الحلقة الثالثة الإخوان المسلمون والسلطة التشريعية
- إعداد/ إخوان ويكي
- الحلقة الثالثة
- مطالبة الإخوان بالشريعة
الشريعة الإسلامية هي ما شرعه الله لعباده المسلمين من أحكام وقواعد ونظم لإقامة الحياة العادلة وتصريف مصالح الناس وأمنهم في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات ونظم الحياة، في شعبها المختلفة لتنظيم علاقة الناس بربهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض وتحقيق سعادتهم في الدنيا والآخرة. فمن يحقق هذه الكليات أو يقترب منها فهو على شرعة الله بصرف النظر عن هويته ونوع انتمائه فالله يحاسب الناس على الأعمال والنيات، والشريعة الإسلامية ذات دلالة موسوعية تتسع لكل جهد إيجابي يبذل لعمارة الأرض ويستثمر مكنوناتها لصالح حياة الإنسان وكرامته، وتتسع لكل ما يحقق للإنسان صحته وغذاءه وأمنه واستقراره، وتتسع لكل ما يعزز تنمية آمنة وتقدم علمي نافع وارتقاء حضاري راشد.
والشريعة الإسلامية مع كل جهد بشري يبذل لبناء المجتمعات وتنظيم شؤون الناس وتصريف مصالحهم وتشجيع طموحاتهم ويحقق آمال أجيالهم، الشريعة الإسلامية لا تبخس جهود الآخرين ومهاراتهم وارتقائهم في بناء مجتمعاتهم.
وتستمد الشريعة الإسلامية أحكامها من القرآن، ومن السنة النبوية، ومن إجماع العلماء على حكم من الأحكام في عصر من العصور بعد وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم).
وتنقسم الأحكامُ التي جاءت بها الشريعة الإسلامية إلى:
1- الأحكام الاعتقادية: هي الأحكام المُتعلّقة بذات الله عزّ وجلّ وأسمائه وصفاته، والأحكام المُتعلّقة بالإيمان بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والأحكام المُتعلّقة بالإيمان بالملائكة، وبالكتب السماويّة، وباليوم الآخر، والحساب والبعث، والجنّة والنار، إلى غير ذلك من الأمور الغيبيّة.
2- الأحكام الخُلقية: هي الأحكام التي تتعلّق بتهذيب النفس وتزكيتها، والتي يتوجّب على الإنسان التحلّي بها مثل: الصدق، والأمانة، والوفاء بالعهد، والعفو، والصبر، والتواضع.
3- الأحكام العمليّة أو ما يُسمّى بعلم الفقه: هي الأحكامُ العَمليّةُ التي تُنظّم علاقة الإنسان بِربّه مثل: العبادات، والأحكام التي تُنظّم علاقة الإنسان بغيره من الأفراد والجماعات، والأحكام التي تُنظّم عَلاقة الدولة بِغيرها من الدول (1).
لقد عمل الإخوان من أجل العمل والعودة لشريعة الله بمفهومها الواسع الرحب وليس الحدود فحسب، فيقول حسن البنا:
فلا خوف إذن من منادة الإخوان المسلمين بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية، وهم يريدون بهذا النداء، أن تدرس الشريعة الإسلامية دراسة عملية واسعة تكشف عما فيها من كنوز ودرر، وأن تعتبر مصدرًا عالميًّا من مصادر التشريع الإنسانى، وأن تكون المصدر الأول للتقنين فى البلدان الإسلامية، فماذا فى هذا من الضرر بالأجانب، أو الإجحاف بمصالحهم، أو العدوان عليهم؟
وكثير من الأجانب أنفسهم كالمسيو لاهير منك سبق الإخوان إلى هذه الدعوة، وكثير من المجامع والمؤتمرات الدولية قد أقرها وزكاها، فلا موجب بعد هذا لأن تكون الدعوة إلى التشريع الإسلامى مثارًا للشبهات، أو مدعاة لخوف أو قلق، وهى شريعة العدل والرحمة (2).
ولم يكتف الإخوان بالمنادة فقط بل أرسلوا مذكرة لوزير الحقانية فى وجوب العمل بالشريعة الإسلامية جاء فيها: حضرة صاحب المعالى أحمد خشبة باشا وزير الحقانية (3)
أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تمسك بشريعته إلى يوم الدين وأرفع إليك تحية الإخوان المسلمين فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا سيدى الباشا: لست فى حاجة إلى أن أتحدث عن إسلامكم وحسن استعدادكم لمناصرة الفكرة الإسلامية المنقذة، بل التى لا منقذ للعالم كله سواها الآن، ولست فى حاجة إلى أن أتقدم إليكم بالبراهين الكثيرة، والحجج المتضافرة على أن دواء هذه الأمة فى رجوعها إلى هدى الإسلام فى كل الشئون، وأول هذه الشئون القانون فأنت بحمد الله- فيما أعتقد- مقتنع بهذه الفكرة، سمعتك تتحدث بها، وتدلل عليها وتعمل لها وأنت خارج الحكم وأنت عضو مجلس إدارة الشبان المسلمين، وأنت أمين صندوق للجنة العامة للدفاع عن فلسطين، وأنت رئيس جماعة إحياء مجد الإسلام.
والآن يا معالى الباشا وقد جاء دور العمل، وواجهنا الحقائق ودخلنا بوتقة التجارب، وأصبحت وأنت شيخ القضاة ورأس المشرعين فى مركز تستطيع منه أن تحقق ما يرجوه المسلمين جميعا، ويتمنونه ويريدون الحصول عليه مهما كلفهم ذلك من أثمان، وما كنت أنت نفسك تتمناه وترجوه وتؤمن بصلاحيته وتعتقده من وجوب تعديل القوانين، وتوحيد المحكمة المصرية حول شريعة الإسلام. الآن وقد صرت راعيا مسئولا عن الرعية فى ناحيتك ماذا أنت فاعل؟
يا سيدى الباشا: إن صدور الأمة محرجة أشد الحرج؛ لشعورها بأنها تحكم بغير كتاب الله وقانونه وشرعته، وإن الشعوب إن تعودت الصبر حينا، فإن الانفجار نتيجة طبيعية لهذا الصبر فى كثير من الأحيان، وليس يحرج النفس شىء أكثر من الاصطدام بالعقيدة الراسخة الثابتة، وإن قوانيننا الحالية تنافى الإسلام، وتصدمه وتحطمه فى نفوس المؤمنين به، وهم كل هذا الشعب، وقد تفتحت أذهان الأمة وأدركت بعد ما بينها وبين دينها فى هذه الناحية، فشعرت بالحرج الشديد إن بقيت الحال على ما هى عليه، فلا تلجئوا الناس إلى عصيان القوانين، واحتقار الشرائع والتبرم بالقضاة وبالأحكام. يا باشا: لنقف معا بين يدى الله ولنسمع معا، ألم يقل الله تبارك وتعالى:
- (1) ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء: 65]
- (2) ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ*أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[المائدة: 49-50]... فى بيان طويل مستفتح بالآيات الكريمة. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون.
- (3) ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾[النساء: 105]
هذا فى الناحية الكلية، وفى الناحية الجزئية قد بين القرآن كثيرا من الأحكام فى كثير من الشئون المدنية والجنائية والدولية والتجارية وما إليها، وأكدت الأحاديث الصحيحة كل ذلك وأيدته، وما أنزلها الله وقررها إلا ليعمل بها المسلمون، وينتهوا إلى حكمه فيها ويستمدوا منها ويطبقوا عليها، فإذا كانت قوانينا وشرائعنا والدستور نفسه مستمدة من معين غير هذا المعين مستقاة من مصادر أوروبية بحتة بلجيكية وفرنسية ورومانية، وهى فى كثير من كلياتها وجزئياتها تتناقض تناقضا صارخا مع التعاليم الإسلامية الصريحة، فكيف يكون موقف المسلم الذى يؤمن بالله وكتابه فيما إذا عرضت له قضية حكم فيها بغير ما أنزل الله وكان الحكم مناقضا لدين الله؟ وكيف يستحل القاضى هذه المخالفة؟ وكيف يستسيغها المتقاضى؟ وكيف يتحمل تبعتها شيخ القضاة ووزير العدالة والتشريع بين يدى أحكم الحاكمين؟!
أنقذونا -يا باشا- من هذا الحرج، وأخرجونا من هذه الورطة، ولا تجعلوا أعمالنا تصطدم بعقائدنا، وأنا أعرف كثيرا من الناس يفضل ضياع حقوقه: مدنية أو جنائية أو تجارية على أن يقف بين يدى قاض يحكم بغير ما أنزل الله. إن التبعية يا باشا كبيرة، ولئن كان هذا الحساب شديد فإن حساب الله أشد ومهمتنا التذكير ولا يغنى أن تتعلل بالمعاذير، فإن الله لا ينظر إلا إلى القلوب والأعمال هذا من الوجهة الروحية البحتة.
ولنأت من الوجه القانونية.
ألم يعترف كبار رجال القانون من مصريين وأجانب بأن الشريعة الإسلامية من أخصب منابع التشريع وأزكاها وأدقها وأشملها؟ ولم ننس بعد تصريح المسيو بيولا كازللى بوجوب تصحيح القواعد الفاسدة فى القانون الفرنسى المعمول به فى مصر طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، ولم ننس كذلك محاضرات المسيو لامبير، وتصريحاته الخطيرة الواضحة فى هذا الشأن، ولم ننس بعد تقارير مؤتمر لاهاى فى الإشادة بالشريعة الإسلامية وامتداح نظرياتها القانونية وغناها بالبحوث القيمة وكفايتها فى التشريع التام، وفى مصر كثير من أعلام رجال القانون يؤمنون بذلك، ويصرحون به ويودون أن يكلفو الاضطلاع بهذا العبء، وعجيب أن يكون بينهم المستشارون فى المحاكم المختلطة بله المحاكم الأهلية ومن هؤلاء محمد بك صادق فهمى رئيس محكمة المنصورة المختلطة، والأستاذ عبد الرازق بك السنهورى عميد كلية الحقوق السابق، كما أشار إلى ذلك حضرة كامل بك مرسى وعبد الفتاح بك السيد والأستاذ على بدوى من أساتذة القانون فى المحاكم وفى كلية الحقوق.
والبحث العلمى أعدل شاهد على صحة هذه النظريات، وما قال هؤلاء ما قالوا إلا بعد دراسات طويلة وبحوث عميقة خلدوا بعضها بكتاباتهم وبقى بعضها مستقرا فى نفوسهم إلى الوقت المناسب، وليس المقصود من هذا الخطاب هذه الموازنات فذلك له موضع آخر.
ولنأت إلى الأمر من وجهته العملية.
لقد عاشرتنا هذه القوانين خمسين عاما ونيفا فماذا أفادت منها الأمة إلا كثرة الجرائم، وتزايدها عاما بعد عام ويوما عن يوم، وانتشار الموبقات، وارتكاب الجنايات ذلك أنها لا تتفق مع طبيعتنا، ولا تصلح فى بيئتنا ولا تجدى فى علاج أدوائنا، ولا دليل أصدق من الواقع المشاهد، وذلك فى الوقت الذى نرى فيه البلاد الإسلامية التى أخذت بتشريع الإسلام قد استتب فيها الأمن، وتوطدت السلطة عمت السكينة، وساد احترام القانون واطمأن الناس على الدماء والأموال والأعراض، فهلا تريد مصر أن تصل إلى هذه النتيجة المرضية برجوعها إلى تعاليم الإسلام وشرائع الإسلام.
يا سيدى الباشا: الأمر واضح لا يحتاج إلى بيان، وبقيت بعض شبهات يتعلق بها الذين يقفون فى طريق الإصلاح بحسن قصد أو سوء قصد، نحب أن نناقشها فى إيجاز، وأنا معتقد أن معاليكم أعرف الناس بأن هذه الشبهات أوهى من أن تقف فى سبيل الإصلاح.
يقول هؤلاء المرتابون:
(1) إن فى مصر عناصر غير إسلامية إن حكمت بأحكام الإسلام كان ذلك متنافيا مع حرية الدين التى كفلها الدستور للمواطنين، وإن حكمت بغير أحكام الإسلام كان ذلك نوعا من الامتياز البغيض الذى حمدنا الله على التخلص منه، وإزاحة كابوسه عن الصدور. هذه الشبهة مردودة بجزئيها فإنهم إن عوملوا بتعاليم الإسلام لم يكن فى ذلك اصطدام بحرية الدين، فإن الحرية المكفولة هى حرية العقيدة وحرية العبادة والشعائر وحرية الأحوال الشخصية، أما الشئون الاجتماعية فهى حق الأمة ومظهر سيادتها فهم فيها تبع للأكثرية فإذا ارتضت أكثرية الأمة قانونا فى هذه الشئون الاجتماعية بصرف النظر عن مصدره فهو قانون للجميع، إذ أن محاربة الجريمة من حق الدولة بدليل أن الأمم الأوربية، وهى التى تفخر باحترامها للحرية، والحقوق الشخصية، وتزهو بأنها أقرت الديموقراطية، ونادت بحقوق الإنسان مع هذا هى تعامل كل نزلائها وأقليتها بحكم القوانين الموضوعة المرضية عندها بصرف النظر عن أديانهم وعقائدهم، فالإنسان فى فرنسا أو انجلترا أو فى ألمانيا أو نحوها سواء أكان نزيلا يتمتع بجنسيته الخاصة أو مواطنا يخالف الأكثرية فى الدين يحاكم بمقتضى قانون البلاد الموضوع دون نظر إلى قانون بلده أو تشريع دينه وبغير ذلك لا تتحقق سيادة الأمة، ولا يتحقق استقلالها الداخلى، هذا إن عوملوا بأحكام الإسلام وشريعته.
وإن عوملوا بحسب شرائعهم مع الاحتفاظ بحقوق الدولة كاملة معهم، فليس فى ذلك امتياز يخيف، فإن المساواة فى الأحوال الشخصية بين المسلم وغير المسلم مفقودة إلا إذا رضى غيره بذلك، ولا يقال إن إقرارنا لهؤلاء المخالفين على أحكام دينهم فى أحوالهم الشخصية امتياز ممنوح لهم يفضلون به غيرهم، بل هو خلاف خاص بهم، وأما الامتياز المؤلم فهو أن تضيع حقوق أبناء الوطن فى سبيل الأجانب وغير المسلمين بحكم الضعف والاستكانة والذلة والمهانة.
والإسلام الفسيح المرن لا يحتم علينا أى الطريقين فنحن نختار والأولى إلينا أحب وبحالنا أوجب ولأمر ما قال الله تبارك وتعالى فى صدر آيات الحكم بتنزيله ﴿فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِى ثَمَنًا قَلِيلاً﴾[المائدة: 44].
على أننا نعرف كثيرا من أفاضل رجال القانون من مواطنينا المسيحيين جهروا كثيرا بأنهم يودون لو عوملوا بأحكام الشريعة الإسلامية فى كل شىء.
(2) ويقولون كذلك إن نصوص المعاهدة تحتم علينا أن نسير فى تشريعنا على أحدث النظريات، وذلك يمنعنا من العودة إلى تشريع الإسلام، وإلا كنا خارجين على أحكام هذه النصوص، وتلك شبهة مردودة كذلك بجزئيها أيضا، فإن تعديل المعاهدة لا يعد تملصا وخروجا فى كل حال، فإذا اتفق الطرفان على التعديل فهو تتميم لهذه المعاهدة واستكمال لنقصها لا نقض لها، وليست هذه المعاهدة تنزيلا من حكيم حميد فهى عرضة للتعديل والتحوير فى كل وقت حسب ما يطرأ للطرفين من عوامل وظروف، وإلا فلماذا يحق للطرف الآخر أن يحور ويعدل فى كل وقت كما هو مشاهد ملموس. هذا من جهة ومن جهة أخرى فعلماء القانون من المسلمين أزهريين وغير أزهريين على استعداد لأن يثبتوا لكل مخالف أن تشريع الإسلام الحنيف أفضل من كل تشريع حديث يعرفونه بالدليل القاطع، والبرهان الناصع، فلا حجة لمخالف، ولا يصح أن نقف عن إصلاح شئوننا إرضاء للمكابرين الذين لا يرضون منا إلا بأن نسير وراءهم وأن نقيد خطانا بشهواتهم ورغباتهم.
(3) ويقولون كذلك إن كثيرا من هذه التشريعات لا يمكن تطبيقه عمليا، ولنأخذ مثلا (الربا) فهل نستطيع إبطاله من محاكمنا وقانوننا ونحن مرتبطون بالنظام الاقتصادى الدولى العام؟ والشبهة مردودة كذلك بما نشاهد من أحوال الدول القوية العزائم التى وضعت لنفسها نظما اقتصادية خاصة، وفرضتها على أممها وأجبرت العالم على احترامها، وكان العامل الأكبر فى ذلك صدق عزيمة حكومتها، وحسن استعداد شعوبها، فلا عقبة أمامنا فى مثل هذا إلا الوهن، وتجسيم الأمور والخوف الذى لا مبرر له، ونحن والحمد لله أمة غنية بصادراتها وكل المواد الحيوية والضرورية موفورة لدينا، ونستطيع الاستغناء إلى حد كبير عن غيرنا مع حفظ كياننا الاقتصادى لو صحت عزائمنا، ماذا فعلت إيطاليا حين وقفت أمامها بالمرصاد اثنتان وخمسون دولة فيها الدول العظمى وفرضت عليها العقوبات وحصرتها داخل ديارها؟ ألم ترغم هذه الدول على احترام مشيئتها وتقدير عزيمتها وأنفذت قرارها بدون سيف أو نار ولكن بغيرة الشعب وعزيمة الحاكمين؟ وماذا فعلت الدول لهتلر حينما أصدر أمره بعدم خروج النقد من ألمانيا بتاتا؟ هل وقف دولاب التجارة فى ألمانيا أم احترمت الشعوب الأخرى هذه الإرادة وعاملت ألمانيا على أساس المبادلة التجارية؟
لا يقال إن هاتين الدولتين قويتين ونحن ضعفاء، فليس الكلام فى حشد الجيوش وتجهيز المعدات، ولكن نتكلم فى البيع والشراء والأخذ والعطاء، وكل شعب مهما ضعف حر فى ذلك كله إن حددت وجهته، واستبانت غايته وقويت عزيمته.
إن الشعوب الأخرى يهمها أن نكون معها شرفاء فى المعاملة، ونحن نلاحظ أن كثيرا من المصارف والدائنين يرضون بالتسويات، وفيها نزول عن شىء من الحق الأساسى فى سبيل الحصول على هذا الحق، فإذا منع القانون التعامل بالربا وتشدد فى استيفاء الحقوق، كان فى ذلك الضمان الكافى للممولين الآخرين، ورضوا به واطمأنوا إليه وعاملونا على غير أساس الفوائد والربا المحرم شرعا فى كل كتاب.
ولماذا لا تكون مصر السابقة بإنقاذ العالم (من نظام الفائدة البغيض), ولماذا لا تبشر حكومة مصر بهذا المبدأ السامى الإنسانى الرحيم, ولماذا لا ترفع راية الدعوة إلى تحرير الإنسانية من رق الربا وإقناع الشعوب بوجاهة هذه الفكرة؟ كما رفعت بعض الدول الأوروبية الدعوة إلى تحرير الإنسان من رق العبودية، وأقنعت الشعوب بوجاهة نظرتها وكسبت فخر هذا الدفاع.
ولم الخوف وفيم اليأس؟ هل نعجز عن أن نقدم للإنسانية خدمة جلى ونحن الذين أنقذناها فى كثير من المواقف، وأشعلنا بين كثير من أممها شعلة العرفان والنور؟ ليس هذا من الشعر ولا من الخيال يا باشا، ولكنها حقائق سيتنبه لها العالم، ونريد أن يكون لنا شرف السبق بهذا التنبيه. ولماذا لا تكون هذه الخطوة -يا باشا- سبيلا إلى الحرية الاقتصادية، وطريقنا إلى تعويد هذا الشعب الذى طال به عهد الاعتماد على الغير أن يعتمد على نفسه وعلى موارده وأن يستغنى فى كثير من شئونه عن الناس؟ وهل هناك فرصة أثمن من هذه؟ وهل هناك عامل يساق به هذا الشعب المتمسك بدينه أقوى من الدين؟ وهل هناك إنقاذ لهذا الشعب الفقير أعظم من إنقاذه من اللصوص السرقة القساة من المرابين؟
هذا مثل أحببت أن أتقدم به لدحض هذه الشبه شبهة صعوبة تطبيق الشريعة الإسلامية، وأخرت لذلك أعقد المسائل وألصقها وأمسها بحياة الناس حتى لا يكون هناك قول للقائل ولا حجة لمعتذر.
(4) يقولون: إننا حين نطبق هذه الشرائع الإسلامية فى قطع يد السارق، ورجم الزانى وما إلى ذلك، نرجع بالأمة إلى عهد الهمجية، ونفوت عليها فرصة الانتفاع بما بلغت من رقى ومدنية، ونسلكها فى نظام الأمم المتأخرة المتبربرة. وهذا كلام لا يساوى سماعه ولا يستحق أن يرد عليه، وإنما أملاه على هؤلاء الناس تحللهم من عقدة النظم الاجتماعية، وعكوفهم على الإباحية فى كل شىء، واعتداؤهم على ما ليس لهم من أعراض وأموال، وتخوفهم من أن يكونوا الضحايا الأول لتطبيق هذه النظم الحازمة، وما كانت الجريمة فى يوم من الأيام مظهر المدنية ولا الرقى، ولا كان القانون الذى يستأصل الجريمة ويقضى عليها مهما كان من شدته قاسيا ولا رجعيا، ولكنه عين التقدم ومظهر الارتقاء الصحيح، وهى إحن قديمة وأفكار بالية عتيقة آن لها أن تنقرض وآن للمصلحين ألا يعيروها شيئا من الاهتمام بعد أن رأينا أن الفكرة العامة فى التشريع أصبحت متجهة إلى أخذ المجرمين بالحزم، واستبدال السبل الرادعة والأحكام الزاجرة بمظاهر الرخاوة القانونية التى ساعدت على انتشار الجرائم فى الأمم، وجعلت القوانين تكاد تكون عديمة الفائدة فى تهذيب الناس، وأضاعت على الشعوب كثيراً من الأموال، والجهود فى المحاكم والسجون والشرط والموظفين القضائيين بغير طائل. نحن نريد النتائج العملية ولا عبرة بزخرف القول وتزويق العبارات.
ويقولون: إن ذلك غير ممكن عملا فإن رجال الشريعة الإسلامية لا يحسنون التنسيق القانونى الواجب، ورجال القانون لا يلمون بالشريعة الإسلامية الإلمام الكامل، ومتى كان الأمر كذلك فمن يتولى إخراج القانون الإسلامى الجديد للناس فى صورة منسقة وصياغة قانونية تامة؟ وتلك شبهة واهية كذلك، والتعليق على هذه الصعوبة من أهون المسائل، والدعوى غير صحيحة على إطلاقها فإن من رجال الشريعة الإسلامية من يحسن التنسيق القانونى إلى حد كبير ومن هؤلاء الأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم بك وكيل كلية الحقوق، وإن من رجال القانون من درس كثيرا من مسائل الشريعة دراسة تامة عميقة ومن هؤلاء الأستاذ السنهورى، ونسوق ذلك على سبيل المثال، وإلا ففى رجالنا والحمد لله خير كثير، وقد اضطلع الأستاذ السنهورى وحده بكثير من هذا العبء يوم دعى لتنسيق القانون فى العراق فأحسن وأجاد.
(6) وأخيرا يرجف هؤلاء القائلون بفكرة مادية بحتة تدور حول المصالح الشخصية فيقولون: إنكم بهذا تعطلون هذا الجيش من رجال المحاكم الأهلية من قضاة ومحامين ومستشارين محترمين، وتتعصبون لرجال المحكمة الشرعية على اختلاف أعمالهم، فتعطون قوما أكثر مما يستطيعون أن يقوموا به وتحرمون الآخرين من كل شىء ذلك إلى أنكم ترون أن المحاكم الأهلية أدق نظاما، وأعظم فى الإجراءات إحكاما من سابقتها، فكيف تريدون أن تحملوا المنظم الدقيق على ما هو أقل منه فى ذلك؟ وهذه مغالطة مكشوفة فليس العلم وفقا على قوم دون آخرين، وفى وسع القاضى الأهلى والمحامى الأهلى أن يدرس أحكام الشرع الإسلامى فى بضعة شهور، والنظام فى المحاكم لا يتقيد بنصوص مواد القانون، وإنما يرجع إلى أسباب أخرى كلها تزول إذا صحت العزائم. على أننا لا نريد بهذا الإصلاح تعصبا لناحية بل نريد أن يزول هذا التفريق كله، ونقضى على هذا الانقسام فى حياة أمة تسير إلى الوحدة، ولا قوة لها إلا بالوحدة فلا محاكم أهلية ولا محاكم شرعية ولكن محكمة واحدة إسلامية مصرية على أدق النظم وأحكم الإجراءات عماد قانونها شريعة الله وحكم الإسلام.
هذه هى بعض الشبهات التى تقال، وقد رأيتم –معاليكم- أنها مردودة بالحجة مدفوعة بالبرهان، وذلك شأن كل شبهة يمليها الهوى ويراد بها الصد عن الحقائق. لم يبق بعد ذلك عذر يا باشا، ولهذا يتوجه الإخوان المسلمون إليكم بالرجاء معتقدين أنهم فى ذلك إنما يمثلون الأمة الإسلامية جميعا بهذين الطلبين.
(أولا) أن تسلموا معهم بمبدأ (وجوب العودة إلى التشريع الإسلامى وتوحيد المحكمة المصرية على أساسه الآن).
(ثانيا) أن تأمروا بإعادة تشكيل لجنة تعديل القوانين الحالية التى يرأسها الأستاذ كامل بك صدقى تشكيلا جديدا يحقق هذه الغاية بأن تسند رياستها إلى معاليكم رأسا أو إلى فضيلة شيخ الأزهر أو المفتى الأكبر، وأن تضم بين أعضائها أكبر عدد ممكن من رجالنا البارزين فى الشريعة الإسلامية من رجال القضاء الشرعى والأزهر الشريف، وفى القانون الوضعى بفروعه المختلفة ولا بأس بأن يكون من بينهم الأستاذ كامل صدقى بك.
يا معالى الباشا: إننا أمة مسلمة وقد وطدنا بالعزم على ألا نحكم بغير قانون الله، وشريعة القرآن الكريم، وتعاليم محمد مهما كلفنا ذلك من ثمن، ومهما بذلنا من تضحيات، وذلك أبسط حقوقنا كأمة لا تعدل باستقلالها فى كل مظاهره السياسية والاجتماعية شيئا، فأعينونا على الوصول إلى هذا الحق وارفعوا عنا هذا الحرج ولا تلجئوا الأمة إلى سلوك سبيل المضطرين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته (4).
وكتب البنا يقول:هل تحل الشريعة الإسلامية محل القوانين الوضعية فى البلاد الإسلامية:
يمتاز الإسلام عن غيره بأنه دين كامل تام استوعب كل شئون الناس فى معاشهم ومعادهم استيعابًا كاملاً، فهو للدنيا كما هو للآخرة، وهو قانون يتحاكم به الناس فى شئون هذه الحياة العملية، كما هو إرشاد ينظم لهم شئون حياتهم الروحية.
لا يقف الإسلام محايدًا أبدًا أمام أى شأن من شئون الناس؛ لأنه كما أراد الله أن يكون إنما نزل لعلاج مشاكلهم وإسعادهم فى كل ظروفهم، فهو يفتى فى البيع وفى الشراء وفى الرهن وفى الإجارة وفى القرض وفى السلم إلى غير ذلك مما يدخل فى حدود المسائل التى اصطلح المحدَثون على تسميتها بالحقوق المدنية، وهو يفتى كذلك فى الدماء والجروح والقصاص والحدود وغيرها مما عرف الآن بالحقوق الجنائية، وهو يفتى فى العقوبات صغيرها وكبيرها ودقيقها وجليلها، وهو يفتى فى الصلة بين الأمم وتنظيم علائق الشعوب وبيان الروابط والحقوق والواجبات بين الدول مما يسمى بالحقوق الدولية، وهو يفتى فى الاستئذان والزيارة والجلوس على قوارع الطرق وحق الجار على الجار والصديق على الصديق وأدب المجلس وأدب السلام والتحية فى اللقاء والانصراف وغير ذلك مما يسميه الناس بالآداب العامة. يفتى الإسلام فى كل هذا كما يفتى فى الوضوء والصلاة والصيام والحج والتسبيح والذكر والتوبة والاستغفار مما يقول عنه أهل هذا العصر: المسائل الروحية.
والإسلام حين يفتى فى كل هذه المسائل يضع فتواه على أقوم الأصول وأصح الأسس فى دقة متناهية وإحكام غريب، بلى إنه ليس غريبًا، أليس واضعه الحق تبارك وتعالى الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؟ وليس هذا محل الإفاضة فى تحليل ذلك فله مقام آخر.
والإسلام حين يفتى فى كل هذه المسائل ينظر إليها جميعًا على أنها كلها مسائل دينية يشملها حكم الله، الذى يجب على الناس أن ينفذوه ويعملوا به، ويعدها أجزاء منه لا تنفصل ولا تنفك عنه، وها أنت تقرأ السورة من القرآن فإذا بك تقرأ آية التوبة والاستغفار إلى جانب آية البيع والرهن إلى جانب آية الطلاق والظهار.
كنا نصلى قيام رمضان ليلة من الليالى وأخذ الإمام يقرأ بسورة البقرة، وكان مجيدًا حقًا، وكان حافظًا حقًا، وكان خاشعًا فى قراءته يورد الآيات إيراد الفاهم لها المتأثر بها، فأثر ذلك فى نفوس المأمومين جميعًا، وكانوا خلاصة من الذين يصلون لله، وبعد أن قضيت الصلاة همس فى أذنى أحدهم بخطرة من أزكى الخطرات وأنبلها وأدقها.
قال لى: ألم يلفت نظرك شىء فى هذه السورة الكريمة؟ ألست ترى أن الحق تبارك وتعالى جمع فيها قانونًا كاملاً يستوعب معظم شئون الناس الدنيوية، كما تكلم فيها عن نشأة الأمم وتربيتها وموتها وضعفها وسنة الله تبارك وتعالى فيها؟ أولست تراها كلها إلا قليلاً من الآيات الكريمة سورة عملية، وإن شئت قلت: دنيوية، أو حيوية بتعبير آخر؟ وأعجبنى من أحد الحاضرين أن أجاب على هذا الهمس الذى تسرب إليه حين تحمس الأخ الأول لجلال هذا الخاطر أعجبنى من الثانى أن أخذ يشرح سر ذلك فى لباقة واقتناع.
قال الأخ: ذلك -يا إخوانى- أرقى نظام فى تربية الأمم وترقية الشعوب أن يكون القانون الأساسى للأمة محفوظًا لكل أفرادها، فلا يستبد بها حاكم ولا يخرج عن حده، أو يقصر فى واجبه محكوم؛ إذ إن كل فرد من الأفراد بحفظه هذا القانون الأساسى يصح أن يكون قاضيًا، فهذا وضع عجيب أن يجعل الله من عبادة الناس إياه أن يستظهروا قانون التعامل بينهم ويحفظوه عن ظهر قلب، وهذا من أروع أمثل التزاوج الذى أوجده الإسلام بين الدنيا والآخرة.
بربك ألست ترى فى هذا الكلام عمقًا ودقة وكشفًا عن أسرار من أسرار التشريع الإسلامى تخبطت الأمة حين جهلتها وحلت عليها بهذا الجهل المصائب والنكبات؟
معذرة يا أخى القارئ إذا شط القلم فهو جوى لاصق بالقلب كامن فى الفؤاد تنكأه الذكرى، وتذكيه الحادثات، وأعود فأقول:
لقد رأيت أن الإسلام هكذا وضع، هو نظام شامل لكل مظاهر الحياة: دنياها وآخرتها، عمليها وروحيها، وكذلك فهمه المسلمون، وكذلك طبقوه من قبل يوم كان الدين غضًا، والخلافة وارفة الظلال، والمسلمون سادة أعزة أحرارًا فى بلادهم مالكون لأمرهم.
ثم عصفت بهم العواصف فإذا بهم يستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير، ويستعيرون أحكام البشر يتحاكمون إليها ويهملون أحكام العلى الكبير، وهم مع هذا معجبون بما هم عليه، مستنيمون إليه، يحسبونه من مظاهر المدنية وهو هادم لكيانهم صادم لدينهم.
ألست ترى أن الحكومة المصرية احتفلت احتفالاً عظيمًا بمرور ذكرى خمسين عامًا على المحاكم الأهلية، وأن صاحب العزة مصطفى بك حنفى فى تقريره عن هذا الحفل الذى رفعه إلى لجنة الكتاب الذهبى له ونشرته جريدة "السياسة" أفاض إفاضة تامة فى الإشادة بهذه المحاكم، وبيان أثرها فى الناس، وفضلها على الأمة؟ أنا لا أحاول بهذا أن أنال من القضاة الفضلاء فى مصر، ولا من القضاء فيها، فقد برهنت الحوادث على أن فى مصر قانونًا عرف قضاة مصر كيف يجلونه ويحترمونه وينفذونه على وجهه، ولكن الذى أقوله: حبذا لو عمل قضاة مصر الأفاضل أنفسهم على أن يكون هذا القانون هو قانون الله.
رأيت فى إحدى المجلات اليومية مقالاً ضافيًا للآنسة الأستاذة نعيمة هانم الأيوبى الحقوقية المصرية تشيد فيه بأثر القضاء الأهلى فى مصر، وإسعاده لأهلها، وكفه من مظالم الإدارة المطلقة قديمًا، وإراحته الناس من شرورها إلى آخر ما كتبت وأفاضت فيه واستشهدت عليه. يا أستاذة نعيمة، قد تكونين معذورة؛ لأنك فى بيئة بعيدة كل البعد عن استكناه حقائق التشريع الإسلامى، ولكن أقسم لك أن هذا الخير الذى تتمدحين به لا يكون شيئًا مذكورًا أمام النتائج المجيدة الصحيحة التى تصل إليها الأمة لو طبق فيها قانون الإسلام.
وما لى أذهب بعيدًا، أما الذى وطد الأمن فى بلاد العرب هذا التوطيد العجيب بعد ذلك الفساد المتناهى؟ أليست أحكام الإسلام؟ وألست تعتقدين معى ويعتقد الناس أن الواقع أصدق دليل؟
ويظهر أن الناس بدءوا يتنبهون وكم تفاءلت تفاؤلاً عظيمًا، وتنفست الصعداء، ومددت بصرى إلى ذلك اليوم الذى تعود فيه أحكام الله وقل عسى أن يكون قريبًا، حين رأيت شيخ الوعاظ فى هذا البلد فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد ربه مفتاح يفتتح العدد الثانى من مجلة "الإيمان" بمقال هذا صدره: "منذ عامين تقريبًا كانت وزارة الحقانية تحتفل بمرور خمسين سنة على تأسيس المحاكم الأهلية، وقد رأت أن تدعو الأزهر لمشاركتها فى هذا الاحتفال، وليس بدعًا أن يدعى الأزهر إلى شهود تلك الحفلات الكبرى، وإن لم يكن بينه وبين الداعين إليها ما بينه وبين الحقانية من وشائج قوية ورحم موصولة؛ إذ هو فضلاً عن اتحاد المهنة يساهم فى قضائها برجال المحكمة الشرعية، ولكن هذه الدعوى على الرغم من ذلك بدت للأزهر دعوة مريبة، فاستشف من خلالها الغرض الذى حمله ورجال المحكمة الشرعية أنفسهم على رفضها وعدم الاستماع إليها، وهو غرض لا يحتاج فى ظهوره إلى تأمل كبير أو فطنة نادرة، فهى تحكم لنفسها تدبير الأمر، وتبذل عنايتها فى سبيل اعتراف الأزهر بشرعية القضاء الأهلى، كما كان موقف الأزهر هو الآخر لا يحتاج إلى تأويل أو توضيح؛ إذ هو لا يزيد أيضًا عن أن الأزهر -مع خضوعه للأمر الواقع- لا يعترف فى قضاء هذه الأمة بسوى الشريعة الإسلامية والقضاء الإسلامى، وهو حقًا موقف مشرف، بل هو فى نظرنا من أنبل مواقف الأزهر وأعظمها فى الدفاع عن الإسلام؛ فإن الشريعة الإسلامية هى كل ما جاء به النبى أو تكاد، فإذا بُوعِد بين الشريعة وبين العمل بها تضعضعت دعائمها وانحلت عراها، وكانت دعوى التدين بها دعوى لا يقام لها وزن ولا تحمى ما وراءها" انتهى صدر مقال الأستاذ المفضال، وهو كلام مجيد حقًا.
ولقد كتبت جريدة الإخوان حين الاحتفال ما رأت من واجبها أن تنادى به إذ ذاك من وجوب الرجوع إلى شريعة الله، وفى اليوم الذى نسمع عالمًا رسميًا جليلاً كالأستاذ الشيخ عبد ربه يدعو بهذه الدعوة فى جلاء ووضوح نتفاءل خيرًا كثيرًا، وفى الوقت الذى ينادى فيه الأزهر الرسمى حقًا بأنه لا تعترف فى قضاء هذه الأمة بسوى الشريعة الإسلامية والقضاء الإسلامى نعتقد أن هذا النداء الكريم لابد أن يترك أثره وأن يعود بهذه الأمة إلى الخير، فالأزهر لباب الأمة ومطمح أنظارها فى مثل هذه الشئون، فهل ستكون هذه إحدى حسنات شيخ الأزهر يا ترى؟ ذلك ما نكله للمستقبل يكشف عنه ولغيرة فضيلة الأستاذ الأكبر ودينه وحكمته ليقضى الله أمرًا كان مفعولاً.
وعلى كل حال فكلمة الأستاذ الشيخ عبد ربه أحيت فى النفس أملاً، وأعادت إليها ذكرى، وجعلتنا نتساءل: هل سيأتى اليوم الذى تحل فيه الشريعة الإسلامية محل هذه القوانين الوضعية؟ وهل يكون هذا اليوم قريبًا؟ نسأل الله (5).
وكتب أيضا:الشريعة الإسلامية وتوحيد القضاء فى مجلس النواب قال فيه:
فى مناقشة ميزانية وزارة العدل تكلم النائب المحترم الشيخ عبد الوهاب سليم طالبا إلى الحكومة ضم عنصر أزهرى إلى لجنة تعديل القانون، ومراعاة الاقتباس من الشريعة الإسلامية، كلما جرى تعديل فى القوانين بما أن شريعتنا -والحمد لله- بشهادة من ليسو من أهلها قبل أهلها غنية الموارد، فياضة بالمبادئ القانونية الصالحة المنتجة الخصيبة.
وتكلم النائب المحترم أحمد مرسى بك طالبا توحيد القضاء، وأن تكون الخطوة الأولى فى ذلك جعل محكمة النقض والإبرام مرجعا لكل مناحى القضاء الشرعى والأهلى والمختلط ثم توحيد القوانين.
ورد وزير العدل على المطلب الأول بأن لجنة تعديل القوانين الحالية تؤلف من المسيو لامبير والأستاذ السنهورى، وكلاهما ضليع فى بحوثه الإسلامية، وفى القانون المقارن ومن الذين قالوا فى أوروبا بأن الشريعة الإسلامية تصلح مصدر للتشريع الحديث، على أن اللجنة قد ضم إليها أحد علماء الأزهر من رجال الفقه الشرعى؛ ليكون مرجعا وعونا لها فى تبيان ما قد يغلق عليهما من نصوص الشريعة.
وذلك ملخص ما دار فى مجلس النواب عن هذه القضية الهامة التى هى أمنية كل مسلم لا فى مصر وحدها؛ بل فى العالم الإسلامى كله، فليس أعز علينا معشر المسلمين فى مصر وغيرها ولا أحب إلى نفوسنا من أن نرى التشريع الإسلامى يكون مصدرا للقانون فى بلاد الإسلام.
والفقه الإسلامى والحمد لله خصيب كل الخصوبة: أصوله وفروعه، ومبادئه، وتطبيقاته، وجميل جدا أن يدور الكلام حول هذا البحث فى مجلس نوابنا، وأن نجد من معالى وزير العدل هذا الرد الذى يدل على الاقتناع بالفكرة والاتجاه الطيب نحو الأخذ بها.
ونحب أن نلفت نظر الحكومة، ومجلس النواب إلى الحقائق التالية:
أن النائب المحترم الذى يطالب بأن يكون التشريع الإسلامى مصدر القوانين فى مصر إنما يتكلم بلسان كل مصرى، ويعرب عن رجاء كل مصرى، وأن غير المسلم ليشارك المسلم فى هذه الأمنية ثقة بعدالة الإسلام، واطمئنانا إلى إنصاف أحكامه. فليس هذا الصوت الذى دوى بالأمس، وليست الأصوات التى تدوى بهذا المطلب اليوم وغدا أصوات أفراد تتلاشى مع موجات الهواء التى حملتها، ولكنها آمال أمة بأسرها وقد وطنت العزم على أن تصل إليها طال الزمن أم قصر، وإن الهدف القريب إن شاء الله، ولا يضيع حق وراءه من يطالب به.
فعلى الذين يستغربون هذه المطالب أو يهزءون بها فى خفايا جوانحهم أن يستتروا وألا يتعرضوا لسخط شعب لا يعدل بتشريع الإسلام أى تشريع آخر، وعلى الذى يحملون لواء هذه الفكرة أن يثبتوا فإن الشعب معهم والله ناصره ومؤيدهم وسيفوزون فى القريب إن شاء الله.
وإن الذى يطالبون بتوحيد القضاء فى مصر سيجدون منا معشر الإخوان المسلمين- ونعتقد أننا فى ذلك إنما نعبر عن مشاعر الأمة كلها- كل ترحيب بفكرتهم، فنحن نعمل لتوحيد هذا البلد فى كل شىء فى ثقافته وفى قضائه وفى مشاعره وأهدافه فليس عجيبا أن نفرح بتوحيد القضاء، وأن نرحب (بالمحكمة المصرية) التى ينشدها الأستاذ السنهورى، ويتحدث عنها كثيرا، ولكن ما القانون الذى تحكم به المحكمة المصرية فى درجاتها المختلفة؟
لا نرضى أن يكون غير القانون المستمد من تشريع السماء، من كتاب الله تبارك وتعالى من القرآن الكريم، من المبادئ الإسلامية الكفيلة بالعدالة والإنصاف.
إن الإسلام لا يمنع من اقتباس الصالح من كل شىء، ولكن يشترط ألا يتناقض معه فلتتوحد المحكمة المصرية على أساس القانون الإسلامى مدعما بما يعضده ويؤيده ويتفق مع مبادئه وتعاليمه من كل تشريع حديث أو قديم.
لقد كان كثير من المصريين والمسلمين منهم أيضا ومن رجال القانون يخطئون خطأ كبيرا فى تصور التشريع الإسلامى، ويخاصمونه، ويعادونه، ويصفونه بالضيق والجمود، ويعترضون الدعوة إلى تطبيقه أشد الاعتراض، ومن حسن الحظ أن هذا الصنف من الناس قد أخذ يتناقص؛ بل أخذت الأصوات ترتفع من كثير من رجال القانون بوجوب اتخاذ التشريع الإسلامى مصدراً للتقنين فى مصر، وهذه فى الواقع خطوة كبيرة إلى الأمام، وانتصار عظيم للدعوة إلى هذا التشريع الكريم. ولم يبق أمام المزدرين إلا حجة واحدة يظنونها عقبة العقبات تلك هى الأجانب، فكلما تحدث إليهم متحدث عن تشريع الإسلام قالوا فى ذعر ووجل؛ وماذا نصنع بالأجانب، وهل نسيتم أن الأجانب لا زالوا فى هذا البلد ولازالت لهم الكلمة وبأيديهم الثروة ومعهم السلطان وتؤيدهم دولهم القوية ومعاهدة مونترو؟ ماذا تفعلون بها وقد اشترطنا على أنفسنا فيها التشريع الحديث والتزام مبادئه؟ إننا معكم فى أحقية مطلبكم، ولكن أليست هذه عقبات قوية لا نستطيع لها دفعا؟ هذه هى عقبة العقبات فى نظر القوم. ونرى -نحن معشر الإخوان المسلمين- أن الأمر أهون من كل هذا.
لقد كان منا -نحن المصريين- من هو أسوأ عقيدة فى التشريع الإسلامى من الأجانب فلما نوقش وأفهم عدل عن رأيه، وصار من أشد أنصار التشريع الإسلامى حماسة، ولقد حدثنى كبير من علمائنا أن كبيرا من زعماء الأجانب جاء إليه فى ذعر يسأله، هل حقيقة يا أستاذ فى مصر حركة قوية ترمى إلى استعادة التشريع الإسلامى وتطبيقه والعمل به؟ فابتسم الشيخ الكبير وقال لهذا الأجنبى الكبير: نعم، فى مصر حركة قوية ترمى إلى هذا. فقال الرجل وهل ترضى أنت بها وتناصرها وأنت الرجل العصرى المفكر المثقف المهذب؟ وهل ترضى أن تعود مصر القهقرى، وتفقد هذه الثمرات البالغة من مظاهر تقدمها القانونى بالعودة إلى رجعية بائدة؟ فأجاب الشيخ: أما أنى أرضى عن هذه الحركة، وأنصارها فنعم، وأما أنى أرضى أن تعود مصر القهقرى وتفقد ثمرات تقدمها القانونى فلا، ولكن -يا حضرة الخواجة- من الذى قال لك إننا بعودتنا إلى التشريع الإسلامى نعود القهقرى؟ اسمع يا فلان: إنكم لا تعرفون شيئا -معشر الأجانب- عن جمال التشريع الإسلامى، ودقته وروعته وانطباقه على أحدث التشريعات، بل إنه ليفضلها فى كثير من الأمور فضلا ظاهرا واضحا ولو عرفتموه لتبينتم ذلك، وعرفتم أن هذا التشريع أفضل لكم من كل ما سواه، وأزيدك أننا لا نريد التشريع الإسلامى فى مصر فقط؛ بل إننا سنبشركم به فى أوروبا، وسنقنعكم بجماله ودقته بالعلم والمنطق، ونحن واثقون من أنكم ستأخذون عنا فى ذلك، ثم أخذ الشيخ يفصل للرجل أمثلة تفصيلية فى هذا المعنى؛ حتى أقنعه. فكان أن قال يا حضرة الشيخ: نحن ما كنا نعلم هذا عن التشريع الإسلامى، والحق أننى أتحدث إليك والأجانب فى مصر الذين عرفوا أمر هذه الحركة مذعورون منها، ولكنى أعتقد أنهم لو عرفوا هذا الذى تقول، وأدركوا هذه الدقة والفائدة فى تشريع الإسلام؛ لسبقوا المصريين إلى المطالبة به.
ليس الأجانب فى مصر أحجارا لا تعقل، ولكنهم ناس لهم عقول وإدراك. فنحن إذا صحت عزيمتنا على الأخذ بتشريعنا الإسلامى، واقتناعهم بفوائده وروعته كما فعل هذا الشيخ مع الخواجة، لاستطعنا أن نضمن منهم موافقة على ما نريد.
وهبهم لم يوافقوا فهل نعيش -معشر المصريين- فى مصر للأجانب؟ لم لا نريح ضمائرنا وننفى الحرج عن أنفسنا، ونريح الحكومة هذا الشعب المعذب الذى يجد نفسه أمام تشريع مقدس سماوى يحبه وفيه علاجه وطبه، ثم هو محروم منه وبين تشريع وضعى فشل كل الفشل فى محاربة الجريمة، ثم هو يجبر على قبول أحكامه. أم تريد الحكومة المصرية أن نقول لها: اعتبرى المسلمين فى هذا البلد أجانب، وراعى شعورهم، ودينهم، وعقائدهم واشرعى لهم من دينهم، وكتابهم قانونا يتحاكمون به.
إننا نأمل كما قال ذلك الشيخ ألا يقتصر الأخذ بتعاليم الإسلام على مصر وحدها؛ بل سيعم بقية بلدان العالم الإسلامى تبعا لها؛ بل سنبشر به أوروبا ننقل تعاليمه إليها فنسعدها بما فيه من روحانية وجمال.
إن هذا الموقف الذى نقفه من تشريعنا لم يعد له مبرر بحال، وأولى بالحكومة أن تخطو خطوات أوسع فى تحقيق هذه الآمال وإن ضم عضو أزهرى إلى لجنة تعديل القوانين جميل حقا ولكن أجمل منه ألا يقتصر الأمر على عضو واحد وأن نوصى اللجنة كلها وصية مشددة بالتوسع فى الاقتباس، وأن يكون ذلك كله وسيلة إلى ما بعده من التطبيق الكامل (6).
وكتب يقول:
توضع القوانين وتنشأ المحاكم وينصب القضاة لصون الحقوق فى الدماء والأموال والأعراض، وهى ما يحرص عليه الناس فى هذه الحياة ولتفصل بينهم فى كل خلاف يقع حول هذه الأمور الثلاثة التى تواضع المجتمع عليها من لدن وجد إلى الآن. على أن الاعتداء عليها تنكر وجريمة يجب أن تقاوم، وجاء الإسلام يؤكد هذا المعنى فيقول رسول الله "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله".
فهل خَلا القرآن من أصول القواعد التشريعية التى تصون على الناس دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وتكشف لهم على طريقة الفصل فيما يقع بينهم حولها من خلاف؟ وهل خلت أيدى المسلمين وعقولهم وجماعتهم من الثروة الفقهية والتشريعية التى تفصل لهم فى وجوه الخلاف، وحرموا أئمة التشريع وأساتذة الحقوق والقوانين؟ وهل أقفرت حياتهم الاجتماعية فى أعصارهم التاريخية ودولهم الماضية من القضاء العادل والحكم المنظم والمحكمة التى كانت مصدر عدالة ومشرق نور وإنصاف وهداية؟
والجواب على ذلك من كتاب الله ومن ميراث هذه الأمة الضخم ومن تاريخها المجيد لا لبس فيه ولا غموض.
فقد وضع القرآن الكريم أصول قواعد المحافظة على الدماء والفصل فيها بآيات القصاص فى القتل والجراحات، ووضع أصول قواعد المحافظة على الأموال والفصل فيها بتحريم الربا، وفرض الزكاة وعقوبة السرقة وآداب التعامل ووضع أصول قواعد المحافظة على الأعراض؛ لسد أبواب الفتنة وذرائعها، وعقوبة القذف وحد الزنا وتقديس الزواج، وحاط ذلك بسياج من عقوبة المعتدين فى الأرض، وأشرك فى الزجر عامل الضمير وعقيدة الجزاء فى اليوم الآخر، فلم يدع زيادة لمستزيد وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه.
وبين أيدى الدارسين والباحثين ثروة فقهية تشريعية ضخمة فخمة هى بقية مما ترك أولئك الأئمة الأعلام من رجالات الفقه الإسلامى الذين كانوا غرة فى جبين الدنيا، ونجوما زاهرة فى سماء العلم والمعرفة أمثال: أبى حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعى، وأحمد بن حنبل الشيبانى، والليث بن سعد المصرى، وداود الظاهرى وغيرهم من المئات بل الآلاف، كانوا آية الله فى الفطنة والذكاء وجودة البحث وصحة النظر ودقة الحكم وصدق الفراسة حتى ضربت بهم فى ذلك كل الأمثال.
وتاريخ الدول الإسلامية العظيمة حافل بالعدول من القضاة المحدثين ما كانوا يخشون فى الحق لومة لائم، وكان أحدهم يقضى على نفسه وعلى أقرب الناس إليه وعلى الأمير فى إمارته والملك فى عز سطوته لا تمنعه عظمة العظيم من أن يأخذ الحق منه لأصغر صغير.
وهذه الحقائق ثابتة واضحة لا يجادل فيهن إلا الكفور، فلماذا نعدل عنها ونرضى أن نكون عالة على غيرنا فى التقنين والتشريع وأصول التحاكم والقضاء؟ فاصلنا الله على هذا، ولن نكون مؤمنين إلا إذا رجعنا فى ذلك كله إلى حكم الله، وهل بعد هذه المصارحة من بيان ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء: 65].
سيحاول بعض المتحذلقين أن يقول:
إننا لسنا مختارين فى هذا فقد غزتنا الحضارة الأوروبية بأوضاعها الاجتماعية فنقلنا عنها هذه القوانين، ولا نملك الآن أن نعدل عنها، وقد أصبحنا مقيدين باتفاقات دولية ومعاهدات سياسية وقانونية.
وماذا نصنع بغير المسلمين الذين يخالفوننا فى الدين وبالأجانب الذى ينزلون ديارنا ولا يشتركون معنا فى الجنسية؟
وكيف نطبق اليوم شريعة ألف عام أو يزيد بعد أن تطورت قواعد التشريع وأساليبه هذا التطور العجيب مع ما فى هذه الأحكام من قسوة وجحود؟
سيحاول بعض المتحذلقين أن يقول هذا وسنرد عليه فى الكلمة الآتية بما يكفيه ويشفيه إن شاء الله ولكن قبل هذه الردود نريد أن نقف نحن وإياه أمام حقيقة الإيمان وجها لوجه فنقول له ولأمثاله نحن يا هذا نخاطب المؤمنين بهذا القرآن الكريم أولا فإن كنت منهم فهذا هو صريح القرآن الكريم لا تملك أنت ولا غيرك حولا عنه ولا بديلا منه، فاختر لنفسك، وخذ أو دع ولا ثالثة لها ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾[الأحزاب: 36] "صدق الله العظيم (7).
لقد شكك البعض في الشريعة الإسلامية وأنها صالحة لهذا الزمان فكتب حسن البنا يوضح لهم أهميتها وحيويتها في كل زمان ومكان فقال:
إن العرف العصرى والاتفاقات الدولية تحول بيننا وبين الرجوع إلى ما جاء فى القرآن من أحكام، وهذا القول منقوض بقرارات المجامع الدولية نفسها، ففى لاهاى وفى واشنطن ارتفع صوت المجتمعين بتزكية الشريعة الإسلامية، واعتبارها مصدرا مستقلا من مصادر التشريع صالحا للتطور والبقاء. وما مثلت مصر فى محكمة العدل الدولية بعضو قانونى، هو سعادة عبد الحميد بك بدوى، إلا بهذا الاعتبار. وهو أنها تستمد من شريعة مستقلة هى الشريعة الإسلامية، ولو قيل أنها تستمد تقنينها من إحدى الشرائع الأوروبية لأغنى عن تمثيلها العضو الذى يمثل الدولة ذات التشريع الأهلى، على أن العرف الدولى الآن قد تغير تغييرا كبيرا، وصار من المسلم به أن من حق كل شعب أن يفكر فى تنظيمه الداخلى كما يشاء، وتعديل الاتفاقيات والمعاهدات جائز فى كل الظروف والأوقات، فلو أردنا نحن إرادة صادقة لما وقف فى وجهنا أحد، ولكنا نحن الذين لا نريد، ونقيم فى وجه أنفسنا العقبات الثقال ونتوهمها توهما لا حقيقة له.
ويقولون أيضا: وماذا تفعلون مع غير المسلمين من المواطنين؟ والجواب حاضر سهل ميسور مقنع وهو أننا لا نقدم لهم هذه الأحكام على أنها دين يؤمنون به أو عقيدة جديدة تخالف ما يعتقدون، ولكنا نقدمه على أنه قانون اجتماعى تحارب به الجريمة التى حرمتها كل الأديان، ويحقق ما جاءت به التوراة والإنجيل والكتب السماوية جميعا، ولا يصطدم مع نص من نصوصها، ولا يتعرض للمؤمنين بها فى عقيدة ولا عبادة ولا عمل من الأعمال، فهل يكره أحد الإصلاح الاجتماعى الذى يحقق فعلا ما يريده دينه، وما نص عليه كتابه لمجرد أنه ورد فى القرآن أو أوحى به الإسلام، ومن يكون المتعصب إذن فى هذه الحال؟.
أما الأجانب فنريد أن نسأل من يرون فى تطبيق هذه الأحكام صعوبة بالنسبة لهم، ماذا يطبق علينا الأجانب فى بلادهم من قوانين؟!..
فإن قالوا: يطبقون قوانينهم، قلنا: فلماذا لا نطبق عليهم نحن قوانيننا؟.. ولماذا لا نضع أنفسنا معهم على قدم المساواة، وما الذى يدعونا إلى أن نستشعر أننا أقل منهم وأضعف؟.. وإن قالوا: يطبقون قوانيننا، قلنا: فلنطبق عليهم قوانينهم، ويكون ذلك امتياز بامتياز، على أن الأمر الواقع أنهم يطبقون علينا قوانينهم ولا يعترضون إن طبقنا نحن عليهم قوانين البلاد، ولا يحتاج الأمر منا إلا أن نؤمن بتشريعنا أو أنفسنا.
ويقال: كيف نطبق شريعة مضى عليها ألف عام أو تزيد؟.. والجواب على هذا أن هذه الشريعة نفسها قد احتاطت لهذه الأغراض فلم تورط نفسها فى جزئيات الأمور، ولم تتحكم فيما يتجدد بتجدد الحوادث والأعصار، وجاءت على نسق جعلها أعظم الشرائع مرونة، وقبولا للتطور مع الأزمان، والصلاحية للحكم فى كل عصر ومكان، حتى أثر عن أئمتها الأجلاء قول بعضهم: "تحدث للناس أقضيتهم بقدر ما أحدثوا من الفجور، وما نص عليه فيها من عقوبات لا تتجاوز عدد أصابع اليد لجرائم أساسية وجدت مع الغريزة الإنسانية، ولا يمكن كبحها إلا بهذا الأسلوب من التشريع الحازم الجرىء، ومن قرأ كتب الفقه الإسلامية علم وصدق ما نقول وأدرك جلال ما فيه من مرونة ودقة وانفساح واتساع، وقابلية لكل الظروف والأحوال.
أما تهمة القسوة والشدة فى الحدود التى جعلت بعض الذين لا يعلمون يتطاول إلى وصفها بالوحشية والرجعية والهمجية إلى غير هذه الأوصاف فأمر مقصود لحكمة سابقة، ونظرة عالية يكشف اليوم عن جلالها وجمالها ودقتها وروعتها ما ذهب إليه المشرعون العصريون من أن العقاب علاج لا مجرد جزاء، وأنه يجب أن يساير طابع النفوس وغرائزها، ويصدر عن علم بخفاياها ودقائقها، والحدود الإسلامية مبنية على ذلك فى صورتها، فهى تبدو فى شكل من القسوة يرهب ويخيف حقا، ولكن لعدد محدود من الجرائم يتصل بالغرائز الإنسانية التى لابد لردعها وعلاجها من هذه الصورة من الدواء، حتى إذا وصل الأمر إلى يد القاضى، فهناك طرق الإثبات، وهناك ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم، ولن تجد بعد ذلك تشريعا أرفق وأرحم، ولا أدق وأكرم من تشريع الإسلام وخذ مثلا لذلك: حد الزنا، وهو أقسى الحدود فى نظر الناس فهو جلد على ملأ من الناس أو رجم بالحجارة إلى الموت كيف يثبت؟ لا يمكن إلا بالشهادة بصورتها المعروفة، ولن تتوفر، أو بالإقرار ولا عذر لمن أقر، حتى إذا عرضت للقاضى أضيق ثغرة أو وقعت فى نفسه أدنى شبهة عدل عن الحد إلى ما دونه، وهو التعزير والتأديب بما يناسب من العقوبات، وبذلك تجمع هذه الحدود بين الصورة الرادعة والرحمة الوادعة ولن يستقيم ذلك بعد تشريع العليم الخبير، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون.
فيأيها الذين يريدون الاستناد إلى الأوهام حسبكم، وعودوا إلى أحكام الله، ففيها الدواء والشفاء والحد من حدود الله يقام فى أرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحا، والتبعة الأولى على الحكام.
وهى من بعدهم على العلماء والكتاب.
وهى أخيرا على الأئمة والهيئات والأحزاب.
وليس بعد النصيحة أو البيان إلا المفاصلة والجهاد، ﴿فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[التوبة: 105].
تعليق: كتب إلينا كثير من الإخوان بتأييدهم لما جاء فى هذه الكلمات استعدادا لمعركة المصحف، وقد لاحظوا فى كتبهم أن هذا الموضوع الحيوى الجليل سيذهب صداه ويضيع أثره إذا تابعناه فى الوقت الداوى بصيحات الجهاد الصاخب بأصوات المدافع وأزيز الطائرات، واقترحوا أن نرجئ أمر هذه المعركة حتى ننتهى من معركة الجهاد القائم فى فلسطين، وتركيزًا للجهود فى ناحية واحدة يهمنا جميعا أن ننتصر فيها أعظم انتصار، وترقبا لأنسب الأوقات، وهو كلام جميل وشعور طيب مشكور، وبما أن هذا التوجيه الذى نسير عليه الآن إنفاذ لقرار من قرارات الهيئة التأسيسية للإخوان، فإنى أعد هؤلاء الإخوان الكاتبين بأننى سأعرض مقترحاتهم هذه التى أقدرها حق قدرها على الهيئة فى اجتماعها غدا إن شاء الله، وأرجو أن يكون رأيها عند رأيهم، فننصرف جميعا إلى معركة الحرية، حتى ننتصر فيها عن قريب بإذن الله، فنعلن معركة المصحف من جديد والله المستعان (8)
وكتب الشيخ هاشم أحمد حمادة المدرس بمعهد أسيوط قصيدة وجاء فيها
سنوا القوانين أحكامًا ملفقة
- هل كان ذلك تشريعًا وتقنينا
فليترك القوم قانونًا بوضعهم
- فلا نقر سوى القرآن قانونا (9).
ويحيي الشاعر إبراهيم مأمون بعض نواب البرلمان الذين دافعوا عن العقيدة الإسلامية فيقول في قصيدة بعنوان: "عصا الإسلام تلقف إفكهم" (10):
هتفوا فأصغى الدين في محرابه
- وبدا النبي يدل في أصحابه
وسرى الصدى في الغرب فارتقب الردى
- وكأن جيش المسلمين ببابه
ويذكر أحد هؤلاء النواب باسمه محييًا إياه فيقول:
عبد الحميد وقفت وقفة ماجد
- ولأنت يوم الروع خير مجابه
لما دعاك القول كنت كفاءة
- وقرعت منبره بآي كتابه
وبرزت كالأسد الغضنفر واثبًا
- وبظفره –الموت الردي– وبنابه
فلقد حضر الإمام البنا جلسة البرلمان الخاصة بمناقشة الاستجواب الخاص بالدكتور طه حسين مراقب الثقافة في وزارة المعارف (11).
الهامش
(1) لمدخل إلى دراسة الفقه الإسلامي، عبد الله محمد الصالح (2007)، ، صفحة 18-20
(2) رسالة قضيتنا لحسن البنا
(3) كان وزير الحقانية آنذاك هو "أحمد محمد خشبة باشا".
(4) جريدة النذير، العدد (7)، السنة الأولى، 13جماد أول 1357 /11 يوليو 1938، ص(3-8).
(5) جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (8)، السنة الثالثة، 4ربيع الأول 1354ه/ 4يونيو 1935م، ص(31-34).
(6) جريدة النذير، العدد (16)، السنة الثانية، 17ربيع الثانى 1358 /6 يونيو 1939، ص(3-6).
(7) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (631)، السنة الثالثة، 11 رجب 1367 هـ/20 مايو 1948م، ص(3).
(8) جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (631)، السنة الثالثة، 11 رجب 1367 هـ/20 مايو 1948م، ص(3).
(9) مجلة النذير الأسبوعية – السنة الثانية – العدد 5 – صـ18 – 29محرم 1358هـ / 21مارس 1939م.
(10) مجلة النذير الأسبوعية، العدد (23)، السنة الثانية، 7جمادى الآخرة 1358ه/ 25يوليو 1939م، ص(17-18).
(11) أحمد حسن شوربجي: حسن البنا مجدد القرن الرابع عشر، دار الدعوة، 1998م، ص(214).