العَدْلُ في الأحْكام

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
العَدْلُ في الأحْكام


بقلم: الشيخ نزيه مطرجي

إِنَّ الله تعالى الحَكَم العَدْل أقام السَّمواتِ والأرضَ بالعدل، وأمر بتحقيق العدل في شؤون الدنيا والدين، ورسولُه الكريم صلى الله عليه وسلم مأمورٌ بالعدل، كما جاء في الكتاب المبين: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُم} الشورى 15, ومأمورٌ بالعَدل في الأَحكام مع غير المسلمين كما جاء في قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِالقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ} المائدة 42.

وأمة الإسلام مكلَّفة بالعدالة في أحكامها: {وإِذا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُموا بالعَدْلِ} النساء 58.

كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وثيقة القضاء بثاقب نظره ونور بصيرته، يُرشد الحكام والقضاة إلى التزام العدل في المحاكم، والرُّشد في الأحكام، فأرسل إلى قاضيه أبي موسى يقول: «سَوِّ بينَ الناس في مجلسك ووجهِك وعَدْلك حتى لا يَيْأَسَ الضعيفُ من عدلك ولا يطمعَ الشَّريف في حَيْفك..

ولا يَمنعْك قضاء قضيتَه بالأمس ثم راجعتَ فيه نفسك، وهُديت إلى رُشدك أن ترجع إلى الحقّ، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحقّ خيرٌ من التمادي في الباطل..» وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد قضاته قائلاً: «إذا أتاك الخَصْمُ وقد فُقِئَت عينُه فلا تحكمْ له حتى يأتي خصمه، فلعلّه قد فُقئت عيناه جميعاً».

والعدالة في القضاء والمحاكم من الصفحات المضيئة والصور المشرقة التي يفخر بها تاريخ الأمة، فيُحلِّق بها في أجواز الفضاء، ويعلو على السَّبع الطِّباق.

لقد بيّن علماء الأمة ما كان يفعله القضاة في العدالة بين المتخاصمين، فيُسَوُّون بينهم في المجلس، والإقبال عليهم، والاستماع إليهم، ولا يُملي القاضي على أحد حجّته، ولا يلقّن شاهداً شهادته.. ولا يحلّ للقاضي أن يَحكم بعلمه ولو كان مبنيّاً على يقين، إنما يقضي وفق أصول الدين.

لكن العدل في الأحكام لا يُحصَر في ديوان القضاء، فإن دائرته تتّسع لتشمل كلّ من ولي الحُكم، أو أقام الصُّلح، أو رعى مصالح العباد.

إن الحُكم الشرعيّ الذي يقضي بالعدل والمساواة، لا يسمح بالظلم والمحاباة، لأن العدل قضاء ربانيّ، وتشريع إلهيّ، والله تعالى يقول: {يا أَيُّها الذين آمَنوا كونوا قَوّامين بالقِسط شُهداءَ للهِ ولو على أنفُسِكُم أَو الوالِدَيْنِ والأَقرَبينَ} النساء 135.

فلا مُحاباة للقريب حبّاً لذويه، ولا الغنيّ طمعاً في ما يعطيه، ولا الزعيم التماساً لما يُحْذيه، فالله تعالى أولى من الجميع.

إن الله تعالى وضع الميزان للخَلق، ونصَبه للحقّ، فليس لعباده أن يُخالفوه في ميزانه، ولا أن يعارضوه في سُلْطانه.

والشريعة تفرض على المؤمنين العدل حتى مع من يبغضونهم ويمقتونهم! وتلك صورة مدهشة من عجائب أحكام العدل عند المسلمين، وفي ذلك يقول ربّنا عزّوجلّ: {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَن لا تَعْدِلوا اِعدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ للِتَقْوَى} المائدة 8.

إن العدل في الأحكام ليس أمراً عارضاً، أو عملاً طارئاً يفعله المرء اتّباعاً لهَواه، أو خُضوعاً لِمُناه، فإن الله تعالى جلّت حكمته أمر المؤمن بأن يكون العدلُ صفةً راسخة في مواقفه، وهيئةً ثابتة في أحكامه، فقال عزّ وجل: {يا أَيُّهَا الذينَ آمنوا كُونوا قَوَّامينَ لله شُهَداءَ بِالقِسْطِ} المائدة 8.

والقِوامة والشَّهادة يجب أن تكون كلٌ منهما بالعدل، وأن تكون لله، أي ما يُبْتَغى به وجهُ الله ويُرتَجى منه رضاه, فلا يصرفهم عن العدل والقسط غضب ولا بغضاء، ولا يمنعهم من العقوبة والقصاص عصبية ولا أهواء!

ومن شواهد التزام المؤمنين هذا الخُلق أن عبد الله بن رواحة بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم يَخْرِص (يخمّن) على أهل خيبر (اليهود) ثمارهم وزروعهم، ثم يُضمِّنهم الشَّطر، فشكوا شِدّة خَرْصِه، وأرادوا أن يُرْشوه ليرفُق بهم، فقال: يا أعداء الله تُطعموني السُّحت! والله لأنتم أبغضُ إليّ من القردة والخنازير، وما يحملني بغضي إياكم أن لا أعدل فيكم. فدُهش القوم وقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.

لو أن أمة من الناس أقامت أمورها وقوانينها على الظّلم لا العدل، وعلى المحاباة لا المساواة، وأخضعت الأحكام للهوى والعصبية، لكانت خارجة عن السّنن الربانيّة، ساقطة في الظلم، والظلمُ مرتعُه وخيم، وضررُه عَميم، وأَعجلُ المعاصي عقوبةً البَغيُ والظّلم, ومن سَلَّ سيف البغي والعدوان أُغْمِد في رأسه! إن الظالم مُهْلِكٌ ثم هالِك، كالنار تحرق ما حولها ثم تأكل بعضَها إن لم تجد ما تأكله! يقول الشاعر:

وما من يدٍ إلا يدُ الله فوقها

ولا ظالم إلا سيُبْلى بأظلم

تَنامُ عينُك والمظلومُ منتهٌ

يَدعو عليك وعينُ الله لا تَنَمِ

المصدر