإسلامي وسمتك الإيماني كمناهض للإلحاد الصامت الزاحف نحوهم، فيحاصرونك بالصدود والإنكار قبل أن تحاصرك الأجهزة. وتتكرر مثل هذه الحالة في البلدان المتحضرة المتطورة أيضًا إذا ما تعبت وأثخنت بالجراح في سلسلة سنوات من القلق السياسي والثورات والانقلابات وكشف المؤامرات الفاشلة وكثرة الإعدام والسحق الدموي، فإن أهلها يصلون إلى درجة من الملل والضجر والتأفف يعتبرون معها كل عمل مصدر تعب جديد وإن كان إسلامي الهوية، ويجب أن نرفق بالناس آنذاك، ما لم يكن خطر الإلحاد الأكبر محيطا بهم وهم لا يشعرون.
• فإذا قست أبعاد موقفك، وأزمعت النزول إلى الميدان، وعقلت وتوكلت: فاطلب الوسيلة الناقلة، بأن يكون ورودك مثيرًا لانتباه الناس، بحيث تتطلع الأنظار إليك، وتكون حديث المجالس، هازًا كتف الملتفت، منطقا المتخارس، مثل ترشيح لانتخابات برلمانية حرة ليست تمثيلية، ولا هي هازلة، لا أن تأتي في أيام ركود وغفلة وسبات جماهيري، فيكون طروقك باردًا، ويمتص الفتور السائد حيوية الانطلاق.
فبهذا الاحتياطات تأمن الهفوات.
ولكن لابد من الانتباه إلى الحد الفاصل بين المرحلتين، المسوغ للانفتاح، هو حد لا يمكن تثبيت وصفه بمجرد الإحصاء والعلاقات الدقيقة وإنما هو تقدير عام أيضًا يعتمد على الفراسة التي لا تنطق بها الأرقام، واطمئنان يقذف في القلب ربما صعبت ترجمته بألفاظ وتعليله بأسباب.
اكتشف ذاتك قبل النداء
كل هذا الحساب الهندسي قبل تحديث نفسك بنمو وتوسع وجد.
ولكن كم من داعية يصول في الأفكار ويجول، ويحرص على معرفة دقائق الرأي وقواعد الموازنات السياسية، وينفقه بجزئيات كثيرة، متجاوزًا حقائق الدعوة الأولى والاجتهاد في الأمور التي يحتاجها كل يوم، مستعجلا الظهور قبل تمام النشأة الأول وتكامل مقومات اسم الدعوة!!
ومثله في ذلك كمثل الشاعر المشهور الطرماح بن حكيم الطائي: قعد للناس وقال: اسألوني عن الغريب وقد أحكمته كله. أي غريب اللغة، وكان في ذلك صادقًا، فقال له رجل: ما معنى الطرماح؟ فلم يعرفه.
فهو قد ذهب إلى البعيد، وتعنى له، وترك القريب وانصرف عنه، ولم يعرف اللفظة الأولى التي تعنيه هو قبل غيره.
ولا بد أن ندرك أن أهم أركان أي خطة عندنا هو الرجوع إلى أحكام الابتداء وألفاظ الدعوة الأولى التي يقوم بها اسمها، وإلى بديهيات الدعوة، وإصلاح النفس، وتربية قطاعات من الشعب على الأخلاق والتعبد وترك الحرام، ثم يأتي التحدي الإسلامي بعد ذلك لا قبله، وإن ما ثم غير إيمان نقيس به، ولا لنا فيما نقول عدا الوحيين ميزانًا.
([1]) صحيح البخاري 8/130.
نشر الأشرعة
أرأيت سيل الوادي الزاخر في موسم الأمطار كيف يتجمع من شعاب وبطون وفروع يمد بعضها بعضا، ويضاف ماؤها، حتى يتولد النهر العريض؟
كذلك أمر العمل الإسلامي، ينبع من أصل دائم، ثم يتوسع ويزداد زخمة بجهود تلقي مع مسيرة تضيفها همم أنصاره، وواجهاته، ومساعي التجمعات الصغيرة المحدودة التي تلتقي أهدافها مع أهدافه.
وهذا هو الذي عناه أبو تمام لما قال:
فاضمم أقاصيهــم إليك فإنه
- لا يزخر الوادي بغــير شعاب
فهم ضم، وجمع لكل جزئية خير بتوجيهها في (المسار) ولو لم يكن لصاحها ارتباطا بالدعوة، إذ كل ما هنالك مفيد نافع، حتى الكلمة العفيفة الصادقة نحرص عليها وإن لم تصرح بإسلام.
دعوة تروى العطاشي
إن خير الدعوة الإسلامية مثل ماء رائق عذب أودعت فيه أسرار الحياة، ينبجس أول مرة من صخرة صماء، فيتفجر للشاربين ينبوعا، وينطلق فراتا مسرعا مجيبا لكل لهفان.
فمن كان لابد من سلامة (المنطلق) وأن نصعد ربوة نشهد منها انطلاقة بقية معاني الإيمان في مجتمع تحجرت قلوب أعضائه، وكيف تنتشر؟ وكيف يأتيها النماء؟
إلا أن الماء في جريه تعترضه هضاب وعقبات، فتكون سكرًا مانعًا موقفا، فيصبر ويلبث يتجمع، حتى يزداد ويرتفع مستواه، فتكون بحيرة أجمل منظرًا وأوفر خيرًا، يعلو سطحها فيصير أعلى من النتوء الحاجز، فيهبط هادرًا، مكتسبا من زخم الحركة ما لم يكن فيه أولا.
فمن هنا كان اجتياز (العوائق).
وصادفت الماء السهول من بعد، فانساب في هدوء، في غير ما طيش وإسراع، نهرًا يلتف يطيل نفسه، يسقي الحرث ويروي.
فهو هذا الانسياب في (المسار) الحركي، يلج مسالك العمل اليومي وشعاب نشاط مختلف ألوانه، ينظم ويبني، ويلم الشمل ويربي، منبثا في قطاعات المجتمع، قاصدًا الأخيار.
دورنا في قيادة الطاقات
إن من الضروري أن نعلم بأن جماعتنا لا يراد لها أن تصارع الباطل منفردة، ومعتمدة على قوة أفرادها فحسب، فإن ذلك أمر صعب، والباطل ممتد العروق، وشرس طويل الأنفاس، إنما يراد لها أن تكون قائدة للمعركة، وأعضاؤها قادة لغيرهم من المسلمين السائبين الذين تمنعهم قلة وعيهم من الانضمام والالتزام الحركي، ففي جمهور المسلمين خير كامن أصيل وافر، ولكن تحول بعض الشبهات التي يسمعونها عنا أ, الشهوات التي يناديهم إغراؤها، دون ارتقاء هممهم إلى سمو الانتماء، وتمحيص الولاء، أو تحول دون بصائرهم والسياحة في آفاق بعيدة بلغها العمل الجماعي المخطط، ومن الممكن للتنظيم المثابر أن يستغل طاقاتهم المختلفة لصالح المعركة الإسلامية متغاضيا عن نوع نقصان يعتريهم لم يؤهلهم لأن يأخذوا مكانًا في صفوف الجماعة.
بلى، الأصل طلب الأكمل، ولكن ذلك الكمال عزيز نادر قليل، فتستعين بالجار والمماثل، حتى أن أبا بكر رضي الله عنه قدسن لك سنة الفرح بالأقرب لما نزل وعد الله تعالى بغلبة الروم على الفرس.
ولقد علمتنا الأيام دروسا غير التي كانت تمليها علينا الحماسة البريئة والتصلبات المعاندة، ولقنتنا التجربة أن نعين على تواجد المحايد إن يئسنا من مجيء المسلم، في الوظيفة الصغيرة أو الحكم الكبير، وأن نصبر على الغافل الشهواني ابن يومه إن نازعه الملحد المخطط البعيد الأهداف، وأن نقدر أن الملحد المفسد سليل الأشراف أقل شرا من جناح آخر في حزبه يضم الرعاع وسفلة القوم، إذ ربما كان في الأول بقية ترفع وإباء عن الدنايا والقسوة يفتقدها الغوغاء.
فمن وعظته أيامه بمثل هذه الموعظة كان حريا به أن يحرص على أي جهد إسلامي في المجتمع وأعمال الدولة مهما كان ثانويا وصغيرًا ووقتيا أو مخلوطا بأخطاء، لا يزهد بلفظ إصلاح واحد، بل يرحب به، ثم يواصل سيره نحو الأحسن، ويحث غيره من أهل النقص هؤلاء على مشاركته في هذا السير نحو الأحسن.
مع الريح الطيبة..!
إن هذه النقلة ضرورة لإحداث التأثير الشامل الذي يغير مجري التيار ويستأنف الحياة الإسلامية، وبدونها يبقى الجهد الإسلامي مغمورا، بطيئا، لا يملك أكثر من لسان الوعظ الرفيق، بينما تنقله سعة الانفتاح إلى سعة في التربية الجماعية والتحريك، تتنامى لتولد ضغطًا هو لازم لتسيير الأجهزة الحكومية في اتجاه عملية التقويم السياسي الاجتماعي والثقافي النفسي الاقتصادي الذي نبتغيه.
والفرق واضح ما بين المرحلتين، والمعطيات الإيجابية لمرحلة استخدام الوسائل العامة وقيادة طاقات الإصلاح الكامنة في المجتمع لا تحتاج إلى برهان يدل على وجودها، فإن مثلها في ذلك ومثل التربية الصامتة في مرحلة النشأة كمثل ركوب السيارة أو السفينة.
فكل داعية عند الابتداء يكون كأنه راكب سيارة، ولابد له من أن يمر على محطة الوقود ليملأ خزانها، فيطول الوقت، وتزدحم السيارات في قافلة طويلة تنتظر دورها للوصول إلى المضخة.
أما الوسائل العامة فمثلها كمثل سفينة ركبها رهط نشروا شراعهم، وقد تكون هناك آلاف السفن في البحر، فتهب عليها نسمات لطيفة وريح طيبة، فتدفع الأشرعة، وتجري في آن واحد، بلا كلفة كبيرة في الأفق العريض.
إن وجود قرصان يسلب ويقتل، واحتمالات الغرق، أو سكون الريح، ما أزهدت الأمم يوما في استخدام الأساطيل وإنماء التجارة العالمية، وكذلك ما تعطيه الدعوة من خسارة وتلف، أو اضطرارها إلى الفتور والسكون خلال بعض الظروف، لا يزهدها فيما هي فيه من نشر الأشرعة البيضاء المباركة.
(فإذا رأيت الأرض قد اهتزت وربت، وهضاب القلوب القاسية قد تقلبت، فشمر عن الذراع للزراع، واغتنم خفقان الشراع، والإسراع الإسراع.
إذا هبت رياحــك فاغتنمها
- فإن لكل خافقه سكونا).
إفصاح البليغ
ثم فرق ثان يكمن في الكلام السياسي والفكري الصريح الناقد الذي يصاحب الانفتاح، من خلال صحيفة حركية أو نشرات صغيرة وبيانات يوزعها الداعية، في محيطه، ربما وفق قائمة عنده تنسق التوزيع وتديمه، أو خلط ذلك بتوزيع عام لبعضها إلى من لا يعرفه، أو لصقها في المحلات العامة، أو إرسالها بالبريد، فتكون آراء الجماعة ونظراتها معروفة واضحة لدى الناس، وتكون راية الخير قد ارتفعت تدعو الجميع إلى الانضواء تحتها، وتأتي كثير من العناصر تلقائيا نحونا تضيف جهدها لنا، يحدوها الإنصاف الذي تملكه وفراستها في تمييز صدقنا وما في كلمتنا من حق، أو تتربي عناصر أخرى من خلال نشرياتنا وهي بعيدة عنا، فإذا جاءها الداعية من بعد: وجدها جاهزة ناضجة مستعدة للالتحاق، ويعود الداعية يلمس سرعة في التوسع كان يفتقدها أيام التأسيس، يوم كان لابد له من أن ينقل صمت وبلقاء ثنائي آراء الجماعة لمن يدعوه ويثق به فقط، وفي أحسن الأحوال إلى عدد قليل.
فهذا الاختصار في جهود الدعاة توفير يستغل لتوسيع نطاق العمل وتنويعه.
نحو الصميم.. بلا التفاف
ومن فروع هذا الفرق: فرق ثالث يكمن في كون هذه النشريات عوامل مبادأة وإحداث تماس مع العناصر التي يتوجه لها الداعية ويطمع في إبدائها العون للدعوة.
ففي مرحلة التجميع الفردي الهادئ يعتمد كل داعية على مجرد لباقته ودهائه وثقافته ومقدراته على حرف كلام المجلس الذي يدخله إلى حوار إيجابي فكري، فإذا دخل بيتا، أو كان في صحبة أقران له في كليته أو مدرسته، أو وظيفته، أو في ملتقى عام في مقهى، فإنه في الغالب سيجد حديثا عن الأسعار والتجارة والامتحانات ومشاكل العيش، أو تعليقات سياسية سطحية مقلدة لما تطرحه أجهزة الإعلام، أو عن آراء ومواقف أحزاب سبقت الدعوة الإسلامية في النزول إلى الساحة، ولا يجد الداعية من جلسائه ذكرا للفكر الإسلامي أو آراء الدعوة، فيبدأ جولة طويلة تستغرق ساعة أحيانًا يناور فيها ويداور، ويتدسس ويتخلص، ليقحمهم في الحديث عما يريد، وربما فشل في محاولته، وذلك تسويف وتبديد للوقت والطاقات.
أما في مرحلة الانفتاح فإن الصحيفة الصريحة أو البيانات ستتولى هذا العبء عن الداعية وتدعه وجها لوجه مباشرة في نقاش وتبادل رأي مع الذين يحيطون به منذ الدقائق الأولى للقائه بهم، بل يجدهم في انتظار له وشوق لمجيئه ليسألوه عن تفاصيل ومزيد تحليل، فيكون اختصار آخر في الجهود، وتتراكم فوائد هذه المجالس يوما بعد يوم حتى يكون رأي الجماعة هو السائد بين أناس كثيرين، يحيطون بدعاة الدعوة، ويولد تيار إسلامي له آراؤه في الفكر والسياسة.
تناغم الألفاظ
ومن فروع هذا الفرق أيضًا: فرق رابع يتضح في دور النشريات في توحيد كلام الدعاة وتوجيهه.
فحينما لا تكون في الأيدي بيانات، وكتب صادرة عن الحركة فإن كل داعية يعتمد حينذاك على اجتهاده واستنباطه في تحليله للأحداث والتعليق عليها، وربما حصل تقارب آراء الدعاة أو عملت القيادات على تقريبها من خلال الندوات، ولكن لا يمكن حصول التوحيد الأكمل، فقد تجد اختلافا في الكلام المدلي به أو تناقضا، ولكن النشر العام يقوم بسد هذا الخلل، ويكمل النقص، وهذه نتيجة إيجابية مهمة لا نتوصل لها إلا من خلال الانفتاح.
بل غالبا ما تكون القيادات في مرحلة النشأة عاجزة هي نفساه عن وضع دراسات متتالية للأحداث تواكب سرعتها، وتنوعها وتقلبها، لأنها نفسها تكون مغمورة في زحمة الإداريات وصغائر العملية التجميعية والتربوية طلبا للإتقان والحزم، حتى تستهلك كل وقتها في ذلك، وهذا سر ما يشكو منه بعض الدعاة في المرحلة الأولى من عجز عن الاستعاب السياسي وفهم ما يدور من حوله، إذ لا يقرأ إلا تحليلات الصحف التي تنظر الأمور من زوايا خاصة غير إسلامية، وربما من خلال ارتباطاتها بدوائر الاستخبارات الغربية والشرقية، وتكتب ما من شأنه إيجاد إيحاء نفسي في القارئ يتفق والمخططات الاستعمارية.
بينما يكون من تمام الانتقال إلى الانفتاح: أشياء من التعديل على الخطة والأدوار، تقلل به القيادات من مباحثها الإدارية، بعد اطمئنانها لوجود قاعدة عريضة سليمة متينة قادرة على أخذ دورها، وتبدأ في ممارسة التحليل السياسي بمساعدة جهاز كامل من لجان فرعية ومتخصصين وباحثين ومسئولي أرشيف يواصلون رفع التقارير إليها للوصول إلى رأي نهائي يصاغ في قبلها في صورة بيانات حركية رسمية، أو يشرح من قبل هذا الجهاز في صورة مقالات صحيفة أو رسائل صغيرة أو كتب مطولة، تنقل الدعاة جميعا إلى وعي سياسي ناضج.
إن الداعية قد يشعر في المرحلة الأولى بأنه ساذج، وأن الحزبيين الآخرين أبرع منه، ويتهم نفسه وقيادته، ويذهل عن أنها ظاهرة طبيعية تزول سريعا بالتحول إلى الانفتاح، وما هي بعجز.
شورى... وحوار
وقد يكون من الواجب أيضًا الإجادة في هذا الباب عن طريق عقد مؤتمرات صغيرة ينبثق عنها مؤتمر أكبر لبحث مسائل رئيسة تعايشها الدعوة والوصول إلى حل مشاكل مستديمة تواجهها.
ففي كل كلية من الجامعة أو مصنع كبير مثلا يعقد قدماء الدعاة مؤتمرًا، وفي كل قطاع سكني في العاصمة والمدن الكبيرة يعقد الدعاة مؤتمرا أيضًا، وفي كل مدينة صغيرة، وربما كانت كلها في يوم واحد أو أيام متقاربة، وفي كل منها يبحث المؤتمرون مسألة من هذه المسائل المهمة على ضوء جدول أعمال موحد وأسئلة موجهة من قبل القيادة، وينتهون إلى رأي فيها، وينتدبون أحدهم لعرضه في مؤتمر أعلى يضم أمثاله من المندوبين، أو يوزع المندوبون على عدة جلسات إذا كان العدد كبيرًا، ويكون الانتهاء إلى رأي موحد تقره القيادة ثم يشرح ويرجع إلى عموم الدعاة للسير وفقه لتطبيق توصياته.
فمرة يكون بحث أمر اليسار في ذلك البد: وجوده وقوته وسلبياته وإيجابياته وكيفية التعامل معه. ومرة لبحث أحوال التجمعات الأخرى غير اليسارية على غرار ذلك، ومؤتمر ثالث لبحث الطائفية، والأقليات وخططتها في ذلك البلد والموقف منهم، ورابع للمسألة العمالية ودراسة نفسية العامل وكيفية النشاط الإسلامي في أوساط العمال، وخامس لخطة النشر والإعلامي الإسلامي وطبائع التأليف، وسادس لكيفية خوض معركة تعديل الدستور والمطالبة بدستور إسلامي إن كان ذلك مفيدًا، وسابع لكيفية خوض المعركة الانتخابية البرلمانية، في أكثر من عشرة مواضيع أخرى على هذا المستوى والنسق يكون الدعاة بعدها على بينة من أمرهم ويخلو عملهم من الارتجال.
إن هذه الطريقة من إشاعة المؤتمرات تؤدي إلى استثمار طاقات التفكير المودعة في جميع الدعاة، وتعتبر ممارسة للشورى الإسلامية الأخوية، فوق أنها تجعل الداعية يحس بأن الرأي رأيه هو، أو رأي أكثرية إخوانه، فيندفع في التنفيذ بهمة أعلى وحرص أكيد.
إن البعض يستصعب ذلك ويعتذر بضيق الوقت، ولكننا نرى أن أمر المؤتمرات أسهل مما يظنون، وأنه من الممكن جعل يوم معين من الأسبوع خاليا من الأعمال والاجتماعات على مدار السنة لكل أعضاء الجماعة، ويستغل لمثل هذه المؤتمرات أو الأعمال الطارئة، أو أن تكون الأعمال الأسبوعية المتكررة ثلاث مرات فقط كل شهر، ويفرغ الأسبوع الرابع للمؤتمرات. ولا شك في أن التنبيه المبكر المسبق على موضوع البحث يساعد على نجاح المؤتمر، لا أن يأتي الداعية وهو غافل عنه، راكد فكره.
اكتمال الحوافز
فإذا كان أمر المؤتمرات في ذهنك واضحا فإنه من السهل بعده أن تدرك الفرق الخامس المهم بين المرحلتين، المتمثل في تمكين الانفتاح لنا من نشوء طبقات قيادية جديدة متكاملة مختلفة الاختصاصات وفي كل المجالات.
إن النشأة الأولى توجد لك نموذج القيادي البارع في الاتصال الفردي أو التربية الإيمانية الأخلاقية العلمية، ولكن حاجات الدعوة أكبر وأشمل وأكثر تنوعًا، ولابد أن يوجد فيها الخطيب الماهر، والكاتب الرصين، والمحلل السياسي، والقدوة المستقطب، والزعيم الجماهيري، والمدير النقابي، والفقيه الفتى، والصحفي المتفنن، والمانع الحامي، وكل هؤلاء إنما تدربهم يوميات نشاط أيام الانفتاح تلقائيا، وتنفتح أمامهم فرص لإثبات جدارتهم لم تكن أيام النشوء، وكل ميسر لما خلق له، والقابليات متنوعة، وربما كان الكسول في الاتصال والتربية كاتبا ناجحًا، أو رجل سياسية بارع، وتكامل الأعمال ضروري، كأعمال أهل القرية أولئك، الذين بنوا مسجدًا.
التربية بالمواقف ممكنة في المرحلتين
إن المواقف الجماعية ستربيهم آنذاك بأكثر مما كانت فيا لمرحلة الأولى.
إن النشأة تحتاج إلى نوع من الهدوء والتكتم وتربية الخلوات، ولكن أصل (التربية بالمواقف) لا يتعارض معها كما يتوهم البعض، فالداعية في هذا الدور لا يحتاج إلى مجرد الزاد الروحي الذي تتيحه له الخلوات الجماعية أو الفردية، وإنما هو بحاجة إلى أن يضع نفسه وجها لوجه مع المجتمع، يجاهره برأيه ويصارحه، ومن خلال هذه المجاهرات ستبرز أمامه أشكال من الاعتراضات المفاجئة والمصاعب الجديدة لم يكن يتصورها أو يتوقع حدوثها، ويشعر بضرورة التخلص من الاعتراض بحجة دامغة، وضرورة الانفلات من المأزق بانتصار عليه، وضرورة استغلاله وقيادته لمن ينحاز إليه بعد الحجة وجاذبية الانتصار في ذلك الموقف، ومن ثم فإن الداعية لن يجد لسد هذه الضرورات خيرًا من ذهنه وجهده، فيبادر إلى قدح الذهن، فيتأمل ويفكر ويخطط، ويبادر إلى إنهاض نفسه، فيتحرك ويغدو ويروح ويتعب، وواضح أن هاتين المبادرتين لم تحصلا إلا نتيجة لوقوف موقفه ذاك الأول، وبذلك تكون المواقف عاملا تربويا وطريقا لتحصيل الجهد من الدعاة، وتعليما لهم على التخطيط.
مثلا: تذهب إلى مجلس وتطرح رأيك طرحك للرأي أمام عشرين سيكون له رد فعل مختلف، وسيكون عشرة منهم من الحياديين، وهذا شأن كثير من الناس، ولكن عشرة آخرين سيقفون موقفا مؤيدًا أو معارضًا، فبعضهم سيتجمل كلامك، وآخرين قد يصل بهم الأمر إلى التصريح بإلحاد سافر.
إنك لم تقل رأيك لتقسم السامعين إلى فريقين وتسكت، بل تريد أن تواصل المعركة بطريقين، فالذين أيدوك تستغل تأييدهم لتقريبهم وتربيتهم، وتزورهم زيارات خاصة لتحدثهم على انفراد حيث لا يختلط صوتك بصوت معارض، وهذا يضطرك إلى زيادة علمك لتفيدهم بفوائد جديدة، ولن تكون زيادة العلم إلا بمطالعة، وهكذا في متوالية من المتطلبات تربيك، فإذا ارتقيت معهم ونظمتهم فستضطر لتعلم الفن التربوي ومطالعة أخبار السياسة لتحلل لهم الأوضاع، وهكذا تكن خطتك للارتفاع بمستواهم هيرفع لمستواك أنت أيضًا كداعية.
وأما من عارضك فإنك تريد أن تذهب عنهم وسوستهم، وهم سيحاولون البرهنة على أنك مخطئ، فتقرع أنت الحجة بالحجة، لأنك إن انهزمت أمامهم لم يعترف بك من أيدك كقائد له، وهذا يضطرك لتعلم فن النقاش الهادئ الذي لا يقرب السباب والشتائم.
فانظر كيف أن موقفا واحدًا قد رباك دون أن يأتيك حث خارجي، بل هو حث نابع من ذات الموقف، فينشغل ذهنك، وتعايش مواقفك معايشة قلبية في غير ما تقليد، حتى لتحلم في منامك بالليل كأنك تناقش، وترد على فيك من الألفاظ ما تحفظها لتقولها في اليقظة.
إن الاستفزاز هو الذي يحرك الذهن ويستدرك منه الأفكار، وانظر إلى نفسك إن كنت وحيدًا ووقعت بقربك حجارة صغيرة، فإن وقوعها سيجبرك على أن تفكر بسبب وقوعها: أهو لص يختبر ساحته أم طفل يلعب رمي بها؟ كذلك أم التربية، إذا في الهدوء التام يستحيل انقداح الذهن للتفكير في مسائل الدعوة، ولابد من وجود من يرميك وترميه من خلال المواقف.
لكن هذه المواقف لا تكون عامة أيام التأسيس والنشأة، وإنما هي مواقف فردية أو لمجموعة صغيرة من الدعاة، كي لا يكون الموقف العام مسببا محنة قبل أوان الاستعداد.
إن الحذر في التأسيس يجب أن لا يقود إلى الاحتجاب والعزلة، ولا يستساغ أن يكون الداعية مجرد سامع، فإن هذه الصفات تنافى مع العمل المبادر، ولكن الاندماج والتفاعل مع المجتمع وأفراده لا يعني بالتالي ضرورة المواجهة الحركية.
أما يوم تنشر الأشرعة: فأن النشريات، ومحاضرات الدعاة، والتصريحات السياسية الجلية القوية، والتصدي للخصوم، كل ذلك يجعل الدعاة في دروس جماعية تربوية عملية واقعية، يقتبسون الفوائد من خلالها لهم وللمدعوين، وهذه الدروس الجماعية العملية تشكل الفرق السادس بين المرحلتين، وما كان الدعاة ليتقنوا تربية أنفسهم من خلال المواقف الجماعية لو لم يتدربوا بتدرج ويتقنوا تربية أنفسهم من خلال المواقف الفردية في المرحلة الأولى.
فنون التجميع
مما يؤثر عن التابعي الجليل جبير بن نفير أنه كان يقول:
(لقد استقبلت الإسلام من أوله، فلم أزل أن أرى في الناس صالحا وطالحًا)([1]).
مقالة عابرة تتحدث عن ظاهرة مفهومة بداهة، ولكن بساطتها تمنحها هيبة الحكمة، إذ أن تطرفات العاملين أنستهم بداهتها وأذهلتهم عن عمل صحيح ينبغي أن يبتني على حقيقتها، فكان منهم المصدوم، اليأس من الناس، الذي هزته تجربة له مع طالح، فقاس وعمم بلا ضابط، وكان منهم المتساهل، الذي وفق الله تعالى له صالحا يلقاه في أول محاولاته، فهش وبش، وراح يفرط في حسن الظن بالمقابل، ويوزع جهده بددًا.
كأن مفاهيم الطرفين تعكس بدعتين شابتا صفاء مجتمع السلف وتوسطهم في إنزال الناس منازلهم، فإن اليائس السريع الاتهام يوجد له في مجازفات الخوارج مثيل، إذ كانوا لا يرضون جمهور المسلمين، ويبدون لهم قسوة، وأما أصحاب التساهل فيقاربون ما ذهب إليه المرجئة، لما كانوا يكتفون بقول اللسان دلالة على الإيمان.
لهذا كان من الضروري أن يرى كل داعية مسلم ما رأى جبير بن نفير، ليعتدل في أحكامه، ويستقرب الإصلاح، ويمضى في طريق البشرى والتفاؤل والأمل، مثلما يتوقع الحيصة والنكوص والجفاء، فيشترط وبفحص.
إن قول جبير يراه الرائي من البديهيات، لكنه في الحقيقة ميزان في العمل، وتعليم، منه ننطلق إلى تجميع الناس وتربيتهم في غير ما تهور نعتدي به على إيمان الناس، أو أن نسلبهم إياه وننطق بتكفير.
وقد ترى في بعض المجتمعات وجود صنف ثالث مخلط فيه من الصلاح شعبة، ومن المداهنة والنفاق مثلما، وتلك علامة سوء، ليس فيه التقليص للنصف الطالح كما قد يتوهم البعض، فإن وجود مثل هؤلاء يفتر الصراع والتمايز، ويوهن المفاصلة الواجبة، ووجود الشر المفصح عن هويته وطبعه أهون، لما يؤدي إليه من جفلة الأخيار وتحفيز عوامل الجد فيهم.
إن مجتمع بغداد والعراق مثل واضح للانحيازيين المتصادين:
الصلاح والفساد، والعراقيون يتحدثون بهذا، ويظنون أنها من خواص مجتمعهم، ولكن الإمام الغزالي كشف عن أصلها، وبين أنها طبيعة قديمة في المجتمع العراقي منذ أيام الدولة العباسية، فأورد جواب بعض الحكماء وقد سئل عن أهل بغداد، فقال الحكيم:
(زاهدهم زاهد، وشريرهم شرير)([2]).
المداهن ومن في المنتصف قلة، ولذلك كانت الأيام بينهم دولا، يتعاقبون، وهي كذلك اليوم.
وهكذا هي الأيام دول في الأقطار الأخرى، لا يصفو لصاحب شر حكمه، وإن ادعى، بل يزاح، وله نهاية. كما لا يسهل على صاحب الخير أن يحكم، بل تكدر عليه الفتن حكمه، فيلزمه بذل مضاعف.
إن هذه الظاهرة التي يشهد لها التاريخ تهيب اليوم بالداعية المسلم أن يأبى الخنوع لهذه الحكومات المستولية، وأن يرفض المنطق القائل باستتباب الأمر للفجرة، بل يقاوم، ويتقدم، ويعمل، ويأمل ويستيقن وصوله، ويثق بجميل نصر الله.
لهو يلف الناس، ليس إلا، استكانوا معه للفاجر.
وغفلة حرفتهم، أقعدتهم عن إجلائه، تعالج بالتذكرة والتربية ونداء العمل من وراء أسوار الحرص الدنيوي، يتوجه إلى الداعية...
يا فطرة الصدق الصـــرا
- ح وقوة الحق القديـــم
وسجيـة الخيــر القــرا
- ح السلسل العذاب العميم
قم وجه اللاهين بالذكرى
- إلى النهج القويم
فالمجد ليس ينــال بالــ
- عوى وبالصوت الوخيم
عبء الرسالة ليــس لهـ
- ـرأ، إنه عب جسيــم
القول دون الفعلــــل لا
- يهدى الصـراط المستقيم([3])
كلا، لا يهدى مجرد القول.
وإن طبيعة العقيدة الإسلامية (لا تدع أحد يتواري) كما يقول السيد.
(إن الجاهلية من حوله، وبقية من رواسبها في نفسه وفي نفوس من حوله، والمعركة مستمرة)([4]).
فلا بد من نزول إلى الميدان وبذل مزيد جهد لتجميع أوسع.
لكن هذا التجميع يستلزم اليوم فنونا ومهارة وابتكارا في الأساليب والقول، تبعا لتعقد المجتمع الحديث، وإيغال الشبهات في التأثير.
إنها فنون لا تنتهي الإضافة لها والتحوير فيها، ولكن خطوطها الأساسية وأمثلتها النموذجية تنحصر في عشر قواعد:
(القاعدة الأولى): ضرورة تكميل الرصيد التربوي الواقعي الذي تتركه طبائع المجتمع في الفرد.
فإن المدعو الذي نتجه لحيازة تأييده يعيش بتفاعل مع المجتمع وليس هو بالمنفصل عنه، وهذا المجتمع يعكس عليه تأثيرات تربوية مختلفة، توافق الإسلام وتخالفه، فإذا وجدنا الانعكاسات الحسنة وافرة كان من اللائق أن نكمل المقدار الباقي غير المتوفر، دون أن نبدأ الطريق معه من أوله، بل نربيه على ما ينقصه، لئلا يهدر وقتنا، أو يحصل عنده إشباع يقود إلى تطرف إذا زدنا الخصال المتوفرة لديه تأكيدًا.
والملاحظ أن البيئة والمناخ قد يتولد منها أيضًا تأثير على طبائع الناس وأخلاقهم الأساسية، وإن كان هذا التأثير ثانويًا، والمظنون أن الأعراب لم يفتقدوا رقة أهل الحواضر، ويكونوا أشد نفاقا إلا لعيشهم الجامد في وحدة وتفرد بين الرمال الصامتة والصخور الملتهبة.
وضرب الأمثلة لنماذج من المجتمعات العربية يوضح انعكاسات المجتمع على الفرد، فإنها مختلفة في طبائعها السياسية ومدى قربها أو بعدها عن الإسلام ومتطلبات الدعوة.
فالعنصر السوداني مثلا يتوفر فيه الوعي التنظيمي، ويفقه ضرورة العمل الحزبي والانتماء الحركي، ولا نرى في السودان إلا قلة لا ينتمون إلى أحزاب أو تجمعات فكرية، وكذلك الحماسة وافرة، ومثلها: الصلة بالمباحث الفكرية والنقاش فيها، فبمجرد أن يكون الشاب في السودان مع الحركة الإسلامية أو مع الحزب الشيوعي يندمج في الشخصية الجماعية. ومن الانعكاسات الحسنة هنا أيضًا: توقير الشرع والامتناع عن الكبائر، وكثرة المصلين وهي آثار باقية من أيام نفوذ المهدية أو الختمية.
إزاء هذه المحاسن توجد مشكلة عدم وضوح الولاء، بحيث أن المرء هناك يجمع بين حمل الفكر الإسلامي والصلاة، ثم الولاء للأحزاب الطائفية، نتيجة تربية بيتية وقبلية، فيكون مع حزب الأمة الذي هو الواجهة السياسية للأنصار أتباع المهدي، أو لحزب الشعب واجهة طائفية الختمية أتباع الميرغني، وهذا ما يجعل عمل الدعوة في السودان محتاجًا للتركيز على تفهيم مسألة الولاء وأنها متممة للانتماء الفكري ولتوفير أحكام الإسلام، وإن العبادة وحدها لا تكفي. فالداعية إذا تكلم للمؤيد مادحا الإسلام: كان في تكرار لفهم مستقر في نفس هذا المؤيد. وإذا بين ضرورة العمل الجماعي: كان في تكرار خر، لكنه إن أوضح معاني الولاء الإيماني وأقنع صاحبه: تسلمه عضوا جاهزًا.
ونموذج الشاب المصري في بعض الاختلاف، فهو وافر الإيمان سليم الفطرة، بفعل الآثار الحسنة للعمل القديم والجديد الذي أبدته وتبديه حركة الإخوان المسلمين، ثم بفعل وعظ الأزهريين والتربية العائلية، ومن النادر أن نجد اتجاهات إلحادية في المجتمع المصري، والحزب الشيوعي ضعيف، ويستغل مسألة الفقر أكثر مما يستغل الفلسفة.
أما النقص اليوم ففي ناحيتين:
- الناحية الأولى: نقص في فقه العمل الجماعي والارتباط التنظيمي، وتتوفر في المنظمات الطلابية مرحلة أولية أو متوسطة من الجماعية، ولكن يراد تطويرها وتكميلها، إذ ما زال يغلب عليها طابع الحماسة البريئة، ولو وسعت الخفية التنظيمية لهذا الزخم الإسلامي الشديد الذي يعم الجامعات المصرية لأدت إلى عمل حاسم.
- والناحية الثانية: تتجلى في أن هذا العمل التنظيمي يجب أن يستند إلى تراث العمل الإسلامي القديم في مصر، والمتمثل في حركة الإخوان المسلمين، إذ هناك رصيد من التجريب وافر، ورصيد من المعنويات أوفر، والمطلوب: تكميل الشوط من حيث انتهى الدعاة السابقون لا البداية من حيث بدءوا والاستقلال عنهم، ولابد أن تتضح لدى جيل شباب الجامعات الحالي ضرورة انتمائه لقيادة حازت حصيلة نصف قرن من فقه العمل والتراث المعنوي، وأنه لا يصح البعد عنها.
إن على الداعية المصري أن يتجاوز مدح الإسلام، وذكر ضرورة العبادة، والإشادة بمحاسن الأنظمة الإسلامية، فيذكر هذه المعاني باختصار، لوضحها عند ا لشباب، ويركز على ضرورة الارتباط التنظيمي الملتزم ووراثة الاتجاه الإخواني السابق والتبعية لقيادته الحالية.
أما نموذج الشاب العراقي فتتوفر فيه خلال إيجابية وتنقصه أخرى، إذ أنه يفهم ضرورة العمل الحركي في جماعة منظمة، ويدرك عدم جدوى التسيب، وتدل على ذلك كثرة الأفكار الشائعة وسعة الانتماء الحزبي، ويملك الشباب العراقي مقادير من الشجاعة والحماسة الذاتية والانخلاع عن السلبية، حتى في أجواء الإرهاب والسطوة، ولكن حاجته كبيرة لتوضيح الناحية الفكرية وتصفيتها من الموازين القومية المتطرفة، إذ يجد الداعية من يجمع أخلاق الإسلام والعروبة العلمانية، ويجد الكردي الثائر الذي يقف خاشعا إذا حان وقت الصلاة.
فوضوح الفكرة الإسلامية، وتبيان الإسلام الكامل غير المنقوص، هو المعني الذي لا يزال ضامرًا، على عكس ما في السودان ومصر، وهذا هو سر التشدد في الشروط عند دعاة العراق وسر التساهل في السودان، فإن طبيعة الحاجة تركت أثرها على فقه العمل، ولم يفهم البعض ذلك، فاستغرب كل منهما طريقة الآخر.
إن هناك عاطفة إسلامية ضئيلة عند الشباب العراقي، ما لم يكن ملحدًا، والعمل في العراق بحاجة إلى تنمية هذه العاطفة وتطويرها إلى فكرة وموازين ليحوز عناصر صالحة للعضوية، وأما الإحساس بضرورة العمل المنظم، والتحلي بالشجاعة والإيجابية فإنها مازالت حية في النفوس.
ويبدو فتى الخليج نموذجا مغايرًا، فهو يحوز احتراما للإسلام وافرًا، ولكنه يجهل المعنى التفصيلي للإسلام، فهو لا يجادل في أن الإسلام يجب أن يسود، وأن التحدي لشيء من أمر الله تعالى كبيرة أو كفر، لكنه لا يدري هذه الأوامر كلها، ويحتاج إلى تعرف على أنظمة الإسلام ومفردات الأحكام، وفيه أيضًا سلبية مردها إلى عوامل عديدة، أهمها المعيشة الطويلة قبل ظهور النفط لطبقة عمال البحر والغوص تحت سطو طبقة المشايخ والتجار، وبينهما تفاوت، دونما طبقة وسطى، فولد الاستضعاف يأسا مع توالي الأيام وعزوفا عن المشاركة السياسية والفكرية ورثهما الأبناء، ثم زاد البطر وترف ما بعد ا لنفط هذه السلبية، فصار الميل إلى الدعة والراحة والسكون وعدم المخاطرة، والفقهاء ما قالوا بكراهة التنعم الكثير إلا من باب إقعاده عن النهضة الجهادية، وإن النفس المترفة أبطأ في إجابة داعي الجهاد، على عكس النفس المتواضعة المخشوشنة.
إذًا: هناك حاجة في الخليج إلى خلع الشاب المدعو عن ترفه، وتعليمه الإيجابية، وإشعاره بوجوب تأثيره في هذا العالم بنوع تأثير إصلاحي، وأن يقوم بدوره من خلال عمل جماعي.
والفرد الفلسطيني طبعته مشكلة فلسطين بطابع خاص، فهو مازال يئن من المتاعب اليومية التي تضعها الأجهزة الرسمية في جميع الدول، وأصيب بخيبة أمل لخيانات الحكام إزاء القضية، وفي شك من كثير من قياداته الفلسطينية المتناحرة، فهو يائس، رافض، قلق، ميال إلى العنف، وتركه طول تنفيذه لسياسة الرضى بأخف الضررين في حالة من التساهل الفكري والعقائدي، إزاء من ينصره في قضاياه.
فالداعية محتاج إلى جولة طويلة يسيرها مع المدعو الفلسطيني يعلمه أوليات العقيدة وموازينها، ويرقق قلبه ويميل به إلى السكينة الإيمانية، ويدربه على التلذذ بالعبادات، ويقنعه بارتباط تحرير فلسطين بقيام حكم إسلامي في بلد عربي، أما الإيجابية والذكاء والحيوية والمشاركة السياسية فهي صفات حسنة متوفرة في الشاب الفلسطيني بمقادير عالية.
هذه أمثلة فحسب، ومحاولة لوصف الشباب في بعض الأقطار، ولا نجزم بصواب ما ذهبنا إليه، وإنما أردنا أن ننبه إلى وجوب قيام كل قيادة بتحليل شخصية الفرد في البلد الذي تعمل فيه، ورصد انعكاسات المجتمع عليه، وتعيين المعاني التي يركز الداعية على تربية المدعو عليها، وقد يكونمن المستحسن طرح هذا المبحث خلال مؤتمر خاص.
ومثل هذا المنحى يقودنا بالتالي إلى تقرير وجوب عدم تقليدالأقطار بعضها لبعض في خطوات العمل الأولى مع المؤيدين، ولا إنكار بعضهما على بعض إذا اختلفت في فهم الأولويات التربوية لطبيعة هذه الخلال والصفات المختلفة التي تجعل الأمر نسبيا محضا.
(القاعدة الثانية): تزويد الداعية بنشريات المبادأة.
فإن من صعوبات التجميع: عدم استطاعة الداعية إيجاد مدخل للكلام مع جلسائه وأصحابه، فإنه قد لا يستطيع إدارة دفة الحديث بسرعة لصالح مفاهيم الجماعة، ويهدر وقتا طويلا في أحاديث عفوية قبل تمكنه من إلجائهم للمشاركة بما كان قد نوى التكلم فيه، وكثيرا ما تتحكم أخبار الجرائد اليومية في كلام الجلسات، أو مشاكل الانتخابات، وأعمال الأحزاب.
وليس ذلك بصحيح، فإننا نريد إكساب الذي نتصل به شخصية إسلامية متكاملة تؤمن بالإسلام وبضرورة الانتظام والتحلي بسلوك خلقي عال، وإذا تركنا الجرائد والأحداث السياسية هي التي تعين موضوع الكلام أثناء مجالساتنا لمن ندعوهم فإن ذلك معناه تبذير الأوقات، بل لا بد من عامل مبادأة يعين الداعية على أن يكون لبقا، بحيث يحرف به الكلام بسرعة إلى ما يريد، ويمكن للنشريات أن تقوم بهذا الدور في المجلس الذي تعطي فيه نفسه، أو في المجالس التي تتلوه.
إن عامل المبادأة ضروري وأساسي، وإذا خلت يد الداعية من النشريات التي تجعله سيد الموقف فإن عمله يحتاج إلى وقت مضاعف.
وهذه الحقيقة تجرنا إلى تقرير قاعدة مهمة تجعل مسئولية العمل مع المدعو مسؤولية جماعية وفردية، وليست هي خطة الداعية فقط، فنحن نركز في الغالب على دور الداعية الفرد في كسب الشباب إلى صف الدعوة، وندع الأمر إلى مقدار ذكائه ولباقته وعلمه وتفرسه في الشباب الذين من حوله، بينما المسألة أبعد من ذلك، ولها وجه جماعي أهم يعين الداعية على إتقان دوره.
ويمكن تمثيل الدور الجماعي في عمليات التبشير بالدعوة بدور الدول في إسناد سفرائها، فالسفير لا يعتمد في مواجهاته للسياسيين على مبادراته وذكائه المجرد، بل يعتمد على قوة موقف دولته وطبيعة سياستها، وكلما كانت دولته التي بعثته ذات سياسة قوية ومكانة عسكرية واقتصاد متين: كان السفير واسع الصولة والجولة، فارضا نفسه على المجتمع السياسي الذي بعث إليه، ولا يستطيع شيئا من ذلك إذا كانت دولته ضعيفة،أو كانت قوية لكنها تمر في مأزق و أزمة وموقف حرج أثناء صراع دولي يجبرها على كتم أنفاسها والسكوت وعدم التهديد والضغط.
إن المشاركة الجماعية في إسناد الداعية أمرها تماما، فإن كل داعية في أي مدرسة أو كلية جامعية أو معمل أو إدارة حكومية أو مسجد أو منتدى إنما هو سفير للجماعة في مكانه، وقوة مواقف الجماعة هي التي تحركه في الحقيقة، ورصيدها الفكري وإنتاجها الأدبي هو الذي يكسبه الإتقان في عمله، وأدوات المبادأة التي تضعها الجماعة في يده هي التي تجعل اجتماعاته مع العناصر المدعوة ناجحة وداخلة في الجدوى الإيجابية من أول جلسة له معهم، ولا يحتاج إلى لف ودوران ومسيرة طويلة كي يدخل في الموضوع.
إن تأليف رسائل قيادية أو بأقلام دعاة محليين لمعالجة المشاكل التي يعيشها كل مجتمع على ضوء الإسلام تعتبر عوامل مبادأة جيدة، وكذا المنشورات السياسية السريعة القصيرة، فإنها تراد كعوامل مبادأة أكثر مما تراد لشيء آخر، إذ أن أذهان الدعاة تتقارب في الغالب عند تحليل المواقف، ولكن وجود المنشور في يد الداعية يجعل أهل مجلسه يتحدثون في معناه، ويجعل الداعية في غني عن اللباقة المتكلفة المصطنعة لجلب الحاضرين إلى صميم الموضوع، وعلى ذلك فإنه لا يصح أن نعتمد على مجرد الكتابات الفكرية المطلقة لأعيان الكتاب المسلمين، بل لا بد من كتابات بأسماء دعاة يعرفهم المجتمع من أهل البلد، مع م عالجة المشاكل المحلية من خلال الفكر الإسلامي المطلق.
لكن عدم وجود هذه النشريات اليوم في بعض البلاد لا يعني عيبا في الجماعة، إذ قد تكون الدعوة في هذه البلاد في دور تأسيس لا يؤهلها لذلك، ولا تسمح الظروف بنزولها السياسي صراحة، لما فيه من تعريضها لمتاعب مع الحكومات والأحزاب، كما أن التحليلات السياسية تقتضي أنواعا من الكفاية والقابلية والخلفية الثقافية الواسعة التي ربما لم تنضج بعد في الحركات الناشئة، لا لعيب بل لقصر عمر الجماعة.
إن الدعاة في البلاد التي لا تستطيع إصدار نشريات المبادأة الآن أن يتوقعوا أنواعها من سهولة الاتصال بالشباب في المستقبل إذ استطاعت الجماعة أن تشارك فيع ملية تسيير التحركات الفردية بالنشر والموقف والأدوات الجماعية دون الاعتماد المجرد على الذاتية الحركية للداعية، كما أن النجاح الذي يحصل في قطاع معين سيكون عاملا من عوامل زيادة هيبة الجماعة في القطاعات الأخرى، ويكون الداعية أكثر هيبة بدوره، فيهاب، للهيبة الجماعية، لا لمجرد علمه وشخصيته فقط.
(القاعدة الثالثة): مبادرة الداعية للتكلم بما يناسب حاجة المدعو:
وهذه القاعدة مكملة للقاعدتين السابقتين، ونعنى بها أن يكون الداعية هو الذي يختار موضوع الحوار دون إعطاء المجال للمدعو باطراد ليسأل، إذ أن أسئلة المدعو لا تسيرها حاجته الحقيقية دائما، بل كثيرا ما تكون انعكاسا لإشاعات وشبهات يروجها أ‘داء الدعوة، ومحصلة لمطالعاته الصحفية وسماعه للحزبيين الآخرين، وتبقى أجوبتنا عنها غير مقنعة له تماما ما لم تصحب بتفهيمه موازين شرعية تعينه على ذاتية في تمييز الحق.
لسنا ننكر أهمية طريقة فتح صدورنا للمدعو ليفرغ أمامنا ما عنده من شبهات فنجيبه بما يرفع عنه الهواجس، فإن هذه الطريقة ضرورية، لكن الإسراف فيها مضر، لأننا نعمل في محيط غير سليم، ويكثر حولنا منه يروج الإشاعات والأكاذيب والشبهات الجزاف بالباطل، وينشر الظنون السيئة، كما أن المناهج المدرسية تبث مفاهيم منحرفة، وفي الصحافة كلام غث يولد اختلاطات، ولو التزمنا إزاء ذلك موقف المدافع باطراد وأتحنا على طول الخط للمدعو أن يختار موضوع النقاش لبقي محيلا لحسن ظنه بالدعوة ولقناعته بأفكارنا إلى حسن ظنه، بأشخاصنا، في تقليد بارد وتغليب للروابط الشخصية، دون اجتهاد واستعلاء وعزة إيمانية وحمية.
لذلك فإن من الواجب أن نقيم توازنا بين ما نعطيه من المعاني بتخطيط، وبين ما ندع له المجال ليسأل فيه، فنرض في كثير من وقت اللقاء معه الكلام عليه فرضا، لا من مقام الأستاذية لتلميذ، بل باللباقة وجودة التخلص، بحيث يأتي المبحث طبيعيا، بما يملك الداعية من فكر متكامل يميزه على المدعو.
وهنا تبدو أهمية تحديد هذه المعاني التي نعرضها على المدعو بمبادرة منا، إذ ليست كل مفردات الإسلام يفهمها، ولا هي على درجة واحدة من الأهمية، وبعضها لو ذكرت فقي موطن معين أو وقت معين لأدت إلى نتيجة عكسية، فنمتنع عن ذكرها سدًا للذريعة.
والأسلوب الصحيح في هذا الموطن أن تضع القيادات الفرعية المفردات والمواضيع ذات الأولوية في الكلام في جدول يحصرها، فكل قيادة تختار ما يناسب طبيعة قطاعها، فقائمة لما يذكر في الجامعات، وأخرى لما يذكر في المدارس الثانوية، وأخرى لما يذكر في محيط العمال، وهكذا،وستكون بعض المواضيع مشتركة حتمًا.
إن تجاهل مثل هذه القاعدة هو الذي أدى إلى مجازفات بعض الجماعات الإسلامية التي تثير مواضيع جانبية في غير أوانها مع جودة علم دعاتها، فيثيرون الفرعيات قبل الأصول، لتخلف أسلوب الدعوة عندهم، وآخرين يلحون في حمل المدعو على أفعال لا يستسيغها المدعو في بلاد العرب، يقلدون بذلك مناهج عمل تصلح لبلاد أخرى.
إن ذكرنا لهذه القاعدة لا يعني عدم مراعاة دعاتنا لها سابقا، كلا، فإن دولاب العمل اليومي عندنا قد ولد أعرافا صحيحة سليمة كثيرة، تعين الداعية الجديد على فهم الأولويات، ولكن عليه أن ينتبه إلى أن جودة طريقة العمل العرفية هذه لم تأت كنتيجة سهلة، وإنما هي حصيلة تجارب متتالية كثف التأكيد القيادي عليها حتى استحالت أعرافا يدرج عليها الدعاة وإن لم تحفظها نصوص دقيقة أو تبليغات مكتوبة، ويراد من كل داعية جديد أن يعرف هذه الحقيقة لتواصل التفكير بمثلها ولينتج خيرا جديدًا، وليورثها لمن بعده.
فيجدر إذن بكل داعية أن يفطن إلى أنه اليوم بعمله يسهم في تأسيس أعراف، شاء أم أبي، فإن أحسن الطريقة وعرف الأولويات: أنشأ عرفا حسنا، وإن خلط: أورث الغلط.
ويبدو أنه من الأفضل أن يعقد كل قطاع ندوات جماعية أشبه بمؤتمرات للتعرف على الرصيد العرفي من العمل الجيد السابق في هذا الجانب، ثم اكتشاف الإضافة المطلوبة وكيفية تتميمها.
إن الدعوة إلى تقديم ذكر جزئيات الإسلام المهمة على غيرها بنظرة نسبية في كل قطاع ولكل جمهرة ليس بالأمر المبتدع، فإن لنا موعظة في تدرج نزول القرآن، وقد قسم الشرع الأعمال إلى درجات، فمنها فرائض وواجبات، ومنها مندوبات ومباحات، تتنازل في أهميتها، وهناك لمم وفسوق وبدع وكبائر وكفر، وكان رسول الله صص يجيب بأجوبة مختلفة عن السؤال الواحد تبعا للنقص الذي يراه في كل سائل ولمدى حاجته، فوصف الجهاد بأنه أفضل العمل مرة، ووصف بر الوالدين بالأفضلية في مرة أخرى، حتى ليحسب المتسرع ذلك تناقضًا، وما هو كذلك، بل يجيب بما يناسب حاجة السائل.
(القاعدة الرابعة): تكثيف ذكر المبررات الواقعية لوجوب العمل الجماعي.
فالملاحظ أن أكثر يركزون على ذكر الأدلة الشرعية لوجوب العمل الجماعي دون تحليل طبائع الصراع السياسي الحالي ودور العوامل التنظيمية في إنجاح مساعي أعداء الإسلام، وهذا نقص يقلل قناعة المدعو ويفتر جانب التحدي فيه.
ولا نشك في أهمية ذكر الأدلة الشرعية، لتعين على تأسيس النية التعبدية العقائدية للممارسة الجماعية في نفس المدعو، لكن العنصر الجديد لا يفقه في كثير من الأحيان هذه المعاني الشرعية، ولا يقوم في قلبه تبجيلها كما يبجلها القديم المتوغل، بينما تفرض المبررات الواقعية نفسها عليه بقوة.
إن على الداعية أن يثير انتباه المدعو إلى طبيعة الصراع الدائر بين الخير والشر، والإسلام وأعدائه، وكيف أن هذا الشر لا يعمل فرديا وإنما بانتماء حزبي وحكومي، ويدخل الداعية في جولة طويلة من ذكر معالم التاريخ السياسي الحديث والقوى المتواجدة في الساحة، ليخلص إلى ضرورة مقابلة ذلك بعمل جماعي إسلامي مكافئ يوازي قوة الهدم.
إن المدعو قد لا ينتبه ذاتيا إلى حقائق الحياة السياسية والفكرية، ويكون بحاجة ماسة إلى أن ننبهه، فكثير من الجامعيين مثلا لا يفطنون إلى التنسيق الكامن خلف كلام الأساتذة اليساريين في الجامعة، ويظنون أنهم يتكلمون كأفراد باجتهاداتهم الخاصة، أو يظن آخرون أن الصحافة تتكلم وفق طبائع المحررين، ولا يفطن إلى دور السياسية الدولية والاستخبارات والحكومات والأحزاب في توجيهها وشراء ذمم أصحابها.
إن إعانة الشاب على أن يمسك بيده هذه الحجج والحقائق وجعله يتلمسها قد يفيده أكثر من البراهين الدالة على الندب الشرعي للعمل الجماعي، وكأننا بحاجة إلى كتاب خاص يستطرد في شرح ظاهرة الجماعية في التاريخ السياسي والواقع الحالي، ليكون عونا على تفهيم المدعو، مثلما هو عون للمدعو على ممارسة التفكير التحليلي المتأني إذا كانت له خلوات مع هذا الكتاب.
(القاعدة الخامسة): الأخذ من كل مدعو حسب طاقته، والعطاء له حسب حاجته.
وهذا التعبير الاشتراكي هو الأوفى لإيجاز هذه الطريقة التربوية، وهم يذكرونها في استيفاء طاقة العمل المهني والتعويض عنها بما يكفي حاجات المعيشة، وإنما استعرناها استعارة مجازية.
فنحن نستطيع التعامل مع المدعوين وفق هذه القاعدة، وأن نطبق النسبية في الإعطاء لهم والأخذ منهم.
فالذين ندعوهم هم عناصر متباينة في أمزجتها وأخلاقها وخلفياتها الفكرية، ويندر أن نجد المجموعة الكبيرة المتشابهة، بل لكل منهم أو لكل اثنين أو ثلاثة طبائع خاصة أو متقاربة.
فأول معاملتنا لهم: أن نستفيد من كل مدعو حسب طاقته ونوعها، ولا يجوز أن ننظر إلى الحماسة وقابلية الانتظام والطاعة كشروط أساسية فيه، فإن هناك من هو أقل مشاركة من الآخرين، ولكن الداعية الذي يتصل به يدرك بحاسة سادسة، أن هذا العنصر ستكون له أهمية استثنائية في المستقبل، لعلم سياسي جيد، أو لكتابة صحفية، أو لنيته الدراسة العالية ونيل الدكتوراه واقتداره على ذلك وعودته أستاذًا في الجامعة أو خبيرًا في أجهزة الحكومة، أو لكونه ابن شخصية كبيرة في المجتمع والدولة، وأنه سيفيد الدعوة من خلال مركز أبيه، أو لثروة سيرثها ويجعل منها للدعوة نصيبا، وأمثال ذلك.
إن انتهاء الاتصال إلى جلوس المدعو أمامك عضوا في التنظيم هي الصورة المثلي للنجاح، ولكن دونها درجات من النجاح أيضًا، وقد لا يكون المدعو صالحا للانتظام، لكن حسن التعامل معه ودوام الصلة به تمكننا من تحصيل فوائد جانبية منه، وربما كانت هذه الفوائد ضخمة وتعدل عمل عشرات المنتظمين.
ثم لكل حسب حاجته، فإن نقصهم متعدد الأشكال، بحسب ما خضعوا له من تربية سبقت صلتهم بنا، والفروق بين المدعوين واضحة.
من ذلك أن تجد شابا جامعيا كان بعض أساتذته في المدرسة الثانوية من دعاة الإسلام أو أهل الستر، فنشأ صافيًا، وآخر كان بعض أساتذته ملاحدة فلقنوه الشبهات الكثيرة التي شابت معدنه الحسن.
وشاب يصلي قد ربها أبواه على أخلاق فاضلة، فسكنت نفسه وآخر لم يعرف الصلاة، سليل أبوين غافلين، ولكن التحديات السياسية والعاطفة الإسلامية العامة تدفعه إلى التقرب منا.
وشاب بين أبويه خلاف، وراسب في دراسته، فهو معقد.
وصاحب غريزة جنسية قوية، يعيش في قلق واضطرب نفسي بسببها.
وعاصمي، جمع أياه صباه بين الدراسة ومعاونة صاحب صنعة من أجل العيش، فهو همام متحرك، على النقيض ممن ينعم برفاهية، قد دلله أبواه ولا يعلم أنهما ردا له طلبا.
فحاجة كل واحد من هؤلاء تختلف عن حاجة الآخر، ونعاملهم بمعاملة متعددة الوجوه.
وقد نلحظ بعض الدعاة يجهلون احتمال استمرار بعض صفات المراهقة لدى الطالب الجامعي الذي يدعونه، ويحلونه في محل أكبر مما يحتمله واقعه الحقيقي، وذلك خطأ، فإن بعض طلبة الجامعات نجد عندهم ما نجد من تعنت طالب المرحلة الثانوية، وتفرده بالرأي، وحب الاستقلال، وانتقاض رأيه بين آونة وأخرى، والتفلت من الأوامر، وعينا مراعاته، وأول هذه المراعاة: أن نجعل هذه الطباع متوقعة منه غير مستغربة، وأن نعتبرها نتيجة ظاهرة نفسية عند عموم الشباب لا تستحق أن نصف صاحبها بعدم الصلاحية من أجلها، ونترقب اليوم الذي يكتمل فيه رشده.
كما أن الجامعي قد يتأثر بالنظرة العرفية القديمة التي تضع الجامعيين في مكانة عالية، فينظر إلى نفسه على أنه مشارك في الأفكار والسياسة، ويحس بأنه أرقى من بقية الناس، ويأخذه كبر وغرور، خاصة في البلاد الفقيرة التي لا يزال التعليم الجامعي فيها ضيقا، وفي هذه الحالة علينا أن نوسع صدرنا قليلا، وننتظر رجوعه إلى التواضع، فإن ذلك من الآثار الوقتية الطارئة لهزات المراهقة فيه أكثر مما هو من العيوب الأصيلة الدائمة.
(القاعدة السادسة): إرجاء معركة المدعو مع أهله.
ذلك أن بعض العناصر المدعوة يكون عندها مقدار زائد من الحماسة يشجعهم على قطف الثمار بسرعة، فيسرعون الإنكار على أب مقترض بربا أو شارب للخمر، ويأمرون نساء بيوتهم بالحجاب ويلزمونهن ترك المعاصي التي درجن عليها واستسهلنها، فيكون الرفض، وتستعر معركة مبكرة متعبة مع الأهل تفقدهم السكينة اللازمة لمرحلة التربية الابتدائية، مع أنها قد تكسبهم الصلابة والعزم.
يجب أن يفهم الشاب بأننا ندرك عدم مسئوليته عن أمه وأخواته بوجود أبيه، وأن معاصيهن لا تعيبه عندنا ولا تثلم مكانته، مثلما نفهمه أنهن ضحية تربية اجتماعية خاطئة وأعراف منحرفة أكثر من كونهن رافضات بتصميم، وأن علاقته بأمه السافرة لا تقتضي أن يقف موقف سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه مع أمه، إذ لا كفر ثم، وإنما هي الغفلة ومواطأة الناس، أو أنها تمنعه عن نشاط وانتماء جماعي وليست تزين له التحول عن التوحيد.
وهناك احتمال فهم المدعو للأوامر الشرعية بشيء من التطرف، فيأمرهم بأوامر زائدة عن الحد الشرعي المطلوب، متزمتا، دون أن يفقه الموازنة بين المصالح، والتدرج، وأساليب الحكمة والموعظة الحسنة، فهو لا يتسامح، ولا يؤجل، ولا يقبل عذرا، ويقطع الجسور مع أهله بسرعة، وقع في مأزق يسبب له القلق، وعلينا أن نعظه في هذه الأحوال، ونرده إلى الاعتدال، فإن أهله لا يدرون أسباب تحوله الحركي، ولا يفقهون معاني الانتماء الفكري الجديد الذي انتساب له، وإنما يظنونه في فورة، وفي مرحلة من اضطراب المراهقة، ولا يلحظون صفته كمصلح آمر بالمعروف، ومن هنا فإن ترفقه معهم قد يتيح لهم تصحيح مفهومهم عنه، فتكون الاستجابة الهادئة التي لا يقف دونها العناد.
لسنا نجنح بذلك إلى لين وترخص يأباهما ويمنع عنهما الورع، ولكننا نحث على اتباع أسلوب مناسب، وتأجيل معركة ينهزم فيها الشاب المسلم الجديد إذا دخلها في وقت مبكر.
(القاعدة السابعة): الحرص على تعادل أوقات النشاط العام مع اللبث في المساجد.
وفحوى هذه القاعدة: تحبيب أجواء المسجد للمدعو، فإن بعض قطاعات الدعوة تشهد إسرافا في الفعاليات الرياضية الجماعية وأوجه النشاط العامة، ولا بد من إقامة توازن في تردد المدعو على المسجد وعلى هذه الفعاليات، لما تتيحه خلوة المسجد من مجال التفكر وتلاوة القرآن، وسبب ذلك أن مجتمع اليوم هائج مضطرب مائج، وهذا الاضطراب قد أصاب الشباب بذهول صرفهم عن التفكر حتى في بديهيات الحياة، ف كثرة مشاركتهم في الفعاليات معنا قد تولد فيهم ولاء لنا وتحزبا، وانخلاعا عن اللهو، وتربيهم على محبة المؤمنين، ولكن أحدهم قد يبقى غير ملتفت للتفكر، ولا للإنصات إلى نداء فطرته، فنكون قد أخرجناه من اضطراب اجتماعي شديد إلى وضع أحسن، فيه الطمأنينة، ولكنها تقليدية ليست ذات انبعاث ذاتي، كمن يخضع لعلاج طبيب دونما وعي صحي منه، وإذا طالت مدته على هذا النحو: استحال إلى عنصر فاقد للمقدرة على تسيير نفسه، ويحتاج تحريكا تربويا دائما، حتى يشيب على ذلك، مقلدًا، مفتقدًا التفكير القيادي الذاتي.
إننا بحاجة إلى استغلال كل الطاقة الإسلامية المتواجدة في المجتمع، وهي طاقة واسعة يستحيل تنظيمها كلها، ولكن يمكن أن نقودها، فإذا نشأ عضو التنظيم نشأة تقليدية لا تمكنه من قيادة غيره فإن بعض هذه الطاقة سيهدر ونحرم منه.
إن ما تسببه كثافة مشاركة المدعو في أوجه النشاط معنا من ولاء لنا يشكل مصلحة دون شك، ولكن حيازة الفكر القيادي يشكل مصلحة مستقبلية تساويها، ولابد من رعاية المصلحتين معًا.
علينا أن ندعه يخلو في المسجد مع فطرته، ليكتشف خطأ تصرفاته السابقة وخطأ أفكاره، وما من الله عليه من الهداية.
لا نقول له: تعال وفكر، هكذا في عملية ميكانيكية جافة، ولكن التفكير والتأمل وتوارد الخواطر الرحمانية والنظر إلى يوميات الحياة بعين البصيرة سيكون نتيجة طبيعية لخلوته مع نفسه وبعده عن الاضطراب، ولو كانت الخلوة ي غير المسجد آمنة لأقررناها، ولكن شاء الله أن يجعل البركة في بيوته ويخصها بخصائص تنفرد بها.
بإمكاننا أن نعلمه هذه الخلوة لساعة أو لبضع ساعات متفرقة خلال اليوم، تقل وتزيد، ونختار لها الأوقات التي لا تتعارض مع النشاط العام، لا بطلب وأوامر، بل بتشويق عملي من خلال صحبتنا له قبل أداء الفروض وبعدها، وتلاوة القرآن أمامه، وكأننا اليوم لا نتقن ذلك، ونرجح اللقاء الجماعي معه في الأندية والملاعب ومجالس النقاش، وليس في هذا الترجيح عيب، ولكن اعتماد أسلوبنا عليه فقط هو المعيب، حتى بتنا لا ندخل المسجد إلا قبيل الإقامة، ونسرع الخروج منه بعيد السلام.
كلا، بل علينا أن نوازن ولا نجعل اللبث في المساجد ضامرًا، فإن خريج المسجد غالبا ما يكون عاقلا رزنا مترويا، ذائقا لثمرات الإيمان، ذاتي الاندفاع، ليس بالمطيع فقط، ولكنه المبتكر، ولا السائر بحركة مسيرة أصحابه فحسب، ولكنه المتقدم الحادي.
كأننا أيها الإخوة نلمس تكبرا على المسجد عند بعض جدد المصلين المثقفين والجامعيين، يدخلونه وقت الفرض فقط، ويأنسون بالمجالس خارجه، وربما كانت هذه الظاهرة ناتجة عن الدعاية العرفية التي تعلي مكانة الجامعة في تطوير المجتمع، فتأخذ طالبها وخريجها نشوة جاهلية تختلط بصلاته، ومن اللائق أن نرده إلى قيمته الحقيقية، وأن ندله على طريق البداية الإيمانية الذي لا بد وأن يمر بالمسجد طويلا.
إن العيش في المجتمع العام، والتفاعل مع أحداثه، قد يستهلكان المخزون الإيماني الذي يملكه المدعو، فيقف عطاؤه عند حد ويفلس، وعلاج ذلك: أن نجعل له موردا دائما تتكفل به حياة المسجد، وما فيها من سكون وصفاء نفس، ورحمة متنزلة وإلهام.
وقد يعترض البعض على جلب المدعو إلى المسجد واستلاله من مشاركاته في حيثيات الحياة السياسية اليومية للجامعة وقطاعات العمل، ويحتج المعترض بأن مشاركة المدعو في الأحداث إنما تنطلق من واقع وتمارس طبيعي، وما هي بالتكلفة.
وما نظن هذه الحجة واردة، فإن نقدنا منصب على حقيقتها، إذ أن الأعمال اليومية التي ينشغل المدعو بها، كالانتخابات الطلابية والرحلات وأمثالها، إنما هي وسيلة لا غاية، ولا يرتقي فهم المدعو لطبيعتها إلى درجة فهمنا، وقد ينغمس فيها انغماسا كاملا لا يبقى له وقتا لتربية نفسه على معاني الإيمان فيتربى سياسيًا وعمليا دون أن يكافئ ذلك جانب من العمل الفقهي، والرسوخ الخلق، والتطوع العبادي، وهذه الحالة تتيح لك الانتفاخ منه وقتيا وتعدم عليك الانتفاع منه في المستقبل، إذ سينشأ جافًا، تعوزه رقة القلب، وفي هذا ما يسوغ لك أن تضحي ببعض مصالح الجماعة في النشاط العام والتنافس مع الأحزاب من أجل درء هذه السلبيات التربوية.
(القاعدة الثامنة): تخفيف رغبة المدعو في الاستكثار من الكتب الإسلامية.
فبعض الدعاة ما إن يلمسوا استجابة أولية من المدعو إلا ويستغلونها في أخذه إلى مكتبة تبيع الكتب الإسلامية، ويشجعونه على كثرة الشراء، فيكتال جزافا بمقدار سعته المالية، ويحوز الكثير مما لا يناسب مرحلته الأولية، ويجد نفسه أمام أنواع من إغراء العناوين والأغلفة وأسماء المؤلفين، حتى يحار في تلمس طريق البداية ومعرفة الراجح والمهم، وينتهي بأشتات من جزئيات العلم لا يجمعها تجانس، ,ربما كان في بعضها من تضاد الاجتهاد ما يزيد حيرته.
وسبب ذلك كامن في سعة المكتبة الإسلامية، إذ يمدها أضخم إنتاج فكري، تراث ومحدث، وزادت الرغبة التجارية كمية ما يطرحه الناشرون لما عرفوا حقيقة الطلب المتنامي للكتاب الإسلامي، وحال كهذه يصبح فيها من الخطأ أن ندعو المدعو أمامها وجها لوجه تثير فضوله ونهمه، بل الأحرى أن نتأنى في اصطحابه إلى المكتبات، ونعوضه ببرنامج متدرج للمطالعة نذكر له فيه من الكتب والرسائل الصغيرة ما هو ضروري له، وأليق بمستواه، مع شرح نعلمه فيه سبب هذه الاختيارات، وهذه بديهية من بديهيات التعليم والتربية بدأ الدعاة ينسونها بسبب فورة النشر الكثيف، ولها من التأثير السلبي في الخاصة ما لتأثير التلفزيون في العامة من إلهائه عن المطالعة المنهجية.
(القاعدة التاسعة): حمل المدعو على التأني في أداء دوره كداعية.
في شبه منع أو حجر عليه، لأشهر بعد بداية مرافقته لنا، أو لسنة، فإن الحماسة قد تستبد ببعض المدعوين، فينزلون إلى الميدان، ويمارسون التبشير ودعوة الآخرين ومجادلة المخالفين وهم ما زالوا جددًا، عراة عن الخبرة وعن وعي مثل هذه القواعد في فنون التجميع، فيقعون في الخطأ، ويحيص الذي يدعونه وكانوا يأملون فيه الخير حيصة يتفلت معها، فتفضل تجربتهم، فتهزهم الصدمة، ويفتأون في يأس من الشباب لا يتشجعون معه على استئناف التجربة.
كلا، بل الصواب أن يعتكف المدعو معنا اشهرًا متعلما متلقيا، يخفي إيمانه، ويحبس طاقته، ويكل إلى مربيه أمر توقيت أوان الأذان بالصداع والأمر والنهي متى ما آنس منه المقدرة، خوفا من أن يقع في خطأ عند الاختيار، أو أن يحار جوابا إذا اعترضه المقابل بشبهات.
كطالب الطب، قد يتعلم التطبيب قبل تخرجه، لكنه ممنوع عن مباشرة التشخيص ووصف الدواء. حذرا أن يقع في الخطأ، ليس فقط يميت به المريض، بل يجفله هو إذا تخرج عن معاودة التشخيص أيضًا.
وكطالب الهندسة، ممنوع هو عن تصميم عمارة، لا حفاظا على أموال الناس فحسب، بل لأنه سيصير –إذا انهارت- تقليديا محضا في تصميماته الأخرى، ليضمن السلامة، جبانا عن الإبداع، أشبه بعامل ذكي غير مهندس يتيح له طول تنفيذه لخوارط المهندسين أن يحاكيها.
فكذلك المدعو الذي يصاحبنا: نمنعه لنحفظ له روحه الوثابة وثقته بنفسه، ولنبعد عنه اليأس.
لا تستغرب ذلك، فإن الدعاة يحفظون قصصا تصدق هذا التوقع، بل شهدت أوائل الستينات يأس رئيس جمعية إسلامية كان يعتني بتجميع الشباب بشرط متساهل ويتركونه بعد حين، فدعا إلى التجرد للعبادة انتظارًا للساعة التي رأي بعض علاماتها، حتى جزم أنه في آخر الزمان، ورد الدعاة عليه فهمه السلبي، في قصة مشهورة بلبنان.
إلا أن صرف المدعو عن مباشرة التبشير لا يمنع أن نجعله جسرا إلى بعض أقاربه وجيرانه وأبناء مدرسته، فنطلب منه أن يقيم معهم علاقة متينة ثم يعرفنا بهم ويحملهم على الوثوق بنا لنتولى نحن التحدث لهم وتربيتهم لا هو.
إن تواجد بعض الضعفاء السلبيين في صفوفنا إنما جاء نتيجة لاختيار خاطئ متكرر مارسه الجدد، وكانت الجماعة تضطر لإدامة الصلة بمن اختاروه حتى باتوا عبئا على المربين.
(القاعدة العاشرة): إحصاء بقية الخير في المجتمع من خلال خلوات استفزاز الذاكرة.
فإن العناصر الصالحة في المجتمع كثيرة، ولكننا ننسى أسماءها وصورها، للذي نحن فيه من زحمة الأحداث، والمظنون أن الإحصاء الدقيق لها وتسجيلها في قوائم يضمن نوعا من الصلة بها تساعد على الاستفادة منها وحشد طاقاتها لتنفيذ أهدافنا، ولا يجوز الاعتماد على المجرد على من نراهم حولنا فقط، أو من تأتي بهم الصدق إلينا.
والطريق إلى ذلك قد يبدو فيه بعض التكلف لأول وهلة، لكنه مجرب بنجاح، أو هو من التكلف الذي لا يضر.
وبدايته أن يقوم الدعاة في كل منطقة، في يوم واحد أو أيام متقاربة بالخلوة الفردية التي لا يخرج فيها أحدهم إلا إلى أداء الفروض، ويحبس نفسه في مكان منعزل هادئ ساكن ساعات طويلة يحاول فيها أن ينتزع ذهنه من الشواغل اليومية، ويفرغه للتذكر والإجابة عن مائة سؤال.
يسأل نفسه أولا عما إذا كان أحد من أبناء أعمامه وأخواله وأهله وأنسبائه يصلح لأن تتجه له جهوده لتقريبه من مفاهيم الدعوة وضمه إلى الجماعة، ويغمض عينه ويستعرضهم فردًا فردًا مدة ربع ساعة، فسينتهي إلى تسجيل ثلاثة أسماء منهم مثلا، هم طليعة قائمته.
ثم يعيش ربع ساعة أخرى مستعرضا أفراد عشيرته، ثم ربعا آخر لجيرانه، فيستخرج أربعة أسماء تضاف للأولى.
ثم يحاول أن يسترجع ذاكرته عن أصدقاء طفولته الذين ربما ابتعد بعضهم عنه، ويمر بخاطره سريعا على زملائه في المدرسة الثانوية، فيعود من جولته الذهنية هذه بثلاثة أسماء أخرى.
ثم يخصص خمس دقائق لتذكر الذين هم على هذه الصفة ممن هم في منطقة سكنية واحدة من بلدته، وينتقل إلى منطقة أخرى وثالثة ورابعة، حتى يستوفي استعراضها كلها، وقد تصل إلى عشرين أو ثلاثين منطقة، فيكون قد مسح مدينته التي يقيم بها مسحا شاملا، ومر بذهنه عليها شارعا شارعًا، ليعود بعشرة أسماء جاهزة لأن تنجدنا في صراعنا إذا تمت تربيتها.
وينتقل إلى استعراض مدن قطره على نفس الطريقة ليعود بثلاثة أسماء أخرى، ويعرج على عمال كل مصنع كبير أو نقابة، ويجرد عمال الموانئ وسكك الحديد والمصالح الكبيرة.
ثم يسأل نفسه عمن يعرفهم من طلاب كليات الجامعة، ويخصص ربع ساعة لتذكر أصحابه في كل كلية، حتى يجرد الجامعة أو الجامعات التي في بلده جردًا، ثم يجرد المدارس الثانوية، وطلاب البعثات الذين رحلوا للدراسة في الخارج، ليكتشف عشرة أسماء تغري بصحبتها.
ثم يجعل له التفافا يتذكر به معارفه الصالحين، أو آباء معارفه من موظفي كل وزارة وديوان حكومي، ويمنح ربع ساعة لكل منها، ليعود بسبعة، يتضاعفون إن جرد معارفه من أهل الخير في الجيش والشرطة.
ثم يسأل نفسه عن المعادن الطيبة من أهل كل صنف ومهنة، فيستعرض الأطباء، والمهندسين، والمحامين، والتجار، والفنانين، وغيرهم، وربما راجع من أجل ذلك القوائم التي تحصى أسماءهم والتي تصدر نقاباتهم المهنية وجمعياتهم، ثم يتصفح دليل الهاتف ليكتشف أسماء أخرى.
وهكذا سيقفل آيبا تائبا حامدًا شاكرا بعد عشرين ساعة من الخلوة التي استفز فيها بواطن ذاكرته وقديم خواطره ومعه قائمة قد سجل فيها ستين شخصا أو يزيد، وقد كانت الأسئلة ومجالات التفكير متعددة متكررة ليتذكر البعض بصفة ثانية أو ثالثة لهم إن نسيهم بصفتهم الأولى، فقد ينسى واحدًا من سكان منطقة معينة إذا استعرضها بذهنه، لكنه يعود ليكتشفه عند استعراضه طلاب كلية الطب مثلا إن كان من طلابها.
ماذا سيفعل بهذه القائمة الواسعة؟
يبقيها عنده للتدقيق والمراجعة أسبوعًا، وسيكتشف أنه قد تسرع في ذكر عشرة منهم، فيحذفهم، ثم يحذف عشرة آخرين من بعد ما ييأس من معرفة عناوينهم أو إيجاد طريقة للاتصال بهم، تتقلص القائمة إلى أربعين.
يعود فيوزع هؤلاء إلى ثلاث طبقات:
خمسة عشر منهم هم أجود معارفه، فيضع خطة لإحياء اتصاله بهم، ويشرع في زيارتهم في الأفراح والأعياد، ومواساتهم عند الأحزان، ويلتزم بإيصال نشريات الجماعة لهم، وتنبيههم إلى مواعيد المحاضرات، ويدعوهم لولائمه، ويجعل أكثر اهتمامه منصبا عليهم بصورة عامة.
ثم عشرة طبقة متوسطة، يحرص عليهم بمقدار أقل، أو هم في مدن أخرى أو طلاب بعثات، فيكون اتصاله بهم بالمراسلة.
ثم خمسة عشر ضعاف، لا ينقطع عنهم، وينتظر منهم أن يعينوا الدعوة بأبنائهم إن كبروا، أو بأموالهم إن أيسروا، أو على الأقل يحفظهم كأصوات انتخابية مضمونة، أو يجعلهم جسرا يعبر عليه إلى معارفهم.
وبعرض خلاصة القائمة على رؤساء التنظيم، وبالمباشرة الفعلية لخطته في الاتصال سيكتشف أن بعضا منهم يتصل بهم غيره من الدعاة، وأنهم أولى بهم وأقدر على جلبهم، فيتركهم بالاتفاق مع هؤلاء الدعاة، ثم سيخذله البعض ممن سيتصل بهم ويجد الأيام قد بدلت معرفته القديمة بهم، فيشطبهم، وهكذا تتقلص قائمته ثانية إلى خمسة وعشرين فقط أو أقل.
إن أعضاء التنظيم لو التزموا بمثل هذه الخلوات، في عملية جماعية يشرف عليها المسؤولون، لاستطعنا اكتشاف أكثر عناصر الخير في المجتمع واستقطبناها، ولتضاعف عدد أنصارنا ومحبينا أكثر من عشرة أضعاف تفتح لنا باب الثقة والأمل واسعًا، أم الاعتماد على الذاكرة المشغولة فإنه يفوت علينا عددًا كبيرًا نتركهم بلا اتصال، فتكون الأحزاب الأخرى أسبق لهم منا.
وما لم تكن هناك مخاطر وحكمة إرهابية فإن من الأفضل أن تنظم هذه العملية بسجل مركزي في كل مدينة يؤتمن عليه أحد ثقات الدعوة، أو يتم تجزئ ذكر أخيار كل مدينة كبيرة إلى عدد من السجلات، بحيث تدون جميع القوائم والعناوين وخلاصات الأحوال والنتائج في هذا السجل، لكل اسم كارت خاص، ليكتشف التكرار، ولتتسير للمسؤولين محاسبة الدعاة على ما التزموا به، وليكون الإحصاء مؤشرا من المؤشرات التي تعين القيادة على تحديد بعض بعض الخطوات التخطيطية، ولربما تمت الاستعانة بكمبيوتر صغير لا يتجاوز ثمنه في أوروبا اليوم ثمن سيارة صغيرة.
هو الله الهادي
أما بعد:
فما هذه إلا قواعد عامة في فنون التجميع والتربية اللازمة للمدعو في الأيام الأولى من سيره معنا، وأما ترجمة هذه القواعد إلى طريقة تعامل بالنسبة إلى كل عنصر فهي من اختصاص الدعاة، يتفرسون في المدعو، ثم يضعون خطة إقناعه وتربيته.
وإنما تؤخذ بالحسنى والفهم الوسط، لا بتطرف، فإذا تعارضت قاعدتان: كان الترجيح بينهما بمقتضى العقل، ورؤية ما هو أصلح له، ولكن الغالب أن يكون المدعو محتاجًا إلى أن نعامله وفق جميع هذه القواعد أو أكثرها في آن واحد.
إن عمليات التجميع التي تلتزم هذه القواعد وفقه الاصطفاء لهى عمليات مباركة وفيرة الإنتاج بإذن الله.
وذلك مقدار ما يجب علينا من اتخاذ الأسباب، وأما الهداية فمن الله، وعليه التكلان، ويجدر بنا أن نتوقع تساقط البعض أثناء المسير، لئلا نيأس إذا حصل هذا التساقط ونجفل ونصدم، وعلى الداعية أن لا يلوم نفسه إن رأى رجوع مدعو على عقبيه وهربه بعد التعب معه، فإن من الناس من حكم الله عليه بالضلالة، لذنب اقترفه أو لأمر آخر نجهل حكمة الله فيه، ولئن رجع المدعو ناكصا فإن داعيته يرجع بالأجر مليئا.
فاغرس غرسك أيها الموفق، واغرس، تجد لثمره إذ أينع لذة ليست مثل معشارها لذة الأموال والترف، على أنك لست المؤلف، ولكن الله ألف بينهم.
([1]) كتاب العلل ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل 1/364.
([2]) إحياء علوم الدين 4/355.
([3]) للأمير في مجلة (المسلمون) السنة الأولى/ العدد التاسع.
([4]) معالم فيا لطريق/119.
فقه الاصطفاء
لقد علمنا التأسيس العزم، لكنه ألزمنا بمجهود جبار.
ولقد استرسلنا مع انسياب الانفتاح، لكنه ألقى على عواتقنا حملا ثقيلا.
نعم، هو واجب صعب يلقيه الإقرار بصواب هذه الخواطر على كواهل مجموع الدعاة، ولربما يرى فيها مرتاد الراحة نوع خيالات ساحت مجانا في آفاق التمني، وتلك نظرة نظرة نقد كان يمكن قبولها لو كان يسندها بذل وافر للجهود والأوقات والأموال من لدن الدعاة، ولكن أيام بعضنا قد انطبعت بإثيار السلامة، والبخل عند العطاء، ولم نعرف نجاحا في الصراع السياسي، والفكري، لا يمر بطريق الإرهاق، والكرم، وطول السهر، وإتلاف الصحة، ونسيان حقوق النفس..!
فإن كان كلامنا تجاوزات قلم، وأحلام راغب، فهي في ساعات يقظة، وفي إطار حسابات منطقية، ولذلك لم يكن لينبغي لمن ينتحل هذه الخطط ويحلم في اليقظة أن يسترسل في أحلام المنام.
ويومها، يوم بعثت الخلافة الراشدة جيوشها الصغيرة لتهدم بناء أكبر الجاهليات، جاهليات الفرس والروم والقبط، في شبه خروج عن مفاد القياس الحسابي عند من لا يعرف أثر الإيمان: أوجب عمر الفاروق رضي الله عنه على نفسه أن لا ينام، حذرًا من أن تشتبه الظنون بعزماته فيحسبها الجاهل شطحات راقد، وحين وصل معاوية بن خلدين المدينة ظهرا مبشرًا أمير المؤمنين بفتح الإسكندرية مال إلى المسجد ظانا أن عمر في قيلولة، فأرسل إليه عمر، فقال له:
(وماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟
قال: قلت إن أمير المؤمنين قائل:
قال: بئس ما قلت، أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟)([1]).
وهي كذلك والله. فأني للداعية كثرة النوم والراحة؟
إن نام أو استراح بالنهار: ضيع أنصار دعوته ومحبيه والناشئة التي تكفل بتربيتها.
وإن نام آخر الليل: ضيع نفسه.
كلا، إن الداعية بمجرد قبوله هداية الله وانخراط في الصف فقد اختار التعب، وطلق الراحة والدعة واللهو المباح.
ولذلك لما قيل لأحد السلف: (ما الذي ينقض العزم؟ قال: طول الآمال، وحب الراحات..)([2]).
واستلفت نظر ابن القيم قوم وفقهم الله تعالى، فشغلهم بالجد، و(فرغ قلوبهم مما ملأ قلوب غيرهم من محبة الدنيا، والهم، والحزن على فوتها، والغم من خوف ذهابها، فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون)([3]).
الرامي.. قبل السهم
بيد أن مفتاح الأمر كامن الآن، كما هو في القديم، في وجود العنصر البشري الذي يجسد الأفكار، وانتصار الإسلام لا بد أن تكون بدايته حملة تجميع وتربية لعدد من المؤمنين، يتجردون، ويتبنون قضايا الأمة، ويضغطون، ويتبعون قيادة تختار لهم الوسائل، وتوزعها عليهم، وتخطط لهم ساحة الصراع، وتنقلهم إليها، وتوقت لهم ساعة اللقاء، وتسبقهم إليها، وأما فنون التخصص فعناصر ثانوية رغم أهميتها.
من هنا فإن أي استدراك جدي يجب أن ينطلق أولا من هذه الحقيقة، بأن يسعى إلى المرور بأفراد المجتمع يجردهم جردًا، وانتقاء من تؤيد الفراسة مقدرته على المشاركة في هذا الاستدراك، واصطفاء الأخيار.
وذلك دأب سالف لعلماء الإسلام، كثر ذكره عن الأجيال الأولى منهم، ولم يلتذوا بالانزواء إلا في عصر الانحطاط، فساعدوا على أن يبالغ هذا الانحطاط في جثمته.
ففي الرهط القديم: ذكروا المحدث الثقة عبد الله بن عون، وكان يقول إنما أحبه من نفسه: إقباله عليها، ولهوه عن الناس إلا من الخير، ولكن وصفوه مع ذلك بأنه كان شديد الاختلاط بالناس([4]).
فهو بائن عنهم إذ هم في تنافسهم الدنيوي، كائن معهم يصلح ويوجه، ولم يكن ليبتغي تغييرا باختلاطه هذا كما نبغي، إذ كانت عزة الإسلام مكينة، ولكن ليحفظ بهم هذه العزة، أو ليأخذوا على يد ظالم.
وطريقة عبد القادر الكيلاني في العصر الأوسط أصرح، وأجرأ، وأقرب إلى التجانس مع الواقع، فإنه يعتبر من يقع في النفاق ضحايا، وإن على المصلح أن يخالطهم وينتشلهم كمخالطته معادن الصلاح، في عملية صعبة عليه، ولكنها ضرورية، يقول رحمه الله:
(أشد الأشياء على من عرف الله عز وجل: النطق مع الخلق والقعود معهم، ولهذا يكون ألف عارف والمتكلم فيهم واحد، إلا أنه يحتاج إلى قوة الأنبياء عليهم السلام، وكيف لا يحتاج إلى قوتهم وهو يريد أن يقعد بين أجناس الخلق، يخالط من يعقل ومن لا يعقل، يقعد مع منافق ومؤمن، فهو على مقاساة عظيمة، صابر على ما يكرهه، ومع ذلك فهو محفوظ فيما هو فيه، معان عليه، لأنه ممتثل لأمر الحق عز وجل في كلامه مع الخلق، لم يتكلم بنفسه وهواه واختياره وإرادته، وإنما أجبر على الكلام، فلا جرم يحفظ فيه)([5]).
وسيرته في إصلاح أهل العراق أبلغ في الإبانة عن طريقته من قوله هذا، وكان له دور سياسي في إسناد الوزير ابن هبيرة الدوري ضد شرذمة شهوانية ضعف أمامها الخليفة، وكان لهذا الوزير فقه وصلاح.
وهي هكذا مهمة الداعية المسلم اليوم: يخالط، ويسل، ويربي، وينظم، ويقود. فكان لابد أن نصحبه في مهمته هذه، نتعرف على الموازين التي تحكم خطته في التجميع.
ذهب ويورانيوم
إن (الانتقاء) هو الميزان الأهم الذي يحكم عملية التجميع، ويتمثل في جودة الاختيار للعنصر الذي ندعوه، فإن إتقان هذا الانتفاء يوفر الكثير من المتاعب، ويجنبنا أكثر المشاكل التي نعاني منها.
وطريق ذلك أن ينظر داعية الإسلام نظرة تميزية إلى من يتواجد حوله من الأفراد الذين يمكن أن يستجيبوا له إذا دعاهم، فيقسمهم إلى طبقات، وتكون الطبقة الأولى نمهم: أهل الشجاعة، والذكاء، وقوة الشخصية، والبعد عن الرياء والجدل، وممن تتوفر فيهم الأمانة وجودة النسب العائلي، وأوصاف أخري مثل هذه تؤهل الواحد منهم لأن يكون مؤثرا في غيره لو صار داعية. ثم طبقة أقل حيازة لهذه المحاسن، ثم طبقة لا تصلح، من عناصر أقعدها الجبن وفتور الذكاء وضعف الشخصية، ولا يمكن أن ينتصبوا دعاة مهما بذلنا لهم من تربية.
فاهتمام الداعية يجب أن ينصب على الطبقة الأولى في جميع مراحل المسار، عند التأسيس وبعده، ولكنه يشرع في مرحلة الانفتاح بالاهتمام بالطبقة الوسطي إذا ظن أنه قد استقطب الطبقة الممتازة، وإما طبقة الضعاف فيبقيها في دائرة خارج التنظيم، ويكون تماسه بها في المرحلة الأخيرة، وليس قبل ذلك.
هذا التقسيم إنما هو بالنسبة للصالحين، ممن لهم استعداد للالتزام الإسلامي، وأما الذين ليس لهم مثل هذا الاستعداد، ويتيهون في ظلمات الإلحاد أو غبش الشبهات، فإن من البداهة بعدنا عنهم، لكننا نتكلم عمن فيهم بوادر الاستجابة، باعتبار أن اختيار للطبقة العالية منهم يجعل عملية التربية أسهل، وبهذا الاختيار نضمن سلامة المجموعة القيادية التي سيرتكز عليها ثقل الخطة، إذ أن اقتصارنا أثناء التأسيس على تجميع أفراد الطبقة الأولى فقط من شأنه أن يجعل المراكز القيادية موزعة عليهم كنتيجة طبيعية تلقائية، ويجب أن يكون عددهم بالمقدار الذي يكفي قيادة المرحلة الأخيرة، وليس مجرد قيادة عملية التأسيس فحسب.
إننا إذا أردنا أن ندرأ الفتن داخل الجماعة فعلينا الإقلال من قبول العناصر الضعيفة ابتداء.
أفلاك عديدة
ليست هناك أي مخالفة للأدب الشرعي إذا لجأنا إلى هذا الانتقاء وامتنعنا عن قبول الجبناء أو قليلي الذكاء، ولا ترد هنا قصة عبس وتولى، وسبب ذلك أن عملنا شبيه بعمل قائد يبني جيشا، ولا يشبه عمل طبيب يعالج المرضى، فالقائد لا يصطحب إلا كل شجاع ذكي، لأن طبيعة المعارك تقتضي ذلك، ولا يناقض هذا المعني وصية تقدم بها رجل صالح إلى الإمام البنا يشبه فيها الدعوة بأنها مستشفي، فإن الدعوة هي كذلك فعلا، تعالج الناس بقربها منهم، دون الالتزام بإدخالهم صفها.
لسنا ندعي أننا الأمة الإسلامية وأن من هو خارج تنظيمنا ليس بمسلم حتى يجفل البعض إذا رأوا الانتقاء، وإنما نحن جماعة من الأمة الإسلامية انتدبنا أنفسنا لحمايتها وتذكيرها ورعاية قضاياها والسعي لحكمها بالقرآن، ولا نأخذ معنا إلا من يصلح لهذه المهمة الدقيقة الشاملة، مع بذل الحل للآخرين من المسلمين الذين تقصر قابلياتهم في نظرنا عن حمل الأعباء معنا بإجادة وإتقان، ولا نمتنع عن تكافل معهم وتساعد، ولكن من خارج التنظيم، وبعد مرحلة التأسيس الحرجة.
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يختار أشد الصحابة رضي الله عنهم للصعاب، ويولي أمثال خالد الحروب، ويدني أمثال أبي بكر وعمر وزراء، ويعجبه ذكاء وجمال دحية الكلبي فيبعثه سفيرا إلى هرقل، ولم يك مناديًا على أول من يمر به ليقوم بتلك المهام، وكان الثقل يرتكز على جماعة من فقهاء الصحابة وشجعانهم وفصحائهم دون كثير من المستضعفين السذج، مع أنهم شركاء في الإيمان، كما اخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، وإيمانهم الواحد لم يمنع اختلاف الطبائع، وفي الوقت الذي كان فيه دحية يتأنق: كان خالد يمد يده ليأكل الضب.
وأما تجارب الحركة الإسلامية المعاصرة، ففيها الكثير مما يدعو إلى إعادة النظر في طبيعة التجميع الذي مارسته بلا انتقاء، إذ استجاب بعض منتسبيها إلى إغراء معروض تلوثت به سمعة الجماعة وفزع آخرون من إرهاب مفروض ففضحت أسرار عزيزة.
نعم، يمكن كسر هذه القاعدة، إذا كان الضعيف ذا صفة أخرى تؤهله لخدمة الجماعة في باب لا يتاح دخوله لكثيرين، كشاعر لا يعرف بمزيد شجاعة ينصر ببلاغته حجج الفقهاء، ويتغنى بمعاني الحماسة إذا اقتحم رهط الشجعان، أو ساذج غني يجود بماله إذا اندفع لتنفيذ الخطط الوعاة، لكن هذه المعان نادرة، ولا تنثلم القاعدة بحرصنا على مثلهم، إذ لم تشهد ساحة الفصاحة من غير المقاتلين غير حسان واحدة يؤيده الله بروح القدس.
إنما التنظيم لأهل الشمول
ومن متممات هذا الانتقاء أن نحرص على تناسق صفات الذين ننظمهم أيام التأسيس مع المنحى الشمولي الذي عرفت به دعوتنا، وهذا يقتضي أنن بتعد عن خمسة:
- نبتعد عن سالك مسالك الجمعيات الخيرية فحسب، الذي يضيق ذرعا بخط الجماعة السياسي، ويقلص سعة آفاق العمل، ويحصرها في بناء مسجد ورعاية مريض، ويعزف عن توجيه الجهود نحو مقاومة أحزاب الباطل وحكام الجور، ويصرفها إلى جوانب مفيدة، لكنها ثانوية، وتستهلك طاقة كبيرة تكون ثمنا لإنتاج ضئيل لا يوازيها.
- ونبتعد عن العنيف الحربي، المستسهل إراقة الدماء، المتأثر بأساليب الأحزاب وجرأة المغامرين، الذي يريد الوصول السريع ويعتبر العمل التربوي والصراع الفكري تعويقا وجهدًا مهدرًا، وليس له تمييز بين التهور وخط الجماعة التغييرى المتدرج.
- ونبتعد عن الباحث الفقهي المجرد، الذي يقصر دور المسلم على البحث والتدوين وجمع الكتب، دون سيرة عملية في التعليم وإرشاد العامة، ويرى كل جهد غير البحث نقصا، ويتصور الدعوة مجمعا فقهيا.
- ونبتعد عن متعبد في خلوة، مبتدع في العقيدة والسلوك، الذي ينهج منهج التفلسف، ويهجر طريق السنة المأثورة، ولا يقف عند النص الصحيح.
- ونبتعد عمن يتغاضى عن قضايا الأمة الكبيرة، ويدع منازعة الفجرة من الحاكمين والمردة من الحزبين، ويترك توجيه الموعظة إلى تاركي الصلاة، ويحكر جهده ووقته وفنه للاعتراض على الدعاة ورواد المساجد إذا تركوا بعض آداب السنة جهلا أو تقليدًا للمذاهب، ويطبع علاقته بهم بنوع من التوتر والعبوس، ويطيل معهم الجدل.
ليس لهؤلاء الخمسة محل في تنظيمنا، وإنما هو التعامل معهم من خارج، وبلا التزام، ما لم يسبب هذا التعامل ضررًا.
إننا لا ننكر الخير الذي يذهب إليه بعضهم، إنما ننكر فهمهم القاصر وبعدهم عن الشمول، ونخشى أن يحرفوا الدعوة عن شمولها إذا عملوا في داخلها.
إن خطتنا تشيع الفقه، وتربي بالتعبد، وتحث على التمسك بآداب السنة وتتناول بعض العمل الخيري، وتعتمد القوة، ولكن بمقدار الحاجة، أو بمقدار ما نملك من طاقة، في توازن وتدرج، وبحكمة وموعظة حسنة، وفي جو من التآخي والتحاب.
الآثار السلبية لمرحلة ما بين المرحلتين
ويحسن التنبيه إلى مشكلة تعد من سلبيات الفترة الأخيرة من مرحلة التأسيس، وتتمثل في صعوبة عملية انتقاء العنصر الجيد العالي الصفات إذا أراد الداعية ذلك، بل غالب من يستجيب له: عناصر يتضح فيها ضمور الاستعداد الفطري لأداء دور قيادي، وقلة الإبداع، ولهم طبيعة تميل إلى التعبد، أو المطالعة، أو مجالسة الأقران، دونما اقتدار على التجميع والتحدث للناس.
وهي ظاهرة تتكرر أيضًا في الحركات المكتملة المنتهية من مرحلة التأسيس إذا أجبرتها الظروف السياسية الصعبة على الصمت والتوارى، والانسحاب، والعمل الهادئ، الشيبة بمرحلة التأسيس.
بل إن فترة ما بين المرحلتين، هذه لها تأثير أبعد من مجرد قلة ورود العناصر الجيدة، فالملاحظ أنها توقف القدماء عند مستوى معين وصلوة ليس بعده تحسن واضح.
نعم، تلك طبيعة ما بين المرحلتين، حين تكاد الدعوة أن تنتهي من مرحلة التأسيس الموصوفة بالبعد عن السياسية والتجرد لإلحاح في التربية والتي لم تدخل بعد مرحلة الانفتاح السياسي الموصوفة بكثرة التفاعل مع الأحداث واتخاذ المواقف السياسية والفكرية المعلنة تجاه الحكومة والأحزاب، فهي بين بين، كأنها جيش أتم تدريبه ولا ينتظر عملا حربيا قريبا، يكون الانتظار مملا لأفراده.
فمرحلة التأسيس الأولى تملأ أفرادها همة، لأنهم يستشعرون أنهم يخوضون معركة حياة أو موت، فإما أن ينجحوا في التأسيس أو يفشلوا، ولذلك تكون حواسهم جميعا في أقصى درجات الاشتغال، وحماستهم في أحر لهم الاشتعال.
وأما مرحلة الانفتاح فتجبر أحداثها الدعاة على الانغماس في تيار العمل، ويفتح لهم باب شغل خير منتج كل يوم، وتجد القيادة مجال استغلال لطاقات كثير من المنتسبين الضعفاء الذين لم يكونوا يستطيعون القيام بجهد منتج خلال فترة التأسيس.
وهكذا تفتقد المجموعة أثناء فترة ما بين المراحل الهمة الذاتية التي يبعثها شعور التأسيس، مثلما تفتقد التحريك التلقائي الذي تندفع فيه بفعل يوميات الانفتاح وما فيه من تصارع سياسي وفكري وبذلك تنشأ حالة من الفراغ الذي تكسل فيه الحواس، وهي طبيعية في الأعمال الجماعية غير غربية، ولا ينبغي لليأس أن يتولد خلالها، ولا أن نكثر التخوف منها، لأنها وقتية.
والظن الراجح المؤيد ببعض التجارب أن الانتقال إلى مرحلة الانفتاح والمشاركة السياسية من بعد الهدوء، يكفل انتماء العناصر ذات الذكاء والشجاعة وقوة الشخصية، وإنما يبتعد هؤلاء عن الانتماء في مراحل العمل الهادئ لأنهم يجدونه لا يرضي تطلعاتهم، ولا يرونه ردًا مناسبا لحجم الخطر الداهم، إذ ليس لهم من الوعي الحركي والتجريب ما يقنعهم بضرورة المرحلية والانتظار الإيجابي الذي تلجأ له الجماعة لتكميل نقصها، ولا لهم حساب مصلحي يدلهم على صواب الانحناء للعاصفة القوية حتى تمر.
ولكل جيشه ساقة
ومع ذلك فإن هذا الحرص على العنصر العالي الصفات لا يصح أن يدعونا إلى الاستطراد في رد من يقبل علينا من العناصر الأقل كفاية، بل لا بأس من أن نحتويهم إذا انتهى التأسيس، ونحو لهم للمكوث في زوايا تنظيمية ثانوية، لا نطلب منهم مشاركة جادة، ولا نعول عليهم في شيء كبير، ونخصص لهم من يديرهم ممن ليس له دور مهم في تنفيذ الخطة.
إن أقرب التسميات اللائقة لهم أن يقال عنهم أنهم (الخزين التنظيمي)، فكما أن المعامل حين الكساد تحول إنتاجها إلى المخازن وتنتظر تحرك السوق وتحسن الأسعار، فكذلك التنظيم يخزن هؤلاء المؤمنين، ويدخرهم ليوم ينفعون فيه بدل تركهم للضعف والشيطان.
فمن منافعهم: اشتراكهم في توزيع النشريات الحركية، وقيامهم بأعمال الحراسة أو المراسلة، ومساهمتهم المالية، وتربيتهم أولادهم ليكونوا جنودًا في الحركة، ولياقتهم لأداء كثير من أعمال الإصلاح العام، وأقل منافعهم أن يكونوا هم وأهل بيتهم أصواتا انتخابية، وهذه منافع جمة تكاد تلغي الأساس المنطقي الذي قام عليه مبدأ الانتقاء، لولا ما يتكفل به هذا المبدأ من إتحاف الدعوة بعناصر ذات فوائد أكبر من هذه وأعلى، من الذين يصلحون لتنفيذ الأعمال الدقيقة التي بينتها الخطة.
ضرورة علم الأنساب
ومما يستحب للداعية، ويزيده مهارة في فقه الاصطفاء: أن يكون صاحب اطلاع مناسب على أنساب أهل قطره، ومدينته التي يعيش فيها بخاصة، بمطالعة الكتب ذات العناية بذلك، أو بسؤال من له معرفة ومخالطة للناس واسعة، فيعلم فروع القبائل والعشائر ومواطن إقامتها والمتصدرين فيها، من لم يزل في الأرياف منهم ومن نزج إلى المدن، ويلم بأصل البيوت المشهورة والعوائل الشريفة القديمة التي تعارف الناس على تقديمها، غنيها وفقيرها، وبذرية العلماء والأعيان من شهرتهم وظائفهم أو كتاباتهم أو شجاعتهم. وكلما توسع الداعية في نطاق هذه المعرفة كان أحسن له، حتى يتعدى قطره إلى معرفة أخبار وأنساب أهل الأقطار المجاورة أو المهمة، والتي لها تأثير قيادي في بقية الأمة.
ويسوغ لنا أن نجعل هذا الباب من المعرفة الاجتماعية ضرورة أبعد من كونها مستحبة فقط، فإن الداعية يستطيع أن يستثمر علمه بالأنساب وأحوال الرجال في أكثر من مجال مفيد.
منها: تأسيسه صلة المعرفة المباشرة بأشراف الناس وخيارهم، فإنهم معادن تحرص عليهم الدعوة، ومن يفقه منهم يصبح داعية مضاعف التأثير فيمن حوله، إذ ما من نبي إلا وبعث في أوسط قومه كما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي من أحسنهم وأشرفهم.
وقد قال عن نفسه -صلى الله عليه وسلم- "أنا خيار من خيار من خيار".
وكان أتباعه من المستضعفين، ولكنه كان يقول: "اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين"، وكان يريد مكانتهما كما يريد عقلهما.
وما ورد على لسان أبي سفيان وهرقل من الصدق في أن ضعفاء الناس اتبعوه دون شرفائهم لا يناقض هذا، فإنهم لا يعنون بصفة الشرف ما نعنيه، وإنما كانوا يصطلحون على تسمية جبابرة مكة والأغنياء بالشرفاء، وهو مثل قول الإمام البنا رحمه الله بضرورة إبعاد الدعوة عن هيمنة الكبراء والأعيان، فكبراء مصر وأعيانها هم في عرف المصريين: الباشوات ورؤوس الإقطاع الظالم، وأما الكبار حقا فهم كبار العلم، والأدب والأخلاق، ولو كانوا فقراء، وأما الأعيان حقا فأعيان البطولة، والمروءة والنسب العريق وإن أتعبهم الإملاق.
وللدعاة موعظة فيما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وقاله، تحدوهم إلى البدء بشباب البيوت العريقة، ثم إلى تقديمهم فيهم إذا فقهوا، من غير استكبار على شباب ينبغون من بين غمار الناس، وفي حذر من أن تقع الدعوة في هيمنة مصلحي.
ولم يكن شرط القرشية من جملة شروط الخلافة عند توفر الشروط الأخرى إلا لمكانة قريش بين العرب ووفور انقيادهم لها، ولا كان أخذ الأقوام الأخرى عن العرب وتقديمهم لهم إلا لشرف العرب في السبق إلى الإسلام وأنهم قوم النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن نرجو مزيد استماع من الناس لكلمة الإسلام إذا قام بتبليغها لهم اليوم أبناء الأشراف الذين ننجح في ضمهم إلى صفوفنا.
ومن استثمارات علم الأنساب: مضادة مساعي الحكومات الاشتراكية وحكومات العسكريين من محبي التسلط الذين يهيمنون عن طريق الانقلابات دونما ظهير شعبي، فإن هذه الحكومات، لقيامها على الظلم واحتياجها إلى الكبت: أخذت تعتمد سياسة موحدة في التغيير الاجتماعي الذي تظن أنه يضمن استمرارها، ومحور هذه السياسة: تقديم الغوغاء، والدهماء، وأبناء الأقليات والنصارى، وبقايا الفرق الباطنية، ومن لا خلاق لهم، فتحكر المناصب والوظائف المهمة ومراكز التأثير المالي والإعلامي عليهم، لما عندهم من استعداد لخدمة خطط الهدم.
وهذه سياسية قديمة، حتى أن قارئ التاريخ ليعجب كيف تتكرر الصور بحذافيرها، وينصت لواصف يصف ما حدث قبل ألف عام أو أكثر فيظنه يصف أحوالا يراها.
وقد حفظ لنا الأديب الثقة ابن قتيبة الدينوري في كتابه القيم (عيون الأخبار) تقرير لشاعر، كوته معاصي أهل بغداد، وإعراضهم عن الإسلام لما غرمهم المال أوائل القرن الثالث فأركسهم في الترف، ثم لذعة العقاب الرباني الذي أحاط ببغداد في صورة من انقلاب الموازين، وسطوة النكرات، وراح يندب بغداد...
يا بؤس بغداد دار مملــكة
- دارت على أهلهــا دوائرها
أمهلها الله ثم عاقبهــــا
- لما أحاطت بهــا كبائرهـا
رق بها الدين واستخف بذي
- الفضل وعز الرجال فاجرهـا
وصار رب الجيران فاسقهم
- وابتز أمن الدروب شاطـرها
وفي هذا الندب والتوجع إيماء جلي إلى طريق التوبة وإرشاد إلى أنه يبدأ بترك الكبائر ولزوم الصلاة والتقوى، ويمر بمعاضدة دعاة الإسلام، ليلتقي مع تمييز يكتسبه دعاة لإسلام لأنساب الأشراف وذوي الأصالة، يتطور إلى صلة ناجحة بالتائبين منهم لإكسابهم الوعي، إذ عندئذ فقط يكون الرجاء واسعًا في إحباط مساعي الشطار في ابتزاز أمن الدروب، ومنعهم من الوصول إلى السيطرة ابتداء، أو إحباط حكمهم إذا كانت الفرص وغفلة الصالحين قد خدمتهم بالأمس.
إن العدل والتعفف ميل فطري عند الأشراف حتى في المجتمعات الكافرة، ولهذا أباد لينين في روسيا كل شريف وأصيل وبيت عريق،مع أنهم ما كانوا جميعا في خدمة القيصر وظلمه، بل كان الكثير منهم ضده، ولكنهم أرادوها حرية سياسية موزونة دون دماء، وكانوا هم الذين خلعوا القيصر أول مرة، لكن معالجتهم الهادئة، لم تعجب لينين والحاقدين معه، وسماهم ( البرجوازية الوطنية) وحصر دورهم في الاستفادة منهم في المرحلة الأ,لى والوصول على ظهورهم، ثم إبادتهم باعتبارهم طبقة لها مصالح تنافي مصالح طبقة البروليتاريا، وابتداع اصطلاح (الثورة الشعبية)، الذي لا تجده اليوم مشروحا بكلمات واضحة، بل تعلم شرحه مما جرى من مجازر ومناكر، وهذا الأسلوب الدموي هو الذي تفسر به الإضافة (اللينينية) إلى مجرد (الماركسية)، وهو ما تسعى جاهدة بعض التيارات الداخلية القوية في الأحزاب الشيوعية في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا إلى نبذه، بعد اصطدامهم بأعراف الحرية الديمقراطية المتأصلة في أوروبا الغربية.
من مجالات استثمار الداعية لعمله بالأنساب وصلته بالأعيان: توفير الحماية الطبيعية له وللدعوة مما قد يتعرض له من أذى الحكومات، فإن بعض مجتمعاتنا لا زال فيها نفوذ لأشراف الناس، تهاب كلمتهم إذا استنكروا. والذي هو أكبر من ذلك أن تضم الدعوة في صفوفها من أبناء الأشراف كثيرين، فإن الحكومات تخشى ابتداء أن تمد يد الأذى لهم، للهزة الاجتماعية التي تقترن بمضايقاتها إن هي جازفت، مما يعطي للدعوة حماية طبيعية أصيلة تستغلها في مواقفها وأقوالها.
وكذلك فإن علم الأنساب يحمي الدعوة من خطر تغلغل الأعداء إلى تنظيمنا، وقصة تغلغل اليهودي كوهين إلى حزب البعث السوري ووصوله إلى المرتبة القيادية قصة ما تزال حية تعظ بدري بعد درس، إذ ادعى أنه من أبناء المهاجرين السوريين إلى أميركا الجنوبية، واستطاع بأمواله وموائده ولباقته أن يقيم علاقات قوية مع كثيرين من الحزبيين، حتى دفعوه إلى أعلى المراكز الحزبية.
ولذلك وجب على دعا الإسلام أن يتحققوا من هوية كل مقترب منهم غير معروف النسب، فيسألونه منذ مجالسهم الأولى معه عن اسمه الكامل ونسبه وأقاربه ومن يعرفه، مع التحقق مما يدعيه حذرًا من الاندساس.
نعم، قد يكون بعض أبناء الأشراف أكثر خطرًا، وقد تبعث بهم الأحزاب إلى صفنا، ولكن هذا الخطر لون آخر يوجب عليك الانتباه، وليس هناك ما يمنع أن تجمع له انتباها آخر يسد باب تغلغل من لا يعرف له أصل.
المنطق الواقعي والمداراة السياسية ينحتان مثاليات الأخوة
ومن القواعد المهمة في سياسية الدعوة التجميعية: مراعاة الطبيعة القومية في كل بلد، والحرص على بث الدعوة في الأكثرية، والحفاظ على رجحان عدد الدعاة منهم على عدد الدعاة الذين ينتسبون إلى الأقليات، وأن يكونوا هم الصدور.
وهذا المعني جد دقيق، ويصعب تفهيمه، وقد يسارع المستعجل إلى سوء ظن واتهام، لاختلاط ما نقصد بنعرات جاهلية قد توجد رواسبها في نفوس بعض المسلمين، ينسون معها معاني الأخوة الإسلامية الواجبة، ودعوتنا هذه دعوة إسلامية، الرابطة فيها رابطة العقيدة ليس غير، والتواضع سنة إيمانية، والتفاخر بالآباء موضوع عندنا منذ وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
ولكن تتعلق نظرتنا بسببين:
الأول: أن دعوتنا ليست مجرد مسجد عبادة، بل هي محاولة حكم وتأثير في الحياة, وحصول تجاوب الناس معها أمر ضروري لا غني لها عنه أبدًا، والمنطق يقتضي أن نخاطب الناس على مقدار عقولهم، وأن نقودهم برجال منهم، لا برجال أقلية يظنون أنها منافسة لهم، فيكون الفتور من الأكثرية في التجاوب مع الدعوة.
الثاني: أن الأقليات قد يختلط مقصدها الإسلامي فعلا بمقصد مصلحي، إذ أنهم لا يستطيعون تكلف مسايرة الدعوة القومية عند الأكثرية، ولا تستطيع الأقلية أيضًا التورط في دعوة لقوميتها، فيكون انتسابها الإسلامي هو منتفسها الطبيعي، وإذا كان طبيعيا فإن ذلك يعني أن من رجال الأقلية من يلتزم الإسلام عن قناعة وإخلاص وتجرد تام، وتذوب شخصيته في الشخصية الإسلامية تماما، وأن منهم من تبقى فيه رواسب وشوائب تحدوه إلى مواقف تقتضيها مصالح الأقلية التي ينتمي لها وإن خالفت المواقف المفترضة في المسلم الكامل، وإنما تخوفنا أن يكون شيء كهذا إذا كان سواد الدعاة الأعظم منهم.
وكلام ابن خلدون في مقدمته في شرح حكمة شرط القرشية في إمام المسلمين له وجاهة، ويمكن أن يقنع المتردد في قبول هذه القاعدة فهو يذهب إلى أن شرط القرشية ما كان إلا لعلو كعب قريش بين العرب وطاعتهم لها إذا حكمت، واستل من ذلك أن الأزمان المتأخرة التي ضعفت فيها مكانة قريش وتلاشت وحدتها لا يمكن أن يطاع فيها القرشي لمجرد كونه قرشيا، بل مصلحة الإسلام في استقرار حكم الحاكم الصالح تحدو إلى اختياره من بين رجال الأغلبية التي لها المكانة والسطوة، في كل بلد، ليطيعوه ويعضدوه.
فبمثل هذا المنطق نوجب قاعدتنا، وعنه نصدر، لا عن منطق قومي جاهلي، وإذا كان في بلد ما تعادل في التواجد القومي فإن المنطق نفسه يقضي بتعادل مثله في الانبثاث الحركي.
إن الأخوة الإسلامية أصل لا يكمل إيمان المسلم بدونه، ولكن من المهم أن نتذكر أن ذلك لا يقتضي معاملة الخليط القومي المتواجد في بلد ما من بلاد الإسلام اليوم معاملة تتجاهل نقصهم، فإن أكثرهم لا يطبق مقتضيات هذه الأخوة، وفيه نوازع ومشاعر وتطلعات تخالف آداب الإسلام، وإنما الإخوان حقا، والذين ينطبق عليهم هذا الأصل حقا هم الذين سموا وارتقوا إلى مستواه فعلا، ولم تبق فيهم بقية أو خلق جاهلي.
وقد يعترض معترض يقول بعدم الحاجة إلى ذكر مثل هذه القاعدة، لأن شيوع الدعوة في الأكثرية أمر طبيعي، وتدل بديهيات العقل كل داعية إلى مراعاته، وليس الأمر كما زعموا دائما، فإن الداعية ربما وجد فورة قومية عارمة عند الأكثرية تقلل عدد المستجيبين إليهم منهم، فيتوجه إلى الأقلية، فيجد ترحيبا، وتساعده الانعاكسات النفسية لفورة قومية الأكثرية في هذه الأقلية، فيستروح عمله السهل ونتاجه الوفير، وما يدري أنه لم يفعل شيئا كبيرًا.
ولكن إهدار الرابط القومي لا يبرر النيل من الشعوب والقوميات، وإثارة الحفاظ بذكر مثالب الغير، فإن بدعة جاهلية توازي بدعة التفاخر وادعاء احتكار المناقب، وتتضخم لتكون بدعة غليظة شديدة النكر إذا كان النيل من العرب، وكان القدماء يسمون ذلك شعوبية، وينزلون مقارفها عن منزلة التوثيق، فإن العرب معدن الإسم، ولبنته الأولى، ولهم السبق، وبهم كمال عزه، ومن بينهم بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وبلغتهم القرآن نزل.
الداعية العصري
ثم إن الحديث عن طبائع الذين ندعوهم يجرنا مرغمين إلى الحديث عن طبائع الدعاة وقول فقه الاصطفاء فيها.
وكأن أول ذلك أن نعترف بأن مستوى الكثير من دعاة الإسلام ما زال متخلفا عن المستوى اللائق للاشتغال بالسياسة، على عكس الكثير من الساسة الذين نخالفهم، فإنهم قد استطاعوا تدليس باطلهم، وتعميق تأثيراتهم بعديد من الميزات التي برعوا فيها من الثقافة العامة الواسعة، والمطالعات السياسية المكثفة، والدراسات الاقتصادية، والمقدرة على التعرف على الناس وجوب منتدياتهم، والإلمام بلغة أجنبية وتكميل اطلاعاتهم باستخدامها.
وقلة منا هم أولئك الذين ارتفعت مستوياتهم ارتفاعا عاليا يؤهلهم للنجاح في أبواب الدعوة العامة، كتحرير الصحف السياسية، وأداء مهمة النيابة البرلمانية، والخطابة، ورئاسة الهيئات الإدارية للجمعيات والنقابات والنوادي، أو عضويتها، أو ما هو أبعد من ذلك من القيام بالوظائف الحكومية الكبيرة، إذ قلة أولئك الذين يصلحون كرجال دولة يتحملون مسؤولية وزارة أو سفارة وما وازى ذلك إذا أردنا تكوين جهاز كامل لحكم أ, المشاركة فيها إن إخلاصنا فريد النوع، وتواضعنا نادر المثال، وأخوتنا عزيزة، وعبادتنا جميلة، ولكن النجاح السياسي أصعب من أن ينال بمجرد ذلك.
صحيح أن أكثر الدعاة يحملون علما جيدًا، لكنه العلم الإسلامي في معظمه، ونعما هو: رمز فخر وشرف، ودستور عمل، ودليل سير في دروب الحياة، ولكن تأثيره اليوم يظل محصورا ما لم تظاهره ثقافة عامة شاملة، وأساليب عصرية في تفهيمه باستعمال الدراسات المقارنة، ونقد الواقعا لحاضر، واتباع أساليب البحث الحديثة.
وصحيح أيضًا أن فينا أهل نشاط واتصال بالناس، ولكن الكثير منا ينعزلون في مجالس خاصة، ولا يبعدون عن دائرة رواد المساجد، ويستأنسون بطول اللبث يوميا في مجالس العوام، ونعما لبرهان هي على تواضع الداعية، لولا ما فيها من تعويد على الكسل وفتور الذهن، وما سببه الإسراف في التلذذ بها من هجر مجتمعات المثقفين، في نواديهم ونقاباتهم وجمعياتهم وسهراتهم المنزلية ولا بد من إقامة توازن وتوزيع أوقاتنا على أنواع المجالس.
بذاذة موهومة
وكذلك مظهر الداعية وملبسه، شريك في التأثير، وكثير من دعاة الإسلام يستهويهم أجر البذاذة الإيمانية التي يعتقدونها، فيخالفون عرف المثقفين في اللباس، ويهملون هندامهم، ويلبس لهم من تبرير مقنع، والناس اليوم يلزمها من رفق خطابنا لها ما كان يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- للوفود، فإنهم وإن كانوا اليوم مسلمين، إلا أن المعاني الإسلامية التي نتداولها معهم غريبة عليهم، وأوشك أن يصبح المعروف منكرًا، ولا بد أن نتجمل للناس في حدود المباح بما لا يخرجنا عن سمت التواضع، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتجمل للوفود([6])، باللباس الحسن الأنيق، والنظافة المبالغ فيها، ومس الطيب، ليألفونه، من غير تقليد للمسرفين، ولا جنوح إلى التشبه بالمتبطرين المبذرين، فإن التوسط ما زال هو الخير في كل الأمور، وربما كفته البدلة الواحدة لسنين.
وسيقول قائل: أين إذن ما نعهده من فضيلة ميزة البساطة في الداعية، وكيف نتقرب إلى العامل والفلاح إذا أقررنا الأناقة بندًا في صياغة الداعية؟
وللمعترض المستعجل حق في ذلك، ف إن هذه الوصايا تثير الالتباس، ولكن من يجمع كلامنا إلى بعضه، ويرى كل الذي كتبناه: يدرك أننا نسبقه إلى إنكار التكلف، وأننا إلى الزهد أقرب، وما ثم لدينا إلا رغبة في إبعاد الداعية عن إهمال مظهر نفسه، فإنك ربما رأيته لا يقص شعر رأسه حتى يطول، أو لا يحلق ذقنه لأيام إن لم يكن من أهل اللحى، أو يلبس القميص لأيام دون غسله، أو لا يغتسل هو أياما، وأما الملبس الغالي المتتبع لآخر مبتكرات الخياطة فنحن أسبق من كل سابق في النطق بكراهته وذمه.
إن البعض يري أن هذه الأمور من الصغائر التي لا تناسب التذكير القيادي، وهي في عرف الأوساط السياسية والفكرية كبائر.
هجرة الأحرار لا يعرقلها ناكص
وعلى كل، فإن التجربة التربوية لا ستبتعد أن تؤدي هذه المطالعات غير الإسلامية التي نحث عليها، ومجالس المثقفين، وهذا التجمل في المظهر، إلى تأثيرات سلبية عند بعض الدعاة، يحب معها الترف والقشور الدنيوية الزائفة، أو يتكبر على فقراء الدعاة، الذين لا يدري ثقل ميزانهم إلا الله تعالى، أو على غير أصحاب الشهادات الذين ربما فاق علمهم علمه، أو يأخذ يتنطع في فكره وتحليلاته، ويصير أشبه برائد صالونات سياسية متطلع للمناصب منه بداعية متجرد متواضع همام، إلا أن كثافة المواعظ الصريحة، وذكر الرقائق، والرقابة القيادية التي تشرف على تعادل الكلام والمنهاج والخطط، والتربية على ما يضاد هذه الأسواء: كل ذلك يجعل العاقبة أكثر سلامة، ومن سقط ولم تنفعه الرقابة والرقائق: كان سقوطه عندنا مصداقا لاحتمالات تساقط متوقعة في هذا الطريق، كأنها سنة من سنن العمل الجماعي، وليس أنفع لنا آنذاك من رؤية التكذيب الواقعي الحتمي لتدليسات المجازات الحماسية التي توهم قليل التجربة بأن كل من سار على الدرب وصل، كأن ليس في الناس الأعرج، والمريض، والراهب، والشهواني، وفاتر الهمة.
انتكاس الموازين لا يدوم
ومن أضر الأقيسة هنا: أن يقيس الداعية كلامنا هذا بما حوله من واقع الحزبيين والانقلابيين، فيجد ما أوجبنا غير واجب، إذ يرى نكرات الناس يحكمون، وكل جاهل ليس له عشر علم الداعية المسلم يتصدر، وكل مخالف لفطرة الجمال معني ومظهرًا يقول ويتفلسف ويجول.
وما هكذا تفهم الأمور، فإن الحقبة الأخيرة من التاريخ السياسي لبلادنا شاذة طائشة، ووجدت الطفولة الفكرية والسياسية لها من أكتاف الجمهور الساذج مصعد وصول، فصالت، والتطور الاجتماعي والمدني، والهدوء التأملي الذي سيخلف هذا القلق: كفيلان بنمو اتجاهين هما في صالح الحركة الإسلامية حتما:
اتجاه ندم الناس على ما كان منهم من خذل لدعاة الإسلام ونصر للحزبيين الذين أذاقوهم مر المتاعب، وربما مالوا لمحاولة وفاء وتعويض وإقبال على الإسلام.
واتجاه جاهلي آخر على النقيض يحاول تأصيل الفكر العلماني والنزعة الإلحادية، ولكن من خلال التربية والحوار والأساليب الحرة المشتقة من الديمقراطية الغربية لا من خلال الإرهاب، وهو اتجاه في صالح الحركة لإسلامية أيضًا، فإن الإسلام والجاهلية إذا تصارعا في جو من الحرية: كان الإسلام هو الغالب، لقوة الحجة، وموافقة الفطرة، وعند ذاك فيت لك المصارعة الحرة، ستبدو أهمية هذه الجوانب في صياغة شخصية الداعية المسلم، والتي أوجبناها آنفا، من الثقافة العامة، وأسلوب البحث الحديث، وإحداث تماس بالمثقفين، والتجمل لهم كما كان الأنبياء عليهم السلام يتجملون.
ولعلنا لا نغالي إذا صرحنا بأن افتقاد عناصرنا لهذه الجوانب الثلاث كان من أسباب الانحجاب عن الناس، وأنها عزلة نحن اخترناها أكثر مما هي عزلة طوقتنا بها حكومات الكفر والأحزاب.
إن مقصدنا واضح، والمعني الذي نذهب إليه صحيح، مع ما عند بعض الدعاة من الاستعداد الانحراف به إلى تفسير دنيوي يبررون به حالهم.
نريد للداعية أن يلبس المعتاد من لبس الناس، ليست ملابس متكبريهم المترفين، ولا ملابس البذاذة المتكلفة، ونقول له كما يقول الشاعر:
خل التأنـق في اللبــاس وسر على
- نهج الأفاضل في اختصار الملبس
والبس كمثل الناس لا تخرج عن المعـ
- ـتاد في شيء فتخطئ أو تســى
فهو لبس كمثل الناس ندعو إليه، ولسنا ندعو إلى تبخترع وخيلاء.
ونريد اختلاط الداعية بالمثقفين من الناس في مجالسهم وأنديتهم لكسبهم، ولا يصح أن يفترض أنه مثل بيضة وأنهم أحجار صلدة، يكسرونه ويهشمونه ويسلبونه إيمانه إذا اختلط بهم بل افتراض العكس أولى وأقرب للقياس، فإن المؤمن قوى الحجة، عزيز النفس، وهؤلاء يعيشون في فراغ روحي ليس غير الداعية يقدر على ملئه، وتضللهم شبهات، ليس غير الداعية يكشفها.
كيف بهن؟
والحقيقة أن اختلاط مجالس المثقفين بنسائهم هو السبب الأقوى الذي يمنعنا من ارتيادها، للحرج الشرعي في ذلك، إلا أن نلح في إنشاء عرف يكسر هذا الترخص ويرفع الحرج.
وإحالة النظر في المجتمع ترينا أن هناك عناصر كثيرة من خريجي الجامعات وأصحاب المراكز لهم مستويات جيدة في فهم الإسلام، ويحافظون على الصلاة، ويحبون لنا ما نحب، ويؤيدوننا بتحمس، لكنهم يكتمون مشاعرهم هذه لتورطهم في التزوج من سافرات، ولينهم الذي أكسب نساءهم حقا لا يتنازلن عنه في حضور مجالسهم مع زوارهم من أصدقائهم، وهم يخشون الظهور معنا أو ارتيادهم لمجتمعاتنا الخاصة حياء من أنفسهم إزاء ما ينكشف لنا من ضعف أمام نسائهم.
إن هذه الظاهرة ما تزال هي أعقد العقد التي تقلص ع مليتنا التجميعية في أوساط الكبار والمثقفين، ولا بد أن نأتمر لنجد لها حلا ولربما كان من الحلول أن نشهر في الناس شروط درجاتنا التنظيمية الابتدائية التي تقبل انضمام المسلم لنا كمتعاون ومؤيد ونصير وإن لم تكن زوجته محجبة، وبذلك نأمن عتاب الناس بفهمهم أنه مجرد متعاون وليس عضوا يقتدي به، كما يأمن هو لسان الدعاة، وتكون به جرأة على ارتياد مجالسهم، لعلمه بأنهم يرضون منه هذا التعاون وإن استمروا بإسداء النصح له، بالحكمة والموعظة الحسنة.
إحياء طبائع الصدق والإتقان
ونظن أن أهم من هذا وذاك في تحسين الكفاية التجميعية للداعية: أن يمهر بعض الدعاة في اختصاصاتهم المهنية مهارة تشهرهم بين الناس، من بين طبيب ومهندس ومحام، فيحتاجونهم فيخدمونهم من خلال اختصاصاتهم وأمانتهم وحرصهم على مصالحهم وصدقهم، وبذاك تزول الحجب بين الدعاة والناس، ويفهمهم الناس على أنهم النماذج المفقودة التي يكون بها صلاح الحياة، ويفتحون لهم قلوبهم، ويصغون لهم بأسماعهم، ولقد نجح العدو بالأمس في عزل الناس عنا بسيل ظالم كاذب من الإشاعات ولدت صدودهم، وما من طريقة أجدى وأسرع في إرجاع الثقة بيننا وبينهم من هذه الخدمة المهنية التي نقدمها لهم.
إننا لا نعني ربط الناس بنا مصلحيا بعيدًا عن معاني العقيدة، كلا، لكنهم يديرون وجوههم عنا، بتأثير ما تفتريه الأحزاب والصحف، ونريد التفاتهم نحونا بما نقدمه لهم من عمل مهني نظيف، فإن التفتوا: أوردنا الكلام العقائدي الفكري لهم.
إن هذه الحقيقة تدع الناس يفهمون مرغمين أن هناك من دعاة الإسلام (من لا عنوان لهم، وهم في تأدية الواجب ونفع الناس وإصلاح الأمة والجدوى على البشر أصلح وأعظم أثرا من أصحاب العناوين المدونة التي تذهب في الناس كدوى الطبل، والطبل أجوف)، كما يقول عبد الوهاب عزام رحمه الله([7]).
فهكذا دعاة الإسلام دوما، بإخلاصهم، ونفعهم: يبطلون مفعول سحر الحزبيين والجاهليين الذين نفحتهم الدعايات واختاروا لهم العناوين الكبيرة والألقاب الكاذبة.
ولذلك لبث عبد الوهاب عزام يوصي الداعية باستثمار هذه القابلية الكامنة في هذه الظاهرة الاجتماعية الحيوية، وطفق يذكر، ويذكر أنه:
(احذر أن يكون همك العناون، وقصدك الدوي والضوضاء، واجهد أن تعني بالفعل غير معني بالقول، وأن تطمح إلى الحقائق لا إلى الظواهر، وأن تحرص على أداء الواجب لا على الصيت، وأن تقصد وجه الله لا وجوه الناس.
كن كتابا مفيدًا وإن لم يكن له عنوان، ولا تكون كتابا كله عنوان وليس وراء العنوان شيء)([8]).
وإن سنن التواضع الإيماني ا لتي يحرص عليها الدعاة لا تدع لهم مجالا للزهد فيو عظ أنفسهم بمثل هذه المواعظ، مع أن أصل بنائهم قد ابتني على ذلك منذ وضعوا لبنته الأولى، ولكن الناس هم الذين يحتاجون هذا الميزان والتذكير في الحقيقة، ليتقنوا تمييز الرجال، فكم غرتهم العناوين وسلبت لبهم الظواهر، وما ينتهون.
([1]) كتاب الزهد للإمام أحمد/ 123.
([2]) تاريخ بغداد 4/12.
([3]) الفوائد /194.
([4]) طبقات ابن سعد 7/266.
([5]) الفتح الرباني/72.
([6]) فتح الباري 6/12، طبعة الحلبي، وأما المكروه فهو التجمل لهم بالحرير والحلة والسيراء.
([7]) الشوارد/70.
([8]) الشوارد/70.
مسالك التوغل
أوهام الجاهليين هي التي تجفلهم عن إسلامنا.
إنهم في حياة صاخبة مضطربة، ولذلك لا يهدأ بهم بال، ويحرمون سكينة كان يمكن لهم خلالها أن يقيسوا أمور الحياة وفق منطق بديهياتها.
إن الإسلام كله خير ومصالح، ولكنهم يجفلون عنه، ويرون فيه أشاء مضادة لمصالحهم، لأنهم ينظرون نظرًا شهوانيا قصيرًا من خلال حاجتهم اليومية وتلبية نداء الرغبات الجامحة.
وأكثر ما نرى من ذلك هو بسبب التشبه بالغرب، إذ الحياة الغربية تلفها غفلة لا تدع الإنسان يخلو مع نفسه ليفكر، بل هو دائما في مشاكل المعيشة وقلق الأفكار، وقد أغرقه الكتاب اليهود وأمثالهم في الجنس والتردي الأخلاقي الملهي، ولذلك تجد بعض البديهيات عندنا محجوبة عن الجاهليين الآخرين الذين يعيشون معنا، مع ما فيها من منطق قوة واضح.
يظنون أن كل قيد يؤدي إلى تعويق، وأحكام الإسلام محددة أبدية، فهي قيد إذن عندهم.
من هنا اختصر إقبال الطريق لهم، فوضعهم أمام محاجة عقلية ظاهرة، مسرعًا دون حاجة إلى مقدمات، فقال في أرجوزة أسرار الذات:
قد ســرى النجم يؤم المنـزلا
- طوع قانون له قد ذلـــلا
سخر الأفلاك في همتـــــه
- من ثوى في القيد من شرعته([1])
إنها إشارة رمزية يمثل إقبال الظاهرة النفسية خلالها بالظاهرة الكونية، فالإنسان في قيده هذا يحفظ علوه، كما حفظ النجم علوه واستمراريته وحركته الدائبة بقيود الجاذبيات.
فالجاذبية قيد، لكنه قيد تحريك وتحليق.
هكذا تماما أمر الإسلام، وتقييد الإنسان نفسه بالشريعة لا يحرمه شيئا من حريته، بل يضعه في أفلاك عالية لا يتصورها خيال الملحد والعلماني فضلا عن أن يديانيها.
ولكن الوهم يحرف ويدعو لصدود، ويحمل بعض الحكام – كما يقول ابن القيم- على: (الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة) حتى (قدموها على حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده) فقال بعضهم: (إذا تعارض العقل والنقل: قدمنا العقل)، وقال آخرون: (إذا تعارض الأثر والقياس: قدمنا القياس)، (وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع: قدمنا السياسية).
(فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه) وهكذا (استند كل قوم إلى ظلم وظلمات آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقاولاتهم الفاسدة وأهوائهم، وصار لأجلها الوحي عرضة لكل تحريف وتأويل، والدين وقفا على كل إفساد وتبديل)([2]).
وهذا شأن الإسلام المثلوم تحدث عنه ابن القيم، كإسلام المعتزلة وأصحاب الآراء، إذا حكموا، يأخذون أشياء ويتركون، متأولين بمقدار التعارض الذي يتوهمونه، فكيف بحكم ملحد معاند يدع كل ما هنالك؟
فمن أجل ذلك لم يقبل الله لإسلامه أن يقسم ويناله التجزيء والتبعيض، بل هو بتمامه يحكم أمور الناس، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُّنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ * وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ)([3]).
قال الخطيب الإسكافي، وهو من ثقات العلماء:
(فنهى الله تعالى عن اتباع أهوائهم في البعض مما أ،زل الله عز وجل إليه، وهو الذي ينكره الأحزاب، بما ثبت له من العلم بصحة هذا البعض الذي ينكرونه، كما ثبت له بباقية)([4]).
وتلك دفعة جديدة لدعاة الإسلام، تدفعهم للتوغل في مسالك النشاط والعمل المخطط، مضادة لهذه الأحزاب، في اقتراب حذر من الهدف الثابت، محسوبة سرعته، مهندسة أبعاده.
لقد أصبحت الأعمال الفردية التي يتحمس لها خيار المؤمنين غير كافية، ولا بد من تفكير جماعي وخطط جماعية، وتنفيذ جماعي.
ولقد نشرت الجماعة أشرعتها فانسابت متهادية في محيط العمل، وابتعدت عن الشاطئ الأول، حتى ما يكاد يرى، ويراد لها أن تتوغل بعيدًا.. بعيدًا.
إن الجماعة المتوغلة تنتظرها واجبات عديدة، وميادين نشاط جديدة، في غاية مرحلية علامتها: توسيع التجميع، وتنويع المصادر.
قال: ويأمرون بالصلاة والصدق والعفاف
- الواجب الأول: إصلاح المحيط.
فإن صلاح ونقاء المحيط الاجتماعي العام عامل مساعد للدعاة يعين على إيجاد سكينة لدى الناس يتأملون خلالها صواب منهجنا وينغرس الإنصاف في نفوسهم، فيرون محاسننا.
إن الدعاة أحيانًا تأخذهم فورة الحماسة السياسية، وتشغلهم الموازنات الفكرية وحسنا يفعلون، إلا أنهم لا يجمعون إلى ذلك أنواعا من الكتابات التي تشيع مبادئ الإسلام الأولية، من عقائد وعبادات وسلوك بين عامة الناس، ولا يخلطون بذلك إنبثاثا في مجالات النشاط الاجتماعي والأخلاقي من خلال الجمعيات والنوادي واستغلال بعض المرافق الحكومية التي لها مثل هذا الهدف، ,الملاحظ أن ظلم الحكومات يولد أحيانا ردة فعل عند بعض الدعاة تؤدي بهم إلى تطرف يرفضون معه أعمال الإصلاح.
وذلك خطأ، بل اللائق بنا أن نحرص على كل كلمة خير، وكل فعلة خير، فإن الكلمة الصغيرة والفعلة الهامشية لهما تأثير ترسبي ثقافي وأخلاقي ما يفتأ يكثر، حتى يزداد الراسب الإسلامي تدريجيًا، فيكون وعي الناس آنذاك لدقائق الفكرة أوفر، ويكون فهمهم لابعاد التحليلات التي نطرحها أعمق.
فافرض أن شخصا كان اقتناعه بالإسلام بمقدار 20% فقط، سيقرأ مقالا إسلاميا في جريدة فترتقي نسبة الخير فيه إلى 21%، ثم يسمع خطبة وعظية تعجبه ترفع النسبة إلى 25% ويقرأ كتابا إسلاميًا يجعل النسبة 30%، ثم تحدث مشكلة لابنه مثلا، فينصحه الناصحون بإدخاله مدرسة إسلامية يديرها الدعاة، فيصلحون له ابنه ويلمس أثر الجهد التربوي الذي بذلوه معه، فترتفع نسبة إسلامه إلى 50% دفعة واحدة، أو كانت زوجته تشاكسه، فتصلحها له جمعياتنا النسوية مثلا، ويظل هذا الراسب الإسلامي يزداد حتى يصير صالحا للانتظام مع أنك لم تتصل به مباشرة، ولم تجلس معه في لقاء ثنائي، بل كانت أعمالك سفراء عنك ووكلاء تنوب في إبلاغه مرادك.
إن الإصلاح عمل مهم وإن بدا بسيطًا، وما زال بعض الدعاة يختلف فيه، ويظنون أن واجب الدعوة هو تكوين الدعاة، ويعتبرون أي عمل لا يؤدي إلى انضمام الشخص للجماعة هو من نافلة العمل، وأن الدعوة لا تخاطب به، بل هو تبذير للجهود في غير محلها، فإما أن يكون من نعمل معه في الصف التنظيمي، وإلا فلا.
إنها طريقة منبثقة من غلو في طريقة التفكير، وهم لا يعرفون كيف تنشأ المعادن، ويظنون أن العمل الفردي يمكن على الدوام.
نعم، إذا وجد الاتصال الفردي بكثافة فقد لا تحتاج إلى الإصلاح العام كثيرًا، إذ تنوب عن ذلك جودة كلامك مع المدعو، وانتصابك قدوة له، ولكن تغطية كل المجتمع أو نصفه أو ربعه بمثل هذا الاتصال أمر صعب، وبالميزان الذي نراه اليوم من تحرك الشعوب يمكننا أن نجزم بأننا لا نستطيع التأثير على الشارع بواسطة الاتصال الفردي فقط، بل لا بد من تدرج، وأن لا نلتزم شرط كون الذي يضغط سياسيا جالسا في الصف معنا، بل حسبنا أننا نقود الطاقات، ونعوض عن الاتصال الفردي بإصلاح المحيط الذي حولنا.
هي خطة متنوعة، تتناول إيجاد كل عمل إسلامي مهما كان صغيرًا، وإجلاء جزئية جاهلية تقابله، ونفترض أن هذا المحيط جاهلي، ونقذفه بجزئيات إسلامية حتى يتشبع ويكتمل.
كمثل ظواهر الفيزياء، كيف أن العلماء يضعون اليورانيوم في الفرن الذري، حتى يتبدل ذرة بعد ذرة، ويكون عنصرا مشعًا قابلا للانفجار إذا بلغ الوزن الحرج المعروف عن أهل الفيزياء النووية. كذلك المحيط الذي حولنا، قد انحرف، ولا نقول أنه جاهلي مائة بالمائة، ولكن البقايا الإسلامية فيه ضامرة ومشتتة، فنريد أن نحل الجزئيات الإسلامية بالتدرج حتى يغدو بعضه على درجة من الإسلام جيدة بحيث لو أراد الضغط إلى الجزء الآخر استطاع دفعه وتكون الغلبة له، أو تركه يتضخم حتى ينفجر ثائرًا.
إن هذه الجزئيات الإسلامية إنما نتوصل لها بكل ما هو من الخير العام، فتحفيظك القرآن لفرد مثلا هو شعبة من ذلك، ولو لم يأت معك أو يبقى كارها لك، بأثر دعاية وشبهات مثارة، إذ ربما سيكون عيشه مع القرآن مدة طويلة متكفلا بفهمه لمواقفنا ولو بعد سنين، وبناؤنا لمسجد هو حفظ لأهل المنطقة التي نبنيه فيها، ولأولادهم، وجلب لمصلين جدد، بينما يتعرض الشاب المصلي لاحتمال ترك الصلاة إذا بقي يؤديها في بيته مدة طويلة إذا لم يجد المسجد القريب، وقس على هذين المثالين. هكذا...
كل خير وبهيــج وجميــل
- هو في بيدئنــا نعم الدليل
حسنه في القلب نور يسطــع
- تجد للآمـــال منه تطلـع
خلق الحسن نظيـر الأمـــل
- وأدام الحسن نور الأمـــل([5])
كل كلام بهيج وفعل صغير جميل، وإن لم يكن نقدا سياسيا أو مناقشة فكرية.
إن البديهيات الإسلامية الأولى محجوبة اليوم عن كثير من الناس، طمستها أجهزة الإعلام والتربية المدرسية، على تفاوت بين بلد وبلد، وحسن هذه البديهيات –كما يقول إقبال في هذه الأبيات إذا أشرق في القلوب هو الكفيل ببعث الأمل فيهم وغرس الثقة وإدامتها، وإنما يكون منطلقنا الأساسي في دعوتنا من بعث هذه الثقة في النفوس.
إن هذه المعاني الراقية التي تحكيها هذه الأبيات تدعونا إلى الحرص على كل خير، و على كل جمال يوافق الفطرة، وعلى كل فعلة صغيرة حسنة وإن لم يذكر أنها إسلامية، فاليوم يعيش الناس في بيداء وصحراء جاهلية فعلا، وقد تدل هذه الفعلة إلى الصواب إن موافقة الفطرة تحرك في النفس الأمل بعد التشاؤم، ولا ينبغي أن نظن إن إيجاد هذا الأمل عند الناس هو أمر سهل قياسيا على ما نجد عندنا نحن الدعاة الذين نعيش في رحاب أخوية وسكينة إيمانية، كلا، بل الناس يلفها قلق يدعوها للتشاؤم، وبدأ يشيع فيهم ما يشيع في المجتمع الغربي، وأخذوا بعض سمته، حتى لنجد بيوت بعض أشقائنا جحيما لا يطاق، وبيوتنا وادعة ساكنة.
إن هذا الاضطراب العام لا ينفيه غير الإحساس بالجمال، إذ أنه إذا أحس به: برقت له بارقة أمل يريد أن يصل إليها، فلا يجدد غير المسلمين يوصلونه إليها، فيكون معهم.
ليس هذا كلاما أدبيا أو خيالا رمزيًا، بل التجربة العملية ستعظك بمثله، وإنك ستتمكن من تسيير بعض النفوس معك بمجرد أن تنقلها من الاضطراب إلى السكينة، وهذا النقل هو أعقد عقدة نواجهها، وثق بأن المضطرب سيوازن بإنصاف وسيفهم المعايير الإسلامية بمجرد أن تسكن نفسه.
نحفظ العرق النابض
ولقد تسببت قلة الإحاطة بالحاجات المتكاملة لدعوتنا في غرس مفهوم خاطئ لدى بعض الشباب المتحمس، أخذ يتلقى معه الكتابات الإسلامية العامة بفتور ولا مبالاة، فهو لا يرى غير فقه الدعوة والأبواب السياسية والمقارنات الفكرية مادة حرية بالإشاعة والنشر، وينتقص البحوث التي تحاول تبسيط فقه العبادات والمعاملات أو التي تتناول كليات العقيدة.
ولم يصب هؤلاء، فإن الحاجة شاملة وكما أنهم ينتفعون بكتابات تمدهم بالوعي الحركي، وتعينيهم على محاورة أحزاب الباطل والنجاة من كيدهم، فإن آخرين من المبتدئين ينتفعون من التبسيط والعموميات، ويجهلون البديهيات، وما زال هناك جيل في الأمة أوسع من جيل الدعاة، حجبتهم مناهج التعليم والإعلام عن حقائق الإسلام الرئيسية وأولياته، وينفعهم كل إنتاج جديد في وصفها، ولربما هداهم الوعظ في المعاني الابتدائية التي تجاوزها الدعاة، فوق ما هنالك من حاجة لها في بلاد أوروبا وأمريكا وعموم المجتمعات غير الإسلامية، فإن موجة الإسلام تتصاعد فيها، ومن المحتمل أن تكثف نسبة المسلمين فيها حتى تكون تيارًا مؤثرا في السياسة والتخطيط الاجتماعي، وقصص الذين أسلموا تدل على أن بعض الكتابات المبسطة قامت بدور حاسم في نقلهم إلى رحاب الإيمان.
فمن هنا وجب على العمل الإسلامي أن يكون واسع الأفق، يساعد ويدخل في خططه نشر الكتب لجميع المستويات، ويفرح بما يصدر عن غير الدعاة من كتب التبسيط، لا يزدريها، بل يرحب أيضًا بما تنشره الإدارات الحكومية من ذلك ووزارات الأوقاف، فإن في كل كلمة خير نفع، ما لم يكن ثم تدليس وتحريف.
وقد تستشيط غضبا لتصرفات بعض المسلمين السائبين، ويحترق قلبك مما ترى من لينهم أو سذاجتهم في طريقة العمل، ولكن هذا الغضب يجب أن يكون من أسرار نفسك، وعليك أن لا تتجاوز بث مشاعرك لصحبك، وأما المصلحة فتقتضي أن ترحب بكل إضافة من قبل هؤلاء للمجهود الإسلامي العام، وتشكرهم وتشجعهم، ما لم تكن مواقفهم موجهة ضد صفك، أو يكون الحاكم قد وضعهم تحت إبطه، فإن الاحتياط عندئذ وارد، وكشف زورهم واجب.
ويدخل في ذلك أيضًا: تحفيظ القرآن، ونشر كراسات تحوى أحاديث صحيحة مختارة، وملخصات فقهية، ورعاية لجان النشاط الديني في المؤسسات والنوادي العامة، وتشجيع الوعاظ لتوسيع نطاق دروسهم، وإشاعة تسجيلات المحاضرات والدروس الإسلامية، وإنشاء المكتبات الإسلامية، مكتبات البيع أو المطالعة، والمساهمة في تحرير زوايا إسلامية في الصحف العامة، وتوفير نصوص مسرحيات وتمثيليات هادفة تستفيد منها الفرق الإذاعية والتلفزيونية، وتدريب فرق مسرحية من الشباب المسلم، إلى ألوان أخرى من النشاط ربما يكتشفها مزيد بحث الدعاة من خلال مؤتمر كالمؤتمرات التي تحدثنا عنها آنفا.
وربما يدخل في هذا النطاق أيضًا: تشجيع المجهود الحكومي العام في تقليل الشر وكبت الرذيلة، كنشاط شرط الآداب، وحملات مكافحة البغاء والخمور والمخدرات، ومطاردة عصابات الإجرام، والحزم تجاه الشباب المتميع.
ويدخل فيها أيضًا: تشجيع الكتاب والباحثين الذين يساهمون في تحقيق ونشر كتب التراث القديم، الإسلامية منها والأدبية، بأن نقترب منهم، ونبدي لهم الاحترام حتى ولو كانوا ضعفاء في الموازين الشرعية، ذلك أن لحملة نشر كتب التراث مساهمة أكيدة في حفظ ما بقي من مقومات شخصية الأمة الإسلامية والإقلال من تأثرها بالأفكار والآداب الأجنبية.
إذا حمي الوطيس استيقظت بقايا الهمم
قيد واحد يحد نشاط الدعاة في هذا الإصلاح الاجتماعي العام يتمثل في عدم الإسراف في رصد الجهود له بحيث تؤثر على أصل تربية الدعاة والعمل السياسي الحركي وتضعفه، بل يوجه لهذا الإصلاح الفائض من الجهود ونوعيات من العاملين لا تصلح إلا له، وربما كان بإمكان مجموعة الدعاة الماهرة أن توجه لهذا الإصلاح عناصر فاضلة من المسلمين الأخيار الذين لا يصلحون للانخراط في صفوف الدعوة، أو ممن يرفضون ذل كتخوفا وحذرا، ولعلهم يكونوا أمهر من شباب الدعوة في مثل هذه الأعمال، وبعض هؤلاء له همة الدعاة نفسها أو أعلى منها، ولكن تقدمهم في السن يبرر لهم عدم الانتظام، أو هم في مركز حكومي دقيق أو مكانة اجتماعية خاصة، فتفتيهم من خلال نظر مصلحي بأن يضيفوا خيرهم للمجهود الإسلامي وبذل خدمات معينة قيمة تصب في تيار الدعوة مع ما يعتريك من حذر من الاقتراب منهم، بسبب معصيتهم الأخلاقية أو كسلهم التعبدي، ويكثر ذلك في أيام الصراع مع الإلحاد السافر خاصة، والواجب على الدعاة أن يرحبوا بأعمال هؤلاء، وأن يوسعوا لهم الصدر، ويطيبوا لهم الكلام، لعلها تكون بداية توبة نصوح، وليس من اللازم استغلال مناسبة مشاركتهم لوعظهم بألفاظ صريحة جافة قد يعتبرونا إغلاظا لهم، فليفهم الحياء، ويمنعهم عن تكرار، بل الرفق معهم أفضل، فإنها هي جوارحهم فحسب تضعف أمام مغريات لافسوق، وما زالت حية فيهم القلوب.
وبنفس التبرير نجد مساغًا لإعادة التذكير بوجوب كسر طوق الصعوبة النسية التي تصدنا عن الترحيب بوعظ بعض الوعاظ الذين يؤذون الدعوة عن غير ما خيانة منهم وتبعية للحاكمين، بل عن قصور أو تقليد مذهبي أو حسد لبعض من معنا من أقرانهم، فإن نفوسنا تستكبر ما هم فيه، ولكننا مجبرون على مساعدتهم، لما في مشاركتهم من مساهمة في الإصلاح، إلا إذا رأينا منهم إلحاحًا في نقدنا والنيل منا أثناء دروسهم.
الحسابات الواقعية تنقض المثاليات العاطفية
إن هذا الكلام الذي نراه وإياك جميلا يعتبر سذاجة وأنصاف حلول وتمييعا للقضية عند بعض شباب الدعوة الذين يأخذون الإقدام بمجامع قلوبهم، فيتطرفون في الجد، ولربما رأوا هذا الإصلاح انحرافا عن خط الدعوة الأصيل القائم على تغيير المنكر.
ولقد صدق أحبابنا هؤلاء وأخطأوا في آن واحد، فإن تضييق معني الدعوة وحصره في هذا الجانب الإصلاحي العام يعتبر تخليا عن الصراع الفكري السياسي لدعوة مبتدؤها ومنتهاها الإسلام الذي يرتكز على الجهاد والنهي عن المنكر، ولربما تعتبر هذه الخطة الإصلاحية في البلدان ذات الحرية أو التي يحكمها ضعاف الحكام انهزامية تؤثر السلامة والدعة والطريق المريح ونكوبا عن مسيرة الاستدراك الحازم.
ولكن ما ضر الحزم الواعي والأهداف التغيرية أن يظاهرها إصلاح معين، وتهذيب أخلاقي ممهد، وافتعال لظروف مساعدة توجه لها الطاقات الثانوية والعناصر السائبة ورجال الإدارة الحكومية الذين تنبض فيهم عروق إيمانية؟
وفي البلدان ذات الحكم الإرهابي والبطش والتنكيل، ماذا يكون طريق مفتوح للعمل الإسلامي غير مثل هذا الإصلاح الذي يحفظ الأجواء الإسلامية باقية حية ليصار إلى استغلالها بعد مدة حين يزول الإرهاب أو تضعف قبضته؟
إن الطغاة لا يمكنها أن تلاحق كل هذه الجوانب من العمل الإسلامي العام، وإن تمنت ذلك واشتهته، فإن في ملاحقتها له زيادة نفرة الناس عنهم، وتعجيلا بعزلهم التام عن كل الشعب، ثم سقوطهم، وفي هذا ما يوجد أمام الدعاة فرص نشاط عام مهما تجبر ملاحدة الحكام.
وعلى ذلك فإن نسبية صواب الانغماس في أعمال الإصلاح واضحة، لشخص دون شخص، وفي ظرف دون ظرف، وفي بلد دون بلد، والعيب ليس في بذل مثل هذه المساعي القيادية في الإصلاح، بل العيب في الاقتصار عليها وترك ما يظاهرها من العمل التنظيمي الجاد والخطط التغييرية الحازمة.
ليس يثنيك عنها إلا ما يجب لتغيير المنكر من جهد تنظيمي ضابط وتربية حركية للدعاة، بإمكان الحاذق الجمع بين النشاطين ما لم تكن هناك خطة تدليس بالمظاهر الإسلامية من قبل حكومة ظالمة منحرفة مفرطة في حقوق شعبها تواجه معارضة فتلجأ إلى رفع شعار الإسلام مبتغية تطويق المعارضة، فهنا، في مثل هذه الحالة، ينبغي للداعية أن يكون على وعي، فيشارك في شيء ويمتنع عن أشياء، إذ يفترض في الدعوة أن تكون أسبق من كل معارضة أخرى إلى مقاومة الظلم والتفريط بحقوق الأمة، دون أن يعني ذلك ذوبانها في اتجاه المعارضة المتواجدة أو حتمية التحالف معها، لأنها غالبا ما تكون ردة فعل طائشة قريبة من الإلحاد والسلوك الفوضوي، وأشد ضررا على الإسلام من الحكم الظالم القائم، وإنما الطريق الصحيح: التميز في عمل إسلامي ينكر على الطرفين المنحرفين: أنظمة الحكم العرجاء، وردة الفعل الشوهاء.
صفاؤنا العقائدي يحدد أبعاد علاقتنا مع أهل البدع
ويقابل ذلك تمييز ثان يجب أن نعيه، يفرض علينا تحديد حجم حماستنا لتأييد التيارات الإسلامية الأخرى المشوبة بروح طائفية، وابتداع، فإن التعاطف المطلق مع مثل هذه التيارات يتعارض مع الأوليات العقائدية التي ابتني عليها وجودنا، فوق أن الشواهد المتعاقبة خلال التاريخ الإسلامي الطويل تحذرك من الثقة التامة بها، لكنها الثقة ذات الحد المتوسط، والتعاطف النسبي.
إن تخطيطنا يرتكز على مجموعة من الموازين العقائدية التي ينبغي أن لا يغفل عنها المخطط المسلم بتاتا، وأن لا يتوسع في التأويل عند إلجاء الضرورة له للأخذ بالرخص، ذلك أن العقيد الإسلامية غير قابلة للتعديل، وإنما هي عقيدة ربانية أنيط بنا التشرف بحملها ودعوة لناس إليها، ليس لنا التنازل عن شيء منها، وتجدر بنا الصلابة في الهر بها، والركون إلى العزيمة في قيادة الناس إلى رحاب معانيها.
إن تأييدنا إنما يكون لمن اقترب من هذه العقيدة الصحيحة التي كان عليها أهل السنة والجماعة وباينوا بها المبتدعة، وعدواتنا تكون لمن أنكرها وجحدها، وما بين الحمل والإنكار درجات من الاقتراب أو الابتعاد تتحدد وفقها أيضًا درجات المعاملة منا لهؤلاء الذين هم بين بين.
قد تختلف تسمية هذه الموازين، ولكن مفادها واضح في مجمل العقيدة وجزئياتها، وكل اعتقاد لا تشهد له آية أو حديث صحيح الإسناد فإنه يعتبر بدعة في الدين وزيادة مردودة.
ومما يروي عن الأستاذ المرشد حسن الهضيبي رحمه الله في معرض رده لبدعة الذين لا يشهدون بالإسلام لمن لا ينتمي إلى الجماعة أنه قال: إن البيعة قد انعقدت لي على أن أسير بالجماعة وفق ما توجبه عقيدة أهل السنة والجماعة، ولذلك فإننا نرفض بدعة هؤلاء تدينا واعتقادًا قبل أن نرفضهم تنظيميًا، أو قريبا من هذا القول. وهو قول صحيح وميزان أساسي من ميوازين الدعوة تؤكده العبارات التي في كتاب (دعاة لا قضاة) ويتبين منه أن للجماعة اختيارا عقائديا معينا تتبع فيه العقيدة المأثورة المعروفة بعقيدة أهل السنة والجماعة، وبموجب هذا الاختيار يمتنع علينا أن نعقد البيعة لمبتدع، أو نجعل حكمه كحكم أنفسنا، مع لزوم أمره بالمعروف، ونهيه عن بدعته، بالحسنى إن كانت بدعته يسيرة، وبالشدة إن كانت بدعته عظيمة، وإن كان يجب علينا من باب آخر: الإقرار له بالإسلام، ونصره على الكافر، وإعانته على من يظلمه وتفضيله على من هو أكثر ضررًا منه، ومدح أفعاله الحسنة وشكره عليها، فعلا فعلا، بتسمية وتمييز دون إطلاق، إضافة إلى ما يجب تنظيميا من تأسيس الصلة به، وزيارته وبأداء النصح له، والتعاون معه في المجالات التي لا خلاف فيها ما لم يتخذ هذه المعاونة ذريعة لنشر بدعته أو تكن هذه المعاونة سببا في رجحان قوته ومركزه على قوة ومركز أصحاب العقيدة الصحيحة، وإذا أدعى تخليه عن البدع التي صرح بها من قبل أو تدل القرائن على تلبسه بها: طالبناه بأن يعلن براءته منها جهارًا، كتابة إن كان كتب من قبل، أو قولا، إن كان فاه بها، أو أن يوجد قرائن معاكسة، ولا يكفي أبدًأ أن ينفي بلسانه في المجالس الثنائية ما خطته يده، إذ التوبة من المعصية تكون بما يناسبها.
إن عنصر الضعف في الاتجاه الطائفي هو في استناده إلى عقيدة كثفت فيها البدع العقائدية والسلوكية بلا إنكار عليها من العلماء المتصدين لقيادته، مع إحالة إلى غيبيات لا تبرر الإيمان بها آيات القرآن الكريم ولا الأحاديث الصحيحة.
ثم يتضح هذا الضعف مرة ثانية حين تجد الاتجاه الطائفي ينطلق دوما من رغبة في الثأر، وانصباغ بمشاعر حزن وآلام دفينة تترك طابعها على نفسية الطائفي، من تغليب للتشاؤم، دون التفاؤل، والانغلاق دون الانفتاح، وتحديد العلاقة مع الآخرين بناء على سوء الظن دون افتراض البراءة، بل وتحميل كل من ليس منهم وزر أخطاء ارتكبها معادوهم في صدر الإسلام أو في أحقاب قديمة، حتى أنهم ليصنفون الجمهور الأعظم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المرتدين، فما بالك بغيرهم؟
وتستغل الشعوبية هذا الاتجاه في بعض البلدان العربية المختلطة استغلالا كبيرا، وتركب موجته، وإنما ندرك ذلك بالمخالطة الاجتماعية ومراقبة المواقف، وإن لم تكن هناك وثائق مكتوبة، وذلك عنصر ثالث يوجب تقليل حماستك له، فإن الشعوبية ومعاداة العرب منكر شديد، والدارس للتاريخ الإسلامي عامة، ولمحنة الإمام أحمد خاصة، ولأيام صلاح الدين الأيوبيو، يفهم ذلك جيدًا، وفرق ما بين الأخوة الإسلامية مع من يؤاخيك فعلا، وبين آخر تعتمل في داخل نفسه معاني المنافسة، ويحكر المصالح التي يرتادها لبني طائفته فقط دون بقية المسلمين.
إن أغلب من يفرط في ثقته بهذا الاتجاه تعوزهم المعرفة التفصيلية به، عقائديا وتاريخيًا، ولذلك يسارعون إلى تصديق الكلام العام الذي يطرحه قادة هذا الاتجاه، والإنصاف يوجب على هؤلاء الواثقين مثل هذه الدراسة التفصيلية قبل جزمهم بصحة موقفهم منه، مع عدم التعويل على ني مستتر لهذه البدع لا يأخذ طريقه إلى كتبهم المنشورة وصحفهم وخطبهم.
ويخطئ أكبر الخطأ من يفسر كلامنا هذا على أنه دعوة للدخول في معارك مع الاتجاهات الطائفية أو لإهمال كل علاقة معهم، كلا، فإنهم مسلمون من أهل القبلة، والتعايش الاجتماعي معهم يفرض علينا حسن الخلق إزاءهم، وسبق أن أوضحنا ذلك عند وصف الانتقاء الذي يقي المصارع في (المنطلق) السليم، ولكننا ندعوهم إلى كلمة سواء بيننا وبينهم لا يبرر لقاء السياسات أحيانا سكوتنا عها: ألا يعتقدوا ببدع، ولا يضعفوا ثقة، ولا ينغلقوا في عمل، ولا ينصاروا شعوبيا.
نعم، نحن ندعو إلى حذر من الطبيعة الحالية لهم، المنغلقة المتكتمة المستأنسة بالدعة، ولكن يجب علينا أنن حوارهم في نفس الوقت حوارا صريحا هادئا لترك ما تلبسوا به مما نحرص نحن على البراءة منه، ولا يدخل الفرد منهم صفنا إلا بإقراره بمثل ما نقر، ولا يكون التعاون أو التحالف مع جماعاتهم إلا من بعد إعلانهم لمنهج لا يصادم ما عليه جمهور المسلمين من السلف والخلف، كتابة، لا بمجرد تصريح خاص في مجلس مغلق يتخلص من إحراج سؤال، ثم من بعد مرور وقت كاف للاطمئنان على سيطرة هذا المنهج عليهم سلوكا وليس كونه مجرد فذلكة سياسية مؤقتة، وأما قبل ذلك فلا، لا جمودا منا، ولا تعصبا، بل هي العقيدة الصافية المأثورة تفرض علينا ذلك، وما هم عليه لا يدخل ضمن اختلاف الاجتهادات وإن ادعوا دخوله، وفرق ما بين الخلاف الفقهي في فروع العبادات والمعاملات، وبين الخلاف العقائدي، إذا العقيدة أساس الدين، ومن لم ير ذلك من دعاة الإسلام ذلك دليل على أنه لا يعرف ما هم عليه.
إن بعض الدعاة يتوهم شيئا من الطائفية عندنا تقابل طائفية الآخرين حين نسمي أنفسنا أننا أهل السنة والجماعة، ويدعو إلى تنازل من قبلنا يقاب لما ندعوهم إليه من تنازل، أو يتكلم بكلام عام عن أننا ندين بالإسلام فحسب، وما هناك ثم مذهب أو عقيدة خاصة ضمنه.
وليس الذي ذهب إليه هؤلاء الدعاة بصواب أبدًا، فإن عقيدتنا، هي عقيدة الإسلام الصحيحة ليس غير، وإنما و ضع السلف لها هذا الاصطلاح وسموها بأنها عقيدة أهل السنة والجماعة، تمييزا لها عن عقائد طوائف المبتدعة.
وقد يظن بعض الدعاة بأن الجزم بالصواب مسألة نسبية، فكل ذي عقيدة يجزم بأنه الأصح والأقرب إلى الحق، وإن أهل البدع يتعبدون بعقيدتهم، ويرون أنفسهم أنهم على صواب كما نرى أنفسنا، ولذلك يدعو إلى صلح الطرفين، وإلى إقرار متبادل كما دعا إلى تنازل متقابل.
وهذا بدوره خطأ آخر، فإننا لا نصدر عن أراء عقلية حتى نطالب بعدم ادعاء صحة عقيدتنا فقط، وإنما عقيدتنا مأثورات وأخبار مسندة مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- برواية الثقات العدول، وقد قال الإمام الغزالي أن: "البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها وتنكر على المبتدعين بدعهم، وإن اعتقدوا الحق). (لأن خطأ معلوم على القطع، بخلاف الخطأ في مظان الاجتهاد)، (ولكن إن انقسم أهل البلد إلى أهل البدعة وأهل السنة، وكان في الاعتراض تحريك فتنة بالمقاتلة، فليس للآحاد الحسبة في المذاهب إلا بنصب السلطان)([6]).
ولما كان لا يتصور في أغلب بلاد الإسلام اليوم أو كلها وجود سلطان يجد في قلبه ألما لشيوع البدعة، فإن نهي المبتدعة سيتعطل عند مراعاة حرفية مثل أهذا الشرط الفقهي، ولذلك يحور الشرط إلى شرط آخر يتضمن وجوب كون الناهي عن البدعة من أهل العلم الواسع مثلا، أو المكانة الاجتماعية العالية والنبل المعترف به من قبل جمهور الناس، وما إلى ذلك،(فإن كانت البدعة غريبة والناس كلهم على السنة فلهم الحسبة بغير إذن السلطان)([7]).
والمسلك الصائب أن نعتقد أن الهداية منحة ربانية، قد يمن الله تعالى بها على مجموعة من الشباب ينبغون من بين جمهرة الطائفة ذات البدعة، فيأخذون يتلمسون الخطأ، ويبرأون بتدرج من البدع والمواقف التاريخية الخاطئة، ويقربون من السنة الصحيحة، ويكونوا تيارًا متميزًا، وإن من الواجب علينا أن نعضد هذه المجموعة ونؤيدها، وأن نبذل لهم الحب والمودة، وربما صار التحالف معها، أو قبلناهم في صفنا، ولكننا لا نجد مساغًا لمثل هذا التعامل مع كل الطائفة إذا بقيت دون هؤلاء المجموعة وهذا التيار على بدعها.
المداد الريفي
- الواجب الثاني على الرواد المتقدمين في مسالك التوغل: العناية بأهل الأرياف.
فإنهم شطر الناس، ولئن ركز فن الانسباب على الاستعانة بخاصة المثقفين والعمال المهرة وأصحاب مراكز التأثير في الحواضر فإن فن التوغل يجب أن يسند ظهورهم بأبناء الفلاحين، وكانت الدعوة في مصر قد استطاعت أن تتواجد في الريف في وقت مبكر تواجدًا ناجحًا، إلا أن الأقطار الأخرى تشهد تقصيرًا في هذا الباب.
إن المنطق في هذه العناية هو أبعد من مجرد حيازة الفلاح الذي لم تهمل خطة الانسياب ذكره، وإنما هي العناية بالريف باعتبار أن الجيل الجديد من ساكنيه هم رافد مهم من روافد النمو الاجتماعي في المدن، ذلك أن نمط الحياة الحديثة، وانتشار المدارس في القرى، وتسهيل المواصلات، ووصول أجهزة الراديو والترانزستور إلى أعماق الصحراء، فضلا عن الريف، كل ذلك جعل أهمية الشاب الريفي تقارب الحضري، فبعضهم يدخل المدارس المهنية والجامعات ويكثف وجودهم في أجهزة وزارات الدولة ذات الخدمة العامة، التي تتوزع فرعها بعيدًا عن المدن، ويصبح جيل كبير منهم عمالا فنيين، وذلك يعني أنهم يمكن أن يكونوا أصحاب علاقة بالحياة السياسية والفكرية، مع تعفف فطري يفتقده الكثير من شباب المدن، ونخوة وشجاعة، وصدق ووفاء كرم، وبعد عن الترف، ومقدرة على تحمل المشاق، وهي محاسن فريدة تطغي على سلبية السذاجة التي تعتري بعضهم والتي يمكن علاجها بتدريج من خلال توعية وتربية ومواجهة عملية للحياة المدنية.
إنه ربما كانت هناك قلة طموح عند معظم الريفيين بسبب فقرهم، بحيث يرضي أحدهم بأول منزلة يصل إليها كعامل بسيط أو ككاتب أو عسكري صغير، ولا يطمح طموح الحضري للدراسات العليا، ولكن نجد أن مؤشر التطور الحضاري في كثير من البلاد يشير سنة بعد سنة نحو تقربهم من طبيعة أهل المدن، مما يجعلنا ملزمين بالعناية بهم.
ولأداء هذا الواجب، يمكن أن تقتبس الجماعة من الدعوة السنوسية خطة إنشاء الزوايا مع بعض التعديل إذا اقتضت الظروف، فالزاوية الحديثة يمكن أن تكون مدرسة شرعية في قرية بارزة من مجموعة قرى، تلحق بمسجد، ويكون بها قسم داخلي لسكن طلابها الذين تنتقيهم من أبناء الريف أنفسهم ومن أولاد أشرافهم ورؤسائهم إذا أمكن، مع مكتبة مناسبة، ومستوصف إذا كانت الخدمة الصحية الحكومية ضعيفة، ومزرعة صغيرة وحديقة يساهم الطلاب في زراعتها ومنها يأكلون.
إن بضعة مجمعات على هذا النحو، برئيس من العلماء نشط له لسان، يمكنها أن تحفظ للقبائل والأرياف دينها، وأن تنتقي من خيار أهلها وشبابها من يكونون دعاة ملتزمين، وسمها زاوية أو مركز إسلاميا أو ما شئت.
وآكد من هذا أن يتجرد بعضا لدعاة لسكني الريف كموظفين دائمين في التعليم الابتدائي، والإرشاد الزراعي، والبريد، والتمريض، وإدارات التعاونيات الزراعية، ومؤسسات المداجن، والثروة الحيوانية، ورقابة المناجم، ومحطات سكك الحديد، وحرس الحدود، وخفر السواحل، وأمثال ذلك، ويتطلب ذلك بعض التضحية والحرمان من مميزات المدن، إلا أن ذلك هين إن شاء الله على من كان أولاده صغارا، ويعذر من كبر أولاده وأصبحوا بحاجة لدخول المدارس المتوسطة والثانوية، وقد تكون أمثال هذه المهن متأخرة في مستواها الوظيفي، قليلة المورد، ولكن لها أهلها، وهناك تعادل في كل المجتمعات في قسمة الأرزاق، ولابد أن تجد من يرضى بالقليل، ولسنا نمنع إخواننا عن فرص وظيفية في المدن أحسن، ولكننا ندعو إلى استغلال وظائف من لا تؤهلهم شهاداتهم أو صحتهم أو ارتباطاتهم العائلية إلا لهذه الوظائف الريفية.
ومن الممكن أيضًا اقتباس أسلوب جماعة التبليغ الهندية بتأسيس فرق صغيرة ن طلاب المدارس ينتقلون خلال العطلة والإجازة المدرسية إلى الريف شهرًا أو أكثر كل سنة، فرقة لكل مجموعة قرى، لعلها مائة فرقة في البلد الواسع، يتم توزيعها بدقة وفق خارطة، يختلطون بالمجتمع الفلاحي، يمحون الأمية، ويعظونهم، ويطببونهم، ويصلحون مساجدهم أو يعينونهم على بناء مساجد صغيرة، ويقيمون صداقات وعلاقات.
هذا مع لزوم إبلاغ الداعية الذاهب إلى القرى بأعرافهم وطبائعهم وآدابهم، ألا يتجاوزها فينفرون منه، إذا قد تكون بعض صغائر أهل المدن كبائر عند أهل الأرياف، وكذلك تعليمه أنسابهم، كي يميز أسرار بعض الروابط القبلية.
ويعود الحديث هنا مرة أخرى عن النسبية في أداء هذا الواجب، إذا يجب أن لا ينسي داعية نفسه فتأخذه الحماسة عند كلامنا عن ضرورة العمل في الأرياف والبوادي فيندفع لذلك، كأن ليس هناك مجال غيره، كما يندفع بعضهم للعمل الإصلاحي بكليته لما صار الكلام عنه، وآخرين يندفعون لمجالات أخرى، بل الطاقات محدودة، والمجالات عديدة، و على رعايتنا وخططنا أن تكون متوازنة واقعية، لا يطغى فيها جانب على آخر إلا بمقدار ما يقتضيه المنطق وما هناك من مبررات للتفاضل.
ولا شك أن بعض الحكومات، والحزبية منها خاصة، تضييق على دعاة الإسلام هذا المجال في العمل الريفي كما تضيق العمل الإصلاحي العام، ولكن مازال الاستدراك ممكنا في كثير من البلاد التي فيها بقية حرية، ولعل الحكومات المتجبرة غير قادرة على منعك كل المنع من مثل هذا النشاط، فإن توالي احتكاكها بدعاة الإسلام وضغطها على الناس قد يولد لها كراهية تحاول تجنبها ابتداء، فتدعك في توغلك مرغمة.
والعائق الأكبر في هذه العملية ليست الحكومات، كما جربنا بل عبء الضيافة والخدمة الذي يتراكم على عاتق الداعية إذا تكرر توغله في القرى، فإن علاقاته مع أبنائها تجعله شبه وكيل لهم في مراجعاتهم المدنية، ولربما يلهونه في قضاياهم مع المحاكم ودوائر الدولة ومراجعة المستشفيات، من حيث أراد هو نفع الدعوة، لأنهم إذا وردوا المدينة لا يعرفون أين يذهبون، فتبرد فورته، ويزهد بهذا العمل، غير بخيل ولا لئيم ولا ضيق صدر، وحاشاه، بل استغلالا لجهده في موطن يغنم فيه للدعوة بلا مغارم.
إن الحضري واسع العلاقات والأعمال اليومية، وهذه الضيافة تشغله عن مواعيده وأعماله الرتيبة، ولا يشعر بها الريفي لضيق دائرة تحركه، ولذلك نرى قلة من يصمد من الدعاة في ع مل مع القرويين، ولعل إنشاء غرفة للضيافة ملحقة بالجمعيات الإسلامية التي نديرها تخفف الثقل عن الدعاة وتجعل فيها شجاعة على مواصلة عملهم الريفي، وأهم من ذلك: تخصيص داعية في كل مدينة من غير المسؤولين يعين القرويين في مراجعاتهم المدنية المذكورة، ينوب عن بقية الدعاة في مزاملتهم والذهاب معهم إلى دوائر الدولة والمستشفيات ويقضي لهم مرادهم، ويقال له أنه بعمله هذا المرهق يساعد على إنجاح خطتنا في نشر الدعوة في الأرياف.
تدوين دليل السياحة الخضراء
ولعل أجزل الفوائد تكمن في تدوين كل فرقة عمل لتجربتها، ثم استخلاص بحث من تجارب الجميع، يدمج بتجارب الزوايا، ويوسع باقتباسات من تجارب العمل الريفي في الأقطار الأخرى، فيكون كتابا في هذا الفن يعين على حل المشكلات ويدل على حسن الاستغلال ويصف المداخل والمخارج، ولربما كانت ضرورة عقد مؤتمر لبحث خطة العمل الريفي ليست أقل من ضرورات المؤتمرات الأخرى.
هكذا، نحب ونفضل مؤتمرا ومدونة تجريبية لكل لون من النشاط ومجال، ونعلم أن ذلك يقتضي جهدا ليس بقليل، ولكن إن فرغنا لمتابعة هذه المؤتمرات ولتدوين هذه الدروس الواقعية داعية من الوزن القيادي لا نرهقه بإدارة ونشاط في قطاع معين خاص، فإن المردود وسيكون كبيرا إن شاء الله، فقد يكون هناك ضرر ينتج عن تجميده عن أخذ دوره في العمل اليومي للجماعة، مربيا أو مجمعا أو منظمًا، ولكن الفوائد التي ستتمثل في ارتفاع المستوى التنفيذي لدى جميع الدعاة ستكون أوفر، وتلك بديهية لا جدال فيها عند من عرف أساليب الإدارة الحديثة.
إنهن شقائق الرجال..!
- الواجب الثالث: العناية بالنساء.
فإنهن شطر المجتمع أيضًا، وتزداد تأثيراتهن في الحياة المعاصرة، ويف سلك التعليم بخاصة.
وقد تنطلق هذه العناية من واجب صيانتهن وتربيتهن والمحافظة على أخلاقهن والحجاب، أو من باب توفير زوجات صالحات لهذا السواد الواسع من الشباب المنغمس في الدعوة، أو الدوائر في أفلاكها، يحفظن غيبهم، ويصبرن على انقطاع أزواجهن للعمل، ويتلقين محنهم بصدر رحب غير ضجر، ويربين الأولاد وفق أسس تربوية إسلامية سليمة.
تلك منطلقات صحيحة، ولكن العمل النسائي يراد له أيضًا أن يكون رديفا معينا في التنفيذ لجوانب كثيرة من خطط الدعوة يصلحن لها، من أظهرها: المشاركة الصحفية والأدبية، والبحث الفقهي والتاريخي، بل في كافة العلوم، وأعمال المراسلة والإحصاء، ورعاية عوائل السجناء وعموما لحاجات، أيام المحن، ومن الممكن أن نوجه خريجات الجامعة خاصة لمثل هذه الأعمال.
إن الأحزاب الأخرى سبقتنا في ذلك سبقا، يساعدها على ذلك إباحة الاختلاط عندهم والسفور، وتمنعنا الحدود الشرعية من استثمار الكثير من جهد النساء الذي تستخدمه الأحزاب، ولكن ذلك لا يعني انغلاق كل المجالات أمامنا، بل فيما ذكرنا من أبواب الإعانة بركة وطاقة مضافة لجهود الدعاة، ولا يجوز أن تحجبنا الأعراف الزائدة على مقدار الواجب الشرعي عن مباحات من مجالات المساهمة النسائية في الخطط العامة أو إظهار أسمائهن الصريحة في المجتمع، أديبات وصحفيات ومؤرخات ومحصيات ومحللات للتطورات السياسية، طالما أنهن يتحجبن ويتعففن ويؤدين مساهمتهن من خلال تنظيمهن الخاص البعيد عن الاختلاط بالرجال، وعن طريق جمعياتهن ونواديهن.
ولعلك عرفت طريقتنا، فلم تعد بحاجة إلى تنبيهك إلى ضرورة مؤتمر يحصي أبواب العمل التي تطرقها المرأة المسلمة ويوضحها، أو الدراسات التجريبية التي تروي من خلالها الداعيات قصصهن.. ولست بحاجة أيضًا إلى وعظك بالنسبية وكبح جماع حماستك الزائدة لترجع إلى صرف موزون للطاقة يراعى جميع الحاجات.
صولات أبناء العفراء
- الواجب الرابع: بناء حركة الناشئة الإسلامية.
فإن الناشئة م المورد الرئيس للنوعية الصلبة المتفانية من الدعاة، إذا لا يبرأ كبير السن من نوع أو أنواع من السلبيات التي أكسبته إياها حياته الأولى قبل تعرفه على الدعاة، أما الناشئ فكله محاسن، ,كله حيوية، وتصبر عليه سنوات قليلة فإذا هو الرجل الكامل، المقدار المثابر، وما نظن أن بنا حاجة لتكرار البديهيات التي تقنعك بالعمل معهم وتذكرك أنهم أغصان طرية.
لسنا نعني الصغير الذي يتعب، وإلا لتحولت الدعوة إلى رياض أطفال، وإنما هم الذين ناهزوا الحلم، تنتقي منهم العفيف المؤدب، الاجتماعي المخالط، الرياضي المتحرك، المجد في دراسته، فتحبب لهم لزوم المسجد، وتحفظهم أجزاء من القرآن ومختارات من الحديث الصحيح وتدعهم يتبارون في فرق ألعاب، ويتقنون الجودو والكاراتيه، وترحل بهم إلى الضواحي الخضراء وأماكن الآثار، كل ذلك في مجتمع خاص بهم برعاية عقلاء أمناء يعلمونهم الإخاء والفتوة، حتى إذا رشد أحدهم وكان على أبواب الجامعة أو الاستقلال بمهنة أو الانخراط في مصنع: وجدته داعية وافر الفقه والحياة والنشاط، دون هواجس تساورك نحوه.
يبدو أنه يراد لنا تصور بعيد لدور الناشئة وإنشاء حركة لهم ننتقي منها دون الاكتفاء بالعمل مع المجاميع الجزئية التي تضمها المساجد، بل نبني مثل حركة الكشافة، ونفرغ لهم جهاز مسؤولين متخصصين يرسمون لحركة الناشئة الإسلامية فنونها وأذواقها وطرائقها الموحدة، ونعتقد أننا نستطيع شكلا مصغرًا مما تفعله الحكومات، وربما صعب ذلك أو استحال الآن في بعض البلاد ذات الحكم الإرهابي الحزبي، لكنه ما زال ممكنا في بلاد أخرى.
إن الشروع المبكر برعاية الناشئة يعتبر الضمانة الكبرى لحصول الدعوة على الجيل التنفيذي للمرحلة الأخيرة بعد التثاقل الطبيعي الذي يصيب كبار السن من الدعاة لمختلف الأسباب.
وإنها حاجة الدعوة فعلا إلى جيل مقدام من الناشئة، خفيف التبعات، سريع الخطوات، تائق إلى روضات الجنات.
أنعم به وأكرم... ثم أنعم.
([1]) ديوان الأسرار والرموز/ 38.
([2]) نقول من مدارج السالكين 2/70.
([3]) سورة الرعد: 36/37.
([4])درة التنزيل وغرة التأويل/27.
([5]) لإقبال في ديوان الأسرار والرموز /32.
([6]) إحياء علوم الدين 2/327.
([7]) إحياء علوم الدين 2/327.
التدارك والتكميل
حين يطلب الداعية المسلم كثرة الأنصار فإنما يعبر بذلك عن إحساس بحاجة واقعية، وتلبية لموازنة منطقية، فوق ما هنالك من قرة عينة بحشود المؤمنين، فإن عملية التغيير الإسلامية لا بد لها من منفذين في كل مجالات الحياة.
لكن الإسراف في تقدير هذه الحاجة لا يمكن تبريره، ويعتبر من أخطاء التخطيط، كمثل الخطأ الذي يقع فيه المستعجل ا لمتهور الذي يجازف ويتصدى لمهام جسام بأعداد قليلة.
وتربية الجمهور الواسع، والدخول إلى كل بيت: إنما هو واجب الحركة الإسلامية يوم تحكم وتكون لها الدولة، أما قبل ذلك فهي تحرص على التجميع بالمقدار الذي يدل العقل والتجريب على أنه ضروري للغلبة على الجاهلين.
وبهذا المفهوم تفسر نظرة إبراهيم بن أدهم رحمه الله حين يقول:
(لا يقل مع الحق فريد، ولا يقوى مع الباطل عديد).
فهو يشير إلى ما في الحق المجرد نفسه من قوة ذاتية تزيد القلة المؤمنة به تمكنا وهيبة ومقدرة على القمع، وإلى ما في الباطل من رعب طبيعي وضعف، وأنه يحمل في ثناياه أسباب حتفه.
وسر الإقدام في المسلم يكمن في هذه الحقيقة التي تؤسس فيه معاني الأمل والتفاؤل، فتخرجه دوما إلى جد وعمل دائم وسعى إلى الأمام، وهي التي اكتشفها إقبال من جملة ما اكتشف من أسرار ورموز الذات الإسلامية فقال:
إنما المسلم مثــل الكوكب باسم في سعيه والدأب([1])
كموضة الهرة وتألقها هي بسمة المؤمن التي تنبيك عن ثقته بالنصر، وكدأب المشترى المثابر في فكله سير المؤمن، ليس يعتريه وقوف.
الجاهلية العالمية تسند أحزاب الضلالة
غير أن من لم يكمل فقهه، ولم يرصد سنن الحياة، توهمه الانتصارات الوقتية للباطل، فيتشاؤم، ولربما يرى في سبق الأحزاب للحركة الإسلامية في بعض البلاد د ليلا على فوات الفرصة، ولكن الأمر ليس على إطلاقه، فإن التكافؤ غير قائم في منافستنا لها، مما يسبب كسبها للجولات الأولى، أما إدامة المعركة فليسوا بقادرين عليها، يفضحهم تناقضهم، ويؤلب عليهم ظلمهم.
وقد تجد للوهلة الأولى خمسة أسباب حققت لهم الكسب:
- منها: سبقهم في التواجد في الساحة، فمع أن حقنا قديم، إلا أن جيل المسلمين الذي سبقنا ذهل عن ضرورة العمل الجماعي والتميز الحركي، وظلت العناصر المخلصة سائبة تائهة دهرًا طويلا مكن أحزاب الضلال من استغلال الفرصة وإيهام الشباب، فنشر جيل منحرف واسع قبل أول صوت يرتفع لداعية إسلامي.
- ومنها: الخبرة الطويلة والفنون والتنظيمية للأحزاب العالمية ووضعها في خدمة الأحزاب المحلية، بل ولقادة الأحزاب الشيوعية مدارس خاصة في موسكو وبلغاريا، بينما اكتشف دعاة الإسلامي طرائق العمل اكتشافا، ولقد أخطأوا كثيرا قبل رؤية الصواب، بل وما زال غير مطرد لم هذا الصواب.
- ومنها: الجاسوسية الدولة التي تهدي قيادات الأحزاب آخر الأخبار وأدق التحليلات وما يدور وراء الكواليس، فتكون تقديراتهم لخطواتهم أجود وليس لنا إلا فراستنا وأخبار الصحف والإذاعات، وكثير منها إيهام وخداع.
- ومنها: سريتهم المحكمة، لتشابه الباطل، بينما تفضحنا الصلاة في المساجد، ولحانا، وتفضحنا أكثر: سيماء الخير الإيماني في أسرة وجوه الدعاة، وبريق الماسة يدل عليها من بين أكوام حبات الزجاج، تناديك إنها صنع الله، وكل الزجاج عداها واحد مع اختلاف مصاقله، وقد سبب ذلك مقدرة اختفاء وتملص من أذى أعدائهم لم نتمكن منه، وراج أمرهم، كرواج الحلي الكاذبة هذه الأيام، فإن مصانعها تحقق من الأرباح أضعاف ما يحققه تجار الماس.
- ومنا: المال الذي تعطيهم الدول إياه بإغداق، وينفذون به الخطط ويفرغون كوادرهم، وليس لنا إلا اشتراكات الأعضاء يقتطعونها من حاجات أولادهم، ولربما ترى شركة أجنبية تتولى مقاولة في بلد إسلامي بسعر متدن، لتضمن توفير فرص عمل كثيرة للشيوعيين المفصولين عن أعمالهم بسبب محنة يتعرضون لها، كالذي حدث في تسلم شركة بلغارية لمقاولة مطار بغداد الدولي في أعقاب زوال حكم عبد الكريم قاسم بثمن خاسر لنجدة الحزب الشيوعي العراقي، والأمثلة كثيرة، عدا ما هنالك من مساعدات تقدمها الدولة الفكرية الغنية للدول الفقيرة بشكل مشاريع طرق وخدمات صحية ودراسية، غايتها بث الأفكار وتشغيل الحزبيين وتسهيل إدخال الأموال بدون صعوبات وشبهات.
فهذه وأمثالها أسباب واضحة في سعة دائرة أحزاب الباطل، لكنها سعة موقوتة، من بعدها ضيق وانحسار، فإن الناس تفتأ تريد مصالحها والأمن، وتكتشف الدجل الذي استغلها بتدليس فتنبذه، وتعود تفتش عمن يقودها، وآنذاك ينفتح مجال لأن تثبت الدعوة الإسلامية جدارتها بالتصدي لتحقيق آمال التائبين، هي وما تختار: الإقدام، أو الانزواء والإبطاء، بيد أن الله يؤيد من ينتدب نفسه، وهو ولي العاملين.
وقفات التأمل الناقد
إن التوغل في مسالك العمل، والانسياب الواثق: مهنة وفن، يجيدها من أيقن أن المستقبل لهذا الدين، يمضى فيهما قدما، بلا التفات، إذا الالتفات عيب، وإغراء بالنكوص.
إلا أنه التفات واحد يجب عليه، ولابد منه، هو: التفات المهندس المتقن.
جعله إبراهيم عليه السلام سنة إيمانية، لما كان هو وإسماعيل يرفعان القواعد من البيت، فكان كلما رفعا رفعة تحول إلى مقامه الكريم، فتأمل استقامة زوايا الكعبة، وجال نظره في حساب وقياس، ثم عاد يواصل.
مثل البنائين اليوم وما نراه منهم، كلما بني أحدهم صفين في الجدار: نزل وأبصر ما قدم يكون هناك من نتوء أو هبوط أو نشاز، فيعود يشذب ويهذب، وينحت ويستبدل، ويملأ الفجوات.
كذلك العمل الإسلامي الجماعي، كلما توغلت فيه مسافة: احتجت لوقوف، لرؤيته من زواياه، فتكمل النقص النوعي، وتلائم المختلف، وتسد الفراغ، وترد الزائد وتبرز المغمور، وتضبط التوازي التربوي.
أو هو العمل كقافلة سائرة، كلما قطعت شوطا وتقدمت مرحلة: خرج عنها الرئيس وهي مستمرة في توغلها، فاستعرضها، وفتش رباط الأحمال، وانتباه الحرس، والتقط الساقط وقارب بين البعيدين.
إن هذه الظواهر الحيوية والسنة الحنيفية تعلمك أن تقدم الدعوة في تطبيق خططها المرحلية ليس سباقا نحو الهدف البعيد، وإنما يستساغ فيه الوقوف في بعض الأحيان لمراجعة الرصيد، ورؤية الثغرات الحادثة وسدها.
فعمل الدعوة لا يكفي فيه أن تعلم ضرورة الإصلاح العام، وتجند الطالب والعامل، وتنظم أصحاب مراكز التأثير، وتوسع التجميع برعاية أهل الأرياف وتربية النساء والناشئة، بل لا بد من استدراك تعالج فيه الأعراض الجانبية السلبية لعلمية التجميع المتوسعة.
تبنور الآراء الجماعية
فمن هذا الاستدراك: إذابة الاجتهادات الفردية، وتحكمه عشر حقائق:
(الحقيقة الأولى): أن تباعد المدن في كثير من الأقطار وكثافة العدد الذي يحتضنه التنظيم، واحتمالات التأثير الشخصي في الآخرين: أسباب كثيرا ما تؤدي إلى نشوء اجتهادات متباينة في الجماعة تتعدد فيها المفاهيم والتحليلات ووجهات النظر السياسية والخططية، وهي ظاهرة صحية إذا استطاعت القيادة أن تجعل وفرة الآراء مصدرا يمكنها من الاختيار، والقياس، ووضع البدائل، واكتشاف الردائف المعينة، لكنها يمكن أن تنقلب إلى ظاهرة مرضية إذا أهملت القيادة بحثها، فتتكون الجيوب، ومجالس التناجي، ومقدمات الفتن الملهية المعيقة الصارفة عن الغاية، وأقل ذلك: تكوين مدارس فهم متعددة.
(الحقيقة الثانية): أن الحجر على الأفكار لا يمكن، وإذا أمكن فلا يجوز، فأنه يقتل الهمم، وينتج عقليات مقلدة لا تجيدها الاجتهاد والابتكار واستباط الأحكام المناسبة لكل ظرف ومرحلة، ولكنه توحيد هذه الاجتهادات، والتقريب بينها بالحسنى والإقناع، عن طريق إحصائها وجردها، ثم نقدها بالدليل والمنطق العقلي، ثم سماع التعقيب أو الاعتراض، ثم العودة لشرح مبررات الخلاف.
(الحقيقة الثالثة): أن تبادل الحوار في فقه الدعوة شأنه كشأن كل وسيلة، إنتاجها كامن في النمط الأوسط لتنفيذها والعمل بها، ويساء استخدامها بالإفراط والتفريط، فكما أن تفرد القلة بالرأي يمنع الإبداع، ولا بد من الشورى، فإن الإسراف في الحوار والاعتراض، أو إشراك كل الأعضاء بلا تمييز من شأنهما أن يمنعا الحزم، ويفوتا الفرص، ويعلما اللغو، ويشجعا على التعصب والتصلب فالافتتان.
(الحقيقة الرابعة): وعلى مجموعة العاملين أن تدرك أن حشد كل الطاقات والأوقات للعملية التجميعية وبث الفكرة والنقد السياسي قد يولد خطرا على الدعاة أنفسهم، كتاجر استبد به حب المال حتى ترك أهله بلا رعاية، وبدنه دون ترويح، فيكون هناك نهم في التكاثر، بل الواجب أن يوفر الدعاة بعض جهدهم وأيامهم لرعاية أنفسهم، والتصارح، وغربلة الاجتهادات التي يطرحها نقباء الدعوة كي لا يميل الصف التنظيمي مثل ميل الجدار الذي يواصل البناء رفعه دون نزول عنه وملاحظته من جوانبه.
(الحقيقة الخامسة): علينا أن نوقن أن التنظيم هو في الميزان المصلحي الإسلامي ضرورة لازمة لا لتنسيق أعمال وجهود الدعاة فحسب، بل ولإذابة رغباتهم واجتهاداتهم وثقافاتهم في تيار جماعي، بالكيف الذي يحصل عليه الإجماع أو يقرب منه، ومن خلال تربية موحدة تستند إلى المعرفة المتنامية للقيادة بقابليات عموم الدعاة ومستوياتهم، وتنطلق من الخبرات العملية لها والتجارب المتراكمة، فيتضافر الواقع المدروس، والفقه المكتسب، وما قد يضاف إليهما من سر مكتشف لتسيير الدعاة في طريق آمن لا تستزلهم فيه تورطات الاستعجال، ومجازفات الارتجال.
(الحقيقة السادسة): أن ذوبان اتجاهات التفكير الفردية وانصهارها تدريجيا وتلقائيا في التيار الجماعي العام يعتبر النتيجة الإيجابية المهمة الثانية لوجود التنظيم بعد دوره في التنسيق واستغلال الطاقات، ومن الممكن أن يتم توجيه قدرات التفكير الثانوية التي يمتلكها الدعاة لخدمة وشرح وتحليل أوصاف عامة مجملة تضعها القيادة سلفا على أنها حدود حاجة القضية الإسلامية في كل مرحلة إذ أن انعدام المبادأة القيادية في رسم صورة شاملة موجزة أمام أنظار الدعاة من شأنه أن يوجد تباينا في فهم تفاضل جزئياتالحاجات المرحلية، ومن ثم التباين في تنزيل الأهداف المختلفة التي سيعملون لها في منازل الأهمية.
وهكذا تحتل الخطة المرحلية للعمل الجماعي المنظم مكانها في حياة كل داعية حين تبرز وظيفتها كمحور متين يدور حوله كإبداع الدعاة واجتهادهم، ويظل هذا المحور راكزا مهما دارت وتقلبت أطرافه، بل يمكن لهذا الإبداع –إذا أتى هادئا متواضعا- أن يطور الخطة لتستوعب حاجات كل وضع جديد ينتجه تبدلا لظروف وتفرضه مفاجأت الجولات السياسية.
وهذا التطوير الثمين وإن ظهر عسيرا صعبا إلا أنه سهل الحصول إذا اتصف الدعاة بتحري الصواب وأخذه ممن يقوله، لأن في البناء التنظيمي قدرة على أن يكون نقطة التقاء تتجمع عندها أفكار أعضاءه واقتراحاتهم وأشواقهم الروحية، من خلال تقارير أو محاورات مؤتمرات، لينبض بها مرة أخرى نقية مصفاة بعد تنسيقها مرجعا إياها إلى أصحابها الأولين و عموم الدعاة، وبتكرر هذا التنسيق وتتابعه يتولد نوع من الاجتهاد الجماعي المنقح، ويغدو التنظيم: القلب النابض الذي يمد الدعاة بالحيوية العقلية والتجريبية والعاطفية.
(الحقيقة السابعة): وعلى ذلك، ولهذه المعطيات فإن بناء التنظيم يجب أن لا تحده حدود دائمة ثابتة أبعد من حدود الشرع، فإنه ملك الدعوة في كل أزمانها وفي كل مواطنها، ولا يستساغ أن يقف عند النهاية التي وصل إليها جيل الدعاة الذي أسسه ورسم نظرياته بناء على مفاهيمه وتجاربه ومدى فقهه ووعيه ساعة التأسيس، ولا أن يقف عند الحدود التي اقتضتها ظروف بلد معين، بل علينا أن ننظر له على أنه (كائن حي) تتطور خططه وأعرافه وقوانينه، وتتكيف أشكاله وأنواع علاقاته، وفقا لمصالح الدعوة المتطورة، ووفقا للبيئة التي يعيش فيها.
(الحقيقة الثامنة): أن هذه الحيوية التي يراد لها أن تكيف التنظيم وتطوره وفق متطلبات الظروف، والتي نأمل بها الاستفادة من الآراء بدل إضمارها والتخفي بها، أو التي نحرص عليها لإذابة الاجتهادات الناشرة، هذه الحيوية لن تنبض إلا باستئناف ثان للمبادأة القيادية تتوغل فيه لأبعد من المدى الأول، ويتمثل بسبق قيادي يطرح وجهان نظر معينة للنقاش، من خلال مجلة داخلية، أو كتب في فقه الدعوة، أو سلسلة مؤتمرات ذات جداول عمل واضحة، أو عمليات استفتاء، أو عرضها على مجالس استشارية متعددة دائمة تضم كل داعية قديم حسن السمت والنشاط، ولا يشترط أن يكون هذا التدوين القيادي بأسلوب بلاغي مراعيا ما هنالك من فنون البحث، فرب فقهاء ودعاة لا يجيدون البلاغة، أو تضيق أوقاتهم عن إتقان الكتابة بالمستوى اللائق للنشر العام، ولكن المهم أن تفصح القيادة عن نظراتها ومفاهيمها واجتهاداتها، ولو في رؤوس أقلام كما يقال وفي تعداد نقاط، ببساطة، وفي غير ما تكلف وإنشاء مسترسل، أو عن طريق نشر موجز للمسائل الخططية من محاضر جلساتها على قدماء الدعاة.
ولكن القيادات من حقها أن لا تشرك في المباحث إلا طبقة معينة من الدعاة دون أن تنزل إلى مستوى الجديد والعضو العادي، لئلا يساء استعمال هذه المباحث، كما أنها قد لا تجد هذه المباحث سائغة ما لم تطمئن إلى حسن خلق الدعاة في النقاش، وأدبهم في النقد، ووعيهم لأهمية الإيجاز في عرض القول دون إطناب، والاستعداد للإذعان للحق الذي يؤيده الدليل أو للإجماع وما قاربه دون لجاج، فإذا اطمأنت القيادات أسرتها ولا بد شمائل الدعاة حتى تمتلئ حياء وتواضعا، فتحرص آنذاك على اعتبار آرائها هي من جملة الآراء الفردية التي يدخل عليها التحوير والتعديل، أو ربما الإلغاء والتبديل.
فهما واجبان متقابلان، وحقان متلازمان، فلا ينبغي للقيادة أن تحاول الحجر والاحتكار، كما لا تنبغي للمقودين نية التملص والتقدم بين يدي القادة أو الوزن لهم بتطفيف، وإنما هو الاحترام المتبادل واللسان الخفيض يحكمان الجميع.
لقد أكدت الأيام أنه ليس من الحكمة بحال أن تترك القيادة إخوانها وجها لوجه أمام مجال العمل العام وتطلب منهم اكتشاف الأساليب والخطط بأنفسهم دون أن تبادئ بطرح شيء، بل الواجب أن تنطق بتعليمات هي في أدنى حالاتها: اقتراحات، فإن الدعاة إذا كان لهم نوع وعي، وملكوا عقلية، وكانوا أصحاب دراسة لواقعهم وموازنة، فإنهم عندئذ سيدلون بآرائهم وينقدون، فإذا كانت هناك إضافة على الخطة وأسباب موجبة للتعديل: أجرت القيادة ذلك التعديل، إذ لجميع يرتاد للدعوة مصلحتها، وقد تستعجل فتتبنى اقتراحا لبعض الأعضاء فيعترض غيرهم، ويعاد البحث ثانية، ولا يوجد مانع من إلغاء الاقتراح الذي أخذت به أولا، فإن ذلك دليل الحيوية، وليس بكثير الحدوث.
إن روح هذه العملية التصحيحية هي المبادأة القيادية، إذ عليها أن تنتظر أن ينسق الأعضاء أفكارهم واقتراحاتهم ويأتون لعرضها عليها، بل هناك طاقات واجتهادات فردية يفترض أنها تعلم بوجودها، فتفجرها، وتعومها على السطح، بعد إذ كانت مضمرة مخفاة في حنايا الضلوع توسوس للنفوس، ومن خلال ظهورها طافية توزن بإنصاف وتجرد، فما كان من صواب: حرصت عليه، وما كان من خطأ: ردته بتعليل.
نستثمر حكمه حبستها الضلوع
(الحقيقة التاسعة): ولا بد أن نميز بين نظرتين هاهنا ونرى الفارق بينهما: نظرة إلى هذه الاجتهادات الفردية على أنها مقدمات أو ذيول فتنة، فتحاول القيادة إزالتها بحملة وقتية كعلاج لإشكال طارئ، وهي نظرة صائبة إذا دعت الحاجة لها، ولكنها ليست المقصودة في كلامنا هذا، بل نقصد نظرة استثمارية دائمة للطاقات والاجتهادات المدفونة في صدور الدعاة، عليها اكتشافها واستخراجها، وتوحيدها، وعلى ذلك فلا يسوغ أن ننظر لهذه العملية بالمنظار الضيق ونعتبرها مجرد معالجة فتنة، بل هي باب من الخير أوسع من ذلك بكثير، من شأنه – إذا فتح- أن يدفع هواجس الفتن ابتداء، ويمنع تكون الجيوب، ولا يصح أن يقتصر مدلول الإذابة على إقناع الدعاة بخطأ اجتهاداتهم والتنازل عنها واعتناق الاجتهادات القيادية، بل من مدلولها أيضًا تبني القيادات لاجتهادات الدعاة المعتدلة وإضفاء الصفة الجماعية عليها، فتصبح رأيا عامًا شائعا بعدما كانت قناعة فردية مهددة بالتحول في استخفاء إلى تطرف ناشز وشذوذ جاف.
(الحقيقة العاشرة): ويظن البعض أن هذه النظرات تتعارض مع ما في مقالة (زمرة القلب الواحد) من التوصية بعدم عرض الخطة على العدد الكبير حدًا من اختلاط الأصوات، وليس الأمر كذلك، فإن الحذر قائم في المسائل التي تحتاج إلى مقدار زائد من الحزم وسرعة البت والكتمان، وأما المسائل التي تحتمل التراخي وليس فيها سر، ف لا بأس بتوسيع دائرة البحث لها، وربما أشركنا الجدد في البحث أحيانا بطريق غير مباشر عن طريق أسئلة وحوار يديره معهم قدماء الدعاة ويكتبون تقريرًا عنه، ولولا أن هناك احتمال غرور الجديد إذا أشركناه في البحث المباشر وشعوره بأكثر من قيمته لقلنا باستساغة استشارته في بعض الأمور.
ويقابل هذا التوسع: تضييق نضطر إذا جاء أحد الدعاة بغرائب تخالف ما عليه جمهور الفقهاء، وكان ديدنة تتبع شواذ المسائل والأقوال، فإن إثارة هذه المسائل تفسد الصف وتلهيه.
وتوهن العزائم وترخيها.
مختبر فيزياء.. لا بلاط ملوك
ونعود إلى التذكير بأن هذه الإثارة للأفكار وتمكين الدعوة من الاستفادة من العقلية الجماعية لا يمكن أن توجد من العدم، وبنداء للأعضاء يحثهم على التفكير والاقتراح، بل لابد من نواة تتجمع حولها الأفكار، وتستقطب الآراء وتتراكم عليها، كمثل ظواهر الفيزياء، فإنا لألكترون يمر وسط بخار الماء غير المنظور في الوعاء المغلق، فتتجمع حوله جزئيات الماء، فيبدو مساره واضحًا، وجعل الله ت عالى من الماء كل شيء حي وكل مثال صائب، وغالبا ما تكون هذه النواة هي مشروع خطة، وعلى القيادات أن تكون شجاعة في عرض آرائها من أجل ذلك، فإنه بدون هذه الشجاعة تبقى الاجتهادات متباينة والمفاهيم مشتتة، وعندئذ تحرم الدعوة من الصيحة الواحدة والنهوض الواحد، بل يوم ينهض جناح ويقوم في عزمة عمل: يكون الآخر غافلا أو متكاسلا أو موسوسا.
ماذا يكون لو تبين أن القيادة كانت مخطئة؟
ثم ماذا؟
إن البعض ينظر بمنظار ساذج، ويوجب أن تكون القيادة مصونة وكأنها ذات قدسية، ولذلك يبعدها عن الاجتهاد ومسببات النقد، وما ذاك بصواب، ولسنا نعرف طبائع الملوك، بل علينا أن نفهم أن القائد يخطئ ويصيب، وأن عدوله عن الخطأ هو في ذاته أرفع سمو وأعلاه، وأن يكون ذلك من البديهيات الشائعة التي تضبط ردود الفعل النفسية فينا عند إقرار قائد بخطئه إذ لو جاء من الناقدين له يقود لوقع في خطأ آخر، وذلك ديدن البشر.
الاستطراق التربوي
وهناك استدراك ثان وعلاج لسلبية أخرى من سلبيات التوسع التجميعي يتمثل في: توحيد المستويات التربوية أو التقريب بينها.
- فالبلد المترامي الأطراف تكثر فيه القرى والمدن الصغيرة، حيث تكون الحركة الفكرية والتحدي الثقافي والصراع السياسي أقل وضوحا مما عليه الأمر في العاصمة والمدن الكبيرة، وتلف الناس فيها حياة باردة رتيبة يقل فيها التنافس، ويتحدد فيها التفاعل مع المحيط، ليست كحياة المركز الساخنة المليئة بالحوادث المتجددة المفاجئة، وتنعكس هذه الفروق على الدعاة، فيكون من يتربى منهم في الزحام أوعى وأعرف بالأفكار الحديثة، وأوفر تجربة ومهارة، وأكثف تحركًا، وعلى حذر من الخصوم، وهو أبعد عن البدعة وإن لم يتوسع علمه الشرعي، بينما يكون ربيب الهدوء أصفى قلبا وأرق عاطفة، وربما يكون علمه الشرعي أوسع وإن مازجته البدع، وأخلاقه الطبيعية أجود، والحكم للعموم، ولكل ظاهرة من يشذ عنها، ومثل هذا التباين في المستويات يعتبر عاملا سلبيا يؤدي إلى ضعف الوحدة التنظيمية أو عرقلة الخطوات التنفيذية.
- ومن زاوية أخرى فإن التطور السياسي والاجتماعي العام في البلد يجعل كل مرحلة منه تعكس بعض طبائعها على جيل الشباب الذي عاصرها، على اختلاف مذاهبهم الحزبية والفكرية، مسلمهم وجاهليهم، ودعاة الإسلام الذين يعاصرون كل مرحلة تكون لهم نفسية معينة يشتركون فيها، وتكون اهتماماتهم متقاربة، ومشاربهم وأذواقهم، وربما حتى اصطلاحاتهم وطرائق تعبيرهم، فجيل الثورة الجزائرية غير الجيل الذي نشا بعدها، وجيل ما قبل انقلابي 23 يوليو و14 تموز غير الأجيال الحاضرة في مصر، والعراق، وجيل النعمة وبقايا الحريات غير جيل العسر الاشتراكي والتهجير في سوريا، وكثير من البلاد، وجيل ما قبل نكسة 1967 غير جيل ما بعدها في كل العالم العربي، بل المراحل الأخيرة أضيق من ذلك، حتى لتكاد تكون كل بعض سنوات قليلة مرحلة متميزة بتأثيراتها، وهذا الاختلاف هو بدوره من العوامل السلبية أيضًا.
- ومراحل الدعوة الإسلامية في كل بلد تصبغ أجيالها كذلك بسجايا وأنماط سلوكها خاصة، فالرواد المؤسسون غير الذين يأتون بعدهم، وجيل المرحلة السرية غير جيل الانفتاح العلني، ومن تجبه فتنة مع أول توجهه غر غراس أيام التحاب والصفاء، وذلك سلب ثالث يثلم الوحدة.
لهذه الأسباب الثلاثة كان لابد من توفير بعض الجهود الجماعية لصرفها في عملية داخلية مستمرة غايتها: التقريب بين المستويات التربوية لمجموع الدعاة، وهيع ملية متشعبة أساسها: تحديد عناصر الأصالة في شخصية الداعية المسلم وعناصر التجويد والتحسين، وجعلهما مقياسا عاما تشذب وفقه الزيارات، وينحت كل فضول ونتوء وتكلف في الأفكار والنفسيات والأذواق، وحتى في اللغة والاصطلاحات وطرائق التعبير، وذلك عن طريق المناهج أولا، والتعايش المتداخل والامتزاج ثانيا.
فكما أن التوحيد الاستدراكي الأول كان ديدنة: إذابة الاجتهادات الفردية في الخطط والأساليب، فإن هذا التوحيد الثاني واجبه: إذابة النزعات الخاصة وتطرفات السلوك، مثلما هو تكميل لنقص كل ناقص، على اختلاف أنواع نقصه.
وقد لا يرى بعض الدعاة مثل هذا التباين في بعض البلاد فينكرون احتمال وجوده وليس الأمر كما يظنون، بل معني ذلك أن توحيدًا قد مارسته القيادة فولد التقارب، وأنتج المحاسن، ولا نفترض في كلامنا أن يصف الواقع حتما ويقترح لعلاجه جديدًا، بل نذكر الاحتمالات والسلبيات، إذ قد يمارس الداعية علاجها تلقيا وراثيا وتقليدا دون أن يفطن للتعليل والأسباب، وذلك عيب ولا شك، إذا ربما يطرأ عليه الفتور فيه لعدم رؤيته حكمة الأعراف التي نشأ في ظلها ودرج عليها، كأمي يرث عن أبيه أوراق علم وشعر لا يعرف قيمتها، فيهملها فتتلف، وربما باعها بثمن بخس لمتأدب ينوي السرقة منها، بل أحيانا لبقال يلف بها للمشترين البضاعة وقد تعب في تدوينها أبوه، وسهر الليالي.
ولعل من أهم عوامل حفظ التقارب بين المستويات: الإبقاء على العرف الموروث في تنظيم مجموعة الدعاة تبعا لسكانهم في منطقة سكنية واحدة دون تفريقهم إلى تنظيمات اختصاصية حسب مهنهم، أو في تنظيمات حسب أجيالهم وأعمارهم، كأن يكون تنظيم الموظفين مستقلا عن الطلاب وغيرهم، فإن هذا التجزئ يمنع إفاضة خير وعلم وعقل الكبار على الصغار، ويؤكد تمايز الأجيال على أذواقها وطرائقها([2]).
دور الجامعات في توحيد المستويات
والمجموعة الإسلامية المتواجدة في الجامعات في كل بلد مؤهلة بصورة طبيعية غير متكلفة للإسهام الجاد في عملية توحيد المستويات التربوية هذه، وذلك لسببين: إن الجامعات تضم شبابا من العاصمة وكل المدن والقرى، وإنها تضم ضمن جهازها أساتذة مدرسين من الدعاة هم من أجيال اسابقة يمتزجون بجيل الدعاة الطلابي الجديد امتزاجا يوميا مسترسلا، بعفوية هي أبعد في التأثير من تأثير العلاقات المفتعلة.
فاختلاط طلاب القرى والمدن الصغيرة بطلاب العاصمة أو المدن الضخمة، ثم اختلاط الجميع بجيل الأساتذة، من شأنه أن يتيح تبادل الخبرات والنظرات وشيوع السجايا الحسنة، كل يفيض مما عنده للآخر، فإن السجية الحسنة يكثر تأثيرها، ويقل تأثرها، لقوتها الفطرية، وحسنها وجمالها.
ولو أن نتاج هذه العملية اقتصر على هذا التبادل بين الجامعيين لكان محدودًا، لكنه يتضخم جدًا بعودة الوافدين من القرى وصغار المدن إلى أماكنهم ي أيام الإجازات والعطل، أو توظفهم بعد التخرج قرب أهلهم، لأنهم يعكسون تأثراتهم على الدعاة الآخرين بدورهم.
إن اكتشاف هذه الميزات الفريدة للعمل الإسلامي في الجامعات يوجب على القيادة مضاعفة العناية به، ورصد الكفايات المناسبة له، لتمكينه من أداء دوره كعامل ثالث في توحيد المستويات ولا يصح أن نوهم أنفسنا بأنه قطاع ثانوي من قطاعات العمل بسبب كون المرحلة الجامعية في حياة الداعية مرحلة وقتية، ومن أهم أركان هذه العناية القيادية المطلوبة: تخصيص جهاز دائم للقطاع الجامعي من المسؤولين والإداريين والمربين المؤهلين للاستمرار في الإشراف عليه، ذلك أن الاعتماد في إدارته على الطلاب أنفسهم يولد عدم استقراره، وتكرار قلقه، لتخرجهم ومجيء جدد غيرهم، بل يستعان بهم بمقدار، وبغاية تدريبهم على الأخص.
ومن هذه الرعاية المطلوبة أيضًا: إيجاد حلول مناسبة لسلبيات لاصقة بطبيعة حياة الطالب الجامعي وطبيعة محيط الجامعة، كالاضطرار للتواجد في بيئة يكثر فيها تبرج النساء، وكثرة الامتحانات المستهلكة لأغلب أوقات الطالب، وقلة الراحة في بيوت الضيافة والأقسام الداخلية التي يسكنها الطلاب، ومتاعب مراجعاتهم لضمان قبولهم فيها، وبعد مكتبة الداعية الخاصة عنه، والتشتت خلال شهور الإجازة الصيفية، في عيوب أخرى يعرفها الممارس.
المؤتمر الغربي اليومي الدائم يعتبر عاملا رابعا في التقريب
وكما أن قطاع الجامعات يقارب بين المستويات فإن مجموعة الدعاة المغتربين في بعثات دراسية في أوروبا وأميركا والمقيمين فيهما تحوز أيضًا مثل هذه القابلية لتقريب من نوع آخر مزدوج مهم بين اجتهادات ومستويات دعاة الأقطار المختلفة، إذ أن طبيعة الحياة السياسية في كل قطر، ونوع التركيب الاجتماعي، ودرجة تطوره المدني، وشكل علاقاته ا لاقتصادية، والجذور المذهبية والعرقية فيه، كلها تصبغه بصبغة خاصة ولابد، تؤثر في أنماط سلوك الدعاة وأخلاقهم وأعرافهم وأساليب نشاطهم وفقههم، ومن الممكن ملاحظة الفروق في المجموعة المختلطة دونما طويل معايشة لها.
إن انصهار المغتربين في عمل واحد ممتزج يتيح هذه الفرصة لتبادل التأثير، وربما كان المقدار ا لذي أتي منه بصورة عفوية غير منهجية يفوق أو يعدل التبادل الذي تتيحه البرامج المشتركة، فتتهذب تطرفات، وتتعمم تجارب، فيتعظ الداعية بمواعظ توسع آفاق وعيه الحركي لم تكن تنبغي له في ضيق حدوده القطرية.
إلا أن حصول هذا الانتفاع رهن بوجود نفسية متفتحة لدى كل مشارك يفهم بها نسبية الصواب في أكثر المسائل المبنية على مراعاة الواقع، وآثار الظروف المختلفة في تنويع الخطط والمواقف، دون أن يدعي احتكار الصواب له ولقيادة قطره.
وبسبب هذه النتائج الحسنة لتعايش المجموعة الغربية اصبح من المستحسن أو الواجب تكثيف العناية بها، وإكثار زيارات الفقهاء لها، ناصحين، ومعلمين، وقضاة يفصلون بين تضارب المفاهيم إذا تعددت زوايا الناظرين.
انقد الماضي... يومض لك المستقبل
إن هذين الاستدراكين ليسا إلا بعض ما يجب من المراجعة، أو تتمثل فيهما أركانها المهمة، والمفروض أن ينعقد مؤتمر كل خمس سنوات، وفي نهاية كل فترة سياسية مميزة يمر بها البلد، أو في أعقاب كل مرحلة خططية تقضيها الدعوة على غرار ما ذكرنا آنفا، ويكون البحث في هذه المؤتمرات منصبا على مراجعة وتحليل وتقويم ونقد عمل الدعوة في المدة الماضية في جميع المجالات، وهذا الأسلوب هو الكفيل وحده باكتشاف الظواهر السلبية وتعيين أسبابها واقتراح علاجها على ضوء المقدمات التي سيعيد المؤتمر إلى الأذهان التذكير بدورها في حصول النتائج الإيجابية.
([1]) ديوان الأسرار والرموز/98.
([2]) راجع أيضًا معاني تكامل الأجيال والتخصص خلال فصل (عوامل الجديد الجماعية) وارتباط ذلك بمبررات (نظرية الأجيال القيادية) الواردة في هذا الكتاب.
عوامل الجدية الجماعية
ونعني بالجدية: حالة من التيقظ المتواصل المستديم يتيح استغلالا وافرًا لطاقة مجموعة الدعاة في سد الحاجات واستثمار الفرص دون تعطيل شيء منها.
وهذا الوصف يقتضي: تجاوز التعويل على المقادير الضئيلة للقابليات الفردية الذاتية إلى أنواع من التوجيه لها أو الجمع والتنسيق بينها، تكفل تنميتها وتطويرها.
وشرط دوامها: أخذها بلا غلو، فإن الإفراط يؤدي إلى التعب السريع، ولذلك جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير الأعمال: أدومها وإن قل، وكان الرافعي يؤكد: (أن روح العمل الدائم تكون فيما يشق بعض المشقة، ولا يبلغ العسر والحرج، كما تكون فيما يسهل بعض السهولة، ولا يبلغ الكسل والإهمال)([1]).
ويبدو اليوم ساذجا من يظن أن الكلام الحماسي المجرد يبعث هذه الجدية، إذا أن نفعه آني، وإنما هو مفيد وقتيا فحسب، ولكنها تنمو في ظل جملة احتياطات قيادية عامة وظروف مساعدة، وتكون بها سمتا يكتسبه الداعية الجديد تلقائيا وذاتيا مع وضع قدمه في طريق العمل الجماعي، متخلصا من مرض تنظيمي شائع يظهر في أعراض من السلبية والتسيب.
وتنتصب أمام نظر المجرب عشرة عوامل تكون الظروف الملائمة لتأسيس وتصعيد جدية المجموعة العاملة، مع ما لها من مردود حسن آخر على شعب الخير الإسلامي الواسعة المتنوعة كلها.
(العامل الأول): وضوح الفكرة الإسلامية في نفس الداعية
فإن الوضوح يؤدي إلى شعور الداعية بأنه يحمل إسلاما ليس كمثله مبدأ آخر مما عند الأحزاب العلمانية، وينتج عن هذا الشعور بالتالي فهم لضرورة الاستقلال عن غير المسلم، ومفاصلة الأعداء، ويلمس دوره في مسؤولية الحفاظ على السلام، في عمل دائب ومصارعة للفكر المضاد، ويستيقن ضرورة الممارسة الحركية الجماعية إذا أريد للصراع أن يكون متقنا.
ويمكننا أن نفقه دور هذا الوضوح من مثل نضربه: أن رجلا يريد أن يشترى تحفة، فهو يتحرى الأتقن صنعا والأجمل منظرًا، إذ الفطرة السوية تقوده إلى ذلك، فيري ذات النقش الفني اليدوي الدقيق على خشب الأبنوس النادر، ويري ذات النقوش الغليظة التي تنتج المكائن ألوف النسخ المتماثلة منها من لدائن كيماوية، فإذا ظفر بالأولى: ازداد إعجابا بها مع الأيام، وحرص على حمايتها من يد تعبث بها، ووضعها في صندوق أو بعيدًا عن اللصوص والأطفال، وجعل ميزاتها موضوع حديثه إن زاره أحد، لما لمس فيها من الاتقان والجمال، من بعد ما رأي الكثير غيرها من البائر القبيح الرخيص.
وهكذا إذا أحس الداعية فعلا بإتقان الله تعالى لأحكام الإسلام، واستمتع بجمالها ولمس المصالح الكامنة فيها، فإنه يشعر عندئذ بأن إسلامه دين عزيز، وليس كمثله دين آخر أو فلسفة، ويندفع ذاتيا لصيانته والذود عنه والتحدث لجلسائه بإحساسه، ولله ولدينه المثل الأعلى.
إلا أن هذا الوضوح الفكري سهل تمنيه، لكنه في التطبيق يمثل جهدًا جماعيا مكثفا في تثقيف الدعاة، وتفهيهم الأحكام الشرعية وفضائل الإيمان، من خلال تربية تعليمية طويلة ومطالعة منهجية، فتجمع لهم بذلك صورة كاملة لجمال الإسلام، وأما مجرد المقالات التي تمدح الإسلام وتذكر عدله فإنها لا تولد غير جدية سريعة الانقضاء والنفاد.
إن هذه الحقيقة تطلعك على ارتباط عوامل الجدية الجماعية بجميع أعمال الدعوة على اختلاف أنواعها، وصلتها هذه بالناحية الثقافية دليل على أن التحسن والنجاح في أي جانب من جوانب الخطة الشاملة يؤدي إلى زيادة ونمو في جدية المجموع، مما يقنعنا بأننا إن أردنا كمال التشغيل إن أردنا كمال التشغيل والاستغلال للطاقات فإن علينا أن نتوجه لرفع المستوى التربوي العام أكثر مما نتوجه للتعويل على حث الدعاة على انفراد.
ومما نستله من المثل الذي أوردناه: أن من متممات ذلك أن نطلع الداعية على قبح واضطراب الفلسفات وأفكار الأحزاب الأخرى، ولكن في خطوة مؤجلة لاحقة، حذرًا من أن تعلق بقلب الجديد شبهة أو ينطلي عليه تدليس.
(العامل الثاني) البرمجة الفردية والجماعية
فنعلم الداعية كيف يبرمج يومه، ونقيد تصرفاته ونشاطه في بعض أيام الأسبوع، لا ندعه فيها حرا، ليتعلم تنظيم الأوقات، ولكن من الضروري أن ندعه في الأيام الأخرى يماسر تجربة ذاتية بغير رقابة، إذ النفس تمل الرقابة الكثيفة.
ونعلمه برمجة أسبوعه، بحيث يخصص بعض الأيام لعمل معين أو لون من النشاط، مع الانتباه إلى تخصيص يوم راحة له مهما بلغت الضرورة لأن الإرهاق يولد الملل ويضاد حقيقة الجدية.
وتزداد أهمية البرمجة الشهرية ثم الفصلية ثم السنوية، فنعلم الداعية أن يضرب لنفسه موعدًا منذ الشتاء أن يعمل كذا وكذا في الصيف، وأن يقرأ كتبا مسماة خلال السنة، ولا يترك همته تحركها الصدف فحسب، أو حين ساعة يتذكرها من بعد نسيا، أو يطالع ما تقع عليه عينه من الكتب دونما اختيار للأنفع والأهم، بل نلزمه بجدول وخطوات متتالية مدروسة سلفا.
إن فائدة هذه البرمجة لا تكمن في أنها تمنع من التفلت فقط، بل لها أثر نفسي كبير يؤدي إلى إتقان التنفيذ، إذ الداعية يظل يفكر فيما يتعلق بالأمر الذي سينفذه بعد مدة تفكيرًا متواصلا، ويصطاد الخواطر التي تأتيه حوله، حتى إذا جابهه وبدأ التنفيذ: بدأه بتصور واضح، ولكن إذا نفذه بعد انقداح الفكرة في ذهنه بمدة قليلة فإن صورة الأمر ستظل ناقصة عنده، لقصر وقت التفكير التمهيدي، فيهمل بعض الفوائد نسيانًا، ولقلة الاستعداد والتهيؤ، ولطبيعة الارتجال.
وتأتي بعد ذلك: البرمجة الجماعية والخطط التنفيذية مكملة ومستدركة على نقص البرمجة الفردية، فتوجه وتنسق فرص الاستفادة من القابليات المختلفة على نسق خطط التنمية التي تضعها وزارة التخطيط في كل دولة، وليس هناك مانع من وضع جداول زمنية مفصلة والتطرق في الخطط ذات الطبيعة التنفيذية إلى فرعيات مختلفة، وهي غير الخطط التي تعين الأهداف والسياسات الخارجية والداخلية للجماعة والتي تكون هي المقصودة عادة عند إطلاق اصطلاح (التخطيط).
إن نجاح كثير من القادة العسكريين يعزي إلى تمكنهم من إصدار أوامر واضحة مفصلة إلى كل ضابط بمعيتهم، كل حسب صنفه وموقعه في ساحة المعركة، وقيادات المناطق والقطاعات فيا لجماعة يمكنها أن ترفع مستوى الجدية في التنفيذ كثيرًا إذا استطاعت ترجمة الخطة العامة التي تضعها القيادة العليا للجماعة إلى جملة خطط تنفيذية تعين الوسائل ومجاميع العمل والواجبات التفصيلية.
إن لجان الجماعة المختلفة إذا تمكنت من وضع برامج سنوية لها فإن التزامها بها كفيل بإيجاد ما يمكن أن ندعوه بأنه الذاكرة الجماعية العامة التي تبرز كعامل رئيسي في إحلال الجدية، ولا ننفي أن صياغة مثل هذه البرامج تستدعي صرف جهود مكثفة، إلا أ، المصلحة الكامنة فيها تسوغ صرفها.
(العامل الثالث): التخصص وتوزيع الأعمال
إذ أ، لكل داعية طبيعة وهواية، والمفروض أن القادة يملكون أخبارًا وافية عن صفات العاملين معهم، في شبه عملية إحصائية تنتج عن تتابع الجلسات الإدارية، وبذلك يمكنهم تطبيق القول العرفي الصائب في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ونضيف هنا أن يكون بصحبة مجموعة مناسبة قريبة في صفاتها منه، فتنشأ عن ذلك عندئذ مجاميع التخصص واللجان الاختصاصية المختلفة وفروعها.
إن علاقة التخصص بالجدية واضحة، لأن المتخصص يعمل في محيط من الرؤساء أو الأقران أو المساعدين الذين يفهمونه، ويحاورهم ويحاورنه على بينة وعن إدراك وفي تجانس فكري وتقارب في الآراء، يشعرونه بأهمية صوابه إن أصاب، فينطلق لزيادة، ويفرح بخير يجري على يديه، وإن هو إخطأ: أعطوه الدليل على ذلك، فيفرح أيضًا بفقه عند إخوانه لم يحوجهم إلى تهجم عليه، وبذلك بنفتح باب واسع للإبداع المتواصل لا يتاح لذي مقدرة مغمور بين إخوة له، يخالفونه في طبيعة الاهتمامات والثقافة، وليس للجدية غاية أبعد من الإبداع.
إن العمل اليوم في كل الدول والأحزاب إنما يبني على المشاركات الجماعية، وحتى العلوم البحتة، كالفيزياء والكيمياء، لم يعد فيها مجال كبير لاكتشافات فردية، بل لعمل مجاميع العلماء، وهكذا فإن العمل الجماعي الإسلامي من ضروراته: تقسيم التخصصات وعمل المجاميع المتعاونة، في البحث السياسي، والتخطيط، والاتصال بالكبار، والعمل الصحفي وغير ذلك وبذلك تسير الداعية همة جماعية لا تدع له فتورًا.
ومن الضروري أن تنتبه هنا إلى أننا نتحرى في الداعة الكفاية الفطرية والموهبة الكامنة فيهم إذا أردنا توزيعهم على اللجان الاختصاصية، وليس من شرط ذلك أن يساندها اختصاص مهني أو شهادة جامعية، فقد يكون الخبير السياسي أو الصحفي عندنا طبيبا أو مهندسا يحوز ما لا يحوزه الممتهن الخريج.
السعي لحيازة مراكز التأثير الفكري والتربوي
ولئن كان هذا التخصص مهما في أداء الأعمال داخل البناء التنظيمي فإن من الواجب أن يسانده تخصص آخر في العمل الخارجي المهني الذي يؤديه الدعاة في أجهزة الدولة ومرافق المجتمع، فإن المهن والوظائف تتفاوت في قربها أو بعدها عن المجال الفكري والسياسي الذي يهمنا، ومن البداهة أن نحرص على احتلال المراكز التي تتيح لنا تربية غيرنا وإسماع صوتنا أو تجعل لنا هيبة أكبر، في عملية شبيهة بما عمله خصوم الإسلام في السيطرة على المرافق المهمة وتكوين أجيال من الأدباء والقانونيين والمربين استطاعت تبديل الموازين وإحداث انحراف في مجرى الحياة لصالح الجاهلية، وكانوا قد نجحوا في هذا الباب نجاحا عظيما لا يتيح لعمليتنا المعاكسة إلا أن تكون رد فعل لها نستدرك به الشيء دون الشيء.
وتبدأ عمليتنا بإحلال توازن في اتجاه طلابنا الدعاة الجدد في المدارس الثانوية بين الفروع الأدبية والفروع العلمية التي تحدد مجال اختصاصهم الحيوي. فنشجع صغار الدعاة والمؤيدين لنا على دخول الفرع الأدبي، ثم دخول كليات الحقوق والآداب والاجتماع والتربية والإدارة والاقتصاد والعلوم السياسية، ثم تشجيع البعض منهم لنيل شهادة الدكتوراه في هذه المواضيع والعكوف بعد نيلها على مواصلة البحث في نفس المواضيع، ومن قصرت إمكاناته المادية عن تلبية رغبته ولم ينحل منحة مالية حكومية: أرسلته الدعوة على نفقتها ما أمكنها ذلك، مع توجيه الجميع لاختيار مواضيع رسائل دراساتهم اختيارًا ماهرًا، بحيث يكون البحث مفيدًا لتوسيع علوم الدعاة أيضًا وليس مجرد بحث لنيل الشهادة فحسب.
أما الطبيب، والصيدلي، والمهندس، والجيولوجي، والكيماوي وأمثالهم، فإنهم يفيدون الدعوة، بقابلياتهم الشخصية فقط، وأما مراكزهم الوظيفية فصلتها ضعيفة بمجالاتنا، بل وأمامهم مجال فتح العيادات والمكاتب الخاصة مساء، فيتقلص كثيرًا وقت اشتغالهم بالدعوة، بعكس الموظف العادي من الحقوقيين أو المدرسين ومن شاكلهم، حتى أنك لتجد الداعية قبل تخرجه من كلية الطب أو الهندسة أكثر إرهاقا من طالب الآداب والقانون، منفقا أكثر وقته في التشريح أو رسم الخوارط.
إن من التطرف وضعف التدبير أن نحرص على صنف واحد من الصنفين، وإذا كنا ندعو اليوم لتكثيف الدخول إلى كليات الدراسات الإنسانية فإن ذلك لما لمسناه من عزوف عنها، وأما الصواب فكامن في حالة من التعادل والتوازن بين مختلف الاختصاصات، مع بعض الرجحان لدراسة القانون والاقتصاد والآداب، تقتضيه طبيعيتنا الحركية، ف إن دراسيها يستطيعون في الغالب إقناع الطبيب والمهندس وضمه إلى صفوفنا، ويندر حدوث العكس، ولا ننفي وجود أمثلة مغايرة، ولكننا نتكلم عن الشائع الأغلب، وإنما نعني بالتعادل: ذلك التعادل في توجيه أهل الذكاء والجد الدراسي إلى هذه الاختصاصات، وأما الاكتفاء باضطرار أصحاب المعدلات الضعيفة والهمة الدراسية الواطئة لدخول كليات الحقوق والآداب فإنما فيه تحقيق تعادل ظاهري لا يؤدي ما نقصد إن روح الصراحة تتيح لنا أن نفصح عما نلمسه عند كثير من الدعاة من رواسب نظرة الإكبار العرفية التي يضيفها مجتمعنا للمهندس والطبيب، ورحنا نقلد الناس دون تدبر في مستقبل الدعوة، ولابد من أن يشترك كافة الدعاة بحملة واسعة سنوية وبتربية دائمة للترغيب بهذا التوازن ثم التخصص، ويجدر بمن يعمل للإسلام أن يلزم العزيمة وعلو الهمة والصبر، فيتحمل ما هنالك من فروق في الرواتب والفرص المعاشية والمردود المادي بين الصنفين إن بقي دون شهادة تخصص عالية تساويه بغيره.
تواضع... ووفاء
إن استرسالنا في الكلام إذا أوصلنا إلى هذا الموطن فإنه جعل الباب مفتوحا لتذكرة أخوية نوجهها للدعاة المختصين قد نتردد في قولها في مناسبة أخرى، ذلك أننا نود أن ينتبهوا إلى احتمال دخول الغرور والعجب والكبر إلى نفوسهم، لما في مجال التخصص ودراسة الدكتوراه من شائبة المعاني الدنيوية، مما لا يميزها إلا من أوتى الأنوار الإيمانية الوافرة.
وعلامة تخلص الداعية من هذا النوع من الغرور أن يعتقد على طول الخط أ، الفضل لله وحده فيما وصل إليه من علم وخبرة، وأن للدعوة ومجموع العاملين فيها أكبر الأدوار في ذلك، إذ أتاحت وأتاحوا له فرصة التعلم وأرشدوه إلى خدمة الدعوة عن هذا الطريق، وإذ كانوا له مصدر أنس واطمئنان حين صحبوه في هذه الأيام الظلماء ولم تصبه وحشة الطريق، أو يهجم عليه خوف ويأس كذلك بأن يعتقد أن الشادة وحدها ليست هي مظنة حيازة العلم والخبرة، وأن غيره من الدعاة قد يكون فيهم من هو أعلم منه في نفس موضوعه نتيجة للمطالعة والتتبع ولقاء العلماء وإن لم يحصل على شهادة، وأن عليه أن يطيع الثقة المؤمن الواعي إن وضعته الجماعة مسؤولا عليه، وإن لم يحز مثل علمه التخصصي أو شهادته فإننا نحتكم في ذلك إلى الشروط الحركية لا إلى الشروط المهنية.
وأيضًا، فإن من علامة فقه المتخصص لحاجيات الدعوة أن يكون منفذا للواجبات التي يكلف بها حين الدراسة إزاء أنصار الجماعة ومؤيديها، وفي أن يمتنع ويرضخ طائعا إذا استأذن بالسفر للدراسة ومنعته الجماعة، أو أجلت الإذن له مراعاة للضرر الذي يصيب التنظيم إذا ترك العمل في وقت غير مناسب، وعلى قلبه أن لا يظل معلقا بما أراد، فيقل نشاطه ويفتر اندفاعه، وأشد ما يكون من ذلك إذا استأذن أخ له وأجيز وأتاه المنع له فقط، إذ قد يلقي الشيطان في روعه بعض معاني الحسد الرديئة في تلك الأيام، مما لا ينقذه منها إلا الفقه الوافر والإيمان العميق واعتبار هذا التخصص من الواجب والتكليف وليس هو من مصادر الفخر والتشريف، وإنما الفخر في التقوى وفي تمني الخير لجماعة المؤمنين، على أي يد كان تحقق هذا الخير، ويكفيه أنه إن دل عليه فله مثل أجر فاعله.
إن القيادة كما يهمها أن تنفذ خطة التخصص فإنها يهمها أيضًا أن تحافظ على الجماعة كحركة عاملة ذات قوة تنفيذ وإمكانية توسع، وتظل تراقب بحذر مزالق تحول الجماعة إلى مجمع دراسي علمي ورواق فلاسفة، فتمنع البعض عن مواصلة دراسة التخصص وتجيز البعض، دونما هوي وانحياز.
دموع المربي...!
ولعلها كلمة قاسية أيها الإخوة، ولكنها من الحق: أن نستشهدها هنا، في هذا الموطن، بقول صادق لسفيان الثوري رحمه الله، فقد رؤى حزينا يوما، فقيل له: مالك؟ فقال:
(صرنا متجرأ لأبناء الدنيا، يلزمنا أحدهم، حتى إذا تعلم: جعل قاضيا أو عاملا)([2]).
إنها الحقيقة المؤلمة في حياة كثير من الدعاة.
تعلمهم الدعوة الفصاحة واللباقة التي تمكنهم من حيازة فرص جيدة فإذا حازوها: فتروا، أو تفتح لهم الدعوة باب الدراسات العليا، ولعل إخوانهم سعوا لهم لدى المسؤولين الحكوميين لحيازة البعثات والزمالات، ولربما أعانوه بالمال، ثم يؤنسه إخوانه في غربته ويعصمونه الفتن ويخلفونه في أهله، فإذا تخرج ورجع: فتر وفكر في عذر يتملص به من العمل.
قد تصير الدعوة متجرًا لأبناء الدنيا، يلزمها أحيانًا، حتى إذا صار موظفا كبيرا أو أستاذًَا جامعيًا، و(اختصاصيا خبيرًا): تركها، وانفرد يبني مستقبله.
كلمة مرة يجب أن يتقبلها الدعاة، فإن كتف الدعوة يئن لكثرة الذين حملهم وتنكروا له.
فاعقدوا العزم على الوفاء لهذه الدعوة المباركة أيها الإخوة، واجعلوا الشهادة العالية أو التجارة أو المنصب في خدمة الدعوة لا للصيت، وإلا فإن الأمر كما يقول بعض السلف:
(إنه قل من يسر لنفس الجاه والصيت فأمكنه الخروج منه).
أي يقع في إثم التكبر المصاحب للصيت، ويترك التواضع.
أهمية لجنة التخطيط
وقد يسأل سائل من الدعاة، عن سب عدم تنفيذ هذه الأماني التخصيصية في بعض البلاد، وعن سبب عدم توزيع الأعمال الحركية؟
ونظن أن الجواب يكمن في سببين:
في قلة الطاقات المتوفرة لدى الحركات الناشئة، فهي في شد وجذب بين الرغبة في حشد كل الطاقات في مجالي التجميع والتربية تلبية للحاجة الآنية، وبين الرغبة في التوزيع والتخصص رعاية لمصالح المستقبل وحرصا على تكامل العمل، ولا مانع من الإبطاء في هذا الباب نوع إبطاء إذا كانت فرصة التجميع حسنة، وكانت الدلائل تشير إلى خطأ تفويتها، لاحتمال عدم تكررها بنفس السهولة، ولكن هذا الإبطاء يجب أن يكون مقترنا بقناعة تامة في أن تحويل بعض أصحاب الكفاية عن التجميع لا يعتبر غير خسارة وقتية لمجهودهم، وأن نتائج أعمالهم التخصصية الجديدة وستزيد مقدار الجدية العامة، وعندئذ فإن هذه القناعة ستتحول إلى مبدأ يدفع إلى تطبيق خطة التخصص الحركي والمهني في أول مناسبة سانحة دون تسويف، أو يدفع إلى التبكير في ذلك نوع تبكير يعادل ذلك الإبطاء يتيح مدة تدريب كافية للمتخصصين قبل أن نترقب منهم الإنتاج.
ويشكل عدم وجود لجان تخطيط سببا ثانيا في ذلك، لأن كثرة الأعمال اليومية المتنوعة التي تتصدى لها القيادة قد تلهيها عن متابعة الإشراف على خطة التخصيص، بينما تكون لجنة التخطيط أقدر وأوفر وقتا وطاقة، خاصة وأن بإمكانها الاطلاع على كافة اقتراحات قدماء الدعاة في ذلك من خلال المؤتمرات التنظيمية التي تعقدها بإشرافها أو تحضرها إن كانت بإشراف غيرها، مع ما تتيحه طبيعة تركيبها من حرية التنقل في البلدان والتعرف على ما تبتكره الأجزاء الأخرى للحركة في هذا الصدد، وجردها لأنواع الحلول المناسبة لمشاكل التخصص ثم الاقتباس من كل ذلك، في الحين الذي تكون فيه القيادة العامة مأسورة، غارقة في متابعة الأعمال، وتمنعها واجباتها في الأشراف على القطاعات والمناطق عن مثل هذا التنقل.
قضية التنظيمات الاختصاصية
بيد أن التخطيط التخصصي لا يقتضي بالتالي بناء التنظيم على أساس التخصص المهني للدعاة، والأفضل أن يكون تنظيما مختلطا يندمج في وحداته النموذجية المنبثة في المناطق السكنية كل الدعاة على اختلاف مهنهم، ولا مانع بعد ذلك أن تنهض إلى جانبها لجان مصغرة تعين تنظيمات المناطق السكنية على استثمار آخر ثان لقابليات أهل كل مهنة خلال أوقات ممارستهم المهنية أو في مجتمعاتهم الخاصة التي تربطهم بزملائهم في المهنة، كمثل لجنة عمالية تنسق نشاط العمال الدعاة في المعامل والمجالات النقابية، أو لجنة أخرى تنسق نشاط المدرسين في المدارس ونوادي المدرسين.
إن البعض ينادي بضرورة وجود تجمع للقانونين وآخر للاقتصاديين وثالث للمهندسين، ورابع وخامس، بحيث تضم هذه التجمعات أجود الدعاة معدنا من أهل الاختصاصات، وكل تجمهر يعتبر تنظيما أساسيا للدعاة الذي ينخرطون فيه، وتخضع كل التجمعات لقيادة واحدة تمثل رؤساء هذه التجمعات، ويكون واجب كل تجمع أن يقوم بدراسات مستفيضة في حقله ينشرها للناس تكون هي أساس إقناعنا لهم لا الكلام الشرعي المجرد، وأما تنظيمات المناطق السكينة فإنما تضم من لا يستطيع أن يستطيع أن يشارك بنوع فائدة في هذه التجمعات.
ولكن معارضة القيادات، وكتابات سيد قطب رحمه الله في الظلال، دعت أصحاب هذا الاقتراح إلى عرضه في صورة معتدلة، وجعلتهم يتوسطون ويكتفون بالدعوة إلى تكوين هذه التنظيمات الاختصاصية ضمن الإطار العام للتنظيم الحركي.
ولا تخلو هذه النظرة المعدلة من صواب، ولكنه دعاهم إلى المبالغة، والذي نراه أن يكتفي من ذلك بوجود اللجان الصغيرة فحسب، أو وجود التنظيمات الثانوية المعينة التي تغطي الأوقات المهنية للدعاة إذ هم في المعامل أو المدارس أو دواوين الحكومة، وأما حشر جميع أهل الاختصاص الواحد أو أحسنهم مستوى في تنظيم واحد فهو إسراف في استغلال هذا الصواب.
إن الحركة يهمها أن يوجد الآن في كل قطر بضعة دعاة مختصين في كل فرع يتشاورون بينهم ويبحثون ويضعون الدراسات، وأما الجمهرة العظمى من الدعاة فتمارس التجميع والتربية،وإعداد الصفوف نم خلال تنظيمات المناطق، وتلك القلة الاختصاصية تستطيع أن تنمي قدرتها برفع عملها إلى مستوى عالمي يتم فيها تعاونها مع مثيلاتها في الأقطار الأخرى على شكل مؤتمرات ومحاورات وتبادل للخبرات والدراسات والإحصائيات المجموعة والوثائق المكتشفة.
ونستطيع أن نرصد أسبابا عديدة تنتصر لوجهة نظرنا هذه في تحديد حجم التنظيمات الاختصاصية، منها:
1- أن أي تضخم في حجم التنظيمات الاختصاصية يعرضها إلى انتهاج خطة مخالفة للخطة الشاملة التي تضعها قيادة التجمع الحركي العام، لأن صاحب كل اختصاص قد ينظر من زاوية ضيقة ومن خلال حماسته لاختصاصه من حيث لا يشعر أحيانًا، وربما يعطي في تصوره لعمله التخصصي مكانا من الأهمية في حياة الحركة الإسلامية في مرحلتها الحاضرة أكبر مما يستحقه نوع العمل ومدى الحاجة له، وقد يؤدي كل ذلك إلى اختلاف المنهج التربوي بين التنظيمات الاختصاصية وتنعدم الوحدة التربوية أصلا، فإن مسائل التربية تحركها قناعات ومفاهيم وأعراف تنشأ من خلال تبادل وجهات النظر والحوار أكثر مما تحركها أوامر قيادية وبنود مكتوبة.
2- وربما كان في تداخل الأعمال سبب آخر يقنع المجرب، فإن كثرة التنظيمات ذات العمل شبه المستقل تجعل التشابك والتعارض محتملا، لأن المجتمع الذي تعمل فيه واحد، وتأمل حال مدعو مهندس مثلا يتوجه إليه داعية مهندس، وفي نفس الوقت يتوجه إليه جار له من الدعاة أو بعض المصلين من الدعاة معه في المسجد الذي يعتاد الصلاة فيه، وليس بين الاثنين تشاور وصلة.
3- كما أن من سلبيات هذا التوزع الاختصاصي ما يكون من تفويت استغلال بعض أوقات الداعية وهدرها، إذ ليس من الممكن استنفار الداعية في كل ساعات نهاره وليله للتنقل ولقاء الناس، كأنه ضابط جيش في إنذار وتعبئة عامة، بل هو يقضي الكثير من أوقاته في بيته وفي المسجد القريب من بيته، ومع جيرانه وفي مقاهي منطقته، هكذا في استرسال بلا تكلف، وهذا يعني أن مثل هذه الساعات سوف لا يستثمرها.
4- وكأن الدافع الذي يدفع بعض الدعاة إلى تضخيم أهمية التنظيمات الاختصاصية يرجع في نشأته إلى تقليدهم ما يرونه من طريقة عمل الأحزاب الغربية دون مراعاة النسبية ودون رؤيتهم الفارق بين مجتمعنا والمجتمعات الغربية، فالفرد هناك تحركه المصلحة المادية الذاتية أولا وآخرًا، ولذلك يهم الأحزاب أن تقدم له دراسات اقتصادية وسياسية تنقد من خلالها خطط الأحزاب الحاكمة وتعد بحلول بديلة، مثل الموقف من السوق الأوروبية المشتركة، ومشكلة الطاقة، والتضخم النقدي، والتلوث، والهجرة، وأما مجتمعنا نحن في كل قطر إسلامي ففيه بقية خير من الناس باقية، ومازالت تؤمن بالإسلام إيمانا فطريا لا يحتاج إلى تكلف الدراسات الكثيرة، وتستطيع ببعث الهمة في هذه البقية وتنظيمها وتوعيتها أن تعيد إلى الأمة حكمها الإسلامي المنتزع، دون الحاجة إلى المبالغة في تنوع الأساليب وفنون العمل، إذ لا تستلزمها بساطة معظم الناس المتعاونين مع الدعوة من أصحاب الفطرة السليمة والاندفاع الذاتي.
وهناك فارق أساسي في طبيعة عملنا يجعله يختلف اختلافا بينا عن طبيعة عمل الأحزاب الغربية، ذلك أن جهاز الحكم في الدول الغربية راسخ، وعمل الأحزاب تنافسي لا يحاول التغيير الجذري، ولا هو عقائدي، ما عدا الأحزاب الشيوعية، وبالتالي فإنها تع تمد على الأصوات الانتخابية مما تعتمد على العضوية الدائمة والتربية الداخلية، ولا يهمها ذلك كثيرا لتحقيق وحدتها الحزبية.
بينما عملنا تغييري عقائدي حركي، ونحن نعمل في وسط صعب يعرضنا للمحن، ولا بد من متانة الوحدة التنظيمية، ونرى أن تعدد التنظيمات الاختصاصية يضر بمصلحة هذه الوحدة المبتغاة، ويفتح أبواب الخلاف والفتن، وقد ينحرف التنظيم الاختصاصي كله إذا انحرف المشرفون عليه في انشقاق، لانغلاق حياتهم عن الدعاة الباقين، وكثرة تناجيهم وانحجابهم عن رؤية مصالح بقية فروع التنظيم، ومن طبيعة القلوب: التقلب، والحذر والاحتياط آكد.
وحتى في مرحلة المجابهة التي يكثر احتياجنا خلالها لبيانات باسم الجماعة في قضايا الساعة الاقتصادية والسياسية والدستورية:
نمنع المبالغة في تصوير ارتباط هذه البيانات بإنشاء التنظيمات الاختصاصية، فإن الوحدة التنظيمية ومتانة الصف الداخلي تغدو أكبر ضرورة من ناحتين: من ناحية كثافة يوميات العمل أولا، المسببة لاحتمالات كثرة الخلاف في وجهات النظر بين العاملين، ولابد من تحصين الدعاة ضد تطور تباين الآراء إلى تباين القلوب والافتتان. ثم من ناحية تتعلق بالطبيعة الهجومية لعمل الحركة الإسلامية، وهي طبيعة تستدعي مزيدًا من الانضباط والسيطرة القيادية، كالتي يحتاجها الجيش المهاجم، ولم يكن العمل الصامت في التجميع والتربية ليستدعيهما بنفس الدرجة.
- ومن الغريب أن الحزب الشيوعي السوفياتي قد لمس أضرار تجزئ ارتباط أعضاء المنطقة الواحدة حتى بعد خمسين سنة كاملة على ثورة أكتوبر، وقد كان من قناعة ساسة الحزب بعد رحيل خروشوف، بمثل هذا المنطق: العمل على تنظيم جميع الشيوعيين في المنطقة الواحدة معا في وحدة واحدة بدون انفاصل.
- إلا أن بعض الحركات تظن أن بمقدورها أن تتملص من هذه الأضرار والسلبيات إذا جعلت الموظفين كلهم على اختلاف اختصاصاتهم في تنظيم موحد ولو انعزل عن الطلاب.
- ولسنا نرى صواب هذا الشكل أيضًا، فإن الأسباب الأربعة المذكورة آنفا تبعث على التخوف منه، فوق وجود أسباب أخرى، منها:
5- ما أشرنا إليه عند الكلام على توحيد المستويات التربوية من أهمية اختلاط الكبار بالصغار، والجيل الرائد بالجيل اللاحق، ليتم التعادل، ويحصل للخير تبادل.
6- وفي كلامنا الذي يوشك أن يأتيك في هذا الفصل عن ظاهرة تكامل الأجيال ما يعطيك مزيد قناعة للإقرار بمثل ما نذهب إليه من وجوب اختلاط جميع الدعاة في تنظيم واحد، ولا نرى أن يعترض علينا معترض هنا فيقول بأنهم يحيون كأجيال متكاملة وإن اختلفت تنظيماتهم، ذلك أن العلاقات التنظيمية المختلفة تجعلهم في عوالم مختلفة متعددة وإن رأى بعضهم بعضا رؤية عين يوميًا.
7- وسنوجب في آخر المسار أن يتمثل في القيادة جيل الشباب كما يتمثل فيها جيل الكبار المجربين، وهذه النظرة تصدق على القيادة العليا كما تصدق على قيادة كل منطقة، وكل مجموعة عمل صغيرة، وما لم تتواجد كل نوعيات الدعاة ونماذجهم وأجيالهم على صعيد عمل واحد مختلط فإن أنواعًا من النقص ستحصل:
§ وهكذا تتجمع سبعة أسباب تبعث الزهد بالتنظيمات الاختصاصية أو بانحياز الموظفين والكبار في تنظيم مستقل، هي:
§ احتمال تعدد الخطط وثلم الوحدة التربوية.
§ وتداخل عملها مع عمل المناطق.
§ وهدر بعض أوقات وطاقات المنتظمين فيها.
§ ومغايرة طبيعتنا الحركية لطبائع الأحزاب في العالم الغربي.
§ واضطراب عملية توحيد مستويات الدعاة.
§ وانثلام تكامل من أجيال الدعاة.
§ وفوات التكامل القيادي.
§ لكن إنما نسوغ استقلال الموظفين في الحركات الناشئة إذا لم يكن عددهم كبيرًا، فلربما لا يجد الموظف قرينا في المنطقة قريبا، فيكون لم شتاتهم في تنظيم واحد منطقيا، وأما في حالة كثرتهم فإن الأولى أن يتم تنظيمهم في مناطق سكنهم، باختلاط مع الطلاب والعمال وغيرهم، أو في حلقات ووحدات تنظيمية منفردة، لكنها تابعة لمسؤول المنطقة، مع مشاركتهم في الأعمال العامة.
ولا نمنع أن يكون هناك تنظيم مستقل للموظفين وكبار السن، يضم من لا ينفع المناطق إذا اقتضت مصلحة من المصالح ذلك، أي عكس نظرة إخواننا هؤلاء الذين يدعون إلى إنشاء التنظيمات الاختصاصية ورصد أكثر الدعاة كفاية لها، وكنا قد استصوبنا خلال فقه الاصطفاء، إيجاد زوايا تنظيمية خاصة لغير أهل البراعة واعتبارهم خزينا تنظيميًا.
(العامل الرابع من عوامل الجدية): منع الهجرة، حفاظًا على تكامل أدوار الدعاة في كل جيل منهم
فإن ظاهرة التوازن الاجتماعي التلقائي ما زالت سرًا من أسرار حركة هذه الحياة تنبني عن حكمة خالق عليم خبير يسيرها، وقد لا يشاهد هذه الظاهرة من تركه الاضطراب اليومي الحاضر في دوامة لا يستفيق مناه ليتاح له التأمل الهادئ، ولكن المتفكر في بعض حقائق العلم والسائح الناظر إلى طبائع حياة الشعوب يريان هذه الظاهرة جهارًا في وضوح تام.
إن هناك عشرات الأمثلة لتأثير معدل درجات الحرارة والرطوبة والرياح على توازن حياة النبات وانتشار البذور ونموها أو توالد الحيوان ولكننا نتجاوزها اختصارا، لنضع أنفسنا وجها لوجه أمام أعظم ظواهر الحياة المتمثلة في محافظة الجنس البشري على نسبة ثابتة من نمو الذكور تعادل أربعة من كل عشرة مقابل ستة إناث، في كل البلاد، وكل المجتمعات، حارها وباردها، أبيضها وأسودها، فهي في غابات إفريقيا والأمازون كما هي في الصين وأطراف سيبيريا، بحيث إذا اختلت هذه النسبة أثناء التلقيح الأول في الأرحام: عادت فقاربت التعادل بعد مدة الحمل، بالإسقاط، وإذا بقيت مختلة عند الولادة، عادت فتعادلت بعد الولادة بالأمراض المميتة، بحيث تظل نسبة المحافظة على أربعة يافعين مقابل ست بنات فتيات، مع اختلاف الأرحام، وكونها بيضة واحدة تغزوها ملايين الحيوانات المنوية من الرجل، مما يجبرك على الإيمان بحكمة حكيم تدبر هذا التوازن، وقد كشف الدكتور الفاضل حسان حتحوت كبير أطباء الولادة في الكويت عن هذه الحقائق في مقال علمي رائع نشرته مجلة العربي الكويتية.
والمراقب لأصحاب المهنة المتعبة القليلة الربح في بلاد الشرق يظن أنهم ضحية التخلف المدني وسوء التخطيط، وأنهم أجدر أن يكونوا عمالا فنيين، وبعض ظنه صحيح، إلا أن بعضه الآخر تنقصه مخالطته لمختلف الشعوب، فإن السائح يري مثل هؤلاء في أوروبا الغربية، وفي أعلى بلاد العالم تقدما، فيري في الإنجليز والألمان مثلهم، فيدرك، أن الله قد خلق الذكاء والهمم مراتب مختلف في كل الشعوب ليتم تكامل المهن والمصالح الحيوية وليصدق قوله في تفضيل بعض على بعض في الرزق، فإذا انتقل إلى البلاد الشيوعية في شرق أوروبا وغيرها ورأى مثل هؤلاء أيضًا: ازداد يقينا بهذه الحقيقة وبوجود هذه الحكمة وراءها، وإدراك أنها ليست من ظواهر الحياة الرأسمالية فقط، وإنما هي ظاهرة توازن عامة في الأمم تتكفل بإدارة دولاب الحياة، ولو انتقض هذا التوازن لأصاب الناس حرج شديد، إذ ليست كل البلاد ذات مال وفير تستطيع به استيراد عمال المهن الواطئة المستوي إذا ترفع أبناؤها عنها.
تكامل وتكافل وتجانس العلاقات وتناسق الأدوار في حياة الدعاة
هاتان المقدمتان تكفيان لتوليد مقدرة على رؤية حكمة ربانية تتمثل في ظاهرة اجتماعية ثالثة يبدو بها كل جيل من الدعاة في كل مدينة متكاملا تكاملا ذاتيا، بحيث جعلته أيام العمل ونتائج التربية متوازنا تلقائيا توزعت فيه أدوار أفراده دونما تكلف لتؤدي مجتمعة إلى حالة من العمل الدعوى التام الشامل والجدية الجماعية، فتجد في كل جيل من هو قيادي ومن هو منفذ، وتجد المربي، والكاتب، والقدوة في العبادة، والممول لحاجات أقرانه المقرض لهم، والمتكفل بتزويجهم، وخليفتهم في أهليهم عند السفر، وحلال المشاكل العائلية عند حدوثها بينهم، ومن يحمل إخوانه على أداء الواجبات العائلية عند حدوثها بينهما، ومن يحمل إخوانه على أداء الواجبات الاجتماعية في التهنئة أو التعزية ويذكرهم بها ويصطحبهم معه، ومن يتسوق لهم ويدلهم على البضاعة الجيدة الرخيصة، أو يشفع لهم، أو يساعد على علاجهم، وأمثال ذلك، بحيث الاتحاد السوفيتي كامل مصالحهم ويتراكب بعضها على بعض، حتى أن بعض أصحاب العقلية التقليدية هم أبرع في التنفيذ التبعي وأصبر على شظفه، ولو حل القيادي المجتهد محلهم لكان أقل براعة منهم في التنفيذ ولأسرع إليه الملل، أو إنهم افتقدوا المتعبد لحلت القسوة في قلوبهم وأحاطتهم الغفلة مهما كان المنهج التربوي جيدًا، أو لو أن المتكفل بتزويجهم غاب عنهم لأخطأ بعضهم في اختيار الزوجات، فما بين مطلق متعب أو تارك للدعوة تابع لزوجته.
إنها علاقات متنوعة يكيف لها كل جيل نفسه تبعا لحاجاته، وتزداد إتقانا مع مرور السنين، حتى أن جملة صغيرة من النصيحة من أحدهم لبقية جيله الذي يألف كلامه لتغني عن مقال من غيره، وحتى أن خاطرة ترد إلى ذهن أحدهم يبثها لإخوانه يكون لها من الأثر ما ليس لخطة تحريك فصلية، بما نشأ له معهم من تاريخ مشترك، ولد تجانسا قلبيا، امتزجت به الأرواح.
إنه توازن يأتي بحكمة ربانية وقدر مقدور خفي، ووجهه الظاهر كامن في التربية المتبادلة، بمعناها التأثيري الواسع، لا من المربي الأعلى إلى تلامذة في الأسفل فقط، بل هي تأثيرات منسابة تتردد بين الأقران تنتجها طباعهم وهواياتهم وميولهم، فهم قد يطيعون مسؤولا لهم ويحبونه، لكنهم في نفس الوقت يذهبون إلى غيره في أمورهم الحيوية، من زواج وطلاق وتجارة وتوظف وتسوق، فيفتيهم بالأصلح فيها، ويتبعون قوله، فيتئد أحدهم في زواج قد يكون فاشلا، ويرجع عن طلاق قد يكون به ظالمًا، أو صفقة تجارية قد يكون بها خاسرًا، وبذلك يبعدون عن المشاكل القاتلة للمعنويات، وتتسق حياتهم المعاشية أيضًا لا الحياة التنظيمية فقط، وتقام علاقات صحيحة سائرة بلا اضطراب ولا ثلمات، وتحوطهم سعادة يسهل معها الحفاظ على سمت الجدية.
وفي نطاق المجاميع المختصة تبرز هذه الظاهرة بشكل أوضح، فإن مجموعة العمل الصحفي مثلا تتجانس مع الأيام، ويكون أحدهم أعرف بالاصطلاحات المفضلة، والأساليب والمعاني التي ترضي الدعاة ويفهمها الناس ولا تولد حرجا تجاه الرقابة، فإذا تبدلت عناصر هذه المجموعة: اضطرت لتجديد التجربة وتكررت الأخطاء.
هذه الحقائق تفرض علينا حرصًا على تواجد الأجيال كاملة، بمنع الهجرة من البلد إلا في أحوال الضرورة أو المصلحة التي تقدرها القيادات، وما مصاعب العمل الإسلامي في مصر وسوريا وبعض البلاد الأخرى إلا نتيجة لاختلال هذا التكامل وسعة هجرة الدعاة إلى الخليج والغرب، وكاد أثرها أن يكون أكبر من المحن، لأن السجين يمد إخوانه الطلقاء بمعنوية تثير فيهم معني الثبات والوفاء للدعوة، ولكن الهجرة ذات أثر عكسي، إذا لربما أثارت في الأقران معاني التنافس الدنيوي، فوق ما تسببه من انثلام التوازن ونشوء ظروف تسهل فيها الفتن الجماعية أو الفردية.
بل إن المأساة التي يشهدها الشعب المصري بأجمعه ليست من نتاج الاقتصاد الضعيف كما يقولون، ولا من نتاج الحروب المتكررة، بمقدار ما هي من نتاج هجرة الأخيار، فإن قطاعات واسعة من علماء مصر في الشريعة أو في مختلف الفنون، ومن أدبائها ومربيها وقضاتها وأبطالها، والمستورين من أطبائها ومهندسيها، وأشرافها وسادة أهلها، قد هاجرت إلى الخليج والمملكة السعودية وأوروبا وأميركا واستراليا، بضغط الظروف السياسية أو الحاجة المادية، حتى لم يبق من الأخيار في دالها عدد كاف تتعادل به الحياة الاجتماعية، وكثر الجهلاء والغوغاء والجبناء واستبدوا في احتلال الساحة وأرغموا بقية الخير على السكوت. والانسحاب من الحياة العامة.
نظرة إلى معني الزهد في بعده الدعوى
نعم، نحن لا ننفي مصاعب العيش التي تضطر بعض الدعاة إلى هذه الهجرة، وطلب اليسار والغني وازع وغريزة، ولكن تربيتنا مكلفة بأن تحمل الدعاة على شد ركبهم والأخذ بالعزيمة وتكلف الصبر على الفقر، وأن تشعرهم بحلاوة الجزاء الأخروى ولذة النجاح في تحقيق التأثير الفكري الإسلامي والأخلاقي في الناس.
ولعل من أسمج الجزاف أن يطلق البعض قوله فيصف البلدان التي يهاجر إليها الدعاة بأنها مقابر لهم، وإنهم يتحولون فيها إلى أصفار على الشمال، ذلك أن الأرض كما أنها لا تقدس أحدًا ولا تشرفه فإنها لا عقله أو تأسره، وصاحب النشاط هو هو أينما ذهب، ولكن استجابة المجتمع الغريب له تكون ضعيفة جدًا، فلربما مال إلى يأس، ونظرة الانصاف تريك أنواعا من الفوائد قدمها المهاجرون، وإنما نحن ندعو إلى موازنة مصلحية كمية لسنا نجد كبير عناء لاكتشاف رجحان مقدار نفع الدعية في بلده وبين أقرانه وأهله على مقدار نفعه في الخارج، ومن هنا كانت وصية الجاسوس الأميركي إلى رؤسائه بحمل الدول النفطية على إيجاد فرص عمل للدعاة جيدة، وهي الوصية المشهورة في الوثيقة الخطيرة التي فضحتها مجلة الدعوة.
لكن حمزة لا بواكي له
بل وأكثر المهاجرين إنما هم ضحايا تصورات خاطئة كونوها لأنفسهم قبل رحيلهم، فإنهم لا يزيدون في هجرتهم على أن يستبدلوا متاعب الحاجة المادية بمتاعب أخرى من نوع جديد تنغص عليهم حياتهم أيما تنغيص.
فالمهاجر إن أحسن في المجتمع الغريب: لا يشكروه، وإن أخطأ: لا يعذروه، ويظل يعيش عن أهل البلد بمعزل، ومع بقية المهاجرين في تنافس وتتوالى التهم عليه عند أدنى خلاف أو سوء تفاهم دونما حماية من أحد يستجير به، وتتراكب على عاتقه كل أمور بيته ولا معين له من أقاربه أو أصحابه فتبدأ الانتكاسات النفسية تترى عليه وعلى زوجه وأولاده، ويتأسف على أيام كان يسير فيها في بلده مرفوع الرأس، عزيزا بين معارفه، مهما ظلمه المتجبرون، أو أرهقه العوز، ويبدأ يحس أن الناس يعاملونه نفس معاملة أي صعلوك لمجرد انتسابهما إلى بلد واحد، ويفتقد الأيام التي كان يمشي بها بين الناس بمفاخره وتاريخه ونسبه ومناقب أهله، إذ كل ذلك مهدر في المجتمع الغريب مجهول، وإنما يعاملونه كابن ساعته.
إن في هذه الحقائق ما يجعل من منع الهجرة عاملا مهما من عوامل الحفاظ على الجدية الجماعية، إلا هجرة مضطر يخاف أن يهدر دمه أو يطول سجنه أو تنتزع الأسرار منه بتعذيب، أو هجرة بعثة دراسية موقوته، أو هجرة قيادي يربي ويخطط.
الخطط تحتاج إلى حنان وحضانة
(العامل الخامس): تهيئة الأوليات الممهدة والظروف المساعدة وزخم الاستدامة لكل عمل مهم أو مهم أو انعطاف خططي
فإن العمل الحركي الحزبي شبيه في بعض جوانبه بالعمل الحربي، كيف أن النصر في المعارك لا ينال بالمقاتلين فقط، بل بجاسوسية واستطلاع أيضًا تكشف لهم قوة العدو ومكامنه، وبتعبئة معنوية للشعب، يدفعه لتأييد الحملة، وبحرب نفسية توجه للعدو، فكذلك أعمالنا، لا بد لها من مجهود مساند وخلفية إرتكاز.
إن نظرية إيجاد البيئة المناسبة والمناخ الملائم ما زالت من أهم أركان إحلال الجدية في كل عمل سياسي أو تربوي، إسلامي أو جاهلي.
وهي ذات ثلاث مراحل:
- مرحلة الأوليات الممهدة: قبل البدء بالعمل، وقد تشمل تحضير الأجواء النفسية، بالتفهيم الجيد لأبعاد العمل المراد تنفيذه من خلال دراسات وصفية وشروح وإقناع بجدواه وأسبابه، أو بتحضير الضرورات المادية كأرشيف مثلا لإسناد عمل صحفي، ويدخل في معني هذه المرحلة أيضًا: أسلوب التدرج في التنفيذ، ترفقا بالعاملين ومنعا للإرهاق، كمثل إناء زجاج بارد لا نضع فيه ماء حارا لئلا ينكسر، ولكن نحميه بالتدرج، ذلك أن بعض النفوس ت نكسر إذا وضعناها في العمل الجدي مباشرة وبخطوة واحدة.
وتساهم البحوث الميدانية بدور كبير في إتقان التمهيد، ولها أثر واضح في اكتشاف الحلول الملائم لكثير من المشاكل التربوية والصعوبة التنظيمية، لما فيها من استقصاء الواقع وجرده جردًا دقيقا يتيح للمخطط صواب التشخيص، حتى غدت نتائج هذه البحوث أجدر بأن توصف بأنها الفراسة الحسابية الجماعية التي تشتق لها دورًا يطور دور فراسة المؤمن الذكي، فصاحب القلب الحي يكون له حدس وتخمين صحيح إذا كان يعلم السوابق ويقيس الأمور بالموازين الإسلامية، حتى أن الساذج ليظنه يعلم بعض الغيب، وهذا هو الذي أشار إليه إقبال لما ذكر خفاء الغيب ثم قال مستدركا.
ولكن رب القلب: للغيب يشهد.
أو هو عند آخر:
يصير بأعقاب الأمور بـرأيـه
- كأن له في اليوم عينا على غد
وهكذا الصنف القيادي أيضًا: تنشأ له فراسة جماعية بواسطة البحوث الميدانية، يطلع بها على تفصيل يوم الدعوة وغدها.
ثم تأتي يثانيا مرحلة تكوين الظروف المساعدة: أثناء القيام بالعمل، تضارعه، وتقترن به، والغالب أننا مطالبون بأن نوجد هذا الظرف، كنشر بحوث فقهية في السياسية الشرعية والقانون المقارن تسند معركة مطالبتنا بدستور إسلامي مثلا، أو الحصول على تصريحات مؤيدة من قضاة كبار، ولكن يدخل في هذا المعني أيضًا: استغلال ظرف حسن تكون تلقائيا بدون جهد منا.
ثم مرحلة لاحقة لتوليد زخم الدفع الذي يديم الجهد الأولى المبذول وينميه ويطوره ويخرجه عن حد الفورة: بوضع مشرف مراقب مثلا يختص بذلك العمل، أو عقد مؤتمر لتقويم نتائج التنفيذ الأولية.
إن إيراد الأمثلة الشارحة لهذه المراحل التي تسبق العمل وتواكبه وتتلوه لا يمكن أن يوضع لها حصر، والمرفوض أن تسأل كل قيادة نفسها عن ذلك قبل كل عمل كبير تنويه، وسوف تجد نفسها غير عيية عن الجواب، إذ أن متممات العمل تفرض نفسها على المفكر في بإمعان.
دور المؤثرات التربوية في الاستدراج والإبهام
وانظر كيف يستغل أهلا لباطل هذه النظرية لترويج تدليسهم بمقابل ما نستغلها في البناء والخير، وخذ من ذلك مثالا كامنا في الصحافة: كيف تستخدمها الدول الكبرى لغرس مفاهيم وانطباعات وتصورات في شعوب العالم تمهد بها لأعمالها السياسية، بل تصل أحيانا إلى درجة غسيل المخ، كما في الحملة الصحفية في مصر لتبرير الصلح مع اليهود.
ويحصل ذلك في النطاق الاقتصادي أيضًا، ومن أمثلته: تنادي التجارب وأصحاب الأموال في البلاد المستهلكة خاصة لإنشاء جرائد بعد الغلاء الذي حدث أواسط السبعينات تبرره وتقذف في نفس القارئ بالتدريج ومن خلال التحليلات المدسوسة بحذر مع الأخبار السياسية قناعة بأن التجار المحليين لم يستغلوا الغلاء العالمي لمضاعفة الأسعار بل هم صرعاه أيضًا وضحاياه، هم والمستهلك الذي استعجل اتهامهم على درجة سواء.
وقد أوردنا هذا المثل لتفهيمك دور الإقناع والتمهيد، وإنما للباطل المثل السافل.
تناسي الحقوق: ينشئ العقوق
(العامل السادس): ضبط حقوق وواجبات الدعاة بنظام داخلي صريح
فإن ترك العلاقات لأحكام الأعراف يجعلها واهية غير حاسمة ويقل الوضوح فيها، مما يوجد مجالا لاختلاف التفسير أو افتيات أحد الطرفين على الآخر، القائد، والتابع.
إن أهمية الحريات داخل الجماعة تماثل أهمية الحريات العامة في المجتمع، وتكون سببا في إطلاق الطاقات وتحفيزها وتنميتها، وعلى أساسها يغرس الشعور بالمسؤولية، وكما أن الحكم المستبد يقتل الكفايات واضطرها إلى التواري والانعزال، أو إلى الهجرة والرحيل، فإن تفرد القيادة يؤدي أيضًا إلى ضمور الولاء لها في نفوس أتباعها وتجعله يتضاءل إلى حده الأدنى، وإذا وجدت قيادة لا تشاور، وتتجاوز، وتضييق ذرعا بالنقد: عمت النجوى، واحتبست الآراء في صدور أصحابها، وصار التفتيش عن مسارب التملص.
ولا نستبعد أن يستغل بعض ذوي الأغراض أو الجدد الذين لم يستكملوا الوعي هذه الحريات في الجماعة الإسلامية استغلالا سيئا يولد الضرر، ولكن المصالح الكامنة في هذه الحريات تبقى هي الراجحة، وما من إيجاب إلا وله صور ناقضة من السلب، ولا صفاء إلا وتعكره بعض الشوائب، مهما قلت، وكل سوء وانحراف يعالج بما يناسبه.
وقد تحتاج بعض المراحل أو بعض قطاعات التنظيم إلى حزم مضاعف يقتضي تضييق هذه الحريات، ولكن هذا التضييق يليق كاستثناء توجبه الضرورة، ويأتي قصير الوقت أو محدود النطاق، وتبقى أيام العمل الأخرى على طبيعتها حرة، مليئة بالتشاور.
وتبدو إتاحة حرية القول سمة بارزة في هذه الحقوق التي يكسبها الدعاة وتأتي في صورتين مهمتين:
صورة إطالة النفس القيادي في الاستماع لرأي المخالف، و عقد الاجتماع معه، مع توقع صوابه، وعقد النية على التواضع للحق إذا أقام الدليل عليه أو أورد من القرائن ما يقنع، ويظل هذا النفس طويلا ما دام المخالف ملتزما أدب القول والجندية، مهذبا، بريئا من التحدي، بعيدًا عن ولوج الجيوب.
ثم صورة ثانية: تكونها كثرة المؤتمرات التي يسبقها تحضير جيد وتضبط بجدول أعمال مسبق، يستقصي الاقتراحات من خلال استنطاق الدعاة الذين سيحضرون المؤتمر، ذلك أن المؤتمرات تعتبر أحسن مجال لتبادل الرأي، وتعليل المواقف، وبيان فقه الخطوات، قبل أن تكون مجالا للتخطئة، وإظهار الخلاف، والقيادة القوية تستطيع أن تجعل صوتها في المؤتمر هو الأعلى، وإقناعا لا فرضًا، ولكن من شأن القيادة الضعيفة أن تفترض لنفسها ابتداء موقف المدافع أمام انتقاد الدعاة.
ولعل من أهم معالم الأنظمة الداخلية: النص على وجوب توقيت البيعة وتحديد مدة ممارسة القيادة بسنوات معينة وجعلها مشروطة بشروط تمليها طبيعة المرحلة، أو شخصية القائد، يتم الاتفاق عليها قبل الانتخاب، ذلك أن في هذا التحديد والاشتراط ضمانات عديدة لجعل عملية تغيير القيادة عند عجزها أو عند تباين وجهان نظرها مع نظرات الأتباع عملية طبيعية، ينتظر لها الجميع أوان انتهاء المدة دونما حاجة لعصيان.
أما البيعة مدى الحياة فنرى فيها إلغاء لدور عقول الدعاة لمدة مستطيلة ليس غير الله يعلم ما يحصل من تقلب في أفكار واجتهادات المجموعة العاملة خلالها، وما كان من عدم توقيت البيعة للخلفاء الراشدين لا يلزمنا بوجه وإنما ذلك مقدار اجتهادهم السياسي أو تقليدهم لأعراف الأمم آنذاك.
وأي ضرورة للإطلاق إذا كان من الممكن إعادة انتخابات القائد الناجح المرضي وتجديد البيعة له؟
إن القول باستساغة البيعة لقائد مدى الحياة بضمان الاستدراك الذي ينص على جواز إقالته عند العجز، لا يمكن أن يعطي لهذه البيعة مقدارًا كافيا من التبرير الفقهي والمنطقي لها، فإن هذه الإقالة لا تستعمل إلا عند الانهيار الكامل الذي يقع فيه القائد، وأما الضعف غير الشديد واختلاف النظرات فإنهما لا يدفعان إلى هذه الإقالة، رغم ما يحس به أهل الحل والعقد من الدعاة من أفضلية التحول إلى آخر أصلح منه وأقدر لو كان بمقدورهم أن يأتي هذا التحول بطريقة طبيعية تلقائية ودية عند إعادة الانتخاب يوم تنتهي مدة البيعة، ولكن التعقد اللاصق بطبيعة الإقالة، ومعنى التحدي الكامن فيها، وكونها استثناء مثير مجفل قد يصدهم عن اللجوء إلهيا مع شعورهم بوفور المصلحة في مجئ قائد جديد.
(العامل السابع): اتخاذ الاحتياطات قيادية تدرأ الفتن
فإن الكثير من التنظيمات الجديدة لم تراهق بعد، فيظن من فيها أنها بدعوة في العاملين، وأنهم أجادوا التربية فانتفت ظواهر الخلاف والتطرف والتساقط بين إخوانهم.
وذاك نوع من الاعتداد لا تصدقه سنن تطور الجماعات العاملة، فإن من شأن البداية الهادئة أن لا يختلف في حيثيات خطتها البسيطة اثنان، ومن شأن المجموعة الصغيرة أن لا يكثر المتطلعون للصدارة فيها، ومن شأن الترغيب والترهيب أن لا يصرعا صرعاهما من بعيد.
أما حين يتقادم عهد التنظيم وتكون له بعض القوة فإنه يبدأ مرحلة مراهقة صعبة، إذ تكثر المواقف تجاه الأحداث والحكومات والأحزاب، فتتعدد الاجتهادات، ويأتي احتمال الخلاف في ثنايا هذا التعدد. كما أن اتساع المجموعة يبرز رؤوسا قيادية متعددة، أيضًا بحكم مركزها التنظيمي، أو بحكم قابلياتها العالية التي تشد قلوب الآخرين إلى تبعيتها، ومع هذا التعدد احتمالات لخلافات أخرى، مبعثها الاجتهاد المتباين أو الغرور وروح التزعم، كما أن الترغيب إذا اقترب تكون همسته الخافتة في الأذن أقوى من ندائه العالي عن بعد.
والعلاج يكمن في أن تتوقع القيادات هذه الصعوبات منذ البداية، وأن لا تبني أمرها على وداعة تراها تغمر سنوات العمل الأولى، بل تشرع في تربية تقلل الخلاف المحتمل وفي توعية تضعف أسبابه،، وأما القضاء ع ليه وعلى أسباب فنحسبه مستحيلا.
وكأن أسباب الفتن تتقاسمها طبيعتان:
طبيعة النفس: بغرورها وكبرها وتطلعها للصدارة وحبها للجدل واحتكامها إلى الهوى، وتتكفل المواعظ بدرء هذه الأسباب، ولعل في النداء المرفوع لاجتياز (العوائق) ما يكفي للاحتياط تجاهلها، وفي كل موعظة سبقته أو تلحقه بركة.
ثم طبيعة الأحكام الضابطة للعلاقات التنظيمية: والمفروض أن نحاول إبعاد هذه الأحكام عن الجمود وجعلها ذات مرونة كافية تسمح ببعض التنازلات القيادية من أجل فسح المجال لبقاء العنصر المخالف في رحاب التنظيم مطيعا، أو في رحاب المودة محبا.
وليس هناك حصر للأنواع المناسبة لدرء الفتن من هذه الأحكام، ولكن التفرس في تاريخ الجماعة ورؤية الخط البياني لسيرة أكثر من داعية يرينا أمثلة منها لا دليل على وجوبها غير الفراسة وحديث القلب.
فمن ذلك: قبول استقالة الداعية المسؤول إذا طلب إعفاءه من المسؤولية المناطة به، لئلا يكون في إرغامه حرج عليه يولد هاجسا يراوده يسوغ له العصيان.
وكثيرا ما يسأل السائلون عن الحكم الشرعي في الاستقالة من العمل الحركي وما إذا كان حلالا أم حرامًا؟
والحقيقة إننا لم نجد ما يدل على الحرة الواضحة، ونظن أن المسألة تنظر من جانبين:
الأول: جانب الداعية فإن عليه الصبر، مروءة لا فرضا، وتحليا بأخلاق الإيمان العالية، فيقدر مدى الضرورة إلى عمله بتجرد، ويعزم على الاستمرار حتى ولو كان هناك تعب وإرهاق، وأحوال عائلية ومهنية صعبة، فلا يطلب الاستقالة إلا بعد تأكده من ضرورتها له، بحيث يصيبه الحرج الشديد من جراء الاستمرار.
الثاني: جانب القيادة، فإن عليها إن لا تلتزم جوابا واحدًا لكل متقدم باستقالة لها، تبلغهم رفضها القاطع، فإن ذلك يخالف العدل المكلفة بأن تحكم به، بل تطيل الإنصات البذل، بحيث لا ترفض طلبه إلا إذا لم تجد القرائن الكافية على حصول الحرج.
ومن أمثلة الاحتياطات أيضًا: إذن القيادة لمبايع أن ينقض بيعته بالتراضي معها، وأن تقيله إياها، إذا عزف عنا وأحب التفرد أو الانتماء لجماعة إسلامية أخرى، فإن قناعة المرء تتبدل، وتتغير اجتهاداته، أو يختلف قلبه، أو يلقي له الشيطان من الشبهات والظنون الرديئة ما يحمله على اعتقاد ضرورة تملصه مما ألزم نفسه به، فإذا ترفقنا معه، وسهلنا له طريق التراجع: اعتبر ذلك فضلا ن تفضل به عليه، وعونا له على إصابة مراده، فيتئد، ويتأدب، ويحتفظ بالود، وربما عاد فاعتذر إذا بلغت نزوته أبعد مداها ورأى بعين الإنصاف فراغ دربه الجديد وبعده عن السمت الأوسط، ولكننا إن منعناه وحصرناه واتهمناه بفرار ونكوص: استولى عليه الاعتداد بالنفس، وحرص على تجاوز حصارنا له بافتتان يفلت معه منه اللسان فيقطع عليه طريق الأوبة من بعد إذا أفاق، خجلا مما كان منه من البهت.
ويرد مثل ثالث لهذه الاحتياطات يدعونا إلى أن لا نعتبر التخلف عن تنفيذ أمر واحد فقط نقضا للبيعة إذا كان الداعية متأولا، حتى ولو كان مخطئا في تأوله، فإن الخواطر التأويل استبداد بالعقول والقلوب رهيب، لا يفلت منه إلا داعية له فقه عميق، ولا يكاد يبرأ أحد من حيصة في حياته، ولربما تتكرر، ولو تعاملنا مع الدعاة مفترضين براءتهم منها لما صدق فرضنا إلا قليلا، ولكنه العفو، والتسامح، والتسديد.
ولربما ظن البعض بسبب هذه الأمثلة أن على الاحتياطات الدارئة للفتن أن تلتزم جانب الترخيص والمرونة دائمًا، وليس ذلك الذي نعنيه، فإن العزيمة تفرض نفسها من جانب آخر كاحتياط ضروري مقابل.
وأجدر مثل يوضح ذلك أن تسلك القيادة مسلك بيان تبعات البيعة الثقيلة لكل داعية جديد من خلال رسالة مكتوبة تحيطه علما بأبعاد العمل الذي يقدم عليه قبل دخوله فيه، فإن بعض الدعاة يصطادون الشاب صيدًا، كما يأسر القانص الظبي، ويأخذون منه البيعة دون أن يدري معناها وتكاليفها وما عليه بعدها من تقديم وقته وماله ودمه فداء للدعوة، ويظل الشاب فرحا في أيامه الأولى بصحبة خير الناس أخلاقًا، جذلا في رحاب المحبة والأشواق، فإذا جد الجد، وواجه المصاعب، وطلب منه الصبر: تلكأ إن لم يكن يتوقع ذلك.
من هنا وجب أن لا نستغفل أحدًا تعويلا على احتمال اتعاظه بتربيتنا من بعد، بل لابد أن نصارحه كل الصراحة، لا على لسان الدعاة، فإن منهم من قد تعوزه البلاغة، وينقصه حسن الإفصاح، ولكن برسالة نموذجية موحدة تبعث بها القيادة إلى كل من ينوي الانخراط في صفوف التنظيم، تحدثه خلالها بالتزاماته المقبلة، وتروى له قصة الصراع في هذه الحياة، وتريه فضل إقدامه والأجر الأخروي الذي ينتظره.
قد يحجم بعض الشباب إذا علموا ذلك ابتداء، ويقل عدد الذين يبايعون، ولكن من يبايع ويثبت سيكون أجدر بالوفاء، وأقرب للبذل، وأرسخ في الثبات، وتزدهر معاني الجدية في الجيل الذي أعطى صفقة قلبه على بينة وفي ظروف من الإدراك الواعي لحقيقة انتمائه.
(العامل الثامن): وفرة المال الكافي لتنفيذ الخطط
فإن المراحل النهائية تقتضي إسنادًا ماليا لكثير من ميادين النشاط، كرواتب المتفرغين، والعاملين في اللجان والمجال الصحفي والعلمي، ولإرسال بعثات التخصص، وتوسيع خطة النشر، ووجوه أخرى كهذه، وتكاد أن تبقى الخطة حبرا على ورق إذا لم يتوفر لها المال.
ولو أردنا الجد فعلا لحصل المال، فإن تبرع المتبرعين من الدعاة والمؤيدين يتناسب طرديا مع إحساسهم بوجود الجد والإتقان القيادي، ويتصاعد حماسهم للعطاء مع تصاعد النشاط، ومع ذلك فإن التعويل على مبالغ اشتراكات الأعضاء لا يناسب آمالنا البعيدة، ومن الواجب تكوين مؤسسات استثمارية تتكفل بتحقيق أرباح لائقة يعهد بإدارتها إلى دعاة من أصحاب العقلية التجارية المتحركة ولو كانوا ضعافا في المهارة التربوية، ولا يصح أن تباشر القيادة الإشراف على هذه المؤسسات، لانصرافها عن التفكير التجاري من باب، وصيانة لسمعة القادة من باب آخر، إذ أن بعض أهل الفتنة لا يتورعون عن ظلم القيادة واتهامها بالتلاعب بالأموال، وينبغي أن لا يكون فشل بعض المؤسسات السابقة مانعا لتكرار التجربة، فإن عدم مراعاة هذه الاحتياطات هي التي سبب هذا الفشل.
ولعل من أهم واجبات الدعوات في البلاد الغنية التي أفاء الله عليها أن تساعد الدعوات الأخرى، دونما قيد أو شرط، فإن أكثر ما يحز في نفس الآخذ أن يطلب المعطي الإشراف على صرف ما أعطى، فإن التعامل على أساس الثقة المتبادلة أولى، وقادة كل بلد أدرى بما فيها.
ومن المهم أن يكون هناك فهم متبادل بين القادة والأتباع لما تحتاجه الخطط ويوميات النشاط من صرف سخي فيه مسحة من شجاعة الكريم وسرعته المبادرة إلى إجابة الحاجة، فإن من الخطأ ما يفهمه بعض القادة من أن مال الدعوة في أيديهم كمال اليتيم في يد الوصي، إذا أن الدعاة الذين أعطوا أموالهم ليسوا أيتامًا، وهم يحبون للقيادة أن تحقق أحلامهم، وقد أعطوا ما أعطوه عن رضى ورغبة في إسناد النشاط، وأجدر بالقادة أن ينظروا إلى المال في أياديهم كنظرة عمر بن الخطاب إليه، لما كان يحيز الوفد، ويجزل العطاء، ويوسع على أهل السبق في الإسلام.
(العامل التاسع):رؤية تزايد المخاطر الخارجية الحدقة بالدعوة
رؤية تزايد المخاطر الخارجية الحدقة بالدعوة فإن الأعداء كثرة، وعلى مقدار كبير من الحيوية والعمل المنظم، وتحركهم أحقاد متنوعة، ويظاهرهم إسناد دولي، وليس لنا غير اتخاذ الأسباب الممكنة، ثم التوكل على الله تعالى.
إن تحسس الداعية لهذه المخاطر يبعث فيه همة الدفاع عن إسلامه ونفسه وأهله وماله، إن لم تكن همة الجهاد وافرة، وإذا كان الوضوح الفكري يدفعه للعمل، حرصا ورغبة، فإن تجسم الأخطار أمام نظره يجذبه، خوفا من وضع أنكي، ورهبة، ويظل متحفزًا يقظًا سائرًا في طريق البذل.
ولهذا كان من تمام وسائل الجدية أن نتعرف على حجم الأعداء وخططهم وأساليب مكرهم، وأن ندعو أصحابنا وأنصارنا إلى رؤية ما نكتشف من أخبارهم، فإن الكثيرين منهم ينامون ملئ جفونهم، لا يحسون بزحف الإلحاد.
ولكن المبالغة في تقدير قوة الأعداء قد تحول الإيجاب الصاعد المبتغي إلى سلب انهزامي نازل، وقد أحسن الأستاذ الدكتور جعفر إدريس التحذير من التطرف في ذلك([3])، وكان لسيد قطب رحمه الله تشجيع متكرر للمسلمين على النهوض بوجه الباطل مهما كانت سطوته، فإن عوامل ضعفه كامنة في أصل كيانه، والدعاية الواسعة التي يحيط بها نفسه كاذبة يبتغي بها إرهاب نفوس من لا يفطنون إلى ما في الحق من قوة ذاتية وإن قل أنصاره وسلاحه وماله، وإنما ذلك إلقاء الشيطان.
(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ).
(إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه، ويلبسهم لباس القوة والقدرة، ويوقع في القلوب: أنهم ذوو حول وطول، و أنهم يملكون النفع والضر، وذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه،وليحقق بم الشر في الأرض والفساد، وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار، ولا يفكر أحد في الانتفاض عليهم، ودفعهم عن الشر والفساد.
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل، وأن يتضخم الشر، وأن يتبدى قويا قادرا بطاشا جبارا، لا تقف في وجهه معارضة، ولا يصمد له مدافع، ولا يغلبه من المعارضين غالب، إن الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا، فتحت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب والبطش، يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر ع ينه! يقلبون المعروف منكرًا، والمنكر معروفا، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويخفتون صوت الحق والعدل، ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير، دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم، ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يرجون له، وجلاء الحق الذي يطمسونه.
والشيطان ماكر خادع غادر، يختفي وراء أوليائه، وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتطون لوسوسته، ومن هنا يكشفه الله، ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره، ويعرف المؤمنين الحقيقة: حقيقة مكره ووسوسته، ليكونوا منها على حذرا، فلا يرهبوا أولياء الشيطان، ولا يخافوهم، فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه، ويستند إلى قوته، إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر، هي قوة الله وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله، وهم حين يخشونها وحدها: أقوي الأقوياء، فلا تقف لهم قوة في الأرض، ولا قوة الشيطان، ولا قوة أولياء الشيطان)([4]).
ولئن كان هذا عند البعض حديث حماسة يسوغون لأنفسهم الإبطاء في مجاراته، أو حديث إيمان يعجزون عن استيعاب موازينه فإن في المثل الأخير الذي ضربته الثورة الإيرانية من حديث الواقع مالا ترده آذان ولا ترفضه قلوب، وقد وعظت فأبلغت، وكما أنها قد فضحت ضعف الجبروت، فإنها قد أوضحت –بكثرة من تساقط في الشوارع والساحات من عشاق الحرية-: مقدار الثمن الذي يجب أن تدفعه الشعوب، وأزرت على حركة تتراجع وتتوارى بمجرد أن يتساقط منها العشرات.
(العامل العاشر من عوامل الجدية)
إشاعة أدب الحماسة والرقائق الوعظية:
هكذا، الآن الآن فقط تأتي الحماسة، بعد كل هذه العوامل لتستثمر نتائجها، وتستصرخ، وليس قبل ذلك، فإن بعض من يعالج أسباب الفتور الجماعي، يتوهم العلاج، ويكون بعث الحماسة هو المفهوم الوحيد الذي يتبادر إلى ذهنه ابتداء وانتهاء.
كلا، بل هي آخر الأسباب، وأضعف العوامل، ولكن يرجى أن يتضاعف أثرها إذا استطعنا تجاوز التعابير الحماسية العرفية إلى أساليب أعلى فيا لمعني والمبني، مع تفنن بلاغي متنوع.
وإذا أجدنا إعادة الحاسة الجمالية الشعرية إلى جيل الدعاة الجديد المقطوع عنها فإن غرر الشعر ستكون عند ذاك مصعد حماسة وأداة ترقيق للقلوب بالغة الأثرن ولعل أشد الشباب غفلة وافتئاتًا على مصالح نفسه يتعظ بربته على كتفه مع همسة في أذنه، خفيضة النبرة، عالية الأصداء، إذا عاتبته فقلت له:
فكم تسدر في السهــو
- وتختــال من الزهـــو
وتنصب إلى اللهـــو
- كأن المــوت ما عــم
وحتام تجافيـــــك
- وإبطاء تلافيــــــك
طباعــا جمعـت فيك
- عيوبــا شملهـا انضـم
وزود نفســك الخيـر
- ودع ما يعقب الضيـــر
وهيـئ مركب السيـر
- وخف من لجـه اليـــم
وكما أن الرقائق تقطع القلب بالدنيويات، فيتفرغ لأعمال الدعوة، فإن القصص كذلك أيضًا، ويجدر بأدبنا أن يتناولها بسعة.
ولعل بعض من ينحي المنحى الشديد الالتزام بنصوص أقوال أئمة السلف يرى في القصص بأسا، لما ينقل له عن دور القصاص فيوضع الحديث وإلهاء الناس، ولكن السمت الوسط يدعوه إلى قبول الدائر في حد الصدق والجد منها، فإن (القصاصا لا يذمون من حيث هذا الاسم، لأن الله عز وجل قال: نحن نقص عليك أحسن القصص، وقال: فأقصص القصص، وإنما ذم القصاص لأن الغالب منهم: الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد، ثم غالبهم يخلط فيما يورده، وربما اعتمد ما أكثر محال فأما إذا كان القصص صدقا، ويوجب وعظا، فهو ممدوح، وقد كان أحمد بن حنبل يقول: ما أحوج الناس إلى قاص صدوق)([5]).
على أننا نعني ما هو أبعد من ذلك، من أسلوب القصص الأدبي، الواقعي أو المحتمل الوقوع، والذي ينهض ظهيرا لأدب الحماسة، ونظن أن من الضرورة بمكان سعي من يقص للدعاة نحو التجديد فيها، فإن تكرار قصص الصدر الأول والمشاهير كاد أن يولد مللا فيا لنفوس وإشباعًا، وهم مدعون إلى الكشف عن بطولات جديدة معاصرة أو من التاريخ الحديث والأوسط للأمة الإسلامية، على نمط ما ذكره الأستاذ أبو الحسن الندوي من ظهور معدن البطولة في الهند (إذا هبت ريح الإيمان) فيها، أو ما ورد من أخبار الغازي عثمان باشا وصدارته لملحمة بلافتا الإسلامية في القرن الماضي، أو جرأة البارجة حميدية في ضرب موانئ اليونان.
ومع ذلك فإن ظهور القدوة يبقي أساس التربية ويبعث الحماسة فينفس المقابل، ويكون له من الأثر التلقائي الدائم في المجموعة ما لا تصل إلى مستواه المواعظ المجردة.
التخطيط يفجر الطاقات
هذه هي العوامل العشرة التي نظن أن اجتماعها يولد الجدية الجماعية.
فاشهد بربك، ألا تجتمع الجدية من أطرافها لجيل متكامل، واضح الفكرة، مبرمج السير، ممنوع الحقوق وفير المال، عارف بكيد العدو، يسوده التخصص، وتوطأ له الدروب، وتحدوه الحماسة، وقد حجبت عنه أسباب الفتن؟؟؟
أو يجوز أن تتمنى أخاك داعية جماهيريا وأنت ترسله مفردًا؟
أم يحل أن تتهمه بالخمول وهو ضحية قصور خططي؟
كلا، أيها الأخ، كلا: ليس هناك في مجموعتنا كسول ما دمنا قد انتقينا في الابتداء، وابتعدنا عن البليد والجبان، ولكن هناك تخطيط ناجح يطلق الطاقات، أو تسيب مضياع ينتج الجمود.
ومن المفيد أيضًا أن تنظر إلى عملية التدارك والتكميل الآنفة الذكر من خلال ارتباطها بعوامل الجدية الجماعية هذه، فإن إذابة الاجتهادات الفردية ووحدة المستويات التربوية تعتبران من أهم العوامل لإحلال الجدية، ولا يصح أن يأتي المربي ببساطة يصافح أخاه، ويدعو له، ويحاسبه على حفظ للأربعين النووية ومطالعة في كتب الفقه ورسائل الدعاة، ويوصيه بالجد والبذل، في وقت ربما كانت مشاكله الجامعة أو آراؤه الحبيسة، تعصر قلبه.
لا تلم أخاك، ولا توسعه تقريعًا، فإنه برئ، ولكن ضعه في تيار عوامل الجدية الجماعية تجده السابق المقدام.
([1]) وحي القلم 2/7.
([2]) إحياء علوم الدين 1/757 والعامل هو الوالي وأمير البلد.
([3]) مجلة المسلم المعاصر.
([4]) في ظلال القرآن 4/149.
([5]) تلبيس إبليس لابن الجوزي/120.
التكيف المرن
أوهام بعيدة هي، تلك التي تستولي على عجزة المسلمين، فتزويهم في نوافل متوارية، وتهليل مختبئ، وتكبير يصغرون معناه السامي ومرماه البعيد بحبسه بين الجدران، وبتلفظه بالصوت الخفيض، يظنون أنهم يسلكون أصعب الدروب لترويض النفوس.
جميل ذلك، فرضا لا يصح إسلام المرء إلا به، أو زيادة تغرس التصديق وتعمق اليقين ولكن أعالي الجنان خلقت لتكبير عريض الأصداء، قوى النبرات، في وجه كفر أو ظلم، يعيد اعوجاج الحياة إلى استقامة.
فليس صعبا أن تفطم النفس عن مألوفاتها سويعات في ذكر لله تعالى منعزل وتأمل ساكن.
إنما الصعب أن تكبـر الأصـ
- ـنام ترعي وأمرها مأتـي([1])
الأرباب البشرية، يأمرها أن تترك مكان القيادة، مثلما هو صرخة تنفذ إلى أعماق الضمائر المخدوعة، يدعوها لوعي وإفاقة.
إن التكبير العالي لا يستطيعه غير مؤمن هانت عنده الحياة، وازدري الظالمين، واستيقن ضعفهم، ولهذا كان صعبا على من لم يرسخ قدمه في التوكل، لغلبة الرهبة من الموت عليه، وفزعه الذي يضخم في نظرة قوة الباطل، غير راء شواهد التاريخ ومواعظ الأيام.
وإن من كيد الشيطان أنه يخوف المؤمنين بما عنده من الأولياء الذين يسخرهم لإظهار الباطل (فلا يجاهدونهم، ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر. وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان، وقد أخبرنا الله تعالى سبحانه عنه بهذا فقال: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ).
المعني عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه، قال قتادة يعظمهم في صدوركم، ولهذا قال: فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين: فكلما قوى إيمان العبد: زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه: قوى خوفه منهم)([2]).
ولهذا فإن عجز العاجز دليل على ضعف معاني الإسلام فيه، ولكن تنبثق القوة لما تخالط بشاشة الإيمان القلوب، فتكون مقدمات محركة لها، من حزم وإقدام وبدار، ثم تستوي، لتؤدي إلى نتائج من التعزز، فتكتسب الحياة آنذاك سمتا خاصا من الطمأنينة، تنطلق معها الفطر في عمل معتدل.
وهذه الحقائق والأوصاف هي حدود الصورة التي رسمها إقبال للأخذ القوى للكتاب، المتمثل بفتيان الحرية...
فديـن الشباب الحر: بأس وعزمه وإعلان قول الحق، والمنطق الجرى([3])
وهذا الإعلان لقول الحق هو عند وليد أقرب مما يظنه العاجز مشقة وتبعة، وإنما يقع موقع البشائر التي يتلهف لها الكون، ورأى أن للانتفاض انعكاسات حتمية، يتواصل بها العمل الإسلامي، ويستمر تلقائيا، ولذلك اتجه خطابه للمسلم أن يجعل الانتفاض أول عمله، وطلب منه أن يحطم القيود...
حطــم قيـود الذل وارفع يداك
- وانشر على العالم نورًا هـداك
يردد الكــون بشـوق صـداك
- وترتفــــع رايــة قرآتنـا
قد بـزغ الفجر وولي الظــلام
- ورفرفت رغـم أنوف الطغــام
خفاقــة راية قـرآننــا([4])
ومصداق فراسته: هذه الصحوة التي تراها في كل بلاد الإسلام، وآلاف الشباب المؤمن والشابات المؤمنات، في المدارس والجامعات والمراكز الوظيفية، يتمسكون بالفكر الإسلامي الصافي، في أحلك ظروف الجبروت والقهر والفجور.
إنها آية ن آيات هذا الدين القيم، تملأ الصدر ثقة بالمستقبل.
ولقد احتشد شباب كثير في سنوات سابقة مثل هذا الحشد في عدد من البلاد، ولكن كانت العواطف تشكل معظم رأس مالهم، ونقصهم الوعي، فآذاهم الكافرون والظالمون، وأخروا المسيرة.
لكنها اليوم صحوة، لا اندفاعه حماسة ساذجة، إذ اكتسب جمهور الدعاة الشباب ذلك الوعي الذي افتقد سلفهم بالأمس كثيرا منه، تعلموه مما جرى لهذا السلف الطاهر، فأصبحت الآمال أوضح من ذي قبل.
وكان محمود آل جعفر، خلال حنينه إلى الفجر الإسلامي الوشيك، ف صيحا في الإبانة عن سمات الشخصية الجديدة لرجل العقيدة وصفاته التي تؤهله للانتصار في الجولة الحاضرة مع الباطل، فمشي معه، يقبس له من بهائه...
مشي يحدوه منهجـه الإلهـي
- أبي في عقيدته بياهي
يخط طريقـه يقظــا وقورا
- ويرقب سيره خوف المتــاه
مشي والحق يملأ أصغـريه
- حصيف الرأي ماض بانتبـاه([5])
فتأسرك فخرًا واعتزازًا هذه المباهاة بالتوحيد الذي يدين به داعية الإسلام، وتحدياته للإلحاد، بلا تلعثم ولا استحياء، ثم تزداد ثقة به وبأهليته وبمتانة خطته بهذه اليقظة، وهذه المراقبة، وهذه الانتباهة.
ولربما تظن أن الحذر يجمع هذه الصفات، إلا أن مسحة من السلبية تقترن بالمعني العرفي للحذر كأنها تنهاك عن كثرة إيراده في قاموس الوعي، إذا اكتسب مدلوله سعة تبدي ثغرة يلج منها المنهزم متفلتا، إنما هو (فن الحساب النسبي) أجدر بلغة الدعوة وأليق، وأشهر في مذهب البلاغة، فإن رأي الداعية اليقظ، في الإفصاح الشعري:
رأي تفنن فيه الريث والعجل
فهو ينتظر متحفزًا مراقبًا، إذا كان الريث أولى.
يقتحم، راكضا مقبلا، إذا كان العجل أولى.
وقبلهما، وما بينهما، وبعدهما: موازنات وتخطيط، فيري تفاضل المجالات في الأهمية، وضرورات مراعاة الظروف، وإحلال التكامل الموضوعي، وتنسيق الحاجات المرحلية، والترجيح بين المصالح المتعارضة، وحكم الواقع، والإمكانيات المتوفرة دونما مثاليات حالمة.
إن هذا المنحي التحليلي لأبعاد العلاقات المتنوعة الرابطة بين الواقع والغاية يجعل كل خطة محلية، في كل قطر، مأسورة إلى قواعد تتحكم بطبيعة المرحلة التي هي فيها من المسار، وفي تطبيق نسبي لفنون العمل العامة، بحيث يحصل تكيف مرن مع البيئة، تكون معه المحافظة على الأصالة، وتمييز تردد مهمتنا بين الواجب الدعوى والاجتهاد الفقهي، والإفلات من مخاطر الضرب التي تصاحب الانكشاف، وتحديد مكانة آراء القادة والأتباع، ومدى نفوذها، مثلما يتم إحلال تكييف من نوع آخر لعوامل الإغراء بالتقدم والولوج لتناسب قدرات الجماعة الفعلية ورصيدها الحقيقي، فيكون التخلص من سلبيات محتلة ترافق السير السريع المتجاوز لما يوجبه هذا التناسب، ويظهر هذا التكيف الثاني في صور من التدرج في الإصلاح، والعناية بالتربية العبادية الخلقية، وتجزئة الهدف، وتأجيل استقطاب القوى الثانوية، والانسحاب من المعارك الجانبية، وربط تصعيد الصراع بنضوج الظروف المساعدة.
فهي عشرة قواعد إذن:
(القاعدة الأولى): الأصالة واستقلال التقدير، دون تقليد جزافي:
فإن التقليد عيب، إذ هو تكرار حرفي لا يقيم وزنا أو يعطي دورا للفروق بين الأحوال المختلفة، وهو غير الاقتباس الواعي الذي تأخذ فيه أشياء وتدع أخرى، وتوسع وتضييق، وتقرن به المكملات المساعدة والتشذبيات المستدركة، إضافة أو نحتا.
وأكثر ما يرد هذا التقليد في صيغتين:
الأولى: تقليد حركة إسلامية أخرى ذات مرحلة متقدمة، أو جزء آخر من الحركة في بلاد أخرى توغل في العمل، والمقلد ما زال مبتدئا أو متوسطًا، فيبدأ من حيث انته الآخرون، دون رؤية مراحل الاستعداد والتحضير، ولا يسوغ لداعية تمر الحركة التي ينتمي إليها في بلده بمرحلة التجميع والانتقاء والتربية أن يفكر بأساليب المظاهرات والضغط السياسي والمحالفات، ومما تستعمله الحركات القديمة للتواجد في الساحة، ولا يسوغ لمؤسس مكلف بالتشدد في شروط اختيار دعاة القاعدة وصفوة الارتكاز أن يتساهل تساهل من أكمل ترتيب الصفوف واحتاج كثافة عددية ترجح كفته في الصراع.
الثانية: تقليد بلاد أخرى ذات ظروف اجتماعية وسياسية وجغرافية تخالف ظروف بلادنا وتغايرها، كداعية في البلاد العربية يفكر بطرق الدعوة العامة لجمعيات الجاليات الإسلامية والاتحادات الطلابية الإسلامية في أوروبا وأميركا، أو يقيس عمله على عمل المسلمين في الهند، وهم أقلية بين أكثرية كافرة، وأبعد مطامحهم أن يناولا حقوقهم ويحافظوا على تدين عامتهم وأبنائهم من خلال تأسيس مدارس وجامعات إسلامية وتنظيم جمعيات خيرية وبناء مساجد وإصدار صحف ثقافية، وليس يخامر أذهانهم أن يقيموا دولة إسلامية، لقلتهم بين السكان في دولة علمانية.
بل ربما الضغوط النفسية التي يتعرض لها بعض الدعاة العاملين في بلاد يسودها الإرهاب أن يفكروا بما هو أبعد من هذين التقليدين، وتستبد بهم خيالات بناء قرى إسلامية تكون نموذجا للحياة الإسلامية، ما هم بقادرين على إنجازها مهما صغرت، في ظل الظلم المخيم على جميع أجزاء العالم الإسلامي بلا استثناء فضلا عن تأدية هذه القرى إلى انعزال الدعاة وانقطاع تفاعلهم اليومي مع المجتمع من خلال انبثاثهم وانتشارهم فيه.
فإذا كانت هاتان الصيغتان من التقليد يحوطهما العيب لمجرد اختلاف المرحلة الخططية أو الظروف المحيطة، فإن تقليد الأحزاب الكافرة في أساليبها أكثر بعدًا عن الصواب، وأولى أن نربأ بأنفسنا عنه بل يجب أن ننقد أساليبها بمعيار شرعي من قبل دعاة فقهاء يعلمون حدود الحلال والحرام والشبهات، ولا نقتبس منها إلا ما لا بأس به شرعا أو أمكن تخريجه على أحكام مراعاة المصالح واستثناء الضرورات.
وكما يعيب التقليد الأصالة التخطيطية يعيب الأصالة الفكرية الاجتهادية أيضًا، وتضمر قابلية الاستنباط المفترضة لدى الداعية، وتبرز هذه الظاهرة ف ي بعض البلاد التي تعتمد في تثقيف دعاتها على من يزورهم من خارج ويتكلم لهم، وهي خطة مفيدة، لكنها تولد معها ظاهرة سلبية تعدل الفوائد، فإن دعاة ذلك البلد يصبحون أقل مطالعة وأقل وعيا للكلام الجاد الذي يفتقد الصنعة البلاغية والجملية التي يحرص عليها الماضر الزائر، ويصبحون مقلدين يسمعون فقط لا يعرفون الاجتهاد والإبداع إلا قليلا، ولا يفهمون الكثير من الدروس التجريبية التي تأتي على لسان قدماء الدعاة، فيزهدون بها.
إن من المهم لمثل هؤلاء الدعاة أن يعرفوا أن المعاني المهمة ليست هي الجديدة فقط، والتي يحرص المحاضرون على اختيارها، بل تكمن أيضًا في اكتشاف أسباب ظواهر معروفة، وتحليل أمر مجمل إلى جزئياته، وبيان الفروق بين أمرين معلومين، وبيان وجوه التشابه، واكتشاف علاقة بين ظاهرتين معروفتين قد كان يظن الظان أن لا علاقة بينهما.
إن الترف في التدريس يجعل التلامذة أهل حرص على النتائج الموضوعية فقط دون جذورها وضوابطها وأسبابها وشروطا، ويصبحون أصحاب علم غير مبرمج ولا منهجي، بل حصيلتهم شتات وأكداس متنوعة،مسموعة أكثر مما هي مقروءة بتتابع، ويصير احتفالهم بالمحاضرات وفقه الدعوة وبما يطبع لهم مستندًا على عاطفة وتجاوب روحي أكثر من ابتنائه على معاناة وتفاعل علمي وتأملي، ويكون لهم سمت اتكالي في التفكير، يبعدون معه عن هذه الأصالة المطلوبة.
وعلاج هذه السلبيات إنما يكون بتكثيف المطالعة الشخصية المنهجية المتدرجة، في أبواب الفقه والتاريخ والاقتصاد والسياسية، ولا ينهض الانشغال الكثير بيوميات العمل الحركي عذرا لتقليل هذه المطالعات، فإن مصالح الدعوة مجتمعة، وكما أن مصلحتها واضحة في زيادة النشاط، فإن مصلحتها أ,ضح في الارتفاع بالمستوى الثقافي الفكري لدعاتها، ولا بأس من تحديد حجم بعض هذا النشاط من أجل تمكين الدعاة من حياة هذه الثقافة، وتمكينهم من التهام الكتب.
(القاعدة الثانية): ترجيح تنفيذ متطلبات العمل الحركي على المساهمة في تجديد الاجتهاد الفقهي:
فإن من أهم جوانب التكيف أن نعرف نسبة مراحل الدعوة مجتمعة إلى مرحلية أخرى أوسع، ذلك أن هذه المراحل الثلاث المذكورة إن هي إلا أجزاء المرحلة الأولى من سير الدعوة إلى غايتها وهي مرحلة العمل للوصول إلى الحكم الإسلامي، وستتلوها مرحلة ثانية هي المرحلة التطبيقية، وصنع نموذج الدولة الإسلامية.
وهذا التقرير يدعونا إلى الإبطاء نوعا ما في مواطأة بعض الدعاة الذين يشاركون في أعمال الموسوعات الفقهية ويحضرون المؤتمرات الإسلامية فيما يكون منهم من ميل قوى إلى إشراك الدعوة في حملة تجديد الاجتهاد الإسلامي وتفاعل الشريعة مع الواقع المتطور وتحرر الفقه والإفتاء من قيود الجمود والتقليد التي أسرته إلى آراء الأقدمين.
ومما لا شك فيه أن تجديد وإحياء الاجتهاد يشكل اليوم عاملا مهما في حياة الدعوة الإسلامية، ويساعد على إيصالها إلى جماهير اكبر وأعظم، و ينقل كثيرا من المتشككين إلى اليقين، ومن الواهمين إلى تلمس الحقيقة الناصعة الدالة على جدارة الإسلام في أن يأخذ بيد هذا المجتمع المعقد الحديث، و أن يقدم له حلولا لمشاكله هي أحسن من حلول الاشتراكيات والديمقراطيات التي افتن الناس بها.
هذا حق لا شك فيه، ولكن الإسراف في تصور مدى ذور الحركة الإسلامية في مرحلة سيرها إلى الحكم في هذا التحرير لفكر الإسلامي والاجتهاد الذي يقتضيه يولد سلبيان فيهما تعويق.
السلب الأول: أن الدعوة عندئذ قد تتحدد في شكل تجمع فكري مجرد يعطل طاقات كثيرة من طاقات الدعاة عن التجميع والتربية والممارسة السياسية، في الوقت الذي يشير فيه واقع المسلمين في جميع البلاد إلى أن بقية الخير الموجودة في كل بلد هي بقية كبيرة، وأن بالإمكان الاستدراك بجمعها وتنظيمها وتربيتها ووضع الخطط لها، ولتصل إلى الحكم بسرعة، وهاذ الوصول سيجسد عند ذاك هذا النداء لتحرير الفقه الإسلامي من أسره، ويوجد في الدولة الإسلامية مثالا واقعيا يكون أبعد تأثيرا في إفهام الناس، بل إن هذه الدولة ستتيح هي بإمكاناتها التي تضعها في خدمة المجتهدين الجدد أن يدلوا باجتهادات بتيسر سيبل الإجماع عليها، وأن ينطلقوا من معالجة واقع ورغبة حكم يريد أن يحل كل ترسبات سني الانحراف والشرود الذي أصاب الأمة، ويستبدلها بحلول إسلامية، وعندئذ ت كون حلولهم أقرب إلى الواقع الذي ستطبق فيه.
إن حرص الحكم الإسلامي على تطبيق نتائج بحوث الفقهاء سيزيدهم حماسة دون شك، ويجعلهم أكثر صوابا، وأعمق تفاعلا مع القضايا التي يبحثونها، وسيكون حكمنا أكثر توفيرا للوسائل المطلوبة، وأجزل عطاء لمشاريع إحياء الاجتهاد، كإنشاء المجامع الفقهية، و عقد المؤتمرات الخاصة، وتفريغ العلماء بعد استقدامهم من جميع أنحاء العالم، وإتاحة فرصة التحدث العام لهم من خلال وسائل الإعلام المختلفة لتكوين رأي فقهي عام موحد يقارب الإجماع، وما أشبه ذلك.
إن ظاهرة وجود بقية الخير تلزمنا أ، نستغل معم طاقات الدعاة في الميادين التجميعية والتربوية، وفي التخطيط وقيادة الجماهير، في كل هذه المراحل الثلاث، لا أن نعطل طاقات كبيرة ونرصدها لهذا الاجتهاد وتحرير الفكر الذي يحل الحركة إلى مجمع فكري يتباحث ويتناظر أكثر مما يعمل.
نعم، لا بأس أن تخصص الحركة جماعة من الدعاة أولى الثقافة ممن تظن أنهم أهل للاجتهاد إذا تركوا إرهاق العمل اليومي المتشعب وتفرغوا للبحث، ليجتهدوا، ولينطلقوا عند تلبية حاجة الدولة التي ستقوم من معاناة حقيقية مع سير الدعوة، ولكي لا يكون الاجتهاد بمعزل عن الحركة، ولكي لا يقفوا على أرضية يوم كثرة الحاجة لإفتائهم هي غير الأرضية التي ينطلق منها الدعاة، ولكي لا يفتقدوا خلفية تنسق الأفكار عندهم وترتبه حسب أولوياتها التي يتعارف عليها الدعاة.
فنحن لا نشك في أن الحركة مدعوة إلى تخصيص بعض الباحثين من الدعاة بعدد قليل، لنحصل على نموذج الفقهية المعاني الفاهم للنفسية التي تسود الحركة ولموازينها واتجاهاتها التربوية، وبذلك يوجد التخطيط الفقهي المرتبط بأهداف القيادة السياسية غير المنعزل عنها، بل ومن المحتمل أن يكون هؤلاء الدعاة الفقهاء أعضاء في القيادة نفسها، أو في فروعها الاستشارية على الأقل.
إن جانبا كبيرا من الاجتهاد ينبني على قواعد المصلحة وسد الذارئع، وسعة أفق الدعاة يسمح لهم بأن يبرعوا فيا لتخريج وفق هذه القواعد لأبعد مما يصل إليه الفقيه السائب، ووجد هؤلاء الدعاة الفقهاء هو وحده الذي يضمن الوقوف في وجه مدارس فقهية جديدة متساهلة قد يدفعها الدافعون لمصادمتنا، ويكون أصحابها أجرأ فيا لكلام علينا، لسماحتنا، وربما كانوا اليوم في سكون أمام الطغاة.
إن الدعوة الصائبة إلى تجديد الفقه الإسلامي يتصورها البعض شرطا للوصول إلى الدولة الإسلامية لابد منه إذا أردنا كسب الناس وتجنيدهم في الدعوة، والأمر أسهل مما تصوروا فإن هذا البعث الفكري هو حاجة العصر الحاضر من عصور الإسلام من بعد الجمود الفقهي في عصر الانحطاط الذي تاه في الفروع وأهمل النظرة الشمولية، ولكن فيا لناس بقية باقية بعدد ضخم جدًا، تؤمن بالإسلام، وتستطيع إعادة حكم الإسلام إذا تم اتحادها وتجمعها حركيا وسارت وفق خطة جماعية في مرحلية موزونة، ثم تضخم الدولة الجديدة فرص تجديد الفكر الإسلامي في ظل الحرية التي ستوفرها له، والإمكانات المالية والدعائية الضخمة التي ستضعها في خدمته، وليست مدة هذا السير لهذه البقية الثابتة من الناس إلى الدولة ووصولها لها إلا جزء صغير ضمن العصر الحديث الذي تكلف الحركة بتجديد الفكر الإسلامي خلاله، وهذا يعني أن مهمة تجديد الفكر أشمل من أن تكون من مهام الحركة الإسلامية في فترة عملها الحاضرة لاستعادة الحكم الإسلامي، وإن استعادة الحكم الإسلامي أبسط من أن تحتاج لهذا التجديد احتياجًا حتميا، وإنما حاجتها:
• إلى همة توقظ الراقدين وتقيم القاعدين من المؤمنين.
• وإلى وعي يفتح أعين الساذجين.
• وإلى شجاعة تتقدم بالخائفين.
• وإلى تواضع يرجع إلى الصف الخارجين.
إنها حاجتنا إلى البراعة في استغلال بقية المؤمنين الباقية في كل قطر من قبل أن تشيخ أكثر مما هي حاجتنا إلى فكر إسلامي متحرر.
فالجيل الذي نراه الآن فيه هذه البقية الخيرة، وإذا أبطأنا ورودنا لها بضع سنين قليلة فقد تشيخ وتصبح مشاركتها في الأحداث قليلة، وينشأ جيل أبعد عن الإسلام.
فاستباق الأيام، والحيلولة دون تحول الرضوخ الحاضر عند الناس لحكم الجاهلية إلى ذلك ومهانة تنسيهم معني الحرية الفطرية والإسلام الموحي، يدعوان إلى رصد أكبر كمية من الجهد للتجميع والتربية، وإلى تقليل الجهود التي تحاول إعطاء إفتاء في كل شكل مستجد من أشكال التعامل يأتي به التطور.
ألا تحصى معنا كم من مسلم راقد يصلي معنا، من المسجد إلى البيت، ثم إلى المسجد، ولم تمسه يد الدعاة بعد فبقي منعزلا؟ أو ليس العمل معهم أولى من المتفلسفة المتشككيين؟
أولا تحصى كم من شجاع يتألم لمصائب المسلمين، لكنه يرضي بعمل مغلف بواسطة الجمعيات الإسلامية واحتفالاتها لقلة وعيه؟
وحتى الذين ينسحبون ونظنهم جبناء: ربما هم ليسوا كذلك، وليست الشجاعة بظاهرة عند الشجاع دائمًا، فإن هناك من الشجعان من يفهم أن سيطرة الطغاة قوية ولا يمكن إزالتهم، فيبقى حذرًا، ولو أفهمته ضعفهم، وما هناك من مبالغة في تقدير أمرهم لا ستسهل العمل، فهو مثل سائر بليل في صحراء ظلماء، يرى شبحا أسودًا من على بعد، فيحذر ويكتم أنفاسه ويقف، خوفا أن يكون من اللصوص والأشقياء، مع ما عنده من الشجاعة، وربما كان ذاك السواد لمسافر آخر استولت عليه نفس المشاعر، ولذلك فإن وصف الواقع بدون إسراف ومبالغة يساعد في تشجيع كثير من الناس الذين ينعزلون عنا الآن، بما نريهم من اضطراب الباطل واهتزاز بنيانه.
إن تخلف الفكر الإسلامي، وعدم اتساع باب الاجتهاد الجديد، وعدم وجود دستور إسلامي تتبناه الحركة، كل ذلك سيضع الدولة الجديدة أمام مهمة صعبة في أول أيامها، ونكران ذلك يعتبر مغالطة، ولكن هذه الصعوبة ليست أكبر من بقاء الحركة الإسلامية بعيدة عن الحكم نفسه، تتلقى الضربات من الأحزاب والطغاة، وكل تجميد لعدد أكبر من الدعاة في مهام الاجتهاد يعتبر تمديدًا لهذا البقاء البعيد عن الحكم، وتكون آثار بحوثهم في عملية التجميع أقل حجما من آثار نشاطهم اليومي كدعاة منبثين في أوساط الشعب، وقد أوجبنا من قبل في بيان المسار وسنوجب من بعد على الحركة أن تطرح على الناس آراءها في قضايا الساعة وتقترح حلولا إسلامية للمشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ولكن هذا الإيجاب ينبغي أن يفهم بحدوده الوسطي دون إسراف.
وعلينا أن ندرك أن جو الحرية هوشرط لا بد منه لكتمال هذا الاجتهاد المبتغي حتى مع إمكان قيام بعضه والبدء به في مثل هذا الجو الخانق الذي يسود معظم بلاد الإسلام، وجو الحرية ستوفره الدولة الإسلامية أني قامت بأبهى صوره، وهذا يدعون إلى رصد الجهود، حتى جهود أصحاب الكفاية الاجتهادية، لإقامة الدولة ببقية الخير الكافية في أعدادها لو انتظمت ووعت وجسرت، وإنها لمهمة سهلة مهمة هذا الوصول وهذه الإقامة تصعبها ألفاظ من يتحمس لنهضة الفقه والفكر.
أما السلب الثاني الذي قد يولده اشتراكنا بإسراف في حملة تجديد الاجتهاد فإنه يكمن في كثرة الإلتهاء بهذا الفقه الجديد وإحداث موجة كبيرة من الخلافات والتشعبات، قبولا ورفضًا لاجتهادات المجتهدين، تؤدي إلى إلهاء العاملين أنفسهم، وليس إلى مجرد تعطيل طاقات عن التجميع والتربية بأعمال الاجتهاد.
لاشك أن الحجر على العقول غير ممكن ولا مستساغ، وإن خلاف الفقهاء يطور فقههم، ولكن ندع ذلك إلى فترة السعة.
وعلى هذا فإنه لا يسعنا إزاء هاتين السيئتين اللتين يولدهما الإسراف في الحماسة في إحياء الفقه إلا أن ندعو إلى فهم واقعي لهذه الرغبات الصادقة على ضوء حاجتنا الحقيقية المرحلية وطاقتنا البشرية التي نستطيع توفيرها.
إن الذي عندنا الآن من إنتاج فكري ومجاميع مؤلفات تكاد وتقارب أن تكفي لتلبية حاجات سيرنا للوصول إلى إقامة الحكم الإسلامي، وتعتبر المكتبة الإسلامية أوسع مكتبة فكرية، وليس هناك حزب ينافسنا يملك مثل تراثنا الفكري، وفي الإنتاج المنتظر من قبل هؤلاء القلة من الدعاة الذين أقررنا بوجوب توجيه جهودهم لتحرير الفكر ما يتكامل به رصيدنا الحاضر، وللدولة الإسلامية يوم قيامها رب يحميها ويفر لها من يسد حاجتها إلى تفصيلات دستورية أو إفتاء تعاملي، والذين يشردون الآن عن الحركة الإسلامية لمجرد نقصان هذه التفصيلات والفتاوى لن تحتاجهم الحركة بإذن الله، بما أبقى الله تعالى لها من بقية الخير التي لا يخلو منها بلد.
هؤلاء قوم إيمانهم ميكانيكي لا ينبعث عن قلب، وإنما هو في عقلانية مجردة، وإذا اقتنعوا بمسألة فقد لا يقتنعون بأخرى مهما اجتهد المجتهدون، ولسنا على استعداد لنصرف أطنانا من الكلام كي نحوز رجالا من هذا الصنف، وأحكامنا واجتهاداتنا الآن كثيرة، وهي واضحة، ونرجع إلى قرآن كله حق، ومع ذلك فإنهم لا يأتوننا، أفيأتوننا ببضعة اجتهادات نضيفها؟؟
كلا، وحاجتنا الفعلية ليست هي في هذه المهمة الصعبة المحدودة الجدوى، وإنما في كتب تربوية وسياسية وتخطيطية جديدة توسع مدارك الدعاة، وتنقلهم إلى الوعي، وتختصر لهم الطريق.
(القاعدة الثالثة): إخفاء الحركة لبعض حقائقها، وعدم استعراضها لكل عضلاتها.
إذ من المهم أن يفقه دعاة الإسلام أنهم ليسوا في مسابقة الكمال الجسماني، وأن الذين حولهم لا يحملون آلات تصوير ولتخليد منظر البنية القوية التي يملكونها، وإنما يحملون آلات فتك وتعذيب.
تتكرر اللدغات، ولا تدري لماذا لا يكون الاتعاظ؟
وإن مراقبة مسلك الكفر يوضح تواصي أطرافه، في مدى عشرات السنين على ضرب رؤوس الحركة الإسلامية، كلما أينعت، بإعدام أو اغتيال أو سجن أو تهجير، ويفتعلون شعارًا مزخرفا تذبح عنده ورقاب الدعاة.
وقد تقودنا الحماسة إلى تقرير فشل أعداء الإسلام في قهر الدعوة والقضاء عليها، وأنها تخرج من كل جولة، قوية، رافعة الرأس ولدعاتها ثبات أرسخ، وعزائم أحر اتقادًا، ولقد نقول إن الكفار اليوم يبدلون أساليبهم في محاربتنا، ولم يعد الإرهاب ينفعهم.
وذلك صحيح إلى حد ما، ولكنها ليست الصحة المطلقة، فإن الكفر لا يستطيع الإسراف في الدماء وتوسيع السجون ولا يهمه ذلك كثيرا، بل يهمه أن يحرم الدعوة من قادتها الوعاة ودعاتها المجربين، الذين تفقهوا في الدين وعرفوا خفايا السياسية، واكتشفوا طريق العمل المؤثر، لتبقي بقية في لذة المشاعر والهتاف، والتكاثر والعواطف، والتعارف والتحادث، ويضمحل العمل الهادف، وتلك صورة لا تشكل خطرا على الكافرين والظالمين، فإذا ما تكررت التجربة وأينعت ثمار جديدة: استؤنف القطاف.
من أجل ذلك وجب علينا الاتعاظ بمدلول هذه الظاهرة المستمرة والإسراع في تحوير طريقة العمل في البلاد التي ضاقت فيها الحريات وتتعرضا ليوم الإرهاب، بتوجيه من انكشف للعمل في مجالات النشاط العام، وتكوين طبقات جديدة منتقاة بمقاييس نموذجية دقيقة، تتخفى لتنبث في هدوء إلى مراكز التأثير وتتجرد لاتصالات الشخصية الثنائية ذات المردود التربوي المركز، ويتم تحويل الأعباء ووضعها على عاتق هذه الطبقات بالدرجة الأولى، فيكون الثقل القيادي فهيا، وتظل تتعالى على مغريات العمل الظاهر، وتزهد بما في أيدي الناس، وتتمرد على أعراف ابطر، إلا ما جاءها منه أخذته، دون أن تتكلف السعي الكثيف له، حتى يأذن الله تعالى برفع الغمة عن الأمة.
جمهرتان متلازم سيرهما، تكمل إحداهما الأخرى، بوجودهما معا يتم التوازن، ويبرق نور أمل الوصول.
الأولى: تمهد، وتصنع الظروف الحسنة، وتثبت الأخلاق، وترفع الهمم، بالتأليف، والكتابة الصحفية، والوعظ، والخطابة، والمحاضرة، وخوض الانتخابات، والاندماج مع الجمهور، في المجالس والمساجد والمدارس والمعامل والأرياف، ورعاية النساء والأشبال.
والثانية: تستثمر في سكون،وتلتقط بفراستها كل ذي عين تومض، وفؤاد يلتذع، وظهر نحو الترف مدار، وقدم إلى لجنة ممتد، وتغلق وراءهم الباب، حتى ينساهم الذاكرون، فإذا غابوا: لم يفتقدوا،وإذا حضروا: لم يعرفوا، وليس لهم من بعد إلا خروج واحد، يم يتضمخون بالأحمر القاني ليرتفع اللواء، أو قبل ذلك بقليل، يوم يبلغ التحدي ذروته، فيخرجون لقيادة الناس.
إن خلاصة التقويم للتجارب الكثيرة لا تجيز أبدًا التفريط بإحدى الطائفتين: فإن فقدان الأولى: يقسي قلب الثانية، ويجنح بها إلى التطرف والمجازفات وتكوين الجيوب، فإن الممارس القديم فقيه وإن انكشف أمين وغن خالطه الترف، وانتفاء الثانية يذهب بهيبة الأولى، فيستضعفها الظالمون، ويؤذيها المتجبرون، وكل تحمس زائد لتصور صواب الاقتصار على نمط واحد فقط من العمل في البلدان المكبوتة يعتبر تجاهلا لدلالة الواقع لا يساعده النظر الحصيف.
ونلاحظ هنا بصورة خاصة أن سلبيات تأخر سير الحركة الإسلامية بفعل الضربات والمحن الشديدة قد اختلطت بنتيجة إيجابية متمثلة في تكين جيل من العناصر المجربة العميقة الإيان الواسعة الإطلاع، وكثرت العناصر الراكزة، وحصل تعادل في بناء المجموعة يمكن أن يستثمر بنجاح، بينما كان سير الحركة قبل المحن معتمدا على علو الهمم وفرط الحماسة، أكثر من اعتماده على الوعي، بل ما كنا لنقع في المصاعب لولا فقدان التجريب، وفي هذه الحقيقة ما يقنعك بأن الاستدراك الذي نريد أن يقوم به الخط الثاني لا يمكن أن ينفصل أبدًا عن المعادن الأولى التي عركتها المسيرة الطويلة.
إن التأمل الرزين يبدي خطأ الاقتصار على الخط الحذر، إذ كيف تتربى العناصر المؤمنة في الخطين بدون هذه الوسائل التربوية التي وصفتها خطة الانسياب؟ ولماذا تتعمد إهمال أناس من الأخيار ولا تضعهم في تيار الضغط وإن لم يكونوا أهلا لعمل فردي صامت طويل ويلزمهم التحريك الجماعي؟ إن تجربة الثورة الإيرانية على الشاه تعطي قيمة كبيرة لأهمية التجميع الواسع للعناصر التي هي دون مستوى الانتماء الملتزم وإدارتها في فلك الدعوة، ولا تستطيع إعدادها بغير إسماعها الكلام بمختلف فنونه ووسائله، وبغير الحرف المطبوع، وهما واجب الخط الأول.
نظرية الالتفاف
ولكن بالمقابل علينا أن نفهم أن مثل هذا التجمهر الشعبي الواسع لا يسوغ إيجاده قبل اكتمال خلفية له من الدعاة الباذلين بصمت، وإنما هو مرحلة متقدمة في الخطة وعمل مؤجل لابد أن يسبقه إتقان لسير منضبط طويل، ويجب أن تستمر سيرا في الخط الثاني المناور في حالة من الكتمان التام، تحفظ به الوعاة من الضربات، وتسلهم من قسوة المفاجآت، ومكايد المخابرات، وإلا التقط الطغام الرؤوس وكنت كمن يقدم إلى جائع طبقا فيه أجود الثمر، ف ينكب عليه بنهم، وتمتد يده إلى أحسنه وأينعه.
إن من بساطة التفكير أن تميز في توقعاتك بين حاكم متهتك ملحد وشهواني يداري، وبين مرتكز على شرق أو مستأنس بحماية غربن وبين أسرة حزبية أو أسرة ملكية، أو بين يسار ويمين، فإن الظلم من شيم الجميع، ولا يمتنعون عن امتحان المؤمنين إذا خافوا على مصالحهم أو آتاهم الإيعاز وصدرت لهم الأوامر، المملوك منهم والمكاتب، والمتحر وماذا تنتظر لك بعدما رأيت أقوى ا لاستخبارات العالمية تقتل ملكا تعاون مع دولتها دهرا لما بدت منه بوادر توبة وصحوة؟
هناك خط حدود مرسوم، يسمحون لك بما هو دونه، من وعظ وإرشاد وعموميات، فإن خصصت، وضبطت البوصلة، وتجاوزت الخط: حركوا الصنائع لإيقافك، وقد لا يكون بعضهم راغبا بحمل وزر أذاك، لكنه مهدد بالخلع هو نفسه إن لم يؤذك.
نعم، نحن لا نرهبهم، ولا نقعد عن العمل، ولا نضخم مقدرتهم، فإنهم بشر مثلنا، تعتريهم الغفلة، ويستبد بهم اليأس، وتخالف الدنيويات بين قلوبهم، ولكن من العبث أن تتقدم حاسر الرأس مكشوف الجنب، وإنما عليك أن تغلب كيدهم وأجهزتهم بإتقان الالتفاف من المسارب الخلفية.
المبالغة في السرية تجفف ا لقلوب الندية
إلا أن هذا الوعي لضرورة هذا المنحنى اليقظ ينحرف به الغلو ع ن مقصده وسمته فقد يتصور البعض طبيعة من السرية الصارمة وفردية الاتصال وتباعد وقت اللقاء، ذلك ممكن لكنه في الأحزاب لا عندنا، لأن شخصية الداعية المسلم ليست كغيرها، وتلزمها رقة وشفافية، وتقوى واعتدال مزاج، ولطف حس ودماثة خلق وعمق فقه، والتفرد يضعف هذا الخصال في الداعية، ويجعله جافا، كثيف الروح، ولقد أرهقتنا تجربة الجهاز السري بمصر في أعقاب مقتل الإمام البنا رحمه الله، وتحولت بعض عناصره إلى شبه عصابات اختلفت فارتكبت القتل، وسالت دماء مسلمة بريئة، وما كان ذلك إلا من جراء المبالغة في السرية ووضع السلاح في أيدي الضعاف قبل حصول التربية العميقة، فقست القلوب، وطفح الغرور.
إنه درس ينطق، يعلمك، وجوب الاحتياط المضاعف وترسيخ التربية الإيمانية وإطالة الفترة التجريبية.
لسنا ألوية إيطالية حمراء، ولا رجال عصابات، ويجب أن لا يطغي الضرر على المصالح التي نجنيها، فضلا عن صعوبة هذه الصرامة، إذا يحول دونها ارتياد المساجد، وحجاب نسائنا، وأدبنا الفريد وعفافنا المميز، وفي هذا ما يجعل التجميع الواسع ضرورة فوق كونه تيار ضغط ومجال انتقاء، لتضيع القلة المصطفاة في الكثرة المنشرة، دون أن يعرفها المراقب والفضولي.
وثمن ذلك: فطم لسان الدعاة عن كلام كثير يستسهلون تداوله اليوم أثناء التعارف والاستطراد في المجالس، ومن خلال تحقيقات الصحف الإسلامية، فهم يذكرون أسماء وأخبارً لا ضرورة لذكرها، وينبشون تاريخًا، ويفضحون أسرارًا، وما لم تتبدل هذه الطبائع، ونجيد التمييز لحدود الأحاديث المتبادلة والمقالات الصحفية فإن صفنا معرض كله للانكشاف والمخاطر.
كفي، كفي أيها الأخوة.
كأننا نتقدم نحو ساحة الصراع ببراءة الطفولة وسذاجة الدراويش, والمفروض أن يكون الذي جرى لنا كافيا للموعظة والذكرى، ولتكوين الوعي والفطنة، وكل ما يقال عن اختلاف الظروف ووجود المجالات الحرة في بعض البلاد إنما هو كلام نظري لا تنهض له شواهد واقعية، وكل ما في الأمر أن التضييق على الدعاة لم يحن أوانه بعد في تلك البلاد، لضعفهم وعدم توليدهم لخطر حقيقي على أعداء الإسلام، وسيضربون ضربة موجعة متى اقترب خطرهم، وأل ما يجب على الدعاة إذا استبعدوا هذه التخوفات: أن يجعلوا طبيعة التكتم أو الإعلان أمرًا نسبيًا، لا يسارع معه من يفضل الإعلان منهم إلى إعابة مسلك المتكتمين، فإن لكل بلد ظروفه التي يقررها أهله.
وأما ما يقال عن المصالح التي تكمن في علنية القيادة وانتصاب أركانها قدوات للدعاة وزعماء للجمهور فكلام صحيح لا شك فيه، ولكن الإبقاء عليهم أحرارًا يفيدون الدعوة بعلومهم ووعيهم وتجاربهم بعيدًا عن أيدي الطغاة ورصاص جماعات الاغتيال الحزبية يضمن مصالح أكبر وأكثر، ومن الممكن أن يقوم بدور الزعامة الجماهيرية دعاة من غير أعضاء القيادات.
(القاعدة الرابعة): اعتقاد نسبية الإلزام والإعلام في الشورى:
وإنما هي الشورى ذات السمت الحسن الوسط نعنيها، البريئة من قيل وقال وإحراج الرجال، البعيدة عن المراء والرياء، فكما أن نفس الداعية تتمنى أن لا يصدمها احتكار الآراء، فإن نفس القائد ترغب أن لا يكون هناك إسراف في تدخل المستشار تصير به الجماعة جماعة قول أكثر مما هي جماعة عمل، وكلا الرغبتين حق، والتعادل بينهما وجاب، وقد يكون لعنصري الحزم والسرعة في اتخاذ القرارات مثل أهمية الآراء الصائبة الكامنة فيها.
وليس يضيرنا ما نجده من اختلاف الفقهاء والباحثين تجاه حكم الشورى، فإن بعضهم لم يصرح بوجوبها، ولم يتجاوز ابن القيم اعتبارها من المستحبات، ففي معرض كلامه عن بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية قال: (ومنها استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه، استخراجًا لوجه الرأي، واستطابة لنفوسهم، وأمنًا لعتبهم، وتعرضا لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض، وامتثالا لأمر الرب في قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر)([6]).
ولغيره من الفقهاء، منحى مقارب له، وفي كلام بعض دعاة هذا العصر أيضًا.
إلا أن جمهرة أخرى مقابلة تصرح بالوجوب، وأقوالها مشهورة، ترى وجوب المشاورة، ثم وجوب نزول الإمام أو القائد عند قول الأكثرية، أنها ملزمة ليست معلمة فقط.
ومال الأستاذ عبدالكريم زيدان في (أصول الدعوة) إلى القول بعدم إلزامها للقائد الحركي، وفي (الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية) إلى إلزامها للإمام الحاكم، في شبه تعارض، ولكنه أراد أن عمل الدعوات تغلب عليه الظروف الصعبة، ويتطلب سيرة منضبطة وحزما زائدًأ قد يثلمه الإلزام ويكون معه الارتخاء، بينما يكون للدول سعة وهيمنة وهيبة وظروف حسنة تساعد على الإلزام وتجعله أحوط.
وعلى كل فإن لكل فقيه حقا في الميل إلى أحد الرأيين حسبما يظهر له من م عاني الأدلة، ولسنا نميل إلى القول باطراد الإلزام في الشورى، ولا بإطراد عدم الإلزام، وإنما نرى أن المؤمنين عند شروطهم، ولكل حركة أن تدرس في كل مرحلة أي حاجتيها أكبر: حاجتها إلى الرأي، أم احاجتها إلى الحزم؟ فتتخذ ما يناسب مصلحتها، وتودع قرارها مادة في النظام الداخلي واضحة تكون البيعة وفقها، وللقائد أن يشترط لنفسه شروطًا إن كان يرى عدم تجاوز مجرد الإعلام، في غير ما هوي، واعظًا نفسه بمعاني التقوى.
لابد من وضوح إحدى الطريقتين في النظام، ولا تجوز التعمية، فإنها تسبب الفتن، ونحن نميل إلى جعل حكم الشورى نسبيا يصح فيه الإلزام والإعلام، بحسب البلد الذي تطبق فيه، ومعادن الرجال، والمرحلة، واليسر أو العسر، والمحبة أو الشقاق.
ودليلنا على ذلك كامن في قصة بيعة الخليفة الراشد الثالث رضي الله عنه، وهو دليل غفل عنه جميع من كتب في مسائل الشورى من أنه من أوضح الأدلة على فهم السلف للمعنى النسبي الذي نذهب إليه، ففي صحيح البخاري أن عبد الرحمن بن عوف لما صار حكما بين بقية الستة الذين جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه و عنهم فيهم أمر الخلافة ثم استقر رأيه على مبايعة عثمان بن عفان رضي الله عنه قال لعثمان:
(أبايعك على سنة الله ورسوله، والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس: المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون)([7]).
قال الحافظ ابن حجر: (وأخرج الذهلي في الزهريات وابن عساكر في ترجمة عثمان من طريقه، ثم من رواية عمران بن عبد العزيز، عن محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه قال: كنت أعلم الناس بأمر الشورى، لأني كنت رسول عبد الرحمن بن عوف، فذكر القصة، وفي آخرها: فقال: هل أنت يا علي مبايعي إن وليتك هذا الأمر على سنة الله وسنة رسوله وسنة الماضين قبل؟ قال: لا ، ولكن على طاقتي، فأعادها ثلاثا، فقال عثمان: أنا يا أبا محمد أبايعك على ذلك، قالها ثلاثا، فقام عبد الرحمن، واعتم، ولبوس السيف فدخل المسجد ثم رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم أشار إلى عثمان فبايعه)([8]).
ثم قال ابن حجر: (واستدل بهذه القصة الأخيرة على جواز تقليد المجتهد، وإن عثمان وعبد الرحمن كانا يريان ذلك بخلاف علي، وأجاب من منعه، وهم الجمهور، بأن المراد بالسيرة ما يتعلق بالعدل ونحوه، لا التقليد في الأحكام الشرعية، وإذا فرعنا على جواز تجزئ الاجتهاد احتمل أن يراد بالاقتداء بهما فيما لم يظهر للتابع فيه الاجتهاد فيعمل بقولهما للضرورة).
وتفسير الجمهور لهذا الشرط يقلل من إمكانية الاستشهاد بهذه القصة، لكنه لا يعدمها، فإن مراد عبد الرحمن لو كان محصورا في تحرى على مثل عدل أبي بكر وعمر لما نفاه علي ولما رفضه، وكون العذر ينتهض لعلي إن لم يستطيع ذلك وقصر عنه يعتبر ميزانا بديها من موازين الإسلام لا يغفل هو وعبد الرحمن عنه، فإن الله تعالى يقول: (فاتقوا الله ما استطعتم) وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستدرك إذا أخذ بيعة فيقول: فيما استطعت، ولذلك فإن الأظهر من مراده هو تقييد الخليفة الجديد باجتهادات أبي بكر وعمرن وكأن نفي الجمهور لهذا المراد إنما جاء في غمرة حماستهم لنفي التقليد المذهبي، والقلب يشهد بمعنى في القصة مما نذهب إليه وإن صادمه قول الجمهور.
فإذا كان الميل إلى هذا المعنى فإن الاشتراط على الأمير يكون صحيحا، ومعنى ذلك إن بإمكان الأتباع أن يتوسعوا في مدى هذا الاشتراط وتنويعه ليشمل إلزامه برأي الأكثرين من الأعوان المساعدين له.
هكذا، شرط رفضه علي، وقبله عثمان، وفي الرفض والقبول دليل على أن القائد قد يشترط توسيع صلاحيته أو يتنازل عن بعض حريته وحقه، وإذا مال الأتباع إلى تضييق مجال القائد ولم يمل معهم القائد إلى الذي مالوا إليه فإن طريقه إلى رفع الحرج عن نسه يكون بما كان من علي رضي الله عنه، فيرفض تسلم القيادة وتحمل التبعة، وذلك سائغ في الأحوال التي فيها سعة، ولا إثم عليه إن شاء الله، لكونه متأولا، إلا إذا كان الحال لا يصلح إلا بوجوده، ويترجح حصول الفتن أو الوهن باعتزاله –فإن بعض الإثم قد يلحقه والله أعلم، ومعاني المروءة تخاطبه بالتنازل عن بعض شروطه، أو تخاطب الأتباع، تندب لهم الحرص على تولية هذا القائد بالتنازل عن بعض شروطهم، وتوسيع حريته، وإذا تحرى الطرفان مصلحة الدعوة لم يعسر عليهما الاتفاق الوسط.
إن الأمر أمرنا، وقد ترك الشرع للقائد وللأتباع حرية في الاشتراط، إذ أن الأصل في الأمور الإباحة، وليس هناك نص يمنع، والاستشهاد بهذه القصة مهم، فوق أن الركن إلى مذهب في الشورى ليس بابا من العقيدة والتعبد، وإنما هو باب تقرره مقادير وأنواع المصالح التي يوفرها كل مذهب، ويكون تطبيقه على ضوء قاعدة سد الذرائع.
بيد أن اعتقادنا نسبية الشورى لا يمنعنا من التصريح بأن التجارب الوافرة التي مرت بها الحركات الإسلامية الحديثة ترجح جانب وجوب الاستشارة، وأولويتها، وتدعو إلى أن نشارك الأديب الثقة أبا حيان التوحيدي في اعتقاد أن:
(المستعين أحزم من المستبد، ومن تفرد لم يكمل، ومن شاور لم ينقص)([9]).
هذه هي المسألة الرئيسة، فإن من تفرد لم يكمل، وسبحان الله الذي خلق كل بشر عن الكمال ناقصا كما أن من شاور لم ينقص، فإن قوة الرأي والحجة إذا توفرت عند القائد: فرضت نفسها.
ولهذا كان أبو بكر رضي الله عنه يمنع التفرد ويقول:
(الزموا المساجد، واستشيروا القرآن، والزموا الجماعة، وليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد طول التناظر)([10]).
ثم من بعد ذلك نرى إلزامها.
وإذا كان هناك تخوف من الخطأ إذا كانت آراء أكثرية المستشارين ملزمة للقائد، لجودة وعيه ونقص تجربتهم، فإن الاحتياط المناسب لا يكون بالحجر عليهم، وإنما بأن نشترط للأمور المهمة موافقة أكثرية الثلثين أو أكثر أو أقل وليس مجرد موافقة الأكثرية المطلقة التي هي النصف زائدًا الواحد.
(القاعدة الخامسة): توازن الممارسة السياسية والتربية الإيمانية.
فإن طريقنا ليس مثل طرق الآخرين، والأحزاب العلمانية إنما تعتمد الخداع أو الإرهاب والبطش في توسيع نفوذها، أو هي تغريهم بالمصالح والمنافع المادية، ولكن ليس لنا نحن إلا علوم الشريعة نتحدث بها ونحلل الواقع والمستجدات وفق موازينها، وإلا هذا لإيمان الذي يكون في القلب، فيفيض على الوجه والجوارح، فيقلده الناس إذا شاهدوا آثاره، ويكون هو مدخلنا لإقناعهم بأفكارنا وانضمامهم إلى حركتنا.
إن هذا الطريق الإيماني هو الضامن لعدم الانحراف، وبدون الرتبية عليه تنتج نفوس تفقه السياسة، لكنها صلبة لا تعر الرقة، وقلوب ربما تجيد الفوارت والثورات، لكنها قاسية، وربما نشا التضارب بينها.
وبعض إخواننا الذين يدعون إلى تجاوز التمهيد التربوي يستشهدون بالثورة الإيرانية، كيف أنها كانت ممارسة سياسية جمعت الجماهير واستوعبت ونجحت.
وما نظن استشادهم في محلة، فإنهم رأوا الخميني ثائرا ولم يروه مربيا وممهدًا، إذ كان له عمل قديم لسنوات طويلة يوم لم يكن أحد يعرفه، واستثمر المشاعر التي تركها نواب صفوى رحمه الله وأصحابه من جماعة فدائيان إسلام، وكتابات على شريعتي في الفكر والتربية، فوق استناده أساسًا على قوة مركز العلماء في الجمهور الشيعي، وعلى شعور الترابط الذي يسودهم كطائفة.
لقد عرفوا الخميني بتعريف وكالات الأنباء والصحف له لما بدأ معارضته، وغفلوا عن تاريخه السباقن فظنوا أن تجاوز المراحل في العمل مستساغ، وأصبحوا يريدون القفز من على الأسوار التي يقرها العقل السليم لكل مرحلة من مراحل العمل.
كلا، فإن الخميني لم يكن متسورًا، ولا قفز قفزًا، بل تأني ومهد وربى، وعلى إخواننا أن يفعلوا الذي فعل.
إن البعض يحاول نقد مسيرة الدعوة كلما رأى فوز الآخرين، ومنهم من يعزو طول الطريق إلى الجمهور التي تستهلكها التربية الإيمانية، فيدعو إلى اطراحها وتجريد العمل في السياسة، ولكننا نرى أن العمل التربوي هو الأساس الذي تستند عليه جولاتنا السياسية، ونظنه خطًا أصيلا يميز العمل الجدي الدائم عن العمل الارتجالي السريع.
من جانب المحارب يبدأ سيرنا
وللحركة في السودان ترجيح للمنهج السياسي منذ اكتشافها التأثير الإيجابي للممارسة السياسية في البناء الإيماني، وهو منهج صائب في كثير مما يدعيه، مستقيم الزوايا، ولكن بعض الدعاة منهم يوم ابتدأت التجربة في أوائل السبعينات، في جو مساعد مفتوح بوجود حكومة ضعيفة وانفصام فكري واضح مع الحزب الشيوعي المعادي يمكن جمهور العامة من الناس من فهم تبريرات الصراع بسهولة، ويحدو بهم سراعا إلى الوقوف في الصف الإسلامي، يومها، أخذت إخواننا أولئك ونشوة سببتها لذة البداية في صراع ناجح، فكانت لهم مبالغة ومغالاة متنكرة لأساليب التربية الفردية والاعتكافات اليومية العلمية والعبادية، وفلتت ألسنتهم بألفاظ مستعجلة أجفلت غيرهم من أهل التأني الذين يعانون من ظروف أصعب من ظروف السودان.
إن هذا المذهب السياسي المجرد الناقد لجهد التربية مازال يتنامي في السودان، والذي نراه أنهم إنما يعممون القول دونما نظرة نسبية، ونظنهم لا يجيدون التعبير في وصف حالة خاصة تمكنهم من إقلال الجهد التربوي، وذلك أن تدين الشعب السوداني يغنيهم، إذ وفرت البيئة الأنصارية أو الختمية كثيرا من الجهود التي يفترض أن تؤديها الجماعات الإسلامية العاملة في البلاد الإسلامية الأخرى، وما زال الشباب السوداني العادي وافر الإيمان، نقي الفطرة طاهر السلوك وتكثر فيهم المحافظة على الصلاة، ولا يحتاج كي يتحول إلى داعية إلا إلى وعي سياسي وارتباط تنظيمي، بينما تجد شعوبا أخرى كثر فيها النفاق، ويبدأ الدعاة فيها تعليم أصحابهم الجدد مبادئ الصلاة وأوليات الأخلاق.
ومع ذلك فإن تزايد تعقد الحياة يضطر دعاة السودان إلى زيادة مقابلة في رعاية الجانب التربوي اضطرارًا، فإن المؤشرات التي تأتي بها المسيرة العملية الفعلية قد تنقض القناعة النظرية التأملية والظنون المستعجلة، وآية ذلك ما نشره الأستاذ الترابي عن (الصلاة) و(الإيمان) إذ نجد في هذين الكتابين مساهمة تربوية لطيفة، وتذكرة قلبية رقيقة، وفيهما دليل على استحالة نفي الأقتران الذي ندعيه بين التربية والعمل السياسي.
(القاعدة السادسة): التدرج في الإصلاح:
ذلك أن النفوس تألف الاعوجاج إذا عاشت فيه دهرا طويلا، وتتصلب على ما تألف من المعاصي، وإذا أردنا لها نقلة مفاجئة سريعة،: حاصت وتمردت، وتفلتت، تبغي التملص فنضطر إلى الترفق، وتجزئ الخير في ورود متتابع متصل، حتى يكتمل.
والأساس الفقهي الذي تستند عليه قاعدة التدرج يكمن في قاعدة ترجيح المصلحة الكبيرة على الصغيرة عند تعارضهما، فإن، امتناع الناس عن قبول الخير دفعة واحدة قد يؤدي بهم إلى شقاق لنا يتطور إلى فتنة عارمة، وهي مفسدة كبيرة، نبعدها وننأى عنها باحتمال مفسدة تأخير إعلان وتطبيق الحق الذي يرفضونه.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
"إنما نزل أول ما نزل منه –أي القرآن- سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام: نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا".
ولسنا نريد بذلك التملص من بعض الشرع، فإن الشرع كامل، وكله واجب، ولكننا في تطبيقه على الناس أول أيام حكمنا أو في دعوتنا الناس له قبل أن نحكم، أو في تربية الدعاة عليه: يسوغ لنا أن لا ن تحدث به أو نطبقه دفعة واحدة، بل في خطوات.
ودليلنا على صواب هذا السلوك ما كان من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فإنه خليفة فقيه، وكان قدجاء إلى الحكم بعد مظالم ارتكبها بعض الذين سبقوه، فتدرج ولم يستعجل، فدخل عليه ولده عبد الملك فقال له:
(يا أبت: ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك.
قال: يا بني: إني إنما أروض الناس رياضية الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعا من طمع الدنيا، فينفروا من هذه، ويسكنوا لهذا)([11]).
أي يخرج طمعهم بالموعظة والتأني، ليكون عن قناعة، لا بخوف من السطوة والعقاب.
ويبدو أن هذا الولد الصالح قد حاز حماسة فاقت التي عند أبيه فدعته إلى معاودة الاستغراب من سياسة التأخير والتدرج، فكان منه أن:
(دخل على أبيه، فقال: يا أمير المؤمنين: ما أنت قائل لربك غدًا، إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة فلم تحيها؟
فقال أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيرًا.
يا بني: إن قومك قد شدوا هذا المر عقدة عقدة، وعرورة عروةن ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم: لم آمن أن يفتقوا على فتقا يكثر فيه الدماء. والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يراق في سببي محجمة من دم أو ما ترضي أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحي فيه سنة؟)([12]).
هكذا... إذ المهم أن تكون هناك نية جازمة، وسير وإحلال للخير والسنن، وأما مقدار ذلك فتحدده الظروف وردة الفعل المعاكسة، ولا بد من تكيف للمحيط، ولابد من مرونة تمتص الصدمات المحتملة.
ضرورة التمهيد الربوي وإثارة الأشواق
وتحتاج المواقف العملية والتطبيقات السياسية إلى أسلوب في التربية خاص، يمهد، ويؤسس مقدمات، يكون ظهور وتنفيذ الأمور العظام والمنعطفات المهمة معها متوقعا دونما استغراب من الناس، أو أن نحرك في نفوس الناس أشياء ومفاهيم وموازين من شأنها أن تتركهم في استفهام متواصل بحيث يجئ الأمر العظيم بعد ذلك جوابا لاستفهامهم، ويقبلونه بما عندهم من أهلية القياس وفق الموازين التي مهدنا بها للأمر.
وهذا الأسلوب هو فرع للتدرج في الإصلاح، وأوضح مثل له ما كان من الممهدات التي أوردها الله عز وجل بين يدي تحويل القبلة من بيت المقدس نحو المسجد الحرام.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله:
(لما كان أمر القبلة وشأنها عظيما: وطأ سبحانه قبلها:)
- أ- أمن النسخ وقدرته عليه وإنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله.
- ب- ثم عقب ذلك بالتوبيخ لمن تعنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ينقد له.
- ج- ثم ذكر بعده اختلاف اليهود والنصارى وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شيء، وحذر عبادة من موافقتهم وإتباع أهوائهم.
- د- ثم ذكر كفرهم وشركهم به وقولهم: إن له ولد، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا.
- ه- ثم أخبر أن له المشرق والمغرب وأينما يولي عباده وجوههم فثم وجه الله، وهو الواسع العليم، فلعظمته ووسعته وإحاطته: أينما يولي العبد فثم وجه الله.
- و- ثم أخبر أنه لا يسأل رسوله عن أصحاب الجحيم الذين لا يتابعونه ولا يصدقونه.
- ز- ثم أعلمه أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، وأنه إن فعل وقد أعاذه الله من ذلك فما له من ولي ولا نصير.
- ح- ثم ذكر أهل الكتاب بنعمته عليهم وخوفهم من بأسه يوم القيامة.
- ط- ثم ذكر خليله باني بيته الحرام، وأثنى عليه ومدحه وأخبر أنه جعله للناس إماما يأتم به أهل الأرض.
- ي- ثم ذكر بيته الحرام وبناء خليله له، وفي ضمن هذا أن بأني البيت كما هو أمام للناس فكذا البيت الذي بناه إمام لهم.
- ك- ثم أخبر أنه لا يرغب عن ملة هذا الإمام إلا أسفه الناس.
- ل- ثم أمر عباده أن يأتموا به ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى إبراهيم وإلى سائر النبيين.
- م- ثم رد على من قال إن إبراهيم وأهل بيته كانوا هودًا أو نصارى.
وجعل هذا كله توطئة ومقدمة بين يدي تحويل القبلة، ومع هذا كله فكبر ذلك على الناس إلا من هدى الله منهم، وأكد سبحانه هذا الأمر مرة بعد مرة بعد ثالثة، وأمر به حيثما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن حيث خرج)([13]).
(القاعدة السابعة): إرجاء الإكثار من الواجهات
والواجهات الإسلامية هي جمعيات علنية مجازة من قبل الحكومة ذات أهداف محدودة تمثل أجزاء من الهدف الإسلامي الكبير، أو تكتلات طلابية وعمالية وفلاحية غير مجازة رسميا ذات اهتمامات فكرية وثقافية إسلامية في نطاق محيطها المهني.
وسبب وجود هذه الواجهات يعودإلى جفلة وتخوفات من العمل السياسي الحركي الصريح في أسلوبه التغييري للمنكر، يتخوفها أناس تعوزهم الجرأة، أو تعوزهم القناعة، بجدوى وصواب هذا العمل، أو يستثقلون تبعات البيعة والالتزامات التنظيمية الدقيقة والأوامر الحاسمة، إلا أن في هؤلاء غيرة دينية وحماسة وحمية لخدمة الإسلام ترفعهم عن التسبب، وتقربهم من الدعاة، فيبادرون إلى الانضمام إلى هذه الواجهات إذا وجدت، أو يمكن إقناعهم بسرعة للانضمام لها، وبذلك تستقطب الحركة قوى ثانوية عديدة وكثيفة وتوجهها للمشاركة في تحقيق بعض أهداف الخطة العامة، وتضمن من خلال هذه المشاركة ترعرع وتنامي شجاعة ووعي هذه العناصر، ولربما تكون بعض العناصر ساذجة سذاجة مفرطة فترى الجماعة أن من الأصوب عدم قبولهم في صفوفها حتى لو أرادوا ذلكن وتختار لهم هذه الواجهات كميدان نشاط، أو يكون المانع سببا اجتماعيا، أو غير ذلك.
وتستخدم الأحزاب، والشيوعية منها خاصة، هذا الأسلوب بنجاح، وما حركات أنصار السلام، واتحادات الطلاب الديمقراطية وأمثالها إلا بعض واجهاتهم، ولا يضير الحركة الإسلامية شيئا أن تقتبس عنهم هذه الطريقة في النشاط والتحريك، إلا أن عليها أن تدرك أن التوسع في إنشاء هذه الواجهات يضع عليها واجبا إداريا ضخما يؤثر تأثيرا سلبيا على إدارة تنظيم الحركة نفسه، إذ ستضطر الحركة لإسناد قيادات الواجهات، بدعاة أكفاء منها، كما أن الانضمام إليها قد لا يكون واسعا ما لم تكن هناك محركات نفسية أولية عند عموم الناس يسببها وضوح التحدي المتبادل بين التيار الإسلامي والأفكار المناهضة له، أو الشعور العميق بوطأة لم سائد، وما أشبه، وهذا التحدي وهذا الشعور لن يكونا إلا في المراحل المتقدمة من مسيرة الدعوة.
ولهذا وجب على الحركة أن تلتزم سياسية الخطو المتدرج في إقامة هذه التفرغات، والروافد، انتظارا لوضوح التحدي، وتجنبا للإرهاق الإداري، ولئلا تشغل يومياتها حيزا كبيرا من اهتمامات قيادة الحركة يلهيها عن رعاية الأصل الداخلي الرئيسي، ولقد تورطت بعض أجزاء الحركة من قبل باستعجال وتقليد غير مدروس للأحزاب، فأكثرت من الواجهات، في وقت واحد، وبدأت من حيث انتهى الآخرون لا من حيث بدأوا، ولفها سهو عن رؤية الفرق بين مرحلتها الأولية وبين المرحلة الخططية المتقدمة التي كانت عليها الأحزاب الأخرى، أتاحت لها حرية انبثاث وانتشار لم تكن تملكها الحركة، وأدى ذلك إلى فشل الواجهات الإسلامية وقلة، المنتسبين لها، وضعف التنظيم الحركي نفسه أيضًا، وإذن، فلا بد من التأني الشيد في الإذن ببناء الواجهات ما دامت الحركة في مراحلها الأولى والوسطي، ولا يكون انفتاحها على هذا الأسلوب إلا في المرحلة المتقدمة، ومن بعد رسوخ تنظيمها وحصول سعة في الطبقات القيادية المؤهلة. وأهم من ذلك: أن تكون بعد اكتمال هيبة الحركة ومكانتها المعنوية وبروز دورها الريادي القيادي، لضمان تبعية الواجهات لها، ودورانها في فلكها، دونما تقدم بين يديها أو تحديث نفسها بتحديات للحركة عند اختلاف الاجتهادات تؤدي إلى تعارض مواقفهما المعلنة، كمثل شباب أقران يدرسون الفقه في حوار متكافئ بينهم، سرعان ما يختلفون ويكون افتراقهم، ليسوا كآخرين يلتفون حول شيخ أفقه منهم وأكبر منهم سنًا، فيهابونه ولا يتطاولون عليه، وإذا اختلفوا بينهم كان هو الحكم القاضي والمرجع المطاع.
(القاعدة الثامنة): تجزئة المرحلة إلى أهداف متتالية.
وهذا يقتضي عدم التوجه المباشر للهدف الكبير، بل إقرار منهج الغايات القصيرة المتكاملة، و رعاية الأولويات الآنية، وإنما نوجب هذا المنحى التدريجي كعلاج لانخفاض القدرات التنفيذية عند توزع الجهود في ميادين كثيرة.
وتكون التجزئة بأن تحصى وتمسح القطاعات الاجتماعية والحكومية والعلمية التي يلزم الحركة الإسلامية أن تتواجد فيها، وتختار كل سنة قطاعا منها يتم التركيز على الانبثاث فيه أو تمتين التواجد الإسلامي فيه أو العناية به، وربما زادت المدة على سنة، أو ربما تم اختيار أكثر من قطاع في وقت واحد، مع عدم إهمال القطاعات الأخرى، وقد يفترض هذا التركيز المتنقل وجود ثلة احتياطية دائمية من دعاة ليس لهم ارتباط ثابت بقطاع معين من التنظيم، تكلف كل سنة بإسناد عمل الدعاة لآخرين في القطاع الذي أعطته الخطة الأولوية، وتستخدمهم القيادة كاستخدام القائد الحربي للقوة الاحتياطية التي يدخرها في الخطوط الخلفية لنجدة الأجنحة التي تتعرض لضغط شديد، ولسد الثغرات، والتصدي لعمليات الالتفاف، ولربما لا يكون سحب هؤلاء الدعاة المساندون ثانية في آن واحد، بل على مرحلتين أو أكثر ، تجنبا لحدوث فراغ مفاجئ وهزة في العمل المسند.
إن هذا الإسناد للقطاع المختار بالثلة الاحتياطية ليس هو إلا بعض ما يفترض، إذ لا بد أن تظاهره اهتمامات قيادية أيضًا، على مستوى التخطيط والمتابعة التنفيذية، بحيث ينال ذلك القطاع الحصة الكبرى من هذه الاهتمامات، ومن الميزانية المالية كذلك، وتوزيع النشريات المساعدة الملائمة للجمهور في ذلك القطاع، والدعاية الصحفية والمقابلات والندوات، وتفريغ الكفايات والتوعية الداخلية للدعاة حول طبيعة المجال المختار وأهمية العمل فيه وكيفيته، وتوجيه بعض الدعاة لعمليات إحصاء وبحوث ميدانية عن ذل كالمجال في السنة التي تسبق بدء العمل المكثف فيه لتحديد طبيعة الحاجات والمشاكل والإعانة في التخطيط، ثم عقد مؤتمر للمسؤولين لسماع اقتراحاتهم.
فمرة نضع تكثيف تأثيرنا فيا لمدارس الثانوية هدفا آنيا لنا، ونجعل ذلك قضية الساعة في محيط التنظيم، ونركز الجهود عليها، ومرة نحول الاهتمام إلى الجامعة، وفي ثالثة إلى المجال العمالي، وفي رابعة إلى التوعية الإسلامية والتأليف والنشر، أو توجيه الدراسات العليا التخصصية لمجموعة من الدعاة، أو استقطاب العناصر السائبة ذات التأثير المضاعف، وغير ذلكن ولا يكون التحريك الشامل المتكافئ والتصعيد إلا بعد الفراغ من تعزيز الدعوة لمراكزها في هذه المواقع التي تتكون من مجموعها ساحة الصراع، ولولا هذا الاضطرار للتجزيء والرعاية للأطراف، والتدارك الجانبي، ورفء الفتوق والبثوق الحادثة الطارئة، لكان الوصول سهلا، ولكانت الخطة علما بدائيا لا يقضي التفنن النسبي، ولكان يكفي فيه أن نعلق سهما إعلانيا موجزًا يشير إلى الهدف الكبير.
تماما كالحرب، فلعلك لا تحتاج دخول كلية الأركان العسكرية لتعلم أهمية رصد قوتك للمعارك الحاسمة، لكن علمك بهذه البديهية لا يضمن لك النصر ما لم تتكيف للمحيط، وتتوغل بتدريج، وتوفر العوامل الفرعية التي تؤثر في المعركة الرئيسة سلبا، وإيجابا، ومثل هذا هو الذي عناه تشرشل لما نبه خلال خواطره عن الحرب العالمية الثانية بأننا (نسمع من الأخصائيين في الفنون العسكرية إطراء كثيرا على ضرورة إعطاء الأسبقية للمعارك الحاسمة وفي ذلك ما فيه من الحكمة غير أن هذا المبدأ في الحرب – كغيره من المبادئ- يسيطر عليه الواقع والظروف، ولولا ذلك لكان الحرب سهلا للغاية، بل وكان يصبح كتابا مسطورا لا فنا من الفنون)([14]).
هكذا عمل الدعوة أيضًا، لا يصح فيه تشتيت الجهود وتوزيعها في ساحة عريضة، ولا ينبغي فيه القفز المتفائل، ولا صلابة الخطة، مثلما لا ينبغي فيه الإحجام المتشائم وليونة المواقف، بل هو خطو معتمد على توفير تكامل أنواع القوى، وعلى تأمين الجبهات الجانبية، وعلى المرونة إزاء الظروف المتغيرة.
ولابد أن نعي أيضًا أن تطبيق أسلوب الأهداف المتتالية هذا لا يشترط أن يكون في بداية مسار الدعوة فقط، بحيث إذا أخطأت القيادة اتباعه وتجاوزته فإن الفرصة من الاستفادة منه تكون قد فاتتها، بل هو أسلوب يمكن تكراره لمن طبقه مرة، ويمكن الاستدراك به في مرحلة لاحقة على جزاف مرحلة سابقة، فأيما مجموعة عمل متقدمة وعته من بعد نسيان فإن بإمكانها أن تلجأ إليه وتوقف انفتاحها العام برهة إذا رأت توفر المصالح بواسطته.
(القاعدة التاسعة): الانسحاب من المعارك الثانوية والجانبية
فإن أنفاس بعض الدعاة قد تطول مع أقرانهم من دعاة الجماعات الإسلامية الأخرى، في مباحث فقهية خلافية ليس وراءها كبير نفع، أو في مواقف خطية يتعدد فيها وجه الصواب، فيكون في بحثهم التهاء عن قضايا الساعة الجادة، وتبدو جمهرتهم أمام المسلم الذي يطلبون تأييده ومساندته في صورة الجمهرة المختلفة المتجادلة التي لا تستحق أن يمنحها ما تطلب من مساندة وتأييد.
لسنا نقول بانتفاء الفائدة إذا أدلينا برأي، ولكننا نقول بأن موضوعات الخلاف مفضولة في الظروف الحالية الصعبة، وليست فاضلة، مرجوحة، وليست راجحة، ولها مجال في أيام السعة، والداعية الذي يشترط أن نبدي آراءنا الاستدراكية على كل قول مخالف لأقوالنا من أقوال الجماعات الإسلامية الأخرى إنما هو داعية يمكن الاستغناء عنه، وشرطه دليل على أن محنة المسلمين الحاضرة لم تلذع قلبه لتخرج منه بقية البطر.
ويجب أن نفهم أن أهم واجب على العمل الإسلامي اليوم إنما يكمن في توعية المسلمين وترويض النفوس وتأديبها، وتزويجها بالتقوى الكافية لأن تريها ضرورة وحدة الصف، ونبذ الفتن، والتفرق والخلاف، إذ لم تؤخذ الدعوة الإسلامية إلا من هذه الثغرة، ولم يقتحم العدو إلا عبرها.
فالمتوقع أن الحكومات التي تضيق ذرعا بالتيارات الإسلامية النامية المتصاعدة في بلاد كثيرة لن تلجأ إلى سرعة الضرب والإرهاب، بل تصبر، حتى تكتشف بعض من ينتسب إلى طريق الدعوة ولديه مراء، وجرأة على الفتوى، واستعجال في البحث الفقهي، من أي جماعة إسلامية كانوا، فتدس من يشجعهم على ترويج آراء غريبة وإثارة قضايا لا ينبني عليها عمل ولا تعالج واقعا قائما، وتعطي في الوقت نفسه المجال الواسع لبقية الدعاة للرد على ذلك، فتندلع معركة فكرية فقهية حامية الوطيس بين الجماعات الإسلامية، يحتار لها القلب المسلم السائب، فيزهد في الجميع ويؤخر قدما كان قد مدها لتقدم وسير، فتخلوا الساحة من نصير، وينعزل دعاة الإسلام عن رجال المساجد وشباب الجامعات وحملة الفكر وأعيان الناس، فتبدأ الحكومات آنذاك تحرشها وكبتها، في حملة إعلامية تجسم أ×طاء المسلمين أنفسهم، مسنودة بمظلة من أعمال حكومية ذات صفة إسلامية عامة تعطيها صورة حسنة لدى الساذج، من بناء المساجد المزخرفة، وطبع المصاحف الملونة وعقد المؤتمرات الإسلامية، وجلب الوعاظ، وإنشاء المؤسسات الخيرية، تنطق لسانه بثناء وحمد لها، وتحجب بصره عن محنة تكوي أهل الحق المختلفين، وما مسكنه عنهم ببعيد.
إن الآراء الفقهية الخلافية، أو تفاصيل الأنظمة الإسلامية، إذا لم تظهر اليوم ضرورة لبحثها، وكان الدعاة في سعة أن يسيروا بدون اتخاذ موقف جازم عاجل، إزاءها، فإنه يكون من الأفضل تجاوزها إذا أدت إلى استعار الردود بين المتلفين، سدًا للذريعة، وكبتا لاحتمالات التعصب، وحصرًا لنطاق تبادل الاتهام، وتجاوزًا لاحتمالات المحن التي تأتي بسببها أن مستغلة لها.
(القاعدة العاشرة): الخطو بلا قفز، والبعد عن التهور
فإن الحسم مقيد بشرطين مهمين: كفاية القوة، عددًا ونوعًا، بمقدار ترجح الفراسة معه ظن النجاح، وملاءمة الظروف، بحصول وعي لدى قطاعات واسعة من الناس وقناعة بضرورة التغيير، وارتباك المستبد أو غفلته، وتنامي الإحساس بوطأة الظلم أو الكبت السياسي أو الفوضى الاقتصادية أو التناقض الفكري، وكل تصعيد يتجاهل أحد هذين الشرطين لا يعدو أن يكون فورة عاطفية لا تقوى على الصمود، وفي كثير من الأحيان يكون من الواجب أن ندخل في هذا الحساب احتمال نجدة الخصم من قبل دولة أخرى.
ويكاد المحلل للتاريخ القريب أن يلمح بروز فرص دورية في كل بلد تتكرر في كل نحو عشر سنوات مرة، تقل أو تزيد، يتكون معها فراغ قابل للامتلاء بمبادرة مبادر منتبه حاضر البديهة سريع الجزم بقراره في غير ما تردد.
لكن هذه المبادرة لن تكون من ضعيف، وإنما من متقن أكمل استعداده ويتحين المجال، وحصول الوعي أو تنامي الإحساس لن يكونا ظاهرة تلقائية ينزوي الدعاة في انتظار بركاتها، بل هما نتاج عمل يومي كثيف طويل يقوم به الدعاة بين الناس، كتابة وتكلما، من خلال انتشار واسع.
ولقد كانت روح التقليد تدفع بعض الدعاة في أعقاب كل استغلال ناجح لمثل هذه الفرص من قبل الأحزاب الأرضية إلى تفكير بمحاكاة ساذجة يسرعون استنفار أنفسهم لها، فتصدمهم متطلبات الواقع واستماتة المسيطر الجديد الذي لا يزال في عنفوان فورته ولم تلهه المشاكل بعد، فيفتتنون، ويخلعون الطاعة، ويصبون جام غضبهم على قيادات يتهمونها بالعجز، يوجدون ذلك تنفيسا لحماستهم المتأججة، وامتصاصا لردة الفعل التي تهزهم عند رؤية انتصار الغير.
وليس من واجب هذا الرسم الذي نرسمه لخارطة المسار أن يبين ما إذا كانت القيادات قد تلبست بتقصير بالأمس، أم أنها فعلت الذي بوسعها، ولا أن يتهم أو يحكم بالبراءة، لكن من واجبه أن يعلم المندفعين خطأ مثل هذا الاستدراك الانفعالي المفرق الموهن للقوى. وقد لا تكتسب صيغ عمل هؤلاء الأخوة شكل فتنة، وتظل ألسنتهم عفيفة، لكنهم يصبحون قادة أنفسهم، ويأخذون بالتشويق إلى الجنة، وترداد آيات الجهاد، فيلتف حولهم شباب متحمس لا يعترف بغير الاقتحام مذهبا، فيكون ثم تورط بمناوشات يستغلها الخصم لضربهم، ولا يصلون إلى نتيجة، ولو أنهم صبروا لكان خيرا لهم، والأمثلة والشواهد كثيرة، وفي بلاد متعددة.
وفي أعقاب نجاح الثورة الإيرانية على الشاه بدأت تظهر عند البعض نشوة مفرطة التفاؤل، تقيس مع الفارق، و ترى الصعب سهلا، معتمدة على أخبار يوميات الثورة من خلال الصحافة، دونما رؤية تحليلية أو علم بمراحل التحضير الطويلة لها أو إحاطة بطبيعة الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي مرت بها إيران وكونت فرصة مثلى سارعت قيادة الثورة الإيرانية ألي تصعيدها واستغلالها.
وما من شك في أن بعض البلاد العربية والإسلامية تمر بظروف قريبة الشبه بالظروف التي أحاطت إيران قبيل الثورة، وتنبعث منها إرهاصات تدع المراقب يتوقع حدوث انعطافات حادة فيها، وأن من الواجب وضع دراسة تفصيلية عن تجربة الثورة الإيرانية والمسارعة إلى الانتباه والانتفاع من إيجابياتها وأساليبها الفعالة، ولكن أقطارًا أخرى بالمقابل، وهي الأكثر، يختلف واقعها اختلافا كليا، ومن الخطورة أن تتكلف الحركة الإسلامية في هذه الأقطار تصعيد المجابهة تكلفا، وبافتعال يأبى التركيب الاجتماعي والسياسي فيها الاستجابة له، وإنما عليها الانتظار، واتباع أساليب أخرى تبتكرها، أو الاقتباس من رصيد التجربة العالمية الواسعة التي يحكيها التاريخ السياسي الحديث.
ولربما نسمع نغمة لدى بعض إخواننا عندنا مثل هذه المباحث، تصف الشيوعيين بجرأة يفتقدها العمل الإسلامي، ويتوهمون أن الأحزاب الشيوعية تقذف بنفسها في المعامع دائمًا، و تختصر الطريق بالقفز المباشر إلى نهايته، ولكن التأمل الهادئ ينفي هذا الادعاء، والشيوعيون يجنحون إلى الخطأ في التخطيط وإلى الاندفاع المستعجل أحيانا كما يجنح غيرهم، وفي الضربات التي تلقاها أكثرها من حزب شيوعي عربي شواهد على ذلك، وكان للحزب الشيوعي العراقي تواجد قديم الساحة السياسية ونفوذ في أوساط الشباب جعله أقوى الأحزاب لسنوات طويلة، إلا أنه استعجل بعض الاستعجال في أعقاب ثورة 1958، وباشر التصفيات الدموية ضد أعدائه، فسقط، وكرهه الناس، وأصبح حزبا ثانويا، ودفع الثمن غاليا. وكذلك الحزب الشيوعي السوداني، كان قويا، فورطه هاشم العطا سنة 1971م، ورفع الرايات الحمراء فجأة، فدفع ثمنا باهظًا أيضًا، وأطيح برؤوسه.
ولينين نفسه، ذاك الجريء الناجح في ثورته، كان شديد الإنكار على هذا التجاوز القافز المتجاهل لضرورة نضوج الظروف المساعدة، وقد روى عنه بيلاكون، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المجري، وعضو لجنة الأممية الشيوعية، نقدًا للحزب الشيوعي الألماني يفصح عن مفهومه الذي يؤكد وجوب البعد عن التهور.
يقول بيلاكون:
(أثناء المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية: وفي يوم من أوائل تموز (يوليو) عام 1921، وبعد الخطاب الكبير الذي ألقاه لينين في المؤتمر في 1 تموز تحدث لينين مع أحد زعماء انتفاضة آذار (مارس) في ألمانيا الوسطي وواضعي (نظرية الهجوم).
كان لينين ألين كثيرًا مما في خطابه في المؤتمر، إلا أنه لم يقلل قط من تحديده وحسمه أثناء هذا الحديث، وسعى إلى التغلب على مناهضة التكتيك البلشفي الصحيح الوحيد الذي لم يستطع حتى لينين نفسه أن يكسب النصر له في المؤتمر الثالث إلا بجهود كبيرة.
تحدث لينين بوضوح كبير عن أن من الضروري كثيرًا:
التحليل المتقن للوضع، والتقييم المحكم لتناسب القوى الطبقية، والإعداد التكتيكي الجيد إلى الانتفاضة المسلحة، وأكد بشكل خاص على أنه لا يجوز الانسياق إلى استفزاز العدو الطبقي، ولا يجوز التضحية بطليعة البروليتاريا في نضال يسعى العدو الطبقي إلى إثارته في ظرف ملائم له).
ولعل هذا الكلام لا يوضح الأمر جيدًا، إلا أن التعليق الذي كتبه المؤرخون السوفيات على المقال يوضحه، وانتبه إلى أن الكتاب مطبوع بموسكو في طبعته العربية التي ننتقي منها، فهو يمثل الرأي الحقيقي للحزب الشيوعي يقولون:
(كان أنصار نظرية الهجوم التي أيدتها الغالبية اليسارية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الألماني الموحد يعتبرون تكتيك الهجوم: التكتيك الوحيد الصحيح في أي موقف بغض النظر عن الظروف السياسية الملموسة، ودفعوا العمال إلى طريق انتفاضة في غير أوانها، وقللوا من ضرورة قيام الحزب بعمل يومي أطول بين جماهير الطبقة العاملة الواسعة، كما لم يراعوا كثيرًا المقدمات الموضوعية لحركة الجماهير.
وقد أفادت البرجوازية الألمانية من نظرية الهجوم مستفزة حركة البروليتاريا الألمانية في لحظة غير ملائمة لها لغرض القضاء على البؤرة الثورية للحركة الشيوعية في ألمانيا الوسطي، في آذار (مارس) 1921، أدخلت وحدات بوليسية إلى منطقة ألمانيا الوسطي التي شملتها حركة إضرابات، وقد رد العمال بإضراب عام تحول إلى انتفاضة مسلحة، وفي يوم 24 آذار دعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الألماني إلى إضراب عام، إلا أنها لم تتلق تأييدًا تامًا من البلاد كلها، فسحقت الانتفاضة المعروفة في ألمانيا الوسطي بسرعة، وكانت نظرية الهجوم موضع نقد شديد في المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية، وأدينت في مقررات المؤتمر)([15]).
وما لم يقله هؤلاء المؤرخون عن مجري التاريخ بعد ذلك أبلغ في الموعظة، إذ أن الحزب الشيوعي الألماني كان أقوى الأحزاب الشيوعية في العالم أجمع، لنشوئه في أرقى وأكبر بيئة عمالية متقدمة في العالم، وكان يملك طبقة من الكوادر القيادية المثقفة أوسع من مثيلتها في الحزب الشيوعي السوفياتي الذييقوده لينين نفسه، ولكن ضربته هذه بعد تهوره، ولدت فراغًا سياسيًا في ألمانيا استغله النازيون، فتقدموا على حسابه، وضربوه ثانية وكبتوه، فضعف، بل انمحق حتى اليوم في ألمانيا الغربية، وليست عبرة وجوده في ألمانيا الشرقية كبيرة، لاستناده إلى الحراب الروسية استنادًا كاملا.
فافهم دلالات التاريخ أيها الأخ الداعية المسلم، فإنا نريدك أن تكون عاملا بقياس وتقدير، وليس صحيحا أبدًا أننا نريدك أن تكون مترددًا أو نعوذ بالله –كما تعوذ- أن تكون جبانًا.
([1]) لعبد الوهاب عزام في ديوان المثاني/79.
([2]) إغاثة اللهفان لابن القيم 1/130.
([3]) مجلة (المسلمون) 1/22.
([4]) حنين إلى الفجر/39.
([5]) حنين الفجر/39.
([6]) زاد المعاد 2/127.
([7]) صحيح البخاري/ 9/98 طبعة محمد علي صبيح.
([8]) فتح الباري 16/323، طبعة البابي الحلبي.
([9]) الإمتاع والمؤانسة 1/65.
([10]) عيون الأخبار 2/233 وكأنه قال: واستثيروا القرآن، فحرفت.
([11]) كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال/99، والصعب هو فحل الجمل العنيد.
([12]) تاريخ الخلفاء للسيوطي/240.
([13])
([14]) الحرب العالمية 3/237 الطبعة الإنكليزية، نقلا عن بعض الكتب التي اقتبست منه.
([15]) كتاب (خالد إلى الأبد) ص299/300، طبعة دار التقدم بموسكو.
الإطلالة الراجية
لئن كان القول بوجوب التكيف قد أوحى إليك معنى من معاني الإبطاء فإن الإطلالة على المستقبل وعلى المرحلة الأخيرة تمد أمام أنظارك أفقا فسيحا يخلب لبك جماله، فتنجذب إلى عرصاته مسرعًا.
فكما أن النفس المؤمنة لا يتم اعتدال أخلاقها وعبادتها إلا بنهية خوف وجذبة رجاء، حتى وصفها التمثيل أنهما كجناحي طائر، لا يطير إلا بهما معا، فكذلك العمل الحركي الإسلامي، يضمن اعتداله مزيج خوف من تقليد متهور، ورجاء يرصد الفرص، ويكشف الأهداف.
إن روحا محركة، ونبضة دافعا، يقترنان دائما في ثنايا كل موقف متولد من محاولة التوازن بين التخطيط الطافح بالآمال، والتطبيق المأسور إلى الإمكانات التنفيذية، فالتخطيط يدفعك وإملاء الواقع يحجزك، فتفتش عن مسارب أخرى، تخطط لها، فتأتيك دفعة، ويحجزك رصيدك الفعلي، أو تنتظر تغير الظروف، لتخطط ثالثة، فتتقدم ويتأخر، ويتكرر ذلك مرات لتتفجر من خلال التكرار هذه الحيوة اللازمة لسير الحركة، وذلك سر خفي من أسرار العمل، لا يفقه يائس عند الصدمة الأولى، ولا مغالط يفتأ متقدما لا يعبأ بالضرار حتى يوصله تقدمه إلى التلف.
ومن الممكن أيضًا أن نلاحظ مثل هذا النبض المحرك من خلاله طبائعا لحث أو اللبث لمراحل الدعوة المتتالية، وليس هو بمقصور على المواقف الجزئية، أو هو بالأحرى: إن كان متصورًا في المواقف فتصوره في المراحل أوضح وأقرب.
فمرحلة ما قبل تأسيس الدعوة مفعمة بالإحساس بضرورة المبادرة لعمل إسلامي يصلح الاعوجاج الذي فرضته وطأة الجاهلية وولده اضطرابها وظلمها، وذلك حث واضح يؤدي إلى فرط حماسة لا تقيم للمخاطر وزنًا، فإذا ما بدأت (النشأة الأولى): اقترنت بوعي كابح تتحول فيه الطاقات إلى البناء بصمت، فإذا ما أذن بـ(الانسياب)،: كانت حرارة الانبثاث لاهبة، وتولدت فورة عارمة، تواصل تقدمها في (مسالك التوغل)، فإذا ما بلغت الجبهة أقصى عمقها، مال العاملون إلى مكث المراجعة و(التدارك)، واتئاد (التكميل) الهادئ، وأدى (التكيف المرن) إلى تأمل حسابي، في إبطاء ساكن، سرعان ما يؤدي إلى اكتشاف المكانة البارزة لعنصر الرجاء الآمال من بين مكونات الذات الإسلامية إذا أطلت على ساحة العمل الممتدة فيعود التصعيد، و تعلو (نبرات الآذان) وتستأنف الحماسة نداءها، تدفع وتسوق، وقد يستعجل الداعية في فورة هذه الحماسة، ويهجم على التنفيذ هجوما سريعا متبنيا هذه الاقتراحات، في تقليد ومحاكات، فتردده (أصول التخطيط) إلى تعقل، وتغشاه من (فقه الاصطفاء) الدائم سكينة، يرى من خلالها التدبير النسبي اللائق لواقعة، ويخرج من جديد بعدها إلى اندفاع آخر، تدفعه (عوامل الجدية الجماعية)، و(فنون التجميع) فتستمر الحيوية.
مواجهة التحديات تستنبط الآراء
إن من المفيد أن نطل إطلالة على مستقبل الحركة الإسلامية من خلال رؤية نقدية لحاضرها، ولكن قد تطور الحماسة هذه الإطلالة إلى شطحات تأملية في تصور أشكال العمال، والبأس في ذلك غير وارد، إذا لم يسارع الدعاة إلى الاندفاع المرتجل في تنفيذ خواطرهم بل هذا التأمل الجرئ ضروري لإعطاء الفقه الحركي نوعا من الفاعلية، تخرجه عن الجمود على الأعراف المأثورة والموروثة.
نعم، لا بد للدعاة من طموح يؤدي بهم إلى أن يذهبوا في آمالهم إلى أبعاد سحيقة في التفكير النظري، وعليهم أن يوجدوا القدرات التنفيذية للسير فعلا إلى مكان مرمي أنظارهم البعيد الذي بلغته، فإن من لا يرى إلا المكان الذي يقف فيه، وإلا اليوم الذي يعيش فيه: يسبقه السابقون، إذ الحياة كلها طموح، وربما يكون الكافر أبعد طموحًا، وأبلغ منافسة، ولربما نجد حلول بعض مشاكلنا من خلال قذف أنفسنا في معمعتها والتصدي لاختبار حلولها المحتملة، وعندئذ فإن روح المجابهة لها وجها لوجه، وروح التحدي فينا لسبب المشكلة، كفيلتان بالوصول إلى الحل اللائق، وحصول بعض هذا الحل –إن لم يحصل حل كامل- خير من أن تلفنا سلبية الإحجام عن تجريب حلها.
ولابن الجوزي كلام لطيف يحوم فيه حول هذا المعنى، إذ أعجبه:
(من الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا، ومذ سلكوا ما وقفوا، فهمهم: صعود ورتق، كلما عبروا مقاما إلى مقام: رأوا نقص ما كانوا فيه، فاستغفروا)([1]).
ولهذه الألفاظ قيمة كبيرة عند اللبيب المجرب، إذ لا ينبغي للمؤمن أن يقنع بما حاز من الخير، بل هو أبدًا في سير، وكلما وصل بجده وسعيه إلى مكان جديد ورأى المكان السابق الذي كان يقف فيه: أدرك تخلفه الأول، فيأسف، لم لم يسرع؟ ولم لم يكتشف هذه اللذة مبكرًا؟ وقد استخدم ابن الجوزي كلمتين لطيفتين لوصف المؤمن: الصعود، والترقي، والدعوة الجامعة أولى بمثل هذا الصعود.
إن أحدًا لو أراد صعود جبال عال وعر فإنه لا يجازف دون تأمل، وتحضير بل يظل مدة يحاول تعيين الطريق الذي يبدو له أنه أقرب و أسهل، ويتزود بخارطة ومعدات، وماء وطعام، وينتظر انقضاء الشتاء، وكذلك أمر الدعوة، إذ لا بد لها من رؤية سابقة للمكان الذي تريد أن تتقدم إليه، ولابد لها من رصد المناخ الملائم، وإلا كان تقدمها مغامرة.
حوار الحكماء لا تقطعه رنة النياحة
فمن أجل هذا الصعود كان طرح التصورات المبكرة للمراحل المتقدمة ضروريا، كي نضمن تقليب وجهات النظر، ونمنع الارتجال، ونستعد قبل حصول الحاجة بمدة، لنواجهها على بينة من غير مفاجأة نضطر معها إلى حلول سريعة.
وقد يلهي الحديث المبكر بعض الدعاة في أحلام أكثر مما يلهيهم بعلاج أسس الخطوات اللاحقة، وتلك ظاهرة سلبية تقترن دائما بصفات الكسل والتراخي لم يتحرروا من تأثيرها، ولكن هذا الحديث المبكر هو عند آخرين إيجاب كله، إذ يطول التفكير فيكون الاتقان، وتطرح الاحتمالات المتعددة، فيكون الاختيار، وتتكرر جلسات الحوار فيكون نبش الركاز التجريبي وتطفو الأفكار المغمورة من بعد نسيان ولدته القناعة بالحالة الراهنة وضمور النقاش للذي ندرج عليه، كأننا نعتبره أمرًا مبتوتا فيه.
إن ليس حديث تأسف على الماضي هذا الذي نريده، تقتل التأوهات التي تصاحبه همم أصحابها، ولكنها حاجة إلى نظرات تحليلية ناقدة، ورؤية فوقية لرصيدنا، كي نضمن التحرر من إملاء الواقع، ونجر أنفسنا من إسار الجزئيات المتكررة التي نعيشها أسبوعيا و ننظر من مكان عال إلى مدى اتساع ساحتنا، لعلنا نظفر برؤية شمولية، و ندرك حقيقة الجبهة التي ن عمل فيها دون تقليد ومجرد سماع لقول مشاع.
المثل في ذل كمثل الجيش الذي يستعرضه القائد، فالضابط لا يرى إلا فصيله وكتيبته، ولكن القائد يتجول، ليرى دقة التوزيع ودرجة المعنويات وأمور التموين وأعمال التنسيق، ثم يحلق مع أركان حربه بطائرة ليري التضاريس الأرضية وتكافؤ الجبهات.إن هذه الرؤية الفوقية من قبل مجموعة الدعاة القدماء القياديين قد تكشف أخطاء، وتحمل الرائي على اعتقاد اجتهاد جديد، وهذا يستعدي جرأة في الإشارة إلى الخطأ والقول أنه خطأ، إذ ليس العيب ليس في أن نقع في الخطأ، فإن ذلك سنة البشر، بل العيب في الإصرار عليه، ولا يوقف فوائد النقد فضول جديد لا يفقه، ولا وجود من يتجاوز الأدب ويستعمل اللفظ الخشن واللسان السليط، ويظن ظن السوء، فإن مثل هذا تركنه الجماعة جانبا، وتحجر عليه، وتبقى القافلة ماشية، والخوف غير وارد ما دام (التدارك والتكميل) يتكفل بإذابة الاجتهادات الفردية، ولنتذكر أننا تنظيم ومجموعة تربوية، ولنا آيات تعظ، وقوانين تضبط، وأعراف تعاتب ولسنا قاعة برلمان تتصارع فيه الكتل ويخاف كل عضو من جليسه، ولا هيئة أمم متضاربة المصالح تشن تحت قبتها الحروب الباردة.
وما يطرح في (المسار) ليس خطة قيادية معينة، وإنما اجتهادات تستفز أذهان الدعاة، ورؤى تحرك فيهم التفكير لوضع أوصاف الاقتراف، وشيء مثلها، ولا يسوغ أن تبقي فينا نفسية المأمور المقلد، بل نحن أحوج إلى سمت المبتكر المبدع المتفرس، ومن أساء: زجرناه، وإلا: بترناه، إذ ليس في الوقت متسع لإطالة النفس مع ملحاح.
جوانب الاستعداد للاقتراب
مهمتان في انتظارنا: مهمة التحضير لصراعنا مع الباطل وتحديد ما يمكن فعله، وخوض الصراع نفسه، ولا ينبغي هذه الأيام إلا التماس أوصاف التحضير الأول.
وأول مراتبه: وجوب الانعطاف نحو تحضير لتصورات الخططية للمرحلة المتقدمة، ولا نعني وضع خطة نهائية، بل تلك بنت يومها، وإنما تصورات عامة تظل تضيف لها وتحذف مع الأيام، وقد تعد شيئا ثم لا تستعمله، كقائد الحرب يدرب جميع الأصناف، من مشاة ودروع ومدفعية وطائرات وغير ذلك لكنه يوم يواجه المعركة يكون ابن يومه، ويستعمل ما يناسب المعركة من صنوف جيشه، وقد ينهي المعركة كلها بهجوم خاطف للقوة الجوية، وتتقدم الأصناف الأخرى لاستثمار الفوز فقط لا لحمل أعباء المعركة.
كذلك العمل السياسي الفكري، أمره شبيه، وقواعده مشتقة من أصول الحرب.
فمن هذا الانعطاف: تكوين لجان وقتية لوضع دراسات تحلل تجارب الثورة الإيرانية وسلبياتها وإيجابياتها، وكيف بدأت وكيف انتهت، من خلال جرد الجرائد والمجلات الصادرة أثناءها، وبالمشافهة، وكذلك عملية الإضراب والمعارضة التي أسقطت حكم بوتو في الباكستان، والأساليب المستعملة خلال مختلف وجوه الصراع الحزبي والحكومي في السنوات العشرين الماضية في بلاد العرب والعالم الإسلامي، باستنطاق بعض دعاة معاصريها من الدعاة في كل بلد.
وتظاهر هذه النتائج أجوبة ما لا يقل عن مائة من قدماء العاملين على نحو مائة سؤال تضعها وتجمعها لجنة، فتستثير كوامن صدورهم، وتستفز حواسهم للإبانة عن مذخور أذهانهم، وتحملهم على النطق من بعد عجمة، في مقابلات كأنها جلسات تحقيق، تصطاد خلالها فلتات ألسنتهم، إذ قد لا يحسن بعضهم الكتابة، أو لا يجد لها وقتا، وقد يجيبها الواحد منهم عن بعض ما تسأل فقط ولا يستطرد، وما في ذل كبأس، بل كل جواب كنز.
ومن الممكن أن توسع هذه اللجان آفاق هذا التحضير باستلال تجارب من كتب لينين وماو، وغيرهما من الشيوعيين، ولقد كانوا ملاحدة، وابنتي تنفيذهم على أفكارهم الجاهلية في الصراع الطبقي ولكن الكثير مما فعلوه لا علاقة له بعقيدة، ويستوي فيه البشر، ويمكن اقتباسه من قبل دعاة فقهاء من حملة القرآن أصحاب مناعة ضد الشبهات.
فإذا اجتمعت هذه الموارد الثلاثة إلى أنباء يفرعها جهاز استخبارات الإسلامي لبق ذكي مبثوث: كان التصور إن شاء الله واضحا ثم مستمرا في الوضوح.
إن هذه الاستلالات والدراسات والمشافهات والأخبار المستمرة التدفق يفترض أن تستغلها لجنة تخطيط دائمية يعفي أعضاؤها من الأعمال الإدارية والتربوية إلا قليلا، وتتفرغ لوضع تصورات عديدة لمجابهة كل الاحتمالات، وبدونها ننسى الأشياء المهمة عند الحاجة لها، فإن النسيان طبيعة الإنسان، والقيادة لا تعوض عن وجوه هذه اللجنة، نظرًا لانشغالها بيوميات الدعوة ودراسة المواقف الآنية.
وما من شك في أن هذا الاستقصاء يتطلب جهودًا كبيرة، ويحجز عناصر من أذكى الدعاة عن التجميع والتربية، حتى ليظن ظان أن رصدهم للاتصال بالشباب والتبشير في أوساطهم أنفع وأجدى، وليس الأمر كذلك، إذ أن الأعمال متكاملة، والآراء جنود مجندة، أكدت تجربة البحتري دورها حتى قرن ارتباط النصر: بمصيب مفاصل الرأي إن حــا رب كانت آراؤه من جنـوده
ولئن كان رهط الدعاة قليلا فإن الخطط الدقيقة والآراء الصائبة تثكره، والعزمات تنمية، والنيات الصالحة تبارك فيه.
بل "نير الفكر يقود العملا" كما يقول إقبال، قيادة تتعدى مجرد الجندية له، وإنما لعمل تابع لومضة الرأي "مثل رعد بعد برق جلجلا".
ولا بد أيضًا من انعطاف آخر في النشريات الحركية نحو تأجيج الحماسة عند حصول الاقتراب.
فإن قلوب البعض قد علاها ران وصدأ، لطول الانتظار، فمالت إلى ترف، ولفتها رهبة، ولابد من جليها بأدب حماسي ورقائق زهدية، عمدتها الحديث الصحيح وكلام الثقات، دون الضعيف والموضوع وتكلفات أهل الابتداع، فإن هذه الخطط تمنيات بعيدة لها سيماء الأحلام، وما لم تكن هناك همة عالية تقترن بتقلل من الدنيا فإن الوصول صعب، لا ننطلق لذلك من من طلق زهاد المتصوفة، بل لأن هذا العمل الجبار الذي نحن بصدده يقتضي التقلل.
وفي أنواع البذل خيار، والتمتع بالمال والطيبات حلال، ولكن النصر رهن بوجود ثلة فداء من بين الدعاة، ويكفي أن تكون مفرزة صغيرة، تسل نفسها من المباح الذي رضيه جمهور الدعاة لأنفسهم، وتطفق تتخفف، على طريقة النساك الخشن، لولا أناقة ملبسها، أو كأنها من البدو الرحل، لولا عيشها في المدن والحواضر ثم تتخفف ثانية، حتى لا يكون دون منزلتها إلا أبناء السبيل.
وقد لا يقوي على الانتساب لهذه الثلة متورط بتربية أولاد، ولك يقوى عليها شباب أحرار لم يتطأطأوا لثقل الالتزامات العائلية بعد، أو آخرون قدماء، وفوا بالتزاماتهم، وأدوا ما عليهم لأبنائهم، ومتعوا نساءهم، حتى أذن لهم أن يضعوا على عواتقهم عصا التسيار، وأن ينسوا حساب الدرهم والدينار، فهم خارجون من الأسر، وما ثم حرج عليهم في اختيار الفقر.
هكذا، بهذه النشريات، وبهؤلاء القدوات، يكون الجد، ونقطع هذا التثاقل، ونربي نموذج الداعية الهائم الراكض إلى الجنة، الذي يكون جلوسه وقيامه كله لخدمة الإسلام.
إن القدوات لاتصطنع، بل هم مفقهون يلهمهم الله الاستعلاء إلهامًا، ولكن على القيادات إذا رأت موفقا أن لا تبعثر كفاءته بإداريات، بل تنزله يعايش الشباب يعلمهم عشق الجنة، وقد يعدل إنتاج القدوة الواحدة الرفيع المستوى إنتاج رهط من المربين وأثر رزمة من الكتب المنهجية.
وتصطنع الدعوة في كل بلد شاعرًا، ممن وهب الملكة ويحتاج لصقلها بالدرس والترحال وملاقاة الرجال، فتتيح له ذلك، ولا تمتنع لمجرد هواجس باحتمال غروره عند تعضيده، إذ لو احتكم الناس إلى الهواجس لما ركب أحد طائرة، خوف السقوط، ولا بحرًا، خوف الغرق، ولكنه التوكل على الله تعالى، ولكل نتوء مقص يشذبه، أو منفوخ إبرة تثقبه.
إن شعراء الحماسة ما زال بإمكانهم أن يقوموا في أيام التحدي خاصة بدور كبير رغم ضعف الذوق الأدبي عند الناس، ويوم كان شاعر الدعوة يشهد الدنيا:
يا هذه الدنيا أصيخي واشهــدي
- أنا بغير محمد لا نقتدي
كان بيته في اليوم الثاني نشيدًا تخرج كلماته من كل قلب، وشعارًا يميز كل مؤمن عن شراذم الإلحاد.
- ثم انعطاف ثالث في الثقافة نحو فقه الدعوة والناحية العملية، فقد كاد أن يحصل إشباع فكري عندنا، ولابد من استثمار الوضوح الفقهي العام بفقه في أمور الدعوة خاص، وبيان قواعد العمل الحركي، ورواية التراث التجريبي.
ودروب هذا الانعطاف أربعة:
(الأول): اكتشاف تبرير التصورات الخططية، لإقناع الدعاة بها، فإن الملامح العامة في الخطط تكاد أن تكون معروفة، ولكن ذلك غير كاف إذا القائد الذي يكفيه الإيجاز لا يعامل دعاة كلهم فقهاء، أو من أولى الألمعية، بل فيهم الذي يحتاج البديهية وعمق قناعته الأمثال، وفيهم صاحب الاستعداد الاجتهادي، الذي تدربه على نبذ التقليد بذكر الأسباب والتبريرات لما تختار، ويزداد استيعابه إذا طرحت بين يديه التعليلات والفروق والنظائر والأشباه.
إن الدعاة بحاجة إلى فقه عمل، ولا تكفي الخطة المسطورة في بنود موجزة، ولا الخلاصات الجامدة، ولا بد من ترك المنفذ يحس بمغزى الخطط وعلل الأوامر ليندفع في التنفيذ بجد، ومن الملاحظ أن تجارب الأقطار لم تدون بعد رغم كثرتها ووفرتها، وليس في أيدينا إلا كراريس قليلة في فقه الدعوة أنتجها الجهد الفردي، ولا بد من كلمات قيادية تضع كثيرا من الأمور في نصابها الصحيح، وتنفي الخلاف وتعدد التفاسير.
(الثاني): تقليب وجوه الأمر واستقصاء دقائقه من خلال بحوث جماعية تنظمها مؤتمرات صغيرة في كل منطقة وقطاع تبعث بمندوب عن كل منها إلى مؤتمر أعلى، ففي أول سنوات الدعوة لا يكون هناك خلاف في الرأي كبير، لقلة العدد، وقرب القيادة منه، ولكن التقدم المرحلي يوجد توسعا يحمل معه تعدد الآراء، و تتعقد الأمور، والقادة بشر يعتريهم النسيان أو التعب، وتلهيهم المشاكل المعاشية، والمظنون أن يأتي هذا التطبيق للشورى الإسلامية بواسطة المؤتمرات بمقترحات يغربلها التنقيح القيادي إلى خطة تفصيلية، ومن الضروري أن تدن نتائج كل مؤتمر ومحاوراته المهمة في رسالة مستقلة لتساهم في تفقيه عموم الدعاة وتوعيتهم، وتكون هذه الرسائل من جملة منهج الإعداد القيادي، مطالعة أو تدريسا.
(الثالث): الاعتماد على البحوث الميدانية، بالنزول إلى ميدان الدعاة وأنصارهم، أو ميدان عموم المصلين أو الناس كافة، وتسجيل مشكلاتهم وقيا زوايا نظرهم دون ترك تخطيطنا نابعا من مجرد التأملات النظرية أو تابعا لروايات من يدعي التجريب، إذ كم من تأمل هو بالخيال أشبه، وكم من مجرب يتفاءل بإفراط أو يجزم بالأمور في تطرف، وإذا كان البحث الميداني دقيقا في أسئلته التي يوجهها، وعلى أيدي باحثين من أولى البديهة الحاضرة وأمانة النقل والعين المبصرة التي تضيف إلى الإجابة ما يهمله المجيب: فإن البحث يأتي عندئذ كامل الأوصاف، كأنه النظر بالمايكروسكوب.
والمهم في هذا أيضًا أن اللجنة التي ستتولى البحوث الميدانية ستكون أقدر من غيرها على الاستفادة من البحوث الميدانية العامة التي تقدمها وزارت التخطيط والجامعات.
(الرابع): وضع دراسات وصفية لحاضر العالم الإسلامي، بتركيباته القومية والاجتماعية، والطائفية، والحزبية، بالإحصاء والأرقام والأسماء المهمة والتواريخ، كي نستعين بهذا الوصف في تشخيص المرض ومعرفة الدواء، ويلحق بذلك معرفة حم النفوذ الاستعماري والنفوذ اليهودي بعد الصلح، والمتعاملين معهما، وليس يطلب من كل جزء من الحركة في كل قطر أن يصف بنفسه كل العالم الإسلامي، ولكن كل جزء يعرف حاضر بلده وما حولها من بلاد تؤثر في عمله بتعاون مع الحركات الإسلامية المجاورة، إذ إن العالم مقسم إلى كتل جغرافية اجتماعية سياسية اقتصادية، فالشمال الأفريقي وحدة واحدة يهم الحركة في أي بلد منه ما يجري في البلد الآخر، ومصر والسودان وليبيا وحدة واحدة، وسرويا والأردن وفلسطين ولبنان مجتمعاتها وسياساتها متداخلة، وسوريا والعراق أجواؤهما متقاربة، والعراق والخليج مترابطان، وللسعودية تأثير فيهما وفي اليمن، ويكون ذلك مع ملاحظة انبثاث القوى المؤثرة في كل بلد في العالم كله نتيجة الهجرة، ولم يعد التأثير في بلد قاصرًا على من هم بداخله، فالتواجد المصري في الخليج والسعودية وأوروبا يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار عند معرفة عوامل التأثير داخل مصر، والتغلغل القطبي في أميركا واستراليا وبعض أوروبا يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار عند تقدير أخطارهم، وكذلك صلاتهم في مصر بالماسونية والبهائية، وبالجيش المريمي في الأردن والمارونيين، وبالتواجد النصراني في تشاد وجنوب السودان والحبشة، والتركيبة الاجتماعية في الخليج لها علاقة بإيران، والتواجد اليماني في السعودية والخليج وموانئ أوروبا له علاقة بمستقبل السياسية في اليمنيين، وقس على وقس على ذلك، فنحن نريد معرفة كل ما يهمنا في العالم من خلال تبادل المعلومات والدراسات بين القيادات مما يضعها لها الباحثون من أذكياء الدعاة في كل بلد عن بلادهم، ولا يصح أن نكتفي بهذا النزر اليسير من المعلومات التي عندنا اليوم والقائمة على الرواية والسماع والمعايشة أكثر مما هي نتاج بحوث، أو القائمة على معلومات تاريخية مستهلكة لا صلة لها بالحاضر، حتى إننا سببنا الماسونية في بضعة كتب من جون أن نكتشف أسماء أعمدة الماسونية الحاضرة في بلادنا.
أو نأوي إلى ركن شديد
وكل حركة تقترب عليها من بعد ذلك بذل جهد مكثف لتمتين وتوسيع الطبقة القيادية مع تكييف استعداداتها لتلائم حاجات المرحلة المتقدمة، إذ أن الكثير من الذين يقودون عمليتي التأسيس والانفتاح لا يصلحون لأدوار التصعيد، ولكنهم عناصر جاهزة للتدريب على أداء هذا الدور، ولابد من تجديد تربيتهم، وإكسابهم العلوم التي تنقصهم، وتبديل السمت النفسي الذي اكتسبوه من طبائع أعمال المراحل الأولى إلى ما يلائم طبائع العمل السياسي العام.
وهذا التدريب يتم بطريقتين:
(الطريق الأول): إنشاء كليات أركان الدعوة، بمدرسين ومحاضرين، من أهل البلد أو من الزوار، وفق منهج شامل، وهي شبيهة بكليات أركان الجيوش التي تعد الفرد الضابط المتوسط الرتبة ليقود، فيعلمونه طريقة عمل كل أصناف الجيش وليس صنفه فقط، ويعلمونه الناحية السياسية وتاريخ بلده يرويها له أهل الاختصاص، فقد يأتي محافظ البنك المركزي مثلا ليحاضر للضابط عن السياسة المالية للبلد، ويأتي محافظون إداريون ليحاضروا ع ن القبائل والتركيب الاجتماعي في كل محافظة، ويأتي وزير الصحة ليكلمهم عن المستشفيات، وإمكانياتهم في السلم والحرب، وكذلك يتم استقدام رئيس مهندسي كل مجمع صناعي يحدثهم عن الطاقة الإنتاجية ومشاكل الصناعة، وقد يؤتي ببعض رجال المخابرات والمباحث ليحاضروا لهم عن الأحزاب العلنية والسرية في البلد، في مئات من المحاضرات التي تبني عقلية متوازنة لدى الركن، ومتكاملة، بعد إذ كان محاربا فقط، ويخرج بمعلومات واسعة، مطلا على أفق شامل، بحيث أنه إذا قاد معركة: عرف الموقف الشعبي المحتمل، ومقدار التجاوب السياسي، وحدود تحوير الإنتاج المدني إلى إنتاج حربي، وغير ذلك.
كذلك دعاة الإسلام الذين اجتازوا مراحل البداية: لا بد من تمتين مستوياتهم بهذه الطريقة، ولكن بنطاق أضيق تفرضه المصاعب المختلفة، فيتم تأسيس كلية مصغرة لأركان الدعوة في كل بلد أو بلاد متقاربة، تتناول تدريس فقه الدعوة بتوسع، ومكونات الوعي الحركي، وتاريخ الدعوة العام، مع مواعظ ورقائق، ويشمل منهجها أيضًا الدراسات الوصفية للعالم الإسلامي، ونتائج البحوث الميدانية من بعد تدوينها في رسائل وتقارير خاصة، والخطط التفصيلية، ومحاضرات في التاريخ السياسي، وعن الأحزاب، والثورات والشخصيات الحكومية، وعرض موجز يدلي به أهل الاختصاص من الدعاة لقضايا النفط والاقتصاد والصناعة، وعرض لاتجاهات الصحافة المحلية والعالمية، وقضايا الأدب والأدباء، ومحيط الجامعات والمعامل، والجمعيات و النقابات، في مواضيع أخرى تزيد كفاية المجرب الوقور، ويقصي عنها المستعجل الذي يحب القفز إليها ويتجاوز المقادير الابتدائية الضرورية لكل داعية من العلوم القرآنية والحديثية، ومن العبادات ومكارم الأخلاق، وممارسة التجميع والتربية.
انكباب ينحني له الظهر
ومن أهم ما يميز فترة انتماء الدعاة كطلاب في كلية الأركان هو نوع من التفرغ الجزئي لهم، وتفويض غيرهم بأداء أعمالهم التنظيمية وكالة عنهم، كي يتوفر وقت كاف لمطالعات منهجية مكثفة في كافة الأبواب تنسجم مع طبيعة الدروس التي تلقي عليهم، فالسماع وحده لا يبني فكرا كاملا، ولا بد من اختيار قائمة مطالعة متنوعة من كتب التراث والكتب الحديثة، تشمل فصولا طويلة من التفاسير، ومدونات الحديث والفقه، وكتبا في التاريخ الإسلامي العام والتاريخ الحديث، وفي القانون، والمعارف العامة، ومذكرات الساسة، والتعريف الأحزاب، ومقالات متنوعة مهمة يتم تصويرها من المجلات الإسلامية والعادية، ويزود كل طالب بنسخة منها.
ولكن من أهم مطالعاتهم: مطالعة المكتبة الحركية الجديدة الخاصة التي تنتجها اللجان السياسية ولجان التخطيط على شكل تقارير عن الثورات والتحولات السياسية، والبحوث الميدانية والدراسات الوصفية التي أشرنا إليها، ومحاضر جلسات المؤتمرات، وملفات الأرشيف، والوثائق، وأمثال ذلك، فالمفروض أن هذه المكتبة تأخذ بالنمو تدريجيًا، وتحو الدراسات المحلية التي تضعها اللجان المتخصصة، مثلما تحوى الدراسات المثيلة لها المهداة من قيادات الأقطار الأخرى، والكتب النادرة، ونشريات الأحزاب، وما يمكن أن نحصل عليه من التقارير المرفوعة من السفارات إلى وزارات الخارجية، ومن أجهزة الأمن إلى وزارات الداخلية.
ونظن أن من المفيد أن ترادف هذه المطالعات مشاهدة جمهرة من الأفلام الحربية والوثائقية، والأفلام الثقافية المتخصصة، فإن مشاهدتها عن طريق الفيدوتيب توسع المدارك وتتيح مجالا للتدرب على قياس طبائع السياسة على طبائع الحروب، وبيان صلتها بالاقتصاد والجذور التاريخية لمختلف المشاكل.
ويحسن أن يكلف كل طالب بموضوع مفيد يعد فيه بحثا صالحا للتوزيع العام أو الخاص، يشبه بحوث الدكتوراه، ويفضل أن تتناول هذه البحوث أحداث التاريخ السياسي المعاصر، والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية واقتراح حل إسلامي لها، والأساليب التربوية، وفقه الدعوة، أكثر مما تتناول تفصيل جوانب شرعية في المعاملات، وربما أصبحت هذه البحوث الجيدة ضمن منهج المطالعة للدورات اللاحقة، أو قام صاحب كل بحث بإلقاء بحثه كمحاضرة اختصاصية عليهم.
تجديد سمت التعلم الأول
وما زالت تراود بعض قدماء الدعاة أحلام جميلة، نعما هي لو وجد مجال تنفيذها: أن يتم اختيار ثلاثة أو أربعة من الدعاة أصحاب شهادة الدكتوراه، في أي فن كان، في الشريعة أو القانون أو التاريخ أو علم النفس أو الأدب، وأن ينهوا دراستهم كطلاب في كلية أركان الدعوة هذه، ثم يفرغون على نفقة الدعوة ثلاث سنوات تفريغا كاملا بلا عمل مهني، وبلا واجب تنظيمي أيضًا، ويجلسون معا يوميا لساعات طويلة برياسة أمثلهم أو بين أيادي المشايخ علماء القرآن والحديث والفقه واللغة، في بلدهم أو يرحلون مجتمعين للقائهم في أرجاء العالم الإسلامي، ويقرأون في مجالسهم هذه مع أنفسهم أو بشرح المشايخ أمهات المصادر الإسلامية، حرفا حرفا، على طريقة القدماء الأولين التي انقرضت، ويبدءون بالصحيحين، وأحد تفسيرات القرآن، و ينتقلون إلى كتاب الأم للشافعي، والمدونة الكبرى، وأمثالها من كتب المذاهب، وإلى المحلي لابن حزم وموافقات الشاطبي أو أمثالهما، وإلى رسالة الشافعي وبعض كتب الأصول، وإلى بعض كتب العقائد، واللغة، والنحو، مع مطالعات شخصية مكثفة في أمهات كتب التراث الأخرى، وبذلك يجمعون بين محاسن الطريقتين القديمة والحديثة في التعلم، مع حسن ثالث أكسبهم إياه وعيهم الحركي والسياسي، ويتجدد سمت طال اشتياق الناس إليه بعد انقراض الفقهاء والمحدثين اليوم، ويكونون هم علماء الدعوة ومفتيها وناقدي طرائقها التربوية ومناهجها التعليمية، ويقومون بدور أساسي في حفظ الأصالة الشرعية والصفاء العقائدي اللذين تقوم عليهما حركتنا قبل كل شيء آخر.
إن التنظيم قد يحتاج لجهد أدني عامل، وقد يعتبر البعض تفريغ هؤلاء وتجريدهم للعلم قرارًا مفضولا، ويوجب غمسهم في يوميات العمل والتجميع وتنفيذ جوانب الخطة، ولكن الناظر لمصالح الدعوة مجتمعة يدرك التأثير القوى لوجود أمثال هؤلاء الدعاة العلماء الذين هم أشبه بالموسوعات الحية والغنم بالغرم، ولا بد من إيجادهم حتى لو اقتضى ذلك نوع تفريط ببعض المصالح.
هب أن أستاذا جامعيا شاكس داعيا وأخره عن نيل الدكتوراه مدة، أليس يرضخ الداعية ويصبر و تصبر الجماعة معه وتطيل الإذن له بالسفر؟ فلم نستكبر تأخير بتخطيطنا فيه مصلحة كبيرة؟
نعم، لا تستطيع التنظيمات الصغيرة أو الجديدة هذا التفريغ، ولكننا نخاطب التنظيمات الواسعة التي كثر دعاتها من أهل الشهادات العالية، وقد لا يوجد المال عند من يجد الأشخاص، ولكن تعاون أجزاء الحركة بالمال سائغ، وقد يغزو الغرور بعض المرشحين ويلفهم زهو وإعجاب، ولكن من يثبت على سنن الوفاء أكثر.
ومن الأوهام التي ترد في هذا الصدد أن هذا التفريغ للتعلم يتنافى مع القاعدة التربوية بالتعلم من خلال الممارسة العملية والمعاناة، ذلك أن هذه القاعدة صحيحة، ولكنها بالنسبة إلى النموذج العام الذي نريد له أن تتوازن ذخيرته الفقهية والثقافية مع الانطباعات التجريبية والفنون التطبيقية، أما هنا فنحن نتحدث عن نماذج خاصة قليلة العدد يراد لها أن تكون ضمن الواجهة الفكرية للجماعة، والعمق العلمي ضرورة لازمة لهم لأداء دورهم بنجاح، ولم يتم اختيارهم أصلا إلا من بعد سنوات طويلة، من انضمامهم إلى الجماعة، تعرضوا خلالها لهذه المعاناة المطلوبة، وتم تجريبهم، وذكر الذاكرون عنهم حسن السمت، ووفور العقل، والجدارة والنشاط.
(الطريق الثاني): محاورة القادة في قضايا الساعة، فإن القيادات اليوم، كل القيادات، ذخيرة ثمينة عزيزة مباركة، وليس سهلا أن توجد قائدًا، ولئن كان الناس مثل إبل مائة لا تجد فيها إلا راحلة، فإن القائد هو راحلة الراحل، حتى أن الجيل الكامل من الدعاة لا يبرز إلا قلائل يصلحون للقيادة، يسعة علومهم، وعمق فطنتهم، واعتدال أمزجتهم.
إن يوميات الدعوة و المشاغل الحيوية قد تلهي القادة عن تدوين تجاربهم، وبالإمكان أن نعوض عن هذا التدوين بسلسلة جلسات جماعية مع كل قائد يدل فيها بآرائه، ويجيب عن أسئلة السائلين، وفقا لبرنامج موضوعي معد سلفا، ولا يكفي أبدًأ ارتجال هذه المحاورات عند الزيارات العريضة الفجائية التي تكون في الأصل لغرض آخر، بل لا بد من موعد يضرب قبل مدة كافية يتم خلال انتظاره تهيؤ نفسي عند القائد للعطاء، وعند السامع المحاور للنقاش.
إن هناك علما تجريبيا جما في قلوب كثير من القادة والدعاة القدماء لم يدون بعد، ومن الممكن أن تنتج هذه المجالس معهم دراسات ثمينة لعلنا لا نحصل عليها بالاستكتاب.
نعم، هناك أثر سلبي يصاحب هذه المحاورات، يتمثل في الاجتهادات التي يطرحها كل قائد مخالفا بها آراء الآخرين، أو في عدم إحاطته بالظروف المحلية التي تدعو إلى ضد ما اقتنع به، ولكن هذا الإشكال يمكن حله بوجود نقاد يردون الإغراب والتطرف إن وجدا.
ظل خارجي.. يحقق أماني الظلال
ومن الواجب أيضًا أن تساير هذه العناية بكفاءة الأجهزة التنظيمية الداخلية للجماعة عناية أخرى بالأجهزة التي يراد لها ممارسة العلاقات الخارجية الإدارية والسياسية، ببناء حكومة ظل، كالتي عند الأحزاب الغربية، ولكن بمعنى أوسع يشمل إعداد الخبراء من ذوي المستوي التخصصي العالي الذين يصلحون لإدارة أكبر الإدارات والمرافق الاقتصادية والصناعية، وأكثرها تعقيدا وسعة.
وما من شك، في أن الدراسات العليا التي تمنح شهادات الدكتوراه تعتبر الباب العريض الذي يمكن أن تدخله الجماعة لإعداد هؤلاء الخبراء، ولذلك لا يصح أبدًا أن تتحكم بأمانينا وزارات الدولة التي تشرف على اختيار طلاب البعوث، فتظلم وتنحاز لغيرنا، ولا أن يتحكم بالقابليات غني أصحابها أو فقرهم، بل يجب أن تبعث الجماعة بعوثها على نفقتها إن عجز الدعاة عن تدبير بعثات لهم على نفقة الحكومة أو نفقة أولياء أمورهم العائلية وتبعث في كل اختصاص عددًا من الدعاة، بحيث لو ترك الدعوة أحدهم غرورًا أو افتتانا، أو خسرته الدعوة لسبب آخر: كان هناك من يعوض عنه فثلاثة أو أربعة لدراسة الاقتصاد، إذا مات منهم سيد قام سيد، كما يقول الشاعر، وآخرين للإحاطة بقضايا النفط، وعددًا للتخصص في أنواع القوانين الدولية والدستورية والمدنية، وغيرهم للإدارة بأنواعها، وللعلوم السياسية، وغير ذلك.
ويظاهر هؤلاء خبراء من بلاد أخرى تتضاءل أمامهم في بلدهم فرص العمل، وآخرون، لعلهم كثرة، مبثوثون في الغرب، من المهاجرين السياسيين، وممن ألجأتهم أنواع الضرورات للعيش هناك، وكثير منهم يمكنهم الرجوع إلى بلاد يقل فيها الظلم، ليندمجوا مع أهلها وأجوائها تدريجيًا، وليكتسبوا خبرة محلية تمكنهم من المشاركة في العطاء على درجة سواء مع الدعاة المختصين الخبراء من أهل ذلك البلد، دون أن تعتريهم دهشة المفاجأة إذا تأخر اكتشافنا لضرورة الاستعانة بهم.
إلا أن عددًا أوفر، أهم منزلة وتأثيرًا، يمكن أن يدوروا في هذا الفلك، من خلال جرد الأجهزة الحكومية الحالية، وانتقاء جمهرة من الموظفين الشباب، يتحلون مع الخبرة والنجاح الوظيفي بالستر والأمانة والعفة والجد واحترام الدعوة، وإن كانوا دون مستوى الانخراط في سلكها حاضرا ولاحقا، إلا أن يشاء الله، ثم نباشر تمتين علاقاتنا الإنسانية العامة معهم، وتحسين الصلة بهم، وتزويدهم بصحفنا وكتبنا، و تعريفهم على غاياتنا ونظراتنا، ونثير فيهم الحمية الإيمانية العامة، ليصلحوا أن يكونوا أعوانا لنا، إن أبينا ربطهم بنا، لعيوب، أو أبو، لخوف.
ومن الخطأ تأجيل الاتصال بمثل هؤلاء وقصر الجهود على الاتصال بمن يرجح احتمال قبوله العضوية معنا، لأن تأخير التعرف عليهم من قبلنا يفسح مجالا لغيرنا لحيازتهم، إذ أنهم خامات لا يجيدون تمييز الباطل، وربما لبثوا دون ارتباط بأحد غيرنا، لكنهم يختلفون معنا بعد هنيهة من بداية التعاون، لانعدام التعايش الطويل بيننا وبينهم، إذ أن هذا التعايش هو الكفيل بتفهيمهم أنماط تفكيرنا ومقاصدنا وموازيننا.
نافذة التفاؤل
فما ندري بعد، أنحن من الصادقين مع أنفسنا، أم نحن من المخادعين؟ وكل امرئ فقيه نفسه، إلا أن حسن الظن واجب، ورحمة لله واسعة، تنتشل الكسول من تسويف، وتلهم الساذج بعد المتاه.
وقد يكون ذكر مثل هذه المعاني مهلكة للبعض، ممن يتجاوزون أدوارهم، فيلتهون بترديدها، ويعافون العمل، حتى تغدو لهم مثل سراب كاذب، لكنها توعية وإرشاد للمتواضع الدائب.
وليس بمستبعد أن يسبب ذكرها خطرًا يكيد به عدو متربص، ولكن الخطورة الكبرى تكمن في أن بعض أجزاء الدعوة اليوم في بعض البلاد تنظر إلى ساحة العمل من خلال ثقب صغير في جدار قديم، فتبدوا الصورة لها صغيرة مهزوزة، وعليها أن تسرع الاستدراك، وأن تطل من خلال نافذة شورية واسعة في ذروة قلاع راسخة مجدة البناء.
ولربما يفترض العدو انطباق واقعنا على هذا الكلام الطويل العريض، ويظن حجمنا كبيرًا ضخمًا، أضخم مما هو في الحقيقة فيزيد من كيدة وتضييقه، وينسي أنها مجرد تمنيات داعية لذعته برودة بعض الدعاة، إلا أن الضيق الأشد ضغطًا هو بقاء جمهور الدعاة دون مثل هذه الإطلالة الراجية.
([1]) صيد الخاطر / 355.
نبرات الآذان
وضع سيد قطب رحمه الله ثلاثة شروط لتقدم الجماعة الإسلامية فتوقع أن:
(تنتصر هذه الجماعة على نفسها وعلى نفوس الناس منعها تارة، وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة، بقدر ما تبذل من الجهد، وبقدر ما تتخذ من الوسائل المناسبة للزمان ولمقتضيات الأحوال، وقبل كل شيء: بمقدار ما تمثل هي ذاتها من حقيقة هذا المنهج، ومن ترجمته ترجمة عملية في واقعها وسلوكها الذاتي)([1]).
فأما بذل الجهد فيجب أن يكون بحجم الحاجة، وما مناسبة الزمان والمكان إلا كناية عن وعي تفصيلي وتخطيط دقيق، وتمثيل حقيقة المنهج في الواقع السلكي لا يكون إلا بتحول العواطف المجردة والحماسة الطارئة إلى تربية راسخة.
لكن الماشي في الصحراء سريع الملل، ما لم ير نورًا يسليه ويزيل وحشته، وما هذه الآراء، إلا بارقة أمل تدفع نحو العمل الجاد، ولقد امتلأت حواضر الإسلام اليوم بدعاة رجاة تفخر بهم الأمة، وحق لذلك أن نرتاد لهم ونكشف المزيد من ربوع الرجاء.
الجحافل الملبية
فتلك الانعطافات الأولى نحو تحضير التصورات، وفي الثقافة ونحو تمتين القاعدة القيادية وبناء أجهزة الظل: تسند بعد تحقيق نجاح ظاهر فيها بجملة متطلبات تمهيدية انتقالية تمنح الحركة حق إنهاء مراحل الهدوء والانسياب والتوغل الصامت، وتأذن لها بالصدع والآذان.
وأول ذلك: التنادي إلى حملة تجميع واسعة سريعة، توصلنا إلى عدد لا نختلف –إذا وجد- في صواب ما بعد الاقتراب، وسبب ذلك أن المئات الأولى، أو الألوف، الذين جمعتهم وربيتهم على مهل، ستحتاجهم لخطة لتكوين المجموعة القيادية الواسعة، ولعضوية اللجان التنظيمية والتربوية والسياسية المختلفة، والمسؤوليات الجزئية، والفروع الإدارية، والتشكيلات النقابية، وأجهزة الظل، والأقلام الصحفية، والقدوات المنبثة، والخبراتا لمختصة، وشبكات الاتصال، وستبدو الحاجة ملحة إلى طبقة تنفيذية منتشرة، الناشئة والشباب من لبناتها الأساسية، بل الأجيال الأولى هم قادة القادة، وهؤلاء نتاج هذه الحملة سيكونون هم قادة لسائبين الذي يلتحقون بنا قرب الزروة، وبعد أن يبدو الصبح لكل ذي عينين.
إن هذه العملية التجميعية الواسعة لا تتم بالطريقة التقليدية الحاضرة، وإنما هي جملة خطوات كبيرة متعاضدة.
منها: بث البلغاء من الخطباء العلماء للتكلم في المساجد، والمحاضرة في المنتديات، فإن تأثير هؤلاء مضاعف، وبإمكانهم أن يستقطبوا حولهم جمهور واسعًا، يقربون من مفاهيم الجماعة، ويقنعون بإسناد مواقفها، فإذا اختارت الجماعة خوض معركة انتخابية: أوحي هؤلاء إلى جمهورهم وجوب إسناد هذه المعركة والتصويت لها، وإذا رفعت الجماعة لواء المعارضة: شجعوه على المشاركة فيها وحببوا له الصبر على الضرر المحتمل وبذلك الأموال والأنفس في سبيل الله.
وربما لا يوجد في بلد ما عدد واف من هؤلاء الخطباء، فتكون الاستعانة بأخيار من البلاد الأخرى، يصبون إنتاجهم في وادينا، وتحدث نهضة، تستثمر برفع الكفاءة الاستيعابية التي يملكها التنظيم عن طريق حملة توعية داخلية للدعاة.
وهذه الطريقة قد تفرز أضرارًا مع منافعها، إذا اغتر بعض المتكلمين بكثرة الملتفين حولهم، فيخرجون عن الخطة العامة، وربما مالوا لتحدي الحركة ببعض العبارات، ولكن هذه الظاهرة تحدث عندما لا يكون للحركة دور في اختيارهم، وأما دقة الاختيار فهي ضمان أساسي يكفل ندوة لجوء المتكلمين إلى مواقف مستقلة، وربه تذوب شخصياتهم في الشخصية الحركية الجماعية.
وجدير بالحركة أن تنوع مقاييس اختيارها لهم لتلائم كافة الأذواق والاتجاهات، ولنطرق بهم كافة أبواب الإقناع، فيكون منهم أكثر من واعظ عام ممن يكثف علمهم بالقرآن والسنة ويوردون الرقائق، وتراعي عند اختيارهم بعدهم عن البدع، وهؤلاء يصلحون لدروس المساجد والحفلات والأحاديث الإذاعية، ويكون منهم أصحاب العلم بالحديث النبوي الشريف، والمعرفة برجال أسانيده وطرقه، وصحيحه وضعيفه، لإشاعة تدريسه وتأصيل المنهج السني الاتباعي في جمهور أتباع الحركة، ويكون منهم أيضًا من يعرف نقد الفلسفات والمبادئ المعاصرة والاتجاهات الاستشراقية، أو من ينقد الخطط الاقتصادية والسياسية وله اطلاع على التاريخ الحديث، وهؤلاء يصلحون للتحدث في جمهور الجامعات ومنتديات الخريجين والجمعيات العلمية والمؤتمرات العامة، فإنا أناسا من المثقفين بالثقافات الحديثة، قد اصبح الواحد منهم كأنه لديغ، سممته تأثيراتها، حتى أصبح يجفل من الكلام الإسلامي الخالص، ويجب أن نرقي له بمثل رقية العقرب والحية ليشفى، ولو جئناه بكلام الفقهاء وحده لما اكتفى ولما اقتنع، إلا أن نأتي له بمثله معه من أقوال الغربيين، وإلا أن تلوك ألسنتنا له بعض الاصطلاحات بالرطانة الأعجمية لنجره بالتدريج إلى الفصاحة العربية، ولا بأس في ذلك ما دمنا لا نقول له غير الحق، بلا مداهنة أو خلط، فإن مخاطب الناس على مقدار عقولهم مطلوبة، وهذه الأحزاب الدنيوية قد دلست وأوهمت، وأتت بدجاجلة لا يفهمون إلا قليلا، ووصفتهم بالعباقرة والمفكرين، فأوقعوا الشباب الساذج في شباكهم، يردد ما يقولون بلا وعي، ونحن نأتيه بالحق لا بغيره غير أن الرقية في معناها العرفي العام تحتاج بعض الغموض الذي نجعله ممرًا إلى الوضوح، ولابد أن تكون ألفاظها غريبة، كالذي ورد في فكاهات بعض المحدثين لما سأل عن نسب مسدد البصري شيخ البخاري وأبي داود وغيرهما، فقيل له: هو مسدد ابن مسرهد بن مسربل مغربل بن مرعبل بن أرندل بن سرندل ابن...، فقال، مهلا، مهلا، وكفى، وكفى، إنها رقية العقرب!!([2]).
هكذا: زخم متواصل من الخطابة والوعظ، والحوار والنقاش، والوضوح والغموض، يقوم به رهط متنوع الثقافة، مدعوم بدعاية من قبل مجموع الدعاة، مفرغ من الأعمال الإدارية الداخلية يوزع أدواره ضابط تنسيق لبق.
- ومن هذه الخطوات أيضًا: طبع رسائل صغيرة كثيرة وتوزيعها بالمجان، وخاصة ما تتناول تحليل مشاكل البلد المحلية من وجهة نظر إسلامية، بعضها بأسماء صريحة، وبعضها باسم الحركة إذ لا بد من ترسيخ اسم الحركة في النفوس واستثمار وقعه المعنوي ولابد من ربط الجمهور بأسماء من دعاة البلد الذي هم فيه لا بأسماء غريبة، ليحاورهم الجمهور ويرتبط بهم ويأتمر بأوامرهم، كما أنه لا بد من إعادة كتابة المواضيع الإسلامية العامة بشكل يمكنها من مقارنة أحوال البلد وواقعه بالموضوع الإسلامي المطروح فيكون هناك تجاوب وتحسس لأهمية ما تطرحه الكتابات.
إنها حملة إغراق، بعشرات الألوف من النسخ إذا استطعنا، ولو بطبعها خارج البلد وتهريبها إلى الداخل عند وجود ظلم وكبت فتدخل آراؤنا كل منتدى ومجلس وبيت، وفرق هذه الحملة عن النشر الذي يواكب خطة الإصلاح العام أثناء التوغل أن الحرص هناك كان ينصب على إحداث تأثير مكثف يمكن ترسيخه واستمراره و تطويره إلى انتماء حركي، إذ من الخطورة آنذاك أن نساهم في إحداث فورة، إذ ستعود الهمم إلى برود ثانية، لأن النهاية ما تزال بعيدة، ويمكن أن تستنزف الحماسة الحاصلة قبل الوصول، لطول الطريق، أما هذه الحملة فلا ضرر أن تحدث مجرد الفورة التي ليس معها انتماء، لأن خطة التصعيد ستستفيد منها، والوصول قريب.
- ومنها: استثمار منظمة لأشرطة الكاسيت، فإنها اليوم تنتشر بلا تخطيطات مركزية ينبغي أن تكون في كل بلد، وبلا انتقاء للمتكلمين، وفيها ما فيها من الارتجال، أو التكرار، أو الخلط، أو الأحاديث الموضوعة أو الصخب أحيانًا.
إن إمكاننا أن نسجل مائتي شريط أو أكثر، وفق قائمة مواضيع متكاملة، ولمتحدثين من ثقات الدعاة، وبأثمان مخفضة، فتدخل كلماتنا قلوب ربات الخدود، ويتجاوب معها الشيخ، والأمي، والانعزالي، والنائي الذي لا يصله الدعاة، وتملأ أوقات سمر الفلاحين في الليالي، وتشغل رواد المقاهي، وركاب السيارات: كل أولئك على درجة سواء مع المثقف الذي يبتغي التكرار بعد حضور الدرس والسماع، أو العضو الحركي المشغول بالاجتماعات عن الحضور، أو المختص والمسئول اللذين يتعرضان لجفاف القلب نتيجة الاستغراق في الدراسات الاختصاصية أو الجلسات الإدارية، فترطب هذه الأشرطة روحيهما عند إنصاتهما لها في سويعات الفراغ.
إن إشاعة الأشرطة تعتمد اليوم على مبادرات فردية وأذواق مختلفة، ومن الواجب أن تبرمج قياديا في كل قطر، لتكون سلاحا إعلاميا رديفا للكتب والمجلات، تحكمه موازين، ويسيره تخطيط واضح في أهدافه الجزئية التي يراد تحقيقها، ومن الممكن أن تستورد الجماعة الأشرطة الخام لينخفض السعر إلى أقل من النصف، وأن ت تحمل بعض تكلفتها، لينخفض السعر إلى الربع، فتشيع أكثر.
ويحسن آنذاك أن تتم طبع دليل لهذه الأشرطة، تخصص كل صفحة فيه لإيجاز معاني شريط معين والتعريف بالخطوط العامة للكلام الذي يحويه.
وبعد شيوع أجهزة الفيديو التلفزيونية انفتح مجال جديد أبعد تأثيرا يحسن للحركة أن تستغله أيضًا بتصوير تمثيليات إسلامية منوعة، وندوات فكرية، ومقابلات مع مشاهير الكتاب والقادة، وأمثال ذلك، فإن الفرق المسرحية الإسلامية في مختلف البلاد قد مثلت عشرات التمثيليات خلال هذه السنوات، وبالإمكان أن تعيد تمثيلها لتصويرها، وبإمكاننا أن نسجل من ثلاثين إلى خمسين ندوة في مختلف القضايا، ومثل ذلك مع أبطال الإسلام الأحياء، مع أفلام وثائقية عن الثورات الإسلامية والأحداث السياسية المهمة، وبرامج تصور الحياة الإيمانية الواقعية بين شباب الجامعات وفي المؤسسات الاقتصادية والمراكز الاجتماعية، وأمثال ذلك، ولا يصح أبدًا أن يظل الجمهور الإسلامي الذي يدور في فلكنا مأسورا إلى وسائل الإعلام الحكومية، باطرابها وتخبطها وإفسادها، وإنما علينا أن نملأ أوقاته ببرامجنا التربوية الهادفة، وأن نعينه على فهمنا ووعي طريقتنا.
إن الكفايات العلمية الإسلامية ضخمة جدًا، لكنها شبه معطلة عن العمل المتناسق، ولا يعوزنا غير جهد تخطيطي إداري قليل يحصل به كمال التشغيل، بأن نعهد إلى لجنة تحرك هذه الطاقات و تنتج هذا الإنتاج الثقافي الإسلامي.
فرسان الفراسة
ويقترن بهذه الحملة التجميعية الدعائية: بدء عمل اللجنة السياسية الموسعة ذات الفروع الاختصاصية المتعاونة مع جمهرة من الدعاة الباحثين، أما تأسيس هذه اللجنة فيجب أن يكون سابقا على هذه المرحلة، كي يتسنى وقت لأعضائها للتدرب، وزيادة ثقافتهم، والمشاركة في التخطيط الجزئي الخاص بها، وتقاسم البحوث، وتجميع الكتب والوثائق الضرورية وغير ذلك.
ويفترض باللجنة السياسية أن تكون أعرف حتى من القيادة بالسياسة وطبائع الأحداث وشخصيات الحكومة والأحزاب، في بلدها والبلاد الأخرى المجاورة أو المهمة، وليس في ذلك غلو ولا تجاوز، إذ المعرفة السياسية إن هي إلا جزء من مجموع ما تسترشد به القيادة عند تقريرها المواقف، ولذلك فإن أول واجبات اللجنة السياسية أن تمد القيادة بتحليلات وتقارير عن الأوضاع تسهلها من مجموع آراء أعضائها وجمهرة الباحثين، ومن خلال مطالعات الصحف وسماع الإذاعات ومحاورات المجالس.
والأعمال اليومية لهذه اللجنة السياسية كثيرة الصلة بالصحافة الإسلامية والكتابة فهيا، ويدخل فيها أيضًا: نشر البحوث والدراسات الدقيقة وفقا لأساليب البحث العلمي، وإلقاء المحاضرات على طلاب كلية أركان الدعوة، والتسجيل التاريخي التفصيلي للأحداث، وتغذية الأرشيف الخاص بها أو الأرشيف الصحفي، ولكن أهم أعمالها على الإطلاق هو رصدها المبكر للظرف الملائم والتنبيه إلى احتمال حصوله، اعتماد على مزيد من الفراسة والقياس التاريخي والمعرفة الواقعية الجيدة، ذلك أن الانعطافات الهامة في حياة الشعوب والحكومات ليست هي نتيجة مجرد استعمال قوة، لكنها نتيجة تفاقم أزمات اقتصادية واختناق سياسي وتغير اجتماعي، فتهتز الضمائر والقلوب، فيلجأ عموم الناس إلى بحث فكري التماس للمخرج، من بعدما كان هذا البحث الفكري مقصورا على المثقفين، بل على أذكياء المثقفين وشجعانهم وكرمائهم الذين يعافون الدنيويات ويتجردون من أجل تغيير مجرى الحياة وأنظمتها وبنائها وفق ما يعتقدون، فمنهم خيالي وواقعي، ومتكلف وفطري.
إن هذا التحول في حجم البحث الفكري وانتقاله من دائرة خواص الناس إلى الدائرة الواسعة العامة وصيروته ظاهرة شائعة من بعد عزلة الأكثرين وسلبيتهم ليس هو إلا حقب مميزة في حياة الشعوب، تأتي الحقبة الواحدة منها قصيرة بالنسبة إلى سنوات خمول تسبقها ثم تتلوها، فأيما جمهرة من أولئك الخواص كانوا أسرع من غيرهم إلى مخاطبة الناس بآرائهم وأمهر عرضا وأوفر دعاية: كانت الاستجابة لها أكثر، إذ أن أكثر الناس يقلدون ويقادون وإن أقحموا أنفسهم في التفكير تحت ضغط الكبت والأزمات، وتزداد قابليت هذه الجمهرة في التأثير كلما كان أفرادها أبعد عن مسببي هذا الكبت، وهذه الأزمات وأظهر خصومة لهم، وأقدم في المفاصلة معهم.
هكذا هي الانعطافات المهمة: نضوج ظروف نستغلها الجمهرة الأسرع تحركا، الموجهة من قبل قيادة أكثر كفاية، وواجب اللجنة السياسية اكتشاف الإرهاصات الأولى لهذا الاستعداد في وقت مبكر، أما مقدار صواب العقائد والأفكار والآراء والحلول التي تطرحها هذه الجمهرة للناس فإن له بالتأكيد دورًا في التأثير، بل هو دور مهم، يستفيد منه المسرع المبادر القوى، لكن المتماهل المتأخر العاجز لا يقرب النجاح مهما كان أقرب إلى الصواب.
نعم، ربما تستغل جمهرة نضوج الظروف دون أن تمارس هذا الإقناع الفكري للناس والبحث النظري، فتقفز قفزا بالقوة، لكن مثل هذه القفزات غير مرشحة للدوام، وتعود الجمهرة القافزة بدورها إلى الكبت والتخبط تعويضا عما لم تستطعه من الإقناع، وتعود الأعناق تشرئب من جديد، تتطلع إلى ذي عقيدة مبادر، ومفكر محاور.
هدير اللغة القيادية
وللأذان نبرة ثالثة ترفعه الرؤوس القيادية الظاهرة، إذ أن تغمتهم مميزة، وهي بالسحر أشبه.
فوسائل العملية التجميعية توقظ وتثقف، وحديث اللجنة السياسية يقع ويحفز، وتصدي القادة يجذب ويدفع، فالقادة قد يرون لأنفسهم أفضلية التكتم إذا عم الإرهاب والظلم، ولكن مرحلة ما بعد الاقتراب توجب ظهور الواحد والاثنين منهم مع الإشارة إلى طبيعتهم القيادية، ليتحدثوا للناس وللدعاة معًا، بالمانشيت العريض لا بالحرف الصغير بصراحة لا بإيماء، في المجالس الخاصة على الأقل إن لم يكن كلامهم في المنتديات العامة، فتزداد الثقة، ويعوضون عن أساليب التربية التقليدية المتضائلة بفعل المزاحمة الطارئة من قبل مفردات النشاط اليومي الكثيف في الميادين السياسية والفكرية، فآنذاك يكون استغلال الأثر النفسي لطبيعتهم القيادية في المقابل السامع، والناس معادن، تسيرهم أذواق خاصة متنوعة، وقد يكون هذا العامل النفسي أبعد تأثيرا من الخطب والكتب والصحف، فيمضي في الدرب من هو متردد، ويستيقن متشكك، وينتظم سائب، ويزهد طامع، ويصفو مخلط، ويلتئم متصدع، ويسرع بطئ.
وقادة آخرون يمارسون التحدي البطولي، على طريقة الأولين، فيختارون أنفسهم للفداء، ويعزمون على الموت فينقلون ارتباطاتهم الحركية إلى خلف يعوض، ويودعون أزواجهم وأبناءهم وإخوانهم، ويقذفون بأنفسهم في المعمعة.
إن القول اللين الذي يتذكر به الفاجر أو يخشى قد يليق لما قبل هذه المرحلة، والله تعالى الذي أمر موسى بمثله: أمر محمدًا، عليهما الصلاة والسلام، بأن يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم آنذاك ستكون ساحة المحكمة أعلى من كل منبر، وصلصلة حديد السجن أعذب من كل نشيد، وصوت رصاصة الاغتيال أقوى من عشرات ألوف أشرطة الكاسيت، وحبل المشنقة خيطا ينظم حبات اللؤلؤ المنثور.
إيطاء المنابر
ومن المعالم البارزة لفترة الاقتراب: إصدار الصحيفة الحركية الإسلامية السياسية الجامعة ذات المستوى العالي، لتكون منبرًا يرتقيه فكرنا.
نعم، وجدنا وتوجد اليوم صحف إسلامية، ولكن المراحل المتقدمة من المسار تحتاج صحيفة أقوى رأيا وأصرح لفظا، فإن الصحيفة الحركية تتجاوز مجرد كونها أداة إعلامية، وإنما هي مدرسة سياسية لتثقيف الدعاة وتدريبهم، ويتعلمون عبر عمليات جمع أخبارها وكتابة مقالاتها خفايا السياسية وأوزان الرجال، حتى أنها لتعتبر المجسة المهمة التي تملكها الدعوة للتعرف على مفاهيم الناس واتجاهاتهم، ولتحسس ورصد الفرص قبل مثولها، فوق دورها الكبير المهم توحيد آراء الدعاة، وتقريب الناس منهم.
فصحاء الإقناع يؤججون الصراع
من هنا يتوجب على الحركة في كل بلد أن تضحى ببعض العناصر القوية من الدعاة، تسلهم من زحام الإداريات، وتشعب الارتباطات، لتكون منهم جهاز التحرير الصحفي المتخصص، وإنما وصف هذا التدبير بالتضحية مجازًا، لأن من شأن بعض القادة حصر الجهود ي العمل التنظيمي فقط.
ويكاد أن يكون اختيار رئيس التحرير هو أصعب ما في هذه العملية طرًا، إذ ينبغي أن يكون عنصرا كاملا وأصلا، ليس بالمبتدئ ولا المتوسط، عالي الثقة حاد الذكاء، سيال القلم، ثري اللغة، وليس من الغلو إذا جعلنا شروط رئيس تحرير الصحيفة الحركية موازية لشروط القائد نفسه وفي محاذاتها، لأن الصحيفة تعتبر وجه الجماعة الطالع تلقاء الناس أجمعين.
إن الدعوة لا تنجب في كل جيل إلا القلائل من أصحاب الكفاية الراقية، وأنفاس كل قطاع فيا لتنظيم منقطعة، وراء أصحاب المهارة الذين يحوزهم، وليس من السهل أبدًأ أن تقنع قطاعا أو لجنة بالتخلي عن داعية بمثل هذا المستوى، ولعل انتزاعه منه أو منها بدرجة انتزاع ولد وحيد من حضن أمه، لكنها خطوة ضرورية لا بد منها، وسرعان ما يعوض تأثيره من خلال الصحافة عن غيابه أضعافا مضاعفة.
فإذا حصلت الصحيفة على رئيس بهذه المنزلة: كان لا بأس أن تتحلق حوله حلقة من الشباب الناهض يؤلفون جهاز التحرير، ويصبحون تلامذة له، يدربهم، ويوجه طاقاتهم.
لكن هذه الحلقة ما هي إلا النواة، والمفروض أن تدور حولها شحنات مختلفة في مدارات متتالية:
منها لجنة تتكون من دعاة قدماء تجتمع ثلاث أو أربع مرات سنويا للمساعدة فيو ضع السياسة المرحلية للصحيفة وتحديد ملامحها.
ولجنة أخرى تجتمع عند الحاجة لرسم الخطوط العامة للافتتاحيات المهمة، ذات الطبيعة الاستثنائية والتي تتناول التعليق على الأحداث الكبيرة الضخمة.
ومنها عشرات من الدعاة وأصحاب الأقلام في كافة المجالات من المبثوثين في مختلف البلاد تستكتبهم المجلة، ويراسلهم رئيس التحرير حاثا لهم على المساهمة في كتابة المقالات التي تنسجم مع خط المجلة.
الجهاز الخلفي المساند لهيئة التحرير
والجهاز الخلفي هو بمثابة التكميل لجهاز التحرير الأساسي، وينظر على أنه ظهير معين له، يسد نقصه، ويجعل لآمال رئيس التحرير مدى أبعد تذهب إليه، ومن الممكن، أن يستثمر قابلياته كل الإعلام الإسلامي ولو في بلاد أخرى.
ويتألف هيكل الجهاز الخلفي من ست أنواع من العمل المتكامل:
1- الأرشيف: باقتطاع المقالات المهمة من الصحف وتوزيعها على ملفات، لكل موضوع ملف، وقد لا تقل المواضيع عن مائة، فلكل دولة إضبارة، ولكل حزب، ولكل قضية مهمة، ولكل شخصية مهمة، مع أرشيف آخر للصور والخوارط والوثائق، وما من شك في أن هذا العمل يلزمه انتداب عدد من الشباب له، ولا يكفي الواحد، ولكن طبيعة العمل لا تستلزم أن يكونوا من أصحاب الكفاية.
2- الملخصون: وهم اثنان من أولى الثقافة:
الأول: يلخص المقالات الطويلة المنشورة في الصحف، بأسطر قليلة، ويصطاد التعابير الناجحة من خلال مطالعاته، والالتفاتات الجديدة التي لم ترد في تحليلات سابقة، وأمثال ذلك، ويقدمها كالتقرير إلى أسرة التحرير ليزداد علمها بما تعرضه الصحافة، وهو عمل أشبه بعمل السكرتير الصحفي لكبار الساسة.
والثاني: كالبحاث المؤرخ، يطالع الصحف القديمة الصادرة قبل ابتداء جمع الأرشيف، فيستل منها فقرات مهمة، ويلخص المعني الطويل ويلحقها بالأرشيف.
3- المفهرس: وهو يضيف إلى ملفات الأرشيف قوائم بعناوين المقالات المنشورة حول كل موضوع في مجموعة من الصحف أوسع من التي يطلع عليها الملخص أو التي هي من مصادر الأرشيف، مع أسماء الكتب في كل موضوع، والوثائق الخاصة المحفوظة في دور الوثائق، وأمثال ذلك. فائدة هذه الفهرسة تظهر عندما يصبح الموضوع الواحد من مواضيع الأرشيف هو قضية الساعة، فإن أسرة التحرير، أو لجنة بحث وقتية، سترجع إلى القوائم لترى المقالات والكتب بنظرات سريعة، تكتمل به الصورة، فتصدر بحثها بعمق اكبر.
4- المستشارون: وهم أربعة أو خمسة فقط، كل منهم يختص بمتابعة قضية كبيرة دائمة، ليكون مستشارًا ترجع إلى آرائه أسرة التحرير بالمشافهة أو المراسلة، وربما بالهاتف، إن لم يكن قريبا، فواحد يتخصص بقضية فلسطين، وآخر في قضايا النفط، وهكذا.
5- الباحثون: بأن تختار بضع عشرات من الشباب الدعاة، و تعهد لكل منهم أن يتابع في أوقات فراغه موضوعا هاما على مدى الأيام ويفتح له ملفا خاصا به لا علاقة له بالأرشيف، يحتفظ فيه بمقالات حول الموضوع متقطعة من الصحف، أو يلخص بعضها، أو يدون ما يسمعه، من الإذاعات أو في مجالس الناس مما هو غير منشور في الصحف، مع زيارة البلد الذي له علاقة بموضوعه، ليري الأمر الواقع ويشافه أهل الخبرة من أهل ذلك البلد، وهكذا.
إن هؤلاء هم من الدعاة الذين يشاركون في الأعمال التجميعية والتربوية، وعندهم واجبات تنظيمية، ولكن نضيف لهم مثل هذا الواجب إذا كانوا من أهل الاستعداد، وسف تكون لهم أهمية من ناحيتين:
الأولى: أنهم يكملون نقص الأرشيف والخلاصات والفهارس، وخاصة إذا كانت الحاجة ماسة لكتابة سريعة تصدر في أول عدد بعد حادث مهم يخص مواضعيهم، إذ هم أقدر على الكتابة آنذاك من أي واحد آخر من أسرة التحرير، أو على الأقل يقدمون للمحرر الحقائق التي يستند عليها.
الثانية: أنهم سيكونون بعد سنين بمنزلة خبراء في موضوعهم بدرجة متعمقة لا يستطيعها المحرر الذي تكون اهتماماتها شاملة.
بعض هؤلاء الباحثين يجب أن يختصوا بمواضيع محلية، كمختص بأمور الجامعات، ومختص بكل حزب في البلد، ومختص بالبرلمان، ومختص بالسياسة الاقتصادية للبلد، ومختص بمشاكل المجمعات الصناعية في البلد، وهكذا، ومنهم من يختص في مواضيع خارجية، ويستحسن أن يكون لكل بلد إسلامي من يختص بأخباره من هؤلاء، وبكل ثورة، وبكل قضية عالمية.
6- المدير المنسق: وشرطه أن يكون مولعا بالعمل، غير مثقل الواجبات التنظيمية، وواجبه أن يزور العاملين في الأرشيف ويوجههم، وأن يحاور الملخصين والمفهرس، ويلتقي بين الحين والآخر بالباحثين والمستشارين، ثم يكون له لقاء متكر ربرئيس التحرير وأسرة التحرير لينقل لهم آخر ما هنالك، فهو همزة وصل بين الجهازين، وبدون هذا القائد المتابع يتعثر كل هذا العمل.
إن تعويض هؤلاء الذين يعملون في الجهاز الخلفي ماليا عن نشاطهم هذا وتفريغهم كليا أو جزئيا أمر نسبي تابع للظروف، ومقدرة الجماعة، وحاجة أحدهم، وربما لم تكن هناك مبررات لتعويض الباحثين، فإنه عمل جزئي يؤدونه، إلا ما يكون من شراء مكتبة لهم في المواضيع التي اختصوا بها، أو الإنفاق على سفرهم المتكرر إلى البلاد التي اختصوا بجمع أخبارها.
دراسات.. لا مجرد العواطف
ويفترض أن يستند عمل هذين الجهازين، الأساسي والخلفي، على جملة قواعد إدارية مهمة لا بد من تضافر لحصول النجاح.
- فمن ذلك: إعطاء هيئة التحرير بعض الاستقلالية، ومزيدًا من الاحترام، ولسانا لينا عند تعرضها لخطأ، فإن فقدان ذلك يقلل إنتاجها، ويحرمها الابتكار، ولا يتعارض هذا مع وجوب تبعيتها للخطة وطاعتها للقيادة، فإن الحاذق المنصف يستطيع الجمع بين الناحيتين.
- ومن ذلك: ضرورة قيام رئيس التحرير بجولات في البلدان المهمة يختلط بالناس، ويسمع تحليلهم لأبعاد السياسة في بلدهم، ويسمع نقدهم لمجلته، ويتصل بالكتاب الذين يكتبون عنده، شاكرًا وحاثا على المزيد.
- ومن ذلك: سفر المحررين إلى مناطق الأحداث المهمة لتغطيتها، ولابد من مد القارئ دائما بالأخبار الجيدة والصور الأصيلة.
- ومن ذلك، أن يكون لكل باب مهم في الصحيفة محرر خاص، يكتب في الباب، وينقح المقالات والأخبار الواردة إليه من غيره بتحويل من رئيس التحرير، ويكون على صلة مراسلة ببعض المختصين بمواضيع بابه، ويصنع له ملفا خاصا، فيه مستلات من الصحف وصور تخص بابه، ويعطيا لمال الكافي لشراء الكتب التي تساعده على تحرير بابه وتكوين مكتبة خاصة به. أما دور رئيس التحرير فهو الموافقة النهائية على ما يقدمه المحررون له وكتابة الافتتاحية، والحث والمراقبة.
- ومن ذلك: تعيين سكرتير إداري للصحيفة للأعمال غير الصحفية، بل لمراسلة الكتابة وإعانة جهاز التحرير، ولا يصح إرهاق هيئة التحرير بالإجابة على الرسائل وتحرير الطلبات وما أشبه، فإن ذلك يؤثر على أصل إنتاجهم الصحفي.
- ويلحق بذلك: تحديد إطار إخراجي فني للصحيفة، فإن الكلام يفقد نصف قيمته إذا كان محشورًا بلا ترتيب وخطوط وصور، أو كان لكل مقال ذوق خاص في إخراجه، إذ تنعدم الوحدة الإخراجية، وينعدم الانسجام، والله تعالى جميل يحب الجمال، وأودع فطرة الإنسان حب الجمال.
- إن قراء صحافتنا هم من المثقفين الذين يقرأون الصحف الأخرى ذات المستوى الفني العالي، وتخلفنا في الإخراج بيدينا نشازًا مضطربا بين محيط مرتب منظم، ومن اللائق أن نكثر من الصور الفوتوغرافية للحوادث والرجال، والصور الفوتوغرافية الفنية المعبرة عن المعاني، والزخرفة، مع رسوم تجريدية وإشارات رمزية.
- وأهم من كل ذلك: أن تلتزم صحافتنا إمداد القارئ بدراسات عميقة دقيقة، تستعين بالوثائق، وتحتج بالإحصاء وتذكر أرقام صفحات المراجع، وأن تحرص على بلورة الآراء الإسلامية في القضايا الاقتصادية المهمة وأشكال التعامل المستجدة ونشاط البيوت المالية اللاربوية، في رؤية مستقبلية للتخطيط الشامل الذي سيمارسه الحكم الإسلامي القادم، وأن تعرض المزيد من تصورات الحلول الإسلامية لمشاكل العمال، والتصنيع والإصلاح الزراعي، والتسليح، والتربية الثقافية والعسكرية، مع نقد موضوعي للدساتير، والخطط الخمسية للدولة، والمعاهدات وبرامج قرارات المؤتمرات المختلفة، وبيانات الأحزاب، وما من شك في أن هذه الممارسة تقتضي صرف جهود مكثفة، وفي الجامعات ودور التعليم وأجهزة الدولة مهارات إسلامية عديدة، لا يقف دون مساهمتها في البحث والكتابة إلا بعض التنسيق معها والحث لها، وأن من المؤسف أن نرى الأحزاب العلمانية اليوم أبرع في العلم السياسي من الحركة الإسلامية، وأوسع بحثا، وأوفر مصادرًا، وستظل حركتنا أبعد عن التأثير في الجمهور ما لم تستدرك نقصها هذا.
رحاب الاختفاء
وعند افتقاد الحرية: يجب أن يكون تعويل الحركة على الصحيفة السرية كبيرًا، فإنها من أهم العوامل التي تكسب نشاطنا الجماعي جديته، وبها يتم توحيد الأفكار، وفهم السياسة، وتأجيج الحماسة، وتوثيق الرباط بين القيادة والجمهور، والصحف العلنية المجازة مفيدة، ونحرص عليها، ولكنها لا تكفي، لتضييقات الرقابة على طبيعة القول، والاضطرار إلى الكلام اللين غير الصريح، هذا إذا وجدت هذه الصحف، ولكن الكثير من بلاد الإسلامية التي فيها حركة إسلامية قوية محرومة منها، ومن العيب على الجماعة القوية أن تبقي مصلحتها معلقة على مدى كرم الحاكمين وطبائع قوانينهم فإن معظمهم ظالم مكمم للأفواه، بل عليها أن تحتال على طغيان الطغاة، فتصدرها سرية رغم أنوفهم، وبحرف صغير لا بالرونيو، في عملية مرهقة، لكنه ضرورية. وقد يصح التفكير بإصدارها في أوروبا، لجو الحرية السائد فيها، ولكنها ستكون صعبة التوزيع آنذاك قاصرة عن تغطية الأخبار المحلية المهمة، متأخرة في التعقيب على الأحداث، وقد تتعرض مطابعها لمشاكل، إلا أن تكون سرة هناك أيضًا، ولذلك نضطر للتفكير بإصدارها صحيفة سرية في كل بلد بلغت الحركة فيه مرحلة متقدمة.
إن البعض يستصعب هذا الإصدار ويجعل حيازة المطبعة وتشغيلها أقرب إلى المستحيل، وما هو كذلك إذا علت الهمم وأجادت فن الاختفاء، خاصة وأن إصدارها بطريقة الأوفيسيت ممكن بعد طبعها بآلة كاتبة اعتيادية وتصغيرها بالتصوير، إذ لا يزيد حجم الآلة المصورة والساحبة على حجم ثلاجة صغيرة أو مكانة خياطة، والذي يتابع تطور آلات الطباعة يدرك ذلك جيدًا.
ومع ذلك فليس من الضروري إصدارها مطبوعة...
صوت الإسلام الحر
إن اختراع شرائط التسجيل الكاسيت وشيوع أجهزة التسجيل ورخصها وضع في أيدي الدعاة وسيلة عظيمة الأهمية بإمكانهم أن يطوروها إلى عملية الإذاعة، بأن يكتب جهاز التحرير المختص المادة الصحفية كل أسبوع، ويسجلها مذيعون على أشرطة، كل عدد على شريط مدته ساعتان، فيه ما في الصحف ما تعليقات سياسية وأخبار تهملها الصحافة العلنية وتوجيهات فكرية صريحة، ثم يوضع في كل مدينة كبيرة من القطر جهاز استنساخ الأشرطة السريع، وتوزيع آلاف النسخ في القطر، فتدخل كل بيت ومجلس وتنشد القلوب إليها، ويتعمق الوعي، ويحصل التجاوب، وتكون لنا في كل مكان دولة إعلامية داخل دول الفجور.
إنه نفس الجهاز المفترض لكل صحيفة علنية سيكون وراء هذه الصحيفة الإذاعية، من رئيس تحرير رفيع المستوي الثقافي، وأصحاب اختصاص بموضوع واحد يجيدون التحليل يعاونونه، وأرشيف، ومخبرين، ويتخذ للصحيفة اسم معين وأرقام متسلسلة، ويحرر العدد وكأنه يقدم للطبع، ولكن يختصر ويسجل بصوت غير معروف الهوية، حتى ولو أدى خوف انفضاحه إلى اختفائه، ويحسن ذلك، كي تكون نبرة صوته المميزة نافية لشبهة تزوير هذه الصحيفة أو التعديل فيها، ويمكن لإدارة الصحيفة اختصار حاجتها إلى خامات الأشرطة بإعادة التسجيل على أشرطة الأعداد القديمة إذا أرجعها السامعون إلى الدعاة الموزعين لها، وليكون ذلك عونا على قلة النفقات التي يتحملها السامع، وانتبه إلى ما في طريقة التسجيل من تيسير، فإن الصحيفة المطبوعة تضطر الدعاة إلى حمل رزمة منها إلى كل مدينة من مكان صدورها، بينما يكفي هنا إرسال شريط واحد يسهل حمله وإخفاؤه، ويتم صنع النسخ الكثيرة محليا في كل مدينة.
إنها نعمة كبرى هذه الأشرطة، قلبت الموازين، وفتقت على الحكومات فتقا، ليس له رفاء، ولكننا ما زلنا لا نجيد استخدام هذه النعمة نحن معاشر دعاة الإسلام، وبإمكاننا أن نحدث بواسطتها هزة سياسية كبيرة، ونهضة فكرية تربوية معنوية قوية، وبأرخص التكاليف، ولكننا قوم نحب الكسل.
سيقول العجزة من الدعاة إن هذا العمل سيعرضهم لمتابع مع زبانية الطغاة من رجال المباحث والأمن، وعجبا لهم ثم عجبا، كان طريق الدعوة خلا يوما من المتاعب والتضحيات!
قد تكون مثل هذه العملية صعبة في بعض البلاد التي تحكمها الأحزاب الإرهابية، ولكن أكثر بلاد الإسلام الأخرى يسهل فيها مثل هذا العمل، ولا يحتاج إلى عزمة جد قيادية، والتبكير في شراء آلات الطباعة وأجهزة استنساخ الأشرطة واجب، قبل أن تمنعها الحكومات.
ومع ذلك فإن لكل بلد ظروفه، ومرحلته وطاقاته، وهذا كلام عام، وتمنيات وأحلام، والقيادات أدري بجدواه وإمكانه، وقولها مقدم، ومن العدوان والتخذيل أن ينطلق لسان داعية بنقد قيادة تعرض عنه، فإن الأدب معها واجب، والطاعة لازمة والتخيل سهل، و التنفيذ صعب.
المال عصب الدعوات
ولا شك في أن مثل هذا النشاط الصحفي وغيره يعتمد في نجاحه اعتمادًا كليا على رصيد مالي واسع، وبدون الصرف الكافي يفقد المشروع واقعيته، ولكن الاستنتاج المنطقي يفترض أن قوة الصحيفة وقوة الحركة عموما ستفرضان أسرًا على المعطين يشدهم شدًا ويحركهم نحو البذل، ومن أهل الأموال العريضة كانوا أم من فقراء الدعاة الذين ليس لهم إلا مورد شهري ثابت يجودون بشيء منه في ضغط على حاجات إبدائهم، لتنال قلوبهم لذة العزة.
الخلاصة الصحيفة والوكالة الإعلامية الإسلامية
ومن الأعمال ما يمكن أن تتجه له المشاريع الشخصية إن قصرت طاقة الجماعة عنه، ويجعلها أحد الدعاة كعمل تجاري فيه فائدة الدعوة، أو أن تكون المشاركات الفردية زيادة خير على خير العمل الجماعي.
- وتبرز الحاجة في المجال الإعلامي خاصة إلى جهد فردي على نمط تجاري لإصدار مجلة شهرية للدعاة تختص بإعادة نشر المقالات المهمة المنشورة في الصحافة العالمية، عربية أو أجنبية، بتصويرها كما هي دون حاجة لإعادة صف حروفها، وباتفاق مع الصحف إذا تعذر الاقتباس بدون إذن.
فالملاحظ أن دعاة الإسلام تشغلهم أعمالهم الكثيرة في الدعوة عن قراءة المجلات والصحف الكثيرة إسلامية كانت أم غير إسلامية، وفي بعض البلاد تمنع الرقابة أكثر الصحف، فطلبا لارتفاع مستوعي الوعي السياسي والفكري لدى الدعاة هذه المجلة بجرد الصحافة له، واستلال أهم مقالاتها التي تكشف أسرارًا أو تمتاز بدقة التحليل، وقد تعيد نشر مقال باللغة الإنجليزية أو الفرنسية كما هو من غير ترجمة وتكتفي بمقدمة عربية توضح طبيعة المقال، وقد تورد المجلة مقالات من وجهة نظر يهودية أو غربية أو شيوعية طالما أنها مفيدة لتوسع مدارك الداعية المسلم في أبواب السياسية أو التاريخ السياسي أو الاقتصاد أو غير ذلك، وقد يلخص المقال الطويل ويكتفي بذكر فقرات منه.
- وقد تبرز الحاجة أيضًا لمؤسسات إعلامية تجارية تعتني بالبرامج التلفزيونية، وتقدم تمثيليات وندوات ومقابلات، وتغطيه للأحداث غير السريعة الانقضاء، مع اهتمام بتلبية حاجة الأطفال، وبالدروس التعليمية، والتحقيقات الميدانية المصورة.
أهمية فهم كل داعية لدوره
إن هذه الأنواع من النشاط ليست مثالية، ولا هي من البطر الزائد، وإنما هي العرف السائد في أعمال التجمعات الفكرية.
وقد يرى البعض في ذكر هذه الخطط القيادية أمام عموم الدعاة، إثارة لفضولهم وكشفا للأسرار والنوايا، وهي توقعات واردة، ولا نستبعد أن يجنح بعض المستعجلين إلى تدخل فيما لا يعنيهم، ولكن ذكرها يظل ضروريًا، وأرجح مصلحة، كي يعلم كل داعية من أهل الجد وصدق الاندفاع دوره بالنسبة إلى أدوار الآخرين، ويقدر أهمية مكانته من العمل إذا اختارته القيادة لعضوية جهاز من هذه الأجهزة، أو لجنة من هذه اللجان، ولكي يوقن أنه مهم أينما وضع ولأي تبع، وأنه في مجموعة عمل هي كدائرة مفرغة، لا تعرف لها ركنا ولا زاوية ولا طرفا، بل الكل أركان.
([1]) هذا الدين/8.
([2]) تهذيب التهذيب 10/108.
حوافز التطوير
هو الإسلام معركة وزحف.
هكذا رآه وليد([1]).
وإنما هو العامل الحاسم سنة الأنبياء عليهم السلام، كما قال الله تعالى: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأَبْصَارِ).
قال ابن القيم:
(فالأيدي: القوة في تنفيذ الحق.
والأبصار: البصائر في الدين.
فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه)([2]).
فالقوة في تنفيذ الحق طريق إيماني أصيل، ولا يعرف الإسلام علما مجدًا مجمدًا متقوقعًا، تهرب به المخاوف، فتعزله عن واقع الحياة، أو تقيده الزوجات والشهادات.
أو على الأقل: هي أعمال متكاملة مترادفة، من مجموعة متعاضدة فبعض منهم الرأي، والرمي من بعض آخرين. فليس يزيح الكفر رأي مســـدد
- إذا هو لم يؤنس برمي مسدد
وإذا عكست المعادلة: كانت صحيحة أيضًا، فإن القوة تبقي طائشة ما لم يحكمها العقل ويقودها الفكر.
يكون البيان أولا، بل بينات، تهتدي بموازين الرسالات، لعل المسيطر يفقه فيعدل، فإن أعراض واستبد: كان له منا التقويم.
ذلك هو المنهج المرسوم لنا، وليس ثم ابتداع.
قال الله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
قال ابن تيمية: 0فبين سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل وما به يعرف العدل ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد، فمن خرج عن الكتاب والميزان، قوتل بالحديد)([3]).
سواء هي، مهمة الأنبياء في ذلك، ومهمة أتباعهم، بعد البيان فإنما (جعل السيف ناصرا للحجة، وأعدل السيوف: سيف ينصر حجج الله وبيناته، وهو سيف رسوله وأمته)([4]).
الهابطون...!
وقد خرج حكام اليوم عن الكتاب، وأقام الدعاة الحجة.
فمنهم كافر، وكفره أوضح من أن يحتاج لدليل: يحكم بغير القرآن، فهو في كفر أصغر على أقل تقدير، ويعلن بلسانه ومواد قوانينه تحليل الحرام وتحريم الحلال، فهو في كفر أكبر صريح.
ومنهم العجزة الشهوانيون، الذين اجتمعت فيهم كل السيئات، واستبدوا بالأمر من غير مقدرة، وراثة أو انقلابًا.
إن خواطبوا: كذبوا، أو طولبوا: غضبـوا
- أو حوربوا: هربوا، أو صوحبوا :غدروا
على أرئكهـم- سبحان خالقهـم-
- عاشوا وما شعروان ماتوا وما قبــروا
ومثل هؤلاء حجر عثرة في سبيل تقدم الأمة وارتيادها لطريق نهضتها الصحيح، وهم الذين يوجه لهم الاتهام في إيصالنا إلى هذا الحد من العجز أمام العدو اليهودي وغيره، فتغييرهم ضرورة إنسانية قبل أن يكون حكما شرعيا، بما فرطوا، فخططهم الاقتصادية واهية متناقضة، وأموالهم نفطهم مبددة في غير المنافع التي يفترض أن تخصص لها، وهمهم الأكبر منصب على توسيع الاستهلاك دون تصنيع مبرمج وتسليح، ولا سعي نحو الاكتفاء الذاتي، وأما تدميرهم لبقية الأخلاق بالمفاسد المتنوعة والهدم الاجتماعي ومحاربة معاني الجهاد والرجولة فالحال فيها يغني عن المقال.
ومنهم الظلمة، الذين أضافوا إلى ذلك: إفناء دعاة الإسلام، وتشريدهم وتجويعهم، بطرق يفترض أن يتنزه عنها أحط البشر أخلاقا. لكن الصاعدون يعيدون البناء
من هنا كان الخيار أمام دعاة الإسلام خيارا واحدا، لا ثاني له، ولا تنازل عن بعضه: أن يطلقوها صيحة تكبير لله تعالى، تميد لها الطواغيت مضطربة، ويقيموها صلاة تسجد معها الجباه، عنوانا لطريق تربوي يتولى مهمة التغيير...
وتعالى التكبير : يا سدة الأصنــام ميدي، ويا علوج تنـائي
فالصلاة الطهور عالية الأصـــداء
- جوابه.. بكل فضـــاء
هزت الجاهلـي فاهتز إنســانــا
- ثابت العـزم مثل الأعباء
إنه طريق البناء بالصلاة يهز رجال اليوم فيتركون أطوارًا جاهلية تكتنف حياة المجتمع وينتظمون في الدعوة، كما هز رجال جاهلية العرب بالأمس، فإن الإنسان يصيب كمال إنسانيته بدون الصلاة، إذ هي من تمام فطرته، وبها يترك لهو الجاهلية كله، ويشرع في حمل أعباء التغيير الثقال، مثلما يصفو ذهنه، فيكتشف ضرورة حمل السلاح...
فليس تنفع مظلوما شكايته
- إن لم يجالد بسيف صارم خذم
ولو أجاب بغير السيف: لم يجب...
وذلك فهم قديم رواه ابن قتيبة الدينوري عن على بن أمية أول زمن بني العباس، لما آلمه ما هنالك من اضطراب عم فيه:
فناء مبيد، وذعــر عتيـــد
- وجوع شديد، وخوف وضيق
وداعي الصباح، بطول الصياح
- السلاح السلاح، فما نستفيق([5])
فما كان يدري، أيهما أعجب: إيغال الظالم في غوايته، أم مبالغة المظلوم في غفوته؟
بين الاقتحام المرتجل والوداعة الساذجة
هما طريقان خاطئان ننكرهما:
طريق التهور والمجازفة، والتسرع والاختصار، دون تربية ممهدة، ولا بث وعي مساند، فإن مثل هذا العمل لا يقف على أرض صلبة، ولا له احتمال دوام، بل هو الفورة المرتجلة التي ترتفع ومعها أثقال هبوطها، والمفروض في الدعاة أن يكونوا (أعمق فكرًا، وأبعد نظرًا، من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصوا إلى أعماقها، ولا يزنوا نتائجها وما يقصد منها وما يراد بها)، والجماعة (إذا استخدمت قواعد الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال، مضطربة النظام، أو ضعيفة العقيدة، خامدة الإيمان، فسيكون مصيرها الفناء والهلاك)، والقاعدة في ذلك: (أن أل درجة من درجات القوة: قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدها قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعًا)([6]).
وطريق التربية المجردة، الباردة غير اللاهبة، العزلاء المستضعفة: لنا إنكار عليه مماثل، فإن سير الأنبياء عليهم السلام لتنكر هذا الطريق، ولو أنهم نظروا إلى أسلوب قيام دول الشيوعية وإلى مراحل قيام دولة اليهود لأنكروا على أنفسهم قبل إنكارنا عليهم.
ورحم الله الرافعي، ما أفقهه، وأعلمه بطريق الإصلاح حين يقول:
(لو أنك صبغت البحر بملء قارورة حمراء لما صبغت البحر الإنساني بالزاهد والمصلح، ما دام المصلح شيئا غير السيف، وما دام الزاهد شيئا غير الحاكم)([7]).
فلو فرضنا أنك تصبغ البحر الأزرق بلون أحمر بواسطة مجرد قارورة حمراء واحدة، مع استحالة ذلك، فإنك لن تحصل على نتيجة من صلاحك في المجتمع ما دام السيف ليس في يدك، وما دمت بعيدا عن الحكم، إن هذا الأمر مستحيل أكثر من استحالة تبديل لون البحر بمجرد قارورة حمراء.
إنه لا قيمة لزهد وإصلاح بلا قوة تتحرك.
بل اعلم أنك:
متى تجمع القلب الذكي، وصارما
- ووعيا عليا: تجتنبك المظالم
فالجاهلية تستأسد على جماعة الإيمان وتريد الإيقاع بها، ولن يتمكن المؤمنون من دحرها إلا بهذه الثلاثة:
• باجتماع الفراسة السياسية، وهي: القلب الذكي.
• مع القوة، يحيازتها، أو بالتغلغل الصامت، وذلك: الصارم.
• مع الفقه الحركي الرفيع باستعلاء المفاصلة، وذلك هو: الوعي العلي.
فجد وعيا صحيحا لحقيقة المعركة، تحمله قلوب ذكية بعيدة عن السذاجات.
وجدًا صارمًا تحمله سواعد قوية لا تعول على مجرد تقديم المذكرات.
وجد عزة مستعلية، تحملها نفوس أبية لا تخدرها حلاوة الخلوات.
تجتنبك المظالم.
وتعصف بالجاهلية.
إن الدعوات تسرف في الكلام أحيانًا، وترفع المنابر لخطبائها:
تنصح حكامًا ما هم بأحرار ابتداء، ولو أنها سلكت طريق الحزم لكان أسهل لها وأقصر.
ولذلك نبه الإمام البنا جنده إلى طبيعة مستقبلهم، وطلب منهم الاستعداد، وذكرهم بأنهم (سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة)([8]).
الفقهاء ساسة الأمة
لم يبتدع الإمام البنا رحمه الله هذا الاتجاه ابتداعا، ولكنه الفهم الأصيل الأول القديم لارتباط السياسة بالدين واحتياجها إلى القوة.
إنها نظرية موضوعية واضحة كاملة فطن لها الإمام الغزالي فقال:
(اعلم أن الله عز وجل أخرج آدم عليه السلام من التراب، وأخرج ذريته من سلالة من طين ومن ماء دافق، فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام، ومنها إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى العرض، ثم إلى الجنة أو إلى النار، فهذا مبدؤهم، وهذه غايتهم، وهذه منازلهم، وخلق الدنيا زادًا للمعاد ليتناول منها ما يصلح للتزود، فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء، ولكنهم تناولوها بالشهوات، فتولدت منها الخصومات، فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم، واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به، فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات، فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم، لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا، ولعمري إنه متعلق أيضًا بالدين، لكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان)([9]).
وإنما استطرد الغزالي استطراده الأول لبيان اعتماد افقه السياسي الإسلامي على أسس العقيدة، وارتباط مهمة السلطة بمهمة العبادة التي خلق الله تعالى لأجلها الخلق، وليست إشارته إلى تعطل الفقهاء إذا ساد العدل إشارة أسف لفوات مهمة يرتزقون منها، ولكنه لفظ تستسيغه لغة القدماء، ولا يأباه ذوقهم التعبيري، هجرته الأساليب الحديثة، فبدا غريبا.
مدارج الانفتاح هي مراقي الصراع
إن الطابع التغييري لمنهج الدعوة الإسلامية و اعتماده مذهب القوة ينفي نفيا قاطعا استمرار أطوار التشدد في الانتقاء والمساورة لأطول من المدة الضرورية التي يقتضيها التأسيس، فإن سعة العدد، وتنوع الاختصاصات القيادية، ونشر الفكرة، وإصلاح المحيط، وشمول الأساليب والوسائل: لوازم لا بد منها لكل عمل تغييري، يجب توفيرها بمقدار وسط تحت مظلة الانفتاح، كنقلة تدريجية تمنع الهزة وتحفظ الرصيد التربوي أن يستهلك وينفد، ثم بمقدار أكبر وأضخم في المرحلة الأخيرة، في تصعيد ينتهي إلى صراع حاسم، وفق مبادئ عملية موضوعية تعتبر تعميقا أو تكثيفا أو بلورة لذات المبادئ التي لزمها الانفتاح.
ويمكن للراصد أن يلحظ ارتكاز تبرير هذا التطوير الخططي على خمسة مبادئ مترادفة توجبها ظواهر تقترن بطبيعة تطور المجتمعات والحياة السياسية المعاصرة، ثم تجتمع هذه المبادئ لتقر صواب عرض آفاق العمل المستقبلي على عموم الدعاة، مما كان خلال الإطلال الراجي أو رفع نبرات الأذان.
التأمل المستنبط
(المبدأ الأول: تنمية قابلية الاجتهاد القيادي المرن لدى الدعاة
فإن بعض القياديين يخالفنا في أصل القاعدة التربوية التي ابتنت عليها هذا البيانات، ويعتبر ذلك مثل هذه المباحث الخططية لعموم الدعاة عملا خاطئا، يبعث فيهم جرأة على التدخل فيما لا يعنيهم، ويغريهم بطول الكلام، ويلهيهم عن كثرة العمل، مما يجعل تبليغ كل داعية بما يخصه فقط من جزئيات الخطة ومفرداتها أولى وأصح.
ولسنا مع هذا الرأي بحال، فإن مثل هذا الحجر على هذه المعاني هو الذي أدى سابقا إلى ضمور الفكر القيادي عند كثير من الدعاة، وفي ظل طريقة التجرد لتلقي الأوامر القيادية وتنفيذها: نشأت العقلية التقليدية التي تنقصها المقدرة على الاجتهاد واكتشاف المثيل والبديل إذا تغيرت الظروف، وتعوزها نظرة النقد والتقويم من خلال الممارسة العملية.
إن ضمور الفكر القيادي الاجتهادي الحر يكاد يكون مشكلة ملموسة أينما ذهبنا، فعدد الدعاة كثير، ولكن من يملك منهم هذه الفكر قليل، ومعظم الدعاة يقلدون القيادة تقليدًا جامدًا، وينفذون تعليماتها حرفيا.
وقد يصح في بداية عمر التنظيم، أو أيام تخلخل الصف، ووجود الفتن، أن تعود الدعاة سمت تلقي الأمر والمسارعة إلى الطاعة، و تضيق عليهم مجال النقاش، خوفا من الجدل والتخذيل، ولكن أيام الرخاء ينبغي أن تستغل لتعويدهم على إبداء المشورة، ليتأصل فيهم الفكر القيادي، وإلا فإن الدعوة إذا خسرت في المحن قادتها، بقتل أو سجن أو تهجير: كان الجيل القيادي الجديد الذي يأخذ محلهم ليقود لا يعرف كيف يشتق خطة تلائم الظرف الجديد، بل يجمد على الخطة الأولى.
وحتى التنفيذ هو فن قيادي، وليس مجرد حركات ميكانيكية جسدية، ويخطئ من يظن غير ذلك، نعم، نحن لا ننفي أن توسيع دائرة تداول المعاني الخططية يؤدي إلى سلبيات مضرة يغتر معها بعض الإخوة غرورًا، يخرجهم إلى شطط في التعامل مع أقرانهم وقياداتهم، ثم يؤدي بالتالي إلى تطاول لا يقلصه غير الحزم الصارم والإبعاد، ولكن إيجابيات هذا التوسيع تظل دائمًا أكبر وأوفر إذا سيترعرع وينمو الذهن المرن، الذي لا يجمد على حرفية القرارات والأوامر، بل يقارن ويقيس ويحلل، ويربط النتائج بمقدماتها، ويرى إمكانية التفريغ، ويدرك أهمية الشروط الذي يرد كاستدراك على كل تعميم وإطلاق، ليتقدم بعد ذلك بمقترحاته من خلال تقارير ناقدة نقاش في المؤتمرات، ويكون عاملا من عوامل تطور الخطة، أو مجهرا يرصد الفرصة الكبرى أو الفرص الصغرى.
أما المقارنة فهي بين الأمور التي يطلب منه تنفيذها، وبين ظرفه وواقعة، فيكتشف بها ما إذا كانت هناك ضرورة لتعديل يقترحه.
وأما القياس، والتفريغ، فجوهرهما: اقتباس المماثل والقريب و اشتقاق ما يناسب الظرف المتجدد ممن الأمر القديم، أو من خطط بلاد أخرى.
وأم التحليل فسببه أن أي قرار تتخذه القيادة ينبغي أن يكون مستندًا إلى أسبابه المنطقية، وأن ترجو منه نتائج متصورة سلفا في ذهنها، فإذا ضعفت الأسباب المبررة، أو جاءت النتائج مختلفة، متخلفة عن تحقيق الرجاء: كان هناك لزوم العودة إلى بحث القرار.
إن الباب المؤدي إلى هذه الإيجابيات هو أن تسمح للداعية بأن يطل على منظر إجمالي كلي للبناء التنظيمي ولمحاور العمل والنشاط المتنوعة تتيحه مثل هذه المباحث الخططية، فيكون تأمل هذا المنظر وطول التحديق إليه ومراقبة حركته المفترضة معينا للداعية على فهم الأسس النظرية التي يقوم عليها هذا البناء، و تدوم بها هذه الحركة العملية، فيقودها هذا الفهم بالتالي إلى تحفيز مباشر للذهن يلحظ معه النقص فيتمه، والنجاح فيزيده.
المثل في ذلك كمثل الكيمائي الذي يصنع لنفسه نماذج تكعيبية تجسم ترابط ذرات العناصر المختلفة في جزيئة مركب عضوي، إذ أن نظر هذا العالم إلى النموذج بعين التأمل والاستنباط تمكنه من اشتقاق سلسلة إضافات ذرية للجزيئة تنتج منها سلسلة متوالية تكاد أن تكون لا نهائية من المركبات ذات التأثيرات والخواص المختلفة، ويظل يتوسع في اشتقاقاته مع أن أصل السلسلة التركيبية واحد، وقد وسعت هذه الطريقة استعمال الكيمياء العضوية في الصناعة والطب.
فكذلك بسط هذه التصورات الخططية الشاملة أمام نظر الداعية المتفقه، يدربه على التفكير بمثلها، ويكشف له نقاط ترابطها.
أو إن شئت أن تعتبر هذا النظر الإجمالي كمثل نظر فوقي لفهم خارطة مدينة من على برج عال، أو لقائد يري ميدان المعركة ثانية من طائرة لا كجبهة وتضاريس يفترض أن يكون قد رآها في تحليق أول، في وضعها الجامد الساكن، بل ليرى الالتحام وحركة الجيوش إذا حمي الوطيس.
شروق ثم ضحاء
(المبدأ الثاني): إعلان الهوية السياسية للجماعة
وتتحدد هذه الهوية بجملة مواقف وبيانات وتصريحات قيادية توضح للناس رأي الدعوة بالحكومات والأحزاب، وطريقتها في فهم القضايا المصيرية لأمة، ثم تشرح بحوث الدعاة ومقالات الصحافة هذا الإيجاز القيادي، وبدون هذه الهوية السياسية لا يمكن استقطاب الجماهير بأعداد كبيرة.
إن كل بلد إسلامي زاخر بكثرة هائلة من الأشخاص الثقات الذين يرغبون أن يقودهم أحد لتحقيق حكم إسلامي، وما زالوا سائبين حتى الآن لوم تصلهم أيدينا، لا لنقص في شخصيات الدعاة، ولكن الطرق الضيقة والوسائل المحدودة التي تضطر الحركات الإسلامية لأن تلجأ إليها في مراحل التأسيس هي القاصرة عن جلبهم، وهم بانتظارنا، وسيلتحقون بنا عند نزولنا إلى الميدان السياسي واستعمال الوسائل العامة، وسيتضاعف العدد بمدة قصيرة، إذ لا نقص فيها هم أيضًا، وإنما ذاك مقدار فهمهم وهي طبيعة نفوسهم، وسيكون التوسع السريع المفاجئ في عدد الجماعة بعد مدة قصيرة من ممارستها السياسية هو خير وقاية أمنية لها تقلل الآثار السيئة إذا حصلت محنة وأسرف الحكام في البطش، لأن الكثرة الجديدة مقودة بطبقة راسخة التربية قديمة توازيها في السعة أو تكاد، وليسوا مجرد قلائل مقابل جمهرة عريضة تحتاج التفهيم والتثبيت.
إن الناس تريد فهم جريان الأمور بصورة عامة، وتود أن يعينها أحد في اكتشاف أسباب الظواهر السياسية والاقتصادية وتحليلها، وتتطلع لمعرفة الموقف الإسلامي منها، وبعضهم تسيرهم الحاجة الاقتصادية التي عانوا منها ويحسون، بوطأتها، و يفتشون عن مخرج من الضيق السياسي الذي يعيشونه، أو الارتباك الاجتماعي الذي يقلقهم، ومواقف الجماعة وبياناتها يمكن أن تقذف قناعة أولية في نفوس الناس، فينضمون إلى تأييدها في حلها الاقتصادي الذي تطرحه، ويرضون طريقها السياسي الذي تفصح عنه، ثم تتطور هذه القناعة إلى فهم عقائدي وسلوك أخلاقي وارتباط تنظيمي، من خلال قراءة صحفنا ونشرياتنا، وسماع محاضراتنا وخطب حفلاتنا، ومن خلال التعرف المباشر على الدعاة وارتياد مجالسهم.
ولذلك وجب أن تقوم الدعوة بهذه المهمة الشاملة، وإلا فإن الناس ستفتش عن مورد آخر يسد حاجتها أو يرضي نهمها، فيكون تأثرهم بالإعلام الحزبي والإعلام العام، وبما فيهما من تزوير للحقائق وموازين جاهلية، وذلك هو الذي يحصل اليوم، ولسنا نصل يوما إلى الانفراد بتوجيه الناس، ولن يكون ذلك ، إذ لن يزال فيهم من لا يؤمن، ولكنها المنافسة والتقاسم والحفاظ على جمهورنا وتربيته.
نواكب التطور السياسي ونسبق التوقعات
وتختلط على بعض الدعاة أحيانا ظاهرة عدم اكتمال التطور السياسي في بلدهم بظاهرة الانتفاع المصلحي المتبادل بين السلطة ومجموعة المنتفذين و التجار وأصحاب الأموال الكبار ومحتكري المقاولات، إذ كلتا الظاهرتين تؤدي إلى الجفلة من نشوء الأحزاب والخوف من تعميم التدخل السياسي وإقحام الشباب فيه، وإن كان مسلما، فيتلكأ الدعاة في الانفتاح بعد التأسيس مراعاة لهذه الجفلة وحذرا من احتمال حصول إنكار على ممارستهم السياسية من قبل هذه المجموعة.
وذلك صواب متداخل في خطأ
أما مراعاة التطور العام للبلد فصواب وحق، فإن مشاركتنا يجب أن تسند إلى إقرار شعبي عام لها، ولا يصح أن نتجاهل موقف عموم الناس إذا لم يكن وعيهم قد ارتقى إلى الدرجة التي يفهمون بها مبررات صراع الأفكار والنتائج المترتبة على ذلك,.
وأما مراعاة ظاهرة إنكار من ارتبطت مصالحهم بالحكم القائم فخطأ، إذ ليس من المنتظر أن يفهمونا يوما من الأيام، وهم يرون في الإسلامي الحركي خطرًا عليهم كخطر الشيوعية، مع أنهم قد يكونون من المصلين، لكنها الصلاة التقليدية التي لا تنهاهم عن الجشع والظلم، وسيظل هؤلاء يشيعون في مجالسهم كلام الإنكار على الممارسات السياسية حتى ولو كانت إسلامية، ولا يصح أن نجعل إنكارهم دليلا يحدد وقت ومدى انفتاحنا، فإنهم قطاع من الشعب فحسب، وليسوا كلا لشعب، وإن كانوا ينكرون فربما يكون غيرهم من الطلاب وعموم العمال والموظفين يرحبون بهذا التدخل.
ليس هذا من التفكير الطبقي، فإن المشاعر الطبقية يأباها الحس الإسلامي، ويضع بدلها موازين الأخوة الإيمانية والتفاضل بالتقوى، ولكن مجرد صلاة المتنفذ لا تعطيه براءة مما قد يكون اختلط بصلاته من مصلحية وبخل واستغلال، ويجب أن نتحسس الفرق بين ما يطلبه الإسلام وبين واقع المسلمين الواطئ المختلط بشهوات النفوس أو أهواء الجاهلية.
إن بعض الدعاة في البلاد التي تتطور أو في البلاد التي انفتحت فيها الدعوة من قبل وتعرضت لضرب، لو طلبت منهم التفكير بالنزول إلى ميدان السياسة أو العودة لها لاعترضوا بأن الناس لا تستسيغ نزولهم ولا تقبله وتعتبر ذلك زيادة تعقيد يرهق البلد وأهله، ولو جئت وفحصت لوجدت أن هؤلاء الناس إن هم إلا الطبقة المتنفذة والمتمولة فحسب، وتفعل ذلك حفاظا على مصالحها المرتبطة بدوام الحكم القائم، وهم هم الذين أتعبوا الدعاة قبل غيرهم: يمنعوا الزكاة، ويخذلونهم لو طلبوا منهم التبرعات للمساهمة في إنشاء المراكز الإسلامية والمساجد، أو مساندة الثورات الإسلامية في أنحاء العالم المختلفة، إعانة الأقليات المنكوبة، ثم يجشعهم الذي يعطي مثالا سيئا لرجل المال المسلم ودورهم في تصعيد غلاء الأسعار وإيجار المساكن.
يتحدث الدعاة بأن انفتاحهم أو عودتهم للسياسة لا يرتضيها العقلاء!!
ولعمرو الله إنهم لأحرى بلقب الجبناء من أن يظن الدعاة أن هؤلاء هم العقلاء!!
لسنا ننكر وجوب البعد عن المجازفة في انفتاحنا أو في عودتنا بعد الضيق، وعلينا أن نتجنب الصدام الذي لا نقوى عليه و يعرض الدعوة والدعاة لمنحن أخرى ومتاعب، ولكننا نقيس كل ذلك وفق موازيننا الذاتية ومعرفتنا بأنفسنا ومدى قوتنا، ووفق نظرتنا إلى طبائع الخطر المحدق بالبلد عند التأخر في النزول وسبق الملاحدة لنا، لا وفق مجرد نصائح أو مواقف من هو مازال خارج صفنا وينقصه الوعي السياسي والفقه الحركي أو تنقصه الفراسة عند النظر إلى المستقبل، بل من ينقصه خلق التعامل الإسلامي وإن صام وصلى.
إنه رأي مهدر رأي هؤلاء، وليس له كبير دور يوجب مراعاته، وقد كان يظن بعض الدعاة من قبل في بعض الأقطار مثل هذه الظنون، فأبطأوا، فتقدمت الحركات اليسارية والانقلابات العسكرية، فسحقت طبقة أهلا لأموال وآخرين يسمون أنفسهم العقلاء، ولو أنصفوا لرحبوا بنا وتقبلوا عدلنا وإسلامنا وسمتنا الوسط بدل أن تسحقهم الفورات الهوجاء والثورات الدموية، لكنهم قوم يجهلون.
إن سنة التطور الطبيعية لكل بلد كما أنها تقتضي عدم التسرع أو التهور في إعلان الحركة الإسلامية عن نفسها فإنها تقتضي أيضًا عدم الإبطاء، وفقا لموازنة مصلحية تتقبل التعرض لبعض الأضرار من أجل دفع الضرر الأكبر، فإن قطاعا لمثقفين يزداد باطراد، وقطاع التقليديين ينحسر، ولا ضرر على من أعد عدته وأتقن التأسيس أن يمارس السياسة، إنما البأس على من لم ينظم جماعته ولم يتقن التربية، والمظنون أن الأحزاب العلمانية لا تقبل منا التدرج وستشرع في معاداتنا والتضييق علينا متى ما أحست خطر وجودنا على مستقبلها، وفي هذا الاحتمال ما يحملنا على خوض المعركة التنافسية معها باختيارنا وتوقيتنا نحن بدل أن نجر لها مرغمين، وأن نأخذ موقف المبادأة والهجوم بدل أن نظل مدافعين، والأيام سجال، والابتلاء بالأنفس والأموال لا مفر منه ولا فكاك، ومن يمت في أيام الصراع ليس بأكثر ممن سيموت في أقبية السجون تحت سياط التعذيب أو أمام المشانق إذا سبقنا الملحدون، بل ولا اكثر ممن سيتساقط منا برصاص الطيش في الشوارع وأمام بيوتنا ساعة قفز الهادمون،وهذه بلاد الأفغان تروى كيف شهدت الساعات الأولى من اليوم الأول للانقلاب الأحمر مصرع أكثر من عشرين ألف مسلم من خيار الناس وعلمائهم ومثقفيهم في العاصمة ومختلف المدن.
ولا شك أن إعلان هويتنا السياسية يجب أن يصحاب أيام الانفتاح الأولى، بل هو العلامة المميزة للانفتاح، ولكن هذا الإعلان يراد له أن يتطور في مرحلة التصعيد وخوض الصراع ليقوم بمهمة تأكيد الطبائع التغييري للدعوة، برفض الواقع الموجود، ودعوة الناس للرفض، ثم بطرح برنامج مفصل بديل يفترض عجز الحكومات القائمة عن تطبيقه لعدم صلاح رجال جهازها، وضمور خلفيتهم الإسلامية، وبرود مشاعرهم الإيمانية، فتجتمع هذه الحقائق اللاصقة بشخصياتهم لتؤسس قناعة بضرورة تطبيق هذا البرنامج بواسطة الدعاة أنفسهم وبأيديهم مما يحتم إقصاء العجزة أو الحجر على الفجرة، ليتولى الدعاة أمر الأمة.
إن هذا المنحى التغييري يجب أن ناجي له في إطار من المفاصلة للحاكمين والاستقلالية عنهم إذا أردنا ضمان استجابة الناس، لئلا يفهم هؤلاء الناس وجود الصلة مع الحاكمين تنازلا منا وتزكية لهم ورضي بحلول وسط.
إن على الحركة أن تترجم سياستها التغييرية إلى مجموعة متواصلة من المواقف الناقدة الصريحة للحكم القائم، وفي مفاصلة معه، وعلى رجال الحركة وقادتها أن يتجهوا إلى الشعب، يعيشون معه ويعلمونه، لا إلى زيادة الحكام وبذل نصح لهم لا طائل وراءه وأقصى منافعه أن يلهي الحاكمون دعاة الإسلام لفي أ‘مال إسلامية ثانوية لا تقلق عروشهم في ادعاء من الاستجابة الماكرة للنصح.
هذا هو مذهب الإمام البنا رحمه الله، بينه صريحا في المؤتمر الخامس، وأوجب استقلال عملنا عن الحكومات، وجزم بأننا: (لن نعتمد على الحكومات في شيء، ولا تجعلوا في تربيتكم ولا منهاجكم ذلك، ولا تنظروا إليه، ولا تعملوا له، واسألوا الله من فضله، إن الله كان بكل شيء عليما).
نعم، هاهنا بعض الاستثناء الذي لا يمنع الإقرار به ما عندنا من فقه العمل.
منه: أن تكون بعض هذه الإصلاحات التي تنتج من الوعود الحكومية مفيدة ومجدية، وتحقق بعض المقاصد المهمة لخطتنا، ولا بأس حينذاك من طلبها وإقامة صلة بالحكومة، ولكن يجب أن تكون بواسطة دعاة غير معروفين ليسوا من القادة، لأن الناس لا يفهمون مثلنا هذا البعد التخطيطي لهذه الصلة، بل يعتبرونها مواطأة ومهادنة ومداهنة وارتياد مصالح شخصية، ولقد حوربت الدعوة من قبل في بعض البلاد بحملات ظالمة من الإشاعات الحزبية التي تتهم الدعوة بمماللأة الظالمين، وصدقها الناس بقرائن هذه الزيارات، فإن الداعية لقيادي يذهب داخلا عليهم ويعظهم أبلغ الوعظ، ولكن الناس ليسوا معه ليسمعوه، فيأخذوا بظاهر الفعلة.
ومنه: أن تكون الدعوة في مراحلها الأخيرة ولها من القوة والانبثاث الشعبي المقدار الكبير، فيكون قادة الجماعة في مرتبة مكافئة موازية للحاكمين، وبياناتهم وتصريحاتهم مشهورة، فلا ترد الشبهة ولا تحوم حولهم، بل تكون زيارتهم أشبه بالمفاوضة لانتزاع الحقوق انتزاعًا.
ومنه: أن يكون الحاكم غير خائن، ولا دليل على ارتباطه بالدول الاستعمارية، ولكنه صريع أوهامه العلمانية التي يؤيده فيها حزب أو قطاع من الناس واسع، فتكون الزيارة غير مشبوهة.
ومنه: أن يكون الحاكم رجلا عسكريا، ساءه تدل الأجانب فسياسة بلده فأحدث انقلابا وحكم بدافع الإخلاص، ولكن ذهنه يخلو من التصورات العقائدية المحددة وليس له انتماء حزبي معين.
فمثل هذا الاستثناء لا بأس به، وفوائده أرجح بلا شك.
ويمكن أن يقال: إن طبيعة صلة الدعاة بالحاكمين لا تحكمها قاعدة من التجويز أو المنع، وإنما هي صلة يكون الرأي فيها نسبيا تبعا لردود فعل هذه الصلة والزيارات لدى الناس، فتضييق جدًا إذا ثارت الشبهات لديهم، سدا للذريعة، وتتسع إن خلت من الأضرار أو رجحت إيجابياتها، كمثل الاستثناء الذي أوردناه.
إلا أن هذه النسبية النظرية لا تنفي واقعا مشاهدًا تعيشه الدعوة الإسلامية يدعوها إلى اليأس من الحكومات القائمة اليوم جميعها، ويحثها أن يكون هذا اليأس سمة واضحة في منهاج عملها في العالم أجمع، وهذا بدوره يؤدي إلى ترشيح نفسها أمام الشعب في كل بلد على أنها هي البديل، فتطرح برنامجا شاملا لمواقفها السياسية من قضايا الأمة المصيرية، وللنظام الاقتصادي الذي تنوي بناءه، وللإصلاح الاجتماعي والتربوي والخلقي الذي تريد إجراءه، ثم تناشد الشعب أن يتلف حولها ويؤيدها لتغيير الحكم القائم ووضعه في أياديها الإسلامية، بالانتخاب والطرق السليمة إن عقلت الحكومات القائمة ووفرت الحرية، وإلا فبالانتزاع إن أبت الحكومات الإنصاف وضيقت، ويتسع هذا السلوك الحركي الإسلامي أو يضيق ويسار به تبعا لمدى قوة الإرهاب الجاثم وتسخير حزب لحماية الطاغية المتسلط أو عدم ذلك.
بيد أن الصلة بقيادات الأحزاب الأخرى والتكتلات الفكرية تختلف عن الصلة بالحاكمين، ونراها ضرورية مهما كانت مبادئ الأحزاب بعيدة عن الإسلام، فإن اللقاء المباشر قد يمنع حدوث المشاكل أساسا، أو يعين على فهمهم للحقيقة مواقف الدعوة، أو يمنعهم من التطرف، وليس عيبا أن يجمع الداعية حين اللقاء بين الصراحة التامة والجهر بالتخطئة، واللفظ اللين، وأن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر الذي يقترفونه اعتقادًا وعملا، ونرى أن يتكرر هذا اللقاء من قبل عدة طبقات قيادية مع من يوازيهم، على مستوى القيادة العامة وقيادات المناطق وممثلي الطلاب والعمال، ثم لقاء نوابنا في البرلمان مع نوابهم، وأدبائنا مع أدبائهم.
ومن فروع هذا المسلك: أن نؤسس لجنة إعلامية مصغرة تقيم صلة تزاور وبحث سياسي مع كافة الصحف في البلد وعلى اختلاف اتجاهاتها، ما لم يكن بعضها مشبوهًا فنجتنبه، ومع رؤساء فروع وكالات الأنباء العالمية في البلد، ذلك أن مثل هذه الصلة قد تقذف فيهم نوع حياء يمنعهم عن غمزنا بالباطل، وقد تنشر هذه الصحف والوكالات بياناتنا السياسية وأخبار مواقفنا فيعينوننا على التعريف الواسع بهويتنا.
إنهم يحبون الله ورسوله
(المبدأ الثالث): التساهل في شروط العضوية وعلانية النشاط.
فإن تجميع الجيل التنفيذي الواسع العدد لا نحصل عليه بدون بعض التساهل في الانتقاء، وبعلانية تتجاوز مجرد الصلات الثانوية إلى استخدام الوسائل العامة.
ففي مرحلتي الانفتاح والتصعيد نقبل في جماعتنا نصف الذكي، ونصف الشجاع، والساذج المتعبد الذي لا يحسن السياسة، والسياسي اللبق الجاف القلب، والأقل كرمًا، والمتزوج بسافرة، وصاحب الزهو، ما داموا يقيمون فروض العبادة، ويلتزمون فكرنا إجمالا من دون أن يعني هذا قبول المسرفين في الضعف.
ويجفل بعض الدعاة لمثل هذه الجرأة في التصريح باحتمال الضعفاء، ويطيلون لسان المحاضرة في وجوب التشدد وفوائده، ووجوب المبالغة في المسارة، لكنهم لا يذكرون لنا الموضع الذي سيصلونه بهذا التشدد وهذه المسارة.
إنهم لا يدرون أنهم سيبقون يراوحون في مكانهم سنين عديدة، لا يتوسع عددهم إلا قليلا، فتسبقهم الجماعات الأخرى والأحزاب المعادية، لأن الجمع بينا لسعة والتشدد لا يمكن أن يكون أبدًأ مهما اشتهوا واستطالت أمانيهم، كان ذلك قدرا مقدورا عليهم ما هم بخارقين حدوده ولا نافذين من أقطاره مطلقا، فإن الله تعالى خلق الأذكياء والشجعان الكاملين قلة إزاء كثرة ضعاف، والناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها رحلة، ومعنى التشدد أن تحوز هذه النسبة المئوية القليلة وتجمد عليها، ويأسرك القدر، في حين يناديك ميزان الترجيح بين المصالح بالحرص على مصلحة الإسراع ودخول السباق ويريك إياها أكبر من المصالح التي يجلبها التشدد، مع ما في ذلك من احتمال نكوص البعض والانحراف وتوليد المتاعب، فإن في فوات الفرص تعبًا أكبر، ولعل مواعظنا، وأيام العمل، ,حيثيات مشاركتهم لنا، تربيهم وتكمل لهم نقصهم وتنتشلهم من عيوبهم.
إننا لا ننفي أهمية التشدد في الانتقاء، والتأني في التوسع، والبعد عن الانكشاف، بل نحن دعاة هذا الفقه، لكننا لا نريده سمتا صلدًا يهمل المنطق، فإن هذه القواعد ضرورية كلها أيام التأسيس الأولى، وأما بعده فإن الانفتاح يقتضي مرونة بمقدار أوسط، ثم مرونة كاملة أيام التصعيد، ولابد من نظرات نسبية ومراعاة للأحوال الخاصة وللأدوار المرحلية ولحكم الطاقات المتوفرة والمطلوبة.
لسنا ننكر أننا قد فحصنا تاريخ الدعوة ورأينا، وحللنا التجار فهزت أكتافنا، وأقنعتنا بأن من الخطر أن نطفر طفرة في العمل نتجاوز بها المقدمات الضرورية للعمل الجماهيري العام، بل لا بد من انتقاء حذر أولا للجيل المؤسس بشروط صعبة، ثم لا بد من تربيته، ثم لا بد من توسيعه وبثه في المرافق وتدريب الكفايات الاختصاصية وتشكيل اللجان المكملة للمجموعة القيادية، كل ذلك قبل التصدي للتجميع الجماهير الواسع بالشرط المتساهل أو النزول السياسي المتحدي.
إن التشدد أصل في التأسيس، أما في أيام الانفتاح الذي يليه فتتصل بالجميع، ونبذل الحب لكل المسلمين، وأيما امرئ وجدنا فيه شعبة خير: اقتربنا منه وكلأناه برعايتنا، مهما كان خيره صغيرًا فإن المخالطة تنميه، والتشجيع يربيه، وتوفيق الله تعالى من قبل ومن بعد يبارك فيه، ولعلك لا تدري في أوائل أمورك أين تكمن العناصر الإيجابية القيادية وأي القلوب تحتل، والفراسة الصحيحة تقودنا إلى أن نترقب هذه الإيجابية في الشجاع القوى الشخصية اللبق الدائب، ولكن تاريخنا يحفظ قصصا كان الدعاة يرون فيها شبابا يرتادون منتدياتهم بصمت وهدوء أزهدهم فيهم، فإذا بتصعيد الصراع يدفعهم لبذل وتحرك قصر عنه كثيرون، وأبانت الأيام، أيام التحدي، عن تجرد في أصل كيانهم لم يفتعلوا له الإظهار المبكر، وكأنهم كانوا ينتظرون.
اتصل أيها الأخ الداعية: ثم اتصل، ووسع دائرتك، ثم وسع، وجالس وامتزج واختلط وشافه، وافرح مع أهل الأفراح، وأظهرا لمواساة للحزين، ثم جالس، واصنع مجتمعًا ممتدًا عريضًا من حولك، ولا تضيق عليك الفسيح، واترك التفتيش عن عيوب الناس ونواقصهم بالعدسة المبكرة والنبش والتقليب، بل استر وأقبل وتجاوز واعف عم اسلف، ثم ليس يضيرك بعد ذاك أن تنتقي من هذا المجتمع الواسع الذي اتصلت به رجالا بشروط صعبة وتدقيق لتكون منهم مجتمعا قياديا أخص وأضيق، هو أمتن، وأفقه ، وأطول نفسًا، وأبعد صبرًا.
إن الإسلام علانية، والدعوة علانية، نتكلم على رؤوس الأشهاد، ونظهر أنفسنا في كل ميدان، وذلك الأصل.
نخطب ونكتب، ونتصل بالناس وبرجال الأحزاب، وبالحاكمين بأسمائنا، مباشرة صراحة في غير ما اختفاء، وما السرية عندنا غير استثناء تقتضيه الظروف الصعبة كإجراء وقائي إزاء ظلم الحاكمين وإرهاب المخالفين، فيسار المستهدفون بقتل أو سجن طويل، وهم القادة في الأغلب وطبقة المسؤولين، وهم الأقل، وأما عموم الدعاة فهم في ساحات العمل ماضون، وقد يشاركهم القادة في أغلب نشاطهم، خطابة، ومحاضرة، وتأليفا، ولكن من دون ذكر صفتهم القيادية.
ولربما اقترح البعض حلا يظنه وسطًا ومحققا للمقصود، فيري أن لا بأس بأن يكون هذا التوسع، ولكن من دون أن نقبل الضعفاء أعضاء، بل نبقيهم يدرون في فلك الدعوة مؤيدين ومناصرين حتى في مراحل العمل الأخيرة.
ولسنا نرى ذلك، لأن هذا الحل يفترض إمكان تحصيل الجماعة واستثمارها لطاقة الضعفاء دون أن تقذف في نفوسهم محركات نفسية ومعنوية للبذل الزائد تنتجها صفة العضوية وطاعة الأوامر المترتبة عليها، والذين نظنه أو ثلث أو ربع طاقة الفرد فقط يمكنك أن تحوزها إذا كان سائبا لا يدفعه للعطاء غير الشعور الإسلامي العام، وأن الارتباط التنظيمي يرفع نسبة الاستثمار الممكن رفعا عاليا، ولكن الحل الوسط فعلا هو في جعل العضوية درجات وطبقات، وإبقاء هؤلاء في درجاتها الدنيا، وبذلك نمنع احتمالات تسربهم إلى المراتب القيادية مع استغلال إمكاناتهم في نفس الوقت، ولا نمنح بعضهم صفة العضوية العالية الدرجة إلا إذا آنسنا منهم رشدًا، ورأينا تأثير تربيتنا فيهم.
ويتخوف آخرون أيضًا من الكفاية القيادية الفطرية التي يحوزها بعض الضعفاء في الصفات الإيمانية، فإن الفرد العادي الضعيف يمكن احتماله واستثمار طاقته، لأنه سيكون تابعًا، أما أمر القيادي الضعيف فإنه مشكل وأضراره أكبر.
ولسنا نرى ذلك مرة أخرى، فإن قادة داخل التنظيم ووجوهه الظاهرة كلهم ثقات من نتاج أيام التشدد، وأما هذا الجديد الذي يحوز بعض الكفاية الفطرية فإن ميدان عمله خارج المجموعة القيادية لقديمة الموثوقة، وليس للجماعة مزيد إظهار له يستغله، بل كل ما في الأمر أنها ربطته ووضعته في المكان الذي يستحقه بتقديرها، فيأتي نجاحه في استغلال كفايته القيادية محصورا في دائرة الجمهور الخارجية وهي دائرة لا تضر أصل الجماعة إن حملها على الافتتان معه، بل يغطي عليها ثبات الأصل ووفاء الجماهير الأخرى المتأثرة بغير هذا المفتتن، وكل ما يروي من القصص التي يستشهد بها المستشهدون لمناقضة أقوالنا هذه إنما هي قصص لا تصلح حجة وقرينة، إذا كان استعمال هؤلاء الضعفاء فيها دون وجود طبقة قيادية موثوقة أصيلة كونها تشدد الشروط في أيام تأسيسية طويلة.
إن من الدعاة من يرى أن التوعية التي سيتيحها التنظيم لمثل هذا العنصر ستجعل منه قائدًا منافسا، ولكن الذي نعتقده أن القابلية الشخصية الفطرية آكد، وأن التربية تحسن مقدرته فحسب، ويجب أن يدور بيننا سؤال عما إذا كان من الصواب أم لا أن نربط بنا العناصر ذات الكفاية القيادية المتواجدة في المجتمع العام، ولو كانوا ضعفاء في الجوانب الإسلامية الخاصة.
إن هناك من يستطيع أن يبدى أفعالا ويتكلم كلاما يقود به أهل بيته وأصدقاءه وبعض طلاب مدرسته أو كليته أو عمال معمله، فأي الحالتين أحسن: أن تربطه بك مع ضعفه، أم تهمله فيقودهم بطريقته ولمصلحته، أو يسرع إليه حزب آخر فيربطه ويستثمر قابليته؟
الصواب الذي نراه أن نستقطبه نحن ونحل منه ومن أتباعه على نصف طاعة خير من أن يكون هناك خطر انفراده أو معاونته لغيرنا =، لأنه سيؤدي دوره القيادي بحكم فطرته الذاتية، شئنا أم أبينا، وأما الأضرار الأخرى المتمثلة بنصف العصيان فإنها لا تجرد بدن الجماعة ولا سمعتها، إذ أن الجماع قد أحاطت وجعلته في حواشيها البعيدة وأطرافها، وأما مركزها والقلب ولجانها فليس فهم إلا الثقات القدماء، وخروج أحد من الجماعة مثل هذا في أيام توسعها وقوتها وسمعتها العالية ليس له من الواقع السيئ ما يوازي أسواء الخروج أو الافتتان أيام تأسيس الجماعة لما يكون عددا صغيرًا وذكرها ضامرًا، بل ولا ربع تلك الأسواء ولا عشرها، ولو كان بعض الضعفاء لبعضهم ظهيرًا.
سلالة القصواء باقية
ويطيل بعض المعارضين أنفاسه في هذا الموضع، فيورد اعتراضا مبنيا على افتراض وهمي، ويدعي أن أيام الانفتاح وما فيها من صدام ستستهلك بعض الجيل القيادي الأول، قتلا أو سجنا أو تهجيرًا، وسيكون الاستدراك عند ذاك مقصورا على التعويض عنهم برجال من نتاج مرحلة التساهل، فنكون قد عملنا على خلط المجموعة لاقايدية بضعاف وفي ذلك خطر.
ولا ينبغي أن يستعجل المرء فيأخذ بظاهر هذا الاعتراض، فإن أصحابه يتجاهلون بقاء واستمرار توارد الثقات إلى صف الجماعة في مرحلة التساهل أيضًا.
إن مرحلة التساهل لا تعني أبدًأ أن تحث القيادة الدعاة على ترك من يصادفونهم من الثقات، وتطلب منهم الحرص على الضعفاء فقط، فإن ذلك منطق أعوج لا يقول به أحد، وكل ما في الأمر أن الحرص على الثقات مستمر على أشد، ولكن الناتج العددي لهذا الحرص ضئيل، لقلة الثقات في المجتمع، فيكون تكميل النقص وتوسيع العدد بالتساهل، ويبقى ثقات مرحلة التساهل هم اللبنات القيادية التي تصلح لتعويض الشواغر القيادية التي يسببها الانفتاح ثم الصراع.
كلمة الشعوب أعلى
إن نظرية العمل اليوم يجب أن تنبني على طريقة الاستقطاب الجماهيري الواسع والتغيير بالضغط الشعبي الذي يولد انفلاتا في مقاييس وحسابات المسيطر الحاكم، فإن هذه الطريقة هي الطريقة المثلي التي لا تبلي، كانت منذ القديم، وأكدت صوابها ثورة إيران، وستظل هذه الطريقة تعبر عن قمة التطور السياسي، لأن التفاف أكثرية الشعب حول مطالب واحدة وسيرها في اتجاه واحد يعني أن الإرادة الجماعية تغير بحق إرادة الأقلية أو إرادة الفرد.
أما طريقة الانقلابات العسكرية فإنها مشرفة على نهايتها، لأن الحياة السياسية تتعقد، وكانت الانقلابات تنجح في البلدان الصغيرة التي لم يكمل تطورها السياسي، وحيث يكون الجيش ناشئًا ضعيفًا.
وهذه الحقيقة تؤكد مذهب التوسع بالشرط المتساهل وما بنينا عليه من الخطط ومهدنا له من مدارج النشاط، ما دام لهذا المذهب مثل هذه المرحلية المتدرجة والشرط المتشدد في التأسيس، وهكذا يكون ذكر هذه الرؤى المستقبلية الراجية ضرورة، لما فيها من المساهمة في توجيه العمل الحاضر وضبط وجهاته.
إن الفرق بين مبدأ إعلان الهوية ومبدأ التساهل يكمن في أن إعلان هويتنا من شانه أن يجلب لنا الثقات الذين قصرت وسائل الاتصال الشخصي عن جلبهم فتضاعف بهم جمهرتنا القيادية، وأ/ا التساهل في الشروط فيجلن لنا أنصاف الثقات الذين لم نكن لنرضى أول مرة بقبولهم لو جاؤونا، فيتضاعف عددنا مضاعفات عديدة تمكننا من ممارسة الضغط السياسي وحيازة أداة التنفيذ، إذ أن منطق رعاية المستقبل وإدراك مصاعب ما بعد الوصول يسوغ للدعوة الحفاظ على بعض العناصر القيادية لتتم مهمتها كاملة، فإن المسلم القيادي الكامل عزيز المنال، وليس من الحكمة أن تعرض الجمعي لمخاطر التنفيذ، لا خوفا ولا جبنا، وبل لا بد من ادخارهم لأداء فنونهم، وقد تقدم الدعوة بعض قيادييها رأس نفيضة أمام الصفوف، وتجعلهم يتصدرون جموع التنفيذ ويلقنونها الخامسة عمليا، ولكنها في الوقت نفسه تحتفظ بالآخرين في المؤخرة، وفي حالة من المسارة، ليواصلوا مسيرة التطبيق.
ينوب العيان عن شهادة الأعيان
(المبدأ الرابع): التكيف الاختصاصي والتوسل الشامل
فإن هناك بلدانا في العالم الإسلامي بلغت مرحلة متوسطة في التطور السياسي والفكري جعل عموم الناس فيه تبعا لذلك في مواقف متوسطة، ليسوا على سلبية المرحلة القديمة والسذاجة التي تصاحبها، وليسوا في النضوج والإيجابية الكاملة، وجعل المفكرين أيضا في حال وسط، ليست الديار خالية منهم خلوا يوجد مجال تقليد من في البلاد الأخرى، ولا هم على مقدرة كبيرة ووضوح تام وبلاغة كافية. حتى الحكومة كذلك، ليست بالهينة اللينة على نمط الأولين، ولا هي ذات جبروت ومشانق ومقاصل وإرهاب كثيف.
في هذه البلدان، وفي البلدان الأخرى المتطورة التي زال عنها حكم إرهاب طويل عنيف: نرى حدوث ظاهرة تعدد الصيحات والمبادرات والتصديات، داخل كل معسكر سياسي فكري، ولا نعني تصارع القوى المختلفة والاتجاهات المتباينة أو تقاسمها للساحة، بظهور اتجاه إسلامي وآخر يساري، وبينهما جمهرة تقليدية مخلطة كلا، فإن اختلاف طبائع الناس يجعل ذلك نتيجة حتمية، وإنما نعني التجمعات والرؤوس القيادية والمحاولات ووجهات النظر داخل كل معسكر، فهي متعددة بين أوساط دعاة الإعلام، متعددة بين اليساريين، وربما في المعسكر التقليدي بتعدد أكثر.
ومما لا شك فيه أن هذه الظاهرة تترك آثارًا سلبية عديدة على العمل الإسلامي، ويظن من لا خبرة لهم أن العلاج يكون بإسداء النصح والموعظة والتحذير من الفتن والدعوة إلى توحيد الجهود وتحسس خطر العدو، ولكن التجريب أفاد بأن هذه القضية أبعد وأعقد، ونطقت الدروس العملية بأن المسلك الإيجابي المهم في ذلك يكمن في ارتقاء إحدى الجماعات الإسلامية العاملة باجتهاداتها وأساليبها، في شمولية مستقصية، وتمتين تنظيمها، والمبالغة في ضبطه، وتجويد تخطيطها وإثراء مواردها وإسناده إلى لجنة قديرة، مع تدقيق في التربية التخصصية التي تتيح تقوية اللجنة السياسية وغيرها من اللجان الصحيفة والثقافية والإعلامية، فتكون محاسن الجماعة وعوامل قوتها الذاتية أسبابا تقنع جمهور المسلمين بأولوية إضافة جهودهم إلى هذه الجماعة، ويأسرهم ما هي عليه من حزم وشمول وتخطيط دقيق ورأي عميق، فتستقطب العاملين، وتضمحل الجماعات الأخرى تلقائيا.
إن حديث المطالبة بوجود لجان للتخطيط والسياسة والإعلام في البناء التنظيمي للحركة يبدو وكأنه فضيحة تكشف إيغالنا فيا لتخلف والبدائية، إذ لا يوجد حزب أو كتلة ولا ثورة ولا منظمة فدائية إلا ولعملها اعتماد أساسي على هذه اللجان، بل إن الشركات التجارية الكبيرة تجعل أمر تخطيط برامجها ودعايتها موكولا إلى أقسام مختصة، فكيف بالحركات؟
هون عليك فإن الأخيار كثار
إن دروب التصعيد التي نريد للمؤذن والراجي أن يرياها تعتبر سلما لهذا الارتقاء المنشود، ولكن بعض الإخوة يستصعب سلوك هذه الدروب، ويستبعد توفير دعاة وعاة بعدد كاف للعمل في هذه اللجان المختلفة والاختصاصات المتنوعة، ولتنفيذ هذا النشاط المرهق الواسع.
ولسنا مع هؤلاء في اتهامهم لأنفسهم، وإنما هو تشاؤمهم هم فحسب، وعجزهم، والكسل.
لم تضعيف هذا الرهط الزكي؟
نحن ثقات إن شاء الله، والله المزكي، ونظن بأنفسنا خيرًا، وفينا أذكياء وعقلاء، وعددنا أكثر البلدان وافر فلم الانسحاب؟
كلا، بل نوزع أنفسنا على العمل، ونظل نتدرب مدة، ثم نخط ونقود، فإذا اغتر مغتر: نصحناه، فإن لم يتعظ: تركناه.
نعم التدرج واجب في تأسيس طبقات المسؤولين ليتم الحزم، وتتوفر الطاعة وينعدم التطاول، ولكن الإسراف في تصور هذا التدرج لا يصح، والإبطاء مضر، والوسوسة معيقة.
كل من في ساحتنا يصلح لأن نستعين به في شعبة من شعب الخير الواسع وفي جهاز ولجنة إذا مضت على ع لاقته معنا سنوات، لا نستبعد غير قلة ممن أوهمهم الزهو أو نقصهم الذكاء، وأما نقص الخبرة وقلة العلم وضيق الدربة العملية فإنها قابلة كلها للنماء.
ستظل تنتظر الكاملين لتبدأ بهم توسعك القيادي، لكنهم لا يأتونك، لأن الكمال لا ينمو في الفراغ وبلا محفز، والمسلك الصائب يكون في أن تأخذ المجموعة بعد المجموعة، مستدلا بالفراسة وبمراقبتهم في السنوات الأولى، ثم تشرع في تكثيف تربيتهم، وتأخذهم بالجد الزائد، وتلقنهم التجارب، وتبذل لهم علمك الخاص، حتى إذا تخرجوا بنجاح: دفعت بهم إلى مراكز تربية الآخرين، وعضوية اللجان، لتكمل صياغتهم ودربتهم من خلال المعاناة.
إن هذا التوسيع للطبقات الاختصاصية وتسليمها الأعمال لا يتنافى مع قاعدة عدم الاستعانة بأحد قبل تأكدنا من كونه صاحب كفاية، فإن صحة هذه القاعدة لا تبرر المبالغة في التدقيق، فتفوت الفرص إذ نحن في تفتيشنا وتنطعنا ماضون، والتوسط مظنة الصواب دائمًا، نتحرى، ونتمنى، بلا إفراط ولا تفريط، وإذا كان من الواجب أن نتشدد في الانتقاء في بداية عمل الدعوة لتأسيس الطبقة القيادية الأولى، فإن من الواجب أيضًا، أن تتوسع في حسن الظن بالدعاة إذا أردنا تكوين الطبقات القيادية اللاحقة، والبقاء على الوتيرة الصلبة يأباه منطق السباق السياسي.
وكأن أهم سبب يحدو بالمتشددين إلى التشدد الدائم هو أنهم يفترضون بدء اللجان وجماهير المختصين بالعمل والإنتاج فور اختيارهم، وهم يرونهم دون مستوى الإنتاج المرجو، فيحكمون عليهم بعدم اللياقة، ويوجبون على الجماعة فترة انتظار أطول.
كلا، ليس هذا هو أسلوب الارتقاء أو التنافس مع القوى الأخرى، بل ننسب من أتم التدريب الأولى وحاز العلم الضروري إلى لجنة أو نسمي له اختصاصه، ونتيح لهم مجال المطالعة واصطياد الخواطر والتحاور والتأمل والسياحة والمبرمجة، وقد تطول المدة أكثر من سنة أو سنوات بين بدء التنسيب وبدء الإنتاج.
شمول الوسائل يمد شمول الأفكار
هذا تكيف في داخل الجماعة، لكنه لا يكفي، بل لا بد من تكيف آخر يتناول وسائلها التي تقيم بها علاقاتها الخارجية، فيتم تنويعها والابتكار فيها، لأن الناس طبائع متنوعة، فالبعض تأسره بالكلام المجرد والبعض تأسرهم المواقف العملية، وغيرهم تمتزج أرواحهم بأرواحنا من خلال أشواقهم الثورية إذا قدمنا لهم منهج تغيير شاملا، فيضاف بعض الوسائل إلى بعض ليحدث الزخم الشديد، بأن يكون كلام الخطيب مسندًا بمقال الصحفي ومردفا بقصيدة الشاعر وتذكرة الواعظ، في تجانس ووحدة توقيت، لتستغل كل ذلك لباقة الداعية مع جلسائه ومعارفه ثم ينمي آثارها بالمواقف والتثقيف.
هاذ هو طريق العمل الجماهيري الصحيح، ولا ينبغي الاكتفاء بأن نطلب من الداعية أن يكون جماهيريا، فإنه لن يكون كذلك مهما طلبنا منه وألححنا في الطلب ما دمنا لا نسنده و لا نكيف تربيته وعلاقته.
إذا أردت داعية جماهيريا واسع الإنتاج فأعد تربيته، ثم أرسله بين الجماهير، واسند بصحيفة قوية، وبحوث سياسية، وبلاغة خطباء، وترنم شعراء، وأصداء شرائط مسجلة وأسطر فقه، وحزم مواقف، وزوده بهوية في يد، وببرنامج مفصل معلن في اليد الأخرى يشرح طريقتنا في استئناف الحياة الإسلامية الشاملة.
إن العسكريين لا يرسلون جندي المشاة إلى ساحة المعارك مجردًا ولا مفردًا، مع أنه أساس كل جيش، ولكن يزودونه بسلاح شخصي، ويعيدون تدريبه وفق المستجدات، ثم يسندونه برمي المدفعية وقصف القوة الجوية وحماية الدروع، من بعد ما تقدمه الاستطلاع والاستخبار، وتمت حماية ظهره بالوحدة الشعبية.
والداعية جندي مشاة في ساحة العملة، ويجب أن نسنده بأنواع الإسناد، إذا أردنا منه الإنتاج.
إن تنوع الوسائل ما هو إلا استجابة طبيعية لتنوع أذواق الناس وما هم عليه من شمائل، وليست هي من التكلف الزائد والتعقيد، ولذلك نوجب على حركتنا أن تلجأ إلى هذا التنوع إذا أرادت حيازة جمهور أوسع، فإن لم نفعل فإن الجماعات الإسلامية الأخرى والتكتلات الصغيرة التي ليس لها فقهنا في العمل ووعينا ستطفر مرحلة التأسيس الواجبة علهيا وتترك التأني وتسبقنا إلى الانفتاح من أول أيامها لمنافستنا في حيازة المسلمين السائبين، وستستخدم وسائل عامة تغرى الشباب الساذج بالانتماء لهم، لا من باب وزنه لفقهنا بفقههم وترجيحه طريقهم على طرقنا، وما هم عليه من خطط، بل لأنه ساذج لا يعرف هذا العلم المرحلي الذي نحن عليه، ويظننا في جمود لا في تربية تأسيسية.
لسنا نقول ذلك ظنا وتخمينا، بل هذا هو الذي حدث في بعض البلاد، بحيث نشاـ نواة من الوعاة، تهادتن ومشت الهيوني، إسرافا في الحذر، ثم نشأـ من بعدها صيحات حماسية لا تعرف شرطا ولا معاني الانتقاء، فاكتسحت الساحةن وغطت تواجد الأولين وطريقهم التربوي وعطلته.
وهكذا نستطيع أن نحكم بأن التأسيس الطويل مضر، ويؤدي إلى سعة التكتلات الصغيرة على حسابنا، كما أن الاستعجال مضر، وستتصلب العناصر التي تنضم إلى هذه التكتلات، ويصبح عملنا معهم صعبا وتربيتنا فيما إذا رجعوا لنا بعد تأكدهم من قصور تخطيط تلك الجماعات.
ولهذا فإننا نعتبر أنسنا أمام مضرتين عند وجود تكتلات إسلامية أخرى، أو أمام مصلحتين تحكمان مدى طول فترة التأسيس، وربما كان الإسراع في الانفتاح من أجل حيازة المسلمين السائبين قبل الآخرين يوفر مصلحة أعظم من مصلحة التأني.
ما ه بحسد حين نريد هذا السيق، ولا هو تنافس دنيوي، بل نريد إنقاذ هؤلاء السائبين من متاهة ستقذفهم فيها سذاجة غرنا وعملهم السطحي الذي لا يعرف أصول التخطيط، ولسنا نتجنى على غيرنا في ذلك، بل هو الواقع المشاهد، مع أن من حق كل مسلم أن يعرف بقناعته ويستصوب اجتهاده، ولولا هذا الشعور لما نشأت جماعات متعددة، ولا عيب في ذلك، بل العيب في التخذيل والوقوف في طريق الآخرين، صدودًا وهمسا في آذان المؤيدين، وأما ما وراء ذلك فهو التنافس في الخير، والبقاء للأصلح.
تجديد الصياغة وتحوير ضوابط الأداء
(المبدأ الخامس): التكيف التربوي الموفر المتطلبات الاتصال السياسي:
فإن انتقال الدعاة إلى مرحلة الانفتاح والعمل العام من شأنه أن يوجد حاجة لا لتكيف التنظيم فقط، بل لتكييف تربية أنفسهم لهذا العمل أيضًا، وتحوير العلاقات، وتنويع الثقافة.
ذلك أن هذا الانفتاح يجعلهم في تماس مع صنف جديد من الناس والشباب، وفي الجامعات والوظائف، تختلف صياغاتهم وحاجاتهم التربوية عن جيل شباب المساجد البسيط الذي تسهل تربيته على الأنماط الإيمانية والمعاني الفكرية من خلال المجالس المتواضعة غير المتكلفة.
فقد نبدأ العمل في سنوات الانفتاح مع شباب ليسوا من أهل الصلاة، وقد يكون التفاهم الفكري معهم مقدما على الحديث العقائدي وحديث الإيمانيات، إذا كانت تلفهم شبهات حول أحكام الإسلام أو حول أشخاصنا، وربما يكون شرحنا لموقف الدعوة السياسي بابا لثقتهم بها، ويكون الداعية أثناء كل ذلك مضطرا إلى أنواع من السلوك الدبلوماسي الحذر، مع سعة في الارتباطات الاجتماعية لأبعد من محيطه الإسلامي فقط.
إن الوفاء بمتطلبات هذا التغير الضروري في كفاية الداعية قد يأتي تباعًا مع الأيام كردود فعل للحاجة التي تفرض نفسها، ولا بأس في ذلك، وهي سنة من سنن الحياة أن يكون بعض تطورك نتيجة مجموعة ردود فعل مناسبة، ولكن الطريق الأهم لحيازة عناصر هذه الكفاية الجديدة وتطويرها يجب أن يكون متمثلا بطريق تربوي جماعي تبادر إليه الجماعة مبادرة مبكرة، وتسعى خلاله إلى إكساب الدعاة جملة فنون ودروس عملية تمكنهم من الاتصال الناجح بمثل هذه العناصر الجديدة، مع جملة أعمال وإنتاج فكري ووسائل مختلفة تنفذ جماعيا بإشراف قيادي تعين الداعية الفرد على أداء عمله وتجويد اتصاله.
إن ردة الفعل قد تأتي مختلطة، فيها صواب وخطأ، أو قد تأتي ناقصة، أو تأتي متأخرة، ولذلك نريدها تربية جماعية للتنظيم تقوم بدور تكييف الدعاة لأداء الدور الجديد.
إنه لا بد م سبق إلى التكيف التربوي قبل حصول الأزمة وحلول الحاجة، وإن أقطارًا قد جربت من قبل تجربة الانفتاح دون كثير تكيف تربوي من مثل هذا أو تدريب، فأهدرت طاقات، وحصل تخبط، حتى بات ذاك التجريب ينادي في الآخرين، أنه هو النذير العريان يهيب يهم أن يصدقوه، فيسرعوا إلى استدراك معجل ورؤية مستقبلية للأحداث ومراحل العمل، مع تحوير في العلاقات بين الدعاة يتيح سرعة استجابة وتحرك تتطلبها طبائع الانفتاح.
ولا يرد هنا اعتراض سيد قطب على ما نقوله من تقدم البحث الفكري أو الحوار السياسي على الإيضاح العقائدي الذي يجعله سيد نقطة البداية، فإن هذا الاحتمال إنما يكون ضمن أساليب الاتصال الأول وبدء العلاقات مع المدعو ونقاش المجالس، ولا يراد له أن يستمر ليكون طريقة تربوية، مثلما لا يراد معه أن يهجر الداعية بيان الحد العقائدي أو ترك المجاهرة بدعوة الناس إلى عبودية محضة منهم لله تعالى في صفات ربوبيته وألوهيته معًا، وإنما عاب سيد قطب رحمه الله هذا القصور، وما نظنه يعيب ما نذهب إليه من مسالك التبشير أو الدفاع عن اجتهادات الدعوة الكامنة وراء مواقفها مما تؤيد المصالح الملموسة والعقول السليمة صواب لجوء الداعية إليه خلال حديثه العام.
إنها تربية عملية مع علم متكامل نحتاجهما في المراحل المتقدمة، ولا بد أن ن ردف العلوم الإسلامية التي نعطيها للداعية بثقافة عامة في السياسة والاقتصاد والتاريخ والأدب.
ويكاد الداعية المنتمي للجيل الماضي يلحظ ضعفا ثقافيا في جيل الدعاة الجيد، وأصبح النشاط العملي العام يلهيهم عن مزيد مطالعة واجبة عليهم.
ولا تستسيغ الأعراف التربوية هذا الضعف، وتؤكد تجاربنا وجوب اغتناء الخطة الجماعية بتوفير تتناسب بين مكونات شخصية الداعية، فإن سعة العلوم الشرعية والثقافة العامة التي يحوزها الداعية تعتبر من أ÷م العوامل التي تحدد مدى نجاحه في عمله الخارجي، كبشير نذير، آمر بالمعروف ناه عن المنكر، أو في عمله الداخلي، كمنظم مرب ومختص.
وفي هذه الحقيقة ما يعظنا بلزوم تقليص حجم بعض النشاطات العامة التي يفترض أن يمارسها بعض الدعاة من أجل توفير وقت لهم للمطالعة وحضور الدروس ومجالس الفقه.
إلا أن الترف العلمي غير صحيح أيضًا، ولسنا ندعو إليه إنما نحن نؤكد على ضرورة التوازن بين الأعداد العملي والتثقيف العلمي، في تناسق، يجعل مواقف الداعية وكلماته مكافئة لحاجة الذين يعاملهم ومن هم له سامعون.
ويجدر التنبيه هنا إلى خطأ اقتصار المنهج التثقيفي على الكتب الفكرية العامة الحديثة، والتي تعرض محاسن الإسلام وتكتشف نظرياته، بل لا بد من تعويد الدعاة طول الانكباب على صحيح البخاري وشرح ابن حجر له المسمي بفتح الباري، وعلى بقية كتب الحديث النبوي الشريف، وفقه المذاهب الأربعة وأوائل الفقهاء، وعموم مدونات التراث، فإن في ذلك ضمان اكتساب الدعاة لعنصر الأصالة، وفيه تقريبهم من النظرات الاجتهادية، مثلما فيه ربط محكم لهم بالنصوص، بأسرهم إليها يمنعهم التورط في البدع أو الجرأة في الفتوى.
وفي هذا المجال تبرز الأهمية الكبيرة أيضًا لكتب ابن تيمية وابن القيم، فإنهما حازًا من الاعتدال والحرص على النص الصحيح وسعة الأفق وحسن الاستدلال ما يغري المتفقه بطول اللبث مع كتبهم، ومن التفريط الساذج أن يصغي داعية لتخرصات بعض أهل الجمود من المقلدين الذين يزهدون طلاب العلم بما كتب هؤلاء الأئمة العدول، ووجهات دعاة الإسلام أوسع من أن يحتكرها مذهب أو يحدها فقيه واحد.
وتأخذ كتب ابن حزم نفس الأهمية، فإنه فقيه متمكن راسخ، وما يشاع عنه من تطرف أو مبالغة في الوقوف عند ظاهر النص أو إيراد ألفاظ لاذعة عند نقد مخالفيه إن هو إلا شيء قليل تغمره آراؤه العميقة واستشهاداته البارعة.
إن مما يؤكد وجوب اللجوء إلى هذا المنهج الثقافي المتوازن ضرورة توزع الدعاة بعد المرحلة الأولى لانتظامهم على أشكال متنوعة من العمل الاختصاصي الذي يناسب كلا منهم، فمن أجل أن لا تتعدد مدارس الفهم والاجتهاد تبعا لتعدد وتنوع الاختصاصات: كان من اللازم إعطاء الجميع حدًا أدنى من العلوم يوحد بينهم ويمنع الشذوذ واختلاف التخريج الفقهي، يأخذونه مكثفا خلال فترة انضمامهم الابتدائية، وباشتراك مع غيره خلال فترة التدريب التخصصي والتكيف التربوي.
ففي مثل هذا فليتنافس أولو النهي
وبعد:
فإن البعض يري في هذا التخطيط تحميلا للدعاة الحمل الثقيل، ويسألون: كيف ينبغي للداعية كل هذا، وأنى له أن يتحرك يوميا هذه الحركات الواسعة مع عموم الناس وفي داخل التنظيم ثم مع نسه متعلما ومتعبدًا؟
وذاك أعجب العجب حقا، ولا ندري ماذا عساهم يظنون: أهم في رواق فلاسفة أم في رباط دراويش؟
إنكم في دعوة أيها الأخوة لها تحرك فكري سياسي إصلاحي أخلاقي شامل، ولابد لكم من تعب مضاعف متواصل، وضغط على النفس، وبذل.
لن يذوق الداعية المسلم حلاوة الحياة ما لم ترتجف يده إنهاكا إذا رفع قدح الماء إلى فمه يريد أن يرتشف، ولا يحق له أن يظن في نفسه أنه مشارك ما لم ينم جالسا، يغلبه الإعياء.
أم يرضي البعض بهذا التعب لكنه يحسب حساب المضايقة الحكومية والحزبية؟
فلهذا الحساب عجب أكبر، إذ لسنا إلا دعوة تغيير، تنهي عن المنكر، وتقاوم الظلم، وتضع أمامها احتمال السجون، والهجرة، والدماء.
إن البقية الدنيوية فينا هي التي تمنعنا أن نخبر نساءنا، عند خطبتهن، وهن في بيوت آبائهن، أن حياتنا معهن قصيرة، وأن المصالح اليومية لدعوتنا مقدمة على حقهن...!
([1]) ديوان الزوابع/ 40.
([2]) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي/82.
([3]) مجموعة فتاوى ابن تيمية 35/365.
([4]) زاد المعاد 3/43.
([5]) عيون الأخيار 1/132.
([6]) للإمام البنا في المؤتمر الخامس
([7]) وحي القلم 2/197.
([8]) المؤتمر الخامس.
([9]) إحياء علوم الدين 1/17.
أصول التخطيط
حين يعمل المسلم عمله السياسي من خلال الممارسة الجهادية، فإنه يختلف في منطلق عمله هذا عن كل منطلق يصدر عنه الآخرون.
ينطلق المسلم دائمًا في ظل شعور ينفرد به، يفهم به مبرر تدخله لتقويم الاعوجاج في الحياة بعيدًا عن المبررات التي يتعلل بها اتباع الفلسفات والأفكار الأرضية، ويحس أنه هدية الله إلى الإنسان، ينتشله من تخبطاته، وإن متى حاز العلم صار جزءًا من الرحمة الربانية المرسلة إلى العالمين، إذ العلماء ورثة الأنبياء كما في الحديث الصحيح، ولقد امتن الله سبحانه على الناس، كل الناس، لما قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم- (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).
وهذا معني أصيل في الإحساس الإيماني، كان الداعية الشاعر عبد الرحمن أحمد بارود ممن اكتشفه وبشر به في ظلام فترة حالكة من حياة المسلمين المعاصرة، تعرضوا خلالها لبطش وتنكيل، فقال يصف الحال...
يتجبر الفجار.. فالأبرار قتلى أو طرائد
والدين هذا الدين في نفر من الغير الأماجد
كالطود يهزأ بالرياح الهوج، للطوفان صامد
ثم ما الشاعر يعظ الدعاة أن لا ينسوا دورهم...
أطلائع الإيمان.. إن محمدًا أرسى القواعد والرب يحضركم كم بعزته.. لديه الكون ساجد
أنتم هديته إلى الإنسان.. في يأس يكابد
رهط يجاهد في سبيل الله.. والقرآن قائد([1])
هكذا هم، هدية ربانية إلى الإنسان اليائس الكسير الشقي التائه، يجاهدونه رغم عنه ويقسرونه على التخلي عن جهالاته، لمصلحت، بعد إذ صد وأبي واستكبر ونفر نفورًا، وإن قوما ليقادون إلى الجنة بالسلاسل.
مذهب السيف السلفي
ولذلك فتح الإسلام باب الإيجابية الإصلاحية واسعًا، فلم يشترط وقوع المتخبط في الكفر للإذن، إذ ربما كان ذكيا يتحاشى كلمة الكفر الصريحة، بل يكفي أن يقوم الدليل عند شهود من الفقهاء على أنه ظالم جائم فاجرن ليكون انتزاع الدور منه، وقد أقحم بعض الدعاة أنفسهم فيما لا يعنيهم وجلسوا قضاة، وألزموا أنفسهم ما لا يلزم، وكان يكفيهم أن يعلموا أن مجرد الفجور والحكم بغير ما أنزل الله إدانة تامة وإذنا بالتقويم.
وكان من السلف أقوام يرون السيف، منهم المحدث الحسن بن صالح بن حي الكوفي، فضعفه البعض من أجل ذلك، فاعترض ابن حجر اعتراضا قويا، وقال:
(قولهم: كان يرى السيف، يعني: كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقعة الحرة، ووقعة ابن الأشعث، وغيرهما، عظة لمن تدبر ومثل الرأي لا يقدح في رجل قد ثبتت عدالته واشتهر بالحفظ والإتقان والورع التام)([2]).
وكان في الحسن بن حي هذا نوع تشيع لم يبلغ الغلو والرفض، بل كان يرى تقديم علي على ع ثمان في الخلافة لا على أبي بكر وعمر، رضي الله عنهم، وكأن اقتران مذهبه في السيف ببدعته الطفيفة هو الذي انطلق بعض النقاد بتصعيفه مع علو كعبه في الصدق، وإلا فمجرد تجويز اللجوء إلى السيف ليس عليه اعتراض، إذ كلام ابن حر صريح في أن المنع طارئ ويوجبه سد الذرائع لا النصوص، وإنما البأس هو في مشاركته بسيفه من خلال الاستعمال الشيعي الجماعي للسيوف، فإذا لم تكن في فرقة الفرسان ثمة بدعة: كان زحفهم عبادة، إلا أن يكون هناك دم كثير يسفك أكثر مما يريقه الظالم خلال حكمه بأضعاف، فعندئذ يكون الانتظار لفرصة تغيير أخرى قليلة الدماء.
فالمنع طارئ، بعد ظهور إساءة أداء هذا الواجب، أو بعد تسارع الثقات إلى عجلة وتهور، أو نزوع أهل الأهواء إليه بلا شهادة الفقهاء، وسيبقي صواب العمل بهذا الرأس مشروطًا بشروط الموازنة المصلحية، وشأن كل واجب شرعي أن يوزن بهذا الميزان، فتسد الذرائع عند نشوء فساد مقترن بتنفيذ أمر واجب أو مندوب، وتحتمل عند ذاك المفسدة اليسيرة لدرء المفسدة الكبيرة، وأما تقويم ظلم الفاجر بفتوى العدول، وحيثما لا يقترن بمفسدة أكبر، فهو المذهب السلفي الأول المستفاد من مجموع الآيات والأحاديث، والقديم على قدمه، ما لم تصرفه الصوارف، ولا حاجة لتكلف التفتيش عن كفر من لا يحكم بما أنزل الله، بل شيوع ظلمه وتفريطه يكفي لتوليد القناعة بضرورة التغيير، عند المقدرة، دون تهور وإن كان لا يزال له موضع قدم جانبي في أرض الإسلام الواسعة ولم يقف في أرض الكفر.
ولا تقل إن معرفة الفقيه أمر يصعب، وإن هناك من يدعي ذلك بلا حدارة، حتى أصبحت الصيحات مختلطة، بل نميز العدول كما ميزهم الأولون من السلف الصالح، بالفراسة والقرينة، وصاحب الأهواء يعرف بلحن القول، وما زال المتصدون كثرة، رضيت أم أبيت، فمنهم صادق وكاذب، وحركة الحياة دائبة، تحركت أنت أم سكنت، ومحركوها ناجح وفاشل، ولا ينفعك الانزواء حذرا من الاشتباه والخطأ، بل يسعك أن تجتهد وترشح نفسك إن عرفت منها التجرد، وأنت فقيه نفسك، ولست بحاجة إلى تقليد أحد تكشف الأيام اغترارك به.
ويروى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه خرج على أصحابه رضي الله عنهم، فوجد جابرًا قد أجلسه قدر الخير بينهم ليحمل عنه فقال العمل ويمد صوته مبلغًا.
قال ابن تيمية: قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه:
(أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نضرب بهذا – يعني السيف- من خرج عن هذا- يعني المصحف)([3]).
ولو صحت هذه الحادثة لجاءت دليلا فيه الوضوح كله، ولكان ال فقهاء في غني عن تكلف فتوى وخوض خلاف، ونظنها صحيحة، إذ الراجح من أمر ابن تيمية في أحكام الحلال والحرام خاصة الاستئناس، بصحيح النصوص فقط ولكنا لم نجد هذا الحديث في ما شاع من كتب الحديث.
إنه لا يخرج عن القرآن غير شخص سبق إيمانه به، وأعطى المواثيق ليعملن به، أو شخص يفترض فيه ذلك وقد كتب أبواه إسلامه في وثيقة ميلاده، ثم راهق، فقفز، فحكم فأرهق.
ولا حظ جيدًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر كفر هذا الخارج أو عدم كفره، ولم يخصص هذا الحكم ويشترط قيام علاقة بين الخروج والكفر، والضرب والكفر، بل أطلق القول، وليس من حديث آخر يقيد هذا الإطلاق، بل يستفاد منه أن أي حاكم بغير القرآن يجب أن يغير ولو بقي في دائرة الإسلام، لأنها فسيحة، تسع الفاسق والظالم إلى جنب المؤمن، وهذا هو الذي فهمه السلف القدماء، الذين أشاروا ابن حجر إلى مذهبهم.
وأما حدث (إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان)، فهو عن حاكم يطبق الإسلام في حكمه ويأتي المعاصي أو البدع، لا نغيره بمجرد ذلك، إلا أن يأتي فعله هي من الكفر أكبر من المعصية، وأما من لا يحكم بالإسلام، مثل حكام الأمة اليوم، ويفرط في مصحالها، وربط سياستها بالأجانب، ولم تنصبه بيعة شرعية منا له، بل جاء به تنصيب المستعمر أو استولى على الحكم وغصبه غصبا بالقوة، فأنى له أن ينال ت جاوزن، وإذا كان ذكيا ويحرف الحكم عمليا دونما تصريح لسانه بكفر، ويتملص تملصا ليحوز رضي من يفسر أحكام التكفير بحرفية متناهية فهل يلزمنا أن نكون بمقابله أبعد عن الذكاء؟ وهل نزل الإسلام هكذا، مخدرًا للناس، ولو مسخت الأمة والتربية وسحقت المصالح، أم نزل ثورة على الظلم والخيانة؟
إن نقطة القوة في موقفنا أن هؤلاء لم تأت بهم شورى الناس وآراء أهل الحل وا لعقد والثقات، وإنما ورثوا كراسيهم وانتهبوها أو أجلسهم المستعمر عليها، وهي نقطة ضعفهم، فلا بيعة لهم ولا طاعة، وإنما مذهب السيف السلفي يقودنا في معركتنا تجاههم وحديث جابر يزيد حجتنا وضوحًا.
أما إن الامتناع عن تغييرهم خوف المفسدة العظمى فنعم، وقاعدة الموازنة بين المصالح صحيحة صريحة في كلام الأولين والآخرين، ودلائلها كثيرة والمقر بها من باب أولى بعدم حتمية العمل في آن واحد ضد كل خارج عن القرآن، فإنهم درجات في بعدهم عنه، وبعضهم عظيم الشر، ومنهم من هو قليل الشر، ومنهم من لا يعدو تلبية شهواته والحفاظ عليها دون دعوة الناس لاعتقاد ضلاله وكفر، لكن هؤلاء مهددون بأن تستأصلهم حركات إلحادية وتجمعات هدامة مستغلة الأخطاء التي تورطوا فهيا وطبائع حياتهم الشهوانية والبعيدة عن مصالح الأمة، والدعوة والإسلامية مخاطبة في هذه الحالة باستباق الأمر واللجوء إلى استدراك معجل، حذرا من قفزات الملاحدة، إن لم تكن هناك قناعة بوجوب تغيير هؤلاء الضعاف الشهوانيين الذين ما هم بكافرين، فغن اليد الإسلامية إن لم تمتد لإزاحة الفاجر الضعيف، فإن يد الملحد القوى ستمتد وتزيح الفاجر ودعاة الإسلام معًا.
فالعجب إذن ليس ممن يبادر، بل العجب ممن يتلكأ ويسكت، وذلك ما أورد السؤال بعد السؤال على لسان الوليد، مستشكلا المشي الوئيد...
فكيف يرتاح للبلوى أخو شـمم
- وعينه تبصر الأوباش يبغونا
وكيف يسكت ذو حق وقد عبثت
- بحقه عصبة تقفـو الشياطينا
عافت هدي الله وانقادت بعاطفة
- معصوبة العين لم تعرف موازينا([4])
فالإذن واضح، وقد ترك المذهب القديم سمته وطابعه على كلام الدعاة.
قواعد الاشتقاق الخططي
إن هندسة الاقتراب هذه التي أطلعك عليها الرجاء ورواها لك الأذان، لم تأت الأمثلة فيها لتحصرك في نطاق من التنفيذ الحرفي لها، وإنما سيقت لتستفز ذهنك لبحث صوابها و تنفيذها بعدما تحوز إقراراك، أو لاكتشاف شبيهاتها، في نظرة اجتهادية حرة.
لكنك تستعين في ذلك بعشرة أنواع من التفكير الخططي، تشكل قواعد هذا الاجتهاد، وإنك لأنت الأعرف بما يناسب واقعك، ويحتمله رصيدك ويحتاجه مستقبلك.
(النوع الأول): التفنن في شكل البناء الهيكلي للتنظيم:
بحيث يتم إنجازه دقيق الأبعاد، متينا قويا، قابلا للإضافة والتطوير، تحكم أصله الرئيس وفروعه التخصصية وحدة تجانسية وتناسق في المبدأ النظري الذي تقوم عليه، سهل الممرات غير معقد.
فالمهم أن تتوفر عندك هذه المزايا، بأي شكل وصلت إليها، بهذا الذي اقترحناه أو بغيره.
أمره كأمر الهندسة المعمارية وارتباطها بالهندسة المدنية، تفننت فيها مدارس عديدة وكل طراز له طابعه الخاص المميز، ولو بني مهندس كل جزء من بناء واحد بطابع معين لأتى بناؤه غريبا شاذًا قبيحًا، ولكن هناك من يمهر في اقتباس لمسات متقاربة من مذاهب هندسية مختلفة، فيخرج من الجميع جمالا جديدًا.
لا تستغرب هذا القياس، فإن البون شاسع بين تنظيم هرمي وآخر أفقي، وبين تنظيم يعتمد السكني في منطقة أساسا للانتساب إلى مجموعة عمل مختلطة، وآخر يعتمد التخصص المهني ويربط كل صنف في تنظيم خاص، وبين تنظيم يتخذ شكل كتلة واحدة، وآخر تتعدد حوله الواجهات، والفارق كبير بين تنظيم يتساهل في شروط قبول الأعضاء وشروط تدرجهم القيادي، وآخر يتشدد ويضع مواصفات عالية، وبين تنظيم علني يتوسع في اختيار مسؤولية بالانتخاب وتكثر فيه الصلة المباشرة بين الأعضاء والقادة، وآخر سري يضيق نطاق الانتخاب أو يجعله درجات ويعتمد الواسطة.
(النوع الثاني): الحرص على التكامل في المجموعة القيادية، فإن تعمل في مجتمع معقد وحياة صاخبة، وبين أعداء متنوعين وتتعدى في تخطيطك الإصلاح الجزئي إلى استئناف شامل للحياة الإسلامية عن طريق الحكم، وهذا يوجب عليك أن تتصدى لجميع الجوانب الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، نقدا للواقع المنحرف، ووضعا للبدائل وتجميعا لجنود انتزاع الحق، ولن يتأتى هذا بأجهزة قيادية ليس لكل أعضائها إلا العلم الشرعي، إذ إنهم يصبحون آنذاك مثل جنود شجعان بلا تدريب، أو ليس لأعضائها إلا العلوم الأخرى، إذ يحل جفاف القلب ويسود الابتداع، أو كل أعضائها من المفكرين، فتضعف الإدارة والمبادرات، أ, كل أعضائها من المنفذين العمليين، فيضمر الفكر والاجتهاد، بل لابد من تنويع المهارات، وترادف الاختصاصات، ليحصل التعادل والسير المتكافئ الجدي الساد لجميع الحاجات.
(النوع الثالث): الاقتباس من النظريات الإدارية العامة، فإن الإدارة اليوم علم متطور، أتي بمبتكرات كثيرة لتسهيل التحركات الداخلية ضمن المجموعة، والوصول إلى أقصى استغلال للطاقات بأرخص التكاليف وأبسط التشكيلات، وإقامة العلاقات الخارجية بالجمهور والإدارات الأخرى على أساس من حيازة ثقة المقابل و تحصيل تعاونه إلى أشياء أخرى.
إن ذا اللباقة بإمكانه أن يستعير بتوسيع من أساليب الإدارة الحديثة، وعلى الأخص أساليب إدارة الأجهزة الضخمة، كالمجمعات الصناعية، ووزارات الخدمات، والشركات ذات الفروع الكثيرة.
وفي نفس السياق تبرز قواعد تنظيم الجيوش وتحركاتها كمورد آخر لوعينها الإداري، وكذلك أيضًا: الاقتباس من هندسة السيطرة وهي شعبة من الهندسة الحديثة، تمكننا من جعل كمية متغيرة –أو كميات متغيرة- تتبع سلوكا معينا نريده قد خططنا له، ويتم ذلك بتغيير بعض العوامل والعلاقات التي تسمى بأدوات السيطرة، وهي مزيج من الإحصاء والمسح الكمي، والمنطق الرياضي والمقارنات ونظريات الاحتمال، والقواعد الكلية العامة في كل علم وفن، وتستثمر للتوصل إلى اكتشاف أفضل تشكيل للعلاقات المختلفة، وأجمع ربط للجزئيات، ووضع ضوابط ومقاييس موحدة تحقق التناسق الموضوعي، بغية التحكم والتأثير في عوامل ونتائج بحث علمي، أو إنتاج صناعي، أو ظاهرة إدارية، وغير ذلك.
إن هذا الاقتباس من نظريات الإدارة وتنظيم الجيوش وهندسة السيطرة لا يراد له أبدًا أن ينقل تخطيطنا إلى تقليد كل ما فيها، إذ سننتقل آنذاك إلى وضع معقد في الحين الذي أردنا فيه التبسيط، وستقتل همم العاملين في متاهة جزئيات هذه العلوم، ولكننا نبغيها اقتباسات عامة، ولمحات، وأمرنا أبسط بكثير و أوضح مما يظن المتحمس للتقليد التام.
(النوع الرابع): استقطاب الطاقات الخارجية التي لم تلتزم تنظيميًا معنا، وهي عملية متشعبة جدًا، تشمل التعاون مع أفراد من المسلمين سائبين يمكنهم أن يؤدوا عملا ينسجم مع خطتنا، والتحالف مع تكتلات إسلامية أخرى، أو مع تجمعات مستورة لا تحمل فكرًا مخالفا للإسلام، أو تسيير الجمعيات والنوادي ذات الأهداف الجزئية التي تشملها أهدافنا الكبيرة.
وتشتق من هذا الاتجاه محاولات السيطرة على النقابات المهنية والاتحادات الطلابية، والانبثاث في أجهزة الدولة والمؤسسات الإعلامية والعلمية، والمشاركة في البيوت المالية والنشاط الاقتصادي.
(النوع الخامس): الارتقاء بالمستوى التربوي، في حده المنهجي العام الذي يوضح الفكرة، ويهذب الأخلاق، ويعلي الهمم، وفي حده الخاص، الذي يدرب أصحاب المواهب لإتقان الأعمال القيادية.
(النوع السادس): الوقاية من مضايقات الأعداء والفتن الداخلية، ويقتضي سلسلة أعمال واحتياطات يعض بعضها بعضا وليس مجرد التحذير والوعظ والتوعية، والمدخل إلى ذلك: أن نحيط علما بواقع هؤلاء الأعداء، كثافة تواجدهم في القطاعات.
(النوع السابع): تحريك الخاملين وعلاج الفتور، فالعمل الحركي لا ينبغي له أن ييأس من تحصيل الفوائد من كل شخص انتمى له أو دار في فلكه، وعلينا أن لا نكثر في ألفاظنا وصف البعض بالخمول أو الفتور، بل كل ميسر لما خلق له، وبإمكان الخطة المتنوعة أن توجد مجال عمل لكل مسلم حسب اختصاصه وذوقه والمهارة التي يحملها ما لم يكن قليل الذكاء، وليست المشاركة في التجميع والتربية هي الصورة الوحيدة لعمل العامل، فإن الاقتصار على هذا التصور هو ضيق أفقنربأ بأنفسنا عنه، فخامل في الاتصال الشخصي: ناجح في الكتابة الصحيفة والتخصص. وفاتر في حضور الاجتماعات: يتقد ذهنه في الصفق بالأسواق والصناعة وتحصيل الأرباح للمشاريع الجماعية، وهكذا.
(النوع الثامن): نشر الفكرة، والدعاية الإسلامية، فإن الحرف سمير، واللفظ ممهد وسفير، يفاوضان عنك، إذ أنت غائب ورب ديمة هزت أرضًا فأنبتت وأغرت القاطف وما حرثها زارع.
ولا يكفي أن تعتمد الكتابات المطلقة فقط، التي ألفها أعيان الدعاة بل لا بد من كتابات محلية تسندها، تعتني بقياس الواقع الخاص لك بلد على الموازين العامة، وإبداء رأي في طبائع مشاكله على ضوء القواعد الشرعية، وأن تطور الكتابات القديمة لتشمل بحث ما استجد، وأن تبسط المعاني للعامي والصغير، وتدقق للمثقف والكبير.
(النوع التاسع): استغلال الأثر النفسي الحسن لطبائع بعض الأعمال ولو كان أثرها المادي ضئيلا، فإننا نتعامل مع نفوس ذات مشاعر ورغبات، وتنعكس عليها معاني الأحداث الخارجية، فتطمئن وتخاف، وتأمل وتيأس، وتزهد وتطمع، وتثق وتتهم، تبعًا للذي تري وتحس، بفهم اجتهادي مباشر، أو بإملاء وإيحاء، وبدلالة صريحة، أو بقرينة ذات إيمان، والمقايس التي تنتج إحدى القناعتين في نفوس الدعاة والعامة ليست كلها شرعية تغرسها كلمات الفقهاء، بل منها مقاييس عرفية أيضًا تتغير وتتجدد، وتعدل وتظلم، التأويل أو تتصلد، حتى لتنحرف نفوس فتتوهم الظن السيئ فراسة صادقة، وعلى القيادة أن تراعي ذلك في خططها ومواقفها، إصلاحا بين الناس، وسدًا للذرائع، وخروجًا من الشك إلى اليقين.
(النوع العاشر): التعاون بين أجزاء الحركة المنتشرة في العالم فقد قسم الله الرزق بين العباد درجات، وألهم العلم درجات، فكل حائز خير يفيض من خيره على الآخرين، والمسلمون يد واحدة على من سواهم.
فهذه عشرة أنواع من التفكير الخططي، هي عشرة قواعد تحكمه، وهي عشرة موارد تروي أرض العمل العطشي.
وقد توجب الفعل الخططي الواحد أكثر من قاعدة، وتبرره أكثر من حكمة، فيكتسب قوة، وينال شبه إجماع ولكن ربما صعب تخريج فعل آخر ونسبته إلى قاعدة أو الاستهاد له بسابقة ويكون دليله نوعا من الحدس الخفي الذي تعجز عن وصفه العبارات، فيتم قبوله من القديم الجرب، أو يتريث الأقران إذا اقترحه أحدهم، يخضعون أحاديث نفسه لتمحيص وتأمل زائد، ولربما يهملون رأيه فتصدقه الأيام، ولي في ذلك كبير بأس، إذ يعتبر هذا التفويت ثمنا ضروريا لحصول الثقة فيما بعد بآراء هذا القرين وقوة فراسته، وتكرر مثل هذا الاختلاف في التقويم ثم جريان الأمور، والأحداث مصوبة ومخطئة البعض دون البعض هو المحيط الطبيعي والظرف الحقيقي لبروز العناصر القيادية الفعلية، التي تستحصل طاعة الآخرين لها بشكل تدريجي تلقائي، وعن إقناع، لا بالتنصيب وفرض الأوامر.
قواعد الإتقان التنفيذي
فإذا أحطت بهذه الطريقة المنطقية لاشتقاق أشكال النشاط والتنسيق بينها ضمن خطة واحدة، فاعلم أن هناك منطقا تنفيذيا تطبيقا يكملها، تجمعه أربعة قواعد، تحفظ النتائج النظرية التي تتوصل لها من أن يلغيها استعجال، وتردعك عن التقلب السريع في التفكير.
(القاعدة الأولى): إن أيام الشروع الأولى في تنفيذ أي عمل لا تصلح مقياسا لمعرفة مدى جدواه فإن تعثر التنفيذ، وقلة الثمرة، وضعف التأثير، والحجم الكبير للطاقة المصروفة، كلها عوامل أو نتائج سلبية قد تصاحب الفترة الأولى لبعض الأعمال، ويكون من الضروري التمهل في الحكم عليه وإطالة المدة التجريبية، فربما لم يكن التدريب عليه قد اكتمل، أو أنه عمل جديد في سمته لم تعتده نفوس الدعاة ومفاهيهم ولزمهم وقت يألفونه خلاله، أو أن يكون قد زاحمه حدث عام شغل النفوس عنه.
ويصح هذا المعني في الاتجاه الآخر أيضًا، فإن النجاح السريع الذي يلاقيه عمل آخر قد يستبد بمشاعر الدعاة، فيحكرون الصواب له، ويجازفون بإلغاء أعمال أخرى نافعة نسبة نجاحا ومردودها أقل من النسبة في هذا العمل الجديد، وليس ذلك بصواب، فلربما يكون هذا الفرق الزائد في نسبة النجاح فورة مفتعلة ساعدت عليها ظروف خاصة وليس سمتا دائمًا، فإن لبعض الجديد لذة تهيمن على ذائقة فتدعه يبالغ حتى في جهده، ثم يرجع بعد حين إلى اعتدال، أو يكون العمل نتيجة اقتراح، فيرصد المقترحون أكثر طاقاتهم لإنجاحه والتدليل على صوابهم، ثم يسري فتور تدريجي وتكون ظاهرة استطراق بين الأعمال تكاد تتوازن كالسائل في الأواني المستطرقة.
(القاعدة الثانية): مراعاة الاقتران بين الأعمال، فإن بعضها لا يمكن تنفيذه ولا يؤتي نتيجته المرجوة إلا بقرين له مكمل، ويكون أحدهما الظرف المساعد للآخر، في مقابلة وتبادل أو هو كشرط لازم ولا يحيط بهذا الاقتران حصر و تسميات، بل يدرك بالمنطق والتجريب.
(القاعدة الثالثة): انتظار الظرف اللائق لتنفيذ ما لا يتلاءم مع الظرف الراهن، وتلك بديهية يغني وضوحها عن الإشارة لها، ولكن الذي نعنيه هنا أن يتم تسجيل هذا العمل غير الملائم الآن ضمن بنود الخطة، ويشار إلى تأجيله، فإن كثافة الأحداث تلهي العاملين وتذهلهم عنه، فينسونه حين الحاجة ويتوهمون –إن لم يدون- اختلاط توازن الخطة ونقصها عن الشمول والإحاطة. كما يحرمه عدم ذكره من الاستفادة من احتمالات التصحيح، بالإضافة عليه أو التعديل فيه، من خلال النقد المستمر الذي يمارسه الدعاة لمجموعة الخطة في مؤتمراتهم أو تقاريرهم، وهكذا تتكون من عدم النسيان، ورؤية الشمول، وحصول النقد والتقويم: ثلاث نتائج إيجابية لذكر هذا الأمر المؤجل في سياق الأعمال المختارة.
(القاعدة الرابعة): تذليل العقبات التي تحول دون تنفيذ ما يصعب الآن، فإن بعض الأعمال ضخمة في حجمها، أو تقتضي علوما تخصصية وكفايات عالية، ولابد من فترة إعداد لأولياتها، وتدرج في تجميع أفراد الجهاز الذي سيديرها وينفذها، ولهذا فإن على المخطط أن يكون واسع الأفق بعيد النظر، بأن يعتبر فترة الإعداد ضرورية وإن لم تقدم نتيجة سريعة، ومتى اعتبرها جهودًا مهدرة صعب عليه الوصول إلى عمل ضخم، وعليه أن يقاوم ضغط الحاجات الصغيرة المتنوعة التي تدعوه إلى سدها بتشغيل الدعاة الذين رصدوا للتحضير والإعداد للأعمال الكبيرة.
ويتفرع عن هذه القاعدة نداء إلى الدعاة في البلاد التي يسودها الإرهاب الشديد ولا يستطيعون تنفيذ الكثير من هذه المقترحات، أن يوسعوا صدورهم، ويفهموا أن هذه الخطط موضوعة لمن يستطيع تنفيذها في بلاد غير بلادهم، وليست هي خيالا ولا مجازفة، وليس من الصواب أن نحجر على أصحاب السعة إذا كان المتعرضون لضيق قد اكتسبوا طبيعة من المبالغة في الحذر بسبب طول معاناتهم.
ويتوجه مثل هذا النداء إلى الدعوات المستجدة الصغيرة أيضًا، فإن قصور طاقاتها ورصيدها عن مجاراة مثل هذا التفكير الجرئ لا ينهض سببا يدعونا لحذفه، فإن كلامنا عام مطلق، من كان واسع الرصيد: أخذ به، ومن عجز عن ذلك: انتظر اكتمال نموه.
إن هذه القواعد الأربعة تكفل حسن الاستفادة من مجالات التفكير الخططي العشرة، وبدونها يطيش المخطط، ويسرع إقرار الأمور وحذفها، ويكون أشبه بمراهق متقلب الآراء، تذهب به خاطرة، وترده هاجسة.
فاضمم هذه القواعد التنفيذية إلى قواعد الاشتقاق تلك، واجمعها إلى نبرات الأذان المتنوعة فوق المنابر الموطأة، وقسها على موجبات التكيف المرن وبعض عوامل الجدية الجماعية: تنظيم صفوف المتعبدين خلفك مجيبة، ملبية.
([1]) مجلة التربية الإسلامية الصادرة ببغداد 6/175.
([2]) تهذيب التهذيب 2/288.
([3]) مجموع فتاوى ابن تيمية 35/365.
([4]) أغاني المعركة /420.
مقومات الشخصية التنفيذية
ما زال صوت شاعر فقيه ينساب مع الزمن منذ العهد العباسي يصف الحر، فيستوقفك في تغنيه وتطريبه، ويثير اهتمامك، كأنه يرسم صورة شخصية الداعية الذي تحب أن تنيط به تنفيذ هذه الأماني، حتى يشدك إلى جمالها، حين يسترسل يغبط الحر الطموح ويقول:
واهًا لحـر واسع صــدره
- وهمه ما ســر أهل الصلاح
سوده إصلاحـه ســـرة
- وردعـه أهواءه، والطمـاح
فسعة الصدر، وارتياد الخير للمؤمنين، وتزكية الباطن، وعصيان الأهواء، وقلة الطمع: شروط أساسية لنيل الحرية التي تمكن صاحبه من سيادة جيله وقيادته.
يجيئونه يقدمونه، ويجبرونه على أن يكون لهم موجها وبينهم حكما وفيهم سيدًا، إذا رأوا حرصه على جلب المصالح لهم ونقاء.
نخلة بغداد
وضرب عبد القادر الكيلاني مثلا لقلب المؤمن إذا استوفى التربية واحتاجه الناس، فشبهه بنواة في صحن دار لا سقف له تحيطها جدران أربعة، فتنبت، ويربيها ماء المطر وشعاع الشمس، حتى إذا استوت نخل، وشمخت مرتفعة طامحة إلى الأعالي: رآها الناس، وأغراهم رطبها، فالتقطوا منه يأكلون، واستظلوا بسعفها، وهي محروسة في الداخل ليست تنالها يد مفسد.
وما النشأة التربوية للدعاة إلا كمثل نشأة هذه النخلة، يسعى نحوهم الناس بعدها، وحولها يتحلقون، ويأمنون بقربهم في ظل هيبتهم.
خلوص النية: خلاصة العطية
ويبهر الناظر إلى سيرة السلف عمق الاقتران التام في سلوكهم بين التربية الإيمانية والممارسة السياسية والجهادية، حتى لتقتنع بأنهم لم يكن ليتاح لهم التأثير الذي تركوه والنصر الذي حازوه إلا بتهذيب النفوس وكثرة العبادة.
ليست أمثلة الصحابة والتابعين والصدر الأول فحسب، وإنما هو إعطاء الإيمان حتى في قرون التخلف أيضًا، وينتصب عبد الله بن عبد الحليم بن تيمية مثالا كامل الأوصاف، وهو شقيق شيخ الإسلام أبي العباس، وكان فقيها كأخيه، مع أن شهرته أقل وله باع في الحديث ومعرفة الأسانيد ورجالها.
قالوا: (كان صاحب صدق وإخلاص، قانعًا باليسير، شريف النفس، شجاعًا مقدامًا، مجاهدًا، زاهدًا، عابدًا، ورعًا، يخرج من بيته ليلا، ويأوي إليه ليلا، ولا يجلس في مكان معين بحيث يقصد فيه، لكنه يأوي المساجد المشهورة خارج البلد، فيختلي فيها للصلاة والذكر، وكان كثير العبادة والتأله، والمراقبة والخوف من الله تعالى)([1]).
وفي سرد مثل هذه الأوصاف المجتمعة ما يخبرك أن الشاعر لم يكن خياليا متوهما لما رسم صورة الحر، وإنما هي نماذج واقعية حية أفيطمع أن يأخذ دعاة الإسلام اليوم من هذا الفقيه جهاده وشجاعته وإقدامه، دون زهده وورعه وذكره؟
ويبرز إبراهيم بن على الواسطي ثم الشامي المتوفى سنة 692 قدوة أخرى، ونموذجا لهذا الشمول، فقد وصفوه بأنه (ملازم للتعبد ليلا ونهارًا، قائم بما يعجز عنه غيره، ومبالغ في إنكار المنكر، بائع نفسه فيه، لا يبالي على من أنكر، يعود المرضى، ويشيع الجنائز، ويعظم الشعائر والحرمات، وعنده علم جيد، وفقه حسن، وكان داعية إلى عقيدة أهل السنة والسلف الصالح، مثابرًا على السعي في هداية من يرى فيه زيغًا عنها) ([2]).
وما تطمح تربيت إلى تكوين رجال أوفى منه في هذه الخلال، وكأن من يصفه يصف نموذج الداعية الذي نريده، يتحرك حركته اليومية الجامعة.
أفيطمع أن يأخذ دعاة الإسلام منه إنكاره المنكر، واختلاطه بالناس وعلمه دون عقيدته وعبادته؟
إن طبيعة الشخصية التنفيذية ليست سياسية بحتة، ولا يكفيها تفاعلها التربوي مع المواقف، فإن الولاء السياسي لا يرتقي إلى درجة الولاء الإيماني، وقد يخالطه طمع دنيوي، وهذه الصور والنماذج السلفية الأصيلة تعظ المخطط السياسي المسلم وتجبره على أن يمر بالدعاة المنفذين المخططة في الممر التربوي الإيماني الأخلاقي، لينمي فيهم عشر صفات متكاملات مترابطات، تسمح له أن يطمع بفوز، وأن يعد المستضعفين به، وأن يتمنى.
(الصفة الأولى): رجاء العبودية الخائفة:
فإن مدار أمرنا على العبودية الخالصة لله رب العالمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ( يا معاذ بن جبل: قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على عباده أن يعبدون ولا يشركوا به شيئا).
وانظر إلى ثمن هذه العبادة لما استدرك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معاذ بن جبل: قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك: قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق العباد على الله أن لا يعذبهم) ([3]).
هكذا تبدأ تربية المسلم، بخوف العذاب واستحضار هذا الخوف كلما قرأ القرآن، فقد جعل الله تعالى وجل القلوب صفة إيمانية فقال: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) حتى تقشعر الجلود من بعد، كما قال الله تعالى: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)، ثم يكون انهمار دموع العين، فإنهم (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ).
وتتساقط دمعات أخريات إذا يوبخ أحدهم نفسه ويحثها أن:
ويحك يا نفس احرصــي
- على ارتياد المخلـص
وطاوعــي، واخلصــي
- واستمعـي النصح وعي
واعتبري بمـن مضـــى
- من القـرون وانقضـى
واخشي مفاجــأ القضــا
- وحاذري أن تخدعــي
ويظل وجلا حتى يستوقفه الرجاء،ويتذكر أن رحمة الله سبقت غضبه، فتتعادل حالته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(ولو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة: لم ييأس من الجنة. ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب: لم يأمن من النار) ([4]).
ويأخذ يرجو لنفسه الخير إذا رأى نعمة الله عليه في الإسلام، وأنه أحسن حالا من الكافر وأولى بأن لا يطرقه اليأس، ثم ينتبه إلى نقصان حاله عن كمال الإيمان، فيظل لا يجزم لنفسه بالأمن.
(الصفة الثانية): ذوق حلاوة الإيمان:
كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقي في النار)([5]).
فحب الله أول موارد هذه اللذة، وهو أصل إيماني ثابت كررت ذكره الآيات، كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ)، وإذا كان هذا الحب من العباد: تكرم سبحانه عليهم بحب مقابل، كما قال عز وجل: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ولذلك جمع الله تعالى هذين الحبين المتقابلين، فأنبأ عن نفسه وعنهم، أنه وإنهم: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).
وحب النبي -صلى الله عليه وسلم- مكمل لحب الله تعالى، ولا نشهد لمن تجرد عنه بإيمان، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (فو الذي نفسي بيده: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) ([6]).
وينمو هذا الحب بكثرة ما نتلقن من فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم- وشمائله وأخلاقه، وبكثرة ما نقرأ من صفحات الحديث، وتلك هي التربية التي نعنيها.
(الصفة الثالثة): علو الهدف الواحد:
فالاختيار إنما هو اختيار واحد، وقد تجنح النفس إلى اختيارات هابطة تزاحم هدفها السامي، إلا أن التقاء الهدفين محال، وسد الشاعر طريق التقائهما لما أخبرنا أن:
الهوى الدنيوي والهدف العلـوي
- في النفس ليس يلقيـــان
وهذه الحقيقة تدعونا إلى تجريد وتمحيض الإخلاص في نفوس الدعاة العاملين، وأن يتحرروا من كل الأطماع والشوائب، وأن يظل هذا التجرد يتعاظم فيهم حتى يصل إلى درجة التبتل في أداء العمل للدعوة الإسلامية المباركة، ويصيرون (كأن مادتهم من السحب، فيها لغيرهم الظل والماء والنسيم، وفيها لأنفسهم الطهارة والعلو والجمال، يثبتون للضعفاء أن غير الممكن ممكن بالفعل، إذ لا يرى الناس في تركيب طباعهم إلا الإخلاص، وإن كان حرمانا، وإلا المروءة، وإن كانت مشقة) ([7]).
إن طريق الدعوة واحدة لا يحتمل الشركة، وعلامة الداعية القائم لله ولنصرة دينه بصدق: (أن يكون أنسه بالله تعالى: والغالب على قلبه: حلاوة الطاعة، إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة، إما محبة الدنيا، وإما محبة الله، وهما في القلب كالماء، والهواء في القدح، فالماء إذا دخل: خرج الهواء، ولا يجتمعان، وكل من أنس بالله: اشتغل به ولم يشتغل بغيره، ولذلك قيل لبعضهم: إلى ماذا أفضى بهم الزهد؟ فقال: إلى أنس بالله، فأما الأنس بالدنيا وبالله فلا يجتمعان) ([8]).
(الصفة الرابعة): امتزاج القلب والعقل:
فإن الإنسان هو هو: ساذج منخدع.
والأهواء هي هي، كيدها لا يعظ البعض، فيأبون إلا تكرار التجربة، والسير في الدرب الهش، وقد خدعت هذه الأهواء الشاعر مع علمه بأنها استدرجت سلفا له، وأخبر أنها ستظل تغري اللاحقين، فراح يكشف الحقيقة، ويخفف من مراراتها بتوهمه لذة فيها يستطيبها، ويقول:
يا طيب أهواء
- تغري ولا تسلي
لم يغنني عنها
- من سار من قبلي
كم موكب بعدي
- في لهفة السؤل
يمشي على دربي في مدرج الرمل!!
انظر: غنها لهفة السؤل، أي تفكيره العقلي فقط، لا تأمله الروحي القلبي.
لكنها عندنا هي حياة القلب والعقل معًا، ولا بد من امتزاج العواطف الإيمانية بالعقل الاتباعي، ولا العقل الحر الأهوائي، إلا ما يكون من العمل بإشارة العقل السليم لاكتشاف المصالح الكامنة ي الأعمال لتكون دليلا لنا إذا لم يكن هناك نص شرعي، وليس هو العقل الذي يتجاوز صحاح النصوص فيتخبط.
ومازالت هذه الساحة مجال صراع منذ القرون الأولى، ومازال أمرنا يقوم على نقد العقلانية المعتزلية، وترك القياسات المفرطة المعطلة للأحاديث الصحيحة.
(الصفة الخامسة): رفض التسلط الجاهلي:
فإن من لا يضبط نفسه: لا يؤثر في غيره.
وقد قال إقبال:
كل من في نفسه لا يحكم
- هو في حكم سواه مراغم
أي: يحكمه سواء رغما عنه، وكما أنه في النفس فهو في الحكم السياسي العام أيضًا، تحكمه الأحزاب، ومجاميع المغامرين، حتى ليجد السفيه ثغرة يلج منها فيتصدر، وذلك ما أخبرنا به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتحدث عن علاقات الساعة قائلا يصف شدة الانحراف:
(إنها ستأتي على الناس سنون خداعة: يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة: قيل وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة) ([9]).
وكم من رويبضة اليوم يقود، غفلة الشعب فقط هي التي أوصلته، يعطيه في الانتخابات الأصوات على غير ما هدى وبلا ميزان، أو يعزف عن العمل الجماعي المنظم فيؤسس السفيه عصابة ترفعه.
والوعي إزاء هذه الفلتات وعيان:
وعي رجل يعاتب الشعب، ويستنكر غفلته، ويقف ع ند مجرد التبكيت، ويدقق في محاسبة السذج، وتقريعهم، ويستعلى مستشفيا، ويترك الجيل المخدوع في ورطته، منزويا هو بوعيه، ويظل يردد من مقبعة مرة بعد مرة أن:
يا شعب لا تشــك الشقــاء
- ولا تطل فيه نواحــك
لو لم تكن بيديك مجروحـــا
- لضمدنا جـــراحـك
أنت أنتقبيــت رجال أمــرك
- وارتقيت بهم صلاحـك
فإذا بهم يرخون فــــــوق
- خسيس دنياهـم وشاحك
أيسيل صدرك من جراحتهـــم
- وتعطيهـم سلاحـــك
لهفي عليـــــك، أهكــذا
- تطـوى على الذل جناحك
ولم يقل غير الحق ولا وصف غير الواقع، ولكن وعيه هو الوعي السلبي المفضول، ويقابله وعي داعية مبادر، كله إيجابية واستدراك، قد تيقن أن الشعب ضحية تربية أرادت له الاستكانة وحرمته قواعد التمييز، فهو في حث لهم، واستنهاض وتجميع، وتربية، وتنظيم، ليكتسح بهم منازل السفهاء ووكر كل رويبضة، فيطفق يعلمهم مع رشيد مغزى التكبير العاصف بالطواغيت، ويلقنهم الهتاف..
فتيــة الإســلام إن باغ تجـبر
- فاصرخي في وجهــه:الله أكبر
وإذا الغادر عن لــؤم أشاحـــا
- فأطلقوهـــا صرخة: الله أكبر
ومن القــرآن فلنقبس هـــدان
- كبروا يا إخــــوة : الله أكبر
يد عــزم بيد أخـرى سننصــر
- فيــدوي عـزمنــا: الله أكبر
ثم يقف بهم على ثنية ثانية، وفي صعدة أخرى، من بعد ما بين لهم نظام العمل الجماعي، ونهج الحكم الإسلامي، ويدع للرافعي المنبر، ليشدد عليهم، ويزيد نظرية تأثير التكبير تأكيدًا، فيدوي صوته...
- (لا تضطربوا.. هذا هو النظام.
- لا تنحرفوا.... هذا هو المنهج.
- لا تتراجعوا... هذا هو النداء.
- لن يكبر عليكم شيء ما دامت كلمتكم الله أكبر) ([10]).
إن الشعوب قد طوت على الذل جناحها، وسلمت سلاحها، وهي التي جرحت نفسها إذا رضيت بالمخادعين، حكامًا، ولو كان منطقنا دنيويا لوقفنا موقف العتاب والتقريع للشعوب، ولكنه واجب شرعي كلفنا الله به: أن نزيل هذه الطواغيت، وأن نكون نحن المصلحين لإفسادها، الوارثين من بعدها.
(الصفة السادسة): عيش الجد الدائب
وهو الذي كان عليه أكثر الصحابة، وأجيال الفتوح الأولى من التابعين، والذين أرسوا قواعد العلم منهم ومن أتباعهم، وعمر بن عبد العزيز وجماعته الذين جددوا الأمر، وأحمد بن حنبل ورهطه الذين تصدوا للبدع، والمجاهدون من الفقهاء، والدعاة الذين تركوا في مقالتهم قصصا فيها تذكرة لأولى الألباب.
لقد رصدوا أنفسهم للتأثير في الحياة، ولم تكن لهم آمال شخصية، ولذلك استطاعوا إعزاز الإسلام، فقبس لهم الإسلام من عزته.
وتملأ ميتة مصعب بن عمير رضي الله عنه نفس الداعية موعظة حتى ليكاد أن يشرق باللقيمات قبل أن يقلقه التنعم والبطر.
ففي صحيح البخاري: (أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كفن في بردة، إن غطى رأسه، بدت رجلاه، وإن غطى رجلاه، بدا رأسه) قال الراوي: (وأراه قال وقتل حمزة وهو، خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام) ([11]).
هكذا ميتة الفتى الذي كانت تدلله أمه وتلبسه ثواب الحرير مرة واحدة تستبدله بغيره إذا اتسخ، لا تغسله.
آمن لما عرف الحق، فتجرد.
وبقلة يقتدون يتجرده تستطيع الدعوة أن تغير مجرى الحياة، ولكن الدعاة اليوم يطمعون، فيكسلون!
إن التحديات المنتصبة أمام الدعوة لكبيرة حقا، والمعركة دائبة، ولا أمل إلا بإحياء السمت القديم الأول.
وتعجب حقا لدعاة تراهم في كل بلد، يستطيعون الجلوس إلى بعضهم طويلا، ويتبادلون التحاب، تغمرهم رحاب التآخي، والصراع من حولهم مستعر، ولو أنهم التقوا سراعا لقاء التناصح والتواصي، ثم نفروا يعلمون الناس ويتجولون، لكان خيرًا لهم، ولكانت دعوتهم أظهر.
(الصفة السابعة): رهبة موقف الموت:
فيستحضر موت المعتمد بن عباد رحمه الله، الذي حكم الأندلس دهرًا، كأعز ما تكون الملوك، ولما عزله المرابطون ونفوه إلى أقاصي مراكش ومات: ما زاد الناس في التنادي للصلاة على جنازته غير قولهم: (الصلاة على الغريب) ([12]).
وللعاقل في ذلك عبرة، وذو القلب الحي يشعر بغربته في هذه الدنيا قبل النداء عليه، ويدرك أن:
الناس في هذه الدنيا على سفر
- وعن قريب بهم ما ينقضي السفر
فمنهم قانع راض بعيشتـــه
- ومنهم موسـر والقلب مفتقــر
والنفس تشبـع أحيانا فيرجعها
- نحو المجاعـة حب العيش والبطر
فيختار القناعة، ويرضى بغني القلب، وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن، ولذلك يجب استمرار خوف أحدنا من بقية عمره، حذرًا أن يوسوس الشيطان له بنكوص، وهو الله وحده يثبت القلوب، ومن هنا كانت المحاسبة ركنا أساسيًا في الاختيارات التربوية الإيمانية التي أرشدنا إليها الإمام البنا رحمه الله، وأوجب علينا:
(أن نحاسب أنفسنا على الماضي، وعلى المستقبل، من قبل أن تأتي ساعة الحساب، وإنها لآتية...
على الماضي: فنندم على الأخطاء، ونستقيل العثرات، ونقوم المعوج، ونستدرك ما فات، وفي الأجل بقية، وفي الوقت فسحة لهذا الاستدراك.
وعلى المستقبل: فعند له عدته، من القلب النقي، والسريرة الطيبة، والعمل الصالح، والعزيمة الماضية السباقة إلى الخيرات.
والمؤمن أبدًا بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه) ([13]).
(الصفة الثامنة): عزم التعاهد المبكر:
فإن طريق الوفاء نحن فيه.
وإنك بمجرد أن تكون داعية: تعادي.
وإنه لقانون يبشر به ورقة بن نوفل نبينا -صلى الله عليه وسلم- فيقول:
(لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى).
عداوة تطلق لمروءة ورقة العنان فيقول:
(يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك).
ثم يبادر فيبايع:
(إن يدركني يومك: أنصرك نصرًا مؤزرًا) ([14]).
وهكذا سن ورقة في أمتنا سنة المبادرة المبكرة إلى التعاهد، فألزمنا من بعده.. لا فكاك.
وفي ذلك إشارة قوية إلى ما يجب أن يكون عليه الداعية من همة الوفاء، وأن عليه نصر يوم الدعوة الفاضل.
(الصفة التاسعة): خروج المخاطر الباذلة:
فإن عملنا هو عمل تعرضي، وما هو بمجرد عمل سياسي بحت، ولا هو بالعمل التربوي المجرد، وإنما نحن حركة لدعاتها مخارج ومخاطرات، وبذل.
كذلك سماها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن أفضل العمل، فقال:
(رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء) ([15]).
فانظر وحلل هذه الكلمات: تجد كيف أنه:
خرج: وهو الخروج اليومي للتبشير بالدعوة، أو دخول المعارك الحاسمة، لا يحدث نفسه بأوبة.
يخاطر: فسماها مخاطرة، وإلا فما أسهل الإقدام على العمل المضمون.
بنفسه: أي بروحه، بدمه، بجسده، لا يخشى حبلا ولا رصاصة.
وماله: أي براتبه، وموارده، وأملاكه التي هي ملك الدعوة وأجازت له الانتفاع منها.
فلم يرجع بشيء بعد ذلك، لأنه انتقل نقلة البذل في الله، ومن طبيعتها أنها لا رجوع فيها، بل لها توجه نحو الأمام فحسب، بلا التفات.
يقدم لها غير وجل، ويقول غير آسف:
وأراني أسمــو بسعيي ووعيـي
- عن جزاء من معدن الأرض، بخس
حسب نفسي من الجزاء شعــوري
- أنني في الإلـه أبذل نفســــي
لكنها الأرض قد اهتزت وربت وأنبتت البهيج لما كان البذل.
(الصفة العاشرة): قطع العلائق الدنيوية:
ولا عجب إن كررت هذه المواعظ ذم الدنيا واقتصرت على أمور الدين، فإن الأكثرين قد شغلتهم الدنيا حتى صاروا بمسالكها خبراء، ولكنه الدين الدين، كما قال عطاء بن يسار:
(دينكم دينكم، لا أوصيكم بدنياكم، أنتم عليها حراص، وأنتم بها مستوصون) ([16]).
والتخفف منها ضروري للإسراع في خروج المخاطر، ومن استكثر، أثقلته وألهته، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: (إن قليلا يغنيكم خير من كثير يلهيكم)، ولذلك كره الفقهاء كثرة التمتع بالحلال، لما فيه من تخذيل المتمتع عن الجهاد وإبطاء النفرة.
وما لم يكن هذا ا لتقلل: كان الاسترسال في الاستزادة، وعراض التمنيات، فإن إغراءها دائم لا يفتر، والنفس تضعف، وكم من لاحق لم يعظه ماض، ولما التفت الشاعر بعد الانتباهة وجد الركب مزدحما، ورأى وراءه قوما ما زال يستدرجهم حبها، فقال ندمان آسفًا:
ما أنت يــا دنيــا ومــا
- أبقيت للأحـــلام مني؟
تطوين بالإغراء أيامــــي
- وأطويها تمنــــــي
غنيــت حبك وانتشيـــت
- وكم فتى بعدي يغنـــي
ولذلك كان من تمام واجب الدعوة أن تنتشل دعاتها من ركب النشوة الهائم، وتميزهم في ركب جد مستقل، وتعاكس أغاني الغافلين بحداء التوبة الإيمانية، إذ يرفع الحادي صوته شاكرًا...
صحــا قلبي وأقصـر بعد غي
- طويل كان فيـه من الغوانـي
بأن قصد السبيل فبــاع جهـلا
- يرشد وارتجـى عقبي الزمان
وقدما كان معترمــا جموحـا
- إلى لذاته سلس العنــــان
وأقلع بعـد صبوتـه وأضحـى
- طويل الليــل يهرف بالقران
ويدعو الله مجتهـدا لكيمـــا
- ينال الفوز من غرف الجنـان
- فتمضى قافلة الخير في الطريق عازمة.
غير أنه طريق الفتور الإيمانية، لا طريق الرهبان النصارى، كما قال بعض الشيوخ: (طريقنا تفتي وليس تنصر).
قال بن تيمية: (يعني هو استعمال مكارم الأخلاق، ليس هو النسك اليابس) ([17]).
وآية ذلك: أن لا تترك المال بتاتا، فإنه عصب الحياة والعمل، ولكن تجعله في يدك لا في قلبك، غير فرح به إذا أتى، ولا آسف إذا فات، كما قال تعالى: (لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ).
مسيرة الخطوة الواحدة
هذه الصفات: بعضها يسند بعضا لتكوين الشخصية الإيمانية التي تتولى تنفيذ الخطة الإسلامية.
وفي كلها فضل وخير، غير أن نفس الداعية الحر تبقى طامحة إلى نيل الشهادة.
ليس بين مقتله وبين الجنة إلا خطوة واحدة، كما وصفها جابر بن عامر شاعر ربيعة للإمام أحمد أيام المحنة، إذ لقيه وهو يرسف في الأغلال يقودونه إلى المأمون، فقال جابر:
(يا هذا: ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة ها هنا!) ([18]).
ليس أكثر.
قال أحمد: فشدت كلمته قلبي أيما شد، وثبتتني.
وهكذا: أقل من خطوة.
القتل هاهنا.. والجنة هاهنا... متجاورين.
ليس بينهما صحراء..
وما ثم إلا نقلة.. يسيرة.
وسمع عمر رضي الله عنه إنسانًا يقرأ الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ) فقال عمر: (إنا لله وإنا إليه راجعون، قام رجل يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فقتل)([19]).
قال الطبري: (فكل من باع نفسه في طاعته حتى قتل فيها، أو استقتل وإن لم يقتل، فمعنى بقوله: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه، أو في أمر بمعروف أو نهي عن منكر) ([20]).
وهو، كما يقول الطبري أيضًا: (إنما شراها للوثوب بالفريق الفاجر) ([21]).
والوثوب بالفاجر هو اللفظ الصحيح لقولنا: الوثوب على الفاجر، أي الثورة عليه، ومنازعته، ومحاولة تنحيته.
فهذا واجبك أخي، فامض إليه.
• أنت مدعو للوثوب بالفريق الفاجر الذي استولى زورًا.
• ولك من الجزاء: مرضاة لله.
• وقد ربح البيع، ربح البيع.
([1]) ذيل طبقات الحنابلة 2/382.
([2]) ذيل طبقات الحنابلة 2/230.
([3]) صحيح البخاري 8/130 طبعة محمد صبيح.
([4]) صحيح البخاري 8/123.
([5]) صحيح البخاري 8/13.
([6]) صحيح البخاري 1/12.
([7]) وحي القلم 2/291.
([8]) إحياء علوم الدين 4/241.
([9]) حديث صحيح في مسند الإمام أحمد برقم 7899، بتحقيق أحمد محمد شاكر.
([10]) وحي القلم 1/360.
([11]) صحيح البخاري 2/93.
([12]) نفح الطيب 5/356.
([13]) عن العدد الخاص من الدورة القديمة من مجلة الدعوة.
([14]) صحيح البخاري 1/6.
([15]) صحيح البخاري 2/24.
([16]) الزهد للإمام أحمد/317.
([17]) مجموع فتاوى ابن تيمية 11/84.
([18]) مناقب الإمام أحمد/312.
([19]) تفسير الطبري بتحقيق أحمد ومحمود شاكر4/250.
([20]) تفسير الطبري بتحقيق أحمد ومحمود شاكر4/250.
([21]) تفسير الطبري بتحقيق أحمد ومحمود شاكر4/250.
نظرية الأجيال القيادية
أثقل الأعباء في الدعوة: أن يتولى الداعية القيادة، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما وبعض التابعين أن الإمامة كانت إحدى الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم عليه السلام والمشار إليها في قوله تعالى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)([1]).
وإن سيادة الأقوام –عند الشاعر- فاعلم: لها صعداء مطلعها طويل، كما أن السيادة والرياسة والعلي-عند آخر- أعباؤهن- كما علمت- ثقال.
فليست القيادة بالعمل البسيط أبدًا، وإنما هى تكليف لا تشريف، كما شاع هذا اللفظ بحق، خاصة إذا كان المكلف بها مستشعرا واجباته تمام الاستشعار، جيد التحسس لمسؤوليته أمام الله تعالى إن قصر أو ضيع الأمانة، عارفا بما ينتظره من حساب مضاعف إذا تصدى لما هو أليق بغيره، وتكلف الظهور دونما إتقان عمله، والكلام في هذا عن الراشدين رضي الله عنهم وغيرهم كثير.
إن القيادة لا تنفرد بشرف خاص، بل العمل الإسلامي كله شرف، إن كان الداعية في قمة المسؤولية أو كان تابعًا منفذا، والدعاة –كما شبههم الرافعي- هم في تجمعهم كحب القمح في السنبلة([2])، إذ كل السنبلة المنظومة خير، وكلها نفع، ولست بالمميز حباتها، بعد إذ تنتفع منها. وهكذا العمل الإسلامي: أهمية كل عضو فيه وأجره كأجر القائد، حتى يكاد أن لا يبقى للقائد من قيادته إلا حمله المرهق.
من هنا يكون القائد الحاذق البصير بمصلحة دنياه وآخرته ميالا إلى عدم التفرد، حريصا على إحاطة نفسه بأعوان كثيرون يوزع عليهم الجهد، ويعينونه في حمل الأمانة، وإلا فإنه إن تفرد، أو طلب الأعوان فلم يجدهم: وقع في العجز، وقارب أن يستحيل عليه الإصلاح وإبداء أثر كبير، وأصبح في ظرف كالذي مر به عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فإن همته كانت عالية، لكنه كان قد ورث مشاكل كثيرة عن الخلفاء الذين سبقوه، وكانت الفتن قد استعرت، فتن الخوارج وغيرهم، مع هبوط في حمية الجهاد، شاع بسببه بين الناس الحرص على الأموال بجشع ونهم، فلم يستطع عمر أن يستدرك، لبقاء الثقل عليه وحده، حتى قال التابعي إياس بن معاوية بن قرة:
(ما شبهت عمر بن عبد العزيز إلا برجل صناع حسن الصنعة ليس له أداة) ([3]).
إن ظاهرة عدم استمرار الإصلاح الذي أتى به عمر تعطينا موعظة كبيرة في التدليل على أهمية الأعوان، إذ لم يكن فقهاء المدينة الذين زاملهم، وأقرانه في التلمذة لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة كثرة، وكأنهم أقل من أن يسدوا جميع الثغرات التي ثلمت صفاء المجتمع الإسلامي آنذاك، وقارب عمر أن ينفرد بحمل كل الثقل، ولهذا لم يستطع بلوغ ما بلغته أمانيه، وفي هذا دليل على أن العمل القيادي ما هو بعمل فردي، بل لا بد من قيادة جماعية تكفي حاجات العمل الواسعة، فكما أن النجار لا يستطيع أن يعمل دون مطرقة ومنشار ومسمار، فكذلك القائد لا يستطيع أن يقود بدون أعوان.
إن هذه القيادة قد يكون فيها من هو بارز، وأبرع من الآخرين، وله همة أبعد، أو له حماسة أشد حرارة، ويمهر في الابتكار والتخطيط، فيحتل مركز الصدارة تلقائيا، ويكون رأس الجماعة، ولكنه إن كان فردًا لا أعوان له فكأنه صاحب مهنة لا أداة له، ولك أن تتصور بطالة حداد لا سندان له ولا نار.
هكذا الدعوة أيضًا، لابد أن تفكر بتكوين جيل قيادي مناسب في سعته لطبيعة ضخامة العمل الذي تتعرض له، ومتكامل من ناحية الاختصاصات المتنوعة.
ومن هنا كان خطأ الحركات الإسلامية التي تربط مصيرها بمصير قائد واحد مهما كان فذا بارعًا، فإنه إن مات أو قتل أو حجب عن العمل لسبب ما فإن العمل سيضمر ويضعف لا محالة.
التفاعل مع الخطأ نصف التربية
ولكن هذه العملية في تكوين هذا الجيل تحتاج إلى صبر ووقت، وتحتاج إلى تفهم ونظرة واقعية وتضحية من جانبين:
جانب القائد نفسه: أن يشرك غيره في الأمور، لا يجمعها بيده، فبعض القادة يصلون إلى درجة الوسوسة في تنفيذ الأمور، فكما يبالغ المتوضئ في وضوئه: يبالغ القائد في التدقيق وطلب إتقان التنفيذ، فيرى الذين من حوله أقل مهارة منه، وأنه لو نفذ بنفسه، لازداد التنفيذ حسنا، فيحجر عليهم، يشعر بذلك أو لا يشعر، ويكون ملتقي طرق كثيرة، فتزدحم القضايا عليه، وتصبح الطرق الأخرى خالية ومجالا للنزهة، ولو أنه أوجد معاير وأنشأ جسورا ووزعها شبكة مرور منتشرة لما صار زحام، ولاعتاد الناس سلوك الطرق الأخرى وتدربوا عليها.
إذن هذا التوزيع حل حيوي من شأنه أن يكون طبقة قيادية متجانسة ذات تدريب وتجريب، مثلما هو تخفيف يمنع انفراد واحد أو قلائل بحمل ثقل العمل كله.
ومن جانب آخر، فإن هذه التضحية والنظرة الواقعية مطلوبة من الأعضاء أيضًا، ليكون القائد جريئا في تكليف غيره، وذلك بأن يعرف الأتباع ضرورة التجاوز عن المتدرب القيادي إذا أخطأ أو قصر، فإن مشاكل العمل ويوميات النشاط وعوامل التغير في المواقف تحتاج إلى اجتهاد متجدد لم يستتم له بعد، فهو في خطأ وصواب متناوبين يستمران مدة حتى يستقيم له الصواب ويطرد، ولا يكاد. كما أن نفسه لم يكمل ترويضها بعد، ولم ترتفع إلى درجة موازاة صفات التجرد الأعلى والتوكل الرفيع المفترض في القادة، ولم تنزل إلى أوطأ القناعة والذوبان الكامل في تيار الدعوة، فيلحقه بعض التقصير بين كل همتين وحميتين وجدين، وما لم يكن إخوانه من جنود الدعوة على نمط أوسط في تقدير جهوده، يرفضون الغلو في محاسبته كأنفتهم من التزلف له ومداهنته، فإن نفسه ستضحر،وسيحجم عن ممارسة قيادة فتح معها صدرة ليتلقي به بدلا عن إخوانه طعنات الأعداء، فإذا بظهره تملؤه نغزات المتزمتين من صحبة الدعاة.
إن المتدرب القيادي يكون جريئا مقداما في تصديه لارتقاء السلم القيادي، أو جبانًا، بحسب ما يكون من تقبل الأعضاء لخطئه أو إفراطهم في الغضب، إذ أن الطبيعة الإنسانية تدعوه للكف، ويجفل، وتعود مسألة تكوين الجيل القيادي صعبة لعدم وجود من يتصدى متطوعًا، ويكثر الجلوس على التل طلبا للسلامة من لسان الأقران، لا السلامة من أذى الأعداء.
إن الاعتدال، والتأول للمخطئ، والاستغفار له عند الكبوة:
أبواب عريضة لتكوين القادة، لكنها لا تعني بالتالي استطابة المتدرب للراحة والكسل، أو الغفلة عما في اللين السياسي والسلوكي من إلقاء الشيطان.
وهكذا، فإن هذين التنازلين المتكاملين، من القائد والأعضاء، هما ثمن هذه الأماني التي يحلم بها من يرهبه ضعف الطبقات القيادية وتعلقا لمستقبل والمصير بفذ رائد مبدع واحد.
يشفيك إن قال: وإن قلت: وعي
ولكن إن كلف القائد والأعضاء بدورهما في التمكين لإيجاد الصنف القيادي فإن التكليف يتجه إلى قدماء الدعاة من باب ثالث ليحسنوا دور التدرب، فإن القيادات المتعاقبة قد وضعت لهم مادة أصيلة من فقه الدعوة ونظريات متكاملة لسياسة الجماعة الخارجية وللشروط التنظيمية وطرائق التربية، وعليهم أن لا يكتفوا بترديدها فقط، بل يجعلونها مرتكزًا لمطالعة فقهية أوسع وأساسا لبناء آرائهم الاجتهادية التي يرجي لها أن تشارك في تطوير هذا الفقه وتصديق أو تخطئة هذه النظريات، فإن ما تختطه القيادات قد يصيب حقيقة الحاجة، أو يكون وهما لا يناسب الواقع، ويفترض في المتدرب أن يتشجع ويناقش، فإذا ثبت خطؤه فيما ذهب إلى كان ذلك له بابا لتعلم الصواب.
إن قرارات الدعوة يجب أن تصدر عن لجنة قيادية تطاع في كل الأحوال، ولكن التنظيم الناجح هو الذي يستطيع الإكثار من جلسات الحوار الملتزم برقة اللفظ بين أوسع مجموعة من أعضائه، فيتاح المجال لنمو العقليات القيادية التي تستطيع أن تدير جمهور الناس الواسع في فلك الدعوة، وكلما كان المتدرب متحليا بقدر أكبر من الأدب كلما كانت القيادات أكثر شجاعة على الثقة به وإشراكه في الحوار.
فإذا ثبت لك أن القيادة جيل ومجموعة، ليست فردًا: لم يعسر عليك إدراك ما يتم محاسنها، بجعلها خلاصة أجيال متعاقبة ليست جيلا واحدًا.
والأصل الذي نستند عليه في تبرير هذه السعة وإيجابها يكمن في مقدار استمرار الداعية على التحمل والمشاركة وبذل الجهد، وفي مدى احتمال تكرار فورة الهمة لديه، فإن للهمة ذروة بلغها في أول مرة قد لا يعود قادرًا على بلوغها ثانية، فيكون التباطؤ من بعد العنفوان الذي كان في سن الشباب، ويفتقد القديم فتوة الصبا، مع ما عنده من حكمة الشيوخ، ويغدو صاحب تجربة وعلم ولكن مشاركته اليومية تميل إلى الضعف، ولكل ظاهر شواذ.
من هذه الظاهرة نشتق وجوب تطعيم القيادة تطعيمًا تدريجيًا متكررًا بعناصر جديدة من شباب الدعاة الذين يمثلون أماني وتطلعات جيلهم.
وقد وجدنا لأبي مسلم الخراساني كلاما لطيفا في ما شاهده من طبائع الهمم، وهو قائد داهية، ومن الأفذاذ، وفي قمة الكفاية القيادية، مع ما فيه من سوء وفجور وشعوبية، فقد توجه له معجب به بعد خوضه معاركه الكثيرة التي أرسى بها دعائم الدولة العباسية فسأله:
(أي الناس وجدتهم أشجع؟)
وقد توقع أن يجيبه بأنه وجد بني فلان أشجع، أو فتيان مدينة كان له على أسوارها نزال، أو جنود معركة معينة، ولكن أبا مسلم قال:
(كل قوم في إقبال دولتهم شجعان).
وهو جواب مجرب ذكي حقا، ذكر فيه الشجاعة، لكنه أوما بها إلى جميع الصفات الإيجابية في الفرد، أنها تكون في أول إقدامه على اقتحام الأمر الذي عزم على خوضه أكثر توفرًا وأظهر، وكان للأديب الثقة أبي حيان التوحيدي استيعاب كامل لهذا الإيماء، وإحساس بميزة الجواب، فقال:
(وقد صدق، وعلى هذا كل أمة في مبدأ سعادتها أفضل وأنجد، وأشجع وأمجد، وأسخي وأجود، وأخطب وأنطق، وأرأى وأصدق).
وهذا الاعتبار بنساق من شيء عام لجميع الأمم، إلى شيء شامل لأمة أمة، إلى شيء حاو لطائفة طائفة، إلى شيء غالب على قبيلة قبيلة، وإلى شيء معتاد في بيت بيت، إلى شيء خاص بشخص شخص وإنسان إنسان([4]).
فكل جيل من الدعاة، نشأ في ظروف سياسية وفكرية وتربوية متقاربة، ربما يكون مؤهلا لمعالجة عواقب تلك الظروف، أكثر مما يكون جيل من قادهم، ورباهم، إذا تعبوا. وألهتهم مشاغل الحياة، أو أرهقتهم مداراة البيوت والأولاد، وعلى القدماء أن يتيحوا طريقا لأصحاب الدم الفائر، ويبقون لهم أهل نصح ورواية تجربة ومشاورة، فإن استغلال جودة معدن الصاعد الممتلئ همة في تدريبه على العمليات القيادية خير من الحجر عليه.
وما نظن أن ذلك يعارض ما ندعو إليه دائما من وجوب ثبات الجهاز التنظيمي، وعدم تبدله، حفاظا على التجربة، ذلك لأننا لا نزيد هذا التطعيم بطفرة تعزل العناصر المجربة، ولا استبدالها بعملية انقلابية هي بالفتنة أشبه، ولكن بتدرج ومراعاة القواعد الموازنة بين المصالح.
إن المراقب لا يصعب عليه أن يلحظ تأثير طبائع الظروف في طبائع الدعاة الذين ينشأون في ظلها، فطبيعة مرحلة الدعوة وعلاقتها بالأحزاب، وطبيعة المواقف من الحكومات القائمة، تترك آثارها ولابد على الشباب الدعاة وتجعلهم أكثر تفاعلا معها من تفاعل الكبار، وقد يكون جيل الكبار أجزل فضلا وأوسع علما، لكنهم ربما كانوا أقل تحسسا للمشاكل المصاحبة للظروف المستجدة لأن هذا التحسس يكون نتاج الصلة الكثيفة بالناس، وبأعضاء الأحزاب الأخرى، ووليد التفاعلات اليومية مع حيثيات السياسة والنشريات الصحيفة أكثر مما يكون وليد التأمل، وصلة الشباب وتفاعلهم أكثف ولا شك، وانعكاسات المشاكل هي في نفوسهم أوضح.
إن أفراد الجيل القيادي الأول شأنهم شأن كل البشر إذا تقدموا في العمر، يترهلون، ويمرضون بالمرض السكري، وأمراض الضغط، وتزداد مشاكل عيالهم، فتنثلم مشاركتهم القيادية، ويصعب عليهم أن يستمروا في انغماسهم الأول، وتتطأطأ ظهورهم تحت وطأة الحياة، وطلبات الأولاد، فيكون من اللائق تطعيم القيادة بعناصر الشباب، لإيجاد التعادل، ودفعا لحصول انقطاع ضار في طبيعة التفكير بين الجيل القيادي الأول وأجيال الدعاة الجديدة.
ليس هو التبديل التام للقيادة الأولى، فإن في رجالها البركة كلها، وعلينا أن لا نغالي في تقدير السلبيات التي يتعرضون لها بسبب تفادهم في العمل وتقدمهم في العمر، وقد ينجو منها بعضهم ويظل أعلى همة من الشباب وأكثر صلة وتفاعلات مع الناس والأحداث، وما مثل الخميني ببعيد، ولكننا نستصوب ما فعله الخميني من إحاطة نفسه بالشباب، ونطلب توازنا قياديًا يضم المعدنين، جميعا بين الشيوخ أصحاب الحكمة والتجربة والفقه، وبين الشباب أصحاب الاندفاع والتحرك والهمة الكاملة الجديدة، التي لم تستهلك الأيام منها شيئا بعد.
إننا إن كنا عددنا، للجدية أسبابا وربطناها بالعوامل العشرة، فإن نظرية الأجيال القيادية تعتبر بالتالي روح الجدية الجماعية، إذ لم نجد في قوانين الشرف أن من وصل القيادة يوما ما يجب أن يموت قائدًا، وإنما وجدنا مصالح للدعوة يوجب المنطلق السليم علينا تحريها والحرص عليها، وإذا أراد القياديون حيازة الفخر والشرف كاملين فإن طريقهم إلى ذلك يمر بتدريب الجدد، وإكسابهم ما جمعوا من حكمة، وإلا حصل انفصام بين طبائع الأجيال، وإذا كانت الإضافة إلى القيادة أنفسهم وبانتقائهم، أو بانتخاب يتاح فيه للدعاة الاختيار، فإنها خر من أن تكون شرطًا لإنهاء فتنة، يختلط به الارتجال، ويدلس الضعفاء به أمرهم.
وبمثل هذا المنطق ننقض نظرية استقلال تنظيم الموظفين عن غيرهم من الدعاة، أو عموم التنظيمات الاختصاصية، فإن الاختلاط القيادي في كل منطقة سكنية مطلوبة، ولا بد أن تجمع بين الهمم والقابليات والطبائع ليحصل التعادل التربوي والتحرك التنفيذي، وليس من الصواب أن يحتكر الموظفون الحكمة يتدلونها بينهم بينهم، ولا أن نمنع عنهم نبضات الناسئة التي يمكن أن تهز ساكنهم، وما هي بوصايا معدودة يدونها الحكماء لتشاع الحكمة ويباع ما كان محتكًا، ولكنها خواطر تروى على عدد الساعات، وتعقبيات على الفلتات والأخطاء، وثناء على الصواب، وتوسط عند التطرف وتباين الآراء، وإصلاح عند الغضب واختلاف القلوب، ودلالة على الذوق الجميل والهدي الحسن، وإفتاء عند الحيرة، ولن يكون كل هذا إلا بالامتزاج المسترسل المنساب غير المتكلف بين أجيال الدعاة ومعادنهم المتنوعة، ولا يتجاوز هذا المعنى غير داعية محدود التجربة، ولا تدخل العلل على الخطط إلا من نقص التجريب.
الدعوة المعطاء
وتظل هذه الدعوة معطاء، كثيرة الخير، ذات مقدرة على نجدة القضية الإسلامية بجحافل رجال تترى، ومد الزعيم المسلم الراغب بتطبيق نظرية الأجيال القيادية بأفذاذ يقتحمون.
ولكن الدعوات التي أنهت مرحلة التأسيس ولم تتوغل في الانفتاح بعد، أو الدعوات المتوغلة التي تجبرها الظروف الإرهابية على اختصار النشاط: يلاحظ فيهما المراقب المتسرع، ما يشبه ظاهرة الجزر في تكوين الرجال، ويظن أن هناك تقصيرا في تربية العناصر القيادية ولا يوجد من يخلف ا لرعيل المؤسس المتفاني أو يشابهه في علو الهمة وبذل الجهد.
وليس الأمر كما يصفه هذا الوهم، بل المضاهاة دائبة، ولكن العجول لا يري نشأة من يقتفي آثار الأوائل، والأسباب في ذلك أربعة:
(السبب الأول): أن المجموعة الرائدة من شأنها أن تكون صغيرة، قليلة العدد، كثيرة اللقاء، فيعرف الواحد منهم جميع من يبرع في مرحلة التأسيس، فإذا انتشرت الدعوة وكثر العدد: ضعفت هذه المعرفة، بصورة طبيعية، ويصرف نظر الداعية عن رؤية معادن جيدة، تعمل في غير القطاع الذي يتواجد فيه.
كما أن الدعوة قد تنشأ علنية أول مرة، فيعق ذكر صاحب الخير العامل، وتشهره الصحافة الإسلامية أو الحفلات والنشاطات العامة، ثم تضطر الدعوة إلى التحول إلى السرية والتكتم، حتى ليعمل الداعية بيمينه ما لا تعلمه شماله، وتتعمد القيادة التورية وإخفاء أسماء الصاعدين، خوفا عليهم من بطش الحكومات وإرهاب الأحزاب، فيظن المراقب توقف العطاء.
وخذ لنفسك موعظة في هذا الباب مما يجيش في صدور البعض من وساوس إذا ساررت الجماعة باسم قائدها وحجبت عن الجدد والعامة خبره، تأمينا لسلامته وتجنبا لأذى قد يلحقه، فهم يجفلون من ذلك، وقد يستبد بهم ظن السوء، أو لا يلمسون محاسنه، لعدم تعاملهم المباشر معه، ولربما زلت قلوبهم بنكوص قبل أرجلهم، فيأتي الوعي يحاورهم، يدعوهم إلى رؤية القرينة الواضحة والدليل الأكيد على نزوله منازل الثقات وصعوده مصاعد الأخيار، ويطلب منهم التأمل: كيف أنه:
يقود، وما خبرناه، ولكــن
- طهارة صحبة: الخير الجلي
وهذا منطق سليم قوى يفترض فيمن يعقله إنهاء صدوره والإسراع إلى الاستغفار، فإن حسن ظنه بالقائد المجهول ينبني على حسن معرفته بصدق وإخلاص وجدارة صحبة الظاهرين.
فكذلك ما يكون من خفاء أفراد الجيل القيادي الجديد، فإنك قد لا تلتقي بهم، ولا تقف على خبرهم، ولكن الضبط التنظيمي وتوسع النشاط يشكلان خبرًا جليا يفصح عن وجودهم.
(السبب الثاني): أن لعمل الدعوة شرة وفترة، والإيمان يزيد وينقص، وقد ذكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن لهذه القول شهوة وإقبالا، وإن لها فترة وإدبارًا)([5])، وتملك المجموعة قلبا مشتركا واحدا تعتريه فترات من التمهل بعد كل قوة، ولعل الرائي يري مثل هذه الظواهر الطبيعية، من الفترة والنقص، والإدبار، فيتزمت في تقديرها، ويبالغ في الإبتئاس منها، ويصفها بأكثر من حقيقتها، ويدعي أنه العقم في الدعوة، ويخفي عليه أن الإبطاء قد يعتري الجماعة كما يعتري الفرد، لوجود لافتن، أو طول، المسير ونحو ذلك، وغن الإسراع آت.
(السبب الثالث): أن الواجب اليومي الذي كان قد ألقي على عاتق جيل التأسيس في أول نشأة الدعوة يعتبر أصعب وأثقل من الواجب الذي يؤديه الدعاة في مرحلة انتشارها وسعتها، إلا أنه أقل إشغالا، وفيه تربية مستكنة لا تتطلب كثرة تحرك.
بينما نجد أن خطة بعض الحركات حين تقارب الانفتاح أو حين تتوغل فيه تجعل يوم الداعية مليئا بأنواع من النشاط كثيرة، وتكثف الجزئيات التنظيمية والتربوية، ويتعدد الذهاب والمجيء، واللقاء والاجتماع، وتتكرر المحاضرات والحفلات، والرحلات والمهرجانات، والألعاب والمسابقات، زيادة على ما قد يكون من المظاهرات والإثارة الجماهيرية، ونزول الانتخابات النقابية، وهذه السعة تجعل الوقت الحر الذي يصفو لكل داعية ضيقا جدًا، حتى ليشع رأسه على وسادته منتصف الليل مرهقا، فتضمحل مطالعاته المنهجية، ويبدأ يستهلك رصيده الذي كونه بالأمس، وتضطرب عباداته التنفلية، وشؤونه المعاشية والمهنية.
إن هذا النشاط الكثيف قد يجعل معاناة جيل الدعاة الجديد كبيرة وذات آثار تربوية تحريكية جيدة، وقد يزداد تجربة، ويتعمق فهمه لطبائع الناس، ولكن علمه بالمقابل قد يكون أقل، وسكينته الإيمانية مختلطة بتشويش، وشمائله الخلقية يشوبها نقص، ويصعب عليه أن يربي نفسه بنفس ذاتيا، وفي هذا من تعويق نشأة العناصر القيادية الكاملة ما فيه، مع أن استعدادها وافر جيد، ومع حصول نصف التربية اللازمة لهم، المتمثل بالمعاناة والتجريب.
والمظنون أن حل هذا الإشكال كامن في اختصار وجوه النشاط العام، نوعا وكما، بغية توفير أوقات حرة للدعاة، يفيئون فيها إلى أنفسهم وإلى مربيهم من قدماء الدعاة ومستنبطي فقه الدعوة، فيكون هناك تعادل وتكافؤ بين متطلبات المسار المرحلي العام ومتطلبات التربية الفردية، ويتم تخريج رهط كبير من القياديين الجدد بجهد بسيط يكمل لهم نصفهم الناقص.
إن هذه الظاهرة تقنع المراقب المنصف بأن جمهرة واسعة من الجيل القيادي الجديد موجودة فعلا، ولكن حجبها نقصها التربوي القليل ع ن الأنظار، ولا تحتاج غير نقلة يسيرة يكون بها تصديق نظرية الأجيال القيادية وأدائها لدورها فيها.
(السبب الرابع): أن التحدي هو المربي، وربما كان المفتش عن المعادن القايدية غير راء لها إذ فتش عنها في أيام لا يتاح فيها هذا التحدي كاملا، فإنه أنواع، وبواعثه مختلفة، ويفرضه وقت دون وقت.
وأول ظهوره في المسار يكون من أول أيام الدعوة في كل بلد، فإن الرعيل الأول يخوض تجربة تأسيس الدعوة، ويدخل معركة حياة أو موت، وإن كانت صامتة، فإما أن ينجح في التأسيس ويرى مبشرات استمرار الدعوة ، وإما أن يفشل، فيكون التلاوم، واستعار الفتن، و انتباه العدو، ولذلك يندفع الرواد بهمم حامية، أوفياء مشمرين، ويبذلون أقصى جهدهم، ويبدون أكمل تشيل لطاقاتهم، وتنتبه كل حواسهم، تشارك في إرساء قواعد البناء، فإذا نجح التأسيس مالوا طبيعيا لبعض الراحة والهدوء، كمثل طبيب يعالج مريضا في حالة خطيرة، يسهر معه، ويظل ملازما له، فإذا حصلت مؤشرات زوال الخطر، نام واستراح لا لكونه متعبا فقط، بل لأن في علامات الشفاء معنى التطمين.
ويهدأ بهدوء الرعيل الأول من معهم من الجدد أيضًا، فتظن أنهم لا يصلحون لعمل قيادي، بينما النقص ليس فيهم، بل في الظرف والمحيط، لا يوجد فيهما ما يستفز استعدادهم القيادي للظهور ويوقظه من سباته، وهم جيل كالأوائل قد يكون فيهم الضعيف المتراخي، إلا أن أكثر عناصره يمكن تدريبها الأداء أعمال قيادية صغيرة، وبعضهم أصحاب قابلية رفيعة تجذبهم المراكز القيادية العالية لها دونما تطاول منهم.
ثم تتاح فرصة ثانية لحصول التحديات المربيات مع دخول الدعوة في مرحلة الانفتاح، ويكون لعطاء الدعاة مجال نمو سريع، ولكن تتبدل صفات الجدارة والعوامل المحركة لروح التحدي في نفوس الدعاة، ويكون إتقان الداعية للعمل الجماهيري أو المشاركة الصحفية باعثا لإثارة ما في النفس من كوامن التحدي، بينما كان إتقان الاتصال الفردي والتربية التلقينية عنوانا للجدارة في المرحلة الأولى.
إن كثرة من الدعاة الذين نصنفهم مع الخاملين في مرحلة التأسيس يكونون من أهل النشاط في مرحلة الانفتاح، إذ أن الأعمال التي تفجر إبداعهم القيادي غير موجودة أيام النشأة الأولى، ففي البداية تتفجر طاقة من نوع واحد تتمثل في القدرة على التجميع والتربية والعمل الصامت، ولكن البشر تختلف طبائعهم وميولهم، فمنهم الكاتب، والخطيب، والسياسي، والإداري، وليست المقدرة الفردية على الإقناع والتربية غير صفة واحدة من عشرين صفة أخرى يحتاجها عمل الدعوة.
إن بعض الدعاة يغفل عن هذه الحقيقة، فيتطرف، ويشطب بالقلم على بعض من لا يجيد فن الاتصال ويحكم عليه حكما مستمرا بأنه فاشل، وذلك خطأ، فإن الناس معادن، وخدمة الإسلام متعددة المجالات، وطبيعة التأسيس لا تتيح ظهور جميع الكفايات، لعدم تيسر أغلب هذه المجالات، وإنما مثلهم كمثل ثمرة مغلفة بقشر صلب إذا كسرته: انتفعت بها.
وهكذا تنشأ صفات توثيق جديدة، ووصف للكفاية أوسع، ويتبدل مفهوم القيادية، وتصير البراعة الصحفية، أو المقدرة على الانبثاث، أو الوعي السياسي، أو البحث العلمي، أو حسن المحاضرة، أو إدارة الواجهات: أدلة بمفردها على أن صاحبها له مقدرة قيادية.
أما أن مثل هذه المقدرة القيادية هي في حدها الأدنى فنعم، ولكن لا مانع من استخدامها، إذ القيادة درجات، وأهلها طبقات، وفضلها موزع على منازل متصاعدة، ويبقى الحائزون على صفات الشمول وغزارة العلم وعمق الإيمان في القمة، ودونهم أهل الاختصاص والصفات المفردة، يتفاوتون في الفضل، وإن اشتركوا في الانتساب إلى المجموعة القائدة.
وقد يجمع الداعية بين الكفايتين المطلوبتين في المرحلتين، أو يكون صالحا لعمل قيادي تربوي هو طابع المرحلة الأولى، فاشلا في العمل الجماهيري وفي أنواع النشاط العام الذي هو طابع المرحلة الثانية، أو العكس، حيث يمكن أن يبرز لاحقا من كان يمشي الهويني آنفا، وتحتل عناصر المؤخرة مكانا واضحا في المقدمة، حتى لكأنها هي الطليعة.
كلام ما هو نتاج تأمل نظري مجرد، وإنما شهدت له أكثر من تجربة، كالذي حدث في السودان لما خاضت الجماعة معركة معارضة للحكومة والحزب الشيوعي أواسط السبعينات، وأثناء المظاهرات والإضرابات المشهورة بأحداث شعبان الخاصة، فقد أحجم دعاة عن النزول إلى الميدان بشجاعة، واحتل مكانهم المفترض رجال منسيون، كان القادة لا يعرفونهم، وإذا غابوا لا يفتقدونهم وأبانوا عن معدن مبادرة جيد، ونشأ جيل قيادي جديد واسع كان ظهوره أشبه بمفاجأة مدخرة طغي فرح القدماء بها على غرابة مقدمها حينا، وبهرت بساطة تعليلها وكشف أسبابها من كان من القدماء حينا آخر.
وكان قد حدث في العراق في أعقاب زوال العهد الملكي شيء مماثل، فقد فرضت الدعاية الناصرية قبل انقلاب تموز حصارا على الدعاة، ضاعفت أثره داعية الأحزاب العلمانية المتحالفة ضمن جبهة واحدة، فكان هناك انطواء من كثير من الدعاة على أ،فسهم، وتعطلوا عن النشاط، وكادت عملية التجميع أن تتوقف، إلا قليلا، وناء الجيل المؤسس بأعمال الإدامة دون ظهير جديد، فلما أرهقت أعمال الشيوعيين أهل العراق بعد الانقلاب، وحصلت المجازر المنكرة، تبدلت معايير الناس، وأصبحوا يرحبون بكل منقذ، وفطن الكثير منهم لما كان منهم من ظلم لدعاة الإسلام بفعل الإشعاعات الكاذبة، فانفتح مجال للتجميع غير محدود من خلال مقاومة الطغيان الشيوعي، وإن كان المجال الذي انفتح لحزب البعث وللقوميين يعتبر أرحب بكثير، لسهولة شروطهم وصعوبة التزاماتنا الشرعية، وبرز من بين الدعاة جيل قيادي جديد لم يكن الحاسب يحسب من قبل أنه سينشأ، وكان تطور الحركة الإسلامية في العراق آنذاك جزءًا لم يكن بالإمكان فصله عن التطور العام السريع للحياة السياسية في العراق.
إن هذه الأمثلة كافية للإقناع بأن لكل مرحلة جيلها وأهلها، وأن لكل حلبة رجالها، وأن هناك تفاعلا متبادلا بين كل ظرف والذين يعيشون يكفل استمرار التوالد القيادي، حتى أن الانتقال إلى مرحلة الصراع الثالثة قد يشهد مرة أخرى فشل بعض العناصر التي برزت في الانفتاح، مع ما كان لها من وعي وذكاء ومشاركة كثيفة في يوميات النشاط المختلف الوجوه، ويبزغ فجر جيل جديد آخر، وتتقدم عناصر كانت مغمورة من قبل تضغط وتناوش، وتتبدل صفات الجدارة مرة أخرى، وتكون صفات الشجاعة والبطولة في المواقف الحاسمة هوية انتساب جديدة لطبقة قيادة طارفة تستثمر ما بدأه الرهط التليد.
دعوة... ليست شركة تجارية
ولكن هذه النشأة التلقائية للعناصر القيادية لا تكفي، بل لا بد أن تصقلها معاناة مباشرة، فتكون المناقشة اليومية أو الأسبوعية لحيثيات الإدارة والتربية والنشاط العام بين القائد والمسؤول التابع مدرسة عملية لتلقينه الأحكام الجزئية والنظرات الاجتهادية المصلحية والنسبية في فقه الدعوة، ويجب هذا التعليم على كل قيادي، على اختلاف طبقات القياديين في التنظيم، مع القيادي الذي يتبعه، ولا يصح أن يضع القيادي الأعلى ثقته كاملة بأعوانه التابعين، فيجري لهم إرادتهم وطلباتهم دونما نقاش وحوار، فإن ذلك يضاد الحزم، ويحرمهم التعلم، ويقربهم من الهوى، وهو دليل الضعف.
وكان الوزير العباسي أبو عبد الله العارض قد عرض على الخليفة يوم استيزاره بعض أمور الرعية، فوافقه عليها الخليفة كلها، فبكي الوزير، فاستغربوا بكاءه فقال:
(عرضت على صاحبي تذكرة مشتملة على أشياء مختلفة، فأمضاها كلها، ولم يناظرني في شيء، منها، ولا زادني شيئا فيها، ولا ناظرني عليها، ولعلي قد بلوته بها، وأخفيت مغزاي في ضمنها، فخيل إلى بهذا الحال أن غيري يقف موقف فيقول في قولا مزخرفا، وينسب إلى أمرًا مؤلفا، فيمضي ذلك أيضًا له كما أمضاه لي)([6]).
ودعك مما في هذه القصة المهمة من تخوف الوزير من الوشاية، وخذ إشاراتها العامة، وما على القائد من وجوب وضع نفسه وجها لوجه أمام الوقائع؛ فاحصا ومستفسرًا.
بل يجب على القائد ما هو أكثر، فإن المفروض فيه أن يخالط الدعاة، يرى وعيهم أو سذاجتهم، ويكتشف طبائع آمالهم وأمانيهم، ويسمعهم إذ هم على سجيتهم يسترسلون، ليكتشف... إصابتهم فينميها، ونقصهم فيسده، ولا يسوغ في عرف العمل أن تروي الأمور للقادة مجرد رواية، والقائد الذي لا يستطيع مشارفة العمل بنفسه وتصعب عليه مقابلة دعاته وجها لوجه سيكثر منه الخطأ.
إن كل داعية يقف على درجة من درجات السلم القيادي الطويل، أيًا كانت درجته القيادية، ليس له إطلاق التوكيل والتفويض والإنابة لتابع له، أو حتى لمجموعة من أتباعه، وإنما يكون له ذلك في أحوال استثنائية ولمدة قصيرة، والصواب أن ينزل إلى مستوى جميع العاملين، ويفحص القضايا عن قرب، ويشافه ويستمع ويحاور، ليري وجه الحق بنفسه، إذ قد يولد بعض الهوى عند أعوانه خللا في الوصف يخرجه إلى ظلم وهو لا يشعر، أول إلى اطمئنان في وقت يجب فيه الحذر.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه الحالة تولد تكثيف الأمور التي يمسكها الداعية الوكيل، سمي وكيلا، أو لم يسم، إذ يفرض نفسه أحيانًا بما يبدي من كثرة نشاط، وليس ذلك من حكمة الإدارة، فإن اجتماع الأمور في يد واحدة يوزع الاهتمام ويشتته في أبواب كثيرة، فتضعف الرقابة، ويمتنع الإتقان، ويحال بينه وبين الإبداع، ويحرك أهل الهمم العالمية من التنافس في الخبر، مع ما فيه من تقريب هذا الداعية النشط المكثار من أمراض الرياء والغرور والعجب بالنفس، بما ينعكس على خاطره من أصداء هذه الأهمية فوق العادية التي وضع فيها.
وهناك ما هو أوطأ من هاتين الناحيتين سلبية، ذلك أن هذا الذي تراكمت الواجبات عليه، ووسعت الصلاحيات له، لا يرتقي إلى نفس مستوى الدافع الداخلي الذي يملكه القائد في مناقشة نفسه واستشعار التقصير، إذ على غيره تقع التبعة الأخروية الكبرى، وعليه الصغرى، أو على غيره ينصب النقد في الدنيا، وهو بجانب، وعلى تلٍ، يجني ثمرات المديح إذا أجاد وأحسن، بما ملك القائد من عدل يحدوه إلى الاعتراف بالفضل لأهله، وإن هو أخطأ وأسرف: نجا، بنفس العدل الذي يلفت نظر القائد إلى دوره السببي في ذلك، دون رؤية مجرد النتيجة، وبطبيعة الناس والأتباع إذ أنهم إذا حاسبوا ونقدوا: خاطبوا الرأس والأصيل، لا الفرع والوكيل البديل، ومنطق العقل يؤيدهم في مذهبهم، وأعراف الأمم تسوغ لهم، فيكون الوكيل سيد الحالتين: ناجيا، وللثمرات جانبا.
إن هذه الناحية جد مهمة، فإن مشارفة القائد للأمور بنفسه تولد فيه عوامل التقوى، فهو يتهم نفسه بالتقصير، وتكون فيه شعبة مما كان في عمر الفاروق رضي الله عنه من استشعار عظم المسؤولية، ويأخذ يتعب نفسه حين اليقظة، ويحاسبها إذا أقبل على النوم، وما بينهما أحلام ورؤى، لا تنفك تدور في مدار ما هو فيه من العمل، ويظل يسأل نفسه كل يوم: لعله ظلم أحدًا، ولعله دلس أمرًا، ولعله أبدى تقصيرًا، ولعله فوت فرصة، ولا يبلغ الوكيل مثل هذه المعاناة النفسية المنتجة مهما تكلف لها.
ويصح المعنى المعاكس لهذه المعاني أيضًا، فإن حياتنا التنظيمية تجعل من تمام محاسن الداعية التابع المنفذ أن يناقش قائده بالحسنى وكمال الأدب فيما يعرض عليه من أمور الدعوة، لعل في ذلك ما يظهر مصلحة خفيت على القائد، ولم نجد في قاموس الطاعة الفاضلة أن يسترسل التابع في الانقياد بلا سؤال وفحص عن فقه الأوامر والخطط، فإنه أحرى عندئذ، إذا اعتاد ذلك، أن يهب للمفتتن المثبط المشكك أذنا صاغية، كما وهبها لأميره، وإنما يحسن الامتثال إذا رآه قد عزم من بعد تقليب الوجوه وتوكل على الله.
وكأن هذا السلوك هو الذي أشار إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قال: (كثرة الوفاق: نفاق، وكثرة الخلاف: شقاق) فإن هناك حدًا يمكن تمييزه بين الدوافع المتعارضة في كل من الحالتين، والوفاق وفاقان:
وفاق وعي تتشابه فيه الأفهام، وتتناظر، ويجتمع به الصواب المتوزع.
ووفاق مداهنة أو ضعف شخصية وخمول ذهن.
والخلاف خلافان:
خلاف تمييز، وإيقاض للأفكار والخواطر السابتة.
وخلاف مراء، وتبادل اتهام.
والمخلصون موقفون للخير دائمًا.
الشرف ينال.. لا يمنح
وبمثل هذه الحقائق نرد أيضًا رياسة الشرف فينا، فإن عالما عابدًا ضعيفا، أو حازمًا أمينا تشغله ظروفه عن إلقاء نفسه في خضم المعركة، ليعتليان ذروة الشرف إذا تواضعا وأخليا مكانهما لمقتدر ممارس، وبإمكان الأتباع أ، يتبركا بهما وهما على كرسي منطق الواقع دون أ، نضطر إلى افتعال مكان لهما على كرسي القيادة.
وقد ولي رجل في الماضي ولاية، فقيل له: (الآن يظهر فضلك، فقال: ليست الولاية تظهر الرجل، بل الرجل يظهر الولاية)([7]).
وهو جد مصيب في جوابه، فإن الولاية مركز مجرد ليس فيه تشريف، وإنما الذي يحتله هو الذي يعطيه معانيه، فتكون ولاية الرجل قوية أو ضعيفة بحسب ما فيه من القوة والضعف.
وتجتمع القوة القيادية من موارد ثلاثة: صفات طبيعية وفطرية عالية يهبها الله تعالى لمن يشاء، من ذكاء وشجاعة وكرم، ثم الممارسة الخلقية والعبادية، ثم التثقف الكثيف، في علوم الإسلام والتاريخ والسياسية.
ولكنها ليست وظيفة حكومية يتنافس الدعاة عليها، بل يتقلدها الداعية بانبثاق تلقائي، وعن جدارة من خلال العمل اليومي الطويل، فتكتشف المجموعة أن حرى به أن يقود، دون حاجة لإطالة عنقه لها.
وكيف يخاف أحد أن لا يظهر فضل الفاضل والناس تفتش عن ذوي المقدرة القيادية بالمجهر؟
والمفروض أن هذه الثلاث تمكن القيادي من ثلاث:
من تولى الدور الأهم في التحريك.؟
ومن البحث التحليلي الناقد لأوضاع الدعوة، تطويرا وتصحيحًا.
ومن الاتصال بجميع المستويات، لتنمية قدرات الإبداع أو حل المشاكل.
إطعام الولدان: عقلة العجلان
ولكن الكفاية العالية التي يملكها العنصر القيادي قد تطمسها مشاكل المعيشة التي يزداد تعقدها مع مرور الأيام، ولذلك ساغ التفرغ، فكم من ذكي شجاع صبور لم ينهزم في ميدان إعالة أهله، وما لم تفرغ الجماعة عناصرها الصالحة وتكفيها فإن أماني المسار تبقى حبرا على ورق.
وضرب عمر بن عبد العزيز رحمه الله أسوة حسنة في فهم ضرورة تفريغ أهل الكفاية، فقال: (والله إني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن م سعود بألف دينار من بيت مال المسلمين، فقيل: يا أمير المؤمنين، أتقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك وتنزهك؟ فقال: وأين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير)([8]).
هكذا، وهو هو عمر الذي يطفئ شمعة بيت المال إذا بحث أموره الخاصة، حتى ليظن الظان أن أمنيته هذه تخالف قصص ورعه، ولكن كذلك هو الصواب لما يكتشف المكتشف أهمية العقلية القيادية الواعية المستوعبة.
كيف تسمح دعوة للأعمال المهنية المرهقة أن تستهلك طاقة قيادييها؟
إن المهنة تستهلك أحسن ساعات النهار، وهي الصباح، ولا تبقي للدعوة من القيادي غير فضول الأوقات، وأكثرها إحراجًا، حتى ليأتي إلى الاجتماع بإخوانه يتثاءب، وما نظن ذلك يسوغ في العقل، ولا أن ترضى به جماعة تحترم نفسها وتريد أن تنتصر.
ارفع الهموم المعاشية عن كاهل الداعية، ثم انظر عندئذ نتاج عقله، وكيف ستتحول خواطره إلى اقتراحات بناءة وخطط وكتابة، أو كيف تتحول طاقاته البدنية إلى مشاركة تنفيذية دائبة.
التأمل واجب جماعي تضره التجزئة
ولكن هذا التفرغ الوافر الخير قد تحكم عليه الجماعة بالفشل إذا لم تتم مراعاة شروطه، وهي شروط مهمة لم يحوها تدوين، ولكن دلت عليها تجارب التفريغ السابقة.
- وأولها: أن تعرف الجماعة أن المتفرغ المستشار لا تقاس مشاركته بجهود البدن كالموظف العادي، ولا يسوغ أن تضبط دوامه بساعات معينة تقيده، وليس من اللائق أن تضاعف الواجبات عليه أضعافا كثيرة تحطم أعصابه، فإن ميزة التفرغ الكبرى هي في إعطاء المتفرغ أوقاتا حرة وراحة بدنية يستغلهما في التفكير الهادئ واللقاء الثنائي بإخوانه، والمطالع الواسعة، وتربية نفسه، ومحاورة القياديين الآخرين، والكتابة الصحفية أو الفكية.
- كما أن تخصيص مكتب له يعد شرطا مهما لنجاحه في عمله، وغالب فشل المتفرغين يكون لعدم توفر المكان المريح البعيد عن الضوضاء والصخب، فيكون بيته هو مجاله، وتشغله زوجه، ويلهيه عياله، حتى يستأنس بالنوم والكسل تدريجيًا.
- ويجب إجزال المال له فإن العلاقات الاجتماعية التي تتاح أو تفرض على المتفرغ أوسع بكثير من علاقات الداعية المشغول بوظيفة أو مهنة، وكثر ضيوفه، ويصبح محتاجا لصرف اكبر، فإن كانت الجماعة لا تعطيه إلا كما يعطي مثيله في الوظيفة فإنه سيقع في الحرج، وسرعان ما يبدأ تفكيره بالتملص مما تورط فيه من التفرغ لجماعة تقتر عليه.
- ثم لا بد من مخصصات مالية كافية لتكوين مكتبة كاملة له في العلوم المختلفة، ولشراء الصحف اليومية والمجالات الأسبوعية المهمة، وللسياحة وزيارة رجال الحركات الإسلامية في الأقطار الأخرى والتباحث معهم، وتلك مكملا ضرورية لصقل مواهبه وإتاحة الفرصة له لاستثمار أوقاته، والمنطق الذي يبرز التفريغ هو نفسه الذي يبرز هذا الصرف.
- إلا أن أظهر السلبيات التي تعيق خطة التفرغ تكمن في الطريقة المعكوسة المنكوسة التي قد يتم بها، فبعض التنظيمات توجد طبقة من المتفرغين من الصف الثاني، ويبقى الصف الأول والقائد الأعلى دون تفرغ، فينتج عن هذا قصور الصف الأول عن مجاراة اطلاعات المتفرغين وثقافتهم وأمانيهم ومعرفتهم بواقع الحركة ويوميات العمل، ويحدث شبه انقصام بين المجموعتين، فمن متفرغ مطيع آنذاك على مضض، ويحكمه التذمر، ويود التفلت، ومن عاص والغ في تجريح الصف الأول والتكبر عليهم، والصواب أن يبدأ التفرغ من فوق، وتكون للأوائل الأولوية فيه.
إن هذه الشروط تبدو للوهلة الأولى من البديهيات الواضحة الغنية عن البيان، ولكنها كانت مفقودة في كثير من عمليات التفريغ وسببت لها الفشل، وأعطت سمعة رديئة لمبدأ التفريغ وللمتفرغين هو منها وهم في الحقيقة أبرياء، وما نقول كلامنا عن ظن وتخمين، ولكنه الواقع ومفاد التجريب.
وقد يظن البعض أن مثل هذه المباحث هي من اختصاص القيادات فحسب، وظنهم مصيب، ولكننا نرى أن ذكر هذه التفاصيل حول خطة التفرغ أمام الدعاة من شأنه أن يكسبهم تقديرًا صحيحا لسلوك القيادة التي تريد استدراك أخطاء التفريغ السابق، ويمنعهم عن ظن سوء أو اتهام بترف وبطر وإضاعة لمال الدعوة إذا وسعت على المتفرغين، مثلما في هذا التفهيم من حث للدعاة على الإنفاق بسخاء والتبرع لصندوق الدعوة.
وإذا صح هذا المنطق: صح معه منطق التفريغ الجزئي، كداعية فقير يحتاج إلى وظيفة مسائية ثانية، أو آخر خدم الدولة طويلا، فأحال نفسه على المعاش براتب تقاعدي وأخذ يسعى لممارسة مهنة أو وظيفة في شركة، فإذا كانت الجماعة بحاجة إلى أوقاتهما، ومنعتهما من العمل الثاني: جاز أن تعوضهما بعض التعويض، لانطباق الأوصاف السابقة عليهما، وساغ أن تخصص للمتقاعد مكتبا ونفقات ضيافة وسفر وشراء للصحف والكتب، اعتمادًا على تلك التبريرات.
الشورى المحركة
وهكذا يكون عطاء التفرغ دليلا جديدًا يؤكد صواب الأساس الذي ابتنيت عليه نظرية الأجيال القيادية، إلا أن هذا العطاء وتلك المحاسن لا بد له ولها من بيئة حاضنة، وحافز مستثمر، وتعتبر الشورى هي هذه البيئة المبتغاة المناسبة لاحتضان القابليات القيادية، وفيها تنمية طبيعية لثمار تربية التحدي، وتكميل لإلهام المعاناة، وإذا أراد القائد أن يكون ناجحًا فحسبه أن يتيح مجالات التشاور لينطلق إبداع جميع أصحابه الذين معه انطلاقا ذاتيًا.
وهي بمعناه النسبي في الإلزام أو الإعلام نقصدها، ودعاة كل بلد أعرف بالذي يصلح لهم، ولا مجال لن ينكر دعاة الإلزام صواب الإعلام إن رآه غيرهم، فإن من أطرف ما و قع لنا عن غير ما قصد أننا في القصة التي أوردنا تدليلا على جواز الاشتراط على القائد وإلزامه جهرنا بتخطئة تفسير جمهور الفقهاء، وملنا إلى غير الذي قالوه، وفي ذلك عبرة، وإن رأى الأكثرية قد يجانب الصواب.
لا نقصد الملام، بل ندل على مواعظ الأيام
وهكذا تكون القابليات الفطرية الفدرية التي صقلتها الثقافة والممارسة، والتربية التنظيمية المطورة لها، وفرصة التحدي المستعلي والمعاناة، والتفرغ، والجماعية الواسعة، واشتراك الأجيال المتعاقبة: ركائز سبعا ترتكز عليها العملية القيادية الناجحة المستمرة.
فإما حرص على هذه الموارد الثورة للطاقات القيادية، وإما التسيب والاضطراب والفتن وبقاء القيادة في واد وجندها في واد.
وكما أن القيادة يراد لها أن (تصفو من شوائب الخيلاء، ومن مقابح الزهو والكبرياء) فإنه يراد لها أيضًا أن تسلم من أطوار السذاجة، ومن وهن التفرد والإبطاء.
إن من الضروري الانتباه إلى أننا لسنا نعني بكل الذي قلناه قيادة معينة، وإنما هي ملاحظات عامة نحاول فيها تحديد ملامح مستقبل الدعوة من خلال تقويم حاضرها على ضوء تجاربها الماضية، وإذا كان هناك ثمة ارتباط لهذه الخواطر بصور شخصية معينة فإن مقصد الانتفاع من صوابها أو البعد عن الخطأ الذي وقعت فيه يشفع لذكرها، يجيزه ويبرره، ولم يكن من مقاصدنا أن نمدح أحدًا أو نجرح غيره، وما زال افتعال الداعية أو التشهير من الأخلاق الضعيفة في عرفنا، وفيهما دلالة على مرض مقترفهما.
ولعل يميل الشاعر تجد هنا، لما غضب صاحبه مما كان من الانتقاد، فأشهد الله: شهد الله ماانتقدتــك إلا طمعًا أن أراك فوق انتقاد
وهذا القلم هو نفسه الذي حث الدعاة من قبل على اجتياز (العوائق) ونبذ الفتن، وأوجب عليهم التزام الطاعة، وفقه الدعوة لا يتجزأ، ولا يحق لأحد أن يبتسر منه ما يظن أن فيه تأييد وجهة نظره ويخفي أو يعرض عن حجج تقابلها، وفي التوسط، وتحكيم النظر المصلحي، والقياس النسبي، مخارج واسعة تنتشل القادة والأتباع من ضيق كل اختلاف.
حوار، ومنهج... وقلب يلتذع
وإن نظرة ناقدة لأحوال بعض التنظيمات على ضوء موازين المسار الخططية قد تكشف حاجتها لتدارك يعدل أعرافها، ويخلصها من نقصها، ويضبط صعودها، ويقربها من سمت الجد الواجب.
والمظنون أن كل ضعف يصلح بثلاثة وجوه من الاستدراك:
- (الوجه الأول): اختيار قائد مسؤول جيد المستوى، معروف بطول الانتظام والانضباط، وقدم الانتساب، ويملك سمتا تربويًا، ويتفهم نظريات العمل، وله قدرة على تحليل المشاكل والوقوف على أسبابها، وأهم من ذلك: أن يكون صاحب فؤاد ملذوع يتحرق، بحيث تكون خطة تطوير النشاط وتربية الثقات شغلا قلبيا له، وليس هو ممن أعطيت له الصدارة تبركا بورعه الذي لا يسنده حزم، ولا لشهادته العالية التي تجعله وجها اجتماعيًا، ولا لكتاباته التي جعلت اسمه ذائعًا، ولا لصرامته الزائدة الجافة التي لا يرطبها طول عكوفة مع تفسير القرآن الكريم ومتون الحديث النبوي الشريف وتراث الفقه المبارك، حتى ليغدو كأنه قائد فيلق عسكري أكثر مما هو قدوة دعاة خلقوا للعبادة ابتداء، وكل استدراك لا يجعل تولية مثل هذا القائد أساسًا له فإنه سيصل إلى طريق مسدود لا يمكن عبوره مهما تعددت فنونه وامتدت آفاقه.
- (الوجه الثاني): المناهج القيادية الوافية والنشرات القيادية التي تخاطب الأعضاء، فإن نشوء الوعي في المجموعة لا يكون تلقائيا، ولا بد من توجيه، إذ الكتب كثيرة، وفيها متناقضات أحيانًا، والاختيار منها واجب، ولكل مرحلة من مراحل نمو الداعية ما يناسبها من الثقافة والمعلومات، كما أن الظروف الخاصة المحيطة بالدعوة في كل بلد تحتاج إلى شرح وتفهيم للدعاة، وتدوين التجارب العملية يعتبر ضرورة ومدخلا لتوسيع موارد الفوائد وتجنب أسباب الفشل، وكل ذلك من مهمة القيادة، كي يؤدي اختيارها للمعاني، ونقدها للماضي، ووصفها للحاضر إلى توحيد مفاهيم الدعاة، ووحدة المفاهيم هي أساس ترتكز عليه بالتالي وحدة القلوب ووحدة التنظيم.
- (الوجه الثالث): استضافة واستقدام دعاة قياديين من البلاد الأخرى والدخول معهم في حوار، يدلون خلاله بتجاربهم، ويتقدمون بالنصح، وتبرمج معهم الجلسات بحيث تستقصي القيادة آراءهم في المشاكل التي تتعرض لها الجماعة، وخطط العمل في جميع الحالات.
إن من الأهمية بمكان أن تفلت الحركة المستقدمة لهؤلاء من أسر العرف الدارج الذي يهتم بدعوة أصحاب الأسماء اللامعة فقط، من أصحاب المؤلفات أو البطولات الظاهرة، فإن كثرة من قدماء الدعاة يحوزون تجربة وافرة وعقلاء وفقها، ولكن انغماسهم في الاجتماعات والتنفيذ منعهم من التدوين والكتابة، وسبب سمت التواضع الذي يملكونه بعدهم عن الأضواء، حتى جهل جمهور الدعاة في البلاد الأخرى أسماءهم ووجودهم، والسؤال عن مثلهم ليس صعبًا، والإنصات لهم فيه انتفاع إن شاء الله.
وستختلف آراء هؤلاء في كثير من المسائل، ولسنا نرى بأسا كبيرا في هذا الاختلاف، وما نظن أن الخيرة ستستبد بالمجموعة القيادية أمام اختلافهم، فإن التقدير الذاتي وإملاء الظروف الخاصة يجعلانها تنتقي من كلام الوافدين وتدع، وتبقي نقاط الاتفاق هي الأكثر، وإذا رأت القيادة إغرابًا من الضيف المتكلم ومذهب في فقه الدعوة شاذًا يدندن حوله فإن بإمكانها أن تقتصر اللقاء به على نفسها فقط، دون توسيع مجال لقاء الدعاة الآخرين به.
بل من اللائق أساسًا كمعيار دائم أن لا نوسع دائرة الدعاة المشاركين في مناقشة الخطط والمواقف العامة، ما لم تكن خطة فرعية متعلقة بالقطاع الذي يعملون فيه، وذلك حفاظًا على السر من جانب، وتعويدًا للدعاة على ترك الفضول، فإن من الخطأ أن نثير تطلع الداعية الجديد في المسؤولية لأكثر مما يحتمله واقعه، إذ سيتعلم التدخل فيما لا يعنيه، وفيما لا يفهمه.
وإذا لمست القيادة فائدة محققة من استضافة القياديين والتباحث معهم فإن بإمكانهم أن تخطو خطوة أخرى أثبت وأجدر بالدوام، بأن تستعين بعنصر قيادي من الخارج، تستقدمه وتفرغه ليقيم في بلدها، ويعكف على دراسة الأحوال الخاصة للبلد ليكون مستشارًا دائمًا لها تنمو مقدرته بمرور السنين.
وبنفس مبررات هذا الوجه الثالث تبرر سياحة المجموعة القيادية في شتى البلاد فرادى أو مثنى مثنى، بحيث يتم إطلاعهم على آراء الرجال، ومبتكرات النشاط، ليرجعوا إلى إخوانهم بخير عياني يقين.
([1]) تفسير الطبري بتحقيق أحمد ومحمود شاكر 3/12.
([2]) وحي القلم 2/60.
([3]) تاريخ الخلفاء للسيوطي/ 239.
([4]) الإمتاع والمؤانسة 1/75.
([5]) كتاب الزهد لابن المبارك/469.
([6])
([7]) الإمتاع والمؤانسة 2/36.
([8]) الإمتاع والمؤانسة 2/36.
اختيار الاستيعاب
أجب عن الأسئلة الآتية:
1- أحص الأحكام الجزئية في فقه العمل الحركي التي نشتقها أثناء المسار وفقا لقاعدة ترجيح المصلحة الكبيرة على الصغيرة، وقارنها بما علمته من مثيلاتها التي تصاحب المنطق وتعين على تخطي العوائق.
2- هل يمكنك تسمية جزئيات العمل التي تحكم تنفيذها خلال المسار نظرة نسبية؟ أحصها وقارنها بمثيلاتها التي تحتاجها لسلامة المنطلق واجتياز العوائق، وبين علاقتها بظاهرة التكامل بين بعض الأعمال من خلال ضرب بعض الأمثلة، وبظاهرة التوازن بين الأشياء والحالات المتضادة التي تؤدي إلى موقف وسط متعادل بعيد عن التطرف والإفراط والتفريط.
3- ارصد أسباب الفروق بين طبائع المواقف المرحلية المختلفة والعوامل المؤثرة في تغير الخطط.
4- اقترح تدريجيًا معينا لتنفيذ عوامل الجدية الجماعية، وبين ما إذا كان يخضع بعضها لميزان نسبي تحتمه الظروف أو لترجيح يقتضيه تعارض المصالح؟
5- أحص المؤتمرات المقترحة أثناء المسار لمناقشة خطط عمل خاصة في مجالات معينة، وضع جداول عمل تقترحها لثلاثة مؤتمرات منها، واقترح مواضيع ثلاثة مؤتمرات أخرى.
6- استخرج من المسار عناوين الموازين والقواعد الخططية وضوابط النشاط وعوامل التأثير المختلفة، واحصر التقسيمات والفروع وأجزاء المراحل، والأشباه والنظائر، وأنواع الصفات والميزات، واكتشف المصطلحات الحركية والجمل الموجزة ذات المعني الكبير، ثم حاول أن ترتب بين كل ذلك وتقدم وتؤخر، وتحدد العلاقات بين الأجزاء المتفرقة، لترسمها في لوحة تخطيطية، ووسيلة إيضاح جامعة على نمط الخوارط والجداول ذات الحقول والأبواب، لتعين إخوانك بها على تذكرها واستيعابها وتضع أمامها صورة إجمالية للمسار المرحلي وقضاياه، ويحسن أن تستعمل الألوان المختلفة والأسهم والمربعات والدوائر والخطوط المتقطعة والأرقام والرموز لحصر الدلالات والمعاني والإشارة إلى الترابط بين بعض الأجزاء والمجاميع.
إن إجابتك على هذه الأسئلة تجعلك جديرًا بصفة (متفقه في التخطيط الحركي الإسلامي) ونمنحك شهادة بها.
وهل يمكنك أن تطور هذه الإجابات إلى محاضرات في فقه الدعوة تلقيها على مسامع إخوانك أو تكون طرفا في ندوات جماعية حول كل سؤال؟.
الخاتمة
انتباه وتفاؤل
أما بعد:
فيا لها من خطط لو أن لها رجالا...!
وما تدري أي الخطط أهم:
أعشارياتها الخمس: التجميع، والجدية، والتكيف، والتخطيط، وشخصية الداعية؟
أم خماسياتها الأربع: النشأة، والنشر، والإطلالة، والتبرير؟
أم رباعيتاها: التوغل، والأذان؟
أم السابعية القيادية؟
أم الباقيات؟
إن على القياديين وعموم الدعاة أن يترجموا هذه الأماني إلى تخطيط نسبي تفصيلي واختيارات خاصة، وما هذه الفصول إلا كلمات خطيب يثير حماسة جيش، وعلى الجيش القتال.
وليس في هذه المعاني ما نظن أنه يخالف آراء القيادات الحاضرة، ولا ما فيه ابتغاء شقاق، فإن الحرص هو الذي ينطقنا، ولقد تعلم كثير من الدعاة من إحياء فقه الدعوة اجتياز العوائق، ومازالت الطاعة أوسع مصادر الفخر، وإنما هذه اجتهادات معلنة في غير ما استخفاء ولا ولوج جيوب، ولا تجد هاهنا بحمد الله رأيا تخالفه القيادات نظريا، إنما هي تذهل عن أشياء، وتستصعب أخرى، وإذا وجد ما تخالفه بعض القيادات فإن ذلك لا ينبغي أن يكون مدعاة للحجر على الكتاب ومنع الدعاة من مطالعته، بل يمكن أن تكتب القيادة مذكرة ت نبه فيها إلى وجه الخلاف، وتعرض فيها وجهة نظرها، وتوزعها على قارئيه، وبذلك تحفظهم من التأثر بالخطأ الذي تظنه، وتتيح لهم مجال الاستفادة من الصواب المقترن به في هذا الكتاب، في آن واحد.
ولكن هذه الحياة من ظواهرها التناقض، ومازال الناس في خلاف واجتهاد متباين، فأيما داع دعاك إلى الزهد في هذا الكتاب، أو همس لك بتضعيف، فإن عليك الاتئاد حينذاك، غير ما نعين لك من نقد وتخطئة، ولكن من دون تقليد ومتابعة للهامس، بل تنظر بعين العلم الذي عندك، وتبني رأيك مستقلا، على الذي ترى من معاني هذه السطور.
ومن الضروري جدًا أن يتم تقويمك لهذه التوصيات الخططية وفقا للظروف التي تقترن بها أو المرحلة التي تطبق فيها، وبدون مراعاة هذين المعيارين تبدو هذه التوصيات والفتاوى العملية والمواعظ التجريبية خليطًا من الأحكام المتعارضة المتضادة، والخواطر التي لا ضابط لها، فقد أوصيناك بالتشدد في شروط الانتقاء والتأمير، ثم بتساهل، ودعوناك إلى إبطاء ثم إلى استعجال وسباق، وأوجبنا عليك عملا تربويا خاصا، ثم توسعا جماهيريا، وتلك وأمثالها مجموعة من أعمال وسلسلة أطوار يظنها المتسرع جملة تناقضات يأباها المنطق وترفضها فحوى الفقه، ولكن الرجوع إلى قواعد التحليل النسبي كفيل بالتوفيق بين هذه الأحكام المتعارضة، فتقتنع أن لكل ظرف أو جيل ما يناسبه، وأن لكل مرحلة ما يليق بها ويلائمها.
وكان هناك لجوء إلى شرح وتفصيل لكثير من قضايا العمل وفنونه في تبسط ظاهر قد يراه القيادي الممارس إطنابًا في مواضع يحسن فيه الإيجاز، ولكن ليس للإطناب سوء مطلق، فإن استطرادنا شرح جيد لغير ذي التجربة، وهو بمثابة التعليمات القيادية ربما يغنيها عن كلام مماثل تود أن تقوله وتصرفها المشاغل عنه.
كما أن الكثير من هذا الكلام يهم ويخص عموم الناس، ومن تتجه إليهم دعوتنا، وإنما سقناه لك أنت الداعية تلقينا لك وتعليما، لتحدثهم في مجالسك معهم بمثل معاني حديثنا وتحتج عليهم بمثل حججنا، بالألفاظ التي تناسب أحوال ومقدار كل صنف منهم.
واعلم بان هذه الصفحات لم تتسع لكل ما يمكن أن يصف المسار من تراث الإفتاء الفقهي أو مما حوته القلوب من الفقه التجريبي ودروس المعاناة، كما لم توسعه الاقتباسات من ثمرات الفكر العالمي، إذ حالت دون هذه السعة رغبة التعجيل في تبليغ هذا المقدار للدعاة الإسلام، لشدة حاجتهم إليه، في وقت يتضح فيه السباق مع الزمن كبعد مهم من الأبعاد الإيجابية لسيرنا، حتى بتنا نخشى أن يتضاعف الثمن الذي ندفعه للوصول إذا رسخت سيطرة الجبروت الحالي سنوات طويلة أخرى تفلح معها تربيته للجيل الجديد وتضليله الفكري والإعلامي في تبديل موازين القوى لصالحه، وسنحرص على إضافات لهذه المعاني إن شاء الله، ومن جنسها، نزود القارئ بها مع الأيام، من خلال كتب أخرى، لتكتمل موارد التخطيط الشامل، وسيكون أولها كتاب (أصول الاجتهاد في فقه الدعوة) إن شاء الله، وقد دارت أفكار (صناعة الحياة) في آفاق هذا المسار أيضًا.
ولعلها جرأة غير ذات عدوان تدعونا إلى القول بأن أخطاء الدعوة الحالية التي تعاني منها إنما هي نتيجة لأخطائنا الماضية، في التخطيط والتربية وفيهم المواقف، ولذلك فإن الخروج من هذه الأخطاء لا يكون إلا بمثل هذه المحاولة النقدية الصريحة، وبمثل هذه الموازين الشرعية والتجريبية.
ولكن المعنى المعاكس يصح أيضًا، فإن من أخطاء تربيتنا السابقة أنها عودت الداعية على انتظار التوجيه القيادي والدراسات النقذية والتعليمات والتفصيلية، ودربته على أن ينشط من خلال المجموعة فحسب، ولم تتمكن تربيتنا وأساليبنا القايدية من إفهام كل داعية أنه يمكن أن يمثل نقطة بداية ونقطة نهاية في الدعوة بمفرده، وأن يوجه نفسه بنفسه إذا انقطع عنه التوجيه القيادي أو النشاط الجماعي بسبب المحن والكبت والإرهاب الذي يضطر الدعوة إلى الحذر الشديد، ولذلك شوهدت ظواهر الحيرة والفتور تسود الدعاة خلال الظروف الصعبة، مع أن بإمكان كل منهم أن يعمل عملا بين الشباب ويربيهم على العبادة والأخلاق ويكسبهم الفقه والعلوم، ويظل يوسع دائرتهم حوله دونما اضطرار لموقف سياسي يستفز المراقب والحاكم، ويظل يواصل رعايتهم إلى يوم يتاح له فيه الأسلوب الشامل.
وهذه الحقيقة تنقلك إلى اعتقاد ارتباط تنفيذ هذه التأملات الخططية النظرية بالمقدرة الفعلية التي تملكها الحركة وبالظروف الملائمة التي تتيح حرية الاجتماع والنشاط، ومن الدعاة من سيفهم سريعا هذا الارتباط، ويستغل هذا الكتاب لتوسيع آفاقه والاستعداد للمشاركة في التنفيذ التدريجي الآجل إن كل يخضع هو وإخوانه لحكم إرهابي يرهقه الآن، ولكن من الدعاة من قد يتخذ من حماستنا مبررًا لاتهام قيادته بتقصير، وتجريحها، إن رآها دون المستوى المثالي النموذج الذي وصفته هذه الأماني حتى ولو كان عذرها واضحا أو ظرفها حرجًا، ونحن أبرياء من هؤلاء وتعتبر براءتنا إذنا بكل نوع من أنواع التعامل ترتئيه القيادات يناسب تحدياتهم، ومن اللائق أن يتم إرسالهم إلى من كتب هذه الأسطر ليعلمهم خطأ تجاوزهم لقواعد المصلحة والنسبية والتدرج في تفسيرهم لاقتراحاتنا.
والذي نعتقده أننا إن كنا على طاعة القيادة، وفي حب وتآلف وأدب ورقة ولين وتعاون، وفينا بقية سذاجة، خير من أن نكن وعاة مختلفين مفتنين، كل رهط يمسك مثل هذا الكتاب بيده، ويقف يعيب الآخرين باسم التخطيط وفقه الدعوة والموازين.
وربما كان نشر مثل هذه المعاني يؤدي إلى تضييق على الحركة الإسلامية ومطاردة لها في ميادين العمل التي نقترحها، في البلاد الخاضعة لحكم حزبي بخاصة، أو لتأثير أميركي بعد إعلان إدارة الرئيس الأميركي كارتر عن ضرورة مقاومة الحركات الإسلامية في العالم في أعقاب ثورة إيران.
ولكننا ندعوك إلى أن لا تسرف في الحذر، وأن لا يكون حذرك سببا في تضييع مصالح ضرورية، فإن تداول هذا الكتاب يبقي في حساب ميزان تعارض المصالح هو أكثر جلبا لها من عدم تداوله، وحرمان الدعاة منه يشكل مفسدة أكبر من مفسدة المحن المحتملة.
ولنا في التدليل على هذا التفاؤل ظنون ثلاثة:
(الظن الأول): أن قوة الحكومات بصورة عامة أقل من أن تتمكن من مجابهة وملاحقة الدعاة في كل ميدان يتجهون للنشاط فيه، فإن ع ملية الملاحقة مرهقة، وتستدعي تفرغًا وتركا للواجبات الحكومية الأخرى، وإذا حدث أن جازفت بها حكومة فإن عمليتها ستكون وقتية سريعة الزوال لسببين: لسبب هذه المزاحمة من الواجبات الأخرى الملقاة على عاتقها، ورعاية لمشاكلها السياسية والاقتصادية وضغوط الأحزاب الأخرى المعادية لها، وصراع الأجنحة والمحاور داخل جهاز الحكم، ولسبب تولد الكراهية في نفوس عموم الناس ضد الحكومة التي تلاحقنا وشيوع الانتصار للحركة الإسلامية فتكون الحكومة قد أعطت دفعة عمل لنا من حيث لا تشعر.
ولذلك فإن الظن الراجح هو تحاشي الحكومات لنا في أكثر البلدان، وتضطر للسكوت خوفا من تفجير الوضع في غير صالحها، وقد تبدلت الظروف التي استغلها الطغاة من قبل ضرب الحركة، وأغلب الحكومات كمثل من ازدرد شفرة وتورط بها، إن بلعها جرحته، وإن أخرجها جرحته، وهي تقبل أن تسكت لعلها تطيل أيامها.
فلا داعي لأن يزيد تخوفك من نشر مثل هذه المعاني، تظن أن الحكومات والأعداء ستمنعنا من تنفيذها، وتحول بيننا وبين ما نريد ذلك أن الموعظة الإيرانية أبلغت في هزهم، وهم بين موقفين:
أن يتركونا، نعمل، مع كراهتهم لذلك، فلا ضير عليك إذن، وستحصل الفوائد التي تبغيها.
أو يمنعونا، ويكبتون، ويكممون الأفواه، ويأسرون الأقلام، وذلك بسبب وضعا نفسيا عند عموم المسلمين، نستثمره لصالحنا، ولعله أكبر في حجم فوائد من نشر الكلام وممارسة النشاط، فإن الصدور ستغلي آنذاك، وتفرغ من بقايا جبنها وأنسها الدنيوي، فتملؤها الدعوة شجاعة وشوقا إلى النعيم الأخروي.
فلا يذهبن البأس بك يا أخي كل مذهب لمثل هذا البوح والتعليم، ولا يستبدن اليأس، فإنهم في ورطتين، أهونهما هاوية.
إن بعض الدعاة يرون وجوب الإسرار في مثل هذه المباحث، ويجعلون الإعلان بها كبيرة، لكنه تقدير من حصر نفسه في بلد ضيق لم يخرج منه ليري سعة حاجة الدعوة في العالم الإسلامي.
هناك دعاة واسع عددهم، وفي بعضهم بساطة، وعندهم أخطاء ويلفهم تقليد، ولن تستطيع تقويم مسارهم إلا بمثل هذا النشر.
إنه ثمن لابد أن نؤديه وندفعه في صورة إضرار ترافق إذاعة مثل هذه المعاني، ك نصل إلى مصالح أوفى وأوفر.
مع أن الأمن مدخر في سر مقرون بأسماء وتواريخ وأمكنة، وليس في هذه الفصول شيء من ذلك، وإنما هي نظريات وتمنيات.
فأصح يا نايم، ووحد الدايم، فإن أجهزة الأعداء والمباحث تعلم عنك أكثر مما تعلم عن نفسك، وأخطر هذا الكلام قد صار بيدهم، إهمالا أو بغيره.
وتعال نتسار بيننا، وليس ثم سر: أي معنى نخشى عليه إن ذاع؟
إن أعداءنا لأبرع منا وأوفر تجربة، وإنا لنحن الساذجون ليسوا هم، وهذه الدروس لا ترقى إلى درجة ما انكشف من دقة التخطيط اليهودي أو الأمريكي أو اليساري في بلادنا.
وربما يكون خطرها الوحيد في أن يعلم أعداؤنا أننا نتداول هذه المعاني، فيزيدوا الأذى لنا، وما نحسبهم قد قصروا حتى نكون بحاجة لزيادة، بل ضرباتهم تتوالى، وامتحانهم لنا متواصل، وليس في وسعهم مزيد شر تعففوا عنه.
على أن الخوف من العدو خصلة تنافي الإيمان، إذا كان ثمة إسراف فيه لأبعد مما يلزمنا العقل السليم به من الحذر والانتباه، حتى اعتبر إقبال في موازينه أن:
خوف غير الله: قتل العمل وهو للأحياء قطع السبل
وجزم بأن:
من نما ذا البذر يوما في ثراه حرمته من تجليها الحياه
واستوقفك كي تشاهد كيف أن الخوف:
يسرق الرجل قوى تسيارها
ثم كيف أنه:
يسلب الرأس قوى أفكارها
والأمر كما قال إذا تدبرنا التاريخ، فإن مضاعفة الحذر يقعد بالجماعة عن أخذ مكانها المفترض في مسار الدعوات والحركات السياسية، ويعطل نموها الفكري، وكما يعلم قادة الحروب إن خسارة المهاجم أقل من خسارة المدافع، وإنه إلى النصر أقرب، فهم في اقتحام، فكذلك قادة العمل الإسلامي، عليهم التقدم مع ما فيه من عنت وإرهاق، وتساقط الشهداء، إن وطأة الانحسار أكبر.
بل الضرر الأكبر إنما يتوقع في صفوفنا نفسها، بأن ينشغل الناشئ والمبتدئ الجديد بهذه البحوث قبل أن ينتهي من تكوين أساس فقهي وخلقي له، إذ أن انشغاله هذا فضول منه، وطفرة في صعود سلم يجب عليه فيه التأني والتدرج، وعسي أن تكون هذه الإشارة تحذيرًا كافيا لإخواننا الذين لا يزالون في مراحل التربية الأولى يقنعهم بالانشغال بالقرآن، وتعلم السنن، ومزيد العبادة، وترك المشاركة في مباحث لم يؤهلوا لها بعد، هي من اختصاص إخوانهم القدماء.
(الظن الثاني الباعث على التفاؤل): أن الحكومات قد جربت أبشع الضرب والمحق والتضييق، وسجنت من قبل وأعدمت قلم تفلح في إيقاف المد الإسلامي، وثبت لها فشل طريقتها، إذ لم يزدد الدعاة إلا ثباتًا، والناس إلا تعاطفًا، والمظنون أن الكفر والفجور سيبدلان طريقتهما باستخدام التحريش وإنماء الفتن الداخلية في الصف المسلم وتشجيع التضارب والمعارك الجانبية والخلافات الفقهية الملهية، ولكن مثل هذه المعاني التي في خطط لمسار، وآداب اجتياز العوائق، واحتياطات سلامة المنطق، ومواعظ الرقائق، وأمثالها مما يدونها المجربون من الدعاة، كلها كفيلة إنشاء الله بأن تكسب الدعوة حصانة ضد فنون الامتحان الجديدة، إذا تم تدارسها بانتباه في مجتمعات الدعاة.
وأيضا، فإن حروب اليوم ليست هي قيود المرهقة فحسب، ولا إثارة الخلاف الداخلي فقط، بل التوريط كذلك، فتحرص السلطة على احتواء بعض الدعاة، وتعمل على تمييع عزائمهم، فيبلغون في السايرة أو الملاينة ما يفقدهم بعض استقلالهم حرصا على منافع إسلامية ثانوية تجود بها السلطة، وهناك إعلام مضلل يرصد القليل من عمل الدعاة واليسير من الألفاظ، والقصير من الزيارات التي يتأول لها الدعاة، فتضخم الدعاية الحكومية ذلك، وتحتج به، كأنها تدعو المسلمين إلى الاقتداء، وتظهر لهم أنها قد حازت أولئك الدعاة وكسبتهم، فينفر الناس عنهم، ولذلك كانت معاني المسار ضرورية لما لها من دور في التنبيه على احتمال مثل هذا الاستدراج، وعلى حدود التعامل السائغ وشروطه وأوقاته، وكأن فوائد هذا التنبيه أرجح من ضرر انكشاف هذه المعاني.
(الظن الثالث): أن الله ناصرنا ومؤيدنا إذا كان منا التجرد والإخلاص كاملين، وهو يريدنا أن نكون مظهر قدرته وعنوان قدر الخير، فتتعطل هاهنا، في المواجهة بين الحركة الإسلامية والمتسلطين، كل المقاييس المادية الحسابية، بل مقياس المعركة الوحيد هو أننا أصحاب حق يشاء الله لهم ويختار، إزاء متسلط بباطل ديدنة الظلم يقذف الله في روعه الرعب، فيولي، ويحار.
السعيد من اتعظ بسواه واستعد لمسراه
هذا، سمت الجد، وإلا:
(ضاع عمركم في أكلوا وأكلنا، وشربوا وشربنا، وليسوا ولبسنا، وجمعوا وجمعنا..).
كما يقول عبد القادر الكيلاني([1]).
كلام حق يصف بصدق يوميات بعضنا، وما قد يكون من حديث المصالح الدنيوية واهتمامات البطون.
ويجب علينا أن ن تطلع لمعرفة خطط الدعوة، وقبل أن ندعي البذل ونغني للشهادة أن نسأل أنفسنا: كم يضيع من عمرنا في حديث: أكلوا وأكلنا، وبنوا وبنينا، واشتروا واشترينا؟؟
إنه وقت ثمين ضائع إذ المعركة قائمة، والمحن جاثمة، وما من تفسير لذلك إلا طول الأمل ونسيان المصير المحتوم.
إن عزمة تقطع الاسترخاء لتكفي في إعطاء البرهان على قرب النصر إن شاء الله من تفاؤل المنتبه.
استئناف الوعي
أيها الأخ الداعية:
لعلك تحسب نفسك الآن أنك قد أكملت فهم هذا الكتاب!
كلا، لقد كنت في استعجال، وأسرع بك شوقك لمعرفة ما هنالك إلى مرور على هذه المعاني المهمة دونما طويل تأمل، ولا بد لك من عود على بدء، ومن مطالعة بطيئة تنساب فيها بهدوء مع قضايا المرحلية، وخطوات التوسع القيادي، وفنون التجميع، وعوامل الجدية، لتضع تقريرك عن نواياك، وعن مكانك الذي تقترحه في المراغمتين.
إن الآن فقط من بعد وصولك إلى الصفحة الأخيرة: يؤذن لك في أن تقيس واقعك على ما هاهنا من موازين وقواعد وأصول، فلا تطو كتابك، بل ارجع ثانية وتدبر أمرك كرة أخرى، واجمع إلى انتظام المسار ما سبق لك علمه من الإتقان الضامن لسلامة المنطق، والاندفاع المعين على اجتياز العوائق، ولتكن ومضات البوارق لك نورًا، ثم اجعل آخر دعواك أن الحمد لله رب العالمين.
([1]) الفتح الرباني/ 83.