الطاعة المبصرة .. الشيخ سعيد حوى
بقلم:الشيخ سعيد حوى
محتويات
- ١ مقدمة
- ٢ ... جـ - ويروي كعب بن مالك قصته مع الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فيقول فيها :
- ٣ ... هـ - ولقد تأصل فقه الطاعة في المعروف عند العرب وغيرهم من المسلمين حتى وصل إلى عجائز الناس .
- ٤ ... ز – ولكن طاعتهم طاعة ضمن حدود المعروف أما أن تكون على غير ذلك فلا :
- ٥ ... وكان الصحابة يتذاكرون هذا الأصل ويتواصون به حتى لا ينحرفوا بانحراف سلطان أو حكم :
- ٦ ... والمسألة في هذا الموضوع كما يلي :
- ٧ المصدر
مقدمة
... وثمرة سادسة من ثمار سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم تشهد أنها ثمرة نبي ونبوة ، هي الطاعة لمبصرة ، وذلك أن العرب شعب لم يترب على طاعة أحد ، ولم يترب على نظام ولا انضباط ، وليس لديه مفهوم عن الولاء لحكومة ما ، أو الخضوع لها ، وأما غير العرب فالأمر عندهم مختلف ، طاعة عمياء لملوكهم ومرؤوسيهم في كل شيء . إذا أمروا بالشيء كان خيراً ، وإذا نهوا عنه نفسه كان شراً ، لا يقال لهم لا ، ولا يحاسبون ولا يراقبون .
... وحدث ذلك الحدث الضخم ، أن الأمة التي لا تعرف النظام أصبحت منظمة ، والتي لا تعرف الطاعة أصبحت مطيعة ، ولكنها طاعة من نوع جديد فريد ، طاعة بالحق لا بالباطل ، بالعدل لا بالظلم ، لمن يستحق الطاعة لا لمن لا يستحقها ، فكان ذلك فتحاً جديداً في تاريخ الوعي عند الشعوب ، لدرجة أن العربي الذي كان يتعصب لقريبه وينصره وإن كان على الباطل ولا يطيع فيه أحداً أبداً ، صار على ابن عمه إذا كان على الباطل ، ويطيع فيه أبعد الناس نسباً عنه في الحق .
والذي كان أبعد الناس عن الانضباط ، صار أكثر الناس انضباطاً ، ومن قرأ تاريخ العرب في الجاهلية ، عرف الفارق الكبير بين ذلك الواقع وواقعهم بعد . وهذه أمثلة من واقعهم بعد تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - إياهم .
... أ – روى ابن جرير بسنده عن ابن زيد قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عبد الله ابن أبي أبي قال : ألا ترى ما يقول أبوك ؟
قال : ما يقول بأبي أنت وأمي ؟ يقول : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .
فقال : فقد صدق والله يا رسول الله أنت والله الأعز وهو الأذل .
أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبر مني ، ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لأتيتهما به .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ، فلما قدموا المدينة قام عبد الله بن عبد الله بن أبي على بابها بالسيف لأبيه ثم قال : أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله لا يؤيك ظله ولا تأويه أبداً إلا بإذن من الله ورسوله فقال : ياللخزرج ، ابني يمنعني بيتي ! فقال : والله لا يأويه أبداً إلا بإذن منه .
فاجتمع إليه رجال فكلمه فقال : والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه فقال : اذهبوا إليه فقولوا له : خله وسكنه ، فأتوه فقال : أما إذا جاء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فنعم .
... ب – ومن كلام لسعد بن معاذ يوم بدر يخاطب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
... " إني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فأظعن حيث شئت ، وصل حبل من شئت ، واقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، وأعطنا ما شئت ، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت ، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك ، فوالله فئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك "(1) .
... جـ - ويروي كعب بن مالك قصته مع الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فيقول فيها :
(1) سيرة ابن هشام .
... " ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة من بين مَن تخلف عنه قال : فاجتنبنا الناس أو قال : تغيروا لنا حتى تنكرت لي نفس الأرض فما هي الأرض التي أعرف إلى أن قال : حتى إذا طال علي من جفوة المسلمين ، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة ، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت فعدت فناشدته فسكت ، فعدت فناشدته فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار " .
... ويقول : " بينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول : " ما يدلني على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له حتى جاءني ، فدفع إلي كتاباً من ملك غسان ، وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه : أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جافاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك .
فقلت حين قرأتها : وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور فسجرتها "(1) . حتى نزلت توبته وكان ما كان .
... د – وللعرب ولع بالخمر تتحدث عن معاقرتها والاجتماع على شربها الشعراء ، وشغلت جانباً كبيراً من شعرهم وتاريخهم وأدبهم ، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم ، وكثر فيها التدقيق والتفصيل كثرة تدعو إلى العجب ، وكانت حوانيت الخمارين مفتوحة دائماً يرفرف عليها علم يسمى غاية .
وشاعت تجارتها عندهم حتى أصبحت كلمة التجارة مرادفة لكلمة بيع الخمر ، ومع هذا كله فما يكاد تحريم الخمر ينزل حتى انتهت أمر الخمر من أرض العرب . روى أبو بريدة عن أبيه قال :
(1) أخرجهالبخاري .
... بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلة ، إذ قمت حتى آتي رسول الله فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر {يَـ?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} .. إلى قوله : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} .. قال : وبعض القوم شربته في يده شرب بعضاً وبقي بعض في الإناء فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا في باطيتهم فقالوا : انتهينا ربنا انتهينا .
... هـ - ولقد تأصل فقه الطاعة في المعروف عند العرب وغيرهم من المسلمين حتى وصل إلى عجائز الناس .
... " أخرج مالك عن ابن أبي مليكة قال : إن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – مر بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال لها : يا أمة الله لاتؤذي الناس لو جلست في بيتك .
فجلست .
فمر بها رجل بعد ذلك فقال : إن الذي كان نهاك قد مات فارجعي .
قالت : ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً " .
... و – وتأصل فقه الطاعة بالمعروف في أنفسهم ظاهراً وباطناً في الغيبة والحضور في المنشط والمكره :
... لما عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد غضب ناس .
وممن غضب علقمة بن علاثة وهو من أمراء العرب فانظر ماذا كان جوابه في هذه الحادثة اللطيفة :
... " لقي عمر – رضي الله عنه – علقمة بن علاثة جوف الليلة وكان عمر يشبه بخالد بن الوليد – رضي الله عنه - . فقال علقمة : يا خالد عزلك هذا الرجل ، لقد أبى إلا شحّاً ، لقد جئت إليه وابن عم لي نسأله شيئاً ، فأما إذا فعل فلن أسأله شيئاً .
فقال له عمر : هيه فما عندك ! فقال : هم قوم لهم علينا حق فنؤدي لهم حقهم وأجرنا على الله .
فلما أصبحوا قال عمر لخالد : ماذا قال لك علقمة منذ الليلة ؟ قال : والله ما قال لي شيئاً قال : وتحلف أيضاً فجعل علقمة يقول لخالد : مه يا خالد فقال عمر كلاهما قد صدق وأجاز علقمة وقضى له حاجته "(1) .
... ز – ولكن طاعتهم طاعة ضمن حدود المعروف أما أن تكون على غير ذلك فلا :
... أخرج الشيخان عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال : استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأنصار على سرية بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا قال : فأغضبوه في شيء فقال : اجمعوا لي حطباً فجمعوا فقال : أوقِدوا ناراً فأوقدوا ثم قال : ألم يأمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟ قالوا : بلى قال : فادخلوها .
قال فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : إنما فررنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النار . قال : فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكروا ذلك له فقال : لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف " .
... وكان الصحابة يتذاكرون هذا الأصل ويتواصون به حتى لا ينحرفوا بانحراف سلطان أو حكم :
... لما ولى زياد الحكم بن عمر الغفاري خراسان أرسل عمران بن الحصين رضي الله عنهما يطلبه حتى إذا لقيه قال : أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا طاعة لأحد في معصية الله تبارك وتعالى ؟ قال : نعم . فقال عمران : الحمد لله أو الله أكبر .
(1) أخرج يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح إلى الحسن .
... جـ - وأخرج ابن جرير وابن عساكر عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد على سرية ومعه في السرية عمار بن ياسر – رضي الله عنهما – قال : فخرجوا حتى أتوا قريباً من القوم الذين يريدون أن يصبحوهم نزلوا في بعض الليل قال :
... وجاء القوم النذير فهربوا حيث بلغوا ، فأقام رجل كان قد أسلم هو وأهل بيته فأمر أهله فتحمّلوا وقال : قفوا حتى آتيكم ، ثم جاء حتى دخل على عمار – رضي الله عنه – قال :
... يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وأهل بيتي فهل ذلك نافعي إن انا أقسمت . فإن قومي قد هربوا حيث سمعوا بكم ، قال فقال له عمار : فأقم فأنت آمن .
... فانصرف الرجل هو وأهله ، قال : فصبح خالد القوم فوجدهم قد ذهبوا فأخذ الرجل وأهله فقال له عمار : إنه لا سبيل لك على الرجل قد أسلم .
... قال : ما أنت وذاك ؟ أتجير عليّ وأنا الأمير ؟ ؟
... قال : نعم أجير عليك وأنت الأمير . إن الرجل قد آمن ولو شاء لذهب كما ذهب أصحابه ، فأمرته بالمقام لإسلامه . فتنازعا في ذلك حتى تشاتما فلما قدما المدينة اجتمعا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر عمار الرجل وما صنع فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمان عمار ونهى يومئذ أن يجير أحد على الأمير فتشاتما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال خالد :
... يا رسول الله ! أيشتمني هذا العبد عندك أما والله لولاك ما شتمني فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - :
... كف يا خالد عن عمار فإنه من يبغض عماراً يبغضه الله عز وجل من يلعن عماراً يلعنه الله عز وجل .
ثم قام عمار واتبعه خالد بن الوليد حتى أخذ بثوبه فلم يزل يترضاه حتى رضي عنه ونزلت هذه الآية :
... { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } أمراء السرايا – {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . فيكون الله ورسوله هو الذي يحكم فيه .
... {ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ( النساء : 59 ) . أي ( خير عاقبة ) .
... والمسألة في هذا الموضوع كما يلي :
... إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم الإنسان أن الله وحده هو الذي يستحق الطاعة وحتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما يطاع لله وغير رسول الله إنما يطاع بطاعة الله {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} أي من المسلمين ، أما غير المسلم فلا طاعة له ، والمسلم طاعته في حدود كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لذلك ختمت الآية : {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وعلى هذا فمن أمر بمعصية الله فلا طاعة له ، وبهذا تماسكت شخصية الإنسان تماسكاً لا مثيل له ، فصار المسلم يقول لا ، إذا كان ينبغي أن تقال مهما كان وراءها ، لا يبالي إن كان الناس كلهم عليه في الباطل ، لا يساير الناس ولا يداريهم على حساب الحق .
أما في الحق فهو أكثر الناس طاعة وانضباطاً إذ في هذه الحالة جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله طاعة الأمير الحق فرضاً ، وفي الباطل معصيته فريضة .
قال أبو جعفر المنصور الخليفة لطاووس : ناولني الدواة .
فرفض .
قال : أخشى أن تكتب فيها معصية فأكون شريكك فيها .
فما أبلغ هذا في ثمار النبوة وما أدله عليها .
الرجوع الى فهرس براهين سعيد حوى
المصدر
- مقال:الطاعة المبصرة .. الشيخ سعيد حوى موقع : برهانكم