اللغة العربية وهوية الأمة
اختار الله اللغةَ العربية لغة الكتاب العزيز،واختار العرب ليحملوا هذه الرسالة للناس كافة، ولتحملها معهم أمة الإسلام من شعوب الأرض.
وشاء الله تعالى أن ينزل هذه الرسالة على سيد ولد آدم، وخير العرب بيتاً، وأفصحهم لساناً، وأبلغهم بياناً، وأكرم الناس خلقاً وهدياً؛ فأنشأ بهذه الرسالة أمة، وبنى حضارة، وانصهرت الشعوب المسلمة وتوحدت في ظلال القرآن الكريم، وأعطى العلماء المسلمون -على اختلاف أجناسهم وتباعد ديارهم- ثمرات عقولهم في خدمة لغة القرآن الكريم وحديث النبي -عليه أفضل الصلاة والتسليم-.
فكانت الأمة العربية والإسلامية قائمة بعقيدتها،ولغتها،وثقافتها،وتاريخها،وما سجلته أقلام علمائها في علوم التفسير والحديث والفقه والتاريخ والآداب وغيرها من العلوم،باللغة العربية،شاهدة على وجود الأمة وعمق انتمائها الحضاري والتاريخي.
ومع الهجمة الصليبية الغربية العسكرية على بلاد المسلمين في مطلع القرن الماضي،صاحبتها حملة ثقافية ماكرة كان هدفها الأول هدم عناصر مكونات الأمة ديناً،ولغة،وتاريخاً،وحضارة،وثقافة،ووجدوا أن حجب أبناء العرب والمسلمين عن اللغة العربية الفصحى كفيل بحجبهم عن القرآن الكريم والحديث الشريف وبقية مكونات الأمة تاريخاً وثقافة وحضارة.
وفي ظل هذا الهدف الاستعماري لتدمير وجود الأمة العربية والإسلامية نقرأ الأحداث التالية:
- 1. ذكر رئيس وزراء تونس الأسبق الذي أقاله (بورقيبة) وفأجأه بإقالته أنه لما التقى بـ(بورقيبة) ذكر له سبب إقالته وهي: "ياسي محمد عرّبتْ ياسر (يعني: كثيراً) التعليم! قلت لك لا تعرّب".
ومعنى العبارة: عرّبت كثيراً وشجعت وعريت التعريب في التعليم وقلتّ لك لا تعرّب فيا للعجب أن يُعزل رئيس الوزراء لأنه سعى في تعليم اللغة العربية وحفظها!!
وفي هذا السياق يعتذر رئيس الجمهورية للوزير الأول (رئيس وزرائه) أنه مجبر على عزله لأنه أدرج اللغة الفرنسية في السنة الرابعة الابتدائية عوضاً عن الثالثة.
وبعد عزله مباشرة صدر قرار بتدريس الفرنسية من السنة الثالثة حتى تنافس اللغة العربية الأم في عقول الطلاب،وتساعد في حجبهم عن اللغة العربية وتغريب الجيل.
وفي هذا السياق تذكر بأن خلوة البحر سميت قبل سنتين قررت تعليم الإنجليزية في مدارس الأردن من الأول الابتدائي وهذا ما رفضه علماء التربية وعدُّوه إصغاناً للغة العربية.
(انظر "ومجلةجهات نظر" عدد شهر 8/2007 وكلمة محمد المزالي).
- 2. و(بورقيبة) الذي يحمي التغريب في تونس لغة، ويعزل رئيس وزرائه لأنه شجّع التعريب هو الذي حارب الثقافة الإسلامية وأحكام الشرع في إباحة الإفطار في رمضان،وإباحة الخليلات وتحريم التعدد الحلال،وتحريم حجاب المرأة،إلى غير ذلك.
- 3. وسبقه إلى ذلك (أتاتورك) الذي ألغى الخلافة العثمانية وحرّم اللغة العربية،دراسة، وكتابة، وحرفاً،وحظي بدعم الغرب وتأييده.
- 4. وتبعه في البلاد العربية والإسلامية حكام،وأدباء،حاربوا اللغة العربية في المناهج والتدريس، وآثروا اللغة الأجنبية وجعلوها لغة التدريس في الجامعات،وأنقصوا حصص اللغة العربية في المراحل الابتدائية والثانوية،وتخرج في ظل هذه المناهج والسياسة،من يحملون الشهادات الثانوية، والجامعية،ولا تستقيم ألسنتهم بالقراءة ولا الفهم ولا البيان والحديث،وبات الخطر الذي ينخر في جذور الأمة لغة،وثقافة،وهوية،وحضارة،ماثلاً مشاهداً.
- 5. وهذا ما يذكرنا بأقوال من رسموا سياسة التربية والتعليم في مصر،وبقية البلاد العربية في مطلع القرن الماضي ومن سلك طريقهم في مرحلتنا المعاصرة،ومن هذه الأقوال:
أ- في عام 1892 ألقى (ويلكوكس) خطاباً في نادي الأزبكية بالقاهرة عزا فيه سبب تخلف المصريين عن التقدم في ميدان المخترعات الحديثة إلى اللغة العربية الفصحى.
- 6. وتبنى (سلامة موسى) من مصر آراء (ويلكوكس) في كتابه "البلاغة العصرية واللغة العربية"، ودعا فيه إلى العامية.
- 7. وانصاع حكام أكثر البلاد العربية لسياسة الغرب الصليبي حتى ينشأ جيل لا يفقه لغته،ولا ينتمي لأمته وحضارته.
وهذا ما نراه ونسمعه حين يتحدث قادة ورجال سياسة،ورجال قانون ورجال فكر وأساتذة في الجامعات، وأطباء ومهندسون وغيرهم،برطانة غربية،وركاكة في التعبير،مما يجعل أمثال هؤلاء "فاقدين لجذور الانتماء،وتجد أحدهم سهل القياد بلا جذور،لا قدم له ولا أساس في ماء هذه الأرض وطينها،ولهذا السبب يطفو المتغرب على الموج،وليس ما تحت قدمه صلباً،وللسبب نفسه لا يكون صاحب موقف واضح أبداً،إنه حين فقد لغته وانتماءه أصبح يعيش للذته ويومه ورتبته وراتبه، إن كان وزيراً ينفذ السياسة المرسومة،وإن كان مديراً يلبي أوامر رئيسه،وإن كان نائباً سارع في هوى من ساعدوه.. ولو كان ذلك على حساب الوطن وثوابت الأمة وقيمها.
- 8. إن المحافظة على الهوية واللغة لا يعني الانغلاق بل يطالب بفتح النوافذ لاستقبال التقدم الحضاري العالمي،وهذا يتطلب من النظم الحاكمة والمؤسسات التعليمية والثقافية الرسمية والأهلية العمل على هذين المحورين في وقت واحد،محافظة على هوية الأمة ولغتها،ومحافظة على قوتها وانتفاعها بعلوم العصر ومنجزاته.
- 9. إن الأمم الحية تعمل جاهدة على دعم لغتها وثقافتها،فبريطانيا وفرنسا أنفقتا وبذلتا من أجل دعم اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية،ونشر ثقافتها وتفوقها السياسي والاقتصادي.
إن اليابان والصين حافظتا على اللغة القومية اليابانية والصينية في المدارس والجامعات،ولم يمنعها ذلك من أن تنافس أمريكا ودول الغرب في تقدمها العلمي والصناعي والاقتصادي.
- 10. وليست اللغة العربية أقل شأناً من اللغات الأخرى وهي التي كانت لغة العلم في العصور الوسطى، وعن اللغة العربية أخذ علماء الغرب في الأندلس وغيرها أساس العلوم المعاصرة ومنجزات حضارة اليونان.
- 11. لقد أدركت القيادات السياسية الواعية في كثير من الدول أهمية اللغة في بناء هوية الأمة والمحافظة عليها فعزّزت لغاتها الوطنية وجعلت التعليم بها في جميع مراحله "ومن هذه الدول كوريا، وفيتنام، وفنلندا، ورومانيا.." وأحيا الكيان الصهيوني اللغة العبرية الميتة،وجعل التدريس بها في مراحل التعليم كافة.
- 12. إن اللغة العربية الفصحى هي التي تصل بين العرب وتوحدهم في أقطارهم المختلفة،ولولا اللغة لغلبت اللهجات العامية وفقدنا أعظم رابط يصل العرب بعضهم ببعض.
إن اللغة العربية الفصحى هي التي تصل بين العرب والشعوب الإسلامية التي آمنت بالقرآن كتاباً وبمحمد r نبيّاً ورسولاً،وأصبح الإسلام بقيمه وتراثه وتاريخه مكوّن حضارتهم وثقافتهم وهذا ما عبّر عنه شاعر الإسلام محمد إقبال بقوله:
(إن كان لي نغم الهنود ولحنهم لكنّ هذا الصوت من عدنان)
ولأنها كذلك فهي إحدى المقومات الرئيسية لوحدة هذه الأمة التي يخطط أعداؤها لها لأن تتحول إلى كيانات، و(كانتونات) صغيرة مجزأة،كما فعل الغرب في معاهدة (سايكس بيكو) في مطلع القرن الماضي، وكما تفعل أمريكا والغرب في العراق وفلسطين ولبنان من إثارة للحروب الأهلية والفرقة الطائفية والعصبية للجنس واللون.
وإن إعلان أمريكا الحرب على الإسلام عقيدة،ولغة،ونظام حياة،وتحريض الأنظمة الحاكمة على إحلال اللغة الأجنبية محل العربية في جامعاتها،وتشجيع اللهجات العامية وتحريضها على حرب الحركات الإسلامية التي تدعو لإقامة شرع الله وتحرير الأوطان من المحتل الأجنبي،إنما هي دعوة لإبادة مقومات الأمة وإهلاكها،وهذا ما يدعونا للتوعية بخطط الأعداء وحشد القوة لمقاومتها.
وما سيْل الجامعات الأجنبية في البلاد العربية والإسلامية وخطط تنقية المناهج من الآيات والأحاديث والفكر الذي يدعو للمقاومة والجهاد والتعريف بخطر العدو الصهيوني المحتل للأرض والمقدسات والذي يستعجل الخطى لهدم المسجد الأقصى المبارك وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه،ما ذلك كله إلا خطوطاً في الصورة التي رسمها الغرب وأمريكا للشرق الأوسط الجديد الذي تهيمن فيه (إسرائيل) قوة وسياسة وثقافة وصناعة وتفقد فيه الأمة أصالتها ولغتها وقدرتها على المقاومة {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} [الصف: 8].
وفي مواجهة هذه التحديات التي تعصف بالأمة نعرف حكمة الآيات التي ذكّرت بفضل الله على هذه الأمة بالقرآن العظيم ومنها:
قال الله تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين .نزل به الروح الأمين .على قلبك لتكون من المنذرين .بلسان عربي مبين} [الشعراء: 192-195].
وقال تعالى: {تنزيل من الرحمن الرحيم .كتاب فصلت آياته قرآناً عربيّاً لقوم يعلمون} [فصلت: 2-3].
وقال تعالى: {وكذلك أنزلناه قرآناً عربيّاً وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً} [طه:113].
ونعرف كيف نبّه علماء الأمة لمكانة اللغة العربية ووجوب تعلمها وإتقانها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "اللغة العربية من الدين،ومعرفتها فرض واجب؛ لأن فهم الكتاب والسنة فرض،ولا يفهم إلا بفهم اللغة،وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: "فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده،حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله،ويتلو به كتاب الله وينطق بالذكر فيما افترض عليه".
وقال الإمام الزمخشري: "اللهَ أحمد أن جعلني من علماء العربية وجبلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفرد من صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز".
وقال الدكتور طه حسين: "إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا معرفة لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومهين أيضاً".
المصدر
- مقال:اللغة العربية وهوية الأمة موقع الفرقان