المسؤولية الفردية في الإسلام

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
المسؤولية الفردية في الإسلام

بقلم:الشيخ سعيد حوى

مقدمة

خطأ في إنشاء صورة مصغرة: الملف مفقود
الداعية سعيد حوى

... " ذهبت طالبة شابة من جامعة فرانكفورت تقول لمدير الجامعة مستنجدة : إن والديها يهددانها بالطرد ، ولما سألها عن السبب أجابت : لأنها ستضع مولوداً وقالت : إنها لا تعلم اسم أو شخصية والده ، لأنه كان يرتدي قناعاً حيث إنها ارتكبت الفاحشة في أيام الكرنفال أو الناشنج ، وهذه الحادثة ليست إلا قصة صغيرة تقع أمثالها عشارت الألوف كل سنة في بلاد الإباحية التي أحيت تقاليد الدعارة الجماعية تحت ستار التطور والتحرر .

فكانت أعياد الكرنفال أو الناشنج التي تستمر ثلاثة أيام وفيها تباح كل الأعراض والحرمات ، بل إنه من المخالف لآداب التقاليد أن تسير فتاة مع صديقها هذه الليلة أو تسهر زوجة بجانب زوجها .

وأيام الإباحة الثلاثة تبدأ رسمياً في الدقيقة 11 من الساعة 11 من اليوم 11 من الشهر 11 من كل سنة مع تفاوت بسيط في مواعيدها بين مدينة وأخرى ، وفي أثناء هذه المهرجانات بهذه المناسبة تتعرى النساء من كل شيء تقريباً وهن يختلطن بالرجال حيث تجري الدعارة الجماعية وبدون أن يعرف كل رجل ما اسم هذه التي يرافقها ، وبدون أن تعرفه هي أيضاً ، لأن الجميع يحرصون على ارتداء الأقنعة ، وفلسفة الألمان في هذه الأعياد هي أن من حق البشر أن يخطئوا ، لأنهم إذا لم يخطئوا فسيرتفعون إلى مستوى الآلهة ، وهذا غير معقول وأن خطاياهم ستغفر لهم حتماً لأن المسيح قد دفع الثمن وصلب من أجلهم ، وهم يرددون هذه الفلسفة في صحفهم ومجالسهم وفي كل مكان "(1) .

... هذه ثمرة من ثمرات الفكرة النصرانية التي تقول : إن الإنسان خاطئ منذ ولادته ، لأن أباه آدم قد ارتكب الخطيئة ، وأن المسيح عليه السلام – صلب – حسب زعمهم حتى يكفر عن البشر خطاياهم فهو قد تحمل خطايا البشر .

... وهذه الفكرة معناها أن الإنسان مسؤول عن أعمال غيره ، وغيره مسؤول عن أعماله ، وبين هذا وهذا تضيع المسؤولية الفردية التي يحس بها الإنسان أنه مسؤول عن أعماله فقط . صغيرها وكبيرها ، وليس مسؤولاً عن عمل غيره بتاتاً .


... ويترتب على الفكرة الأولى ناحيتان خطيرتان :

... الأولى : أن الإنسان غير طاهر القلب والنفس منذ نشأته بسبب وراثته الخطيئة وهذا يؤثر تأثيراً سيئاً في نظرته لنفسه من حيث إنه كما ورث الخطيئة ولم يخطئ ، فسيعتمد على غيره في حمل خطاياه عنه .

... الثانية : أنه ما دام غيره مسؤولاً عن ذنوبه ، فإنه لن يبالي بهذه الذنوب وعندئذ تملأ الخطيئة الأرض ، وادرس ما يحدث في كنائس أمريكا وبريطانيا وغيرهما بالذات تجد مقدار اللامبالاة في الخطيئة .

... وهذا أكثر الأديان اتباعاً الآن في العالم .

... وتوجد عند البراهمة والبوذيين والجينيين – وهي ديانات لها أتباعها الكثر في العالم – عقيدة شبيهة من حيث سلب مسؤولية الإنسان الفردية بالديانة النصرانية .

... هذه العقيدة هي عقدية تناسخ الأرواح ، وخلاصة هذه العقيدة أن الروح بعدما تفارق جسداً في هذه الدنيا تنتقل إلى جسد آخر في هذه الدنيا نفسها ، ولا يكون هذا الجسد الثاني أو القالب الثاني بكلمة أصح إلا متفقاً مع الحياة التي قد أعدها الإنسان لنفسه بأعماله وأفكاره وميوله وعواطفه في حياته الأولى .

... فإن كانت أعماله وأفكاره وميوله وعواطفه سيئة ولتأثيرها قد حدثت فيه مؤهلات واستعدادات سيئة ، فإن روحه ستنتقل إلى طبقة مبتذلة من طبقات الحيوانات أو النباتات ، وأما إن كانت أعماله وأفكاره وميوله وعواطفه صالحة ولتأثيرها قد حدثت فيه مؤهلات واستعدادات صالحة ، فإن روحه سترتقي إلى طبقة من الطبقات العليا " .

... هذه العقيدة مقتضاها أنني أنا الإنسان الحالي . إنسان بهذا الوضع نتيجة لسلوك غيري ، وحصيلة لسلسلة طويلة من أعمال المخلوقات قبلي ، وهذه المخلوقات السابقة علي ، هي أنا وأنا بأعمالي الحاضرة سأكون بالتالي نباتاً أو حيواناً أو إنساناً .


... فماذا ينتج عن هذه العقيدة ؟

... 1 – " سينتج عن هذه العقيدة شعور لدى الإنسان بأن الحيوان والنبات والإنسان سواء في ميزان الوجود ، إذ الحيوان كان إنساناً والنبات كان حيواناً .

ويترتب على هذا ألا يجوز إيذاء النبات والحيوان والإنسان ، حتى ولو آذاني الإنسان ، وعندئذ فإن أمة مثل هذه العقيدة ليست صالحة ولذلك فإن أهلها يعيشون مشتتين بين واقعهم الذي يعملون ، وعقيدتهم التي يعتقدون .

... 2 – كما ينتج عن هذه العقيدة رهبانية مميتة عملياً ، إذ إن أهل هذه العقيدة يعتقدون أن الشهوة هي أصل كل فساد في الأرض وهي التي تلوث الروح بالذنوب والآثام ، ولأجلها تنتقل الروح من قالب إلى قالب وتذوق وبال أعمالها مرة بعد مرة ، فالإنسان إذا أودى بها ، وقضى عليها ، ولم يشغل نفسه بمشاغل الدنيا وشواغبها ، فلروحه أن تنال الخلاص من دورة التناسخ ويقولون :

... ليست هناك سبل أخرى للخلاص من دورة التناسخ غير هذه ، لأنه من المحال إذا انشغل الإنسان بمشاغل الدنيا وشواغبها وشؤونها الخلابة أن يأمن على نفسه الافتتان بالدنيا والاسترسال وراء شهواتها وملاهيها .

والنتيجة اللازمة لذلك – يقولون – إن من أراد لنفسه الخلاص من دورة التناسخ فعليه أن ينعزل عن الدنيا ، ولا يسكن إلا في الغابات ، ورؤوس الجبال وكهوفها ، وإن لم يفعل ذلك فعليه أن ييأس من الخلاص من دورة التناسخ ، ويستعد للانضمام إلى طبقات الحيوانات والنباتات .


... 3 – ولما كانت الفكرة الأولى والثانية غير عمليتين ؟

... فالناس نتيجة لذلك إما أن يسلكوا الطريق المرسوم للخلاص من دورة التناسخ بزعمهم فتفنى البشرية كلها لو سلكت هذا الطريق .

... وإما إنسان لن يمشي في هذا الطريق وهو بالتالي لا يبالي لأنه ليس مسؤولاً عن حاضره ولا يهمه مستقبله "(2) .

... ويظهر انعدام المسؤولية الفردية عند البشرية بصورة أخرى ؛ كلها غير معقول :

... تظهر بصورة أخذ الثأر من أي قريب للقاتل ، وتظهر بصورة الإيمان بأن الإنسان غير مسؤول أمام أحد عند الملحدين الفوضويين ، وتظهر بصورة أن الإنسان مسؤول أمام القانون فقط فإذا استطاع أن يهرب من عين القانون فعل ما شاء .

... وهناك صورة أخرى تنعدم فيها المسؤولية موجودة عند اليهود .

... فاليهود يعتقدون أنهم شعب الله المختار ، الذي غفر له كل شيء ، فمهما فعلوه من جرائم أو مآس ، أو مفاسد ، أو مظالم ، فإن خصوصيتهم هذه تجعلهم بمنجاة من عذاب الله إلا بشكل بسيط جداً جداً .

... هذه صور من فرار الإنسان من المسؤولية كانت يوم بعث محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا زالت وهي كلها صور غير معقولة ، وآثارها خطيرة على الإنسان ، والحياة الإنسانية كلها ، من حيث انعدام مسؤولية الإنسان أو قصورها ، مما يؤدي إلى انحراف فظيع في السلوك .


... فماذا فعل محمد - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله ووحيه ؟ :

... لقد كان الإعلان الذي أعلنه الإسلام هو أن الإنسان لا يتحمل إلا مسؤولية أعماله وحده ، فلا يتحمل مسؤولية ذنب جد ولا مسؤولية ذنب أخ وعم ، إلا إذا كان له علاقة في الموضوع ، وأن الجيل اللاحق لا يتحمل أوزار الجيل السابق ، وإنما الإنسان مسؤول عن أعماله وحده صغيرها وكبيرها أمام الله في الآخرة . وأما شريعة الله في الدنيا فقال القرآن . {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .

... وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " .

... وخاطب القرآن الناس

... {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا? أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُو?ءًا يُجْزَ بِهِ} النساء : 123 .

... فأصبح المسلم يحاسب نفسه على الصغيرة والكبيرة . حتى قال قائل المسلمين : " كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام " وأصبح الذي يقدم الإنسان أو يؤخره هو عمل الإنسان حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أغني عنك من الله شيئاً ويا فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً " رواه البخاري ومسلم .

... وبذلك استقام سلوك الإنسان ، وتحرر ضمير الإنسان من التواكل على الآخرين ، وبذلك لم يعد الإنسان غير مبال في أمر الخطيئة ، وبذلك استقلت شخصية الإنسان استقلالاً تاماً ، وبذلك أصبح الخير مرجواً من الإنسان ، وبذلك قضي على الخرافة ، وقامت الحقيقة محلها .

... هذه الثمرة العظيمة من ثمار دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - تدل على أنمحمدا رسول الله ، لأنها ثمرة ما كانت لتكون لولا الوحي ، وقد صاغ العقاد هذا الموضوع صياغة عالية نأخذ من فقراتها ما يلي :

... " وللديانة الإنسانية مناط واحد ، هو ضمير كل فرد من أفرادها . فما لم يكن لهذا الضمير حساب ، وعليه تبعة ، فلا ديانة لإنسان ، ولا لجملة الناس وفكرة التبعية الفردية والمسؤولية الفردية بسيطة ، سهلة الفهم ، تتجدد الحاجة إلى تطبيقها كل يوم ، في كل بيئة اجتماعية ، فلو كانت الفكرة تروج بمقدار بساطتها ، وسهولة فهمها ، وتجدد الحاجة إلى تطبيقها ، لما خلا المجتمع الإنساني قط من مبدأ المسؤولية الفردية منذ أوائل عهد الإنسان بالاجتماع .

... لكن الواقع أن هذه الفكرة البسيطة قد أهملت ، وظلت مهملة من عهد البداوة إلى عهود الحضارة الأولى ، لأن محاسبة الفرد لم يكن لها مرجع إلى سلطان واحد ، إذ كان الفرد من القبيلة يعتدي على فرد من قبيلة أخرى ويندر أن ترضى قبيلة المعتدي أن تسلمه إلى قبيلة المعتدى عليه . فإن لم تسلمه تضامنت في الدفاع عنه ، ووقعت الحرب بين القبيلتين ، أو تعرض كل فرد من أفراد قبيلة المعتدي لأخذ الثأر منه ، وقد يتوارثون الثأر إلى الأبناء والأعقاب .

... فمضى نظام القبيلة على مسؤولية القبيلة كلها عن جميع أفرادها ، ثم تطورت القبيلة وتألف الشعب من جملة قبائل متعارفة على نظامها القديم فثبتت على عاداتها لصعوبة التغيير في الجماعات التي تقوم على المحافظة ، وعلى رعاية المأثورات السلفية ، وبلغ من ثبات هذه العادات أن رومة التي كانت تسمى أم الشرائع . جعلت الأب مسؤولاً عن الأسرة ، وأباحت له التصرف في أرواحها وأموالها ، وقد ناظرتها في الشرق شريعة حمورابي فجعلت من حق الرجل الذي تقتل بنته أن يتسلم بنت القاتل ليقتلها كأنها لا تحسب عندهم إنساناً مستقلاً بحياته .

... وكانت في الهند حضارات تأخذ بمبدأ المسؤولية الفردية ، ولكنها ترجع إلى حياة سابقة متسلسلة من حياة سابقة على مدى الأزمنة التي لا تعرف لها بداءة منذ أزل الآزال ، فهون مولود بجرائره وآثامه ، وكفارة تلك الجرائم والآثام إلى الأجل المقدور ، وليست تبعاته مرهونة بما يعمله بعد ميلاده . بل هي سابقة للميلاد لاحقة به آماداً بعد آماد " .

... ( كان القول الشائع أن عصيان آدم جريرة لا يسأل عنها وحده بل يسأل عنها كل ولد من ذريته ) .

... أما الدعوة الإسلامية فالمسؤولية الفردية فيها شيء جديد كل الجدة لم يتطور مما تقدمه ولم يكن نتيجة قط لإحدى هذه المقدمات .

... ومعجزة المعجزات فيها أنها قامت بالمسؤولية الفردية حيث يصدها كل عرف قائم ، ويعوقها كل نظام مصطلح عليه في المعاملات والعقوبات .

... قامت بها في أعماق الجزيرة العربية ، ولا قانون فيها غير قانون الثأر ، ولا شريعة لها غير شريعة القبيلة ، وتعلم الناس {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} النجم : 39 أن جيلاً لا يؤخذ بجريرة أسلافه ، ولا يؤخذ خلفاؤه بجريرته .

... {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} البقرة : 141 و {كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} الطور : 21 .

... " فمرحلة شاسعة لم يعمل فيها تاريخ البشرية كله ما عمله الإسلام وحده ، مبتدئاً بغير سابقة ، بل مبتدئاً على الرغم من العوائق والموانع والمناقضات .

ولم تكن هذه المرحلة الشاسعة نافلة من نوافل الرأي على حواشي العقيدة ، ولكنها هي الفتح الأكبر من فتوح الضمير في جميع مراحل التاريخ .

إذ لا قوام للخلق ولا للدين بغير التبعة ، ولا معنى بغير التبعة لتكليف ولا حساب " .

الدليل والبرهان - براهين سعيد حوى

(1) مجلة حضارة الإسلام .

(2) الحضارة الإسلامية : أسسها ومبادؤها للمودودي .

المصدر