الدستور والتمثيل النسبي ولعبة الأرقام
بقلم: د.محمود خليل
تكشف المناقشات المتعلقة بتعديل عدد من مواد الدستور المصري، أن مسألة «تعديل الدستور» هي قضية نخبة (مثقفة أو مسؤولة) في الأساس، وليست قضية شعبية، وقد كانت السلطة شديدة الحرص علي ألا تكتسب المسألة أية أبعاد شعبية، من خلال عدم الاقتراب من المادة الثانية للدستور، التي تنص علي أن الإسلام الدين الرسمي للدولة،وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. فالدولة تعلم أن الاقتراب من هذا الأمر يمكن أن يسبب لها بعض المشكلات علي المستوي الشعبي، تري أنها في غني عنها في الوقت الحالي.
ومن يتابع المناقشات الدائرة حول هذه المسألة، يلاحظ أن الفئات التي يتوافر لها رموز وكوادر، معبرة عنها في صف النخبة المصرية بدأ يعلو صوتها، مطالباً بأن يشمل التعديل الدستوري تأكيداً علي حق الفئة، التي يعبرون عنها في التمثيل النسبي الجيد في الانتخابات البرلمانية.
يشهد علي ذلك تلك المطالب التي لا تنتهي بأن يرتكز النظام الانتخابي الذي يقره الدستور «المعدل» علي مفهوم التمثيل النسبي لكل من المرأة وإخواننا الأقباط، وذلك في ظل ما أفرزه نظام الانتخاب الفردي من ضعف تمثيل لهذين العنصرين داخل مجلس الشعب .
وتربط هذه النخب باستمرار بين قضية التمثيل النسبي، والعدد الذي يشكله المواطنون المنتمون إلي الفئة في النسيج المصري، فالمطالبة بالتمثيل النسبي للمرأة - علي سبيل المثال - تنطلق من حقيقة رقمية، تقول: إن النساء يشكلن نسبة تقترب من ٥٠ % من إجمالي عدد المصريين،وهذا الرقم وغيره لا خلاف عليه، كما أنه لا خلاف أيضاً علي حق هاتين الفئتين (المرأة والأقباط)، في أن يكون لهما تمثيل منطقي داخل مجلس الشعب علي وجه الخصوص، لكن يبقي أن الاستناد إلي لعبة الأرقام في الحصول علي الحقوق مسألة تستحق إعادة نظر.
خصوصاً أن درس «الحسبة الرقمية»، يعد من الدروس التي أهلكتنا بها السلطة السياسية عبر سنين طويلة، وهي تتحدث عن أعداد فرص العمل، التي وفرتها والوحدات السكنية، التي شيدتها ومليارات الجنيهات التي تمول بها التعليم وترعي من خلالها صحة المواطن والمشروعات، التي تقوم بها من أجل زيادة أعداد السائحين الوافدين إلي مصر، وغير ذلك من أرقام أدمنت الدولة الحديث عنها علي الورق فقط.
وإذا ارتضينا بالاحتكام إلي الأرقام والأعداد كأساس لتمثيل بعض فئات الشعب المصري داخل مجلس الشعب، فعلينا ألا نؤكد فقط علي ضرورة أن يؤدي نظام الانتخابات إلي التمثيل النسبي المعقول للمرأة والأقباط، بل علينا أيضاً أن نشير إلي حق العديد من الفئات الأخري - داخل المجتمع المصري - في المعاملة بالمثل.
علي سبيل المثال هناك عشرة ملايين من المرضي النفسيين (من بين أبناء الشعب المصري)، طبقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية تعترف التقارير الرسمية بنسبة الربع منهم فقط (٢.٥ مليون)، وهناك ما يقرب من عشرة ملايين عانس (من الرجال والنساء) يشكلون نسبة تزيد علي ١٣ % من تعداد المصريين، ولدينا أيضاً ما يتراوح ما بين ٢ مليون إلي ستة ملايين عاطل، طبقاً لبعض التقديرات.
وتشير بعض التقارير إلي أن هناك ما يقرب من ستة ملايين شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة في مصر، ويري البعض أن عدد أطفال الشوارع في مصر يصل إلي ٢ مليون طفل.
بالحسبة الرقمية أليس من حق كل هذه الفئات، التي يبلغ تعدادها عدة ملايين أن يكون لها تمثيل نسبي معتبر ومعقول داخل مجالسنا التشريعية، أليسوا هم الآخرون مواطنين مصريين لهم ما لغيرهم من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات؟!. إننا بهذه الطريقة نريد نظاماً انتخابياً يجعل من أعضاء مجلس الشعب ناتجاً لحاصل قسمة المرأة والأقباط والمرضي النفسيين وذوي الاحتياجات الخاصة، ومن يعانون البطالة والعوانس وأطفال الشوارع علي إجمالي عدد الشعب الطيب، الذي لن يبقي منه بعد ذلك أحد!
فهل هذا معقول ؟!. ورغم عدم منطقية هذا الطرح إلا أننا يمكن أن نقول - بين قوسين - أن المناقشات المتعلقة بتعديل النظام الانتخابي في الدستور المصري، كشفت حقيقة أن هذه الملايين من المهمشين والمسحوقين لا توجد نخب مثقفة تتبناهم وتدافع عنهم، وتحاول أن تضع مشاكلهم في دائرة الضوء وتطالب بحقهم - كغيرهم من الفئات - في التمثيل النسبي داخل مجلس الشعب وغيره من المجالس التشريعية، خصوصاً لو أقرت التعديلات الدستورية هذا المفهوم في النظام الانتخابي.
إن التقاليد السياسية الثابتة تقول أن عضو أي مجلس تشريعي يمثل المواطن داخل البلد ككل، وليس مجرد واجهة تمثيلية لأبناء دائرته أو ديانته أو وظيفته أو نوعه (رجلاً أو امرأة) أو شركائه في الهم والبلاء، إنه يحمل هموم وقضايا شعبه ويدافع عنها بنزاهة كاملة .
وقد يجادل البعض - في سياق الدفاع عن مفهوم التمثيل النسبي - بأن هذا لا يحدث في الواقع وأن العضو يمثل دائرة محددة من الانتماءات مما يفرض ضرورة أن تمثل دوائر الانتماء الأخري، وهو كلام حق، لكنني أخشي أن يخفي في طياته بعض جوانب للخطأ، فتفكيك الشعب المصري إلي سلسلة من الفئات التي يقبل القسمة عليها يصب في اتجاه تقطيع أوصالنسيج