العمى الاستعماري يتكرر في فلسطين
بقلم : فهمي هويدي
حينا بعد حين يؤكد لنا الاميركيون خسران المراهنة على أي شيء إيجابي يقدمونه لصالح اقامة سلام حقيقي في الشرق الاوسط، ومن حق أي واحد أن يتساءل عن جدوى العودة الى تلك المراهنة، بعد كل ما خبرناه من مواقف لواشنطن كانت دائمة الانحياز لاسرائيل، وبالتالي دائمة العداء للفلسطينيين. ليس ذلك فحسب، وانما ظل اقتراب الولايات المتحدة من الملف الفلسطيني محكوماً بالرؤية الاسرائيلية ومحابياً مصالح ومتطلبات الدولة العبرية دون غيرها، ذلك كله صحيح لا ريب، ولكننا أمام الإلحاح الاعلامي والسياسي الذي يتبنى كل حين فكرة جديدة لحل مشكلة الصراع في المنطقة، أصبحنا نتعلق حتى بالآمال المشكوك فيها، وأحدثها ما سمي بخريطة الطريق، غير اننا حتى ونحن نعيش ذلك الوهم فإن المسؤولين الاميركيين لا يقصرون في تبديده على وجه السرعة، الأمر الذي يؤدي الى ارتدادنا وارجاعنا مرة أخرى الى نقطة الصفر، أعني الى الحقيقة المتمثلة في اليأس من المراهنة على الدور الأميركي.
سيقول قائل ان هذا الكلام لا جديد فيه، وهذا ما أسلم به أيضا، لكنني أضيف انه اذا لم يكن هناك جديد في حقيقة الموقف الأميركي، فإن ثمة جديداً في الشواهد والحيثيات التي تعزز يأسنا من الموقف الأميركي، وحذرنا من الاطمئنان إليه أو التعويل عليه.
أحدث ما قرأت في هذا الصدد تقرير نشرته صحيفة «يديعوت احرونوت» في 6/30، وذكرت فيه ان السيدة كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأميركي اطلعت المسؤولين الاسرائيليين خلال زيارتها الأخيرة لتل أبيب، على اتجاه الادارة الاميركية الى استثمار حوالي مليار دولار في البنى التحتية للضفة الغربية وقطاع غزة «ليلمس الفلسطينيون الآن، ومع بدء تطبيق خريطة الطريق، أن ثمة تغيرات مهمة تطرأ على حياتهم»، حيث اعتبرت ان من شأن الاستثمار الكبير في «رفاهية الفلسطينيين» ان يسلب حركة حماس ادعاءها انها الجهة الوحيدة التي تعنى بضائقة الفلسطينيين. ومما نقلته الصحيفة الاسرائيلية ان الافكار التي طرحتها رايس تستهدف إعادة تأهيل البنى التحتية في الاراضي الفلسطينية المحتلة، لتشمل شق طرق جديدة واقامة مستشفيات ومؤسسات انمائية انسانية تشكل بديلا حقيقياً للمؤسسات التابعة لحركة حماس.
وأضافت «يديعوت احرونوت» ان رايس أوضحت لمضيفيها الاسرائيليين ان الولايات المتحدة لاتنوي التوصل الى حل «وسط» مع حماس، ولكنها ستواصل مساعيها الدولية لعزل الحركة وتجفيف منابع تمويلها (وهو الموضوع الذي طرحه الرئيس بوش على من اجتمع بهم من الزعماء العرب في شرم الشيخ مؤخراً)، وقد علق مسؤول اسرائيلي كبير للصحيفة على هذا الكلام قائلا: ان الخطة الاميركية الجديدة هذه، في حال تنفيذها تعد تصديقاً رسمياً وتوقيعاً على شهاد وفاة حماس.
حين قرأت هذا الكلام قلت ان «العمى الاستعماري» واحد في كل العهود، فقد قفزت الى ذاكرتي على الفور قصة الجنرال ديجول مع الجزائر، حين اشتدت مقاومة الاحتلال الفرنسي، فأشار عليه البعض بأن الجزائريين يعانون من مشاكل اجتماعية ضاغطة عليهم، خصوصاً في السكن، وان سلطة الاحتلال اذا اهتمت باقامة مساكن للناس وتوسعت في المشروعات العمرانية، فان ذلك سوف يمتص غضبهم ويهدئ من خواطرهم، ومن ثم ستنطفئ نار الثورة، وينشغل الناس بحياتهم الخاصة. وقد نفذت الفكرة بالفعل، واقيمت بعض المشروعات السكنية، ولكن المقاومة ظلت على شدتها، وفشل «الحل العمراني» في تهدئة الغضب وامتصاص مشاعر الرفض والمقاومة.
كان ذلك الحل تعبيراً عن جهل الجنرالات الفرنسيين بالجزائريين والاحتقار لهم، إذ لم يكن أولئك المستشارون على دراية بحقيقة مشاعر الشعب الجزائري، المعتز بكرامته وعروبته ودينه، ولم يخطر على بالهم ان الجزائريين الذين يضحون بدمائهم لكي ينالوا الاستقلال، لن يقبلوا بأن يقايضوا حلمهم بعدة شقق سكنية، ولذلك توهم المستشارون انهم اذا حلت مشاكلهم الاجتماعية فسوف ينسون مسألة الاحتلال، وكأن غاية ما يريدون ان تستقيم أحوالهم المعيشية، ولا يهم بعد ذلك ان يكونوا أحراراً أو عبيداً وأذلاء.
السيدة رايس وأقرانها في الادارة الاميركية يخطئون اذ يعتبرون ان حماس هي المشكلة، وان القضاء عليها هو الحل الذي سيريح الجميع في اسرائيل والولايات المتحدة. كما يخطئون حين يظنون ان تأييد الجماهير لحماس والتفافهم حولها نابع من انها تؤدي لهم خدمات انسانية وتعليمية وغير ذلك، فذلك هو الجهل بعينه، أما الاحتقار فمفروغ منه، لان الادارة الاميركية ورئيسها لم يعبروا عن اقتناعهم بأن الفلسطينيين بشر لهم حقهم في الحياة الكريمة، وأعلنوا أكثر من مرة تأييدهم لما يقوم به الاحتلال ضد الفلسطينيين من عمليات سحق وترويع، ليس فقط بتبريرهم تلك الممارسات على انها «دفاع عن النفس»، ولكن أيضاً عن طريق تزويد الاسرائيليين بالسلاح لمواصلة ما يقومون به من سحق وترويع وإذلال.
ان حماس تجسد روح المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، الذي لم يتوقف عن تلك المقاومة منذ لاحت في الأفق شواهد الاطماع الصهيونية في فلسطين، وما الخدمات التي تؤديها إلا عناصر جانبية في المشهد، فضلا عن انها من قبيل «الدفاعات» التي تعزز الصمود والمقاومة، وهي تلبي حاجات للناس حقاً، كما ان الناس مأزومون حقاً، لكن اولئك الناس وان ارضاهم أو خفف عنهم محنتهم توفر بعض الخدمات لهم، إلا ان هناك شيئاً أهم من ذلك كله يتجاهله الاميركيون، هو شوقهم الى الاستقلال الذي يوفر لهم العزة والكرامة، ويرفع عنهم مهانة الاحتلال وذله اليومي.
بمنطق الأزمة أيضاً فسروا العمليات الاستشهادية، ودأبت تحليلاتهم على الحدث عن ان الذين يقدمون على تلك العمليات هم من الشباب المحبطين واليائسين، الذين لم يجدوا سبيلا للتعبير عن يأسهم إلا بتفجير أنفسهم وسط الاسرائيليين، وهذا الاصرار على مسألة اليأس يخفي حرصاً على التهوين من شأن اولئك الشبان وتصويرهم بحسبانهم ضحايا، لنزع صفة البطولة عنهم، ونفي أي دور للعزة والكرامة فيما يقدمون عليه، يريدون ان تظل عملياتهم وصورهم مرتبطة في أذهان الناس بالانتحار يأساً من الحياة، وليس بالاستشهاد دفاعاً عن حلم الحياة الكريمة.
هذا الجهل أو التجاهل يتجسد مرة أخرى في كلام السيدة رايس وغيرها من ممثلي الادارة الاميركية، ذلك انهم بإلحاحهم على أن حماس هي المشكلة، ومطالبتهم المستمرة باستئصالها عبر تكفيك بنيتها التحتية كما يقولون، لا يملكون شجاعة الاعتراف بأن الاحتلال هو المشكلة، وان وجود حماس أو غيرها من منظمات المقاومة الوطنية هو نتيجة مباشرة لذلك الاحتلال. والحقيقة الأخرى التي يتعامون عنها انه حتى اذا تم القضاء على حركة حماس او الجهاد فان هذه لن تكون النهاية، وانما سيخرج من رحم الشعب المقاوم آخرون يقومون بنفس الدور ويواصلون مسيرة النضال، من ثم فإنهم اذا ما أرادوا حقاً أن يجتثوا المقاومة من جذورها، ويتخلصوا منها الى الأبد، فلا سبيل الى ذلك إلا بالقضاء على الشعب الفلسطيني كله وإبادته عن آخره.
أما اعلان الحرب على حماس والجهاد، وملاحقة عناصر المقاومة ومصادر التمويل (العمليات الاستشهادية لا تحتاج الى تمويل، كما ان انتفاضة الحجارة لم تكن بحاجة الى تمويل من أي نوع)، ومحاولة رشوة الشعب الفلسطيني ببعض الخدمات وخطط الاعمار، فذلك كله سيظل من قبيل التعلق بالأوهام أو تعاطي المسكنات، لانه طالما ظل الاحتلال قائماً فليس أمام الفلسطينيين سوى خيار المقاومة، في وجود حماس والجهاد أو في غيابهما.
ان استهلال خريطة الطريق بهذا النهج في التفكير والتدبير يضاعف من أزمة الثقة في الموقف الاميركي، ويبدو من الأمل الذي يحاول البعض اقناعنا بالمراهنة عليه، ذلك ان بداية الخريطة اذا كانت على هذا النحو، فهي تدلنا عى نهاية الطريق، الذي هو ليس طريق السلامة بأي حال.
المصدر
- مقال:العمى الاستعماري يتكرر في فلسطينموقع:الشبكة الدعوية