الفساد السياسي هو العلة
بقلم : معتصم حمادة
الفساد السياسي الذي استشرى في صفوف الأجهزة الأمنية والإدارية وفي صفوف النخبة في السلطة الفلسطينية لم يكن قدراً، بل كان ثمرة لسياسة السلطة نفسها، التي قامت على خدمة مصالح محدودة لفئة معينة على حساب المصالح العامة للشعب الفلسطيني.
حرصت السلطة الفلسطينية على تقديم التقرير الخاص بحوادث قطاع غزة ، باعتباره نقلة نوعية في إعادة ترتيب بيتها الداخلي، مستفيدة من الدروس الغنية التي أفرزها لجوء حركة حماس إلى حسم خلافاتها مع فتح والسلطة بالقوة المسلحة، وفرض هيمنتها المنفردة على القطاع.
والتقرير، كما أوضحت المصادر الرسمية في السلطة، هو خلاصة لعمل لجنة تشكلت من قضاة ومحامين ورجال أمن وأصحاب اختصاص، راجعت ما جرى في القطاع، وأوصت بسلسلة من الإجراءات، سلط الإعلام الضوء على واحدة منها، تتعلق بتسريح عدد من كبار الضباط، لتقاعسهم عن أداء مهماتهم في الدفاع عن مقراتهم ومواقعهم في مواجهة الهجمات المسلحة للقوة التنفيذية ل حركة حماس .
كما أن واحدة من توصياتها دعت إلى ضرورة العمل على إعادة بناء الأجهزة الأمنية على أسس مهنية، بعيداً عن المحاباة والتزلم، وعدم تحويل هذه الأجهزة إلى مصدر للارتزاق، يحشر فيها العشرات، بل المئات من العاطلين عن العمل، لا لشيء، بل فقط لتوفير فرص عمل يعتاشون منها.
وقد مهد لصدور التقرير إقدام محمد دحلان، أحد قادة فتح البارزين في غزة ، على رفع استقالته إلى الرئيس محمود عباس ، من منصبه مستشاراً لشؤون الأمن القومي، وقبول عباس للاستقالة، علماً أن مجلس الأمن القومي كان قد انحلّ بقرار من عباس، كواحد من ردوده على انقلاب حركة حماس .
وكان دحلان يحتل منصب المشرف العام على الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة في القطاع، كما كان بديهياً أن يتحمل مسؤوليته عن حالة الانهيار التي اجتاحت الأجهزة الأمنية تحت وطأة هجمات حماس .
ليست هي المرة الأولى التي تتعرض الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة لهزة تزلزل كيانها.
إذ سبق لها وأن تعرضت لهزة مماثلة حين اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي الضفة الفلسطينية في آذار (مارس) ونيسان (إبريل) من العام 2002، في العملية العدوانية الشهيرة المسماة بـ «الجدار الواقي».
وقد أثيرت في سياق العملية المذكورة العديد من التساؤلات حول دور القوى الأمنية الفلسطينية كما أثير الكثير من الغبار حول دور بعض القادة فيها، حتى أن الأمور انفجرت بين هؤلاء (وبشكل خاص بين جبريل الرجوب مدير الأمن الوقائي في الضفة ومحمد دحلان مدير الجهاز نفسه في القطاع) حملة من الاتهامات على صفحات الصحف وفي الفضائيات والمواقع الإلكترونية، كشفت للرأي العام (دون أن تتقصد ذلك) إلى أي مدى تعاني الأجهزة الأمنية الاهتراء والفساد.
ومع ذلك مرت كل هذه الوقائع مرور الكرام، ولم تتخذ القيادة السياسية في السلطة الفلسطينية أية إجراءات ذات مغزى.
بحق أي من القيادات الأمنية أو الدوائر السياسية على خلفية دروس واستخلاصات العدوان الإسرائيلي.
واستمر الفساد معششاً في صفوف السلطة وأجهزتها.
وعبر هذا الأمر عن نفسه في حالة الاحتراب التي سادت العلاقات بين الأجهزة الأمنية فيما بينها، وصولاً إلى الاشتباكات في الشوارع ومداهمة المقرات، واعتقال ضباط وتعذيبهم وإذلالهم.
حتى أن كثيراً من المعلقين اعتبر أن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة هي مصدر الفلتان الأمني، ومصدر الفوضى والتسيب، بدلاً من أن تكون أمينة على مصالح الناس وأمنهم واستقرارهم.
وقد لجأ الكثير من العائلات، في ظل الفوضى التي سادت، إلى البحث عن الأمن الذاتي في الأحياء الخاصة به، لإدراكه أن السلطة عاجزة عن توفير الأمن له.
التقرير الذي رفع مؤخراً إلى الرئيس عباس، وقيل إنه من 200 صفحة، لم ينشر على الملأ، ولم يتم الكشف عن مضمونه كاملاً، بل اكتفى المستشار الإعلامي لعباس، نبيل عمرو، بالإشارة إلى بعض ما فيه.
ونعتقد أن من حق الرأي العام أن يطل على نتائج التحقيق، ليس من موقع التشفي بالسلطة بل من موقع التدقيق فيما إذا كانت السلطة جادة فعلاً في معالجة نقاط ضعفها، وسد ثغراتها، والتراجع عن تجاربها السلبية لصالح تجارب جديدة، تعيد بناء ثقة المواطن بهذه السلطة.
فتجربة المواطن مع دعوات إصلاح السلطة وتخليصها من الفساد تجربة مرة، نذكر منها، على سبيل المثال كيف تجاوزت القيادة السياسية ما جاء في منتصف التسعينيات في تقرير هيئة الرقابة العامة من معلومات مؤكدة عن مظاهر وفضائح فساد تورط بها وزراء ومسؤولون وضباط وأجهزة وإدارات. وقد وردت الأسماء واضحة في التقرير، كما وردت المعلومات حول تورطهم واضحة هي الأخرى، مع ذكر المبالغ المختلسة، أو المستعملة في غير مكانها، ولخدمة المصالح الفردية وعلى حساب مصالح المواطن ومستقبله ومستقبل أبنائه.
وقد تدخل المجلس التشريعي آنذاك، وكان في غالبيته العظمى من فتح، وأجرى تحقيقاً خاصاً به، أكدت نتائجه صحة ما جاء في تقرير الهيئة العام للرقابة بل وأضافت إليه معلومات جديدة.
ومع ذلك يمكن أن نقول إن معظم من أدانهم التقريران (تقرير الرقابة وتقرير «التشريعي») مازالوا يحتلون مناصبهم القيادية، بل وإن بعضهم «كوفئ» على فساده بترقيات مميزة، وتحول مع الزمن إلى واحد من أعضاء الحلقة الضيقة التي تصوغ القرار في مقر المقاطعة في رام الله.
إن مثل هذه السلوكيات، ليس من شأنها سوى الترويج لثقافة الفساد، وتشجيع الآخرين على ممارسة الفساد والانغماس فيه حتى الأذنين، فما دامت القيادات الأولى تمارس الفساد المالي والإداري دون أدنى خجل، وتراكم الثروات والامتيازات، فلماذا لا يندفع الموظفون في المراتب الوسطى والصغيرة إلى الفعل ذاته؟ ومادامت أموال السلطة عرضة للنهب على يد كبار المسؤولين، فلماذا لا تكون في الوقت نفسه عرضة لنهب مماثل على يد صغار المسؤولين؟ وكل ينهب على مقاسه وبما يتناسب مع مرتبته وموقعه القيادي !
الفساد الذي استشرى في صفوف الأجهزة الأمنية والإدارية وفي صفوف النخبة في السلطة الفلسطينية لم يكن قدراً، بل كان ثمرة لسياسة السلطة نفسها.
فالفساد السياسي الذي انغمست فيه السلطة شكل الأساس لولادة كل أشكال الفساد الأخرى.
لقد تجاوزت قيادة السلطة حدود المعقول، وتجاهلت الهيئات وهمشتها، وضربت عرض الحائط بقرارات المجالس الوطنية والمركزية، وذهبت بعيداً في تزوير إرادة الشعب، وهي تقدم التنازلات السياسية للجانب الإسرائيلي، دفاعاً منها عن مصالحها المحدودة، كفئة اجتماعية بيروقراطية تربعت على رأس المؤسسة في م. ت. ف.
وبنت لنفسها مصالح وامتيازات، ارتبطت بها، وبات الحفاظ عليها هو المعيار الأبرز لقراراتها ومواقفها السياسية.
فاستبعدت في السياق، كل الخيارات السياسية التي من شأنها أن تتعارض مع هذه المصالح والامتيازات أو تتصادم معها.
واتجهت نحو كل ما من شأنه صون هذه المصالح وتعزيزها.
وعندما نشأت السلطة الفلسطينية وجدت هذه البيروقراطية في السلطة مجالاً أكثر رحابة للمزيد من الامتيازات والمصالح، في ظل العطاءات والمنح والقروض الدولية التي هبطت عليها مكافأة لها على توقيعها لاتفاق أوسلو، ولانقلابها على موقعها في رئاسة م. ت. ف. ورئاسة الحركة الوطنية الفلسطينية.
وقد فرخ الفساد السياسي فساداً مالياً وإدارياً وأمنياً وعلى كل المستويات. فالتعيينات تمت على قاعدة الموالاة (وليس الكفاءة).
والتوكيلات تمت على القاعدة نفسها.
وكذلك المكافآت والامتيازات. و«التسامح» وغض النظر عن كل مظاهر الفساد، إنما تم هو أيضاً على القاعدة نفسها.
بل إن القيادة السياسية في السلطة كانت ترتاح للتعامل مع الغارقين في الفساد لأنهم حالات طيعة، مطواعة، لا تعارض ولا تعترض، بل تستجيب على الفور لكل توجيه ولكل قرار، وهي على استعداد لتنفيذ المهمات مهما بلغت درجة قذارتها السياسية.
الآن، وقد خلصت لجنة التحقيق إلى ما خلصت إليه، يبقى أن نسأل، عن الضمانات التي ستحول دون أن تنشأ في صفوف الأجهزة الأمنية ظواهر الفساد والتقاعس ذاتها، كما كانت عليه قبل زلزال غزة؟
وكيف السبيل إلى بناء أجهزة أمنية تقوم على مبدأ الكفاءة والمهنية، تطيع مرجعيتها السياسية، ولا تتحول في السياق إلى مركز من مراكز القوى في الصراعات الجانبية على المصالح والامتيازات؟
وكيف السبيل إلى تخليص الأجهزة الإدارية هي أيضاً من مظاهر الفساد، وبحيث ترتقي بوظائفها، لتصبح مؤهلة لتوفير مقومات الصمود للمواطن في مواجهته للاحتلال والاستيطان؟
وهل من الممكن التخلص من الفساد الإداري والمالي والأمني، في الوقت الذي ما زال فيه الفساد السياسي يعشش في الصف الأول من النخبة السياسية في السلطة، ممثلاً بأشخاص ورد عن تورطهم السياسي و(المالي) في أكثر من تقرير وأكثر من مراجعة؟
إن ما جاء في تقرير لجنة التحقيق لا يبرر ل حماس ما فعلته ونحن هنا لا نلتقي مع الناطق باسمها الذي يحاول أن يقدم التقرير دليلاً على صحة قرار حماس باللجوء إلى الحسم العسكري.
إن مكافحة الفساد، بكل أنواعه، لا تكون إلا بعمل جماهيري ديمقراطي راسخ، يستند إلى مؤسسات المجتمع المدني ووسائل الرأي العام، وإلى شفافية في العلاقة بين السلطة والمواطن، وإلى دور للمجلس التشريعي في الرقابة على الحكومة، وإلى دور مميز للقضاء والنيابة العامة.
أي، باختصار، نحن بحاجة إلى نظام سياسي متطور، وردت أسس بنائه في وثيقة الوفاق الوطني (27/6/ 2006 ) حين دعت إلى إعادة بناء المؤسسة على قاعدة انتخابية ديمقراطية ووفق مبدأ التمثيل النسبي الكامل.
عندها يتعزز دور المجلس التشريعي (بفعل غناه السياسي وتركيبته التي تضم أوسع طيف سياسي) ويتعزز دور مؤسسات المجتمع المدني، مع الربط بين الآليات وبين قدرة هذه الآليات على فرض سياسات تنطلق أولاً وآخراً من مصالح الناس وليس من مصالح فئات تهيمن على القرار السياسي من موقعها الاستبدادي، الذي يوفره لها نظام سياسي على مقاس أفراد، وليس على مقاس المصالح الوطنية لشعب مناضل ومكافح من أجل حريته واستقلاله وسيادته وعودة أبنائه اللاجئين
المصدر
- مقال:الفساد السياسي هو العلةالمركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات