الدكتور توفيق الشاوي.. رجل من طراز فريد
رحل إلى جوار ربه يوم الأربعاء الماضي العالم الجليل الدكتور توفيق الشاوي عن عمر يناهز 91 عاماً قضاها مجاهداً في سبيل أفكاره ومعتقداته، منجزاً الكثير من الأدوار في عطاء مفتوح بلا مَنٍّ ولا سلوى، حيث لم تلِن له قناة، ولم ينكسر له عود، وهو ابن حركة الاخوان المسلمين حيث المنهج القويم للتربية. واحد وتسعون عاماً قضاها الشاوي من نجاح إلى آخر بلا كلل ولا ملل.
وُلِدَ الدكتور توفيق محمد إبراهيم الشاوي عام 1918 م بقرية الغنيمية بمركز فارسكور بدمياط، وحصل على الشهادة الابتدائية بتفوق، ثم التحق بالمدرسة الثانوية بالمنصورة، وحصل منها على الشهادة الثانوية، وكان ترتيبه الثاني على القُطر المصري، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة ، وحصل على ليسانس الحقوق بتفوق وكان ترتيبه الثاني، ليعيَّن بعد ذلك في النيابة بالمنصورة.
وعندما فُتِحَ باب البعثات في عام 1945 سافر إلى فرنسا لدراسة الدكتوراه في جامعة باريس، وحصل عليها في نهاية عام 1949 ، ليعود إلى مصر ويعيَّن مدرسًا بكلية الحقوق بجامعة القاهرة .
وقبل سفره كان قد تم تعيينه مدرسًا مساعدًا في الكلية التي حصل منها على الليسانس عام 1941 ، ثم وكيلاً للنائب العام لمدة سنتين قبل أن ينقل منها إلى الجامعة في عام 1944 .
وفي عام 1954 تم إبعاده عن الجامعة مع عدد كبير من الأساتذة، فاستدعته الحكومة المغربية للتدريس في كلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، ثم انتقل منها إلى تدريس الفقه المقارن في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، ثم أُعيد لكلية الحقوق بجامعة القاهرة في عام 1974 ، وبعد تقاعده استمر يعمل في المحاماة والاستشارات القانونية.
إلى جانب هذه المسيرة الطويلة كأستاذ جامعي فإن له دورًا كبيرًا في طريق العمل للصحوة الإسلامية في جميع أنحاء العالم العربي والإسلامي؛ ففي عام 1956 كان المغرب و تونس قد أعلنتا استقلالهما، ودعاه أصدقاؤه من الوزراء المغاربة إلى مشاركتهم في إعداد النظم والقوانين الحديثة، وعيِّن قاضيًا بالمحكمة العليا بالرباط عام 1959 ، كأستاذ بجامعة الملك محمد الخامس، ثم مستشارًا بالمجلس الأعلى لمحكمة النقض المغربية، ثم مستشارًا قانونيًّا للبرلمان المغربي.
إلى السعودية
انتقل بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية في عام 1965 ، حينما تعاقدت معه وزارة البترول كمستشارٍ قانونيٍّ لإدارة الثروة المعدنية في جدة، ثم عيَّنه الملك فيصل رحمه الله عضوًا بالمجلس الأعلى لجامعة الرياض.
وفي عام 1966 منحته المملكة العربية السعودية جنسيتها، وكذلك عُيِّن أستاذًا للقانون والفقه المقارن بكلية الاقتصاد بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، واستمر يتعاون مع الأمير محمد الفيصل في مشروعه لإنشاء مدارس المنارات وإدارتها، ابتداءً من عام 1971 والاتحاد العالمي للمدارس العربية الإسلامية الدولية الذي أنشىء تحت إشراف منظمة المؤتمر الإسلامي والحكومة السعودية عام 1976 .
وبتكليفٍ من الملك فيصل رحمه الله تعاون الشاوي مع السيد تنكو عبدالرحمن عندما كان يشغل منصب أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي في إعداد اتفاقية تأسيس البنك الإسلامي للتنمية. ثم شارك الأميرَ محمد الفيصل وأصدقاءه من دعاة الاقتصاد الإسلامي في تأسيس بنك فيصل الإسلامي بالخرطوم والقاهرة، وظل عضوًا بمجلس إدارة البنك عشر سنوات؛ مما أدى به إلى نشر ثلاثة كتب عن الاقتصاد الإسلامي في التطبيق؛ أولها كتابه عن تأسيس بنك فيصل الإسلامي ونظامه الأساسي، وثانيهما عن اقتصاد المستقبل ومحاولات إنشاء مؤسساته من عام 1960 إلى عام 1974، وأخيرًا كتابه عن بنك التنمية الإسلامي ونظامه الأساسي؛ الذي شارك في إعداده من عام 1971 إلى 1974، على أن القارىء سيجد قائمةً بكتب الثقافة العامة والفكر الإسلامي التي نشرها المؤلف، بالإضافة إلى أبحاثه القانونية التي نُشرت له في مختلف مراحل حياته العلمية والعملية.
وقد شارك مع مرشدَيْ جماعة الإخوان المسلمين عمر التلمساني و محمد حامد أبو النصر عليهما رحمة الله بإقامة الدعوى رقم 133 لسنة 32 قضاء إداري، للمطالبة بإلغاء قرار مجلس قيادة الثورة بحل الإخوان ، واستمرت الدعوى في التداول حتى عام 1992 حين قضت محكمة القضاء الإداري في 6/2/ 1992 بعدم قبول الدعوى لعدم وجود قرار إداري بحلِّ الإخوان .
ومن أهم مؤلفاته: فقه الخلافة الإسلامية وتطورها لتصبح عصبة أمم للعلامة السنهوري، الموسوعة العصرية للفقه الجنائي الإسلامي، نصف قرن من العمل الإسلامي، فقه الحكومة الإسلامية بين السنة والشيعة.
معالم في همة عالية
يقول عنه الباحث إبراهيم البيومي غانم، أحد محبيه، في مقال له على موقع «إسلام أون لاين» عندما زرته في الأيام الأخيرة قبل رحيله كان قد وهن العظم منه واشتعل الرأس شيباً وفقد القدرة على النطق، ولكنه لم يفقد القدرة على الكلام بالإشارة يأمر وينهي، يحييه أحد زواره فيرد التحية بأحسن منها على طريقته، وعيناه تبرقان كعين الصقر الواقف فوق أعالي القمم.
لسان حاله يقول: لم أنته من أداء واجبي. بقيت لي معركة أو معركتان أو أكثر. رأيته يتابع القصف الوحشي على غزة عبر شاشة التلفزيون ويرى أشلاء الضحايا من الأطفال والشيوخ وعيناه تنهمران بالدموع دون أن يقدر على النطق، وكأنه يقول «لا زلت قادراً على الجهاد، ولو بهذه الدموع، وسأنتصر، وسينتصرون»؛ كان هذا قوله الذي لم ينطقه.
من عرف العلامة الشاوي يعرف أن قاموسه ليس فيه كلمة «هزيمة»، وأن سجل أعماله ليس فيه نزول ولو مرة واحدة من فوق القمة، ولا سمح لنفسه أن تنشغل بغير عظائم الأمور وعلو الهمة.
عركته الحياة بمُـرها أكثر مما عركته بحلوها، ولكنه عركها هو أيضاً بصبر لاينفد، وقلب لايجزع، وإيمان لايتزحزح، وشجاعة لايتطرق إليها الوهن من أي باب.
عندما سجنه عبدالناصر في السجن الحربي باعتباره من قيادات جماعة الإخوان المسلمين سنة 1954 وطلب منه كتابة رسالة تأييد مقابل إطلاق سراحه، استجاب، ولكنه بدلاً من أن يكتب رسالة تأييد، كتب وهو في السجن الحربي رسالة هجومية شديدة اللهجة أنهاها بتوقيعه «توفيق الشاوي جداً»! أضاف كلمة «جداً» بعد لقبه «الشاوي» لتكشف هذه الإضافة البسيطة في مبناها، العميقة في معناها عن العملاق الذي تنطوي عليه نفسه الحرة، ولتزيح جانباً من الستار الذي كان يغطي آنذاك روحه الوثابة، وعزيمته الفولاذية الأبية.
كان أكثر الناس في ذلك الزمن ترتعد فرائصهم من سيرة السجن الحربي، ومن سجاني السجن الحربي، وكان «الشاوي» في ذلك الزمن نفسه يذكر عبدالناصر وهو في قمة مجده، وعز صولجانه، بأنه لايرفض فقط تأييده، وإنما يتوعده مستخدما معنى لقبه الذي يشير إلى القوة التي تحرق من يتصدى لها، وذلك بتوقيعه على الرسالة التي كتبها ليقول لعبدالناصر أنا «الشاوي جداً»، ولست «الشاوي» فقط.
مثال للصبر والثبات
ذاق أصناف العذاب، وتعرض لأقسى الانتهاكات التي حاولوا أن ينالوا بها من عزيمته، أو أن يحطموا معنوياته؛ حتى إن جلاديه كانوا يُـكرِهونه على تنظيف الكنيف بيده، ففعل وهو يقول لبعض إخوانه «يا صاحبي السجن كم كتبت يدي هذه مقالات وبحوثاً في القانون، وفي فلسفة العقوبات، وفي قانون الإجراءات الجنائية، وفي حقوق المعتقلين»، مشيراً إلى سلسلة مقالاته الشهيرة التي كتبها ونشرها في جريدة «المصري» (لسان حال الوفد القديم آنذاك) قبل اعتقاله، وكانت بعنوان «حقوقك إذا اعتقلت»، ونشرتها الصحيفة في خمس حلقات بتواريخ 10 و12 و14 و18 و26 من مارس سنة 1954، وهي من أنفس ما كتب دفاعاً عن حقوق الإنسان، بأسلوب أدبي/ قانوني، أو قانوني/أدبي راق، وكان زبانية التعذيب يتندرون بها عليه ويقولون له وهو كالأسد حبيس القفص «ستأخذ حقوقك كاملة يا شاوي»، ثم يأمره أحدهم بمواصلة العمل في تنظيف الكنيف بيده التي كتبت تلك المقالات!
« ألا لعنة الله على الظالمين»
ومرت السنون والأيام، وخرج الشاوي من المعتقل، ومات عبدالناصر، ومات أغلب أبناء جيله، وبقي الشاوي ليعمر طويلاً، وليبلي بلاء حسناً في سبيل أمته العربية والإسلامية سبعين عاماً متواصلات، لم يؤخذ عليه فيها يوماً أنه وقف موقفاً يجلب الندم. وفي عشرات آلاف الصفحات التي كتبها لم يخط بيمينه كلمة لايحسُـن بالحر أن يرسمها بالقلم، أو تطرح في نفس كاتبها ولو بعد حين الألم.
عاش العلامة الشاوي أكثر من تسعين عاماً؛ بحساب سجلات الحكومة، وأكثر من ذلك ببضع سنوات بحسب سجلات الحقيقة. ويبدو أن «الهمة العالية» تولد مع صاحبها، ولاتُـكتسب، أو هكذا تقول لنا سيرته ومسيرته الحافلة بجلائل الأعمال الجهادية والعلمية والتعليمية والاقتصادية والسياسية والقانونية والخيرية، داخل مصر وخارجها في عديد من بلدان العالمين العربي والإسلامي، وبخاصة في بلدان المغرب العربي الكبير.
كان الجهاد ضد الاستعمار هو المجال الأول الذي أخذ القسط الأكبر من حياة العلامة الشاوي، مقدماً نموذجاً نادراً للعالم العامل المجاهد. وفي البدء كانت فلسطين، وظلت على لسانه حتى آخر لحظة استطاع فيها أن ينطق به، وبعد أن ثقل عليه النطق كان يشير إليها بيده عندما يشاهد نشرات التلفزيون وهي تبث صور المذابح التي يرتكبها جيش العدوان الصهيوني على أبناء غزة، ودموعه تنهمر وهو مقعد على كرسيه المتحرك.
في سبيل حرية فلسطين أنفق الشاوي قسماً من جهده وبذل من أجلها جانباً من جهاده. وأسندت إليه قضيتها كمهمة أساسية له في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي، وقبل أن يسافر إلى باريس في البعثة أفهمه حسن البنا «أن قضية فلسطين ستبقى هي مهمته الأولى»؛ حيث كان الحاج أمين الحسيني المفتي الأكبر معتقلاً في فرنسا تحت الإقامة الجبرية.
وبالفعل لازمه الشاوي في باريس بدءاً من سنة 1946 ، ونجح في توثيق صلته بالإخوان إلى أن نجح في تهريبه إلى مصر بمعاونة أشخاص لم يفصح الشاوي عن أسمائهم إلى أن لقي ربه.
وكان آخر ما سمعته منه أن المقاومة هي طريق حرية فلسطين ، وستنتصر وإن طال الزمن، وستعود لأهلها حتى لو تحالفت أوروبا وأمريكا وأتباعهم في بلادنا للقضاء على المقاومة، فمآلهم إلى الفشل، ومآل المقاومة إلى النصر بإذن الله.
المصدر
- مقال:الدكتور توفيق الشاوي.. رجل من طراز فريدالنبأ