الحلقة التاسعة الإخوان المسلمون والسلطة التشريعية
إعداد: إخوان ويكي
أدركت الجماعة ما يحاك لها من محن وأن الزمن قد تغير وتكشفت للجميع قوة الإخوان وتأثيرهم سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي مما دفع الإنجليز على العمل للحيلولة بين الإخوان ووصليهم للبرلمان.
المشاركة الثانية 1945م
ظلت حكومة الوفد تعمل على تهدئة الأوضاع بمصر وتوفير كافة احتياجات الانجليز أثناء الحرب مما جعلهم يتفرغون لمحاربة الألمان حتى إذا مالت الكفة نحو الحلفاء لم يعد الانجليز يتمسكون بحكومة الوفد مما دفع بالملك فاروق أن يسارع بإقالتها وتعين أحمد ماهر باش خلفا للنحاس، وكعادة كل رئيس وزراء جديد يأتي قام أحمد ماهر بحل البرلمان وأعلن عن إجراء انتخابات جديدة حتى يستطيع إحكام السيطرة على البرلمان بأغلبية الحزب الذي ينتمي إليه
بناء على ذلك عقد مكتب إرشاد الإخوان المسلمين اجتماعه والذي قرر خوض الانتخابات لكن ليس بحسن البنا فحسب بل دفع بعدد كبير، حيث تقدم للترشيح من الإخوان المسلمين كل من المرشد العام عن دائرة الإسماعيلية، والأستاذ أحمد السكري عن دائرة الفاروقية بحيرة، والأستاذ صالح عشماوي عن دائرة مصر القديمة، والأستاذ عبد الحكيم عابدين عن دائرة فيدمين الفيوم، والأستاذ عبد الفتاح البساطي عن دائرة بندر الفيوم، والأستاذ محمد حامد أبو النصر عن دائرة منفلوط (1)
واستعد الإخوان لهذه الانتخابات وانطلق أنصارهم في ربوع الدوائر يعلنون عن مرشحيهم، حتى إن الإخوان يوم الانتخاب أصدروا بيانًا لكل الشعب بأن يتحروا حسن اختيار النواب، ولم يتوقف ندائهم على الشعب بل شمل النداء النواب المحتملين حيث طالبوهم بالعمل على تحقيق الأهداف الوطنية وسن القوانين التي تحمي المجتمع وترفع الظلم عن كواهل الشعب وتنشد الاستقلال التام وجاء فيها: اليوم وقد دعيت الأمة المصرية الكريمة لتقول كلمتها، وتقدم إلى مجلس نوابها من يمثل حقيقة شعورها، ويعبر عن مكنون رغباتها.
اليوم يتقدم إليها جماعة من الإخوان المسلمين بأشخاصهم التي أوقفت على الجهاد في سبيل مطالبك الوطنية والاجتماعية، وبمنهاجهم الذي يستمد من كتاب الله ويعتمد على وحي السماء، حين فشلت توجيهات الأرض.
اليوم - أيها الشعب الأبي الكريم- تواجه أنت بنفسك التبعة كاملة، فالكلمة كلمتك، والسلطة لك وفي يدك، وتستطيع اليوم أن ترفع إلى هذه المقاعد التشريعية من يتحمل عنك التبعة بين يدي الله والناس.
كان يتردد على ألسنة الناس كلما استعرضوا فساد الحال، وفشو المنكرات، وانتشار الآثام: أين العلماء؟ وأين البرلمان؟
كنا نقول: لا تذهبوا إلى الملاهي الخليعة، والمسارح الرخيصة، والمراقص والمشارب. فيقال لنا: وما ذنبنا نحن وقد وجدنا السبيل ممهدًا، والطريق معبدًا، والمغريات من بين أيدينا ومن خلفنا؟!
كنا نقول: هذبوا ناشئتكم، وربوا على الأخلاق أبناءكم، وبثوا تعاليم الدين في نفوس صغاركم. فيقولون: وهل نحن الذين نضع مناهج التعليم، ونشرف على سير المدارس والمعاهد؟ أقنعوا وزارة المعارف وأفهموا البرلمان.
وكنا نقول: إن الفرد في حاجة إلى إصلاح، والأسرة في حاجة إلى إصلاح، والفقر والجهل والمرض في حاجة إلى علاج، ومطالب الأمة العليا وأهدافها القومية في حاجة إلى جهاد وكفاح، فساعدونا -أيها الناس- على ذلك كله. فيكون الجواب: وماذا بأيدينا وهذه واجبات الحكومة وتبعات نوابنا في البرلمان؟
واليوم -أيها الشعب الكريم- في هذه الأيام القلائل، تصنع أنت الحكومة، وتكون أنت البرلمان، والكلمة لك، والسلطة كلها في يدك، فاقذف بنا إلى مجلس النواب، ودعنا نحاسب الحكومة.
أوقفونا أيها الناس وجهًا لوجه أمام الوزراء، وفي وسط النواب لنحاسبهم ولنقول لهم: إن الشعب المصري شعب متدين أبي، لا يرضى أن يستذل لغيره، ولا أن يستكين لسواه، فاستقلاله وحريته أعز عليه من نفسه ودمه، ولا يجب أن تطغى عليه إباحية الشهوات الغربية، ولا تحلل العقول المادية؛ لأن دينه وتقاليده أكرم عنده من كل ما في هذه الحياة الدنيا.
وإن الوطن المصري وطن غني بتاريخه المجيد، ونيله السعيد، وخيراته التي ما عليها من مزيد، وعقله الذكي، وخلقه القوي، فلا يرضى أن يستأثر الناس بخيراته، وهو جائع عار.
وكل ذلك يلزمكم أيها النواب أن تلزموا الحكومة تحقيق هذه الأهداف:
- المحافظة التامة على حرية وادي النيل ووحدته واستقلاله، ودفع كل سلطان أجنبي عنه.
- توثيق الروابط الكاملة بالأمم العربية والإسلامية، ومساعدة هذه الأقطار على استكمال حريتها واستقلالها، فهم جيراننا في الوطن، وإخواننا في الدين وبنو عمنا في النسب، وشركاؤنا في اللغة والمصالح والآلام والآمال.
- صبغ الحياة الاجتماعية بهذه الصبغة الإسلامية المجيدة ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ "البقرة: 138"، فالتشريع والتعليم والتقاليد يجب أن يكون أساسها تعاليم الإسلام الحنيف، والمنكرات والموبقات التي يحاربها هديه السامي من: الخمر، والزنا، والقمار، واللهو، والمجون، والاختلاط الشائن، والعبث الفاسد، والغناء المبتذل، والتمثيل الخليع، والمؤلفات والمكتبات المفسدة، كلها يجب أن تعتبر جرائم يعاقب عليها القانون وتطاردها الحكومة.وليس في ذلك معنى للتعصب فإن الإسلام بريء من هذا كله، ولكن معناه انتصار للفضيلة التي جاءت بها الأديان جميعًا، ومطاردة الجريمة التي طاردتها الأديان جميعًا، وإيقاظ للضمائر التي لا تستيقظ بغير دين، وإنصاف للناس حتى يأخذ كل ذي حق حقه.
- العناية الكاملة بموارد الثروة ومطاردة البؤس والفقر، وهو أساس الجهل والمرض، باستغلال الموارد الطبيعية، والعناية بالصناعة، وتنشيط التجارة، وتكوين الشركات الوطنية، وتشجيع الملكيات الصغيرة، وتحديد الصلة بين المالكين والمستأجرين، وإعادة النظر في الضرائب، وإقرار نظام الزكاة لإمداد الخدمات الاجتماعية النافعة حتى يكون في أموال الأغنياء حق معلوم للسائل والمحروم.
ادفع بنا -أيها الشعب- دفعًا إلى كراسي مجلس النواب لنقول للوزراء في وجوههم هذا الكلام، ولنلفت نظر النواب إلى تفاصيل هذه النواحي المجملة، ولنرفع الصوت قويًا جهوريًا في دار النيابة وفي حماية من القانون، بكلمة الإسلام العالية المدوية، ونعاهدك على أن نكون كذلك، وألا نجعل هذه الثقة وسيلة إلى منفعة شخصية، فإن فعلت فقد قلت كلمتك، وأبرأت ذمتك، وأديت أمانتك، وإن لم تفعل فأنت الملوم، وعليك أولاً تقع تبعة هذا الفساد والإفساد في الدنيا والآخرة، وبين يدي الله وأمام الناس.
أيها الشعب المصري الأبي الوفي.. لقد فتحت صدرك لدعاة الإسلام الأول، فتلقيتهم تلقيًا كريمًا، وجعلت من حنايا ضلوعك، ومن ثنايا بلادك مستقرًا مكينًا أمينًا لهذه التعاليم القدسية التي جاء بها القرآن الكريم. ولقد دافعت عن هذه المبادئ مجاهدًا بالسيف والسنان، وباذلاً في سبيلها الأموال والأرواح حتى رددت المغيرين من كل مصر في كل عصر.
والآن وقد أصبح السلاح إلى الإصلاح قول الحق، وإبداء الرأي، وحسن الاختيار، فإننا نتقدم إليك والله غايتنا والرسول زعيمنا والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا والموت في سبيل اله أسمى أمانينا، فإن رأيت خيرًا منا في ذلك فأولهم ثقتك وأعطهم صوتك؛ لأنك بذلك تقول الحق والحق أحق أن يتبع، أما إذا لم تجد ولا نظن أنك تجد فها نحن ندعوك أن تمنحنا هذا التأييد، وأن تقف إلى صفنا في هذا الجهاد، وأن ترفعنا بيدك إلى مقاعد النواب لنقول باسمك كلمة الحق، ونكون لك لسان الصدق، الله أكبر ولله الحمد. (2)
كانت هذه شعارات ودعاية الإخوان التي توضح طريقهم ومنهجهم في العمل داخل البرلمان، غير أن بعض رسام الكاريكاتير صوروا الصورة التقليدية لمرشحي الأحزاب الذين لا هم لهم إلا التسلق على أكتاف الفقراء للوصول إلى البرلمان بالوعود الزائفة، جاء فيها:
كما كتب صالح عشماوي قبل الانتخابات يقول:
- لا يصل هذا العدد إلى أيدي القراء حتى تكون المعركة الانتخابية قد حمي وطيسها، وعلا غبارها، واشتد أوارها.. وقد بدأ المرشحون يطوفون بالناخبين في أدب جم، وتواضع كريم، يعرضون أنفسهم أو برامجهم – إن كانت لهم برامج – ويطلبون ثقة الناخبين، ويستجدون أصواتهم، ويعدونهم بالفناء في خدمتهم وقضاء مصالحهم المشروع منها وغير المشروع، والمعقول منها وغير المعقول!.
- ومن هؤلاء المرشحين من يعتمد على عصبيته وحزبه ومنهم من يتكل على ماله وثرائه، والقليل منهم من يعتمد على شخصيته أو مناهجه، وأقل من هؤلاء من يعتمد على الله أو يتوكل عليه! فلا عجب إذا رأينا المرشحين يتزاحمون بالمناكب في الدائرة الواحدة حتى يبلغ عددهم سبعة أو ثمانية فقد جدت أحزاب ونشطت أخرى وقامت ثالثة تنفض عنها غبار السنين وتزيح أكفان الماضي
- حتى بلغ عدد الأحزاب والهيئات الداخلة في الانتخابات عشرًا، كما رأينا تجارًا وأشباه تجار ممن أثروا ثراء فاحشًا من احتكار أقوات المصريين وضروراتهم في السوق السوداء ينزلون إلى ميدان الانتخابات مستقلين وهم لا يصلحون أن يكونوا ناخبين فضلا عن أن يكونوا مرشحين لعضوية مجلس النواب. وإذا سألت أي مرشح من هؤلاء المرشحين عن غايته من دخول مجلس النواب لأقسم بكل محرج من الأيمان أنها المصلحة العامة وإنصاف المظلوم ومحاربة الظالمين!.
- فخدمة مصر عن طريق البرلمان هي الهدف الأوحد، وإذا أخذنا هذا الادعاء على علاته، وتجاهلنا الوقائع الملموسة وأغمضنا العين عن الحقائق المحسوسة وصدقنا أن خدمة الأمة عن طريق منبر البرلمان هي الهدف والغاية لكل مرشح، أقول إذا صح هذا لكان لنا نحن معشر الصحفيين أصحاب المبادئ أن نغتبط كل الاغتباط، لأنا نحاول أن نخدم الأمة المضللة والوطن الحائر، من فوق منبر الصحافة
- وهو منبر دائم وصيحاتها أعلى صوتًا من أي صوت سواه، وبرلمانها قائم أبدًا لا يحل مجلسه، ولا تنفض دورته، ولسنا في حاجة إلى تملق ناخبينا من القراء أو استجداء أصواتهم، ولسنا نخادعهم ونعهدهم ونمنيهم غرورًا، وإنما نوجههم ونهديهم طريقًا مثيرًا، وإذا كان من حق النواب محاسبة الوزراء فإن من سلطة صاحبة الجلالة الصحافة أن تحاسب النواب والوزراء جميعًا.
- لقد قال أحد الزملاء إن الرأي العام يتنفس برئتين البرلمان والصحافة، وكنا إلى اليوم لا نزال نتنفس برئة الصحافة وحدها، ونحاول أن نأخذ بها إلى الشعب المسلم أسباب الحياة والانتعاش غير أن الدعوة الإسلامية قد صبغت أكثر الأمة بصبغتها وتركتهم يريدون عملا أكثر وتوجيهًا أعم فأصبح من الخير أن ندخل البرلمان لنعلن عن دعوتنا في هذا المعرض العظيم الذي توزن فيه الآراء وتقدر فيه الدعوات ويقرر فيه مصير الأمة.
- سندخل بحول الله وقوته غير مدفوعين بشيء إلا نصر الله والدفاع عن تشريعه والتمهيد لدعوته في نفوس نواب الأمة والقائمين بشأنها، وسنحاول إن شاء الله أن نثبت للذين يعوزهم الدليل أن في الإسلام ثروة إصلاحية تكفي كل باحث وتغني كل قائل وتسلك بالأمة أقرب الطرق إلى غايتها الكريمة وأملها المرموق. (3)
وكتب يصف الانتخابات في دائرته تحت عنوان (المعركة الانتخابية في دائرة مصر القديمة) قال فيه:
صراع:
في جميع المعارك الانتخابية السابقة لم يكن الصراع إلا بين حزب وحزب – ليس لأحدهما برنامج أو مبدأ يخالف الآخر – أو بين شخص وشخص لا يعتز الواحد منهما بغير عصبية أو مال أو لقب أو جاه.
وللمرة الأولى ينزل الإخوان المسلمون إلى ميدان الانتخابات فتتحول المعركة إلى صراع بين مبدأ ومنهاج وبين حزبية ومال وألقاب، وفي دائرة مصر القديمة يتمثل هذا الصراع بأجلى معانيه، فقد نزل الميدان رجل يحمل رتبة البكوية وينتسب إلى الحزب الذي يتولى اليوم الحكم وآخر يمثل الأرستقراطية ويفتخر بجده الباشا وينثر ذهب المعز
وثالث يعتمد على ماله وثرائه وأمام هؤلاء جميعًا نزل كاتب هذه السطور ومرشح الإخوان المسلمين إلى المعركة الانتخابية على مبادئ الإسلام وتعاليم القرآن، وهو فقير إلا من الإيمان، ضعيف بنفسه قوي بتأييد الله والإخوان، مجرد من كل لقب وجاه إلا جاه الله الذي يملك السموات والأرض، مفتقر إلى كل حسب ونسب إلا نسب الإسلام.
أبي الإسلام لا أب لي سواه
- إذا افتخروا بقيس أو تميم
ترى لمن سيكون النصر؟
بشرى:
في أول يوم زرت فيه مصر القديمة ذهبت إلى عزاء أخ كريم وما كدت أجلس حتى استأنف المقرئ التلاوة فإذا به يقرأ قول الحق تبارك وتعالى: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض" فكانت بشرًا نزلت على قلوبنا بردًا وسلامًا.
بين سيارة .. ونصف نعل:
كنت أطوف في دائرة مصر القديمة مشيًا على الأقدام وبجانبي أخ كريم من البارزين في الحي وطال بنا المسير فإذا بالأخ الكريم يلتفت إلي ويقول: ما هذا؟ عهدنا بالمرشحين يركبون السيارات وأنت كدت تجعلنا نركب للحذاء نصف نعل؟!.
مرشح غني:
كانت مواكب الإخوان تطوف بالدائرة وهي مؤلفة من طلبة الجامعة والشباب المثقف ومن كرام الموظفين وغيرهم فاسترعى هذا المنظر التفات أهالي الدائرة ولم يعهدوا من قبل إلا مواكب تتألف من الصبية الصغار وفريق من المرتزقة في ملابسهم الرثة الممزقة وقد سمع أحد الإخوان رجلا من أهالي الدائرة يقول لآخر وقف بجانبه: يظهر أن مرشح الإخوان غني جدًا حتى استطاع أن يجمع هذا الموكب الفخم! ولم يدرك هذا الرجل بعد أن هؤلاء هم جند الرحمن ودعاة الإسلام ولو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما استطعت شراءهم ولا استئجارهم فالإيمان لا يباع والقلوب لا تشترى.
هتاف .. وهتاف:
جرت العادة أن يكون الهتاف في مواكب المرشحين بحياة فلان وسقوط فلان إلى غير ذلك وللمرة الأولى تسمع دائرة مصر القديمة هتافًا سماويًا ونداء علويًا ونشيدًا ملائكيًا، فالإخوان في مواكبهم يكبرون لله لا لعبد من عباده ويهتفون للإسلام والقرآن لا لشخص من الأشخاص فهتافهم "الله أكبر ولله الحمد، لا عزة إلا بالإسلام، لا حكم إلا بالقرآن، مرشح الإخوان نصير الزكاة..".
تبرع كريم:
منذ بدأت المعركة وأنا أجد من إخواني الناخبين العطف السامي والبذل الكريم فما ركبت معم إلا كنت ضيفًا عليهم وما نزلت دارًا أو مكانًا إلا أفاضوا. من كرمهم علي وعلى الحاضرين حتى خيل إلي أنهم هم المرشحون وأني أنا ناخبهم الوحيد وهكذا يقلب الإخوان الأوضاع ويضربون للناس أروع الأمثال، وهكذا ينافس إخوان القاهرة إخوان الإسماعيلية وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ولا يفوتني أن أسجل بمداد الفخر وآيات الشكر ذلك التبرع الكريم من الشاب النبيل "عمر أفندي مرعي" الطالب بكلية الزراعة فقد تبرع بمبلغ 45جنيه مصري مساهمة منه في نفقات الانتخابات بدائرة مصر القديمة جزاه الله عنا أحسن الجزاء وأخلف عليه وتقبل منه وأجزل له العطاء.
ناخب شهم:
في ذات ليلة حضر ناخب مع بعض زملائه من أهالي مصر القديمة إلى مقر شعبة الإخوان وما كاد يستقر حتى خطب رئيس الشعبة قائلا نحن نعلم أنكم فقراء ومع ذلك جئنا نعدكم بأن أصواتنا ستكون لمرشحكم فشكره نائب الإخوان وقال له إن الإخوان لا يشترون أصوات الناس بالمال.
ولكن الناخب الشهم استطرد قائلا (ونريد أيضًا أن ننضم إلى الإخوان فما قيمة الاشتراك) فأجاب نائب الإخوان حسبنا أن تكون معنا بقلبك ولسانك فلسنا طلاب مال أما الاشتراك فيقدمه الأخ مدفوعًا بشعوره على قدر طاقته وعند انصراف هذا الناخب الكريم اقترب من نائب الإخوان ووضع في جيبه ورقة من فئة العشرة قروش! وهكذا يشتري بعض المرشحين ناخبهم بالمال ويدفع ناخب الإخوان لمرشحهم الاشتراكات.
شكر وعهد:
في كل مكان أطوف فيه أرى قلوب الناس متفتحة لدعوة الله مقبلة على مرشح الإخوان داعين له ولتأييده من قبل أن تراه،وليس لي إزاء هذا الشعور النبيل والعطف الكريم، إلا أن أشكر من أعماق قلبي هؤلاء الناخبين وأعاهدهم بل أعاهد الله وضميري، أن أكون داعيًا إلى الإسلام والقرآن تحت قبة البرلمان مناضلا عن حقوقهم ومصالحهم متفانيًا في خدمتهم، فعلى هذا الأساس تقدمنا وعلى الله توكلنا، هو مولانا وهو ناصرنا.
كسبنا المعركة:
وأستطيع أن أقول من الآن إن الإخوان المسلمين قد كسبوا المعركة فهم دعاة فكرة وحملة رسالة، قبل أن يكونوا طلاب مقاعد في مجلس النواب، وما دامت دعوتهم قد وصلت، وما دامت فكرتهم قد سمعت، وما دامت قلوب الناس معهم فقد كسبوا المعركة مهما كانت نتيجة الانتخاب. (4)
وانطلقت الانتخابات ولأسف انطلق معها التزوير حيث كانت عيون الانجليز تراقب الأمر عن كثب وفزعت من دخول البنا وأنصاره الانتخابات مرة ثانية فأوعزوا لماهر باشا أن يحول بين الإخوان والبرلمان، فاستجاب وحمل على عاتقه ذلك الأمر حتى أنه صدر عنه تصريح غريب حينما سئل عن دائرة الإسماعيلية وما يحدث فيها أعلن أن الحكومة المصرية لا شأن لها بهذه الدائرة، وأن الإنجليز هم الذي يتولونها ممثلين في حاكم سيناء الإنجليزي آنذاك. (5)
ويذكر محمود عساف أن أهل الإسماعيلية أقاموا على نفقاتهم 60 سرادقًا للدعاية الانتخابية للإمام البنا، وتوافد على الإسماعيلية الآلاف من إخوان البلاد الأخرى تأييدًا للإمام البنا. (6)
ولما جاء يوم الانتخاب فوجئ أهل الإسماعيلية بتدخل الجيش البريطاني في الانتخابات حيث أحضروا أعدادًا كبيرة من العمال الذين يعملون في معسكرات الجيش البريطاني في سيارات، وشاركوا في الانتخاب بتذاكر مزورة بأسماء ناخبين من أهل الإسماعيلية، فاحتج أهل الإسماعيلية ولم يسمع لهم من قبل السلطات، وانتهى يوم الانتخابات وظهرت النتيجة وكانت إعادة بين حسن البنا وسليمان عيد (والذي كان يعمل متعهد أغذية في معسكرات الإنجليز). (7)
كانت الإعادة في الإسماعيلية شكل أخر عن كل الدوائر حيث حشد الانجليز والحكومة قوتهم لإسقاط حسن البنا أمام سليمان عيد وينقل لنا الدكتور محمود عساف المشهد كشاهد عيان – حيث كان بالإسماعيلية في ذلك الوقت فيقول:
- "كنا نرى مئات من السيارات اللوري المليئة بعمال المعسكرات البريطانية، ومعظمهم من صعيد مصر تجوب طرقات الإسماعيلية هتافًا لسليمان عيد، ثم تتوقف أمام لجان الانتخابات ليدخل هؤلاء وينتخبون، واحتج الشهيد عبد القادر عودة على التزوير-وكان يعمل قاضيًا ورئيسًا لإحدى اللجان- فصدر أمر وزير العدل بنقله فورًا من الإسماعيلية، فأبى الشهيد عبد القادر عودة هذه الإهانة واستقال من القضاء
- وكانت تلك باكورة صلته بالإمام الشهيد وبالإخوان المسلمين التي أصبح وكيلها فيما بعد قبل أن تغتاله يد الغدر بالإعدام شنقًا عام 1954م، وكانت الأصوات التي حصل عليها الإمام محدودة في كل اللجان، فقد بدلت الصناديق بغيرها إلا لجنة واحدة كانت منسية حصل فيها الإمام البنا على 100٪ من الأصوات، وكانت هذه اللجنة لجنة الطور، وكان وكيل الإمام فيها الخواجة خريستو صاحب محل البقالة الوحيد هناك. (8)
وما حدث مع الإمام حدث تقريبًا مع باقي مرشحي الإخوان، ولكن بدرجة أقل فلم ينجح منهم أحد في هذه الانتخابات، وعند إعلان النتيجة وقف الإمام البنا وسط الإخوان متحدثًا إليهم ليهدئهم ويوضح لهم ما حدث، وكان مما قاله لهم:
- "إن عجز أمة عن أن تدفع أحد أبنائها إلى البرلمان ليقول كلمة الحق والإسلام لدليل على أن الحرية رياء وهباء، وأن الاستعمار هو سر البلاء، إنني أحسب أن مراجلكم تغلي بالثورة وعلى شفا الانفجار، ولكن في هذا الموقف لابد من صمام الأمان، فاكظموا غيظكم، وادخروا دماءكم ليوم الفصل، وهو آت لا ريب فيه ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ووصيتي لكم أيها الإخوان أن تنصرفوا إلى منازلكم وبلادكم مشكورين مأجورين، وأن تفوتوا على أعدائكم فرصة الاصطدام بكم". (9)
وبعد انتهاء الانتخابات وحدث فيها ما حدث كتب الأستاذ صالح عشماوي تحت عنوان (بعد المعركة الانتخابية: انتصار) قال فيه:
- أعلنت نتيجة الانتخابات لعضوية مجلس النواب عن دائرة مصر القديمة ولم يفز كاتب هذه السطور ومرشح الإخوان المسلمين ومع ذلك فقد كانت هذه الهزيمة هي عين الانتصار! أجل لقد فزنا أو على الأصح انتزعنا 764 صوتًا ليس بينها صوت دخيل على الدائرة، ولم نكسب هذه الأصوات بل لم نجتذب هذه القلوب بإغراء المادة أو رهبة القوة، وفي الحق ليس بين هؤلاء الناخبين فرد لم يتعرض – على ما به من فقر – لإغراء المال، وليس من بينهم لم يهدد – على ما به من ضعف – ببطش السلطان، ومع ذلك لم يغرهم الأصفر الرنان ولم يرهبهم البطش والسلطان!
- فأي انتصار بعد هذا الانتصار؟ وليس هذا العدد وحده هو الذي فزنا به بل لقد كنت أشهد أمام اللجان الانتخابية المئات من الناخبين وقد وقفوا الساعات الطوال يريدون أن يقتحموا الأبواب ليمنحوني ثقتهم ويعطوني أصواتهم، ولكن حال دون ذلك عدم صرف التذاكر الانتخابية لهم فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا سبيلا لتأييد من يناصرون.
- ولقد طفت بالدائرة غداة ظهور النتيجة فشعرت بالحب يغمرني في كل مكان، والولاء والثقة بشخصي الضعيف تجري على كل لسان، ومبادئ الإخوان المسلمين يهتف بها الصغار من الصبيان كما يرددها الكبار من شيوخ وشبان، ولقد قرأت في بعض الوجوه الدهشة كما رأيت على وجوه أخرى أمارات الأسف والندم، فقد تعود الناس بعد الانتخابات أن يعتكف الذي لم يفز بالنيابة وهو ثائر حانق يرمي الناخبين بأشنع الاتهامات!
- وأما الفائز فقد جعل بينه وبين ناخبيه جدارًا بل جدران، فلما مررت على أهالي الدائرة أشكرهم جميعًا أكبر الذين انتخبوني هذا الوفاء، وندم الذين انتخبوا غيري ولاموا أنفسهم على عدم الولاء، وخرجت من هذا الطواف وقد رضيت عن أهالي الدائرة جميعًا ورضي عني الخصوم والأنصار على السواء.
- إن دائرة مصر القديمة هي دائرتي العزيزة إلى نفسي، الحبيبة إلى قلبي، ولن أتركها للنيابة عنها فما ذلك إلا لأكون أقدر على خدمتها والدفاع عن مصالحها، فإذا حيل بيني وبين ذلك الدفاع باللسان وتحت قبة البرلمان فما زال في الميدان متسع لخدمتها والدفاع عنها بالقلم والبيان ومن فوق المنبر الدائم منبر صاحبة الجلالة الصحافة، هذا عهدي لها أشهد الله والناس عليه وكفى بالله شهيدًا، ولقد دعوت أهالي مصر القديمة بالأمس ليعطوني أصواتهم فمنحوني قلوبهم وغمروني بحبهم وثقتهم وأنا بهذا الحب وبهذه الثقة معتز فخور
- وما من قوة في الأرض تستطيع أن تفصل بيننا أو تفرق بين قلوبنا، وسنعمل معًا جنبًا إلى جنب في سبيل الهدف الأسمى والغاية الكبرى من إعلاء كلمة الله ونشر دينه والمناداة بكتابه والحكم بشريعته، بقيت لي كلمة إلى إخواني من مختلف الشعب فقد شدوا أزري وستروا ضعفي فأصبحت بهم قويًا، وغمروني بفضلهم وكرمهم فكنت بمساعداتهم غنيًا، ولقد حملوا لهذا الشعب الحائر نور الهدى وشعلة الإرشاد ولقنوا أهالي دائرة مصر القديمة أسمى المبادئ وأشرف الغايات، وليس لي أن أشكرهم فما عملوا يومًا لشخصي، ولكنني أسأل الله أن يضاعف لهم الجزاء. (10)
ولقد كتب الأستاذ يحيى نامق (وهو دبلوماسي مصري عمل بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية) تحت عنوان "من مذكرات دبلوماسي مجهول" يقول:
- وهذا الإلهام الصادق بل هذه الوطنية العميقة كانت تُقضُّ مضاجع دهاه الاستعمار، وقد سمعت ذلك بأذني من أكبر الأفاعي فى إحدى ليالي فبراير من عام 1948 فقد جمعتني حفلة عشاء بمنزل شخصية أجنبية كانت تسكن بشارع بولس حنا بالعجوزة وهناك قابلت الجنرال "كلايتون"، وكان يومها يعتبر أخطر شخصية بريطانية فى الشرق، وانتحى بى الرجل في شرفة المنزل وأخذ يحدثنى عن رأيه فى زعماء مصر والعرب، وفجأة وجه إلى سؤالا أدهشني قال إذا أجريت انتخابات في مصر فمن ينجح؟ النحاس والوفد، أم النقراشى والحكومة، أم حسن البنا وأنصاره؟. (11)
على العموم انتهت الجولة الأولى للإخوان بالانسحاب من الانتخابات تحت ضغوط وزارة النحاس باشا، وبتزوير الانتخابات ضدهم في وزارة ماهر باشا، ومع ذلك كان الناس يتمنون أن يحقق البرلمان المنشود منه وقد صورها رسام الكاريكاتير بهذه الصورة:
المراجع
- الإخوان المسلمون، العدد (53)، السنة الأولى، 5 شعبان 1365ه/ 4 يوليو 1946م، ص(4).
- السابق، العدد (49)، السنة الثالثة، 4 محرم 1364ه/ 19 ديسمبر 1944م، ص(5، 10).
- الإخوان المسلمون – العدد (49) – 4 محرم 1364هـ / 19/12/1944م.
- الإخوان المسلمون – العدد (50) – 17 محرم 1364هـ / 2/1/1945م.
- مجلة المباحث القضائية، العدد (54)، السنة السابعة، 2 ربيع الأول 1370ه/ 12ديسمبر 1950م، ص(4).
- محمود عساف: مع الإمام الشهيد حسن البنا، مكتبة عين شمس، 1413ه/ 1993م، ص(114).
- الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، (1/265).
- مع الإمام الشهيد، محمود عساف، صـ 115.
- عباس السيسي: حسن البنا مواقف في الدعوة والتربية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2001م، ص(202).
- الإخوان المسلمون – العدد (51) – 1صفر 1364هـ / 16/1/1945م.
- الدعوة – السنة الرابعة – العدد (156) – 5جمادى الآخرة 1373هـ / 9فبراير 1954م.