العيش المشترك له شروط
26 يوليو، 2008
بقلم :الأستاذ / فهمي هويدي
لم أفاجأ بردود الأفعال علي ما نشرته في هذا المكان قبل ثلاثة أيام تحت عنوان «طعنة للجماعة الوطنية»، رغم أن كل ما فعلته أنني أعدت نشر النقاط الأساسية التي أوردها أسقف القوصية الأنبا توماس في محاضرة له بالولايات المتحدة الأمريكية، إذ أفزعني في الكلام أولاً مضمونه الذي قلت إنه ينسف أسس العيش المشترك بين المسلمين والأقباط في مصر، وثانياً كونه صادراً عن عضو بالمجمع المقدس، الذي يُعد أعلي سلطة في الكنيسة المصرية.
لقد تراوحت ردود الأفعال علي ما قاله أسقف القوصية بين مؤيد لكلامه الذي ادعي فيه أن العرب احتلوا مصر، وأن الأقباط يعانون مشكلتين في البلد هما الأسلمة والعروبة، وأن القبطي يشعر بالإهانة إذا وصف بأنه عربي..إلخ. آخرون استفزهم الكلام وقالوا إنه دعوة للطلاق والمفاصلة تنفذ مخططات إسرائيل والأمريكيين أحدهم بعث برسالة عن علاقة الأنبا توماس بمنظمات يمينية متعصبة في الولايات المتحدة وفي السويد التي يوفد إليها كل عام عدد من شباب أقباط الصعيد»، هناك فريق ثالث تمني ألا يفجر الموضوع وينشر علي الملأ، مؤثراً أن يجري الحوار حول الكلام الذي قيل في اجتماعات مغلقة يشترك فيها أفراد محدودون للتفاهم حول الموضوعات الخلافية.
ملاحظاتي علي هذه الأصداء أوجزها فيما يلي:
إنه إذا كان هناك عتاب فينبغي أن يوجه إلي الذي صدر عنه الكلام الخطير، وليس علي الذين نشروه أو الذي حذر من خطورته، وطلب إيضاحات بشأنه تطمئن الجميع إلي أن هذا موقف شخص وليس موقف قيادة أو مؤسسة.
إنه من المهم للغاية أن يتعرف الرأي العام علي موقف الكنيسة القبطية من كلام الأنبا توماس وأن يعلن هذا الموقف علي الملأ، لأن الرجل حين يعتبر أن المشكلة في الإسلام والعروبة فإنه وضع نفسه في خصومة لا حل لها مع 94% من الشعب المصري.
إن أخطر ما في الكلام أنه لا يتحدث عن مطالب للأقباط أو حتي مظالم، فلم يتطرق إلي موضوع المواطنة أو بناء الكنائس أو التمثيل في الوظائف العليا، وإنما انطلق من الإدعاء بأن الأقباط يملثون هوية مختلفة. كالأكراد في العراق والأمازيغ في الجزائر والبلوش في إيران، وهذا الكلام إذا أخذ علي محمل الجد، فإنه يفتح الباب للطائفية السياسية وربما لما هو أسوأ من ذلك وأبعد.
إن كلام الأنبا توماس ليس جديداً كله لأن دوائر الغلاة تردده بصورة أو أخري، والمطبوعات التي يتداولها أقباط المهجر توسع فيه بما يعمق من الشرخ ويحقق المفاصلة، ولكن هذه هي المرة الأولي فيما أعلم التي تعلن فيها هذه الآراء في داخل مصر بجرأة من قبل قيادة كنسية، صحيح أن الرجل قال كلامه في الولايات المتحدة، واستمع إليه جمهور لم يصدم بسببها وربما اعتاد عليها، لكنه لم يتحسب لاحتمال نشره في مصر وتعميمه علي جمهور القراء.
أنني ذكرت فيما كتبته أن الكلام الذي نشرته الصحف المصرية الثلاث «الدستور ـ المصري اليوم ـ البديل» إذا لم يقم الأنبا توماس بنفيه أو تصويبه. فينبغي أن نتعامل معه علي أنه حقيقة، وأن نسائله عنه بمقتضاه، الأمر الذي يعني أنني تمنيت عليه أن يراجع كلامه لكي يمتص صدمة الكثيرين بسببه.
إن العيش المشترك ليس هتافاً أو شعاراً يطلق في الفضاء ولا خطبة يكتفي بإلغائها في المناسبات المختلفة، ولكنه ضرورة وجودية لها شروطها التي ينبغي أن تتحقق علي الأرض، أولها القبول المتبادل، وثانيها المساواة في الحقوق والواجبات، وثالثها احترام الأوزان النسبية لمختلف مكونات الجماعة الوطنية، علماً بأن اختلاف تلك الأوزان لا علاقة له بالحقوق والواجبات التي يُعد التساوي فيها أمراً مقطوعاً به ومفروغاً منه.
أدري أن بين المتعصبين المسلمين من يطلق دعاوي بنفس الدرجة من الخطورة تخل بمقتضيات العيش المشترك، وهو أمر محزن لا ريب يتطلب موقفاً حازماً وعلاجاً سريعاً، لكن الفرق الجوهري في الحالة التي نحن بصددها أن خطاب المتعصبين حين يصدر عن عوام الناس فإن تأثيره لا يقارن بذات الخطاب، إن ما صدر عن القيادات والرموز «الروحية» التي تعد من أركان مؤسسات التوجيه والإرشاد.
المصدر
- مقال :العيش المشترك له شروط ، الدستور