الشيخ المحدّث أحمد عبدالرحمن البنا الساعاتي.. بقية السلف وزينة الخلف

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الشيخ المحدّث أحمد عبدالرحمن البنا الساعاتي.. بقية السلف وزينة الخلف

المستشار عبد الله العقيل

هو الشيخ «أحمد عبدالرحمن البنا الساعاتي»، عالم محقق، إمام عصره في علم الحفظ والرواية والحديث والمعرفة بأصول الضبط والتقييد والإجازة، أحد جهابذة الأزهر وشيوخه الأوتاد، والد الإمام الشهيد «حسن البنا». ولد في قرية «شمشيرة»، من أعمال مديرية الغربية، كان والده رجلاً صالحاً، وكانت أمه تقية ورعة، نذرته للقرآن والعلم الشرعي، حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وأتقن أحكام التجويد على الشيخ «أحمد رفاعي» في كُتَّاب القرية.

سافر إلى «الإسكندرية»، والتحق بدروس مسجد الشيخ «إبراهيم باشا»، وأقام بجواره عدّة سنوات، وتعلم بها إصلاح الساعات، وأصبحت بعد ذلك حرفة له وتجارة، ومن هنا جاءت شهرته بـ«الساعاتي».

زواجه

عاد الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا، إلى قريته عالماً، فتزوج منها «أم السعد إبرهيم صقر»، كان والدها يعمل تاجراً للمواشي، وبحكم الوضع القائم آنذاك في ريف مصر لم تنل حظها من التعليم، لكنها اتصفت بالذكاء وحسن التدبير، يقول عنها أصغر أبنائها الأستاذ «جمال البنا»: «كانت والدتي يرحمها الله تتصف بالعناد في الحق، وقوة الشخصية، وكانت على جانب كبير من الذكاء، وإذا انتهت إلى قرار، فمن الصعب التنازل عنه».

وتزوجا في 25 من أبريل 1904م، وانتقل الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا مع أسرته إلى قرية «المحمودية»، بمحافظة البحيرة (شمال مصر)، وافتتح محلاً لإصلاح الساعات، وأنجب ابنه البكر «حسن» يوم الأحد 25 من شعبان 1324هـ ـ 14/10/1906م، ثم «عبدالرحمن» عام 1908م، ثم «فاطمة» زوجة الأستاذ «عبدالحكيم عابدين»، ثم «محمداً» (توفي عام 1990م)، ثم «عبدالباسط» (كان ضابطاً بالجيش المصري)، ثم استقال، وتوفي ودُفن بالمدينة النبوية، ثم «زينب» (توفيت بعد ولادتها بعام)، ثم «أحمد جمال الدين» (جمال البنا حالياً)، ثم «فوزية»، زوجة الأستاذ عبدالكريم منصور، رفيق الإمام «البنا» وقت اغتياله.

معرفتي به

كان ذلك حين زارنا الشيخ «أبوالحسن الندوي» بمصر سنة 1950م، حيث رافقته لزيارة أستاذنا الجليل، وجلسنا معه جلسة طويلة في غرفته المتواضعة، وحدثنا بإسهاب عن حياة ابنه الإمام الشهيد، وكان حديثه وكأنه يتكلم عن أستاذ من أساتذته، لا عن ابن من أبنائه، وذلك لما لاحظه عليه من النجابة والذكاء والصلاح والاستقامة والزهد في الحياة والدعوة إلى الله، والاهتمام بشؤون المسلمين.

خدمته للسنة النبوية

كان الشيخ عظيم الهمّة، يقظاً، ملتزماً أعلى درجات الدقة والصرامة، وإتقان العمل.

أصدر شرح وظيفة سيد أحمد زروق، المسمى (الفوائد اللطيفة في شرح ألفاظ الوظيفة) لأحمد السجاعي.

ورتب مسند الإمام أحمد بن حنبل، وخرَّج أحاديثه، وشرح ما يحتاج إلى بيان، وسمّاه (الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني 1377هـ / 1957م) في اثنين وعشرين جزءاً كبيراً، وهو من أكبر مدوّنات الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث اشتمل على ثلاثين ألف حديث تقريباً، وقد استغرق إنجازه ثمانية وثلاثين عاماً متواصلة، ومختصره، و«بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني)، وله (منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود 1372هـ / 1952م)، و(بدائع المنن في جمع وترتيب مسند الشافعي والسنن 1369هـ/ 1950م).

أدرك الشيخ أحمد الأهمية الإيجابية للاختلافات الفقهية بين أصحاب المذاهب المتعددة، وقد انعكس ذلك في تدبره لتثقيف أبنائه، وتفقههم في الدين؛ إذ جعل كل واحد منهم يدرس ويتمذهب على مذهب من المذاهب الفقهية، فكان المذهب الحنفي من نصيب (حسن)، والمالكي من نصيب (عبدالرحمن)، والحنبلي من نصيب (محمد)، والشافعي من نصيب (جمال)، وكانوا يتلقون دراستهم في المنزل، ولم يمنعه ذلك من أن يدفع بهم إلى المدارس المدنية الحكومية، ليتلقوا تعليمهم وفقاً للمناهج الدراسية الرسمية، وكان يحثّهم على حفظ القرآن، وحفظ المتون في فروع العلوم الشرعية، ويشجعهم على قراءة الكتب واقتنائها، وعلمهم صنعة الساعات وحرفة تجليد الكتب.

عمله في كتاب المسند

منذ أن وضع الإمام ابن حنبل مسنده في الحديث في القرن الثالث الهجري، حتى القرن الثالث عشر، لم يتوصل أحد من العلماء إلى ترتيبه وشرحه، وقد بدأ الإمام ابن كثير ذلك دون أن يتمه، وقال: (ما زلت أقرأ فيه والسراج يضعف، حتى كف بصري معه)، فظل المسند على ما هو عليه عشرة قرون.

ويقول الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا: «اشتاقت نفسي إلى قراءة المسند، وذلك في سنة أربعين وثلثمائة وألف من الهجرة، فوجدته بحراً خضماً يزخر بالعلم، ويموج بالفوائد، لا سبيل إلى اصطياد فرائده، واقتناص شوارده، فخطر بالخاطر المخاطر، وناجتني نفسي أن أرتب هذا الكتاب، وأعقل شوارد أحاديثه بالكتب والأبواب، وأقيد كل حديث منه بما يليق به من باب وكتاب، فتحققت بمعونة الله العزيمة، وصدقت النية، وخلصت بتوفيقه، وحقق إخراج ما في النية إلى الفعل هذه الدرة اليتيمة».

وتحمّل الشيخ قراءة مسند الإمام أحمد، وقام بتصنيفه، وترتيبه، وشرحه، وخرج هذا العمل في 24 جزءاً على نفقته الخاصة، أما عملية الطباعة، فقد اشترى الشيخ وقتها كمية من الحروف الطباعية الـمُشَكَّلة (أي بالشكل من فتحة وضمة)... إلخ، تكفي لطبع ملزمتين أي (16 صفحة من القطع الكبير)، واستأجر لها مكاناً بجواره، واستخدم عاملاً ماهراً أميناً يقوم بجمع الملزمة، ثم يصححها الشيخ، ثم ترسل لتطبع في مطبعة قريبة، بعد أن يشتري الشيخ بنفسه الورق اللازم لها.

وكان الشروع في طبع الجزء الأول، كما كتب الشيخ في دفتره الذي اعتاد أن يدوّن فيه كل الأحداث المهمة في حياته، وحياة العائلة سنة 1934م، وفي سنة 1940م، كتب الشيخ: «انتهينا من طبع الجزء الثالث عشر من الفتح الرباني في ربيع الأول» أي أن الشيخ طبع خلال ست سنوات هذه الأجزاء الثلاثة عشر، أي بواقع جزأين كل سنة.

وعندما قامت الحرب العالمية الثانية 1939م ـ 1945م، اشتعلت أسعار الورق، وحقق الشيخ من حجم الأجزاء 11، 12، 13، ثم اضطر للتوقف فترة، ثم أكمل بعد ذلك عمله، وأتمه في 24جزءاً في ظل ظروف عصيبة للغاية، بعد اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا في 1949م.

ومن بديع ما فعل البنا في ترتيبه للمسند أنه حذف السند، المقصود هنا أنه حذف الكلام الكثير الذي ذكره الإمام أحمد آنذاك لتوثيق الأمانة العلمية، ومنهم الرواة، فكان في المسند يقول: حدثنا فلان، وحدثنا فلان، وهكذا، فالمؤلف الشيخ البنا حذف هذا كله، لكي لا يمل القارئ من كثرة الكلام، ويترك الفضل الكبير في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ».

وقال الشيخ البنا: «حذفت السند، ولم أثبت منه إلا اسم الصحابي الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا في حالات نادرة، يذكر اسم أحد رواته، مما تمس الحاجة إليه، وذكر كيف أن كثرة طول السند يأتي بالسآمة والملل، وقال: «وقد أدرك كثير من كبار المحدثين المتقدمين تفشي هذا الداء، فاختصروا كتبهم بحذف السند، ومنهم الإمام البغوي في كتاب «مصباح السنة»، والحافظ ابن الأثير في كتابه (جامع الأصول)، والزبيدي في كتابه (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح).

وقال الشيخ البنا: «والمقصد الثاني في سبب تكرير الحديث، وهو كما هي الكتب الأخرى، وذلك يعود إلى تعدد الطرق في السند، واختلاف الألفاظ في المتن، ونحو ذلك، فتارة يروي الحديث الواحد عن صحابي واحد من طرق متعددة بألفاظ مختلفة، فلحرصهم على الإحاطة بجميع الروايات وقع التكرار في كتبهم.

فبتتبع البنا لأحاديث السند لم يجد حديثاً مكرراً إلا لذلك ونحوه، وهذا يدل على سعة علم المؤلف بكتب الحديث، فقد قرأ الكتب الستة في شبابه، وعرف الأسانيد، والرواة، وكثرة تكرار الأحاديث، وأدرك الغاية من ذلك، فوضع ترتيبه للمسند على طريقة علمية دقيقة.

وتحدث المؤلف البنا أيضاً عن كيفية ترتيب الكتاب، وتقسيمه على سبعة أقسام، وهي كما يأتي:

القسم الأول: التوحيد وأصول الدين.

القسم الثاني: قسم الفقه:

1 ـ العبادات.

2 ـ المعاملات.

3 ـ الأقضية والأحكام.

4 ـ الأحوال الشخصية والعادات.

القسم الثالث: تفسير القرآن.

القسم الرابع: أحاديث الترغيب.

القسم الخامس: أحاديث الترهيب.

القسم السادس: قسم التاريخ من أول الخليقة إلى ابتداء ظهور الدولة العباسية.

القسم السابع: في أحوال الآخرة، وعن الفتن التي تسبق الآخرة.

ومنهج الشيخ أحمد البنا أنه يذكر الأحاديث، ثم يذكر شرحاً بسيطاً لمعاني الكلمات المشكلة، أو بعض الفقه الموجود بها على اختصار، وتوفي رحمه الله قبل إكماله شرح الأجزاء الأخيرة من الكتاب.

سماته الشخصية

يروي الأستاذ جمال البنا عن صفات أبيه قائلاً: «... وكان الشيخ أحمد البنا أقرب إلى الطول منه إلى القصر، وإلى النحافة منه إلى البدانة، وإلى البياض منه إلى السمرة، وكانت يداه طويلتين، وأصابعه رشيقة، ناتئ الوجنتين، مقرون الحاجبين، واسع الشدقين، أشم الأنف، وكان يلبس الجبة والقفطان، ويضع العمامة على عادة شيوخ مصر...».

ويصوّر أدب الشيخ وتواضعه الحقيقي: «... وقد عثرنا بين أوراقه على خطاب من أحد شيوخ مكة، يطلب منه الإجازة، وترجمة حياته الحافلة، فأرسل الشيخ البنا خطاباً جاء فيه: «الأخ الصالح.. وبعد، فقد تسلمت خطابكم من...، وامتثالاً لأمركم، وحسن ظنكم بي كتبت الإجازة بخطي، وسلمتها لحضرته، وتصلكم ـ إن شاء الله...، أما ترجمتي الحافلة فلا تكون في حياتي، ولا من صنع يدي»، وهذا يكشف عن أنه كان يعلم حق العلم قدر نفسه، وقدر العمل الذي يقوم به، ولكنه كان يتقرب إلى الله بهذا، فلا يجد مبرراً لزهو، أو فخر، أو استعلاء.

علاقته بابنه

أما علاقته بابنه البكر «حسن البنا»، فقد كان دائم التفقد لأحواله، مهتماً بتربيته وتهذيبه، وبذل النصيحة له في مختلف مراحل عمره، وتكشف الرسائل المتبادلة بين الإمام البنا، ووالده الشيخ جانباً من تلك العلاقة، ففي رسالة بعثها الإمام البنا إلى والديه يقول: «... فقد ورد خطابكم الكريم، وإن اليوم الذي أستطيع فيه إرضاءكم هو أسعد أيامي حقاً، وعقيدتي أنني ما خلقت إلا لأرضيكم... والذي أريده فقط أن تغتبطوا بذلك وتعلموه، وأن تخفف سيدتي الوالدة من ألمها، فإن هذه ضرورة لابد منها ستنفرج عما قليل...».

وفي رسالة خطها الإمام البنا من الأقصر في 17 من رجب 1358هـ: «سيدي الوالد الأصيل ـ حفظه الله ـ الرحلة ببركة دعواتك موفقة، وصحتي والحمد لله جيدة للغاية، وكل ما يحيط بي هنا مريح، وأجد من دعواتكم المباركة خير معين على عمل شاق، ولكن يسير على من يسره الله له، فلا تحرموني صالح هذه الدعوات.. والسلام عليكم، والتحية للجميع ورحمة الله وبركاته».

وتكشف هذه الكتابات والرسائل عن طيب شخصية الإمام البنا، وارتباطه الشديد بأهله، وتوقيره واحترامه الكبيرين لوالده، ومداومته على صلة الرحم، والبر بوالديه، رغم كل الظروف، متغلباً على الإشغالات الكثيرة.

مصابه في ولده الشهيد: في فبراير عام 1949م، اغتالت الأيدي الآثمة حسن البنا بعد حياة قصيرة، ولكنها حافلة، وبعد اغتيال الإمام الشهيد كتبت جريدة «الكتلة» تصف الجنازة ووقعها على والده: «القبض على المعزين، ومنع الصلاة على جثمان الفقيد، منع تلاوة القرآن على روحه...»، ثم نشرت الوصف التاريخي الآتي: «نقلت جثة الفقيد إلى بيته في سيارة تحرسها سيارات مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين، وقد أنساهم هول الجريمة أن الموتى لا يتكلمون ولا ينطقون؟ وفي أحد شوارع الحلمية وقفت القافلة، ونزل الجند، فأحاطوا ببيت الفقيد، ولم يتركوا ثقباً ينفذ إليه إنسان إلا سدوه بجند وسلاح، أما والد الشيخ حسن البنا، ذلك الشيخ الهرم الذي تجاوز الستين عاماً، فلم ينؤ بها، ولم تبد عليه عوامل السنين، كما بدت في هذه الليلة النكباء، فقد عرف بخبر ولده من أحد الضباط ساعة وقوعها، وظل ساهراً تفجعه الأحزان، منتظراً الفجر ليؤدي فريضة الله، ويقول له: سبحانك، عدالتك يا ربي، لقد قتلوا ولدي، وتتابعت على المسكن طرقات كان صداها يطحن قلب الشيخ طحن الرحى.

كان الوالد هو وحده الذي يعلم وينتظر، فإن أشقاء الفقيد جميعاً كانوا داخل المعتقلات، وفتحوا الباب، وأدخلوا الجثة، وتشجع الوالد المحطم بالبكاء، فقالوا: لا بكاء ولا عويل، بل ولا مظاهر حداد، ولا أحد يصلي عليه سواك».

ويقول الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا: «أُبلغت نبأ موته في الساعة الواحدة، وقيل لي: إنهم لن يسلموا الجثة، إلا إذا وعدتهم بأن تدفن في الساعة التاسعة، بلا احتفال، وإلا فإنهم سيضطرون إلى حمل الجثة من مستشفى القصر العيني إلى القبر، واضطررت إزاء هذه الأوامر إلى أن أعدهم بتنفيذ كل ما تطلبه الحكومة، رغبة مني في أن تصل جثة ولدي إلى بيتي، فألقي عليه نظرة أخيرة، وقبيل الفجر حملوا الجثة إلى البيت، متسللين، فلم يشهدها أحد من الجيران، ولم يعلم بوصولها سواي.

وظل حصار البوليس مضروباً، لا حول البيت وحده، بل حول الجثة نفسها، ولا يسمحون لإنسان بالاقتراب منها، مهما كانت صلته بالفقيد.

وقمت بنفسي بإعداد جثة ولدي للدفن، فإن أحداً من الرجال المختصين بهذا لم يسمحوا له بالدخول.

ثم أنزلت الجثة، حين وضعت في النعش، وبقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير، طلبت من رجال البوليس أن يحضروا رجالاً يحملون النعش فرفضوا.

قلت لهم: ليس في البيت رجال، فأجابوا: فليحمله النساء، وخرج نعش الفقيد محمولاً على أكتاف النساء، ومشت الجنازة الفريدة في الطريق... وعندما وصلنا إلى جامع «قيسون» للصلاة على جثمان الفقيد، كان المسجد خالياً من الناس، حتى من الخدم، وسبقوا إلى بيت الله، وأمروا من فيه بالانصراف، ريثما تتم الصلاة على جثمان ولدي.

ووقفت أمام النعش أصلي، فانهمرت دموعي، لم تكن دموعاً، بل كانت ابتهالات إلى السماء، أن يدرك الله الناس برحمته.

ومضى النعش إلى مدافن الإمام الشافعي، فوارينا التراب هذا الأمل الغالي، وعدنا إلى البيت الباكي الحزين...».

السنوات الأخيرة من حياته

يقول ابنه جمال: وبعد الحادث المروع، استأنف الشيخ عمله، وفي النفس ما فيها، ولعله الآن أصبح سلوته الوحيدة التي يدفن فيها آلامه، وينسى بها أحزانه، فواصل أسلوب حياته وعمله، وكان الشيخ قد استقر بسلاملك مستقل في حوش المنزل رقم (9) بحارة «الرسام»، وهي حارة ضيقة في أحشاء القاهرة «الغورية»، وعلى ناصيتها مسجد «الفكهاني»، وكان البيت كالبيوت القديمة رحباً واسعاً، وكان له حوش أو فناء متسع، وفي مواجهته سلاملك مستقل يرتفع بضع درجات عن مستوى أرض الحوش، وهذا هو الذي اتخذه الشيخ مكتباً ومخزناً للنسخ المطبوعة من «الفتح»، ولم يكن حسن الإضاءة، أو جيد التهوية، ولكن هذه أمور لم تكن لتشغل الشيخ.

ومن الصباح الباكر حتى منتصف الليل تقريباً، كان الشيخ يأوي إلى مكتبه، فيجلس القرفصاء ـ كالكاتب المصري القديم ـ على مقعد عريض هو مربع خشبي، ليس له مسند أو ذراعان، طرحت عليه حشية «شلتة»، وكانت أمامه مكتبة وهي «تزجة» صغيرة احتفظ بها من أيام تصليح الساعات، وجعلها مكتباً، وهي «تزجة» لابد أن تثير الخجل في نفوس الذين يحرصون على المكاتب الفخمة ذات المحابر والورقات... إلخ، وينفقون عليها مئات الجنيهات، فعلى هذه «التزجة» المتواضعة كتبت أعظم موسوعة إسلامية تضم الحديث والفقه.

وكانت الكتب تحيط بالشيخ من كل جانب، وكان فيها الكثير من مطبوعات الهند، التي كانت من أوائل القرن العشرين قد نشرت العديد من أمهات كتب الحديث بفضل عناية حاكم ولاية «حيدر آباد الدكن»، وكذلك ملك «بهوبال»، وهما من أبرز ملوك الإمارات الإسلامية في «الهند» وقتئذ.

وكانت مكتبة الشيخ عامرة بالمجلدات في الحديث والتفسير والفقه وبقية العلوم الإسلامية، وقد وجدت بين أوراقه كتب عليها بخطه هذين البيتين:

ألا يا مستعير الكتب دعني فإن إعارتي للكتب عار

فمحبوبي من الدنيا كتاب وهل أبصرت محبوباً يُعار؟

وظل الشيخ من عام 1938م إلى عام 1949م يضيء مكتبه بمصباح بترولي، وعلى ضوء هذا المصباح، ظل الشيخ عشر سنوات يعمل في الفتح، على أنه كان أسعد حظاً من «ابن كثير» الذي ظل يعمل في المسند و«السراج ينونص» حتى كف بصره، فإن الشيخ ـ رحمه الله ـ أدخل الكهرباء في المكتب عام 1949م، ولم يكن الشيخ ليبرح مربضه هذا إلا لأداء الصلاة في جامع «الفكهاني» على ناصية الحارة، أو في مكتبه إذا أحس بتعب، وكان بالمكتب أريكة «كنبة» صغيرة يتمدد عليها في بعض الحالات وقت القيلولة، وكان يؤتى له بطعامه من شقته الخاصة بالمنزل في الطابق الثاني، فإذا انتصف الليل، أو كاد أغلق الشيخ مكتبه، وآوى إلى مضجعه في الطابق الأعلى، وبهذه الطريقة تخلص الشيخ من صعوبة «المواصلات» وما تستنفده من جهد ومال ووقت.

وفاته

وظل الأب في حزن شديد على فراق ولده البكر، حتى توفّاه الله في اليوم الثامن من شهر جمادى الأولى، سنة 1378هـ الموافق 1958م، ودفن بمصر.

رحم الله أستاذنا ووالد مرشدنا بقية السلف وزينة الخلف المحدث الكبير البعيد عن الظهور، والعالم المتواضع والزاهد الصالح الذي لم أر في حياتي مثل بساطته وتواضعه وعزوفه عن الدنيا، ورحمنا الله وإيّاه، وحشرنا جميعاً في زمرة الصالحين من عباده مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. وحسن أولئك رفيقاً.

المصدر