الشرق الأوسط والحكم الكليبتوقراطي
محتويات
مقدمة
إن معظم شعوب العالم الثالث ومن ضمنها الشعوب العربية تعيش دولة الإقطاع المستشري في كل مناحي الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية. والبلاد في الشرق الأوسط تعيش حياة الأب أو السيد الذي يمن على عبيدهم بما في يديه وليس كحق لهم، المهم أن يحيا السيد حياة رفاهية لأنه يتحمل عبء إدارة أموال هؤلاء العبي الذين لا يدركون كيف يديرونها – ولن يستطيعوا أن يديرونها في ظل حكم السيد- لأن الشعوب الغير قادرة على صناعة مسيرة حياتها بنفسها وحمايتها عبر الأجيال شعوب غير جديرة بالحياة.
إن القاعدة في الدول التي تحترم شعوبها هي أن فريق الأغلبية هو الذي يتولى الحكم، إلا أنه في البلاد العربية لا تقابل أعمال هذه الأغلبية بما يجب لها من الاحترام، بل هي محل تشكيك وسخرية، وربما يحدث أن تمتنع الأقلية عن تنفيذ القوانين التي تسنها الغالبية حسدا لمكانتها.
بالأمس القريب ثارت الشعوب للتخلص من الظلم والطغيان وتحقيق الديمقراطية، أو على الأقل من أجل قليل من الحرية، فتكالب عليها القاصي والداني، وجعلها تكفر بالساعة التي ثارت فيها، بعد أن راحوا يحرمونها من أبسط متطلبات الحياة، كالأمن والماء والخبز والوقود والكهرباء، فعمد الحكام إلى إثارة الفوضى والجرائم في بلدان الثورات كي تتحسر الشعوب على أيام الطغيان الخوالي، وتعود إلى حظيرة الطاعة.
لقد أصبح الآن الحصول على أساسيات الحياة الشغل الشاغل للسواد الأعظم من الشعوب التي ثارت، ولقد صدق السيد المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، وكان يقصد أن الإنسان ليس جسداً فقط، بل روح ونفس أيضاً. (1)
اعتنى الإسلام بحفظ الضروريات الخمس التي اتفقت الشرائع السماوية على حفظها، وهي:
- حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، واعتبر التعدي عليها جناية وجريمة تستلزم عقابا مناسبا، وبحفظ هذه الضروريات يسعد المجتمع، ويطمئن كل فرد فيه، وهي المصالح الكبرى التي لا بد منها للإنسان ليعيش حياة كريمة، و جاءت كل الشرائع بالأمر بحفظها والنهي عما يضادها وقد جاء الإسلام بالحفاظ عليها ومراعاتها ليعيش المسلم في هذه الدنيا آمنا مطمئنا يعمل لدنياه وآخرته، ويعيش المجتمع المسلم أمة واحدة متماسكة كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ولذا طالب الإسلام طالب الحكام بتوفيرها والحفاظ عليها، لكن الواقع يكذب ذلك، لنحيا وسط حكومات أصبحت في الواقع حكومات كليبتوقراطية.
الكليبتوقراطية ..تعريفها
تتعدد التسميات التي لها دلالة على طبيعة أنظمة الحكم في العالم، كالأنظمة الديمقراطية أو الأوتوقراطية أو الثيوقراطية أو البيروقراطية أو الارستقراطية أو التكنوقراطية أو الكليبتوقراطية. يعود أصل كلمة الكليبتوقراطية إلى اليونانية من كلمتي كليبتو - Κλεπτο والتي تعني لص، وكلمة قراط - κρατ والتي تعني حكم، ومن هنا بإمكاننا ترجمة الكليبتوقراطية "بحكم اللصوص".
وهو نمط الحكومة الذي يراكم الثروة الشخصية والسلطة السياسية للمسؤولين الحكوميين والقلة الحاكمة، الذين يكوّنون الكربتوقراط، وذلك على حساب الجماعة. وعادة ما يكون نظام الحكم في تلك الحكومات في الأصل ديكتاتورياً أو استبدادياً، ومع ذلك فقد تظهر الكليبتوقراطية في بعض النظم الديمقراطية التي انزلقت من الأولغارشية (2). (ويظهر جلي في حكم ترمب رئيس الولايات المتحدة). (3)
والكلِيبتوقراطية مصطلح يرد تفسيره في معجم العلوم السياسية؛ بكونه تعبيراً عن نظام حكم جوهره الفساد واللصوصية أو نهب الثروات العامة. وتقوم سلطة الفساد على وحدة مكينة بين السلطة السياسية وسلطة مافيات لصوصية تسطو على الثروة العامة بوسائل عديدة يتم شرعنتها، بآليات عمل حكومية رسمية عبر برامج مشروعات وهمية وأشكال من التَسَتُّر من قبيل إحالة ما يُفتضح من أمور للجان تحقيقية تنهض بمهمة تمييع القضايا وسط تراكمها وكثرتها وضخامة ما فيها وفوضى ما ينثر حولها. (4)
الكليبتوقراطية والفساد
الكليبتوقراطية لديها مرتكزات أساسية تحافظ على ديمومتها وتأمين السرقات، والحفاظ على السارقين في مناصبهم وتعزيز قوتهم، وتمكنهم من القبض على مصير الناس والتحكم بثروات البلاد. والآلية المعروفة هي إحداث التفرقة والصراعات الداخلية وفقا لمفهوم "فرّق تسد"، ولهذا يمكن الاستدلال على أنظمة الحكم اللصوصية من الواقع الذي أوجدته
فإن هي سعت لإحداث الصراعات الدامية ما بين أبناء المجتمع، فهذا يعني أنها تدعو لذلك لكي تحافظ على سرقاتها وتنميتها، وإن هي دعت إلى الوحدة الوطنية والتماسك الوطني فإنها ليست كذلك. وهذه آلية معمول بها منذ قرون، حيث شرعها ميكافيلي باعتباره "السياسة فنّ تحقيق المكاسب الخاصة تحت ستار تحقيق المصلحة العامة والوصول للسلطة والمحافظة عليها مرتبط بكل مفاسد الأخلاق من كذب وغدر وتزوير وقسوة وإفساد" (5)
وهنا، يمكن تقسيم الفساد إلى قسمين
- الأول: هو الفساد العادي أو الشائع، وهو موجود في كل البلدان. ورغم أنه يطرح مخاطر أمنية، فإنها غالباً ما تكون ذات تأثير متواضع، لأن هذا النوع من الفساد يعبّر عن استغلال مثيري الاضطرابات لمواطن ضعف المجتمع.
- أمّا الثاني والأخير، فهو الفساد الذي يسري داخل النظام السياسي ذاته، ويستولي على أدوات عمل الحكومة الأساسية، مما يؤدي إلى تطويع موارد الدولة لخدمة المصالح المادية للنخبة الحاكمة.
الفئة الأولى: هي تلك الدول التي تعاني الفساد المنظّم نسبياً، وغالباً ما تحتوي هذه الدول على شبكة أو شبكات كليبتوقراطية عدّة، حيث تسيطر تلك الشبكات على وظائف الحكومة المهمة. وتحاول تطويع أدوات القوة الرسمية وغير الرسمية لمصلحتها، من خلال شراء ولاء المؤسسات العسكرية والأمنية. كما تعمل تلك الشبكات على استمالة السلطة القضائية لمصلحتها، لضمان الإفلات من العقوبات القانونية.وأهم ما يميز تلك الشبكات إضفاء المشروعية على أنشطتها الفاسدة من خلال استصدار تشريعات محددة من السلطة التشريعية، تخدم مصالحها.
الفئة الثانية والأخيرة: وهي تلك الدول التي تعاني الفساد، ولكن ليس بالدرجة نفسها في الفئة الأولى، لأن النخب الحاكمة في تلك الدول غالباً ما يكون احتكارها لأدوات القوة أقل اكتمالاً. ولذلك، قد تنخرط في منافسة علنية وعنيفة للاستيلاء على مصادر الدخل وموارد الدولة، مع شبكات فساد منظمة أخرى لا تنتمي إلى النخب الحاكمة. وتعد كولومبيا هي النموذج الأبرز في هذا الصدد، حيث يكون الاستيلاء على الهياكل الحكومية المحلية أسهل عن غيرها من الدول. (6)
وبلاد الشرق الأوسط يطغى عليها الكليبتوقراطية للأسر الحاكمة أو حكم العسكر أو أصحاب المصالح، حيث يعتبر بعضهم الأراضي العامة مصدراً للثروة، ولذلك تسعى أغلب الشبكات الكليبتوقراطية إلى الاستئثار به وتخصيصه لنفسها. وفي بعض البلدان خاصة القاحلة، يعتبر الوصول إلى المياه ومدى صلاحية الأرض للزراعة السّمة الرئيسة التي تحدّد قيمة قطعة ما من الأرض. وفي أماكن أخرى يتم السيطرة على كل المقدرات الاقتصادية للوطن من سياحة، لتجارة، لبنية تحتية، لجميع الاستثمارات، بحكم أنهم الفئة الحاكمة. (7)
شعوب تحت الحكم الكليبتوقراطي الأوليغارشي
لقد تحركت هذه الشعوب ضد حكومات الأقلية (الأوليغارشية) والتي اشترط الفيلسوف أرسطو وجود قدرة مالية عند من يحكم، كما رأى أنه كلما اتسعت الثروة والملكية في يد فئة من المجتمعات، اتسعت دائرة حكم الأوليغارشية، ما يعني أن أرسطو ربط ظهور هذا النوع من الحكم بازدياد التفاوت الطبقي الاجتماعي، ووضعها في يد أصحاب الثروة المالية.
إضافة إلى أن كثيرًا من المفكرين في العصر الحديث استخدموا مصطلح الأوليغارشية؛ للإشارة إلى الدول التي فقد حاكموها الحاضنة الشعبية، لكنهم يتمتعون بدعم كلي من دول أخرى أجنبية تُملكهم السلطة (8). بل إن الدولة الأوليغارشية في الوقت الحالي هي تلك الدول التي تفتقر للسلطة على شعوبها وتستعين بالنفوذ الأجنبي ليتمكن من تنظيم الأمور والسيطرة على البلاد وتسيير أمورها، وغالباً ما تكون مثل هذه الدول لديها فقر في الرصيد الجماهيري. (9)
حكومات الشرق الأوسط الكليبتوقراطية
تعيش شعوب الشرق الأوسط في جميع أقطارها اعتداء وسرقة واستهتار من قبل حكومات غير شرعية تمارس الكليبتوقراطية وصلت للسلطة عن طريق انتخابات شعبية جاءت به بنسبة لا تقل عن 99.99% أفرزتها الصناديق الانتخابية المزيفة لاختياره كما أعلن إعلام الكذب في زمن صدام وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح (في الماضي) وغيرهما من الحكومات التي لا تعبأ بشعوبها بل تضع كل مقدرات البلاد تحت سيطرة الأقلية القريبة من صنع القرار، في وقت يفرضون التقشف والضرائب وشد الحزام على جموع الشعب الذي لا يملك من أمره شيئا.
لقد كشفت ثورات الربيع العربي حقيقة هذه الزعامات التي ترفض الشعوب زعاماتها كما ظهرت على المحك الحقيقي في ثورة تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا وبقية الدول العربية الضالعة بالدكتاتورية والفساد هي الأخرى على طريق المحاسبة والإقصاء.
إن الشعوب حين تنفست بعض نسيم الحرية رفضت وثارت على هؤلاء الذين سرقوا أموال شعوبهم هذه الأموال التي لا تصدق أرقامها لا بالعقل ولا الخيال وقد ذهبت هدرا لتستولي عليها حكومات وبنوك وأفراد تحت أرقام سرية في البنوك وكذلك في أوراق الأسهم والشركات والوكلاء من العرب والأجانب. (10) وللأسف ما زالت الشعوب العربية (وغيرها من الشعوب) تعيش هذا الواقع.
المشكلة أن دول الشرق الأوسط لا تعرف اعتذار الحكام، سواء لأهداف سياسية أو باعتباره مستمداً من قيم المجتمع. لأن الحكام يعتبرون إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم ليست مبنية على أن الحاكم موظف عام لدى الشعب، كلفه بمهمة معينة في مدة محددة، على أن يخضع الحاكم بعد ذلك للحساب والعقاب، في حال ارتكابه أي خطأ، لكنها علاقة أبوية يكون فيها الحاكم رباً للأسرة الكبيرة، وولي أمرها والقائم على شؤونها، وبالطبع لا يعتذر ولي أمر لأبنائه عن أخطائه. وهذا ما يظهر بصورة واضحة في الخطابات السياسية للزعماء في هذه البلاد. (11)
الربيع العربي.. الثورة ضد الكليبتوقراطية
اتجهت التحليلات الغربية إلى أن موجة الانتفاضات العربية جاءت نتيجة تضخم الأزمات المتعلقة بالاقتصاد الكلي لهذه الدول، إلى جانب المشاكل الديموجرافية بها، بينما اتجهت تشايز في تحليلها إلى أن الفقر أو الظلم الاجتماعي، كعوامل مجردة منفردة، ليست هي الأسباب الحقيقية التي دفعت الشعوب للثورة على حكامها. ولكن السبب الحقيقي هو وجود مزيج من استشراء للفقر المدقع بمعدلات كارثية، ووجود ظلم اجتماعي حاد، وهو الأمر الذي كان جلياً في مظاهر الحياة اليومية في تلك الدول التي عبّرت عن تناقض اجتماعي فج.
ففي حين كان الناس العاديون يعانون يومياً من الفقر والحرمان، كانت النخب السياسية والاقتصادية تقوم باستعراضٍ متباهٍ لثرواتها الضخمة، التي هي في الأساس جزء من الموارد العامة للدولة، والتي تحصّلوا عليها جراء عمليات الفساد.
وتؤكد تشايز أن كل الحكومات التي واجهت احتجاجات جماهيرية، خلال الانتفاضات العربية في عام 2011، سواء في تونس، أو مصر، أو سوريا، أو البحرين، أو اليمن، قامت بممارسات فاسدة بشكل حاد، لمصلحة نخب ضيقة شملت كبار المسئولين الحكوميين، وأقاربهم. وقد هتف المتظاهرون بشعارات مكافحة الفساد، وغالباً ما حملوا ملصقات تُظهر القادة السياسيين وهم وراء القضبان، بسبب قضايا الفساد التي وصمتهم. (12)
تقول موريال ميراك فايسباخ في كتابها "مهوسوون بالسلطة، " إن جوهر النرجسية هو حب الذات الذي يستتبع عدداً من الصفات. فالنرجسي يفرط عادة في تقدير نفسه وقدراته، ويطلب الإعجاب من الآخرين الذين يطمئنون إلى عظمته. (13)
وتضيف أيضا:
- الأمر الأخر أن هؤلاء الحكام يحيطون أنفسهم دائماً بالرجال الذين يوافقونهم في الرأي، والمتزلفين والمتملقين. كما أنهم يحتاجون إلى الشعور بأنهم محبوبون ويُخشى منهم، ولا يحتملون أي انتقاد وهم عاجزون تماماً عن النظر في إمكان أن ينقلب شعبهم عليهم. ويتوجب الأمر تجنب الأشخاص الذين يظهرون أي حكم مستقل على الأمور، ومن يجرؤ على انتقاد الزعيم النرجسي، أو يُشكك في سلطته، يصبح عرضة للضغط الاجتماعي الهائل. وهذا يفسر سبب إصرار الزعماء النرجسيين على السيطرة الكاملة على الرأي العام من خلال وسائل الاتصال الجماهيرية. (14)
وتقول الدكتورة هدى زكريا - أستاذة علم الاجتماع السياسي - الملوك أصعب من الرؤساء في الاعتذار. وأرجعت زكريا ذلك إلى أن الملوك يبدون مثاليين، ولا يخطئون، ويعتبرون الاعتذار ضعفاً. فالملوك والأمراء وأبناؤهم مقدسون في الثقافة العربية، وقد يأخذون لقب "ظل الله في الأرض" وبالتالي لا يمكن أن يعتذروا. كما أنهم يجدون من يغطي على أخطائهم. (15)
لماذا تثور الشعوب ضد الكليبتوقراطية؟
يعتبر معيار الشفافية الوسيلة الناجحة للمساهمة في الكشف عن نقاط الفساد الحاد والمنظم المتفشي في المجتمع، كما أنها تؤدي إلى إدراك ما يحدث على جميع الأرصدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتمكن المواطنين من الاطلاع على تفاصيل تلك الحقائق وسياسات الحكومة المتعلقة بتسيير المال العام وتوزيعه،عن طريق وسائل الإعلام المختلفة والتي إذا أتيحت لها الفرص عن التعبير بكل حرية تسهم في لعب دور هام في الكشف عن الفساد الحكومي وجرائم نهب المال العام وسرقته. (16)
غير إن الفساد الحادّ الذي ضرب جنبات النظم البيئية المادية على نحو يتعذّر محوه أو إزالته، يؤدي بالشعوب لعدم التحمل لفترات طويلة خاصة في ظل تغلل شبكات الكليبتوقراطية في اقتصاد البلاد، لأنها تركّز طاقات الحكومة على مصادر الدخل التي يمكنها الاستيلاء عليها. وتنكمش القطاعات الاقتصادية الأخرى أو تضعف بسبب الغش الذي يُمارس في المنافسة غير المشروعة. وبالتالي تنعدم الفرص الاقتصادية، وترتفع معدلات البطالة، وإثارة غضب الشعوب ويمكن أن تتسبّب التشوّهات الناجمة عن ذلك في تأثيرات تزعزع استقرار النظم البيئية الاقتصادية بأكملها. (17)
إن التأثيرات السلبية للفساد الحكومي المُنظّم تتجلى في:
- إثارة الغضب الشعبي: حيث إن الفساد الحاد والمنظّم يعمل على إثارة غضب الشعوب التي غالباً ما تكون ضحية هذا الفساد.
- فقدان الدول للشرعية السياسية: وهو ما يُعد عاملاً أساسياً في كثير من الأزمات.
- تصاعد نفوذ المنظمات المتطرفة: حيث يلعب الفساد الحكومي الدور الأبرز في هذا الصدد.
- إثارة الصراعات بصورة متعمّدة: وذلك من قبل النخب الفاسدة، لأن هذه الصراعات توفر فرصا للتربّح، ونقل الثروة، فضلاً عن أن تردي الأحوال المعيشية، الذي يصاحب الحرب الأهلية، يوفر إمكانية الوصول إلى المساعدات الدولية، التي تستولي عليها تلك النخب الفاسدة. والأمر نفسه ينسحب على المساعدات العسكرية. (18)
بين تقشف الشعوب وبذخ الحكام
لقد تبنت حكومات الشرق الوسط برامج للإصلاح الاقتصادي على مدار عقود طويلة لم تزد فيها الشعوب إلا فقراء والسلطة الحاكمة وأتباعها إلا غني، حتى كانت مفاجآت الربيع العربي التي كشفت حقيقة أرباب السلطة، وحقيقة ثرواتهم المتخمة في البنوك في وقت كان يلجأ الشعب للقمامة للبحث عن فتات يقمن صلبه. لم تفلح البرامج الاقتصادية التي طبقتها الحكومات المتعاقبة في رفع الأداء الاقتصادي خلال السنوات الأخيرة، لكنها ساهمت بزيادة المشكلات الاقتصادية وتجذيرها.
ويرى المحللون أنّ ثغرة هذه البرامج تتمثل بكونها خططا مؤقتة ومتوسطة وقصيرة المدى لحل أزمات ومشكلات اقتصادية ولم تكن برامج وطنية شاملة تخطط لتحسين الاقتصاد الوطني مستقبلا. إن غياب قيم الديمقراطية والمشاركة أحد العوامل الرئيسية المؤدية إلى زيادة رقعة الفقر والتخلف الاقتصادي في المجتمعات العربية، وهو ما أوضحه تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003م.
كما عمل غياب الديمقراطية وفشل برامج التنمية في هذه الدول في تعميق أزمة الهوية التي تعاني منها بعض هذه الدول، والذي أدى لزيادة مساحة التهميش الاجتماعي، وحرمان بعض فئات المجتمع من حقوقهم الأساسية، الأمر الذي يؤدي لاتساع رقعة الفقر حتى بلغت في بعض المجتمعات العربية نحو 40 % من السكان تحت خط الفقر، و25 % تحت خط الفقر المدقع (19)، في حين أن السلطة الحاكمة تنفق ببذخ على نفسها وأنصارها في الوقت التي تطالب الشعوب بمزيد من التقشف.
ففي حادثة غريبة نجد البرلمان المصري يوافق على زيادة مرتبات الوزراء بأثر راجعي (20)، في الوقت التي تقوم محكمة الأمور المستعجلة بإلغاء حكم محكمة القضاء الإداري العليا والتي تقضي بزيادة معاش الفقراء بنسبة 80 %. (21)
يقول عبد النبي الشحات:
- إن غياب الحس السياسي لدى أي حكومة في الدنيا ربما يدخلها في مشاكل وأزمات بدون أي داعي وبالتالي لابد من التفكير جيدا قبل طرح أي مشروع أو قرار قد يمثل استفزازا للشارع، وهو ما حدث بالفعل حينما كشفت الحكومة الحالية عن نيتها زيادة مرتبات الوزراء ونواب الوزراء والمحافظين ونواب المحافظين على اعتبار أنهم غلابة قوى قوى.. ومش قادرين يتحملوا موجة الغلاء الأخيرة..
بينما المواطن المسكين الذي يعانى الأمرين في الحصول على قوت يومه.. مش مهم خالص.. واضح أن الحكومة عندنا تخاصم المنطق ولا تعرف أبسط قواعد المواءمة السياسية والدليل الإعلان عن هذا المشروع في هذا التوقيت بالذات وكأنها تريد أن تخرج لسانها للناس في الشارع (22).هذا غير كثير من المشروعات التي لم تعد على المواطن بالنفع.
زيادة رواتب الوزراء في مصر، أثارت جدلا واسعا، واعتبرت استفزازا للمواطن المصري، الذي يطالبه دوريا الرئيس "عبدالفتاح السيسي"، بالصبر وتحمل الجوع من أجل مصر، قائلا له في أكثر من مناسبة "مفيش، معنديش، إحنا فقرا أوي، أنا مش قادر أديك، هتا كلوا مصر يعني"، وهي عبارات باتت محل سخرية بين المصريين. (23)
وفي لبنان تتزايد معاناة الشعب اللبناني يومًا تلو الآخر، لا سيما بعدما أقر مجلس النواب اللبناني في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2017م، قانونا جديدا للضرائب يفاقم أوضاع المواطنين، ويثقل كاهلهم بأعباء إضافية تستنزف قوت يومهم. (24)
ونشرت صحيفة التايمز تقريرا لريتشارد سبنسر حول شراء " ولي العهد السعودي قصرا تبلغ قيمته 300 مليون دولار" ووصف بأنه أغلى منزل في العالم. وقال الكاتب إن الأمير محمد بن سلمان يقود في بلاده حملة على الفساد، لكن ثمة تقارير تفيد بأنه "اشترى يختا بنصف مليار دولار ولوحة لليوناردو دافنشي بـ450 مليون دولار".
وتابع الكاتب قائلا إن
- "برنامج التقشف في بلاده لم يؤثر فيما يبدو على كم الأموال الشخصية التي ينفقها". (25)
المملكة العربية السعودية مقدمة على أوضاع مالية صعبة جدا قد تصل لمرحلة اقرب إلى الإفلاس بسبب سوء إدارة الثروات المالية الهائلة التي دخلت خزينتها، وعدم ترشيد الإنفاق، والمبالغة في شراء صفقات أسلحة لأهداف سياسية وليس عسكرية، وشراء ذمم عظمى في ظل حالة من الارتباك غير مسبوقة، حتى بلغ الأمر بعزم السعودية إنفاق 36 مليار على الترفيه في حين تتزايد معدلات البطالة، حيث يعيش نحو 5 ملايين شخص على أقل من 530 دولاراً شهرياً في السعودية. (26)
هذه أمثلة على واقع شعوب الشرق الأوسط التي تحياه الآن، وإن كان ليس وليد هذه الأيام إلا أن الكليبتوقراطية والأنغارشية أصبحت سمة حكومات الشرق الأوسط.
- صحفي
المراجع
- متى (4: 4)
- الأولغارشية أو الأوليغاركية Oligarchy وهي حكم الأقلية وهي شكل من أشكال الحكم بحيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة من المجتمع تتميز بالمال أو النسب أو السلطة العسكرية، أو هي الحكومة التي يتولى قيادتها فئة صغيرة من الناس، خصوصًا لأغراض أنانية وفاسدة (الموسوعة الحرة).
- الكليبتوقراطية - ويكيبيديا الموسوعة الحرة
- ريم عزمي: كليبتوقراطية"، موقع صحيفة الأهرام المصرية، 14 مايو/ آذار 2011م
- صادق السامرائي: الكليبتوقراطية، الاثنين 06 تشرين ثاني/ نوفمبر 2017م
- Sarah Chayes, "Thieves of States: Why Corruption threatens Global Security", (New York City: W. W. Norton & Company, 2015). عرض للكتاب محمد محمود السيد
- مايكل جونسنون،متلازمات الفساد ( الثروة و السلطة والديمقراطية) ، (السعودية ،العبيكان، 2008).ترجمة : نايف الياسين.
- جيرون: التصنيف مفاهيم ومصطلحات 22 شباط / فبراير، 2017م
- إيمان حياري: معلومات عن الأوليغارشية، موقع وزي وزي، 4 مارس، 2018م،
- طالب الصراف: انهيار الحكومات العربية الكليبتوقراطية بتقهقر العائلة السعودية
- محمد شعبان: لماذا لا يعتذر الحكّام العرب عن أخطائهم؟ رصيف 22
- Thieves of States: عرض للكتاب محمد محمود السيد
- موريال ميراك فايسباخ: مهوسون بالسلطة، (لبنان، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2012)، صـ 30.
- مهوسون بالسلطة، المرجع السابق، صـ 32، 33.
- لماذا لا يعتذر الحكّام العرب عن أخطائهم؟، مرجع سابق.
- أحمد صلاح عطية: أصول المراجعة الحكومية و تطبيقاتها بالمنطقة العربية، (مصر، الدار الجامعية ، 2008م)، صـ222.
- مرسي السيد حجازي ، التكاليف الاجتماعية للفساد ، مجلة المستقبل العربي ،العدد 266 ، أبريل/ نيسان 2001م ، صـ 33 .
- Thieves of States، عرض للكتاب محمد محمود السيد، مرجع سابق.
- عقيل الخفاجي: الفساد والإصلاح : الصحافة الدولية وقضايا الإصلاح السياسي، الطبعة الأولى (القاهرة، دار العربي للنشر والتوزيع، 2016م)، صـ 22.
- أحمد علي: ننشر نص قانون زيادة رواتب الوزراء بعد موافقة البرلمان عليه
- محمود عثمان: "الأمور المستعجلة" توقف حكم إضافة 80% من علاوات أصحاب المعاشات
- عبدالنبي الشحات: الحكومة تريد زيادة مرتبات وزرائها وتطالبنا بالتقشف؟!، اليوم السابع
- أحمد ولد مبروك: زيادة رواتب وزراء مصر، الخليج الجديد
- رامي حيدر: قانون جديد يزيد اللبنانيين فقرًا عرب 48،
- BBC العربية، التايمز: حملة التقشف في السعودية ونفقات ولي العهد، 18 ديسمبر/ كانون الأول 2017م
- عبدالباري عطوان: السعودية تقترب بسرعة من (الافلاس) بسبب حروبها في اليمن وسورية، رأياليوم