الصومال -2 بقلم موقع الإخوان
سياد بري والحكم الاشتراكي للصومال:
قام اللواء محمد سياد بري رئيس أركان القوات المسلحة مع مجموعة من الضباط بالاستيلاء على الحكم صبيحة يوم 21/10/1969م عن طريق انقلاب عسكري، وشكّل على إثر إعلان الانقلاب (مجلس قيادة الثورة)، وعلق الدستور وألغى البرلمان، وبدأ في حكم البلد حكماً مطلقاً، وألقى برموز السلطة السابقة في السجون، وعمل على التخلص من بعض الضباط البارزين في مجلس قيادة الثورة الذين شاركوا بفعالية كبيرة في تنفيذ وإنجاح الانقلاب، حتى لا يشكّلوا عامل منافسة ضده؛ فقام بإعدامهم بتهمة الخيانة على دفعتين.
وانتمى نظام سياد بري في أحضان الماركسية الاشتراكية، وأعلن الاشتراكية العلمية كمنهج سياسي وفكري للبلاد(1)، وبدأت الحكومة الصومالية بتنفيذ ما وصف بأنه أكبر حملة ماركسية لينينية في أفريقيا.
وقد شهدت كتابات المرحلة بهذه الحملة: (ولم يكن النظام يتردد في إعلان إخلاصه للاشتراكية العلمية كما تفهمها موسكو، ولكنه في الوقت نفسه كان يستوحي التجربتين الصينية والكوبية، وكان للمثقفين اليساريين الإيطاليين تأثير خاص على الضباط الصوماليين الشباب الذين كانوا يتهافتون على الصحيفة الإيطالية الاشتراكية الماركسية «أفنتى»)(1).
وفى أواسط عام 1976م أعلن النظام تبنيه مبدأ الحزب الواحد، ليكون «الحزب الاشتراكي الثوري الصومالي» ـ الذي حلت قيادته وعلى رأسها رئيس الدولة محل المجلس الأعلى لقيادة الثورة ـ هو الحزب السياسي الوحيد في البلاد.
في عام 1977م دخل نظام سياد بري في حرب أوجادين مع نظام «مانجيستو» الماركسي في إثيوبيا، معتمداً على الدعم السوفييتي الذي ما لبث أن خذله، واتجه وفقاً لمصالحه الإستراتيجية خلف النظام الإثيوبي ـ الذي وجد مساندة من دول المعسكر الشيوعي، فكان رد فعل سياد بري إلغاء معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفييتي، وطرد جميع الخبراء الروس من الصومال؛ حيث نقلوا مباشرة إلى إثيوبيا.
ومع بداية 1978م حاولت أول مجموعة من الضباط الانقلاب على حكم سياد بري، لكنها أخفقت، وواجه معظمهم عقوبة الإعدام؛ فيما فرّ بعضهم، وكان ممن فرَّ العقيد عبدالله يوسف أحمد الذي نظّم فيما بعد أول معارضة مسلحة.
عقب عام 1978م وإخفاق نظام سياد بري في حربه مع إثيوبيا وإدارة البلاد، وكثرة الثورات المعارضة لحكمه، بدأت تلوح في الأفق ملامح سقوط النظام الذي عمل على تحميل عدد من الحكومات المتعاقبة الأوضاع المتردية، وكانت الديون الخارجية للصومال قد بلغت عام 1988م قرابة 20 مليار دولار.
وبحلول شهر ديسمبر 1990م بدأت الاضطرابات في العاصمة مقديشو، وزاد الضغط الشعبي على سياد بري للتخلي عن السلطة ومغادرة البلاد، وفي مساء 27/1/1991م اضطر الرئيس بري -الذي حكم الصومال 21 عاماً ـ إلى الهروب من العاصمة مقديشو، التي لم يتسنَ له العودة إليها إلى حين وفاته في نيجيريا طريداً ولاجئاً منسياً.
لم يغادر سياد بري السلطة إلا بعد أن أشعل فتيل حرب دامية دامت قرابة عقد ونصف من الزمان وكلفت الصومال والصوماليين الكثير. ففي 18 و25 يناير على التوالي من عام 1990م نشرت منظمة العفو الدولية Amnesty International ومنظمة أميركان واتش American Watch تقارير عن ذبح النظام من 50.000 إلى 60.000 من المدنيين منذ بداية الحرب الأهلية في مايو 1988م(2).
(في نهاية 1991م قدر عدد ضحايا الحرب بحوالي 20.000 شخص ونحو 600.000 لاجئ إلى الخارج، وبضع مئات من الألوف نزحوا من مناطقهم إلى أماكن أخرى في الداخـل بحثاً عن الأمــان)(3)، و (من نوفمبر 1991م إلى فبراير 1992م اندلعت المعارك الشرسة بين علي مهدي وعيديد فى مقديشو؛ حيث نسف وسط المدينة والبنية التحتية والمرافق، ونتج عن القصف العشوائي المركّز والمستمر ليلاً ونهاراً لمدة ثلاثة أشهر كارثة بالنسبة للسكان المدنيين، وكتب مراسل الواشنطن بوست الأمريكية أن المدافع التي تتساقط كالمطر على الأحياء المكتظة بالسكان تحصد نحو 1000 ضحية أسبوعياً في مقديشو)(1).
(لقد أصبح مليون طفل و4 ملايين ونصف من الكبار مهددين بالموت من الجفاف والمجاعة، ونفقت نحـو 40% مـن المــواشــي، كما أصبــح المزارعـون لا يستطيعون العمل في مزارعهم. وفى منتصف 1992م بلغ عدد اللاجئين المسجلين في كينيا وحدها 350.000، وفي إثيوبيا 357.000، وفي جيبوتي 20.000، وفي اليمن 10.000، ونزح نحو 300.000 آخرين من مناطقهم في الداخل، وبمعدل 1000 شخص يعبرون الحدود الكينية يومياً هرباً من الحرب)(2).
في نوفمبر 1991م أفاد الصليب الأحمر -في تقرير له ـ بأن الوضع في الصومال: «يشكّل كارثة إنسانية، وألوف الجرحى والقتلى يسقطون يومياً» .
بداية الحرب الأهلية:
استولت قوات «المؤتمر الصومالي الموحد» بزعامة اللواء محمد فارح عيديد (وهو التنظيم السياسي العسكري لقبيلة الهوية بكل فروعها) على العاصمة مقديشو، في يناير 1991م، وأعلنت الإذاعة بياناً صادراً عن الاجتماع الطارئ لأركان حزب المؤتمر، تضمن تعيين علي مهدي محمد ـ أحد رموز المؤتمر وتاجر معروف ـ رئيساً مؤقتاً للبلاد، وتثبيت رئيس الوزراء (عمر عرته غالب) في منصبه، على أن يعقد مؤتمر وطني تحضره كافة الفصائل في غضون شهر للاتفاق على شكل الحكومة النهائي، لكن شيئاً من ذلك لم يقع، وبدأ النزاع على السلطة، فعقد المؤتمر الأول للمصالحة في جيبوتي؛ حيث جدد لعلي مهدي في الرئاسة، وهو الأمر الذي لم يَرُق للجنرال فارح عيديد.
في هذه الأثناء بدأت ميليشيات المؤتمر الصومالي الموحد في مواجهات مسلحة مع قبيلة الدارود (التي ينتمي إليها الرئيس السابق سياد بري)، سواء من كان في الحكومة أو من المدنيين، وحصلت مذابح عشوائية، وعمّت العاصمة فوضى عارمة، ونهبت جميع مؤسسات الدولة، والهيئات الدبلوماسية، ولم يستطع المؤتمر الصومالي الموحد أن يضبط الأمن، ويلجم جماح الميليشيات؛ ، وتحولت حملة حزب المؤتمر من حملة للسيطرة على الحكم إلى حرب قبلية.
ثم تفجر الصراع سريعاً بين اللواء محمد فارح عيديد والرئيس علي مهدي محمد من أجل السلطة، وفي هذه الحرب التي استمرت أكثر من أربعة أشهر ودارت رحاها بين فرعي قبيلة الهوية الموالين للطرفين، تعرضت العاصمة مقديشو وبنيتها التحتية للتدمير، وشهدت هذه الفترة أعنف المعارك، وأكبر الخسائر المادية والبشرية، وتفتت الوحدة السياسية والاجتماعية للبلد لتدخل في حرب ضروس أتت على كل شيء أمامها.
نتائج عقد ونصف من الحرب الأهلية:
- على الصعيد السياسي:
لقد كان من أعظم نتائج الحرب على المستوى السياسي ذهاب الدولة المركزية ذات السيادة وغيابها عن الحضور إقليمياً وعالمياً، ومن ثم لم يعد للسفارات الخارجية للصومال وجود، أو دور يذكر في ترتيب أوضاع المغتربين في أنحاء العالم، بل أصبح الصوماليون كشعب في العراء، ودون أي غطاء يستندون إليه، أو يلجأون له؛ مما دفع إلى انتهاك حقوقهم، وإهدار كرامتهم.
وغاب الصومال عن جميع الهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية: كالأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الوحدة الأفريقية، وغيرها، وهذا يعني غياب قضاياه وهمومه وممثليه الشرعيين في هذه المؤسسات.
ووقعت قضية الصومال في أيد خارجية تتداولها؛ بما يتلاءم مع مصالح هذا البلد أو ذاك، وأصبحت الصومال محل أطماع دول إقليمية وأجنبية.
على صعيد البنى التحتية للدولة:
بلا شك فإن مقدرات أي دولة مهما كانت ضعيفة تظل ملكاً للشعب، وحقاً عامّاً لأفراده، وعند تدمير ممتلكات الدولة يفقد الشعب مقومات النهوض والسير، وهذا ما حدث في الصومال.
لقد دمرت الحرب جميع البنى التحتية: الكهرباء، والبترول، والمياه، والهاتف، والطرق والمصالح العامة، والمباني الحكومية، والمنافذ والمطارات والموانئ.
لقد تعطلت جميع مؤسسات الدولة بدءاً من الحكومة والجيش والأمن الداخلي والصحة والتعليم والمواصلات وغيرها؛ فلا مستشفيات أو مراكز صحية ولا مدارس، أو جامعات أو محاكم.
كما أن المصانع ومصفاة البترول، ومحطات توليد الكهرباء إما دمرت أو نهبت.
- على الصعيد الأمني:
- انتشر السلاح بأيدي الناس عموماً.
- كثر قطاع الطرق واللصوص.
- كثرت العصابات المسلحة ذات الأهداف المختلفة.
- غياب الأمن في القرى والمدن والطرقات.
- ارتفع معدلات الجريمة من قتل ونهب واغتصاب.
- على الصعيد الاقتصادي:
- دمرت جميع مقدرات الدولة والمؤسسات والأفراد.
- غابت التجارات والصناعات والزراعة؛ نظراً لغياب الأمن، واشتغال الناس بالقتال.
- تصحرت الأراضي الزراعية، وتم تخريب البيئة، ونفوق العديد من الحيوانات والماشية.
- انخفض مستوى العملة إلى حد 8.000 شلن صومالي مقابل الدولار.
- غابت فرص التعليم والتدريب والعمل.
- على الصعيد الاجتماعي:
- انقطع عشرات الألوف من الأطفال عن التعليم، وانخرطوا في الحروب والقتال والميليشيات.
- تفشت البطالة في أوساط الرجال، واشتغل النساء بالعمل.
- فرّ مئات الألوف من الصوماليين من الحرب إلى بلدان أخرى: وعاش الكثير منهم في مخيمات اللاجئين، أو انخرطوا في أعمال شاقة أو مهينة، أو تلقفتهم مؤسسات تنصيرية.
- مات مئات الآلاف نتيجة الحروب، أو المجاعة، أو الأوبئة والأمراض، أو محاولات الهجرة عبر البحار في قوارب غير صالحة وآمنة للنقل.
- نزح مئات الآلاف من الصوماليين بعيداً عن قراهم التي دمرتها الحرب إلى مناطق أخرى داخل الصومال، وعاشوا في ظل ظروف معيشية قاسية.
- تفككت الأسر، وبلغ عدد الأرامل واليتامى ممن لا عائل لهم عشرات الآلاف.
- انتشرت حالات الاغتصاب من قِبَل رجال الميليشيات، أو في إطار مخيمات اللاجئين، وانتشرت تجارة الدعارة بالنساء.
- اشتعلت النعرات القبلية، والثارات والعدوات.
- تشتت الشعب الصومالي كلاجئين، أو مهاجرين في العديد من الدول العربية، والأفريقية، والآسيوية، والأوروبية وفي الولايات المتحدة.
- على الصعيد الثقافي والهوية الحضارية:
لقد هاجر أكثر من مليون صومالي ـ أو أكثر بقليل كما ترجح بعض المصادر ـ إلى أوروبا، وأمريكا، ودول أخرى بعضها عربية وأخرى أفريقية، وتتوزع الجالية الصومالية على أكثر من مائة قطر في أنحاء العالم، ومن المؤكد أن يكون لهذه الهجرة ـ كما يرى بعضهم ـ تأثير مباشر على هؤلاء اللاجئين والمهاجرين، بالنسبة للتقاليد والعادات والثقافة واللغة، وربما الدين، ومِنْ ثَمَّ فهناك خلل سيحدث في مستقبل ثقافة المجتمع الصومالي، وإذا عرفنا أن الغالبية العظمى للمهاجرين هم من الأطفال والنساء بشكل عام فإننا ندرك مدى ما سيتعرض له هؤلاء الضعفاء من التذويب والاستغلال مستقبلاً.
الدور الأمريكي في الصومال
في يناير 1991 أُطيح بالرئيس الصومالي سياد برِّي، تنَّفس الصوماليون الصعداء إلا أن عيديد وعلي مهدي زجَّوا بالشعب الصومالي في أُتون حرب أهلية حصدت من الصوماليين أكثر مما حصده برِّي ثم جاءت المجاعة بعد ذلك لتكمل ما لم تحصده الحرب، مبعوث الأمم المتحدة للأزمة الصومالية الدبلوماسي الجزائري محمد سحنون انتقد الأمم المتحدة على موقفها من المجاعة وتسبُبها في هلاك مئات الصوماليين كل يوم، وأنها لا تقوم بالدور الذي ينبغي أن تقوم به؛ ونتيجة لهذا الانتقاد وللخلافات بينه وبين القيادات العسكرية –الأمريكية منها تحديدا- الموجودة على أرض الصومال فقد تمت إقالته من قبل الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك الدكتور بطرس بطرس غالي حيث تم تعيين شخصا آخر بناءا على توصيات أمريكية هو الجنرال الأمريكي جوناثون هاو وقد برر الأمين العام للأمم المتحدة إقالته لسحنون لعدم تعاونه مع القوات الموجودة على أرض الصومال.
وقد كتبت العديد من التقارير في تلك الفترة أشارت جميعها إلى فشل الأمم المتحدة في إدارة أزمة المجاعة مما دفع الرئيس الأميركي بوش الأب قبل أسابيع من خروجه من البيت الأبيض إلى أن يعلن عن تدخل أميركا في الصومال بسبعة وعشرين ألف جندي وقيل ثمانية وعشرين تحت ستار إعادة الأمل في الصومال.
وقد اختلف المحللون حول الهدف الرئيس من التدخل الأمريكي في الصومال فمن قائل بأن الهدف من التدخل في الصومال هو إيجاد تبرير للرأي العام للقيادة الأميركية لكي لا تتدخل في يوغوسلافيا إذ من غير المنطقي التدخل في منطقتين وفي نفس التوقيت تقريبا ..
وقائل يقول إن أميركا تريد أن تشكل قوة لها في القرن الأفريقي تضمن من خلالها تنفيذ مصالحها؛ فوزيرة الخارجية الأمريكية أولبرايت ذهبت في تلك الفترة مرارا إلى القرن الأفريقي في محاولة منها لإيجاد نفوذ أميركي في المنطقة لأن كلا من فرنسا وإيطاليا كانتا تتمتعان بنفوذ كبير في تلك المنطقة من قبل، وكان الوجود الأميركي في القرن الأفريقي مهما جدا للسياسة الأميركية.
وقد أوصى الأمين العام للأمم المتحدة الدكتور غالي بتوصيات لمجلس الأمن كانت وراء استصدار قرار 814 في 26 من مارس للتغطية على الوجود الأميركي في الصومال .. حيث نَصّ القرار على أنه يجوز لقوة الأمم المتحدة بدلا من مواصلة مهمة حفظ السلام التي قامت بها القيام بعمليات فرض السلام إذا اقتضى الأمر، وهذا يعني التفويض الدولي بشن الحرب على المليشيات الصومالية وبهذا تكون الأمم المتحدة ومجلس الأمن قد فوّضا القوات الأميركية الموجودة في الصومال لقمع المليشيات الصومالية.
وعندما دخلت هذه القوات في مواجهة مباشرة في خمسة يونيو عام 1993 حينما هوجمت وحدة باكستانية تابعة للأمم المتحدة وقُتل 26 جندي باكستاني وجُرح آخرين سرعان ما صدر قرار مجلس الأمن رقم 837 لتأديب عيديد. وفي 12 يونيو من نفس العام تحولت قوات الأمم المتحدة إلى قوات محاربة بهدف إعادة الأمن والنظام إلى جنوب مقديشيو وكانت هذه أول مرة في تاريخ الأمم المتحدة منذ أحداث كوريا عام 1950 تتحول قوات الأمم المتحدة إلى قوى محاربة ويصدر لها قرار بالمواجهة والدخول في حرب. وعلامة التعجب التي لا تزال تطرح نفسها أنه في الوقت الذي كانت الأمم المتحدة تدلل كراديتش وملاديتش ومجرمي الحرب في البوسنة ليفعلوا ما شاؤوا في الصرب لم يتم استصدار أي قرار لردعهم، ولكن بمجرد ما ارتكب عيديد خطأ ضد قوات الأمم المتحدة تم استصدار القرار بتحويل القوات الأممية إلى قوات محاربة . وقد أوضح الرئيس الأمريكي بيل كلينتون –والذي خلف بوش الأب في السلطة-في مذكراته أن القوات الأميركية في الصومال كانت تنفذ أوامر بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة والأدميرال هاو قائد قواتها هناك، وهذا يعني أنه حمّل الأمم المتحدة مسؤولية ما حدث في الصومال بعد ذلك سواء للقوات الأميركية أو لقوات الأمم المتحدة نتيجة القرار الذي تحولت بموجبه من قوات جاءت للقضاء على المجاعة إلى قوات جاءت لتحارب.. وتحولت القضية كما قال عضو مجلس الشيوخ السيناتور روبرت بيرد إلى عمليات "عسكر وحراميّة" بين الأمم المتحدة والولايات المتحدة في الصومال.
واستطاع عيديد أن يحقق العديد من الانتصارات على قوات الأمم المتحدة والقوات الأمريكة المدعومة بغطاء أممي وأصبحت الأمم المتحدة وكذا أمريكا أضحوكة أمام العالم وحدث انقسام خطير في المجتمع الدولي بعد رفض الجنرال الإيطالي لوي تنفيذ الأوامر الصادرة له من قائد القوات الأممية هناك بالقيام بعملية عسكرية ضد عيديد، وأنهى المشكلة بالتصالح مع الصوماليين وقال لقد كنا دولة محتلة للصومال ونعرف كيف نتعامل مع الصوماليين، وقد أَعلنت الأمم المتحدة إقالة الجنرال لوي، ولكن إيطاليا رفضت قرار الأمم المتحدة، وطلب وزير الدفاع الإيطالي آنذاك فابيو فابري من الأمم المتحدة وقف جميع العمليات العسكرية في الصومال وسرعان ما تخلخل الموقف الدولي نتيجة تضارب المصالح ودخلت الأمم المتحدة في أزمة مع إيطاليا.
في يوليو 1993 انتقد إيان إلياسون وهو الأمين العام المساعد للأمم المتحدة الطريق الذي سلكته الأمم المتحدة في التعامل مع الأزمة الصومالية فقال إنه قد تم رصد 166 مليون دولار فقط للمجاعة في حين تم رصد مليار ونصف مليار دولار خلال عام واحد للعمليات العسكرية وملاحقة عيديد. وقال إن المجتمع الدولي يُنفق على الجنود في الصومال عشرة أضعاف ما ينفقه على المساعدات المقدمة للصوماليين، وقد علق الأمين العام للأمم المتحدة الدكتور غالي بعد أن ترك منصبه كأمين عام للأمم المتحدة بأنه إذا كانت هذه الأرقام صحيحة فهذا دليل على فشل الأمم المتحدة في هذه العملية .
العسكريين الكويتيين والسعوديين والمصريين والإماراتيين انضموا للموقف الإيطالي ورفضوا مواصلة القتال ضد عيديد، الأحزاب الألمانية طالبت باستدعاء القوات الألمانية، باريس أيدت روما في هذا الوضع وبالجملة فإنه بمجرد انسحاب القوات الأمريكية فإن التعليمات قد صدرت لكافة القوى الأخرى بالانسحاب من الصومال بينما كان عيديد يواصل خطاباته بالقتال ضد الفاشيين والمحتلين.
كان هناك هدفا أساسيا للقوات الأميركية من وراء تواجدها هناك، فقد صرح روبرت أوكليل المبعوث الأميركي الخاص السابق للصومال، في تصريحات نُشرت في مجلة الوسط العربية في 21 يونيو 1993 قال إن الهدف من هذه الغارات ليس كما يبدو ردا على مقتل الباكستانيين لكنه خطوة أولى لاجتزاز العقبات الكبيرة التي تعترض الحل السياسي وتأليف حكومة وطنية، وهذا يظهر وجود مشروع أميركي كبير في الصومال أقرب ما يكون بالمشروع العراقي الحالي، وللتأكيد عليه قال جوناثان هاو لمجلة نيوزويك الأميركية في عدد أول يوليو 1993 إن هناك خطة إصلاح سياسي أميركية في الصومال من المفترض أن تنتهي قبل مارس 1995 ، يعني كان الهدف من وراء هذا أن تؤسس أمريكا حكومة في الصومال وعيديد كان يرفض هذه القضية ..
في 3 أكتوبر 1993 مُنيت القوات الأميركية بهزيمة فادحة، أُسقطت طائرتي هليكوبتر، وقُتل 18 جندي أميركي، أصيب 84 آخرين كما جاء في مذكرات كلينتون بعد هجوم فاشل على أحد مواقع عيديد وجَرّ الحُفاة العُراة الجوعى الصوماليون جثة أحد الطيارين الأميركان في شوارع مقديشيو، صوّرها الإعلام العالمي، قامت الدنيا ولم تقعد ولم يجد كلينتون مفرا من التوصل إلى حل سياسي لا يبدو استسلاما كما قال غالي في كتابه خمس سنوات في بيت من زجاج. والنتيجة هزيمة عسكرية لأميركا وسياسية للأمم المتحدة.
بعد هذه الهزيمة كان واضحا أن كلينتون وإدارته سوف يلقيان باللوم على الأمم المتحدة في الفشل الذريع الذي مُني به القنّاصون الأميركيون في جنوبي مقديشيو .
في 16 أكتوبر 1993 وجّه كلينتون بيان لمجلس الشيوخ قرر على إثره سحب القوات الأميركية من الصومال واتُهمت الأمم المتحدة أنها أسندت للقوات الأميركية مهمة ينبغي أن تقوم بها الشرطة.
ونشرت نيوزويك مقالا تحت عنوان انطفأ بريق الأمم المتحدة، جاء فيه أنه بعد أن دعم الرئيس كلينتون الأمم المتحدة باعتبارها صانعة السلام في العالم، وقع خلاف حاد بينهما بشأن الصومال كشف عن عدم الارتياح تجاه الأمين العام بطرس غالي ، وكان هذا بداية أزمة الثقة بين بطرس غالي الأمين العام وبين الولايات المتحدة. وقد كُتبت دراسات أميركية ملخصها أنه كان هناك بالفعل خلاف بين القيادات الأميركية الموجودة في الصومال وبعضها البعض حيث أشارت التقارير النهائية إلى أن قوات دلتا قامت بهذه العملية دون أن تخبر أحدا وكانت العملية سرية .. وقد استطاعت القوات الماليزية في النهاية من إنقاذ القوات الأميركية من خسائر فادحة .. وكما يقول المؤرخ الأميركي المشهور كيندي فإن القوة الكبرى دائما ما تهزم من قوة صغرى لا تكون مكافئة لها مطلقا في القوة أو في وسائل الحرب؟
في النهاية استطاع عيديد أن يوجه عدة صفعات للولايات المتحدة وبقي إلى أن مات موتا طبيعيا على حد زعم البعض ومتأثرا بجراح لحقت به جراء إحدى المعارك في العام 1996 على قول آخرين.
وبعد مرور ستة عشر شهرا على الصَيحة التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب موفدا مع ثمانية وعشرين ألف جندي أميركي إلى الصومال تحت شعار إعادة الأمل وقف قائد القوة الأميركية الجنرال توماس مونتجمري في 25 مارس 1994 ليعلن عن رحيل آخر جندي أميركي من الصومال بحلول الحادي والثلاثين من مارس عام 1994 وهو التاريخ الذي حدده الرئيس الأميركي كلينتون .
الأرض المباحة:
شنّت مقاتلات أمريكية عِدّة غارات على جزر صومالية في يوليو 2003م، بزعم وجود «إرهابيين» على تلك الجزر؛ ويعتقد أن المقاتلات أقلعت من قاعدة «ليمونييه» العسكرية في جيبوتي، أو من إحدى حاملات الطائرات الأمريكية الموجودة في البحر الأحمر.
وقد استنكرت الحكومة الانتقالية الصومالية الهجوم ـ الذي يُعد أول عملية عسكرية من نوعها تنفذها القوات الأمريكية في الصومال، منذ انتشار القوات الأمريكية في القرن الأفريقي بداية عام 2003م ـ في حينه، وكانت أغلب عمليات القوات الأمريكية مقتصرة على مراقبة السواحل والجزر الصومالية، وتفتيش السفن التجارية المتجهة من وإلى الصومال.
وفي معرض رد الجنرال «جون ساتلر» ـ قائد القوات الأمريكية في منطقة القرن الأفريقي المتمركزة في جيبوتي ـ على استنكار الحكومة الانتقالية لخطوات كهذه صرّح (في فبراير 2003م) بـ «أن القيام بأي عملــيات لمكافحــة الإرهاب في الصومال لا يسـتدعـي الرجــوع للمسؤولين بالصومال؛ حيـث لا توجد سلطة مركزية هناك يمكن التعامل معها، وأنه يتمّ الاكتفاء في هذه الحالة بالأوامر الصادرة من القيادة العليا في الولايات المتحدة» مؤكداً بأن واشنطن لديها إمكانيات استخباراتية كافية في جميع دول منطقة القرن الأفريقي الأخرى، وأنها تأخذ موافقتها قبل قيامها بأي عملية موجهة ضد من أسماهم بالعناصر الإرهابية في المنطقة.
وأعرب «ساتلر» عن ارتياح بلاده لتعاون إثيوبيا معها في مكافحة الإرهاب، وقال: «إثيوبيا شريك مهم في الحرب الموجهة ضد الإرهاب العالمي في هذه المنطقة، وهذا يعني أننا ملتزمون بتقديم مساعدات متنوعة لإثيوبيا، ونلبي طلبات القيادات الإثيوبية فيما يتعلق بالتدريبات العسكرية المتقدمة لمكافحة الإرهاب والإرهاب المضاد»، وأضاف بأن هناك تعاون مع إثيوبيا في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية، وخاصة المعلومات التي تتعلق بما يحدث في الصومال، مشيراً إلى أنه «بإمكان القوات الإثيوبية تنفيذ عمليات ضد هذه الأهداف في الوقت المناسب».
وقال «ساتلر»: «استُقبلنا استقبالاً حاراً في كل دول المنطقة من واقع أنه في حالة تعاوننا الجمعي يمكن أن ننجز في هذه الحرب الموجهة ضد الإرهاب أفضل مما ينجزه كل بلد بمفرده».
هذه الأرض المباحة أعطت إسرائيل فرصة النفوذ والتوغل في القرن الأفريقي؛ فقد طلب وزير الخارجية الإسرائيلي «سيلفان شالوم» من وزير الخارجية الكيني «كالونزو ماسيوكا» ـ على هامش زيارة الأخير لتل أبيب ـ مشاركة إسرائيل في مؤتمر السلام الصومالي الذي عقد في العاصمة نيروبي عن طريق منحها صفة مراقب، وفقاً لما ورد في صحيفة «الحرية» اليومية الصومالية بتاريخ 23/9/2003م. ونقلت الصحيفة عن مصادر كينية ـ لم تُسمّها ـ قولها: إن الحكومة الإسرائيلية بصدد منح مبلغ مالي غير معلوم لصالح تمويل المؤتمر الصومالي، الذي تتعثر فيه المفاوضات بين الفصائل الصومالية المتناحرة.
بل حاولت الحكومة الإسرائيلية مراراً المشاركة في مؤتمرات المصالحة التي عقدت حول الصومال في الأعوام الماضية، لكنها لم تتمكن من المشاركة بفعالية سوى في مرة واحدة بمؤتمر المصالحة الذي عقد في أديس أبابا عام 1993م، وقدمت في حينه تبرعاً بمقدار 3 ملايين دولار كمساعدات إنسانية للاجئين الصوماليين الذين نزحوا إلى البلدان المجاورة، لكنها لم تحصل على إذن بالمشاركة في المؤتمرات الأخرى التي عقدت في القاهرة عام 1997م، وطرابلس بليبيا عام 1998م، وجيبوتي عام 2000م.
وتحاول إسرائيل التغلغل إلى الصومال عبر عِدّة منافذ منها:
- الدعم المالي للحكومة وللفصائل، والميليشيات القائمة.
- دخول الشركات التجارية إلى الساحة الصومالية، وإيجاد موطن قدم لها هناك.
- التواصل مع قيادات الفصائل وزعماء القبائل، وكسب ولائهم لها.
يشار إلى أن الوجود الإسرائيلي في منطقة القرن الأفريقي يقتصر على تمثيل دبلوماسي محدود في كل من إثيوبيا وإريتريا وكينيا، إلى جانب نشاط استخباراتي مشترك ومكثف مع أجهزة الأمن في هذه الدول. وقد حذر يوسف حسن إبراهيم ـ وزير الخارجية الصومالي السابق ـ في مقابلة مع موقع «إسلام أون لاين» في 15/8/2002م من «سعي إسرائيل للتوغل في المجتمع الصومالي»!
المصدر
- مقال:الصومال -2 بقلم موقع الإخوانموقع:الإخوان المسلمون السودان