العالم الإسلامي في فكر الإمام البنا
لقد اتسم المنهج الفكري للإمام البنا بالتدرج في الخطوات عمومًا، وكذلك فيما يتصل بعلاقة الإخوان بالعالم الإسلامي، فعندما ننظر إلى رسائله الأولى نرى أنه اهتم بوضع أسس للعلاقة المفترضة بين المسلمين والخروج بها من نطاق القومية والوطنية فحسب إلى نطاق أوسع وأشمل وأرحب وهو نطاق الأخوة الإسلامية الجامعة؛
ففي "رسالة دعوتنا" يقول الإمام البنا عن مفهوم الإخوان للوطنية:
- "أما وجه الخلاف بيننا وبينهم (1) فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم.
- أما دعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض. ويظهر لك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوي نفسها على حساب غيرها فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطر إسلامي، وإنما نطلب القوة لنا جميعًا، ودعاة الوطنية المجردة لا يرون في ذلك بأسًا، ومن هنا تتفكك الروابط، وتضعف القوى، ويضرب العدو بعضهم ببعض". (2)
ثم يؤكد البنا على قوة الرابطة التي تربط بين المسلمين ألا وهي رابطة العقيدة فيقول:
- "رابطة العقيدة، وهي عندنا أقدس من رابطة الدم ورابطة الأرض، فهؤلاء هم قومنا الأقربون الذين نحنّ إليهم، ونعمل في سبيلهم، ونذود عن حماهم، ونفتديهم بالنفس والمال في أي أرض كانوا، ومن أية سلالة انحدروا". (3) بهذه المعاني بذر الإمام البنا البذرة الأولى في نفوس الإخوان، بذرة الشعور الأخوي بين أبناء العالم الإسلامي.
ثم جاءت المرحلة الثانية من هذا العلاقة بوضع "رسالة المنهج"، هذه الرسالة التي كانت بمثابة الضوء الكاشف الذي يرسم الطريق للإخوان ويحدد معالمها، وقد بين البنا فيها الخطوات الأساسية التي لابد من تحقيقها لتنتقل الدعوة إلى مرحلة النضج واستكمال البناء، وقد حددها البنا في عشرة خطوات، كانت النقطة العاشرة تتصل بما نحن بصدده، فقال: "العمل على نشر الدعوة خارج القطر، وتوثيق الصلة بالهيئات العاملة هناك" (4)
كما أكد على ضرورة مساهمة الإخوان في قضايا الأمة الإسلامية فقال في النقطة الثامنة:
- "يساهم الإخوان خلال هذه المرحلة في أعمال الخير العام ما سنحت لهم الفرص... ويساهمون كذلك في خدمة القضايا الإسلامية العامة كقضية فلسطين والمغرب.... " (5)
ثم جاءت "رسالة المؤتمر الخامس" بعد "رسالة المنهج" لتعيد النظر في مراحل الطريق، وتنقل الدعوة من المرحلة النظرية إلى المرحلة العملية في خطوات واضحة وتدرج مرسوم
فيرسم البنا دوائر ثلاثة للعلاقة بين المسلمين:
أولاً: الوحدة العربية:
فيقول:
- "إن هذا الإسلام الحنيف نشأ عربيًّا، ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين، وقد جاء في الأثر: "إذا ذل العرب ذل الإسلام" ، وقد تحقق هذا المعنى حين دال سلطان العرب السياسي وانتقل الأمر من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم والديلم ومن إليهم، فالعرب هم عصبة الإسلام وحراسه". (6)
ثم يخرج الإمام البنا معنى العروبة من نطاقها الضيق إلى النطاق الأوسع فيقول:
- "الإخوان يعتبرون العروبة كما عرفها النبي فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل : (ألا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان) ". (7)
ويعود إلى التأكيد على وحدة العرب باعتبارها أمرًا لا مفر منه لعودة مجد الإسلام فيقول:
- وحدة العرب أمر "لابد منه لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته، وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية" (8)
وقد أكد البنا على هذا المعنى في رسالة أخرى وهي "رسالة دعوتنا في طور جديد" فقال:
- "العروبة أو الجامعة العربية لها في دعوتنا كذلك مكانها البارز، وحظها الوافر؛ فالعرب هم أمة الإسلام الأولى، وشعبه المتخير، وبحق ما قال رسول الله: "إذا ذل العرب ذل الإسلام" ، ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها، وإن شبر أرض في وطن عربي نعتبره من صميم أرضنا، ومن لباب وطننا.
- إن هذه الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية لا تمزق في أنفسنا أبدًا معنى الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت القلوب على أمل واحد وهدف واحد، وجعلت من مكان هذه الأقطار جميعًا أمة واحدة مهما حاول المحاولون وافترى الشعوبيون" (9)
ثانيًا: الوحدة الإسلامية:
تلك الوحدة التي لا تعترف بالفوارق الجنسية الدموية، ولا بالحدود الجغرافية فيقول عنها الإمام البنا:
- "ويعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده. وكذلك الإخوان المسلمون يقدسون هذه الوحدة، ويؤمنون بهذه الجامعة، ويعملون لجمع كلمة المسلمين، وإعزاز أخوة الإسلام، وينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)" (10)
ثم يرد الإمام البنا على المتشككين في الوحدة الإسلامية مفندًا آراءهم فيقول:
- "يقول بعض الناس: إن ذلك يناقض تيار الفكرة السائدة في العالم: فكرة التعصب للأجناس والألوان، والعالم الآن تجترفه موجة القوميات الجنسية، فكيف تقفون أمام هذا التيار، وكيف تخرجون على ما اتفق عليه الناس؟ وجواب ذلك: أن الناس مخطئون، وأن نتائج خطئهم في ذلك ظاهرة ملموسة في إقلاق راحة الأمم، وتعذيب ضمائر الشعوب مما لا يحتاج إلى برهان، وليست مهمة الطبيب أن يجاري المرضى، ولكن أن يعالجهم، وأن يهديهم سواء السبيل، وتلك مهمة الإسلام ومن وصل دعوته بالإسلام" (11)
بينما يشكك البعض في إمكانية حدوث ذلك قائلين:
- "إن ذلك غير ممكن، والعمل له عبث لا طائل تحته، ومجهود لا فائدة منه، وخير للذين يعملون لهذه الجامعة أن يعملوا لأقوامهم ويخدموا أوطانهم الخاصة بجهودهم. والجواب على هذا: أن هذه لغة الضعف والاستكانة، فقد كانت هذه الأمم مفرقة من قبل، متخالفة في كل شيء: في الدين، واللغة، والمشاعر، والآمال، والآلام، فوحدها الإسلام وجمع قلوبها على كلمة سواء، ولا زال الإسلام كما هو بحدوده ورسومه، فإذا وجد من أبنائه من ينهض بعبء الدعوة إليه وتجديده في نفوس المسلمين، فإنه يجمع هذه الأمم جميعًا من جديد كما جمعها من قديم، والإعادة أهون من الابتداء، والتجربة أصدق دليل على الإمكان". (12)
ثالثًا: الخلافة الإسلامية:
فيقول عنها الإمام البنا:
- "الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدم الصحابة -رضوان الله عليهم- النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي ودفنه، حتى فرغوا من تلك المهمة، واطمأنوا إلى إنجازها". (13)
وقد كان الإمام البنا يدرك جيدًا أن إقامة الخلافة على أرض الواقع تحتاج إلى تدرج في الخطوات، وتمهيد للنفوس والعقول التي أصابها الصدأ، أو الغفلة من كثرة ما تراكم عليها من أفكار استعمارية، ونظريات غربية غريبة عن واقعنا الإسلامي فيقول: "والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس منهاجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات" (13)
وخلاصة القول:
- إن علاقة الإخوان بالعالم الإسلامي قد خرجت عن كونها رغبة نابعة من عقيدة راسخة تؤمن بأن الشعوب الإسلامية إنما هي شعب واحد تحركه عقيدة واحدة وتربطه برباطها إلى تحرك فعلي متدرج ومتنامٍ؛ فـ"رسالة دعوتنا" التي صدرت عام 1935 قدمت إطارًا نظريًّا لهذه العلاقة وأكدت عليه، ثم جاءت "رسالة المنهج" لتنقل هذه الفكرة إلى خطوة متقدمة حيث تنص الرسالة على ضرورة العمل من أجل كل مسلم مهما كانت جنسيته
- ثم أكدت "رسالة المؤتمر الخامس" الصادرة بتاريخ 1939م، و"رسالة دعوتنا في طور جديد" الصادرة بتاريخ 1942م على الخطوات العملية التي يجب أن يتخذها الإخوان ليصلوا إلى غايتهم الكبرى، ألا وهي تكوين عصبة الأمم الإسلامية النواة للخلافة الإسلامية الجامعة التي ترعى المسلمين في كل بقاع العالم، ومن ثم كانت هذه الرسائل بداية العقد، ولكي يوضع ذلك موضع التنفيذ كانت أولى الخطوات إنشاء قسم الاتصال بالعالم الإسلامي في عام 1944م، والذي تولى رئاسته عند تأسيسه الأستاذ عبد الحفيظ الصيفي.
وقد أكد في أغراضه على أمرين:
- أولهما: العمل على ربط الأقطار الإسلامية بعضها ببعض.
- وثانيهما: العمل على تحرير هذه الأوطان من كل سلطان أجنبي، وإقامة دولة إسلامية في هذا الوطن العام.
ثم بدأ العمل بتأليف ثلاث لجان:
- لجنة الشرق الأدنى.
- لجنة الشرق الأقصى.
- لجنة الإسلام في أوروبا.
ووضعت شروطًا يجب توافرها في عضو هذه اللجنة. (14)
ومن أجل هذه الأهداف الكبرى كانت محاولة استثمار نشأة الجامعة العربية لتكوين نواة للجامعة الإسلامية، وقد آثرنا التحدث عن الجامعة العربية قبل أن نتحدث تفصيليًّا عن علاقة الإخوان بالعالم الإسلامي خلال الفترة محل الدراسة (1938-1945م).
المراجع
- بيننا وبينهم: (أي بين وطنية الإخوان التي تنظر إلى العالم الإسلامي على أنه وطن واحد يضم المسلمين في كل بقاع الدنيا، ووطنية غيرهم التي تريد تقسيم الأمة إلى طوائف متناحرة وأوطان متحاربة).
- الإمام حسن البنا : مجموعة رسائل الإمام البنا، رسالة دعوتنا، تحقيق: البصائر للبحوث والدراسات، ص(135).
- السابق، ص(141).
- رسالة المنهج، ص(256).
- السابق، نفس الصفحة.
- رسالة المؤتمر الخامس، ص(362).
- السابق، نفس الصفحة، باختصار.
- السابق، نفس الصفحة.
- رسالة دعوتنا في طور جديد، ص(486-487) باختصار.
- رسالة المؤتمر الخامس، ص(362-363).
- السابق، ص(363).
- السابق، ص(363-364).
- السابق، ص(364-365).
- السابق، ص(366).
- لمزيد من التفاصيل حول هذه الوثيقة يرجع إلى كتابنا: "أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين"، الكتاب الخامس، مرحلة التكوين "استكمال البناء الداخلي 1943-1945"، ملحق (14).