المأزق الإسرائيلي
بقلم : معتصم حمادة
حين توقع بعض المحللين بأن إسرائيل , وهي تشن عدوانها على قطاع غزة, دخلت مأزقاً شديد التعقيد , لم يكن هذا التوقع من قبيل الانحياز العاطفي, لا للقطاع, وللمقاومة, ولا للشعب الفلسطيني , بل كان بمثابة قراءة دقيقة وواقعية لما ستكون عليه الأمور.
فإسرائيل, وهي تشن عدوانها, رفعت شعارات ورسمت أهدافاً لهذا العدوان , من بينها إحداث تغيير جذري في القطاع, و إضعاف المقاومة, ومنع إطلاق الصواريخ منعاً باتاً على الأهداف الإسرائيلية خلف الخط الأخضر.
وهي كلها شعارات وأهداف, يحتاج تحقيقها إلى شن حرب جوية وبحرية وبرية أو إلحاق هزيمة فعلية بالمقاومة في القطاع من شروطها , تدمير المحزون العسكري من الصورايخ, واعتقال قيادات المقاومة ومفاصلها أو القضاء عليهم, و إحداث تغيير سياسي فلسطيني, هو أقرب إلى الانقلاب , ليس على حركة حماس وحدها, بل على مجموع الحالة الفلسطينية في الضفة والقطاع وإعادة صياغة حالة سياسية فلسطينية, تكون مجرد أداة في يد إسرائيل والولايات المتحدة, لإدارة قطاع غزة ,من جهة, ولمزاحمة الضفة سياسياً , من جهة أخرى , في تمثيل الحالة الفلسطينية, والمناقصة عليها في تنازلات تقود إلى التطابق مع مشروع الحل السياسي الإسرائيلي .
وقد بينت الأحداث أن استحداث مثل هذه «القيادة» ( أو هذه الحالة السياسية الفلسطينية ـ أشبه بسعد حداد أو بلحد أخر ) أمر شديد الاستحالة في الوضع الفلسطيني.
إذن رفع العدو الإسرائيلي, في عدوانه شعارات, ورسم أهدفاًً, بدت منذ الوهلة الأولى مستحيلة التحقيق. لذلك ترى الاحتلال يبحث الآن عن حل لمأزقه.
فهو يدعوا إلى وقف لإطلاق النار, يتوقف فيها عن استهداف القطاع, وتتوفر له «ضمانات» بأن الفلسطينيين لن يعودوا إلى إطلاق الصواريخ على أهداف إسرائيلية خلف الخط الأخضر.
والحديث عن «الضمانات» في السياسة, مسألة نسبية, يدرك العدو نفسه أنها عبارة مطاطة, قد تتسع مرة , وتضيق مرة أخرى, حسب الحالة السياسية وتطوراتها, بل وقد تنسف بالمرة إذا ما توفرت الفرصة المناسبة لذلك. من هنا, بدأت «العبقرية» الأمريكية والغربية عن التفتق بحثاً عن حلول لهذه الضمانات من بينها:
- الحديث عن انزالات إسرائيلية في المناطق ( التي كانت مخصصة للمستوطنات في قطاع غزة وإعادة احتلالها من جديد (أي العودة إلى احتلال قطاع غزة تحت مسميات جديدة) بذريعة أن هذه المناطق تحولت إلى معسكرات تدريب ومواقع عسكرية لفصائل المقاومة, وأن ترحيل هذه الفصائل عنها, يساعد على عملية إضعاف البنية العسكرية للمقاومة من خلال حرمانها من معسكرات تدريبها.
- إقامة شريط حدودي عازل في شمال القطاع, قد يمتد إلى خمسة كيلومترات, بحيث تبعد منصات إطلاق الصواريخ قصيرة المدى عن العمق الإسرائيلي, وحرمانها فرصة أن تطال المدن والتجمعات الإسرائيلية الكبرى وذات الكثافة السكانية والتي يسهل إيقاع خسائر بشرية ومادية فيها.
- تدمير الأنفاق بين القطاع وشبه جزيرة سيناء, تحت إشراف قوة متعددة الجنسيات, محورها أمريكي, بحيث تحرم المقاومة من فرصة تهريب السلاح إلى داخل القطاع.
- إقامة سد إسمينتي في عمق الأرض, بين القطاع والأرض المصرية لإغلاق الطريق أمام حفر اأنفاق جديدة, مع الاستمرار في جولات تفتيشية , لدوريات متعددة الجنسيات , للكشف عن أية أنفاق يتم حفرها سراً, والعمل على تدميرها فوراً.
- تفعيل اتفاقية المعابر, من خلال إعادة, عناصر أمن الرئاسة الفلسطينية والأوروبيين إلى معبر رفح, وبحيث يفك الحصار عن القطاع , وتعود الحركة تحت إشراف فلسطيني ـ إسرائيلي, أوروبي ومصري, وبحيث يتأمن القطاع غزة حاجته من التمويل والغذاء والوقود والمحروقات والأدوية والمواد الأولية, طبقاً لما هو منصوص عليه في اتفاقية المعابر.
- حملة دولية لإعادة اعمار ما هدمه العدوان على قطاع غزة وترميم جراح المجتمع الفلسطيني فيه, واستحداث بعض المشاريع التنموية الكفيلة بتوفير فرص عمل.
بعد هذا لا تمانع إسرائيل في أن يبقى القطاع تحت إدارة حركة ,حماس منفردة, ومنشقة عن السلطة الفلسطينية في رام الله, مادامت المقاومة الفلسطينية في القطاع قد تجردت من ثوبها, ومادام دور فصائل المقاومة قد تتحول إلى مجرد إدارة يومية لأوضاع القطاع.
فالانفصال بين القطاع والضفة يشكل خدمة للمشروع السياسي الإسرائيلي. لأنه يشق الكيان الفلسطيني إلى كيانين, ويجعل من المرجعية الفلسطينية , مرجعتين , ويشترط في الوقت نفسه للوصول إلى حل دائم إزالة سلطة «حماس» في القطاع, ويعمل في الوقت نفسه على تغذية الانقسام بكل عناصر الحياة؛ الأمر الذي ينسف المشروع الوطني الفلسطيني ويغلق الطريق أمام احتمالات تحقيقه.
غير أن ما غاب عن بال العدو الإسرائيلي أن قبول المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بهذا الحل , معناه إعلان القبول بالهزيمة والاستسلام لشروطه استسلامأً كاملاً, لصالح البقاء في حالة تبعية للجانب الإسرائيلي والأمريكي واشتراطاتهما, والتحول تدريجياً إلى سلطة شبيهة بسلطة لحد «أو حداد» في جنوب لبنان , في زمن الاحتلال الإسرائيلي لشريطه الحدودي.
كما يدرك العدو أن الضغط العسكرية على المقاومة وعلى الشعب الفلسطيني في القطاع, عبر القصف الجوي والبحري والبري, سيوقع المزيد من الخسائر البشرية والمادية, لكنه لا يضمن أن تستسلم المقاومة وأن يستسلم الشعب. مما يضع العدو أمام خيارين اثنين:
- إما أن يتوقف العدوان دون أن يحقق هدفه الاستراتيجي ( إعادة صياغة الوضع في غزة, وقف إطلاق الصواريخ ... القضاء على المقاومة).
وبالتالي سيبدو الجيش الإسرائيلي (مرة أخرى بعد لبنان ) عاجزاً عن تحقيق الأهداف العسكرية لعملياته ضد المقاومة الفلسطينية ( بعد أن فشل في تحقيقها ضد المقاومة اللبنانية) وكذلك ستبدو القيادتان السياسية والعسكرية الإسرائيلية فاشلة , الأمر الذي له انعكاساته قريباً على نتائج الاقتراع في الانتخابات الإسرائيلية القادمة.
- لغير صالح كاديما والعمل ولصالح خصومهما السياسيين( الليكود ـ شاس وأخرون) .
- وإما أن يضطر الجيش الإسرائيلي إلى عملية برية , واسعة (أو عمليات برية تكتيكية ) يحقق من خلالها بعض «الانتصارات» ذات الطابع الإعلامي والمعنوي , كالقضاء على مجموعة من المقاتلين أو أسر مجموعة أخرى أو القضاء على مستودع أسلحة وصورايخ؛ أو حتى أسر قائد فلسطيني في القطاع.
- عمليات برية تقود إلى تقطيع أوصال القطاع, بين شمال وجنوب ووسط , وإدارة معركة مع كل قاطع بحيث يتم استنزاف المقاومة وإضعافها حتى الحد الأدنى .
- لكن غاب عن بال العدو أن لجوءه إلى هذا الأسلوب من شأنه أن يكبده خسائر بشرية كبيرة كما من شأنه أن يزيد من غضب ا لشارع العربي , والعالم كله, وأن يستفز الحالة السياسية عالمياً, بحيث يضطر المجمع الدولي إلى التدخل , وطرح حلول لا يمكن إلا أن تكون حلولاً مقبولة من المقاومة , و إلا فلا قيمة لها.
خلاصة الأمر, أن الحلول العسكرية , ستفشل في تحقيق أهداف إسرائيل. وإذا كانت تل أبيب راغبة حقاً في الوصول إلى تهدئة مع الفلسطينيين فما عليها سوى الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 , وترك الفلسطينيين يقررون مصيرهم بأنفسهم, بما في ذلك حقهم في الاستقلال والسيادة في إطار دولة ضمن حدود الرابع من حزيران عاصمتها القدس الشرقية وبما في ذلك أيضاً حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948 .
لقد انقضى على حرب 1948 أكثر من ستين عاماً , وما زالت الحرب مستعرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي , وستبقى مستعرة , ولن تنتهي حرب 1948, التي تتواصل في جولات ومعارك وحروب مختلفة.. إلا عندما يتم الاعتراف بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني وغير القابلة للتصرف .
المصدر
- مقال:المأزق الإسرائيليالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات