العدالة التركي
شهد القرن الماضي نشوء التيارات اليسارية والدولة القومية في مختلف أرجاء الشرق الأوسط، لا سيما بعد القضاء على الدولة العثمانية. والدول العربية (من مشرق العالم العربي الى مغربه) قامت على اكتاف هذه النخب القومية التي دعمتها القوى الغربية ابعد اتفاقية سايكس بيكو على يد بريطانيا وفرنسا في النصف الأول من القرن، الى أن تولت أميركا هذه المهمة خلال النصف الثاني وحتى الآن. لكن النخب القومية تحولت الى أنظمة، تفرّدت بحكم دول العالم العربي وما تزال، فكانت لدينا أنظمة ملكيّة وجمهورية وأخرى عسكرية انقلابية، يجمع بينها عنصران مشتركان، انعدام الديمقراطية والحريات السياسية، واعتماد التوريث في تداول السلطة.
منذ أواخر سبعينات القرن الماضي وبروز التيارات الإسلامية وريثاً للتيارات اليسارية والقومية، نجحت الثورة الإسلامية في ايران في اسقاط أعرق نظام ملكي امبراطوري عام 1979 وأقامت جمهورية اسلامية تعتمد نظام ولاية الفقيه. أما في العالم العربي، فقد نجحت الحركة الإسلامية السودانية في إطلاق «ثورة الانقاذ» تفادياً لانهيار السودان أو تفتت وحدته الوطنية، وقد أخفت اسلاميتها فترة طويلة، وربما حتى الآن، كي لا تقع فريسة الحصار الغربي والضغوط الدولية، وقد أفلحت في ان تتماسك عشرين عاماً في مواجهة الانقسامات من حلايب الى الجنوب الى دارفور. ثم كانت عملية الحسم العسكري في غزة أواسط حزيران 2007، مما أرسى لدى الاسلاميين قناعة بأن استمرار العمل في المجتمع أجدى من تسلم السلطة، أخف عبئاً وأعمق أثراً أو أجدى من الدخول في مواجهات حتمية، داخلية وخارجية.
لكن تجربة أخرى من نمط جديد برزت في الساحة الإسلامية، تلك هي التجربة التركية. فمعروف أن تركيا دولة علمانية قهرية، يعادي نظامها الدين ويتعقب المتديّنين. وقد استمرت فترة قمع الأنشطة الإسلامية قرابة نصف قرن، منذ اسقاط الخلافة عام 1924، برز خلالها الشيخ سعيد بيران الذي أعدم بعد سنوات، ثم جماعة «طلبة النور» بقيادة سعيد النورسي الذي توفي عام 1960، وصولاً الى نجم الدين أربكان الذي سجل أول مشاركة في السلطة عام 1974، الى حزب السلامة الذي فاز بانتخابات البلديات التركية، الى حزب الرفاه الذي حقق اكبر نجاح بانتخابات 1996. وشكل اربكان أول ائتلاف حكومي، مما استنفر الجيش والتيارات العلمانية والقوى الغربية لاسقاطه، فشكل حزب الفضيلة عام 2002 ثم حزب السعادة عام 2003. هنا بدأت تجربة جديدة قادها الثنائي: رجب طيب اردوغان (رئيس بلدية استامبول) وعبد الله غول.. من أبرز رفاق اربكان، حيث جرى اطلاق حزب العدالة والتنمية عام 2003 الذي فاز في الانتخابات النيابية والبلدية، وما يزال يحكم تركيا حتى اليوم.
يوصف حزب العدالة والتنمية بأنه ذو جذور اسلامية، لكنه وضع في رأس أولوياته انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، وأفاد من هذا المطلب في تعميق جذور الديمقراطية، وكفّ يد الجيش عن التدخل في الشأن السياسي، والتصالح مع الأكراد الذين يعاديهم ويضطهدهم القوميون والعلمانيون الأتراك، والاحتكام الى معايير كوبنهاغن التي يعتمدها الأوروبيون شرطاً لدخول الاتحاد.
ثم شرع اردوغان في معالجة علاقات تركيا الخارجية مع محيطها الاقليمي، فأقام علاقات حميمة مع ايران والسعودية ومصر دفعة واحدة، وشارك في بعض اجتماعات جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي، وأفاد من عضوية تركيا القديمة في حلف شمال الأطلسي وعلاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، واعتراف حكوماتها بالكيان الصهيوني، وأقام مصالحة مع اليونان، الخصم اللدود لتركيا، وشارك في مشروع للأمم المتحدة يقضي بإعادة توحيد قبرص، وفتح الملف الأصعب الذي يستعصي على الحل «الملف الأرمني»، حيث ذهب رئيس الجمهورية عبد الله غول العام الماضي الى يريفان لرعاية مباراة بكرة القدم لفريقين تركي وأرمني، ويفترض أن يرعى رئيس جمهورية أرمينيا سيرج سركيسيان مباراة مماثلة يوم (أمس) الخميس في مدينة بورصة التركية التاريخية، وذلك بعد توقيع وزيري خارجية البلدين في زوريخ بسويسرا أول اتفاقية صداقة، رغم معارضة المتطرفين (الأتراك والأرمن) لهذه الاتفاقية، على خلفية الموقف الأرمني من اقليم ناغورنوكاراباخ، والموقف التركي مما يسمى «المذابح الأرمنية» في الحرب العالمية الأولى عام 1915.
بقي ملفان هامان عالجهما حزب العدالة والتنمية، لا سيما بعد أن انضم مهندس السياسة الخارجية أحمد داود أوغلو الى اللجنة المركزية في الحزب، تلك هي العلاقة مع سوريا، والكيان الصهيوني. وخلال سنوات نهاية القرن الماضي كانت تركيا وسوريا تحشدان القوات وتزرعان الألغام على الحدود على خلفية نصيب كل منهما في مياه الفرات، كما كان حزب العمال الكردستاني أحد أبرز نقاط الخلاف. وانتهى الأمر مع حكومات حزب العدالة والتنمية الى اقامة أوثق العلاقات، الرسمية والشخصية، بين سوريا وتركيا، وأقام وزيرا الخارجية مهرجاناً على الحدود بعد الغاء تأشيرات الدخول لمواطني البلدين، على أن يزور الرئيس اردوغان دمشق بعد أيام لتوقيع الاتفاقيات.
أما العلاقة مع الكيان الصهيوني فقد كانت جدّ ملتبسة، وكان الإسلاميون الأتراك يجدون حرجاً شديداً في معالجة هذا الملف، من اربكان الى اردوغان. وجاء انسحاب رئيس الوزراء التركي من مؤتمر دافوس منذ أشهر احتجاجاً على كلام قاله الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز، بينما أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى بقي جالساً. والموقف التركي من العدوان على غزة في خطاب اردوغان في افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة، وصولاً الى الغاء المناورات الأطلسية فوق الأراضي التركية بسبب مشاركة طيران العدوّ فيها، وبرّر اردوغان القرار التركي بأن «حكومته التزمت ضمير شعبها».. كل هذا اضافة الى دعم هيئات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية التركية للمحاصرين في غزة، والمظاهرات التي تنطلق كل اسبوع من المساجد احتجاجاً على حصار المسجد الأقصى.
انها تجربة اسلامية جديرة بالتأمل، رغم أنها لا تحمل عنواناً اسلامياً, وليس في رجالها معمم واحد.