الخطيب.. عاش رجلاً ومات رجلاً

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الخطيب.. عاش رجلاً ومات رجلاً


بقلم: د. حمزة بن علي الكتاني

في سنة 1991م ذهبت رفقة والدي الدكتور مولاي علي الكتاني- رحمه الله- لزيارة صديق عزيز عليه، هو الدكتور عبد الكريم الخطيب، دخلنا إلى مستشفى بشارع الجزائر هو مستشفى دوبوا روكبير، وفي قاعةٍ على اليسار التقيتُ برجلٍ طويل القامة، عظيم الهامة، أجلح، ملتحٍ لحيةً شمطاء، بشوش الوجه، في صرامة وجد، هو كهل في الهيئة، شاب نجِدٌ في الروح والشهامة والدعابة، يُذكِّر بعلي بن أبي طالب في ذلك، ولا غرو فهو من نسله، شريف سليماني ينحدر من قسنطينة حسبما أخبر والدي، وهو الدكتور عبد الكريم الخطيب، رحمه الله تعالى.

إن شخصية كتلك، شخصية المحارب القوي، والسياسي الجلد، والغيور على دينه في استماتة وبسالة، لا غرو أن تؤثر في شاب يافع مثلي، وكيف لا، ووالدي- رحمه الله- كان لا يذكره إلا بالمحبة والإكبار، متعلقًا به تعلقًا جعله في آخر أيامه يزوره يوميًّا، وأحيانًا صباحًا ومساءً، قائلاً: "أنا ذاهب عند حبيبي: سيدي عبد الكريم"؟!.

لم تكن شخصية الدكتور عبد الكريم الخطيب سببًا في قوة رابطة زعيم إسلامي وداعية عالمي وسياسي كبير كسيدي الوالد فحسب، ولا علاقة المصاهرة التي تجمع ابن الدكتور الخطيب عمر وشقيق الوالد محمد الزمزمي اللذين تزوجا بنتي السيد رشيد ابن القائد محمد بن عبد الكريم الخطابي شقيق الزعيم الكبير مُحمد بن عبد الكريم الخطابي فحسب، ولا علاقة والده الإمام محمد المنتصر الكتاني وعمه العلامة محمد الناصر الكتاني بالدكتور الخطيب، بل زاد على ذلك شدة الغيرة على الدين، والاهتمام بقضايا المسلمين في الداخل والخارج، حتى صارا مثالاً لحديث: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، ومنهم: "اثنان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه".

عاد الوالد الدكتور مولاي علي بن المنتصر الكتاني- رحمه الله- من المملكة العربية السعودية؛ حيث كان يشتغل مديرًا عامًّا للمؤسسة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا والتنمية IFSTAD عام 1989م، واستوطن هو وأسرته الرباط بعد غيبة عن المغرب امتدت منذ عام 1956م، واشتغل حينه في الخارج بنشر الإسلام على مستوى الأقليات في العالم غير الإسلامي، ذلك المجال الذي كان رائدًا فيه، وفي مجال إنعاش العالم الإسلامي في مجالات العلوم والتكنولوجيا التي كانت تخصصه الأصلي، وفي الداخل بالمشاريع الخيرية التي شاركه فيها جملة من نخبة المغاربة؛ على رأسهم الأستاذ المحامي سيدي محمد الحلو بارك الله في أنفاسه، وفي هذا الميدان التقى بالدكتور عبد الكريم الخطيب، وتوطدت علاقته به، خاصةً بعد إنشاء جمعية الإغاثة المغربية بالدار البيضاء بالتنسيق مع هيئة الإغاثة الإسلامية بجدة.

ثم ما لبثت أن قامت حرب الخليج الثانية عام 1991م، فكان للدكتور عبد الكريم الخطيب كما للدكتور مولاي علي الكتاني موقف رافض واضح وصريح من الاستعانة بالأمريكان من أجل غزو دولة العراق المسلمة، وشارك كلاهما في المظاهرة المليونية التي شهدتها الرباط ضد الغزو الأجنبي للعراق، والتي اشرأب لها العالم أجمع وأذاعتها كافة الإذاعات المرئية والمسموعة.

ثم ما لبثت أن اشتعلت حرب البلقان، ولقي المسلمون في البوسنة والهرسك خاصةً من الاضطهاد والتصفية العرقية ما كان وصمة عار في جبين الصليبية العنصرية، فقام والدي والدكتور الخطيب بجهود جبارة من أجل توعية الرأي العام المغربي بمخاطر تلك الحرب، وبتاريخ الإسلام في بلاد البلقان، والمخططات الصليبية التنصيرية في تلك المنطقة من العالم، وهناك ترسخت العلاقة وطيدةً ومتينةً بين الرجلين.

فقد بذلا جهودًا جبارة عن طريق حزب الحركة الشعبية الذي كان يقوده الدكتور عبد الكريم الخطيب، بعلاقاته الواسعة في الأطياف السياسية والجمعوية، واستغل الدكتور الكتاني مختلف علاقاته الخارجية جمعوية ودعوية وسياسية، إضافةً إلى جهود مجموعة من الدعاة الخيرة الذين أسسوا فيما بعد حركة التوحيد والإصلاح، وحزب العدالة والتنمية.

وكم كنت أجالس الرجلين في اجتماعاتهما التي غالبًا ما كانت في مستشفى دوبوا روكبير، فكان مجلسهما مجلس نكتة وثقافة وسياسة، ما يفتأ أن تنبثق عنه فكرة، تطبخ وتنظم وتهيكل، وهما يحتسيان فنجان قهوة أو كأس شاي، ولا مثل المؤتمر الكبير الذي أقيم بمسرح محمد الخامس حول البوسنة والهرسك، والذي حضره آلاف من المغاربة من مختلف الربوع، وكان له صدى كبير في المغرب وخارج المغرب، وجمعت فيه تبرعات كثيرة لنصرة المسلمين في البوسنة والهرسك؛ فقد قُرر ونُظَّم في جلسة واحدة على فنجان شاي في منزل الدكتور عبد الكريم الخطيب، إضافةً إلى عشرات الندوات والمهرجانات التي تمت في مختلف التراب المغربي فيما بعد.

وشاء الله أن قامت الحرب الأهلية في الجزائر بعد أن انقلب الجيش على الديمقراطية الفتية التي انبثق عنها صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فكانت بين الرجلين اجتماعات مهمة من أجل إصلاح الوضع في الجزائر، وإن أَنْسَ فلن أنسى يومًا كنت معهما في مكتب الدكتور الخطيب بالمستشفى، وإذا به يتوصل إلى مكالمة مفادها اغتيال صديقه رئيس الجزائر محمد بوضياف قبل أن تتوصل الإذاعات العالمية إلى الخبر، فتأثر- كما الوالد رحمهما الله- بذلك الخبر، واعتبراه توعرًا للقضية الجزائرية، وطريقًا نحو مزيد من سفك الدماء والأرواح.

ثم ما لبث أن اتفق الدكتور الخطيب مع قيادة التوحيد والإصلاح على إنشاء حزب إسلامي هو حزب العدالة والتنمية، وكان أعضاء التوحيد والإصلاح على علاقة وطيدة مع الدكتور مولاي علي الكتاني، وعمل منسجم وتعاون دائم فيما فيه الخير للدعوة الإسلامية بالبلاد، وبالرغم من ذلك لم يدخل الدكتور الكتاني في هذا الحزب الفتي؛ ابتعادًا منه عن السياسة، ومحبةً في أن يبقى تحت الظل، ولكنه بارك ذلك العمل، وكان كثيرًا ما يُدعى إلى حضور اجتماعات الأمانة العامة خاصة عند احتدام النقاشات، فكان- رحمه الله- صلة وصل وتفاهم بين مختلف الأطراف، وأخًا حميمًا يفيد بخبرته ودبلوماسيته وأفكاره التنظيمية والدعوية.

لقد كان الوالد الدكتور مولاي علي الكتاني- رحمه الله- أول خبير في شئون الأقليات الإسلامية في العالم، ألَّف عدة مؤلفات في الموضوع، وأسَّس عشرات الجمعيات الإسلامية في أمريكا وأوروبا وإفريقيا وآسيا وأستراليا، وفي السنين الأخيرة عند عودته إلى المغرب ركَّز جهوده على نشر الإسلام في إسبانيا (الأندلس) تلك الجهود التي لم تَرُقْ لكثيرين في الداخل والخارج، فشُنَّت عليه حرب شعواء استمرت حتى استشهاده بمنزله بقرطبة بطريقة مشبوهة، عام 2001م.

وفي تلك الفترة كان تعاون الدكتور الكتاني مع الدكتور الخطيب تعاونًا وثيقًا، فكان كثيرًا ما يصطحبه إلى قرطبة وإشبيلية وغيرهما من مدن الأندلس، فكانا يقومان بالدعوة إلى الله وتوعية الإسبان بجذورهم الإسلامية وحتمية رجوعهم إلى تلك الجذور، فكان الإسبان يتأثرون لذلك ويدخلون في دين الله أفواجًا، وكان الوالد يقيم مولدًا سنويًّا في قرية بجبال مالقة تُدعى قصر بنيرة (كاسارابونيلا)؛ كان يشاركه فيه الدكتور الخطيب بماله وجاهه، مع نخبةٍ من أصحابه؛ أذكر منهم الأستاذ بنعبد الله الوكوتي وغيره، واستمرت تلك الأنشطة سنين، أذكر أنني حضرتها مرتين عام 1993 و1994م، فكانت مثالاً للنشاط والإفادة الدعوية والسياحية والروحية والثقافية، وكثيرًا ما كان يحضر معهما نخبة من أعلام الثقافة المغربية؛

أذكر منهم الدكتور محمد زنيبر- رحمه الله- الذي توفي قبالة المنصة بقصر بنيرة عام 1994م أمام مشهد ومرأى من الناس، ليكون شهيدًا في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، كما كانت تحضر نخبة من فرق إنشاد المديح النبوي المغربية كمجموعة الحاج محمد بنيس، ومجموعة الحاج محسن نورش، ومجموعة الترابي، ومجموعة الطاوس.

وفي عام 1994م اهتم الوالد الدكتور مولاي علي الكتاني بتأسيس جامعة ابن رشد الإسلامية بقرطبة، وهي أول جامعة إسلامية بالأندلس بعد سقوط غرناطة، واحتاج فيها إلى دعم معنوي ومادي كبير، كان الدكتور عبد الكريم الخطيب رفيق دربه فيها؛ فقد أعانه بالمشورة وجمع التبرعات، واستقطاب رموز سياسية ووطنية، كالرئيس الجزائري السابق أحمد ابن بلة وغيره.

لقد أوقدت تلك الجامعة النار على مولانا الوالد في إسبانيا؛ نظرًا لعدم قبول الكنيسة واليمين المتطرف جامعة كتلك تضم مسجدًا في مدينة حساسة كقرطبة، تلك الجامعة التي كان طلبتها يصلون أحيانًا إلى ثلاثمائة طالب يدخلون نصارى ويتخرجون منها مسلمين دعاة، فكان الدكتور الخطيب خير أخ وصديق في هذا المشروع؛

يفيد بأفكاره وتجاربه واقتراحاته، ويستدعي الدعم المادي للجامعة، وكثيرًا ما كان يسافر مع الوالد إليها بالرغم من وعكاته الصحية الكثيرة التي أصبحت تصاحبه بعد ذلك، واستطاع أن يربط العلاقة بين الوالد والسيد المحجوبي أحرضان وغيره من القيادات السياسية المغربية العريقة.

كان الوالد والدكتور الخطيب- رحمهما الله- في هذه الفترة كالتوأمين، يلتقيان كل يوم، ويعيشان نفس الهم، ويناضلان في ميدانٍ واحد، فبين نشاط دءوب فيما يتعلق بجامعة ابن رشد، وفيما يتعلق بالجماعة الإسلامية في الأندلس، وفيما يتعلق باتحاد البلديات المورسكية الذي انضمت إليه في عدة أشهر نحو ثمانين بلدية أندلسية، تعاهدت على إحياء التراث والتاريخ والثقافة الأندلسية والمورسكية المتمثلة في الإسلام واللغة العربية، ولكن يد المنون ما فتئت أن اختطفت الدكتور مولاي علي الكتاني لتجهض المشروع في عنفوانه.

ومن آخر ما كان يتحدث عنه الرجلان، ويفلسفان من أجل بعثه: إنشاء ميثاق وطني تتفق عليه جميع الأحزاب المغربية متمثل في ثوابت أساسية هي: الإسلام كدين يُرجع إليه ولا تنازع فيه، والوحدة الترابية، والملكية الدستورية؛ وذلك خشية أن يتبلبل كيان المغرب بمختلف الدعاوى الهدامة من شعوبية وعلمانية ومادية كانت سببًا في حروب أهلية طويلة في بلاد المشرق.

كان والدي والدكتور عبد الكريم الخطيب مثالاً للأخوين المنسجمين، الزعيمين الجادين في العمل وخدمة الدين والوطن، وكانت تربط بينهما روابط حميمة تجعلهما يلتقيان يوميًّا حين وجود الوالد في المغرب، وكان ثالث الرجلين الأستاذ محمد خليدي بارك الله في عمره، فكان الوالد كثيرًا ما يقول: "أنا ذاهب عند الخطيب والخليدي، وآيب من عند الخطيب والخليدي"، وكان الوالد يتألم لمرض الدكتور عبد الكريم الخطيب إذا مرض، ولشكواه إذا اشتكى، وكان الحديث بينهما كثيرًا ما يتحول إلى الدعابة والنكتة التي ربما تخالجها سفاهة ما تفتأ أن تنقلب إلى ضحكاتٍ وبسط، في مجالس يحضرها أمثال بنعبد الله الوكوتي ومحمد مولاطو ومصطفى ابن عثمان ومحمد خليدي وحميد خباش وربما عبد الإله ابن كيران وعبد الله بها ومحمد يتيم..

وغيرهم، وربما استحم كلاهما في حوض سباحة، أو اتكأ الدكتور الخطيب على حجر الدكتور الكتاني أو على كتفه، وكانت كثيرًا ما تصبح الحوارات حوارات خاصة في أمور عائلية وشخصية، أو مشاكل صحية واجتماعية ما تفتأ للعودة إلى الحديث عن همومِ الأمة والصالح العام.

لقد كان منزل الدكتور عبد الكريم الخطيب- رحمه الله- كخلية النحل، وكالجامعة، وكمطبخٍ للسياسة، يؤمه مختلف الشخصيات الوطنية والعالمية، وتجري محادثات سرية وعلنية وثنائية وجماعية بينه وبين الدكتور الكتاني في مختلف القضايا الداخلية والخارجية، الإسلامية والسياسية، كنا نعدها تنفسًا من تنفسات الدهر، ومجالس يفتخر بها المغرب الحديث على غيره في مختلف مجالات المعرفة.

في يوم 10/4/2001م هتف بنا هاتف قبل الفجر بنحو نصف ساعة، ينعى لنا الوالد الدكتور مولاي علي الكتاني من قرطبة رحمه الله، كان الخبر بالنسبة لنا صدمة، ولم ندر أنه كان لها ما بعدها، وما تنفس الصباح حتى اتصلنا بالدكتور الخطيب نُخبره بتلك الفاجعة، تلك الفاجعة التي جعلت قطبًا وجبلاً كبيرًا كالدكتور عبد الكريم الخطيب يبكي لهولها، ويتحسر على فقدانه أخًا كان دائمًا يقول لنا: "إن مصابكم بمولاي عليَّ ليس أكثر من مصابي به"، فوقف بنفسه على إحضارِ جثمانه من قرطبة للرباط في خلال يوم وليلة، وشارك في تأبينه بكلماتٍ مؤثرة جدًّا تُكتب بماءٍ من ذهب على صفحاتٍ من نور، كلما قرأتها تفيض عيناي، خاصةً بعد فراقنا طودًا شامخًا كالدكتور الخطيب.. قال رحمه الله:

"ما فكرتُ يومًا من الأيام أن أقوم في هذه الليلة واقفًا على قبره أرثيه، إني كنتُ أحسبه فردًا في هذا العصر، في عصر الانحطاط قليلاً ما يجود الزمان برجلٍ مثل فقيدنا علي الكتاني".

"أخي؛ يكفيني شرفًا أني كنتُ تحسبني من أصدقائك، وكنت أحد مساعديك في بعض الأعمال الجليلة التي قمت بها، والتي هيأك الله لها".

"أخي مولاي علي؛ إنني أحسبك قطب هذا الزمان، وأحسبك أحد الرجالات الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة ليجددوا لهذه الأمة أمر دينها".

"أخي؛ لم تكن رئيس دولة، ولا حاكمًا، ولا وزيرًا، ولا سفيرًا، ولكن استطعت بقوةِ إيمانك، وبإرادتك أن تلحق دولتين من أمريكا اللاتينية هما: غويانا وسورينام بمنظمة المؤتمر الإسلامي، استطعت بقوتك وبجدك أن تضم لمنظمة العواصم الإسلامية كثيرًا من العواصم الأوروبية؛ مثل غرناطة، وإشبيلية".

"أخي؛ كل ما قمت به كان لله، ولوجه الله، فأحسب نفسي اليوم يتيمًا مثل أبنائك؛ لأنني كنت أرى فيك الرجل الشهم البطل المجاهد، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم.. إنك كنت تسعى حياتك كلها لإعلاء كلمة الله.. إنك ختمت حياتك بإنشاء الجامعة الإسلامية بقرطبة، عاصمة الخلافة الغربية، أردت بها أن تعيد لأرض الأندلس تراثها الإنساني، ودليل ذلك: أن جميع سكان قرطبة يحبونك، وأكبر دليل على ذلك: أن المجلس البلدي لقرطبة أبى إلا أن يبعث ممثلاً عنه ولو لم يكن مسلمًا".

"أخي؛ ستبقى في قلبي مثل الشعلة؛ لأنك استطعت بإيمانك وبعزيمتك أن تحصي الأقليات الإسلامية، وأن تحيي من جديد شعلة الإسلام التي كانت لا زالت في قلوب هؤلاء، ولو أنهم كانوا نسوا أنهم كانوا مسلمين، وما تركت أرضًا إلا ووضعتُ فيها من بصماتك، إلا وأنجزت بها جماعات إسلامية، وبنيت فيها مساجد لله". "أخي؛ يشهد لك التاريخ بكل ما قمت به في سبيل الله، وأرجو الله عز وجل أن يُكرمني وأن يشرفني بأن أكون في جوارك يوم البعث".

"ولا بد أن لا ننسى أن كل رجل أراد الله منه أن يكون رجلاً فعالاً وفذا، يهيئ له زوجة مؤمنة مسلمة، تساعده على أعبائه، وتصاحبه في أعماله وسفراته، ما رأيت يومًا الشريفة إلا تؤيد زوجها المرحوم في أعماله، وتصبره وتؤيده، وكنت أنا شخصيًّا كلما أصابني ملل، وأصابني يأس؛ أجد فيك المساعد والمربي والمجاهد، حتى كنت أشعر بزيادة إيماني قوة بحضورك وبكلامك".

"أخي في الله؛ إني لا أستطيع ولا أحسن الكلام، فلستُ فصيحًا، ولا شاعرًا، ولا أديبًا، ولكن يكفيني شرفًا أنني كنت من أصدقائك".

"أخي في الله؛ ختامًا أقول: سلامٌ عليك يوم وٌلدت، وسلامٌ عليك يوم توفيت، وسلامٌ عليك يوم تُبعث حيًّا...".

بهذه الكلمات المؤثرة لخَّص الدكتور الخطيب- رحمه الله- علاقته بالدكتور الكتاني، تلك العلاقة التي كنت كلما زرته إلى آخر زيارة أزوره فيها يقول لي: "لقد خسرتُ كثيرًا بوفاة مولاي علي، لقد كان بالنسبة لي أكثر من أخ، إنني أدعو له في كل يوم هو ومولاي الحسن- أخي- في صلاتي قبل الفجر".

لقد كان الدكتور الخطيب وفيًّا للوالد- رحمه الله- في حياته وبعد وفاته، فما فتئ يعمل جهودًا كبيرةً من أجل إحياء جامعة ابن رشد الإسلامية التي عمل أعداؤها المعاول من أجل إيقاف نشاطاتها، واستمر على علاقاته بالمسلمين الأندلسيين الذين كانوا يزورونه بين الفينة والأخرى، وشارك – بالرغم من انحدار صحته وكثرة وعكاته – في جميع المهرجانات التي أقيمت من أجل تأبين الدكتور الكتاني، شارك فيها بالحضور والخطابة، بل وأنفق على طباعة كتاب "مولاي علي الكتاني: رجل في أمة وأمة في رجل" من جيبه الخاص.

وإن أنسى، فلست أنسى موقفه الجبار تجاه محنة أخي الشيخ حسن الكتاني فكَّ الله أسره، الذي اعتقل بتاريخ 18/2/2003م ظلمًا وعدوانًا في قضيةٍ لا علاقةَ له بها، فآواه في بيته، ودافع عنه في مختلف المحافل، ورفع رسائل إلى جلالة الملك محمد السادس يستعطفه من أجل إطلاق سراحه، وكان يقول: "إن مولاي الحسن ابني ووالده أخي، وأنا أدعو له بالفرج في صلاتي"، وأسس "لجنة الدفاع عن المعتقل السياسي الشيخ حسن الكتاني"، بل شارك- رحمه الله- حتى في المؤتمرات الصحفية التي عقدت من أجل إطلاق سراحه، ونال بسبب ذلك من الأذى ما يجده في صحيفته يوم القيامة بإذنه تعالى، إلى غير ذلك من مواقف الوفاء والشهامة والرجولة التي تُذكِّرنا برجال السلف الصالح، من أهل عصر الصحابة فمن بعدهم.

رحمك الله يا دكتور عبد الكريم، لقد فقدنا فيك الأب الكريم، والظهر الساند، لقد نشأت رجلاً، وعشت رجلاً، على مثلك فلتبكِ الرجال، وأسأل الله تعالى أن يحشرك في زمرة الرجال: ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمْ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)﴾. (النور).

المصدر