العنف فى مجتمع التعليم
بقلم : د. سعيد إسماعيل على
لا أظن أن هناك علاقة وثيقة بين الأمرين ، لكن ، ما العمل ، وقد تعالت وتيرة أمر وتدافعت كثرة وشدة ، بعد ظهور الأمر الأول ؟
أما الأمر الأول فهو تصريح سبق أن أعلنه وزير التربية بأن هيبة المدرس ضاعت منذ أن تم منع الضرب فى المدارس ،وإن كان الرجل قد حاول بعدها أن " يُجَمّل " التصريح بأن قصده كان كذا وكذا مما خفى على الذين قرأوه وسمعوه .
وبالنسبة للأمر الثانى فهو هذا التزايد الملحوظ لحوادث العنف بين معظم أطراف المجتمع التربوى ،وأطرافه الأربعة : المعلم ،والتلميذ ،والإدارة ،وولى الأمر ، ودعونا نتوقف أمام فترة قصيرة للغاية وهى تبدأ من 18مارس ، إلى 28 منه ، العام الحالى ، لنستقرئ " عينة " مما نشر ، مع وعينا بحقيقة الحكمة القائلة " وما خفى كان أعظم !!
ففى جريدة الشروق ، فى 18 مارس أن والدة طالب بمدرسة ابتدائية بالسويس تقدمت ببلاغ متهمة أحد مدرسيه بسحله على سلالم طابقين من المدرسة والاعتداء عليه بالضرب بواسطة عصا ، مرفقة تقريرا طبيا من مستشفى السويس العام بإصابات بالغة .
وفى سياق الخبر نفسه بالشروق عن محافظة الشرقية أن مستشفى الجامعة استقبلت مُدَرسة فى حالة إغماء ومصابة بحالة انهيار بعد الاعتداء عليها من قبل أحد أولياء الأمور " رجل أعمال " وسبها بألفاظ جارحة ،ومحاولة ضربها بكوب زجاجى ، ورد ولى الأمر بأن المُدرسة كانت قد ضربت ابنته بمسطرة حديدية مما أصابها بحالة نفسية سيئة .
وقبل هذا وذاك – كما جاء أيضا بالخبر – تذكير بما شهدته منطقة حى السلام بالإسماعيلية من مشاجرة دامية بين طالب ثانوى ،وطالب إعدادى حيث سخر أحدهما من حلاقة شعر زميله ، ليتطور الأمر إلى تسديد أحدهما طعنة نافذة بالقلب لزميله بمطواة أخرجها من طيات ملابسه أردته قتيلا !!
وفى أهرام اليوم نفسه أن طالبا بالصف الثالث الثانوى بمدرسة صناعية لقى مصرعه أمس (17مارس ) أثناء مزاحه مع مُدَرسه الذى أراد مداعبته فدفعه فسقط من الدور الثالث بالمدرسة .
وفى العشرين من مارس نشرت " المصرى اليوم " أن مدرسة خاصة بالجيزة شهدت اعتداء مدرس بالركل على طالب فأصابه بكسر فى ذراعه ، فيما اشتبك طلاب مدرسة ثانوية فنية بالمنيا مع آخرين من مدرسة فنية فى مشاجرة بالشوم والحجارة ، حيث شارك فى التشاجر أبناء قريتى الطالبين المتنازعين !
وفى الأهرام 20مارس ، نشرت الأهرام تحقيقا قال فيه رئيس محكمة الأحداث مؤكدا أنه من خلال القضايا التى تعرض أمام محاكم الأحداث نجد أرقاما مخيفة ووقائع مأساوية تحمل فى طياتها دلالات تنذر بكارثة مستقبلية كبيرة ، فمن بين نوعيات عديدة من الجرائم نجد أن قضايا المخدرات تحتل المرتبة الأولى فى قضايا الأحداث ، كما نجد أن 90% من المتهمين هم من طلاب المدارس !!
وفى عدد 21 مارس ، جاء بالمصرى اليوم أن طالبا فى المرحلة الثانوية فى الدقهلية لقى مصرعه ، حيث حرض زميل له بلطجيا للانتقام منه لرفضه مساعدته على الغش أثناء الامتحان التجدريبى ،وكانت الطعنة بسكين حاد فى الرقبة .
وفى عدد 24 مارس ، نشرت الجريدة نفسها " مجموعة " من الوقائع ، ننتقى منها :طعن طالب بمدرسة ثانوية بكفر الشيخ زميله بمطواة بسبب خلافات بينهما ، حيث تسبب فى إصابته بجروح قطعية فى البطن والصدر والرقبة ،وفى معهد أسوان الابتدائى الأزهرى اعتدى مدير المعهد بالسب على ولية أمر تلميذة أثناء توجهها للاستفسار عن سرقة تليفون محمول خاص بابنتها .
وفى عدد 26 مارس " مجموعة " أيضا من الحوادث ، ننتقى منها :اتهام ولى أمر تلميذ إعدادى فى أسوان مدير المدرسة بالاعتداء بكوب زجاجى على نجله الذى أصيب بجرح قطعى فى الراس لوقوفه خارج الفصل .
وفى بنى سويف صفعت مديرة مدرسة إعدادية مندوب التغذية على وجهه عندما طلب الاطلاع على نسبة الغياب لتوزيع الوجبات الغذائية على الطلاب ، ولم تكتف المديرة بذلك بل تعدت عليه بالضرب العصا أمام الطلاب والمدرسين .
وفى جريدة الوفد ، 24 مارس ، أن أم تلميذ بمدرسة بالإسكندرية توجهت إلى المدرسة تشكو من أنها لا تستطيع دفع مصروفات ابنها حيث مات والده ، وفوجئت الأم بمُدَرسة تبصق على وجهها ، وتضامن بعض المدرسين مع زميلتهم وجروا الأم فى فناء المدرسة وألقوها فى الخارج .
وقد يكون العنف موجها إلى الذات ، ففى 25 مارس نشرت الدستور أن تلميذا بالصف الابتدائى بالمنيا شنق نفسه بواسطة حبل بنافذة غر فة نومه عقب معايرة أمه له بالفشل والرسوب !
وفى نفس عدد الدستور طعن طالب بشبرا بمدرسة ثانوية صناعية مُدَرسه بطعنتين بمطواة ، بعد أن عنفه المدرس بمضغه اللبان والحديث مع إحدى المدرسات بطريقة غير لائقة بعد حضوره متأخرا .
وفى يوم 28 مارس ، نشرت الدستور أن عميد كلية التجارة بجامعة الإسكندرية ووكيلها ،وبصحبتهما ما يقرب من أربعين عاملا مجهولى الهوية " بلطجية " ، قاموا بالاعتداء على طلاب منسوبين للإخوان المسلمين الذين كانوا ينظمون حملة :" ومن أحياها " التى تهدف إلى شراء جهاز تنفس صناعى للمحتاجين وإهدائه إلى مستشفى الجامعة ( وكان أمر مثل هذا قد تكرر أكثر من مرة فى جامعة عين شمس عندما كان وزير التربية الحالى رئيسا لها ).
هذه " قطرات " من بحر تغرق فيه مؤسسات أنشأها المجتمع " لتربية " الأبناء ، فإذا ببعضها يكون موضعا لقتلهم أو إهانتهم هم وأولياء أمورهم !
إن من الصعب حقا أن نفى القضية حقها من خلال مقال ، فهى تحتاج إلى دراسة ، وإن كانت الدراسات قد أجريت بالفعل من قبل ، ومع ذلك فليس لنا إلا أن نكرر " من يرى ومن يسمع ؟ " ، فلابد أن يشير رئيس الجمهورية إلى ضرورة اتخاذ إجراء ، وإلا ، فلا حياة لمن ينادى !
بل إن وزير التنمية الإدارية نفسه ، كما نشرت المصرى اليوم فى 18 مارس أكد أن الحكومة غير جادة فى جعل التعليم من أولوياتها ، ويُكمل هذا ما جاء على لسان الدكتور فاروق الباز ، فى عدد الصحيفة نفسه من ربط بين تطور وتنمية مصر ، والإنفاق على البحث العلمى والتعليم .
إن أبسط ما يمكن أن نشير إليه فى هذا المقام بصدد عنف التعليم ،هو العودة إلى التشبيه الشهير لبراد الشاى ، لو تصورنا ألا تكون به فتحة تهوية ،وتركنا الماء بداخله يغلى ، فالنتيجة الطبيعية هى الانفجار ، إنها سنة إلهية تسرى فى كل الظواهر المادية والبشرية .
والمجتمع المصرى يعيش منذ عدة عقود حالة من القهر تكتم الأنفاس ، قد لا يكون أفراد المجتمع المدرسى منغمسين فيها بطريقة مباشرة ، ولكن المناخ المجتمعى العام يتسلل بجراثيم القهر إلى الجميع ، فإذا بما يعرف فى علم النفس " بالتوحد مع المعتدى " ،حيث يصبح كل فرد " فرعونا " يريد أن يفرض ويحتكر ويستبد ويستغل .
ومن جانب آخر فالدولة نفسها تمارس عنفا مؤسفا ، فما من تجمع من أفراد المجتمع يتجمعون احتجاجا ، أو مطالبة بأمر ما إلا وتجد حشودا من جنود الأمن المركزى مدججين بالسلاح والهراوات الغليظة ، لا يتورعون عن الضرب بكل قسوة ،وكثيرا ما يرافق هذا اعتقالات ،وما يحدث أثناء الاعتقالات من إهانات وصور تعذيب يندى لها الجبين ، لم نرى مثلها أيام الاحتلال البريطانى !
ويكفى نموذجين حدثا مع أرفع مستويات المجتمع المصرى ، ففى جامعة القاهرة ، عندما أراد بعض الأساتذة مجرد أن يقفوا أمام الإدارة بغير ضجيج ولا حركة ، جهزت الجامعة مئات طلاب التربية العسكرية يقفون فى نفس الموقع ،بينما سبق لهم من قبل أن أقاموا الدنيا وأقعدوها ردا على ما قيل عن مليشيا عسكرية فى الأزهر ،و ما كانت إلا طابورا رياضيا .
كذلك فقد سعى عدد من المحامين المحترمين أن يقوموا بمحاكمة شكلية للحزب الحاكم ، فإذا بقوات الأمن المركزى تحاصر وتغرق بالمياه وتغلق الأبواب وتعتقل !
وهل نُذَكر بما يحدث تحت قبة البرلمان من رفع للأحذية وتعارك ، واستخدام ألفاظ بعضها نستهجن حدوثه فى الشارع ؟! بل ويحدث أن تقرع آذاننا ألفاظ غير مهذبة من وزراء ، ولا يعقبها ، ولو حتى اعتذار ، لا عزل من الوظيفة ومحاسبة !!
إن صغارنا عندما يرون كبارنا يفعلون هذا ، فلم لا يقلدونهم فى العنف والاعتداء ؟!
والقهر قد يكون بتضييق الأحوال المعيشية ، حتى لقد قالوا فى الأمثال " الجوع كافر " ، ولست بحاجة لأن أسوق أمثلة للتدهور المتتالى لأحوال الكثرة الغالبة من أبناء المجتمع ، فى الوقت الذى تمتلئ الصحف فيه بإعلانات ضخمة عن المنتجعات والقرى السياحية والأرقام الفلكية للمساكن ، ودلالة هذا وذاك على استئثار أعداد محدودة بالكم الأكبر من الثروة ، ويبلغ الخداع ذروته ، عندما يكذب المسئولون الكبار بادعاء أن الحال يتحسن ، ويستدلون على ذلك بتزايد نسبة النمو ، دون أن يقرنوا ذلك بالطرف الآخر للمعادلة ألا وهو " إلى من تذهب هذه النسبة الزائدة " ؟ وهو ما يعرف " بتوزيع الدخل " ، حيث يكون متوسط الدخل معيارا خادعا إلى حد كبير .
قد يقول البعض أن العنف موجود على سبيل المثال أيضا فى الولايات المتحدة ، بينما هى منارة ديمقراطية وحرية لمواطنى الداخل ، فضلا عن أنها من المجتمعات المتقدمة والمرفهة ، بغض النظر عما تعانية حاليا من أزمة مالية ، فنقول أن العنف هناك له أسباب أخرى ، لا محل لبيانها هنا ، تتصل بمنظومة القيم الأخلاقية والدينية ،وغياب أو ضعف مؤسسة الأسرة ، التى هى تربية التربية الأصلية ، مع ضرورة الوعى بأن هناك طبقات مطحونة وأعداد غير قليلة يعانون الفقر.
المصدر : جريدة المصريون