السياسة العامة للإخوان تجاه الحكومات قبل ثورة 23يوليو 1952م
إعداد/ أشرف عيد العنتبلي
باحث دكتوراه بكلية دار العلوم جامعة القاهرة
موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين (إخوان ويكي)
محتويات
أولا : المقدمة
إذا نظرنا إلى الخلفية الإسلامية فيمن تولوا رئاسة الوزراء قبل ثورة 1952 نجدهم لا يعيرون مبادىء الإسلام وأحكامه كبيراهتمام ، بالرغم من حسن سير بعضهم وحرصهم على الإسلام فى حياتهم الشخصية مما يعنى لديهم أن تطبيق الإسلام سلوك فردى وبمعنى آخر حرية شخصية ،انطلاقا من فكرهم فى الفصل بين الإسلام والسياسة ، وإن أى حاكم ينطلق فى حكمه من تصور فكرى عن الحكم ، ويقدم للشعب السياسة العامة التى يسير عليها ، وهو ما يعرف حديثا بالبرنامج الانتخابى الذى يذكر فيه المرشح سياسته فى الحكم ، وبناء عليه يحظى بقبول أو رفض الشعب ، لذا نجد رؤساء الوزراء فى تلك الفترة لا يعبأون بكثير من تعاليم الإسلام،ويمثل صمت الحكومة إقرارا لتلك المخالفات، مثل : دور البغاء ، والميسر والرقص والخمر ، والمعاملات الرباوية ، وانتشار التبشير بين المسلمين ..وغير ذلك .
ولما كانت دعوة الإخوان فى مجملها دعوة إصلاحية متنوعة الجوانب تقوم على أسس إسلامية ولا ترضى أبدا أن توجد حكومة تحكم شعب أغلبيته مسلمة بعيدا عن عقيدته ، وتنتهج سياسة غير قويمة فى التعامل مع مجريات الأحداث، فإن الإخوان لابد أن يحددوا موقفهم من تلك الحكومات .
وقد مارست الحكومات التى تولت قبل ثورة 23 يوليو 1952 الحكم بعيدا عن مبادىء الإسلام وأحكامه انطلاقا من ثقافتها الفكرية التى تفصل بين الدين والسياسة ، لذا نجد رؤساء الحكومات لا يهتمون بأحكام الإسلام كثيرا. ومن هذا المنطلق ظهرت سياستهم تجاه قضايا الوطن ، و القضية الفلسطينية ، والنواحى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وإذا نظرنا إلى الحكومات فى ذلك الوقت نجدها تسعى لإرضاء الإنجليز وتطلب مودتهم حتى تضمن الاستمرار فى الحكم ، وكثيرا ما يتدخل الإنجليز فى قرارات الحكومة واختيارمن يتولاها على نحو ما حدث يوم 4 فبراير 1942.
وبناء على ذلك اتجهت سياسة الحكومات فى تلك الفترة بعيدا عن الإسلام قريبة من المحتل ، وأصبحت المفاوضات هى الحل الوحيد فى نظرهم للحصول على الاستقلال .ويحرص رئيس الحكومة على البقاء أطول فترة من الوقت على كرسى الحكم ويسعى إلى تصفية خصومه السياسيين ويبذل فى سبيل ذلك طرقا ووسائل كثيرة غير مشروعة من أجل تحقيق ذلك .
ومن هنا فإن الإخوان يسيرون فى موقفهم من الحكومات من خلال ثوابت ومتغيرات ، فالثوابت هى مراعاة الحكومة مبادىء الإسلام وأحكامه القاطعة وعدم وجود قوانين تتعارض مع الشريعة الإسلامية ، وأما المتغيرات فهى الاجتهات فى الأمور السياسية بما يحقق مصلحة الشعب والحصول على حقوقه كاملة ورفع شأنه بين الدول .
فأى حكومة لابد أن توضع تحت مراقبة الشعب يرى ما تفعل ويقيم أداءها وهو الحكم عليها ، والإخوان جزء من هذا الشعب ، لذا بدت سياسة الإخوان واضحة تجاه الحكومات المتعاقبة قبل ثورة يوليو 1952، وترتكز على أسس ثابتة تجاه أى حكومة .
ثانيا: مطالب الإخوان للحكومات
حمل الإخوان على عاتقهم مطالبة الحكومات بالإصلاح المرتكز على الروح الإسلامي الصحيح فى مختلفة النواحى السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية ، وقد قدم الإمام البنا مطالب الإخوان فى نواحى الإصلاح المختلفة ، قائلا : فهذه رسالة الإخوان المسلمين، نتقدم بها, وإنا لنضع أنفسنا ومواهبنا وكل ما نملك تحت تصرف أي هيئة أو حكومة تريد أن تخطو بأمة إسلامية نحو الرقي والتقدم.
نجيب النداء ونكون الفداء , ونرجو أن نكون قد أدينا بذلك أمانتنا وقلنا كلمتنا والدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم . وتلك الرؤية الإصلاحية التى قدمها الإخوان هى:
أولا : في الناحية السياسية والقضائية والإدارية
- القضاء على الحزبية وتوجيه قوى الأمة السياسية في وجهة واحدة وصفّ واحد.
- إصلاح القانون حتى يتفق مع التشريع الإسلامي في كل فروعه.
- تقوية الجيش والإكثار من فرق الشباب وإلهاب حماستها على أسس من الجهاد الإسلامي.
- تقوية الروابط بين الأقطار الإسلامية جميعا، وبخاصة العربية منها تمهيدا للتفكير الجدي العملي في شأن الخلافة الضائعة.
- بث الروح الإسلامي في دواوين الحكومة بحيث يشعر الموظفون جميعا بأنهم مطالبون بتعاليم الإسلام .
- مراقبة سلوك الموظفين الشخصي وعدم الفصل بين الناحية الشخصية والناحية العملية.
- تقديم مواعيد العمل في الدواوين صيفا وشتاء حتى يعين ذلك على الفرائض ويقضي على السهر الكثير.
- القضاء على الرشوة والمحسوبية والاعتماد على الكفاية والمسوغات القانونية فقط.
- أن توزن كل أعمال الحكومة بميزان الأحكام والتعاليم الإسلامية, فتكون نظم الحفلات والدعوات والاجتماعات الرسمية والسجون والمستشفيات بحيث لا تصطدم بقاعدة بتعاليم الإسلام , وتكون الدوريات في الأعمال على تقسيم لا يتضارب مع أوقات الصلاة.
- استخدام الأزهريين في الوظائف العسكرية والإدارية وتدريبهم.
ثانيا : في الناحية الاجتماعية والعلمية
- تعويد الشعب احترام الآداب العامة, ووضع إرشادات معززة بحماية القانون في ذلك الشأن, وتشديد العقوبات على الجرائم الأدبية .
- علاج قضية المرأة علاجا يجمع بين الرقى بها والمحافظة عليها وفق تعاليم الإسلام، حتى لا تترك هذه القضية التي هي أهم قضايا الاجتماع تحت رحمة الأقلام والآراء الشاذة من المفرطين والمفرطين.
- القضاء على البغاء بنوعيه السري والعلني واعتبار الزنا مهما كانت ظروفه جريمة منكرة يجلد فاعلها .
- القضاء على القمار بكل أنواعه من ألعاب ويناصيب ومسابقات وأندية .
- محاربة الخمر كما تحارب المخدرات وتحرمها وتخليص الأمة من شرورها .
- مقاومة التبرج والخلاعة وإرشاد السيدات إلى ما يجب أن يكون, والتشديد في ذلك بخاصة على المدرسات والتلميذات والطبيبات والطالبات ومن في حكمهن .
- إعادة النظر في مناهج تعليم البنات ووجوب التفريق بينها وبين مناهج تعليم الصبيان في كثير من مراحل التعليم .
- منع الاختلاط بين الطلبة والطالبات , واعتبار خلوة أي رجل بامرأة لا تحل له جريمة يؤاخذان بها .
- تشجيع الزواج و النسل بكل الوسائل المؤدية إلى ذلك , ووضع تشريع يحمي الأسرة ويحض عليها ويحل مشكلة الزواج .
- إغلاق الصالات والمراقص الخليعة وتحريم الرقص وما إلى ذلك .
- مراقبة دور التمثيل وأفلام السينما والتشديد في اختيار الروايات والأشرطة .
- تهذيب الأغاني واختيارها ومراقبتها والتشديد في ذلك .
- حسن اختيار ما يذاع أو يعرض على الأمة من برامج ومحاضرات وأغاني وموضوعات واستخدام الإذاعة والتلفاز في تربية وطنية خلقية فاضلة .
- مصادرة الروايات المثيرة والكتب المشككة المفسدة والصحف التي تعمل على إشاعة الفجور وتستغل الشهوات استغلالا فاحشا .
- تنظيم المصايف تنظيما يقضى على الفوضى والإباحية التي تذهب بالغرض الأساسي من الاصطياف .
- تحديد مواعيد افتتاح وإغلاق المقاهي العامة ومراقبة ما يشتغل به رواده وإرشادهم إلى ما ينفعهم وعدم السماح لها بهذا الوقت الطويل كله .
- استخدام هذه المقاهي في تعليم الأميين القراءة والكتابة ويساعد على ذلك هذا الشباب المتوثب من رجال التعليم الإلزامي والطلبة
- مقاومة العادات الضارة اقتصاديا أو خلقيا أو غير ذلك وتحويل تيارات الجماهير عنها إلى غيرها من العادات النافعة ، أو تهذيب نفسها تهذيبا يتفق مع المصلحة وذلك كعادات الأفراح والمآتم والموالد والزار والمواسم والأعياد وما إليها ، وتكون الحكومة قدوة صالحة في ذلك .
- اعتبار دعوة الحسبة ومؤاخذة من يثبت عليه مخالفة شئ من تعاليم الإسلام أو الاعتداء عليه ، كالإفطار في رمضان وترك الصلاة عمدا أو سب الدين وأمثال هذه الشؤون .
- ضم المدارس الإلزامية في القرى و المساجد وشمولها معا بالإصلاح التام من حيث الموظفين و النظافة وتمام الرعاية , حتى يتدرب الصغار على الصلاة ويتدرب الكبار على العلم.
- تقرير التعليم الديني مادة أساسية في كل المدارس على اختلاف أنواعها كل بحسبه وفى الجامعة أيضا.
- تشجيع تحفيظ القرآن في المكاتب العامة الحرة وجعل حفظه شرطا في نيل الإجازات العلمية التي تتصل بالناحية الدينية واللغوية مع تقرير حفظ بعضه في كل مدرسة.
- وضع سياسة ثابتة للتعليم ، تنهض به وترفع مستواه وتوحد أنواعه المتحدة الأغراض و المقاصد وتقرب بين الثقافات المختلفة في الأمة وتجعل المرحلة الأولى من مراحله خاصة بتربية الروح الوطني الفاضل والخلق القويم .
- العناية باللغة العربية في كل مراحل التعليم وإفرادها في المراحل الأولى عن غيرها من اللغات الأجنبية .
- العناية بالتاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني التربية الوطنية وتاريخ حضارة الإسلام.
- التفكير في الوسائل المناسبة لتوحيد الأزياء في الأمة تدريجيا.
- القضاء على الروح الأجنبية في البيوت من حيث اللغة والعادات والأزياء والمربيات والممرضات ..الخ ، وتصحيح ذلك وبخاصة في بيوت الطبقات الراقية .
- توجيه الصحافة توجيها صالحا وتشجيع المؤلفين والكاتبين على طرق الموضوعات الإسلامية الشرقية.
- العناية بشؤون الصحة العامة ، من نشر الدعاية الصحية بمختلف الطرق والإكثار من المستشفيات والأطباء والعيادات المتنقلة وتسهيل سبل العلاج .
- العناية بشأن القرية من حيث نظامها ونظافتها وتنقية مياهها ووسائل الثقافة والراحة والتهذيب فيها.
ثالثا : في الناحية الاقتصادية
- تنظيم الزكاة دخلا ومنصرفا بحسب تعاليم الشريعة السمحة ، والاستعانة به في المشروعات الخيرية التي لابد منها كملاجئ العجزة والفقراء واليتامى وتقية الجيش.
- تحريم الربا وتنظيم المصارف تنظيما يؤدي إلى هذه الغاية ، وتكون الحكومة قدوة في ذلك بإلغاء الفوائد في مشروعاتها الخاصة بها كبنك التسليف والسلف الصناعية وغيرها.
- تشجيع المشروعات الاقتصادية والإكثار منها، وتشغيل العاطلين من المواطنين فيها واستخلاص ما في أيدي الأجانب منها للناحية الوطنية البحتة.
- حماية الجمهور من عسف الشركات المحتكرة وإلزامها حدودها والحصول على كل منفعة ممكنة للجمهور.
- تحسين حال الموظفين الصغار برفع مرتباتهم واستبقاء علاواتهم ومكافأتهم وتقليل مرتبات الموظفين الكبار.
- حصر الوظائف وخصوصا الكثيرة منها، والاقتصار على الضروري وتوزيع العمل على الموظفين توزيعا عادلا والتدقيق في ذلك.
- تشجيع الإرشاد الزراعي والصناعي والتجاري ، والاهتمام بترقية الفلاح والصانع من الناحية الإنتاجية.
- العناية بشؤون العمال الفنية والاجتماعية،ورفع مستواهم في مختلف النواحي الحيوية .
- استغلال الموارد الطبيعية كالأرض البور والمناجم المهملة وغيرها.
- تقديم المشروعات الضرورية على الكماليات في الإنشاء والتنفيذ .(1)
وتلك المطالب أو بمعنى آخر البرنامج الذى قدمه الإخوان مجرد اقتراح أو برنامج للإصلاح فى النواحى السابقة يمكن أن يضاف إليها أو يعدل فيها إلا أنها على كل حال رؤية، ويمكن أن نوجزها فى مطالب عامة، هى : العمل على القضاء على كل المظاهر التى تتعارض مع الشريعة الإسلامية فى مصروالسعى لتعديل القوانين التى تتعارض مع الشريعة الإسلامية حتى لا يعيش المسلم بقانون يتعارض مع دينه ولا يمت له بصلة ،والسعى لتحرير الوطن من الاحتلال بكل الوسائل المتاحة بطرق جدية دون تراخى ، وتحسين الأوضاع السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية ، والسعى للقضاء على كل مظاهر الفساد .
وفى هذا الإطار تحرك الإخوان فى مواقفهم المختلفة من الحكومات .ولم يغفل الإخوان المطالبة برفع أثقال الحياة عن المواطنين ، يقول الإمام البنا : " أهدافنا الخاصة : ولنا بعد هذين الهدفين أهداف خاصة لا يصير المجتمع إسلامياً كاملاً إلا بتحقيقها .
فاذكروا أيهاالإخوان أن أكثر من 60% من المصريين يعيشون أقل من معيشة الحيوان ، ولا يحصلون علي القوت إلا بشق النفس ، وأن مصر مهددة بمجاعة قاتلة ومعرضة لكثير من المشكلات الاقتصادية التي لا يعلم نتيجتها إلا الله ، وأن مصر بها أكثر من 230 شركة أجنبية تحتكر كل المرافق العامة وكل المنافع الهامة في جميع أنحاء البلاد ، وأن دولاب التجارة والصناعة والمنشآت الاقتصادية كلها في أيدي الأجانب المرابين ، وأن الثروة العقارية تنتقل بسرعة البرق من أيدي الوطنيين إلى أيدي هؤلاء ، وأن مصر أكثر بلاد العالم المتمدين أمراضاً وأوبئة وعاهات ، وان أكثر من 90% من الشعب المصري مهدد بضعف البنية وفقد الحواس ومختلف العلل و الأمراض.
وأن مصر لا زالت إلى الآن جاهلة لم يصل عدد المتعلمين فيها إلى الخمس بما في ذلك أكثر من مائة ألف شخص لا يتجاوز تعليمهم برامج مدارس الإلزام ، وأن الجرائم تتضاعف في مصر وتتكاثر بدرجة هائلة حتى أن السجون لتخرج أكثر مما تخرج المدارس ، وأن مصر لم تستطع إلى الآن أن تجهز فرقة واحدة في الجيش كاملة المعدات ، وأن هذه المعاني والصور تتراءى في كل بلد من بلدان العالم الإسلامي ، فمن أهدافكم أن تعملوا لإصلاح التعليم ومحاربة الفقر والجهل والمرض والجريمة وتكوين مجتمع نموذجي أن ينتسب إلى شريعة الإسلام.(2)
ويقول أيضا تحت عنوان : (بين الشئون الداخلية والشئون الخارجية ) : " أيها الإخوة الفضلاء...قبيل هذا الاجتماع تقدم إلى بعض الغيورين بمذكرات فى الإصلاح الداخلى، وطلب إلى المركز العام فى نهايتها أن يكون من موضوعات المؤتمر بحوث فى الإصلاح الذى نحتاج إليه أشد الاحتياج، فنحن فى حاجة إلى علاج مشاكل التعليم والاقتصاد والأسرة، ومستوى المعيشة بين الفلاحين والعمال وغيرهم من طبقات الأمة، والنظر فى شئون الزراعة والصناعة والتجارة والنقل والثروات المختلفة، والاهتمام الكبير بمشكلة الأخلاق التى تأثرت إلى أكبر حد بهذه الموبقات الفاشية، والأوضاع الفاسدة، والعوامل الكثيرة المحيطة. إلى غير ذلك من وجوه الإصلاح الداخلى.
ونحن لن نغفل أبدًا قيمة هذا الإصلاح، ولا شدة الحاجة إليه، ولا ضرورة وضع المناهج المفصلة الدقيقة فى كل نواحيه. لن نغفل أبدًا هذه المعانى ولن نهملها، ولقد تناولها نظام الإخوان الأساسى فأشار إلى أهميتها، وجعلها غرضًا أساسيًّا مستقلاً من أغراضهم، كما وضعت رسالة المنهج منذ سبع سنوات أو تزيد فى هذه الناحية، وسيضاعف الإخوان اهتمامهم بهذه المعانى فى القريب إن شاء الله.
ولكن الأمة - كما قلت سابقًا- أمام فرصة سانحة ووقت محدود إن أفلت ومضى فلن يعود، وهو وقت التفكير والعمل لتقرير مصير الشعوب وأوضاع الأمم، والاعتراف بما لها من حقوق، وتحديد ما عليها من واجبات.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فنحن لا يستقيم لنا وضع ولن ينصلح لنا حال ولن تنفذ لنا خطة إصلاح فى الداخل ما لم نتحرر من هذا القيد الثقيل العاتى قيد التدخل الأجنبى.
وما لم نحصل على استقلالنا الحقيقى فإن هذا الاستقلال الناقص الذى يفتح أبواب التدخل الأجنبى على مصاريعها لكل من أراد أن يقضى على كل مشروع نافع، ويحول دون تنفيذ كل فكرة صالحة، ويسد عليها كل منافذ الخير، إن أردناه فلابد من أن تتكاتف الجهود على تحطيم هذا القيد حتى نعمل لإصلاح شئوننا الداخلية فى حرية كاملة، ومن قرأ تقرير الغرفة التجارية الإنجليزية يعلم ماذا يراد بنا فى الناحية الاقتصادية، وإلى أى حد يحول هذا التدخل دون كل إصلاح منشود، ويقضى على كل عمل نافع فى مهده، فلنجاهد فى سبيل الحرية -أيها الإخوة- فهى وحدها أساس كل إصلاح.
وإن القيود الاقتصادية التى قبلناها إبان الحرب مساهمة منا فى المجهود الحربى، إلى جانب التساهل العجيب من الحكومات المتعاقبة الذى بلغ حد الغفلة والإهمال قد أضر بنا ضررًا بليغًا، وكان عن نتيجة السماح للبنك الأهلى بإصدار أوراق لا رصيد لها من الذهب أن صار الجنيه المصرى لا يساوى ريالاً واحدًا، وأن صار العامل المصرى الذى يقضى يومه عاملاً مجاهدًا كادحًا فى سبيل الحصول على عشرين قرشًا مثلاً لا يحصل فى الحقيقة إلا على ثلاثة قروش أو أربعة وهى ما تساويه هذه العشرين عمليًّا، وأن الفلاح الذى يكافح عامه ثم يبيع حاصلاته لا يحصل فى الحقيقة إلا على خمس القيمة أو سدسها.
فنحن فى ضائقة اقتصادية لا حد لها، وإذا أضيف إلى هذا ما يراد بنا من تقييد الإيراد والتصدير، وخنق حرية التجارة والصناعة، وغزو البلاد بالمهاجرين من كل جنس، رأينا أنفسنا أمام كارثة محققة تهدد كياننا الاقتصادى، أعنى: تهدد حياتنا فى الصميم، ومن الواجب أن نفكر فى علاج هذه المشكلة علاجًا حاسمًا، وأن تعيننا بريطانيا على هذا العلاج؛ إذ إنها كانت السبب المباشر لهذا الوضع.
وإن دعوتنا إلى تقوية الوحدة العربية، وتحرير الشعوب الإسلامية، أمر تفرضه علينا مصلحتنا الوطنية ورابطتنا القومية، كما يفرضه كذلك الشعور الإنسانى الذى يجب أن يؤمن به كل إنسان فى هذا الوجود، ويفرضه الإسلام ويحتمه ويدعو إليه.
أبان لكم الخطباء كل هذا وطمأنوكم بعد ذلك على أن هذا الوعى الروحى الوطنى - وقد نما وازدهر، وبدا قويًّا رائعًا فى نمو فكرة الإخوان المسلمين وازدهارها- لم يعد يخشى عليه بإذن الله، والله غالب على أمره."(3)
ثالثا: الإخوان ليسوا أداة بأيدى الحكومات
لقد استعصت دعوة الإخوان على أصحاب كل المنافع والمصالح أن يستميلوها لصالحهم ظنا منهم أن الإخوان يهدفون إلى منافع دنيوية يمكن أن يشتروا بالمال والمناصب ، لكنهم لم يعرفوا أن الذى يبيع نفسه لله لا يبيعها لمخلوق ، ومن يطلب الجنة لا يتهم بزخارف الدنيا .
وتحت عنوان ( نحن والسياسة ) يقول الإمام البنا :
- " أما أنا سياسيون حزبيون نناصر حزبا ونناهض آخر، فلسنا كذلك ولن نكونه ، ولا يستطيع أحد أن يأتي على هذا بدليل أو شبه دليل."(4)
وهذا الكلام قاطع ومن ثوابت الإخوان أنهم لم يعملون يوما ما لحساب حزب أو حكومة ، أو يناصرون هذا لمصلحة شخصية ، ويعادون ذاك طمعا فى مغنم هم منه براء ، يقول الإمام البنا :
- "... ليس أعمق في الخطأ من ظن بعض الناس أن الإخوان المسلمين كانوا في أي عهد من عهود دعوتهم مطية لحكومة من الحكومات , أو منفذين لغاية غير غايتهم أوعاملين على منهاج غير منهاجهم , فليعلم ذلك من لم يكن يعلمه من الإخوان ومن غير الإخوان " .(5).
وفى رسالة (رسالة المؤتمر السادس) يقول الإمام البنا تحت عنوان(كلمة حــق):" نحب بعد هذا أن نقول كلمة صريحة لأولئك الذين لا زالوا يظنون أن الإخوان يعملون لحساب شخص أو جماعة : اتقوا الله أيها الناس ، ولا تقولون ما لا تعملون .
واذكروا قول الله تعالي : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58) ، وقول رسول الله : (وإن أبغضكم إلىّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبرءاء العيب) ، وليعلموا تماماً أن اليوم الذي يكون فيه الإخوان المسلمون مطية لغيرهم أو أداة لمنهاج لا يتصل بمنهاجهم لم يخلق بعد .
و أذكر أنني كتبت في إحدى المناسبات خطاباً لأحد الباشوات جاء في آخره :
والإخوان المسلمون يا رفعة الباشا لا يُقادون برغبة ولا برهبة ، ولا يخشون أحداً إلا الله ، ولا يغريهم جاه ولا منصب ، ولا يطمعون في منفعة ولا مال ، ولا تعلق نفوسهم بعرض من أعراض هذه الحياة الفانية ، ولكنهم يبتغون رضوان الله ويرجون ثواب الآخرة ، ويتمثلون في كل خطواتهم قول الله تبارك وتعالي : ( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (الذريات:50)
فهم يفرون من كل الغايات والمطامع إلى غاية واحدة ومقصد واحد هو رضوان الله ، وهم لهذا لا يشتغلون في منهاج غير منهاجهم ولا يصلحون لدعوة غير دعوتهم ، ولا يصطبغون بلون غير الإسلام : " صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً" (البقرة:138) ...
فمن حاول أن يخدعهم خدع ، ومن أراد أن يستغلهم خسر ، ومن طمع في تسخيرهم لهواه أخفق ... ومن أخلص معهم في غايتهم ووافقهم على متن طريقهم سعد بهم وسعدوا به ، ورأى فيهم الجنود البسلاء والإخوة الأوفياء ، يفدونه بأرواحهم ويحوطونه بقلوبهم وجهودهم ، ويرون له بعد ذلك الفضل عليهم.....
أكتب لكم هذا يا رفعة الباشا لا رجاء معونة مادية لجماعة الإخوان المسلمين ولا رغبة في مساعدة نفعية لأحد أعضائها العاملين ، ولكن لأدعوكم إلى صف هؤلاءالإخوان بعد دراستهم دراسة جدية صحيحة تقنعكم بمنهاجهم وتنتج تعاونكم معهم في إصلاح المجتمع المصري على أساس متين من الخلق الإسلامي وتعاليم الإسلام.. و ( للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ , بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (الروم:4-5) .
بمثل هذا الأسلوب نخاطب الناس , ونكتب لرفعة النحاس باشا و محمد محمود باشا وعلي ماهر باشا و حسين سري باشا , وغيرهم مما نريد أن نعذر إلى الله بإبلاغهم الدعوة وتوجيههم إلى ما نعتقد أن فيه الخير والصواب لهم وللناس ..
أفيقال بعد هذا أن الإخوان المسلمين يعملون لحساب شخص أو هيئة كبر ذلك أم صغر قل أم كثر .. (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) (النور:12) . ومعاذ الله أن نكون في يوم من الأيام لغير الإسلام وتعاليم الإسلام .(6)
ولعل الشائعات التى يثيرها المغرضون حول الإخوان بأنهم يوالون هذا ويناوؤن ذاك كانت منتشرة بين أصحاب المصالح من خصوم الإخوان فى عهد الإمام البنا ، نظرا لأنهم يرون الإخوان من خلال فكرهم النفعى أنه لا يوجد أحد يضحى ويعمل ما يعمله الإخوان من أجل منفعة دنيوية ، ومما يؤكد ذلك أن الإمام البنا أكثر عن الحديث عن هذه النقطة فى أكثر من مكان وزمان .
يقول الإمام البنا
- " ويخطىء من يظن أن الإخوان المسلمين يعملون لحساب هيئة من الهيئات أو يعتمدون على جماعة من الجماعات. فالإخوان المسلمون يعملون لغايتهم على هدى من ربهم، وهي الإسلام وابناؤه في كل زمان ومكان، وينفقون مما رزقهم الله ابتغاء مرضاته، ويفخرون بأنهم إلى الآن لم يمدوا يدهم إلى أحد ولم يستعينوا بفرد ولا هيئة ولا جماعة".( 7)
رابعا : تشجيع الحكومات فى بدايتها وعدم اتهام النوايا
إن من يتقدم للحكم إنما يتولى مهمة صعبة لا يمكن أن يقوم بها منفردا ولديه أعباء ثقلية ، بل لابد أن يجد من يعينه ويقوى ظهره ويشجعه حتى يستطيع القيام بأعباء الحكم ومصالح الشعب ، لذلك فالإخوان يشفقون على من يتقدم لتولى هذا الأمر، فهى ليست ترفا ، لكنها مسئولية ، لذلك فإن من يتولى الحكم فإن الإخوان يشجعونه ويعطونه الفرصة للقيام بمهامه الثقلية التى تحتاج إلى تكاتف الجهود .
ومن هنا إن الإخوان اتخذوا منهجا ثابتا من الحكومات فى بدايتها ألا وهو التشجيع وعدم اتهام النوايا ، خاصة وأن كل حكومة تبدأ عملها بخطة وبرنامج إصلاحى لقضايا الوطن والمواطنين ، فالحكم على أى حكومة يحتاج وقت لتقوم بعملها ، فإذا ثبت فشلها وعجزها عن القيام بما التزمت به وبدا عجزها أو فسادها ، فلا يمكن للإخوان أن يؤيدوا حكومة عاجزة عن القيام بمهامها التى التزمت به ، أويؤيدوا حكومة فاسدة تعبث بمصالح الشعب وقضاياه .
وقد يظن من لا يعرف الإخوان أنه يجب على الإخوان أن يسيروا فى طريق واحد فى سياستهم مع الحكومات ألا وهو : التأييد المطلق أوالمعارضة المطلقة . لذا سوف نجد هذه الإشكالية تثير تساؤلات عند من لا يفقهون فى السياسة ،لماذا أيد الإخوان فى بدايتها ثم عارضوها بعد ذلك ؟ ويعتبرون ذلك تناقضا فى المواقف ، فالحكم على أى حكومة يكون تبعا لمواقفها لا لأشخاصها ، ولا يمكن الحكم على أى حكومة قبل أن تقوم بأعمالها ، فهذا رجم بالغيب واتهام للنوايا لا يتفق مع دعوة الإخوان .
يقول الإمام البنا :
- " بعدما وضحنا ما يجب أن يسود الأمة في نهضتها الجديدة من شعور روحي ، نحب أن نعرض ختاما لبعض هذه المظاهر والآثار العملية التي يجب أن يمليها هذا الشعور, وسنذكر هنا رؤوس موضوعات فقط .
ونحن نعلم تمام العلم أن كل مطلب من هذه المطالب يحتاج إلى بحث فسيح واسع دقيق تتوافر فيه جهود الأخصائيين وكفايتهم , كما أننا نعلم أننا لم نستقص بعد كل حاجيات الأمة ومطالبها ومظاهر النهضة جميعا , ولسنا نعتقد أن تحقيق هذه المطالب من الهنات الهينات بحيث يتم في عشية أو ضحاها.
كما أننا نعلم أن كثيرا منها أمامه من العقبات المتشعبة ما يحتاج إلى طول الأناة وعظيم الحكمة وماضي العزيمة , كل ذلك نعلمه ونقدره , ونعلم إلى جانبه أنه إذا صدق العزم وضح السبيل , وان الأمة القوية الإرادة إذا أخذت في سبيل الخير فهي لا بد واصلة إلى ما تريد إن شاء الله تعالى.(8)
خامسا : تقديم النصائح للحكومات
وعندما يرى الإخوان من الحكومات تباطؤ أو ميلا عن الصواب ،فإن الإخوان كفصيل شعبى يقدمون لها النصح ، وهذه المرحلة الثانية فى موقف الإخوان تجاه الحكومات ، يقول الإمام البنا تحت عنوان (نحن والحكومات) :" فأما موقفنا من الحكومات المصرية على اختلاف ألوانها ، فهو موقف الناصح الشفيق , الذي يتمنى لها السداد والتوفيق , وأن يصلح الله بها الفساد , وإن كانت التجارب الكثيرة كلها تقنعنا بأننا في واد وهي في واد , ويا ويح الشجيّ من الخليّ.
لقد رسمنا للحكومات المصرية المتعاقبة كثيرا من مناهج الإصلاح , وتقدمنا لكثير منها بمذكرات إضافية في كثير من الشؤون التي تمس صميم الحياة المصرية ..لقد لفتنا نظرها إلى وجوب العناية بإصلاح الأداة الحكومية نفسها باختيار الرجال وتركيز الأعمال وتبسيط الإجراءات ومراعاة الكفايات و القضاء على الاستثناءات ..
وإلى إصلاح منابع الثقافة العامة بإعادة النظر في سياسة التعليم ومراقبة الصحف والكتب والسينما والمسارح والإذاعة , واستدراك نواحي النقص فيها وتوجيهها الوجهة الصالحة.وإصلاح القانون باستمداده من شرائع الإسلام ، ومحاربة المنكر ومقاومة الإثم بالحدود وبالعقوبات الزاجرة الرادعة ..
وتوجيه الشعب وجهة صالحة بشغله بالنافع من الأعمال في أوقات الفراغ.فماذا أفاد كل ذلك؟ .. لا شيء ولقد قامت وزارة الشؤون الاجتماعية لسد هذا الفراغ ، فماذا فعلت وقد مضى عليها أكثر من عام ونصف عام ؟
ماذا أنجزت من الأعمال ؟ .. لا شيء , وستظل "لا شيء" هي الجواب لكل المقترحات مادمنا لا نجد الشجاعة الكافية للخروج من سجن التقليد والثورة على هذا الروتين العتيق , وما دمنا لم نحدد المنهاج ولم نتخير لإنفاذه الأكفاء من الرجال , ومع هذا فسنظل في موقف الناصحين يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين." ( 9)
ترى هل يستمر الإخوان فى تأييد الحكومة التى أيدوها بعدما ثبت فشلها وعجزها ؟، إنهم عندما يفعلون ذلك يكونون محابين لها على حساب الحق. وهل يصبحون أمناء فى مواقفهم إن فعلوا ذلك ؟ أم أنهم يمارسون حقهم فى التعبير عن رأيهم واعتراضهم على مواقف الحكومة ، وعند ذلك يتهمون بالتناقض فى المواقف ؟.
وهذا مبدأ عام فى موقف الحكومات من أى حكومة التشجيع على القيام بمهامها عند توليها وعدم الرجم بالغيب واتهام النوايا ، فإذا عجزت عن القيام باختصاصاتها ، فإن الإخوان لا يمكن أن يؤيدوا حكومة عاجزة عن القيام بقضايا الوطن ومصالح المواطنين حتى لو كانوا أيدوها من قبل .
سادسا : المراجع
- مجلة النذير،العدد (36 )السنة الثانية ، 17 من رمضان 1358هـ 31 أكتوبر 1939 ، ص (3ـ 18)
- رسالة نحو النور ، بعض خطوات الإصلاح العملى ، طبعة البصائر ، ص 175ـ 180.
- رسالة بين الأمس واليوم ، طبعة البصائر ، ص 526 .
- رسالة المؤتمر الشعبي .
- رسالة المؤتمر السادس ص 447.
- رسالة المؤتمر الخامس ، الإخوان المسلمون والحكم ص 354 ـ 355.
- رسالة المؤتمر السادس ص450.
- رسالة الإمام حسن البنا إلى الشباب ص 427
- رسالة نحو النور 158.
- رسالة المؤتمر السادس ص 447.