الذين يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا
توجيه رباني
كان من ركائز التوجيه الرباني لهذه الأمة أن تتحلى بالصدق في أقوالها وأعمالها ومنهج حياتها.
وحذّرها أشد التحذير من (التزوير) بكل صوره وألوانه.
وكان من أخطر ألوان هذا التزوير تزوير العلماء،وتقصيرهم في بيان أحكام الله كاملة تامة،أو تحريف الفتاوى والأحكام بما يرضي الظالمين،وإلباس هذا التحريف والتزوير الصورة الشرعية،حتى يخدعوا الناس بفتاواهم وأقوالهم!
وقد ذكر القرآن الكريم من رذائل علماء بني إسرائيل خيانتهم لعهد الله وميثاقه،وكتمانهم لأحكام الله، حرصاً على هبات الظالمين وأموالهم، فقال تعالى: {وإذْ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننّه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون.لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم.ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير} [آل عمران: 187-189].
قال صاحب "الكشاف" في تفسيرها:
- "وكفى به دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس،وألا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة،وتطييب لنفوسهم،واستجلاب لمسارهم،أو لجر منفعة وحطام دنيا،أو لتقية،أو لبخل بالعلم،وغيره من أن ينسب إلى غيرهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كتم علماً عن أهله؛ ألجمه الله بلجام من نار.
وعن علي رضي الله عنه قال: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا؛ حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلِّموا".
ثم حكى سبحانه رذيلة أخرى من رذائل أهل الكتاب المتعددة؛وهي أنهم يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، ويفرحون بما أتوا،وبيّن سوء عاقبتهم بقوله: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم}.
وهذه الآية شاملة لأصحاب المنابر الدينية والسياسية والأدبية والاقتصادية والإعلامية الذين يرفعون الشعارات الخادعة،وتجد في برامجهم الانتخابية أو خطبهم السياسية أو بياناتهم ما يزيّنون به صورتهم؛ حتى إذا تسلموا سدة الحكم أو فازوا بمقاعد النيابة تناسوا ما وعدوا به وحَكَمَتْهم مصالحهم وأهواؤهم.
لو يعلم مدير الشركة الذي يملأ الصحف بالإعلانات المرغِّبة بإنتاج شركته أو مصنعه ثم لا تكون هذه المنتجات موافقة للمواصفات التي أعلنها أنه مشمول بنذير هذه الآية،وأنه أحب أن يُحمد بما لم يفعل!
ولو يعلم النائب الذي أعلن برنامجه الانتخابي ثم لم يلتزم به بعد نجاحه،ولو يعلم رئيس الحكومة أو الوزير أو مدير المؤسسة الذي أعلن بيان حكومته وطلب الثقة من النواب ومن الناس على أساسها،ثم لم يلتزم بالبيان الذي أعلن واستحمد للناس أنه عازم على خدمة قضاياهم وإقامة العدل فيهم ثم بعد الحصول على الثقة شُغل بأمور أخرى وربما سعى في إصدار القوانين التي تضر بمصالح الناس،أنهم مشمولون بنذير هذه الآية!
إن القَسَم الذي يؤديه النائب أو العين أوالرئيس أوالوزير أو الأستاذ في الجامعةأوالمسؤول في مؤسسة، هو عهد وميثاق وإعلان أنه ملتزم بما أقسم عليه،وقائم بمسؤوليات وزارته أو نيابته أو وظيفته، منتظر النجاح والوفاءوالحمد على قيامه بأعماله خير قيام.
فإذا خان الأمانة واستجاب لضغوط الظالمين،وآثر هواه ودنياه على المصلحة العامة،وما يتطلبه الدين والوطن من إقامة للعدل والمساواة ونصرة للضعيف، فإنه مشمول بنذير هذه الآية، يصدق فيه قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم}، وقوله تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77].
فتاوي للظالمين باسم الدين
وما أصدق هذه الآية على العلماء وأهل الفتوى الذين يطلب منهم الظالمون والمستغربون فتاوى وبيانات باسم الدين، تحل ما حرم الله،أو تسهل للظالمين طغيانهم،فيتسابقون لإصدار الفتاوى السلطانية،ويُلبسون مطالب الظالمين ثياب الشرع زوراً وخداعاً،ويظهرون أمام الناس بأنهم حماة الدين الحريصون على مصلحة الأمة وهم يهدمون ويفسدون ويزينون للناس الربا باسم الفائدة للإنتاج،أو التبرج وإظهار المفاتن باسم مجاراة العصر،والتنازل عن أرض فلسطين،أو مقاومة المحتلين باسم المصلحة!!
أو تراهم يرتقون المنابر ويدّعون أنهم حماة المنبر ودعاة الإسلام،ثم يجبنون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان هذا يكدّر مزاج الظالمين،فلا يتحدثون عن الجهاد والمقاومة،وتحريم التعاون مع العدو الذي احتل أرضنا في فلسطين وفي العراق، وأقام قواعده في بلاد المسلمين التي قال فيها النبي : "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان".
ولا يتحدثون عن حق الأمة في ثرواتها المعدنية والبترولية،وحق الشعب والعلماء في مساءلة الحكام ومحاسبتهم إن قصّروا وأساؤوا وفرّطوا،ولا يتحدثون عن مسؤولية الأمة في الغضب لشريعة الله والعمل لإقامة أحكام الهو وأن يتدبروا أحوال الأمم القوية،وأن الحكام الذين تحاسبهم شعوبهم في أمريكا وبريطانيا على جرائمهم التي ارتكبوها في بلادنا،كان أولى بنا أن نحاسب حكامنا عما قدموه لهؤلاء المحتلين من خدمات وتسهيلات لاحتلال أرض المسلمين والتنكيل بالمسلمين قتلاً وتشريداً وإبادة.
فالحاكم مسؤول عن حماية الدين والأمة والوطن، والعلماء ورثة الأنبياء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فإذا لم يقم هؤلاء وهؤلاء بوظيفتهم وأمانتهم كانوا مشمولين بنذير هذه الآية، وبالقول المأثور: صنفان إن صلحا صلح الناس، وإن فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء.
وقفة تحليلية للآية القرآنية
وقفة تحليلية لبعض معاني الآية الكريمة {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه}:
- إن الله تعالى يذكر لنا من قصص أهل الكتاب لنتعظ ونعتبر، وحتى لا نقع فيما وقعوا به من أخطاء وتقصير؛ فيصيبنا ما أصابهم من بلاء وهلاك.
- والميثاق هو العهد الموثق المؤكد.وقد أخذ سبحانه العهد على الذين أوتوا الكتاب بأمرين: أولهما: بيان ما في الكتاب من أحكام وأخبار.وثانيهما: عدم كتمان شيء مما في هذا الكتاب.
- والضمير في قوله {لتبيننه} يعود إلى الكتاب المشتمل على الأحكام والشرائع والأخبار والبشارات الخاصة بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
- وقوله {ولا تكتمونه} عطف على {لتبيننه}،ولم يؤكد بالنون لكونه منفيّاً.وجمع سبحانه بين أمرهم المؤكد بالبيان وبين نهيهم عن الكتمان؛مبالغة في إيجاب ما أمروا به حتى لا يقصروا في إظهار ما في الكتاب من أحكام،وحتى لا يلجأوا إلى كتمان هذه الأحكام والشرائع والبشارات أو تحريفها.
- ولكن أهل الكتاب ولا سيما العلماء منهم نقضوا عهودهم مع الله تعالى.وقد ذكر الله ذلك بقوله: {فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون}.والنبذ:الطرح والترك والإهمال، والتعبير عنهم بقوله: {فنبذوه وراء ظهورهم} كناية عن استهانتهم بالمنبوذ، وإعراضهم عنه بالكلية،وإهمالهم له إهمالاً تامّاً؛لأن من شأن المنبوذ أن يُهمل ويُترك،كما أن من شأن الكتاب الذي هو محل اهتمام أن يُحرس ويُجعل نصب العين.والضمير في قوله {فنبذوه} يعود على الميثاق،ويصح أن يعود على الكتاب.والمراد بـ(الثمن القليل) ما أخذوه من أموال ومتاع دنيوي،ورتب ورواتب وامتيازات،مقابل مجاراتهم للظالمين،وإصدار الفتاوى التي تخدم باطلهم أو لا تكدر خواطرهم؛ليبقى الشعب خاضعاً خانعاً للمستبدين الذين يعيثون في الأرض فساداً،وفي مال الأمة نهباً وسرقة،وإرضاءً للشهوات والأهواء الباطلة.وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصِّصة للنكرات،بل هو من الأوصاف للازمة للثمن المحصّل في مقابل نبذهم لكتاب الله وعهوده؛إذ لا يكون هذا الثمن المحصل إلا قليلاً،وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا بجانب رضى الله تعالى.وقوله: {فبئس ما يشترون}؛ أي: بئس شيئاً يشترون ذلك الثمن.وقال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة: "هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب، الذين أخذ عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينوّهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهْبَة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك... فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم.وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ولا يكتموا منه شيئاً".
- ثم حكى سبحانه رذيلة أخرى من رذائل أهل الكتاب المتعددة؛ وهي أنهم يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، ويفرحون بما أتوا، وبيّن سوء عاقبتهم بسبب تلك الأخلاق القبيحة فقال: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم}.
- والخطاب في قوله تعالى: {لا تحسبن}، موجَّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم،أو لكل من يصلح له الخطاب.والنهي موجه إلى حسبان أن يكون في هؤلاء الأشرار خير؛ أي إن الله تعالى ينهى نبيه صلى الله عليه وسلم نهياً مؤكداً عن أن يظن خيراً في هؤلاء الذين يفرحون بما أتوا من خداع وتضليل ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.والمفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز؛ أي: لا تحسبن هؤلاء الأشرار {بمفازة من العذاب} أي بمنجاة منه، بل لهم عذاب مؤلم أشد الإيلام بسبب ما اجترحوه من سيئات، وقد أكد سبحانه عدم نجاتهم بقوله: {ولهم عذاب أليم}.فنفى أولاً أنهم بمنجاة منه،وأخبر ثانياً أنهم واقعون فيه.
- هذا وقد ذكر كثير من العلماء أن هذه الآية الكريمة نزلت في شأن أحبار اليهود.فقد روى الشيخان والترمذي والنسائي أن مروان قال لبوابه رافع: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يُحمد بما لم يفعل؛ لنعذبنَّ جميعاً.فقال ابن عباس: ما لكم وهذه، إنما نزلت هذه في أهل الكتاب.ثم تلا ابن عباس: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} إلى قوله: {ولهم عذاب أليم}.وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره،ثم خرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه،واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه.
- وذكر بعض العلماء أن هذه الآية نزلت في شأن المنافقين،فقد روى البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلَّفوا عنه،فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم،فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت: {لا تحسبن الذين يفرحون...}.
- قال العلماء:ولا منافاة بين الروايتين؛ لأن الآية عامة في جميع ما ذكر،وهي توجيه رباني للأمة التي اختارها الله لحفظ رسالته وتبليغ دينه وإقامة شرعه؛أن يتحلى أبناؤها بالصدق،وأن يتطهروا من التزوير والتضليل،وشراء ثقة الناس بالدعاوى الفارغة والأساليب الخادعة؛فالصدق صفة العالم والسياسي والحاكم والنائب ورجل الاقتصاد ورجال الأعمال.والذين يحمدوا بما لم يفعلوا هم الذين يقودون أمتهم وأنفسهم للهلاك في الدنيا والآخرة.. نسأله تعالى أن يطهِّر قلوبنا،ويزكِّي أعمالنا،ويخلص سرائرنا، إنه سميع مجيب.
المصدر
- مقال:الذين يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا موقع الفرقان