الحكومة الخفية في عهد جمال عبدالناصر

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الحكومة الخفية فى عهد جمال عبد الناصر
غلاف-الحكومة-الخفية.jpg

بقلم أ. جمال حماد


محتويات

تقديم

شهدت مصر خلال الستينات صراعا ضاريا على السلطة أطلق عليه البعض اسم " صراع الديناصورات" فقد كان طرفا الصراع عملاقين شديدى القوة والبأس هما جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية الذى كان يستند على سلطته المستمدة من الشرعية الدستورية والمشير عبد الحكيم عامر الذى كان يستند على سلطته المستمدة من القوات المسلحة. وكان الأمر الذى يدعو إلى الدهشة والعجب أن عبد الناصر هو الذى رشح عبد الحكيم عامر عندما كان برتبة الرائد ليتولى القيادة العامة للقوات المسلحة على أن يمنح رتبة اللواء ليقفز بذلك أربع رتب دفعة واحدة. ورغم الاعتراضات العنيفة التى واجهها عبد الناصر من ناحية اللواء محمد نجيب ومن بعض زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة فإنه استمر يعرض اقتراحه فى صبر وإلحاح عجيبين حتى نجح فى النهاية فى تحقيق رئيسا للجمهورية بعد إلغاء الملكية فى 18 يونيو 1953 هو الأمر الجمهورى رقم 1 بتعيين الرائد عبد الحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة على ان يمنح رتبة اللواء.

وعلى الرغم من إدراك عبد الناصر أنه كان بالخدمة فى القوات المسلحة وقتئذ قادة أكفاء كانت مدة خدمة بعضهم فى الجيش تتجاوز عمر عبد الحكيم الذى كان فى ذلك الوقت فى بداية الثلاثينات من عمره إلا أنه كان مصر على تعيين لا بحكم كفاءته العسكرية أو حرصا منه على الصالح العام ولكن بإعتبار واحد فقط وهو أن عبد الحكيم كان أخلص الأصدقاء وأقرب الزملاء إلى قلبه فى مجلس قيادة الثورة وكان هذا يعنى ولاء القوات المسلحة ل عبد الناصر وتدعيمها لمركزه مما يتيح له الفرصة للسيطرة التامة على الشئون السياسية فى مصر دون زملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة تمهيدا لتنفيذ المخطط الذى رسمه فى دقة ومهارة منذ بداية الثورة وهو التخلص من زملائه جميعا والانفراد وحده بالنفوذ والقوة والسلطان.

ونجح عبد الناصر فى تنفيذ مخططه ببراعة ففى خلال فترة الانتقال التى حددت بثلاث سنوات تمكن من تصفية كل منافسيه الأقوياء داخل قيادة الثورة ومن كل معارضيه المشاكسين بين صفوف الضباط الأحرار فقد أطاح بالعقيد رشاد مهنا الوصى على العرش وصاحب الشعبية الكبيرة فى سلاح المدفعية فى 14 أكتوبر 1952 كما تم له تنحية اللواء محمد نجيب عن رئاسة الجمهورية فى 14 نوفمبر 1954 بعد صراع مرير على السلطة احتدم بينهما خلال شهرى فبراير و مارس 1954 حتى كادت البلاد تتعرض لحرب أهلية مدمرة. ونظرا لن مجموعتى ضباط المدفعية والفرسان كانتا أقوى مجموعات الضباط الأحرار وأكثرها عددا وأشدها صلابة وتكتلا لذلك تم ضرب مجموعة المدفعية وتشتيت ضباطها وإلقاء زعمائها فى السجن فى 15 يناير 1953 فيما عرف باسم قضية المدفعية كما حاقت الضربة بمجموعة سلاح الفرسان فى أعقاب أحداث فبراير و مارس 1954 التى أسفرت عن تراجع مجلس الثورة عن قراراته الديمقراطية التى أصدرها فى 5و25 مارس 1954 وتقلص نفوذ محمد نجيب وانتهى الأمر بإلقاء طائفة من أبرز الضباط الأحرار بسلاح الفرسان فى السجن ونقل طائفة أخرى منهم إلى وظائف مدنية وإبعاد الباقين عن سلاح الفرسان.

وفى الوقت الذى تمت فيع تصفية العناصر المنافسة والمناوئة من العسكريين وخلا الجو تماما ل عبد الناصر داخل القوات المسلحة بفضل مؤازرة صديقه الحميم عبد الحكيم عامر القائد العام كانت الخطة تنفذ بدقة ومهارة لإحكام السيطرة على الساحة السياسية فى مصر عن طريق الإطاحة بكل القوى السياسية التى كانت موجودة على المسرح عند قيام الثورة فى 23 يوليو 1952 ففى 10 ديسمبر 1952 صدر القرار بإلغاء دستور عام 1923 وفى 16 يناير 1953 صدر القرار بحل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة جميع أموالها لصالح الشعب وقيام فترة انتقال مدتها ثلاث سنوات وفى 18 يناير 1953 ولحماية حركة الجيش من رقابة القضاء صدر مرسوم بقانون باعتبار التدابير التى اتخذها رئيس حركة الجيش لحماية الحركة ونظامها من أعمال السيادة العليا أى لا تخضع لرقابة القضاء وفى 10 فبراير 1953 صدر الإعلان الدستورى بإعلان الدستور المؤقت الذى تقرر أن حكم مصر بموجبه خلال فترة الانتقال.

وفى مطلع عام 1954 لم يكن باقيا فى الساحة السياسية فى مصر سوى جماعة المسلمين التى أسهمت بدور بارز فى مؤازرة حركة الجيش قبل قيامها وكذا بعد قيامها مما دعا قيادة الحركة إلى عدم تطبيق قرار مجلس الثورة الذى صدر فى 16يناير 1953 بحل الأحزاب على جماعة الإخوان المسلمين . ولكن الخلافات العميقة التى نشبت بين مجلس الثورة و جماعة الإخوان المسلمين أدت إلى صدور قرار المجلس فى 14 يناير 1954 باعتبار الجماعة حزبا سياسيا ومخضوعها بالتالى لقرار حل الأحزاب الذى صار منذ عام سابق وترتب على ذلك القرار حل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها وممتكلتها والزج بقادتها فى أعماق السجون. وعندما اشتد الصراع بين عبد الناصر ومحمد نجيب وأعلن مجلس الثورة قبوله لاستقالة محمد نجيب يوم 25 فبراير 1954 لعب الإخوان المسلمون رغم حل جماعتهم دورا بارزا فى إعادة محمد نجيب إلى السلطة مساء 27 فبراير عن طريق المظاهرات الشعبية الضخمة التى نجحوا طوال اليوم فى حشدها وفى تولى قيادتها فى شوراع القاهرة وميادنها خاصة ميدان عابدين.

وقد اضطر مجلس الثورة تحت الضغط الشعبى وتحت ضغط الرأى العام فى الجيش خاصة فى سلاح الفرسان إلى إصدار قرارات 5و25 مارس الديمقراطية التى تقرر فيها عودة الحريات و الأحزاب والحياة الدستورية إلى البلاد. ولكن عبد الناصر مع طائفة من زملائه كانوا يأتمرون للنكوص عن هذه القرارات والاستمرار فى الحكم العسكرى وكان خوفهم الوحيد أن تكرر المظاهرات الشعبية الضخمة التى ملأت شوارع القاهرة يوم 27 فبراير والتى تزعمها بعض قادة الإخوان المسلمين للمطالبة بعودة محمد نجيب وعودة الحياة الديمقراطية مما كان كفيلا بإفشال المخطط الذى دبروه وهو قيام مظاهرات مأجورة تجوب شوارع العاصمة للهتاف ضد الديمقراطية والحريات والمطالبة بتراجع مجلس الثورة عن قرارته. ونظرا لأن الإخوان المسلمين كانوا هم القوة الوحيدة المنظمة وقتئذ والتى كان عبد الناصر يخشى من تواجدها فى الشارع لذلك قام بلعبة بارعة لكى يضمن سكوت الإخوان المسلمين وابتعادهم مؤقتا عن حلبة الصراع فقد تم الإفراج عن زعمائهم المعتقلين وهرع عبد الناصر إلى زيارة المرشد العام حسن الهضيبى عقب الإفراج عنه فى منزله بعد منتصف ومضى فى سياسة التهادن مع الإخوان المسلمين بمنحهم الوعود عن قرب استئنافهم لنشاطهم السياسى ريثما تم إلغاء قرارات 5و25 مارس الديمقراطية والتخلص من الجبهة المعارضة للدكتاتورية العسكرية داخل الجيش والمتمثلة فى ضباط سلاح الفرسان ثم تحجيم زعامة ودور محمد نجيب بإرغامه على الاكتفاء بتولى منصب رئيس الجمهورية بدون سلطات حتى تم فى النهاية تنحيته عن منصبه بعد بضعة أشهر. وسرعان ما ظهرت نوايا عبد الناصر الحقيقية تجاه الإخوان المسلمين بعد أشهر قلائل فقط من سياسة الملاينة والمهادنة التى اتبعها معهم فلم يكد يقع حادث محاولة الإعتداء على حياته فى مساء 26 أكتوبر 1954 خلال الاحتفال الكبير الذى أقيم فى ميدان المنسبة ب الإسكندرية بمناسبة توقيع اتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا والذى اتضح أن الذى قام به عامل يدعى محمود عبد اللطيف ينتمى ل جماعة الإخوان المسلمين حتى كشف عبد الناصر عن خبيئه نواياه وتعرضت الجماعة لمحنة دامية لم يسبق لها مثيل فقد قامت على آثر الحادث حملة اعتقالات واسعة النطاق شملت عدة آلاف من الإخوان المسلمين وتشكلت محكمة عسكرية سميت بمحكمة الشعب برئاسة جمال سالم وعضوية أنور السادات و حسين الشافعى وأصدرت المحكمة حكمها بالإعدام شنقا على سبعة أفراد هم المرشد العام حسن الهضيبى و محمود عبد اللطيف و عبد القادر عودة و يوسف طلعت و إبراهيم الطيب و هنداوى دوير و محمد فرغلى وقد خفف الحكم على حسن الهضيبى إلى السجن المؤبد لكبر سنه ومرضه بينما نفذ حكم الإعدام فى الستة الآخرين. وكانت ثلاث دوائر عسكرية فرعية من محكمة الشعب قد شكلت فى نفس الوقت ومثل أمامها فى قفص الاتهام آلاف من الإخوان المسلمين وبلغ عدد الذين حكمت عليهم محاكم الشعب من الإخوان 867 شخصا سواء بالحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة.

وفيما يتعلق بالدستور كانت لجنة خاصة قد شكلت بقرار من مجلس الثورة فى 13 يناير 1953 لوضع مشروع دستور جديد بعد إلغاء دستور عام جديد بعد إلغاء دستور عام 1923 وقد روعى فى تشكيل اللجنة التى ضمت 50 عضوا أن يمثل أعضاؤها مختلف الأحزاب والطوائف والهيئات علاوة على أن يكون من بينهم طائفة من جهابذة رجال القانون فى مصر . واستمرت هذه اللجنة التى كان يرأسها على ماهر هى ولجانها الفرعية تعمل عملا دائبا لمدة عامين كاملين حتى انتهت من إعداد مشروع دستور جديد يتمشى مع أحداث وأفضل الدساتير فى العالم وأقرته اللجنة الفرعية للصياغة وأحيل فى 17 يناير 1955 إلى رئيس مجلس الوزراء وقتئذ جمال عبد الناصر لاستطلاع رأيه قبل عرضه على اللجنة العامة تميدا لإصداره. ولكن عبد الناصر تجاهل هذا الدستور الذى أنفقت لجنة الدستور عامين كاملين فى إعداده والتى استرشدت فى صياغته بأبرز وأهم النظم الدستورية فى العالم واكتفى بأن عهد إلى مستشاره القانونى الخاص محمد فهمى السيد ( قريب السيدة قرينته) بوضع دستور آخر بمعاونة المكتب القانونى برئاسة مجلس الوزراء الذى كان يتولى رئاسته.وبعد دراسة استغرقت بضعة أشهر تم إعداد مشروع الدستور الجديد فى 16 يناير عام 1956 أى فى نهاية السنوات الثلاث التى حددت من قبل كفترة انتقال لإقامة حكم ديمقراطى سليم. ودعى الشعب إلى استفتاء عام فة 25 يونيو 1956 على الدستور الجديد وعلى رئاسة الجمهورية على 99,9% وهى نسبة لم يسبق لها مثيل من قبل فى تاريخ الاستفتاءات فى العالم كما كانت نتيجة الإستفتاء على الدستور هى 99,8% فى صف الموافقين عليه. ولعل خير ما نستدل به على مدى النفاق السياسى الذى كان سائدا فى تلك الفترة أن نطلع على ذلك المقال الذى نشر ب جريدة الأهرام فى العدد الصادر فى 26 يونيو 1956 الذى نشرت فيه نتائج الاستفتاء بالعناوين الضخمة فى صدر الصفحة الأولى وهو بالطبع صورة تكاد تكون طبق الأصل مما نشر فى الصحف الأخرى وقد ورد فى هذا المقال ما يلى بالحرف:

" فاز الرئيس جمال عبد الناصر برئاسة الجمهورية بنسبة عددية قدرها 5,495,555 وبنسبة مئوية قدرها 99,9% وهو فوز إجماعى ساحق بل وفوز تاريخى لم يحصل عليه مرشح ما أى انتخاب ولم يتح مثله لرئيس أو زعيم. وفى هذه الأرقام الدليل القاطع والبرهان الدامغ على مبايعة الشعب الإجماعية للسيد الرئيس وتقدير جهده وجهاده من أجل مواطنية وبلاده ورسيما إذا وضعنا فى الحساب ما امتازت به هذه الانتخابات من حرية ونزاهة وسرية وهدوء لم تشهدها البلاد فى سلسلة حياتها النيابية.

وإذا قورنت هذه النسبة الجماعية التى فاز بها السيد الرئيس عبد الناصر بما ناله رئيس جمهورية أمريكا أو ألمانيا الغربية أو رئيس وزراء بريطانيا لكانت ضئيلة أمام النسبة التى نالها الرئيس جمال عبد الناصر . فقد فاز " ايزنهاور" رئيس جمهورية الولايات المتحدة فى الانتخابات الأخيرة بنسبة لا تتجاوز 33,86% وفاز " اديناور" رئيس جمهورية ألمانيا الغربية فى انتخابات سنة 1953 بنسبة لا تزيد بلغت 38,26% ونال الدستور كذلك موافقة 99,8% وهى نسبة تبلغ حد الكمال وتدل أرقامها على يقظة الوعى القومى وتقديره انتهى مقال الأهرام .

ويتولى عبد الناصر رئاسة الجمهورية وتصديق الشعب على الدستور الجديد أصبح مجلس قيادة الثورة منحلا وأصبح عبد الناصر هو صاحب السلطة الشرعية فى البلاد بتأييد الشعب من جهة ومن جهة أخرى بتأييد القوات المسلحة التى كرس قائدها العام عبد الحكيم عامر كل ولائها وسطوتها لخدمة صديق عمره عبد الناصر وتدعيم مركزه السياسى. ولكن جو الصفاء الذى تميزت به العلاقة بين عبد الناصر و عبد الحكيم والذى استمر هادئا لأكثر من أربعة أعوام لم يلبث أن تعكر فى نهاية عام 1956 فقد اشتدت الخلافات بينهما عقب الخطاء العسكرية الجسيمة التى وقعت أثناء مواجهة العدوان الثلاثى على مصر فى 29 أكتوبر 1956 وعندما طلب عبد الناصر من عبد الحكيم إبعاد القادة المسئولين عن هذه الأخطاء عن مناصبهم رفض عبد الحكيم وتمسك بضرورة بقائهم وأسبغ عليهم حمايته.

ورغم انسحاب القوات المصرية من سيناء وقطاع غزة واستيلاء إسرائيل عليهما ورغم احتلال الانجليز والفرنسيين ل بورسعيد وبور فؤاد إلا أن الحرب انتهت بنصر سياسى ل مصر و جمال عبد الناصر بالذات وأصبح هو بعد هذه الحرب زعيم الأمة العربية بلا منازع وبطل القومية العربية وحامى حمى العروبة مما جعل القادة السوريين يهرعون إليه لإقامة الوحدة بين سوريا و مصر درءا للخطر الذى كان يهدد سوريا وقتئذ بسبب صراعاتها الداخلية المشتعلة وبسبب تهديدات القوى الأجنبية لحدودها .

وفى فبراير عام 1958 أعلنت الوحدة بين سوريا و مصر بعد استفتاء عام فى الدولتين وانتخب عبد الناصر بالإجماع رئيسا لجمهورية الدولة الجديدة التى أطلق عليها اسم الجمهورية العربية المتحدة. إلا أن الوحدة التى قابلها الشعبان المصرى والسورى بالحماسة والترحيب لم تلبث أن انتهت بمأساة الانفصال عقب الانقلاب العسكرى السورى الذى وقع فى 28 سبتمبر عام 1961 والذى اتضح أن أحد قادته البارزين وهو المقدم عبد الكريم النحلاوى كان مديرا لمكتب المشير عامر فى دمشق وأعاد قادة الانقلاب المشير عامر وبعض كبار أعوانه مطرودين إلى القاهرة . وكان الرأى الغالب عقب مأساة الانفصال أن يبعد عبد الحكيم عامر عن قيادة القوات المسلحة وقد طلب هو هذا الطلب بنفسه بعد ما تعرض له من إهانة فى سوريا ووافقه عبد الناصر على ذلك إلا أنه عاد وتمسك بمنصبه وعندما أصر عبد الناصر على استبعاد بعض القادة الذين ثبت أنهم لا يصلحون للقيادة وافق عبد الحكيم ولكنه طلب مهلة شهر للتنفيذ واتضح فيما بعد أنه تخلى عما سبق الاتفاق عليه وأنه متمسك بأعوانه وقادته المرؤوسين مهما كانت أخطاؤهم مغلبا فى ذلك الدوافع العاطفية على دواعى المصلحة الوطنية مما خلق من هذه المجموعة التى كان على رأسها شمس بدران مركزة قوة ضخم يدين بولائه للمشير عامر شخصيا دون الاكتراث ب عبد الناصر رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة.

وبعد أن وصلت الأمور إلى هذا الحد أيقن عبد الناصر أن الوضع لن يستقيم ولن تصبح القوات المسلحة جهازا مثل باقى أجهزة الدولة إلا بإبعاد المشير عن منصب القائد العام.

وحاول عبد الناصر تحقيق هدفه بإنشاء مجلس الرئاسة فى مارس عام 1962 على أساس أن يتولى هذا المجلس كقيادة جماعية الإشراف على جميع شئون الحكم فى مصر والسيطرة على جميع الأجهزة بما فيها القوات المسلحة وكان المفترض وفقا لهذا التنظيم الجديد إبعاد كل أعضاء مجلس قيادة الثورة القدامى عن جميع الأعمال التنفيذية مما كان سيترتب عليه تعيين قائد محترف يتولى القيادة العامة للقوات المسلحة بدلا من المشير عامر الذى كان عمله سينحصر بعد ذلك فى عضويته لمجلس الرئاسة وتردد اسم الفريق على على عامر رئيس أركان حرب القوات المسلحة وقتئذ كمرشح لمنصب القائد العام.

ولكن الشهور الأخيرة من عام 1962 سرعان ما شهدت صراعا عنيفا على السلطة بين عبد الناصر الذى كان يؤيده ستة من أعضاء مجلس الثورة القدامى وهم زكريا محيى الدين و حسين الشافعى و عبد اللطيف البغدادى و أنور السادات و كمال الدين حسين و حسن إبراهيم وبين المشير عبد الحكيم عامر وأعوانه الذين كانوا على ثقة من أن إنشاء مجلس الرئاسة لم يقصد به عبد الناصر إلا إبعاد المشير عامر عن القوات المسلحة. وتحدى المشير عامر إرادة عبد الناصر وسلطات مجلس الرئاسة وأصر على البقاء على رأس القوات المسلحة بجميع سلطاته واختصاصاته مما أدى إلى أزمتى سبتمبر و نوفمبر عام 1962 اللتين نشبتا على أثر تقديم المشير عامر استقالته. واضطر عبد الناصر إلى استرضاء المشير عامر فى الأزمتين خشية تمرد القوات المسلحة ضده وانقلابها عليه. وعدل المشير عامر عن استقالته فى المرتين استجابة لرجاء وإلحاح عبد الناصر ولكنه عاد أكثر قوة وأوسع نفوذا وكان التغيير الوحيد الذى جرى هو أن لقبه أصبح نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة وتبدل اسم القيادة العامة ليصبح القيادة العليا للقوات المسلحة.

وكان لخروج المشير عامر ظافرا من كل الأزمات التى وقعت بينه وبين عبد الناصر أثره الفعال فى ازدياد ثقة أفراد المجموعة الملتفة حوله فى قوتهم وفى استفحال نفوذهم وسطوتهم لا فى الداخل القوات المسلحة فحسب ولكن فى جميع هيئات ومرافق الدولة حتى أصبحوا يشكلون أخطر مركز قوة فى تلك الفترة. وقد عبر عبد الناصر لزملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة القدامى عما بات يشعر به من عجز وضعف إزاء قوة المشير عامر وازدياد نفوذه بهذا الشكل الخطير فقال لهم فى مرارة أثناء الأزمة العنيفة التى نشبت بينهما عام 1962 ما يلى:

" هل يعتقد عبد الحكيم أنه هو الذى بنى بنفسه هذه القوة السياسية التى يتمتع بها الآن؟ إننى أنا الذى عملت على بنائها لاعتقادى أننا شخص واحد وكان هذا على حساب كل فرد منكم وعلى حساب المصلحة العامة فى بعض الأحيان ولم يكن يخطر فى ذهنى أن يصل عبد الحكيم إلى ما وصل إليه اليوم " ولكن الأمر كان قد وصل بالفعل إلى الحد الذى جعل عبد الناصر يصارح السادات ذات مرة وهو فى قمة الألم واليأس بأن البلد تحكمها عصابة.

وكانت المجموعة التى تلتف حول عبد الناصر فى هذه الآونة فى اشد حالات القلق والانزعاج من تزايد نفوذ الجماعة القوية البأس الملتفة حول المشير عامر والتى يرأسها شمس بدران والتى سيطرت على مقادير القوات المسلحة وجعلت منها أداة جبارة وقوة مخيفة بحيث روعت عبد الناصر نفسه رغم انه هو الذى كان السبب فى وضع شمس بدران فى مكانه المتميز إلى جانب المشير عامر اعتقادا منه أنه رجله المخلص الذى سيتمكن عن طريقه من إيجاد التوازن فى قيادة الجيش حتى لا ينفرد عبد الحكيم عامر وحده بالسيطرة عليه ولكن الحوادث أثبتت له فيما بعد خطأ حساباته وفشل مخططاته فقد استطاع المشير عامر استقطاب شمس بدران إلى صفة وأصبح الجيش مركز قوة يعمل له عبد الناصر ألف حساب. وكان سامى شرف مدير مكتب الرئيس عبد الناصر للمعلومات يحاول جاهدا فى تلك الفترة إثبات وجوده على المسرح عن طريق إظهار أشد درجات الخضوع والولاء لرئيسه واستطاع بعد فترة قصيرة بدهائه وجلده المتواصل فى العمل واتصالاته السرية المتشعبة أن يجعل من نفسه ومن بعض أعوانه المقربين مركز قوة ثان فى المجال المدنى بحيث أمكنه السيطرة إلى حد بعيد على نعظم الشئون السياسية وشئون الحكم فى مصر وحاول سامى شرف فى حرص وحذر التصدى لمجموعة المشير عامر حتى ينحصر نفوذها وقوتها فى مجال القوات المسلحة فحسب حتى لا تنافسه فى المجال المدنى ولكن التيار العسكرى كان جارفا وبقى سامى شرف متحفزا ينتظر إلى جانب رئيسه الفرصة التى قد تسنح فى المستقبل للتخلص من المشير عامر وأعوانه.

وساق القدر فى النهاية الفرصة التى كان يتحينها عبد الناصر للخلاص من عبد الحكيم عامر والقضاء على نفوذه وتصفية أعوانه عن بكرة أبيهم ولكنها كانت فرصة أليمة ضاعت فيها فوق رمال سيناء المحرقة كرامة مصر وعزتها وكبرياؤها وامتهن فيها شرف جيشها العظيم ذى التاريخ الحافل بالمفاخر والأمجاد وشهد الشعب المصرى خلال مأساة يونيو عام 1967 كابوسا مروعا حينما عرف أن القوات الإسرائيلية قد وصلت إلى الشاطىء الشرقى لقناة السويس وعندما علم أن آلته الحربية الجبارة التى أنفق عليها بلايين الجنيهات من عرقه ودمائه تلك السنوات قد أصبحت فى بضع ساعات هشيما تذروه الرياح.

وعندما أعلن عبد الناصر على الشعب تنحيه عن منصبه مساء 9 يونيو خرجت الجماهير الشعبية فى مظاهرات حاشدة فى كل أرجاء مصر تطالبه بالعودة إلى منصبه وعندئذ أعلن عبد الناصر عن طريق بيان قرأه أنور السادات على مجلس الأمة فى اليوم التالى أنه قد عاد مؤقتا إلى منصبه استجابة لإرادة الشعب لكى يعمل على إزالة آثار العدوان. واعتقدت جماعة عبد الحكيم عامر أن نفس الأسلوب يمكن اتباعه بالنسبة للقائد العام الذى كان قد قدم استقالته هو الآخر يوم 9 [يونيو] إلى رئيس الجمهورية وذلك عن طريق القيام بمظاهرة عسكرية يحتشد فيها الضباط فى بهو القيادة العامة بمدينة نصر ويطالبون فيها بعودة المشير عامر إلى منصبه بنفس الطريقة التى عاد بها عبد الناصر إلى مقعد رئاسة الجمهورية ويكررون خلالها مظاهر استعراض القوة التى سبق لهم استخدامها بنجاح خلال احتدام أزمة عام 1962 بين الرئيس والمشير. ولكن فاتهم أن يدركوا أن الظرف مختلف والبون شاسع بين الموقفين فإن القائد الذى هزم فى ميدان القتال هذه الهزيمة النكراء لا يستطيع أن يفرض شروطه وأن الشعب الذى تجرع مرارة الهزيمة حتى الثمالة وأحس بضياع كرامته وشرفه لا يمكنه أن يتقبل راضيا عودة القادة الذين تسببوا فى هزيمة جيشه وفى فقده قطعة غالية من أرض الوطن وهى سيناء.

كما فاتهم أن يدركوا أن عبد الناصر الذى ذاق الأمرين من تمرد عبد الحكيم وأعوانه عليه واستهانتهم بأمره لن يسمح لهم مرة آخرى بتولى مقاليد السلطة فى القوات المسلحة ليذيقوه ألوانا جديدة من الذل والهوان.

وحتى يقطع عبد الناصر على المشير عامر وأعوانه خط الرجعة ويقضى على أملهم فى العودة نهائيا سارع ظهر يوم 11 يونيو بإصدار قراره بتعيين الفريق أول محمد فوزى قائدا عاما للقوات المسلحة وشكل عبد الناصر طاقما ثلاثيا كان يتكون من سامى شرف وزير الدولة و شعراوى جمعة وزير الداخلية و أمين هويدى وزير الحربية وعهد إليهم بمهمة تصفية المشير عامر وأعوانه داخل القوات المسلحة وانضم إليهم بالطبع الفريق أول محمد فوزى القائد العام الجديد الذى رحب بالمشاركة فى هذا الدور.

وأنجزت اللجنة المختارة مهمتها على أكمل وجه فقد صدرت النشرات العسكرية تباعا تحمل إحالة أعوان المشير عامر إلى التقاعد وعندما تواترات الأنباء بالمؤامرة التى أخذ يرسمها المشير مع بعض أعوانه المقربين للتوجه إلى قيادة الجيش الميدانى فى منطقة القناة بمساعدة رجال الصاعقة فى أنشاص لتنصيب نفسه قائدا عاما من جديد والتمهيد لعزل عبد الناصر تم حبك مكيدة محكمة وقع فيها عبد الحكيم عامر بسهولة وسلامة نية فقد ألح عليه عبد الناصر للحضور إلى منزله مساء 25 أغسطس 1967 لتناول العشاء معا وألمح له بإعداد نفسه لمرافقته إلى مؤتمر القمة بالخرطوم الذى كان يزمع السفر إليه يوم 27 أغسطس أى بعد يومين فقط. وعندما وصل عامر إلى منزل ناصر لم يجد عشاء معدا ولا استقبال حافلا فى انتظاره بل على العكس وجد نفسه ماثلا أمام محاكمة غاضبة فى شكل جلسة أعدها له عبد الناصر فى حضور ثلاثة من زملائه القدامى هم زكريا محيى الدين و حسين الشافعى و السادات وفى نفس التوقيت كان الفريق أول محمد فوزى على رأس قوة من المشاة والمدرعات قد ضرب الحصار حول منزل المشير عامر بشارع الطحاوى ب الجيزة ولم يلبث أن اقتحم المنزل وألقى القبض على جميع أعوان المشير المتحصنين بالداخل وعلى رأسهم شمس بدران وتم اعتقال الحراس المدنيين الذين جلبهم المشير عامر من قريته اسطال بمحافظة المنيا ووضعت على المنزل حراسة مشددة من الشرطة العسكرية. وعاد المشير عامر قرب الفجر إلى منزله برفقة زكريا محيى الدين و حسين الشافعى بعد أن قام بمحاولة للإنتحار فى منزل عبد الناصر عندما أدرك عدم مقدرته على التأثير عليه عاطفيا كما كان يجرى فى الأزمات السابقة. عاد المشير عامر بعد أن أذهلته صدمة الخديعة والغدر من صديق عمره ولكنه نسى أن الرئيس عبد الناصر قد تغدى به قبل أن يتعشى هو به كما كان مقررا فى الخطة التى رسمها مع أعوانه المقربين للوصول إلى مركز قيادة الجيش فى منطقة القناة. واكتشف المشير عامر أن بيته قد خلا من أعوانه وحراسه وأنه قد غدا محدد الإقامة وأن جميع اتصالاته وخطوطه التليفونية مقطوعة مع الخارج.

وأدرك بعد فوات الأوان أنه قد وقع فى شرك محكم وأن العشاء الذى دعاه إليه عبد الناصر كان بالنسبة له أشبه بالعشاء الأخير بالنسبة للمسيح عيسى عليه السلام.

وعلى اثر هذه الإجراءات تمت عملية اعتقال واسعة النطاق لجميع أعوان المشير وأشقائه وأقاربه وتمت محاكمة عدد منهم أمام محكمة عسكرية برئاسة حسين الشافعي حيث أوقعت عليهم أحكاما قاسية بالسجن بالأشغال الشاقة. وانتهت الرواية المفجعة بمأساة مروعة فقد أعلنت السلطات المسئولة أن المشير عامر قد انتحر فى الساعة 6,40 مساء يوم الخميس 14 سبتمبر 1967 بتناول السم وذلك فى استراحة المخابرات العامة بالمريوطية بجوار الأهرام ومهما كانت درجة الشبهات التى أحاطت بظروف انتحاره فقد طويت صفحة دامية بلا شك ومن تاريخ مصر ومن تاريخ ثورة 23 يوليو 1952 .

وخلا الجو تماما بعد ذلك للجماعة التى قرر عبد الناصر أن يوكل إليها مسئولية حكم البلاد خلال تلك الفترة بعد أن انعقد عزمه على تركيز جهوده بأكملها من أجل إعداد القوات المسلحة لخوض معركة ثأرية ضد إسرائيل كي يسترد زعامته التى تزعزعت والأرض التى ضاعت. واعتبر عبد الناصر أفراد هذه الجماعة وهم شعراوى جمعة و سامى شرف و محمد فوزى و أمين هويدى مسئولين أمامه عن سلامة النظام واستقرار الأمن وعن كافة الشئون الداخلية والخارجية فى البلاد.

وكان سامى شرف هو حلقة الاتصال الوحيدة بين عبد الناصر وبين الوزراء وكبار مسئولى الدولة فعن طريق سامى يتلقون التوجيهات والأوامر وإلى مكتبة يبعثون بالتقارير والدراسات المطلوبة منهم ولذا أصبح الوزراء وكبار مسئولى الدولة يتلمسون السبل لنيل الحظوة لدى سامى شرف والحصول على رضائه وثقته كى يحافظوا على مناصبهم ونفوذهم ويضمنوا الاستجابة لمطالبهم لدى الرئيس. وعلاوة على هيمنة أفراد الجماعة بحكم مناصبهم وإشرافهم على جميع السلطات التنفيذية فى الدولة فقد كانت لهم هيمنة قوية كذلك على التنظيم الشعبى الوحيد فى مصر وهو الاتحاد الاشتراكى غذ أن شعراوى جمعه علاوة على منصبه الخطير كوزير للداخلية كان يشغل منصب الأمين المساعد لعلى صبرى أمين التنظيم كما كان يتولى أمانة التنظيم الطليعى منذ عام 1956 الذى كان وفقا لنصوص الميثاق هو الذى يقود الاتحاد الاشتراكى وبالتالى يتولى قيادة الشعب.

وعندما لاقى عبد الناصر ربه فى 28 سبتمبر 1970 كان لهذا النبأ الصاعقة على أفراد الجماعة الحاكمة ولكنهم أسرعوا بالالتفاف حول أنور السادات نائب رئيس الجمهورية وقتئذ الذين كانوا يعتقدون أنه سيكون حاكما ضعيفا من السهل السيطرة عليه وبناء على هذا الاعتقاد صدرت التوجيهات من الأمانة العامة للإتحاد الاشتراكى ومن أمانة التنظيم الطليعى إلى الأمانات والأقسام الفرعية بتأييد ترشيحه وانتخابه رئيسا للجمهورية. ولكن السادات بمجرد أن تولى رسميا رئاسة الجمهورية يوم 15 أكتوبر عام 1970 بعد ظهور نتيجة الإستفتاء أسفر عن شخصية اختلفت فى جوهرها تماما عن كل ما كان يتوقعه الذين عاونوه فى الوصول إلى مقعد الحكم والذين بنوا آمالهم على أوهام خدعوا بها أنفسهم وهو أن السادات سوف يقنع بأن يكون الواجهة التى يحكمون البلاد من خلالها. ونتيجة لذلك وقع الصراع العنيف على السلطة بين السادات وأفراد هذه الجماعة الحاكمة وأعوانهم والذى انتهى بتصفيتهم فى أحداث 15 مايو 1971 التى أطلق عليها السادات اسم ثورة التصحيح ووجد أفراد الجماعة أنفسهم فى سجن ( أبو زعبل) بعد أن جردوا من كل أسباب القوة والنفوذ والسلطان.

وكم كان القدر ساخرا حينما التقى أفراد هذه الساعة التى أطاح بها السادات بأفراد جماعة المشير عامر الذين كانوا يمضون مدة العقوبة فى سجن ( أبو زعبل) بعد الأحكام التى أوقعتها عليهم المحكمة العسكرية وكان هؤلاء ينزلون فى الزنازين المخصصة لهم بالدور الأول. أما النزلاء الجدد فقد خصصت لهم الزنازين بالدور الثانى فوق هؤلاء مباشرة . وحينما التقى أفراد المجموعتين المتصارعتين أخيرا تحت سقف سجن أبو زعبل) وأقبل النزلاء القدامى يحيون النزلاء الجدد باللعنات والشتائم ويتشفون فيهم بعبارات السخرية والاستهزاء تنبه الفريقان فجأة إلى الحقيقة المفجعة التى غابت عن أذهانهم طويلا وهو أنهم قد اشتركوا جميعا بتصرفاتهم النكراء وأعمالهم الطائشة وصراعهم المستميت على السلطة فى سبيل الاحتفاظ بمراكزهم ونفوذهم فى الإساءة إلى وطنهم الذى منحهم كل أسباب الجاه والعز والسلطان فكافأه بجزاء سنمار وألبسوه ثوب الذل والعار فعلى أيديهم وتحت قياداتهم تم دحر جيش مصر الباسل فى بضع ساعات فى ميدان القتال وفى عهدهم الرهيب لاقى الشعب كل صنوف الظلم والبطش والهوان بعد أن زجوا بالأحرار من أبنائه فى أعماق المعتقلات والسجون دون ذنب او جريرة لكى ينكل بهم الزبانية الطغاة من أمثال حمزة البسيونى و صفوت الروبى ويذيقوهم أبشع ألوان التعذيب النفسى والبدنى وتذكر أفراد الفريقين كيف أخضعوا شعب مصر الأبى لحكم بوليسى غاشم وفرضوا على أبنائه شر أساليب الرقابة والتجسس فى البيت وفى العمل وفى الأماكن العامة وفى الشارع وعبر الاتصالات التليفونية حتى أصبح الفرد لا يأمن على أسراره الشخصية حتى وهو فى غرفة نومه مع زوجته وأصبح المرء يخشى من أخيه وأهله وبنيه. لقد أكرمتهم مصر ونعموا بخيراتها وأغدقت عليهم كل من يشتهونه من مناصب وأموال فكنت النتيجة أن ساموها الويل والعذاب وأخضعوها لعهد الجبار فقد أنزلهم من عليائهم وجردهم من نفوذهم وسلطانهم ولحشرهم زمرا فى هذه الزنازين الموحشة لكى يذوقوا من نفس الكأس التى طالما شرب منها ضحاياهم التعساء وبذا حق عليهم قوله تعالى ( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد)

صدق الله العظيم

جمال حماد

القاهرة - أوليناير 1986


الفصل الأول : الجماعة التى كانت تحكم مصر من وراء عبد الناصر


إن قصة الجماعة التى أطلق عليها الرئيس الراحل السادات تارة اسم مراكز القوي, وتارة أخرى اسم جماعة علي صبري واتهم أفرادها بأنهم عملاء للإتحاد السوفيتي – تعد قصة من أعجب القصص التى دارت أحداثها المثيرة على المسرح السياسي المصرى فى عهد الثورة, وهى تحوى كل المقومات اللازمة لتصبح عملا سينمائيا ناجحا يحظى بإقبال الجمهور.

إنها قصة ضباط عاديين من الجيش لم يكن أحد منهم قبل ظهوره يتمتع بأية ميزات أو مؤهلات خاصة ينفرد بها عن أقرانه, ولم تكن بينهم صدقات زمالة السلاح. فقد كانوا من أسلحة مختلفة. ولم تكن بينهم صدقات خاصة سابقة, إذ كانوا بحكم أعمارهم المتباينة من خريجى دفع مختلفة فى الكلية الحربية... ولم تكن الفرصة متاحة أمام أحد منهم للوصول إلى مركز للقوة أو السلطان فقد كان العهد الذى تواجدوا فيه بالجيش هو عهد الثورة.

ولم يكن أحد منهم من الضباط الأحرار أو له أدنى علاقة بثورة 23 يوليو 52 وعلى الرغم من أن كل الظروف كانت فى غير صالحهم وكانت كفيلة بأن تجعل خط خدمتهم بالجيش يسير سيرا عاديا مثل الآلف من أقرانهم بالجيش الذين تدرجوا فى مختلف الرتب حتى أحيلوا على التقاعد فإن الحظ تدخل تدخلا عجيبا فى مجرى حياتهم, وكادوا لا يصدقون أنفسهم عندما اكتشفوا ذات يوم أن المسرح قد خلا فجأة من جميع الأبطال, وأنهم – وهم مجرد الكومبارس الصغار – قد غدوا الأبطال الكبار...

لقد كانت البداية هى تقربهم من بعض رجال الثورة الأقوياء الذين أوصلوهم إلى أول الطريق.

وكانت نقطة البداية والانطلاق هى العمل فى جهاز المخابرات العامة الجديد الذى أنشأته الثورة, وسنحت لهم الفرصة خلال العمل فى جهاز لكى يتعرف عليهم عبد الناصر شخصيا, وعندئذ برزت مؤهلاتهم وتألفت مواهبهم. وكانت مؤهلاتهم عبارة عن خليط من مبادىء ( مكيافيللى) التى تعتبر أن الغاية تبرر الوسيلة, امتزجت فى كيانهم بمواهب شخصية كانت كامنة فى أعماقهم, وعندما حانت الفرصة انطلقت إلى السطح كبركان متدفق .. عناصر متباينة كانت تجمع بين المكر والدهاء والطموح والرياء, والخداع والولاء والعمل المتواصل فى المكاتب على حساب أية حياة اجتماعية خاصة, فإن الغرض كان بإرضاء الرئيس بأى ثمن. كانت مشاعرهم مزيجا من هيام ملتهب بالقوة والسيطرة, وبحكم عدم انتمائهم قبل الثورة لتنظيم الضباط الأحرار, كان استياؤهم بالغا من نفوذ أعضاء مجلس قيادة الثورة, ومن الضباط الأحرار الذين برزوا على المسرح السياسى, على اعتبار أنهم أشد ولاء لعبد الناصر من كل هؤلاء, وأنهم يخدمون الثورة أكثر منهم , وهكذا أسهموا بتدبيرهم فى معاونة عبد الناصر فى التخلص فيمن بقى من أعضاء مجلس قيادة الثورة واحدا وراء الآخر..

وقد اعترف أحد أعضاء هذه الجماعة فى مذكراته التى نشرت أخيرا وهو الفريق أول محمد فوزي أنه قد لعب الدور الرئيس فى معاونة عبد الناصر فى التخلص من أعز أصدقائه وأقرب زملائه إلى قلبه, وهو المشير عبدالحكيم عامر, حتى انتهى الأمر بمأساة انتحاره فى استراحة ريفية منعزلة فى طريق المريوطية المتفرع من شارع الهرم فى الساعة 6,40 مساء يوم 14 سبتمبر 1967. ولم يبق بعد ذلك من أعضاء مجلس قيادة الثورة القديم فى الحكم سوى عضوين فقط هما السادات وحسين الشافعي, ولكنهما كانا بلا نفوذ او سلطان, ومما زاد من شجونهما أن أى فرد من أعضاء هذه الجماعة كان أهم كثيرا منهما فى نظر عبد الناصر, وعلى الرغم من أن السادات أطلق على أفراد هذه الجماعة اسم جماعة علي صبري , وجرى المؤرخون والكتاب بعد ذلك على نهجه, وعلى إطلاق هذا الاسم عليها بعد أصبح عرفا واصطلاحا من الصعب تغييره, فإن واقع الأمر وتصحيح التاريخ هو أن هذه الجماعة لم تكن جماعة علي صبري , وإذا كانت هناك تسمية تصح أن تطلق عليها فيجب أن تسمى جماعة ( شعراوى وسامى وفوزى).

إن أعضاء هذه الجماعة الثلاثية الذين كانوا يحكمون مصر بالفعل, والذين أحكموا قبضتهم بعد هزيمة يونيو 67 على جميع أجهزة الدولة الحكومية والشعبية هم شعراوى جمعة وزير الداخلية وقتئذ, وسامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات الذى صدر قرار جمهورى فى 27 أبريل 70 بتعيينه وزيرا للدولة والفريق أول محمد فوزى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة الأسبق.

وكما انطلق شأن أعضاء هذا الثالوث كالشهاب اللامع فى سماء السياسة المصرية, وكما علا حظهم وارتفع نجمهم حتى أصبحوا يتحكمون فى كل مقادير البلاد, ويدين لهم الكبار والصغار بالخضوع والولاء, وكما تجرى الحال دائما فى القصص الدرامية المثيرة كانت النهاية مأساة أليمة, ووجد أفراد الجماعة أنفسهم لأول مرة منذ سنوات طويلة داخل زنازين موحشة رطبة, وراء قضبان من حديد فى سجن ( ابو زعبل) ثم فى ليمان طره.

لقد ضاع المجد,وتبخر السلطان, وانصرف عنهم الأصدقاء والأحباب, وانفض الخدم والحشم, ولم يعد هناك مسرح كى يلعبوا فوقه أدوار البطولة ولا جمهور حاشد كى يصفق لهم بحماسة كالعادة. إنما خطوات ثقيلة لسجان غليظ القلب مكفهر الملامح, لم يدرك أن داخل تلك الزنازين التى يتولى حراستها من كانوا يتحكمون يوما من الأيام فى مقادير مصر ومصائر شعبها وكيف يدرك مثل هذا السجان أن نزلاءه التعساء المستكينين كانوا فى فترة من التاريخ ملوك مصر غير المتوجين..

بعد هزيمة يونيو 67 انعقد عزم عبد الناصر على تركيز جهوده بأكملها من أجل إعداد القوات المسلحة لخوض غمار معركة ثأرية حاسمة ضد إسرائيل يسترد بها زعامته التى تزعزعت, ويستعيد بها العرب كرامتهم المفقودة وأرضهم المسلوبة. وحتى يمكنه التفرغ لهذا الواجب المقدس أوكل مسئولية حكم البلاد خلال تلك الفترة العصيبة إلى أفراد تلك الجماعة الثلاثية ( شعراوى وسامى وفوزى) واعتبرهم مسئولين أمامه عن سلامة النظام واستقرار الأمن وعن كافة الشئون الداخلية والخارجية فى البلاد.

وعلاوة على هيمنة أفراد الجماعة بحكم مناصبهم وإشرافهم على جميع السلطات التنفيذية فى الدولة فقد كانت هيمنة قوية كذلك على التنظيم الشعبى الوحيد فى مصر وهو الإتحاد الإشتراكي, إذ إنشعراوي جمعة علاوة على منصبه الخطير كوزير للداخلية كان يشغل منصب الأمين المساعد لعلي صبري أمين التنظيم, كما كان شعراوى يتولى أمانة التنظيم الطليعى منذ عام 65 وهو تنظيم سرى أمر عبد الناصر بإنشائه داخل الإتحاد الإشتراكي بهدف حماية النظام الناصرى من القوة المضادة للثورة, ووفقا لنصوص الميثاق فإن التنظيم الطليعى هو الذى يقود الإتحاد الاشتراكي وبالتالى يتولى قيادة جماهير الشعب.

وكان أعضاء الجماعة " شعراوى وسامى وفوزى" يجتمعون كل مساء بعد انتهاء العمل اليومى فى مكتب سامى شرف المواجه لمنزل عبد الناصر بمنشية البكرى, حيث تعرض عليهم أهم شئون الدولة ليتولوا بحثها وإصدار قراراتهم بشأنها, وعن طريق التليفون المباشر الذى كان يربط بين الرئيس وسامي شرف كان عبد الناصر يتصل بسامى أو شعراوى أثناء الاجتماع, وكان أحيانا يطليهما معا أو كلا على حده لمقابلته فى المنزل, وعندما كان يطالع مقالا أو نبأ فى مجلة أو جريدة مصرية أو أجنبية يلفت نظره كان يؤشر عليه سامي أو شعراوى للإطلاع حتى تكون جميع المعلومات لديهما.

ووصلت ثقة الرئيس بهذه الجماعة إلى حد أن الرئيس كان أحيانا يسافر إلى الخارج ويوكل لأفرادها تصريف أمور البلاد دون أن يعين نائبا عنه كما هو المفترض, كما كانت تعليماته تقضى بألا يترك أفرادها القاهرة فى وقت واحد..

وكان شعراوى وفوزى لا يتركان مكتب سامى إلا بعد أن يتأكدا أن الرئيس قد توجه إلى غرفة نومه, أما سامى فلم يكن يغادر المكتب إلا بعد أن يطمئن إلى أن الرئيس قد استغرق فعلا فى النوم.

وكان سامي شرف هو حلقة الاتصال الوحيدة بين عبد الناصر , وبين الوزراء وكبار المسئولين فى الدولة, فعن طريق سامي شرف يتلقون التوجيهات والأوامر. وإلى مكتبه يبعثون بالتقارير والدراسات المطلوبة منهم, وعندما بدأت الشائعات تنتشر فى مصر وأخذت الصحف فى الخارج تنشر أن مصر , يحكمها ثلاثة من وراء عبد الناصر لم يكن الرئيس يهتم كثيرا بذلك الأمر, وعندما كان يكتشف أن أفراد الجماعة غاضبون مما ينشر فى الخارج أو مما تلوكه الألسن فى الداخل كان يقول لهم:" ماتزعلوش لو الناس مشتمتكوش يبقى ملكوش قيمة عندى"

وكان يقول لهم ضاحكا إنه لو فتح جريدة الجارديان الإنجليزية ووجدها تمدح فيه شخصيا لأدرك على الفور أنه يسير فى الطريق الخاطىء..

وكان عبد الناصر بعد حرب يونيو 67 قد أصبح يجمع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء, وكان يعتمد أن يكون لشعراوى وسامى مركز مرموق ووزن خاص لدى أعضاء الوزارة, وحدث ذات مرة أن طلب من شعراوى إبلاغ توجيه وتأنيب إلى أحد الوزراء المدنيين, ولما حاول شعراوى الاعتذار للرئيس هن طريق سامي بالنسبة لحساسية الوضع أبدى عبد الناصر استغرابه من ذلك الحرج الذى يحس به شعراوي وقال:" أنا عاوز الوزراء يشعروا أنهم بتوعكم" ولما رد عليه سامى قائلا" بتوع سيادتك يا فندم" كرر مرة أخرى " لا بتوعكم أنتم"..

كيف كانت الرقابة تفرض على الأشخاص؟

كان شعراوى جمعة وسامي شرف هما اللذين يتحكمان وحدهما فى فرض الرقابة على الأشخاص فى مصر كلها, وكان من سلطة أى منهما أ، يصدر أمرا شفويا بوضع أى شخص فى مصر تحت الرقابة, مهما كان هذا الشخص ومهما كان منصبه أو مركزه, وبدون الرجوع إلى اية جهة قضائية. وكانت عملية الرقابة بمختلف أنواعها تتم بواسطة جهازين فى الدولة هما جهاز المخابرات العامة التابع ل سامى شرف , وجهاز المباحث العامة التابع لشعراوى جمعة. ولم تكن هناك أية قواعد أو أسس موضوعة لإتباعها قبل إصدار أوامر المراقبة, ووفقا لاعتراف سامى شرف فى التحقيق كانت هناك ثلاثة أساليب للمراقبة:

أولا

تسجيل الأحاديث التليفونية. وكان ذلك يتم فى قاعة خاصة بالسنترال المركزى بمبنى هيئة التليفونات, بشارع رمسيس, بمعرفة جهاز المخابرات العامة والمباحث العامة, وكانت تفريغات شرائط التسجيلات التليفونية ترسل بواسطة المخابرات إلى سامي شرف وبواسطة المباحث العامة إلى شعراوى جمعة, للإطلاع عليها, ثم تحفظ بعد التأشيرة عليها بما يتبع فى ملفات خاصة للرجوع إليها والاستفادة منها عند الضرورة.

ثانيا

نظام التصنت وهو عبارة عن وضع أجهزة حساسة للتصنت ( ميكروفونات غاية فى صغر الحجم) فى منزل أو مكتب الشخص المطلوب مراقبته, ويمكن بهذه الوسيلة الاستماع إلى كل ما يدور لديه من أحاديث وأقوال, وتسجيلها فى نفس الوقت بواسطة أجهزة تسجيل موجودة فى أماكن أخرى بعيدة إما سلكيا أو لاسلكيا.

وكانت هناك وسيلتان لوضع أجهزة التصنت خفية فى المكاتب والمنازل دون أن يشعر أصحابها, الوسيلة الأولى: هى قيام أفراد متخصصين من أجهزة الأمن بدخول البيوت أو المكاتب بمفاتيح مصطنعة بعد التأكد من خلوها من أصحابها, ووضع أجهزة التصنت فى أماكن مخفاة لا يمكن اكتشافها والوسيلة الثانية: هى تجنيد بعض الأشخاص – عن طريق الإغراء بالمال أو التهديد بالإيذاء – ممن لا يثير دخولهم هذه الأماكن أية شبهات, مثل عمال التليفونات وسعاة المكاتب وخدم البيوت والسائقين الخصوصيين وبعض الحرفيين أمثال عمال السباكة والكهرباء والبياض والنقاشة وتوكل إلى هؤلاء بعد تدريبهم مهمة وضع أجهزة التصنت فى الأماكن التى تحدد لهم خفية دون أن يثير دخولهم بالطبع أية شكوك بحكم ترددهم الطبيعى على هذه الأمكنة لمزاولة أعمالهم.

وكانت عملية وضع أجهزة التصنت لتسجيل ما يدور فى المكاتب والبيوت تعد انتهاكا صارخا لحرمة البيوت التى يكفلها الدستور والقانون.

ووصل الأمر إلى أن رئيس الجمهورية وقتئذ لم يسلم بيته فى الجيزة من وضع أجهزة التصنت به, وقد أعلن الرئيس الراحل السادات هذه الحقيقة المذهلة فى بيانه الشهير الذى أذاعه على الشعب يوم 14 مايو 71 عن طريق الإعلام. فقد ذكر ما يلى بالحرف الواحد" فيه وزراء قالوا لى بيتك فيه تسجيل عليك! بيت رئيس الجمهورية الخاص ! كنت بقول لهم بلاش كلام فارغ, مين يجرؤ يعمل حاجة زى دى؟ مين حيعملها سامي ولا شعراوى؟ ويؤسفنى أن أقرر أنه اتضح أن أودة مكتبى فى بيتى, فى بيت رئيس الجمهورية, وجدنا فيه جهاز امبارح بالليل, لأن بعد اللى جرى بعت جبت جهاز الكترونى اللى يبحث ووجدت الجهاز فى غرفة مكتبى أنا شخصيا".

وقد تبين خلال التحقيق فى أحداث 15 مايو 71 أن سامي شرف قد ثبت بعض أجهزة التصنت فى أماكن مختلفة فى الإتحاد الاشتراكي لتنقل إلى أجهزة الاستماع والتسجيل فى مكتبه كل ما يدور فى هذه الأمكنة من أحاديث وأسرار.

وقد كشف الستار لتنقل عن هذه الحقيقة المجهولة التقرير الذى قدمه المهندس عبدالسلام خليل وكيل الإدارة العامة لتشغيل استوديوهات التليفزيون وقتئذ, الذى كلفته النيابة العامة بمعاينة مكتب سامي شرف بالطابق الثانى عشر بمبنى الإتحاد الاشتراكي وفحص أجهزة التسجيل التى كانت مخفاة داخل دولاب صاج بحجرة المكتب. وكانت هذه الأجهزة تتصل بأسلاك تمتد داخل الجدران إلى أماكن بالمبنى. وقد ورد فى تقرير المهندس عبدالسلام خليل أنه لم يتمكن من متبعة الأسلاك لمعرفة الأماكن التى تؤدى إليها لأنها داخل الجدران.

ثالثا:

المراقبة الشخصية, وتتم بواسطة أفراد مخصصين لذلك من أجهزة الأمن, لمتابعة تحركات الشخص الموضوع تحت المراقبة طوال اليوم وتقديم تقرير عن نشاطه وزياراته ولقاءاته, وتأخذ هذه التقارير نفس مجرى النظم السابقة, من حيث اطلاع سامي وشعراوي عليها, ثم حفظها بعد ذلك فى ملفات خاصة.

وكانت تفريغات تسجيلات التصنت وتقارير المراقبة الشخصية يتم حفظها فى مكتب تابع ل سامى شرف يرأسه موظف يدعى توفيق عبد العزيز . وكانت هذه السلطة المطلقة التى يتمتع بها كل من سامي وشعراوي عرضه بالطبع كى تستغل الأغراض شخصية ولمعرفة أسرار بعض الشخصيات المعروفة, وقد اتضح بالفعل من تفريغات بعض الشرائط التى ضبطت بعد أحداث 15 مايو أن بعضها كان يحوى أمورا شخصية بحتة أو يختص بعلاقات نسائية, ومنها ما كان يتعلق ببعض الممثلات والراقصات المعروفات وقد صدر الأمر ذات مرة بتصوير إحدى السيدات الوارد حديثها فى التسجيلات ( ربما بسبب عذوبة صوتها)

ولا يمكن بالطبع الإقتناع بما ذكره سامي وشعراوي فى التحقيق من أن المراقبة على الأشخاص كانت لمصلحة الأمن والنظام, وإلا كيف يمكن تفسير السر فى وضع تليفونات شخصيات قيادية مرموقة تحت المراقبة, بينما أصحابها يعدون وقتئذ من دعائم ذلك النظام ومن أبرز رجالاته أمثال حسين الشافعي و سيد مرعي و علي صبري و عزيز صدقي و لبيب شقير و ضياء داود و أمين هويدي و محمد أحمد و فريد عبدالكريم و محمد إبراهيم دكروري .

وقد اتضح من معاينة شرائط التسجيل التى ضبطت بعد أحداث 15 مايو أن أحد الشخصيات القيادية بالإتحاد الاشتراكي كانت له علاقة غير شريفة مع زوجة أحد أصدقائه. وقد احتفظت المباحث العامة بشريط تسجيل تضمن حديثا متبادلا بينه وبين هذه السيدة, حوى عبارات وألفاظا فاضحة غاية فى البذاءة بين الطرفين و مما دعا شعراوي جمعة إلى إصدار أمره بالتحفظ على هذا الشريط وعدم مسحه كوسيلة لاستغلاله بالطبع ضد هذا المسئول الكبير فى حالة عدم انقياده له أو محاولة التمرد عليه.

وقد علق الرئيس الراحل السادات على هذا النوع الدنىء من شرائط التسجيل الذى ضبط منه عدد وفير, فقال فى الخطاب الذى ألقاه أمام مجلس الشعب فى 20 مايو 71 ما يلى:" فيه مسائل فى أشرطة التسجيل ستهدم بيوت فى هذا البلد, هل هى أخلاق؟...نمسك ذلة, ونذل الناس ونقول انا ماسك لك, وطلع المتآمرين كل واحد فيهم ماسك ذلة على الثانى إيه ده؟".

وكان سامي وشعراوي أدرى الناس بالطبع بخطورة وبشاعة ما تضمنه التسجيلات التليفونية وتسجيلات التصنت على البيوت والمكاتب ومدى مخالفتها للشريعة والشرف والدستور والقانون, ولذا بذل كل منهما محاولاته لوضع يده عليها أو على الأقل حرقها وإعدامها لإزالة آثار تلك الجريمة النكراء التى ارتكبت فى حق الشعب المصري, ولذا لم يكد يعلم شعراوى خلال وجوده بمكتب الفريق محمد فوزي بعد ظهر الخميس 13 مايو أن ممدوح سالم محافظ الإسكندرية استدعى إلى منزل الرئيس بالجيزة, وأنه من المنتظر تعيينه وزيرا للداخلية – حتى سارع بالاتصال تليفونيا باللواء حسن طلعت مدير المباحث العمة, وطلب منه إعدام كل ما يحتفظ به فى إدارته من شرائط التسجيل وتفريغات المحادثات التليفونية المسجلة, ولكن اللواء حسن طلعت لم يتمكن من تنفيذ شعراوى جمعة, فقد سبقته إلى استلام غرفة التسجيلات بوزارة الداخلية قوة من رجال الحرس الجمهورى أرسلت على وجه السرعة بناء على تعليمات من رئيس الجمهورية, الذى سارع فى نفس الوقت بإجراء اتصال تليفونى مع وزير العدل, لإرسال اثنين من وكلاء النيابة لاستلام الغرفة من الحرس الجمهورى, وضبط الشرائط والتفريغات والبدء فى التحقيق على الفور.

وقد حاول شعراوى جمعة تبرير ذلك التصرف السريع الذى اتخذه أثناء التحقيق معه أمام المدعى الاشتراكى فى قضية 15 مايو 1971 فقال إنه قد أجراه حفاظا على أعراض بعض النساء المتزوجات, فقد كانت بعض التسجيلات تضم عبارات تدل على وجود علاقات غير شريفة بينهن وبين بعض الشخصيات التى كان يجرى تسجيل أحاديثهم التليفونية.

وكما جرت محاولات وزير الداخلية لإعدام شرائط التسجيل وتفريغاتها فى غرفة التسجيل التابعة للمباحث العامة, حاول أحمد كامل مدير المخابرات العامة هو الآخر أن يضع يده على شرائط التسجيل الموجودة فى غرفة التسجيل بجهاز المخابرات العامة, فلم يكد يتصل به محمد سعيد سكرتير سامي شرف تليفونيا فى بيته فى الساعة التاسعة والنسف من مساء يوم الخميس 13 مايو 71 لينقل إليه تعليمات سامي شرف بوجوب تقديم استقالته من منصبه فى الحال إلى رئيس الجمهورية , وبعد أن أعلنت الإذاعة فى نشرة أخبار الساعة الحادية عشر مساءا نبأ استقالة الوزراء الخمسة سامي شرف و محمد فوزي و سعد زايد و حلمي السعيد و محمد فايق – حتى أحس باقتراب الخطر, فبادر بالاتصال تليفونيا بعادل العربى رئيس القسم المشرف على تسجيل الأحاديث التليفونية بجهاز المخابرات العامة وطلب منه التوجه من منزله على الفور إلى مبنى المخابرات, وأن يجمع كل ما فى غرفة التسجيلات من شرائط تسجيل وتفريغات وأن يحضرها بأكملها فى منزله.

وأثناء انهماك عادل العربي فى تأدية المهمة التى كلفه بها رئيسه كان السادات قد أيقظ اللواء أحمد إسماعيل من نومه قبل الواحدة صباحا ليأمره بالتوجه إلى مبنى المحابرات العامة ليتولى رئاستها, ولذا عندما انتهى عادل العربي من تجميع الشرائط والتفريغات وجد أن اللواء أحمد إسماعيل هو الذى يجلس على مكتب المدير, ولذا لم يحاول التوجه إلى منزل رئيسه القديم هو الذى أحمد كامل , بل توجه بكل ما يحمله من شرائط وتفريغات إلى مكتب المدير الجديد, حيث سلمه الهدية الثمينة التى لا تقدر بثمن.

وكان تسليم شرائط التسجيل إلى أحمد إسماعيل نقطة تحول خطيرة فى القضية التى قام من أجلها أعضاء الجماعة المناوئة للسادات إلى محكمة الثورة, التى تشكلت برئاسة حافظ بدوى رئيس مجلس الشعب , وعضوية المستشار بدوي حمودة وحسن التهامي مستشار رئيس الجمهورية, فقد حوت الشرائط تسجيلا كاملا لجميع الأحاديث التليفونية التى دارت بين أفراد الجماعة فى مرحلة الأزمة الأخيرة التى نشبت بينهم وبين رئيس الجمهورية بشأن الاتحاد الثلاثى العربى بين مصر و سوريا و ليبيا فى أعقاب اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للإتحاد الاشتراكي يوم الأربعاء 21 أبريل , التى اشتدت وطأتها بعد إقالة علي صبري فى 2 مايو 71 .

وكانت هذه التسجيلات فى الواقع هى دليل الإدانة الأساسى, الذى اعتمدت عليه محكمة الثورة فى إصدار أحكامها بالإعدام والسجن على المتهمين من أفراد هذه الجماعة ( خفف رئيس الجمهورية أحكامها بالإعدام إلى السجن المؤبد). وقد تمت كل هذه التسجيلات كما ذكرنا بناء على أوامر سامي شرف . وهكذا وجد أعضاء الجماعة، فهم يدفعون ثمن حماقة زميلهم الذى ألقى بنفسه وبهم إلى الهلاك.

استطاعت الجماعة الثلاثية – بفضل ما كانت تتمتع به من سلطات مطلقة ونفوذ جبار – أن تحيط الرئيس الراحل عبد الناصر بسياج محكم, وأن تتم عزله عن الجميع بحيث أصبح أفرادها هم العين التى يبصر بها, وهم الآذان التى يسمع عن طريقها, وهم اللسان الذى ينطق بكلماته وينقل إلى المسئولين أوامره وتوجيهاته, ولم يعد هناك منافس للجماعة الحاكمة أو قرين قد بقى على المسرح السياسى فى مصر غير علي صبري الأمين العام للتنظيم بالإتحاد الاشتراكي ورئيس الوزراء الأسبق والرجل القوى الذى حصل على أعلى نسبة من أصوات اللجنة المركزية فى انتخابات اللجنة التنفيذية العليا, والذى جاء بعه فى الترتيب حسين الشافعي وأنور السادات ويبدو أن اتصالاته الوثيقة بالقادة السوفيت فى تلك الفترة التى جعلت الجميع ينظرون إليه على أنه رجل موسكو رقم 1 فى مصر , قد أثارت مشاعر عبد الناصر ضده مما حفز الجماعة على ضرورة التخلص منه, أو على الأقل تقليم سلطاته وتقليص نفوذه وتم ذلك بنجاح على اثر حادث مثير كان أشبه ما يكون بالقصص البوليسية وهو ما عرف وقتئذ باسم حادث المطار.

فى 23 يونيو 69 سافر علي صبري ووفد مرافق له إلى موسكو, وكان برفقته حرمة ونجله حيث أمضوا هناك ثلاثة أسابيع, وقبل العودة كلف علي صبري سكرتيره الخاص مصطفي ناجي الذى كان ضمن الوفد المرافق له بالسفر وحده إلى القاهرة, على أن يحمل معه ما يخص علي صبري وأسرته من حقائب وطرود وعندما اتضح أن وزنها يتجاوز 2000 كيلو جرام رفض مدير فرع شركة مصر للطيران بموسكو نقل هذا الوزن الضخم إلا بعد دفع الرسوم المقررة الأمر الذى دعا مصطفي ناجي إلى إرسال برقية عاجلة إلى صلاح الشافعي وصلاح فراج مديرى مكتب علي صبري بالإتحاد الاشتراكي بالقاهرة بتاريخ 11 يوليو وكان نصها كما يلى:

" رجاء التنبيه على السيدين عبد الحميد البلدى و إسماعيل محمد بانتظارنا فى مطار القاهرة باللورى والجيب يوم الإثنين 14 يوليو حيث سأصل بمفردى ومعى أمتعة السيد علي صبري على الطائرة المصرية, والاتصال بشركة مصر للطيران ليرسلوا للسيد حسين توفيق مديرها لموسكو الموافقة تلغرافيا بشحن 2000 كيلو جرام زيادة على المقرر بصحبتنا فى نفس التاريخ وعلى نفس الطائرة, على أن تتم المحاسبة عن طريق الإتحاد الاشتراكي, وعلى أن ترسل شركة مصر للطيران بالقاهرة برقية إلى فرعها بموسكو بما يفيد ذلك".

وقبل سفرمصطفي ناجي بقليل وأخطره علي صبري أن المسئولين فى موسكو اعدوا له طائرة خاصة لنقله هو والوافد الموافق له وجميع حقائبه وطروده إلى القاهرة على نفقة الحكومة السوفيتية, مما دعا مصطفي ناجي إلى إرسال برقية ثانية إلى صلاح الشافعي وصلاح فراج بتاريخ 12 يوليو وكان نصها كما يلى:

" خالص تحياتى . الرقية السابقة لاغية بكل تفصيلاتها الرجاء إلغاء الترتيبات الموضحة بها. الجميع سيحضرون على الطائرة الروسية يوم الثلاثاء 15 يوليو وسأكون بصحبتهم رجاء التنبيه على السيد عبد الحميد البلدى للإنتظار فى المطار فى موعد وصول الطائرة وشكرا".

وعندما وصلت الطائرة السوفيتية إلى مطار القاهرة 15 يوليو كان فى استقبال علي صبري بالمطار عبد الحميد البلدى , وهو الموظف الذى طلب حضوره بالذات, وكذا بعض موظفى مكتبه الذين احضروا معهم سيارة لورى وقفت أسفل سلم الطائرة, وتم نقل جميع الطرود والحقائب من الطائرة إلى اللورى الذى انطلق به السائق مباشرة إلى فيلا على صبرى الفخمة بجوار كازينو الميريلاند ب مصر الجديدة.

واستغل شعراوي جمعة و سامي شرف المعلومات الثمينة التى وصلتهما عن أحداث رحلة علي صبري من موسكو إلى إلى القاهرة لإيغار صدر عبد الناصر وإثارته ضده, فقد نقلا إليه نص البرقيات المتبادلة بين سكرتيره الخاص فى موسكو ومديرى مكتبه بالقاهرة, وكذا أمر الطائرة الخاصة التى خصصتها الحكومة السوفيتية لنقله هو وأسرته والوفد المرافق له من موسكو إلى القاهرة على نفقتها كما أبلغاه بموضوع اللورى الذى امتلأ على سعته بأمتعة علي صبري التى زاد وزنها عن 2000 كيلو جرام, والذى انطلق به السائق رأسا من أسفل سلم الطائرة إلى فيلا علي صبري دون المرور على الدوائر الجمركية.

ولم يكن ممكنا من الناحية العملية وصول مضمون البرقيتين المرسلتين من موسكو إلى مكتب علي صبري أمين التنظيم ب القاهرة إلى أى مسئول بالإتحاد الاشتراكي إلا إذا كان الشخص هو شعراوي جمعة بحكم منصبه كأمين التنظيم المساعد إذ إن موظفى مكتب علي صبري المعروف بصرامته وقسوته الشديدتين فى معاملة مرءوسيه لم يكونوا من الغباء بحيث يسمحون بتسرب معلومات سرية خاصة برئيسهم إلى أى إنسان.

ولم يكن فى مقدرة أحد من الناحية الواقعية إبلاغ هذه المعلومات إلى عبد الناصر بهذه الطريقة التى أثارته ودفعته إلى إصدار تعليماته إلى شعراوى جمعة بالتحقيق فى هذه الواقعة عن طريق المباحث العامة وهو إجراء استثنائى لم سبق له مثيل مع أحد من كبار المسئولين, وبالأخص مع شخص فى مكانه علي صبري, إلا إذا كان القائم بالتبليغ هو السكرتير الخاص ل عبد الناصر أى سامي شرف , إذ أن سامى كما سبق أن أوضحنا كان وقتئذ هو أقرب معاونى عبد الناصر , وألصقهم به فى العمل, وأهم من ذلك كله كان أقدر الناس على معرفة حقيقة مشاعر عبد الناصر تجاه علي صبري فى ذلك الحين وكانت بلا شك تتسم بالنقمة عليه وعدم الرضا عنه, مما شجعه على تقديم ما لديه من معلومات بطريقة استفزت عبد الناصر , وضاعفت من حدة غضبه ضد علي صبري..

وقد اعترف سامى شرف فى التحقيق الذى أجراه معه جهاز المدعى الإشتراكي فى قضية 15 مايو 1971 أن علاقة علي صبري به قد ساءت عقب حادث المطار لأنه اعتقد أنه كان وراء هذا الموضوع.

ومن الواضح أن عبد الناصر قد وجد فرصة لتأديب علي صبري وتقليص نفوذه , وكذا للتهويم من شأنه وتقليل حجمه أمام القيادة السوفيتية فأمر بإجراء التحقيق فى الحال.

ورعد بضعة أيام من وصول علي صبري إلى القاهرة بدأت المباحث التحقيق فى الحادث بطريقة سرية, واستدعى أمام سلطة التحقيق بعض موظفى مكتب علي صبري, وكان منهم بالطبع سكرتيره الخاص مصطفي ناجي, وأولئك الذين استقبلوه بمطار القاهرة, وكذا سائق اللورى, وسئلوا جميعا عن تفاصيل الموضوع وعن سر ذلك الوزن الضخم من الطرود التى نقلت من موسكو وعن محتوياتها, وإلى أين أرسلت وهل سبق لعلي صبري إحضار أمتعة معه بمثل هذا الوزن فى أسفاره السابقة؟..

وإمعانا فى إذلال على صبرى صدرت الأوامر عقب انتهاء التحقيق باعتقال سكرتيره الخاص مصطفي ناجي.

وفى 30 يوليو 69 أى بعد 15 يوما فقط من العودة من موسكو فوجئت أسرة مصطفي ناجي بزوار الفجر يقتحمون عليهم البيت وينتزعون مصطفى من بينهم حيث أودع السجن القلعة بدون أى أمر قضائى أو اتهام, ولم يفرج عنه إلا بعد 60 يوما بعد إصابته بانهيار عصبى لفرط ما عاناه من الظلم والعذاب, مما دفع مدير مستشفى الأمراض العصبية إلى الإلحاح فى سبيل الإفراج عنه حرصا على حياته, وخرج مصطفى من السجن حطاما ليجد نفسه منقولا إلى وزارة استصلاح الأراضى بعيدا عن مكتب علي صبري ولم تمر أيام قلائل حتى وافته منيته.

وساء موقف علي صبري بالطبع بمجرد أن علم أن موظفى مكتبه يستدعون للتحقيق معهم أمام المباحث العامة, بدون إذنه وبناء على تعليمات شخصية من رئيس الجمهورية وازداد موقفه تحرجا عقب إلقاء القبض على سكرتيره الخاص مصطفى ناجى وإلقاء القبض على سكرتيره الخاص مصطفي ناجي وإلقائه فى زنزانة انفرادية بسجن القلعة. وأحس علي صبري بإحباط شديد عندما لم تنجح اتصالاته لتحديد الموعد الذى طلبه كى يلتقى ب عبد الناصر لتصفية الجو بينهما, مما حدا به إلى الاعتكاف فى منزله والانقطاع عن مكتبه والامتناع عن حضور الحفلات والمناسبات العامة.

وقد روت لنا حرم مصطفي ناجي أن علي صبري تخلى تماما عن زوجها بمجرد دخوله السجن, رغم علمه أن مصطفي ناجي يدفع ثمن ما جناه هو, وأن اعتقاله إنما مجرد وسيلة للضغط عليه هو وتأديبه ليسارع بتقديم آيات الخضوع والولاء للرئيس, وليعرف فى المستقبل حدود مركزه فلا يتعداها ثانية..

ومن سخرية القدر أن علي صبري عقب اعتقاله فى أحداث 15 مايو 71 نزل فى سجن القلعة فى نفس الزانزنة التى نزل فيها سكرتيره الخاص من قبل وهكذا شاءت العناية الإلهية أن يذوق من نفس الكأس التى ذاق منها من قبل مصطفي ناجي ظلما وعدوانا بسببه, وليت الظالمين يتذكرون دائما قوله تعالى : "وذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد".

ورغم إحاطة الحادث بحاجز كثيف من السرية والكتمان, فإن الشائعات لم تلبث أن انتشرت فى كل مكان بأن علي صبري قد انقطع عن مزاولة عمله, وأنه قد تغيب عن حضور عدة مناسبات سياسية هامة, وبدأت التساؤلات عن حقيقة الحادث تتوالى من مكاتب الإتحاد الاشتراكي وخلايا التنظيم الطليعى مما أجبر عبد الناصر على الاتفاق مع محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام وقتئذ على صيغة إيضاحية, يتم نشرها فى جريدته عوضا عن إصدار بيان رسمى عن الحادث.

وفى صباح الأحد 21 سبتمبر 69 صدرت الأهرام وكان عنوانها الرئيسى فى صفحتها الأولى يتكون من كلمة واحدة فقط كتبت بحروف ضخمة هى " الحقائق" وورد بعد ذلك البيان التالى بالحرف:

" عندما عاد علي صبري من رحلته إلى الاتحاد السوفيتى فى يوليو تواترات روايات تفيد أن الطائرة التى وصل عليها من موسكو حملت أمتعة معها تزيد على الوزن المقرر, وأن هذه الأمتعة خرجت من مطار القاهرة دون أن تدفع عنها رسوم الجمارك. وجرى تحقيق فى هذه الواقعة, وذلك ما كان ينبغى أن يحدث, وهو ظاهرة صحية. وتبين أن هناك أصلا للواقعة, مع وجود مبالغة فى الروايات .

وتناول الحقيق بعض أفراد السكرتارية التى صاحبت على صبرى فى رحلته ووجد علي صبري, وكان ذلك منطقيا ومطلوبا – أنه من اللازم لسلامة التحقيق أن يجمد نشاطه فى الإتحاد الاشتراكي حتى ينتهى التحقيق, وانتهى التحقيق بنتيجة تؤكد تماما أن على صبرى لم يكن يعلم بالتفاصيل , وعلى ضوء التحقيق ونتيجة له جرى الآتى:

1-عن علي صبري دفع كل ما يستحق من الرسوم الجمركية على الأمتعة التى دخلت, حتى ما كان منها لا يخصه شخصيا ( اتضح خلال التحقيق مع علي صبري بعد أحداث 15 مايو انه أرسل شيكا بمبلغ 1300 جنيه إلى وزير الخزانة وهو المبلغ الذى قدره عبد الناصر).

2- رغم عدم مسئولية علي صبري شخصيا عما حدث فقد وضع تحت تصرف الرئيس استقالته من جميع مناصبه, ثم استقر الرأى فى النهاية على أن يترك على صبرى أمانة لجنة التنظيم فى الإتحاد الإشتراكي مع استمرار عضويته فى اللجنة التنفيذية العليا, وانتداب السيد شعراوي جمعة لأمانة لجنة التنظيم حتى تجتمع اللجنة المركزية" انتهى بيان الأهرام .

وهكذا نجحت الجماعة فى استغلال حادث المطار لتنحية علي صبري عن منصبه الخطير فى الإتحاد الاشتراكي, وتم انتداب شعراوي جمعة مكانه كأمين عام للتنظيم فى بادىء الأمر. حتى تم انتخابه فى هذا المنصب بعد ذلك بأغلبية ساحقة فى اللجنة المركزية, وهكذا دانت أمانة التنظيم بالإتحاد الاشتراكي وأمانة التنظيم الطليعى لشعراوي جمعة دون أى منازع وأصبح أقوى شخصية فى التنظيم الشعبى.

عقب نجاح الجماعة الثلاثية فى تنحية علي صبري عن منصبه الكبير فى الإتحاد الاشتراكي كأمين للتنظيم, وفى انتخاب شعراوي جمعة بعد ذلك مكانه بأغلبية ساحقة فى اللجنة المركزية لم تلبث المقادير أن ساعدت الجماعة على الانفراد بشئون الحكم فى مصر انفرادا كاد أ يكون كاملا لسبب لا دخل لها به, إذ إن عبد الناصر أصيب بأزمة قلبية حادة يوم 10 سبتمبر 69 نتيجة للصدمة العنيفة التى انتابته على أثر وقوع الإغارة الإسرائيلية البرمائية فجر يوم 9 سبتمبر على الزعفرانة التى تقع على خليج السويس على بعد مائة كيلو متر من مدينة السويس , مما أدى إلى إحالة اللواء أحمد إسماعيل رئيس أركان حرب القوات المسلحة إلى التقاعد.

وإزاء شدة مرض عبد الناصر استدعى خصيصا من موسكو طبيب القلب الشهير تشازوف, وبعد فحص حالته أوصى بأن يلتزم عبد الناصر الراحة التامة, لأن النوبة القلبية التى إصابته من نوع فتاك وتؤدى إلى وفاة الشخص الذى يصاب بها, عند تعرضه لأى إجهاد بدنى او نفسى, وبالفعل لم يعمر بعدها عبد الناصر سوى عام واحد فقط, ونتيجة لتوصية الأطباء زادت بصورة طبيعية صلاحيات الجماعة الحاكمة, وأصبحت من الناحية الواقعية تمارس صلاحيات الرئيس نفسه, دون الرجوع إليه حفاظا على صحته, ونظرا لوجود ختم عبد الناصر لدى سامي شرف, فقد أصبح أمرا عاديا صدور قرارات جمهورية مهورة بتوقيع الرئيس, دون أن يدرى عبد الناصر عن معظمها شيئا.

وإزاء تلك الصلاحيات الخطيرة حظيت الجماعة مكانة عالية جعلت أكبر المسئولين فى الدولة فى المجالين التنفيذى والشعبى يتسابقون فى سبيل اكتساب مودتها ونيل ثقتها, وهكذا بدأت الحلقة الأساسية تتسع لضم إليها حلقات فرعية, وهذه الحلقات الفرعية استطاعت أن تستقطب حولها حلقات صغيرة من الأجهزة التنفيذية والشعبية, حتى أصبحت الجماعة الحاكمة قوة ضخمة يدور فى فلكها عشرات, بل مئات من أهم الشخصيات فى الدولة , ونتيجة لإحساس عبد الناصر بخطورة مرضه بادر فجأة بتعيين السادات نائبا له فى 20 ديسمبر 69 قبل سفره مباشرة إلى مؤتمر القمة العربى بالرباط..

وتنفيذا لتعليمات عبد الناصر كان السادات يحضر أحيانا اجتماعات الجماعة الثلاثية التى كانت تنعقد كل مساء فى مكتب سامي شرف بعد الانتهاء من العمل اليومى لتصريف أمور الدولة, ,:أ،ـ هذه الاجتماعات تنعقد أحيانا بمكتب السادات الذى انتقل إليه بقصر الأمير السابق عبدالمنعم بسراي القبة ورغم تعيين السادات نائبا للرئيس استمر اتصال عبد الناصر المباشر بالجماعة الثلاثية وظلت هذه الجماعة مسئولة أمامه عن الأمن والنظام وجميع الشئون الداخلية والخارجية فى البلاد...

وكان الكثيرون قد ساورهم الاعتقاد بأن علي صبري بعد حادث المطار سوف يختفى إلى الأبد من المسرح السياسى, كما اختفى من قبله الكثيرون من المقربين لعبد الناصر بعد أن اضطره الحادث إلى الانزواء قرابة ستة أشهر, ولكنه بمقدرته العجيبة بدأ يظهر مرة أخرى..

إن مشكلة علي صبري كانت دائما أن طموحه لا حدود له وأنه دائما لا يقنع بالمنصب الذى يتولاه , لقد كانت تنقصه الشعبية, ولكنه كان يستعيض عن ذلك بتشغيل مواهبه الأخرى, وأهمها براعته الفائقة فى التخطيط والتنظيم ومقدرته الكبيرة على إقناع مستمعيه بآرائه وأفكاره. لقد مرت عليه فترات مشرفة, كما اجتاز أزمات عصيبة, كان أحيانا يضىء كالشهاب اللامع فى سماء السياسة المصرية, وأحيانا أخرى كان يختفى تماما من على المسرح, ولكنه كان دائما يعرف كيف يعود ويبزغ نجمه من جديد, ولذا ففى 17 أبريل 70 أى بعد حادث المطار بنحو تسعة أشهر فقط أوفده عبد الناصر إلى موسكو لتمثيل مصر فى الاحتفال بالعيد المئوى لميلاد لينين, ورغم أن محمود عوض القونى وزير السياحة وقتئذ كان برفقته فإن الرئيس السوفيتى بريجينيف حرص على لقاء علي صبري وحده حينما قابله ليتلقى منه رسالة عبد الناصر.

وفى 29 يونيو 70 كان علي صبري هو ابرز أعضاء الوفد الموافق لعبد الناصر فى زيارته الأخير لموسكو التى استغرقت حوالى 18 يوما, وكان قد سبق للرئيس قبل هذه الزيارة تعيينه مساعدا لرئيس الجمهورية لشئون الدفاع الجوى والقوات الجوية, ومنحه رتبة فريق شرف, وبدأ علي صبري يرتدى زى الفريق فى القوات الجوية الذى كان يستهويه كثيرا, وأعلن عبد الناصر فى المؤتمر القومى الذى انعقد فى 23 يوليو 70 أن علي صبري سيسافر كل ثلاثة أشهر إلى موسكو للإجتماع بالقادة السوفيت, والإشراف على برامج تزويد مصر بالأسلحة والمعدات, وهكذا عاد اسم علي صبري إلى اللمعان ثانية, ورسخت أقدامه على المسرح بشكل قوى, وعاد الناس يتحدثون عنه من جديد على أنه رجل موسكو رقم 1 فى مصر ...

وفى 28 سبتمبر 70 توفى عبد الناصر, وكان لهذا النبأ وقع الصاعقة على أفراد الجماعة الحاكمة وأصيبوا بانهيار بسببه.

وقد ذكر شعراوي جمعة أنه ومجموعته فكروا فى ترك الحكم, وأنهم صارحوا بذلك محمد حسنين هيكل وزير الإعلام وقتئذ أثناء اجتماع لهم فى مكتب سامي شرف استمر منعقدا فى سيارته, وحضره شعراوي وسامي وأمين هويدي وهيكل, وأن هيكل هو الذى أثناهم عن عزمهم على أساس أنهم أقدر الناس معرفة وأوثقهم صلة بعبد الناصر وبالخط الذى كان ينتهجه. غير أن هيكل يروى لنا هذه الواقعة فى كتابه " الطريق إلى رمضان" فى الصفحتين 108و109 من الطبعة الإنجليزية بطريقة أخرى, فقد ذكر أنه بعد انتهاء الاجتماع الذى عقد فى السادسة مساء يوم 30 سبتمبر بمكتب الفريق أول محمد فوزي وحضره أعضاء مجلس الأمن القومى , بناء على تعليمات السادات لاتخاذ قرار بشا، ما يتبع يوم 8 نوفمبر 70 عقب انتهاء فترة وقف إطلاق النار بين مصر و إسرائيل , بناء على مبادرة روجرز طلب شعراوي جمعة من هيكل أن يصحبهم إلى مكان يستطعون فيه الحديث هم الأربعة( شعراوي وسامي وأمين هويدي و هيكل).

وذكر هيكل أنهم استقلوا سيارة شعراوي المرسيدس السوداء الحكومية, وجلس شعراوي فى الأمام بجوار السائق وجلس الثلاثة الباقون فى الخلف, وكانت معظم الطرق مغلقة بسبب حشود الجماهير التى كانت تتدفق العاصمة من جميع الاتجاهات استعدادا لتشييع جنازة عبد الناصر يوم أول أكتوبر. وعندما وصلت السيارة أمام مركز تدريب الشرطة فى طريق صلاح سالم أوقف شعراوي السيارة واستدار للخلف من مقعده الأمامى وقال :" هؤلاء الثلاثة: السادات وحسين الشافعي وعلي صبري الذين يقيمون فى مصر القبة ويتصرفون كما لو كانوا الثالوث:

كوسيجين بودجورنى بريجنيف, بينما نحن الناصريين الحقيقيين وأقرب الناس إلى عبد الناصر لم نفعل شيئا بعد لنقرر طريق العمل المشترك الذى سنسلكه, وهذا ما دفعنى إلى التفكير فى ضرورة مناقشتنا للموقف معا" وذكر هيكل أن صراحة شعراوي كانت تتطلب منه صراحة مماثلة ولذا رد عليه قائلا:" إذا كنتم تريدون التنسيق معا كوزراء فلا تفعلوا ذلك أمامى, فأنا قد عزمت ترك الوزارة, ولكن لدى نصيحة أوجهها لكم, وهى أنه من الخطأ أن تحاولوا القيام بدور الناصريين إذا فعلتم ذلك فلا مفر من حدوث رد فعل سوف يقود إلى صراع من أجل السلطة, إذا حدث تعارض فى الآراء فسوف ألعب دورى فيه بصفتى صحفيا, ولكن إذا جرى صراع على السلطة يرتكز على الأشخاص فلن أتدخل فيه, وسوف تعانى منه البلاد بأكملها".

ووصف هيكل فى روايته السابقة تصرفات سامي شرف العصبية خلال هذا الحديث, فقد ثار غاضبا فى البداية, وقال : لا, إما أن نبقى معا أو نذهب معا, وعندما انتهى هيكل من حديثه زاد انفعال سامى, وصرخ قائلا: ناصر لم يمت, وأخذ يجهش بالبكاء, ثم فى الصياح بأنه إما أن يبقى الكل أو يرحل الكل..وأنهى هيكل روايته بأن تصرفات سامي شرف جعلته يفقد أعصابه, فترك سيارة شعراوي واستقل سيارته التى كانت تسير خلفهم, وانطلق السائق بها عائدا إلى القاهرة, وذكر شعراوى أنه اجتمع بعد ذلك ب سامى شرف وبالفريق أول محمد فوزى , وقرروا أن يستمروا فى الحكم, وأن يؤيدوا السادات وأخطروا بذلك باقى مجموعتهم وهم سعد زايد وزير الإسكان, وحلمي السعيد وزير الكهرباء, ومحمد فائق وزير الإعلام, وكان التفكير الجماعة قد انتهى إلى ترشيح السادات لرئاسة الجمهورية.

خاصة بعد أن أقلقها ظهور زكريا محيي الدين المفاجىء فقد صدر له نعى للرئيس الراحل عبد الناصر فى الأهرام داخل إطار لافت للأنظار. كما تركزت عليه عدسات التليفزيون فترة طويلة خلال الجنازة وأثناء مراسم الدفن, وقد أدى ذلك الأمر إلى استدعاء محمد حسنين هيكل وزير الإعلام وقتئذ أمام اللجنة التنفيذية العليا وسؤاله عن سر ذلك التركيز على زكريا محيي الدين, فأنكر أن يكون له أدنى علاقة بالموضوع, وأعلن تأييده لترشيح السادات, ولم يكن أحد فى الجماعة بالطبع يرحب بترشيح زكريا محيي الدين, فقد كانت شخصيته القوية تجعل من المعتذر السيطرة عليه, على عكس السادات الذى غررت بهم شخصيته المستكينة المسالمة طوال عهد عبد الناصر, فاعتقدوا أن فى إمكانهم توجيه بسهولة وأنه سوف يقنع ببريق المنصب وأبهة الرئاسة, بينما يظلون هم على نفس الحال التى كانوا عليها فى أواخر عهد عبد الناصر, من حيث السيطرة الكاملة والإمساك التام بزمام الأمور.

وعقب إتمام الإجراءات الدستورية وتولى السادات رئاسة الجمهورية فى 16 أكتوبر 70 أصدر السادات قرارا بتعيين نائبين هما حسين الشافعي وعلي صبري وتعيين عبدالمحسن أبوالنور أمينا عاما للإتحاد الإشتراكى, وكلف الدكتور محمود فوزي بتشكيل وزارة جديدة, وفى التعديل الذى أجراه محمود فوزى فى وزارته أصبح شعراوي جمعة نائبا لرئيس الوزراء للخدمات ووزيرا للداخلية بينما ظل الفريق أول محمد فوزي وسامي شرف على نفس وضعهما القديم ولكن ذلك التعديل الوزارى ادى إلى خروج أمين هويدي من الحكم, وكان واحدا من أقرب المقربين ل عبد الناصر, وكان يشترك كثيرا فى حضور اجتماعات الجماعة الثلاثية فى مكتب سامى شرف باعتباره موضع ثقة الرئيس وقد ذكر شعرواي جمعة فى التحقيق أمام المدعي الاشتراكي قصة خروج أمين هويدي من الوزارة, فقال ما يلى:

" كان أمين هويدي أحد أفراد المجموعة الذين يعتمد عليهم عبد الناصر أنا وسامى وهو, وكان أيضا من المركز عليهم باعتبارنا مراكز قوى سواء فى الداخل أو فى الخارج, واستمر يعمل معنا حتى الوفاة الرئيس, وبقى أيضا وزيرا فى وزارة محمود فوزي الأولى, وفى التعديل الذى أجرى فيها عرضت عليه وزارة الإدارة المحلية, وقابل الرئيس السادات, ولم يقتنع بهذه الوزارة, وفى تصورى أنه اكتشف أن فى التشكيل نواب رئيس وزارة وكان يتوقع إنه يبقى على الأقل نائب رئيس وزراء,أعتقد أنه لو كان قد عاد للإشراف على المخابرات العامة, فإن ذلك كان سيرضيه حيث أنه غير فجأة فى أبريل 71 وحل مكانه حافظ إسماعيل.

وكانت الفرصة سانحة لعودته بعد تعيين حافظ إسماعيل وزيرا لشئون مجلس الوزراء فى التعديل الوزارى الذى تم , ولما صدر التشكيل الوزاري ولم يشمل أمين هويدى بالمرارة منى ومن سامي أكثر من إحساسه بها من جهة السادات, ويجوز أنه كان متصورا أننا نقف إلى جانبه بحكم تزاملنا نحن الثلاثة فى الععنوان وصلةمل, وأذكر أنى بعثت له جواب ترضيه, ورحت أنا وسامى وزرناه واستمرت الاتصالات بيننا على فترات متقطعة" وبادرت الجماعة بتعيين احمد كامل الذى بدأت نشأته السياسية فى مكتب سامي شرف, ثم عمل بعد ذلك مع شعراوى, ومن خلال أحمد كامل أصبح جهاز المخابرات العامة ذو المهام الخطيرة فى الدولة لا يعدو أن يكون جهازا فرعيا ملحقا بمكتب سامي شرف يتلقى منه الأوامر والتوجيهات.

وكان السادات منذ تولى رئاسة الجمهورية قد أسفر عن شخصيته اختلفت فى جوهرها تماما عن كل ما كان يتوقعه الذين عاونوه فى الوصول إلى كرسى الحكم, والذين بنوا أمالهم على أوهام خدعوا بها أنفسهم وهى أن السادات سوف يقنع بأن يكون الواجهة التى يحكمون البلاد من خلالها.

فلقد برهن بعد فترة من توليه الحكم أن شخصيته من القوة بحيث لا يقبل أن يشاركه أحد فى إدارة دفة السياسة, والحكم, وأن استكانته القديمة طوال عهد عبد الناصر لم تكن إلا قناعا لإخفاء حقيقة شخصيته القوية وطموحة البعيد, وكان مضطرا إلى اتباع ذلك المسلك خشية أن يناله من عبد الناصر ما نال زملاءه من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين طوح بهم عبد الناصر خارج السلطة واحدا وراء الآخر.

ورغم ما أعلنه السادات فى الاجتماع الأول للجنة التنفيذية العليا فى أوائل نوفمبر 70 فى أعقاب توليه رئاسة الجمهورية من أنه لا يستطع الحكم بمفرده وأنه سوف يتبع فى حكمه أسلوب القيادة الجماعية, وأن اللجنة التنفيذية العليا هى القيادة السياسية ل مصر , ومن أجل ذلك فسوف تدعى للاجتماع بانتظام مرة كل أسبوعين للنظر فى جميع الأمور التى تهم البلاد, فإن التجربة العملية أثبتت أن السادات لم يكن يعنى ما يقول, وأن أسلوب القيادة الجماعية غير وارد مطلقا فى تفكيره أو مخططاته, فإن اللجنة التنفيذية العليا لم تنعقد منذ انعقادها ألأول رغم مرور حوالى ستة أشهر, وبات واضحا من تصرفات السادات انه لا يطيق أن يعارضه أحد فى رأيه, وأنه ينزلق تدريجيا إلى مخاطر الحكم الانفرادى المطلق, الذى كان هو أول المنتقدين ل عبد الناصر بعد وفاته بسبب انتهاجه لهذا الأسلوب الدكتاتورى خلال حكمه, ولم يكن هناك مفر من وقوع الصدام وحدوث الصراع المرير على السلطة بين السادات الذى أخذ يماس حقوقه وسلطاته كرئيس للجمهورية, وبين أفراد الجماعة الثلاثية ( شعراوى وسامى وفوزى) الذين تعودا لسنوات عديدة أن يكون زمام الأمور بين أيديهم وعلى أن يتولوا بأنفسهم رسم السياسة الداخلية والخارجية للدولة ورغم تعدد مواضع الخلاف وتباين مجالات النزاع بين الطرفين فإن الخلاف الأساسى كان منحصرا وقتئذ فى موضوعين رئيسيين:

1- داخليا فى الوقت الذى كانت فيه سياسة الجماعة تقوم على أساس بقاء الأوضاع الداخلية على ما هى عليه سواء فى الحكومة أو فى الجهاز الشعبى ومقاومة أى آراء تنادى بالتغيير فى هذه الآونة, بحجة ضرورة توحيد الجهود وعدم الانشغال عن المعركة القادمة مع العدو لتحرير الأرض_ كان تفكير السادات متجها إلى حل الإتحاد الاشتراكي بحجة وجود كثير من العناصر السيئة ضمن صفوفه, وإعادة الانتخابات من القاعدة إلى القمة لا يجاد لجنتين جديدتين لجنة تنفيذية عليا, ولجنة مركزية تستبعد منهما العناصر غير المرغوب فيها, وبعد إتمام انتخابات الإتحاد الاشتراكي يتم تغيير شامل للوزارة بإدخال وجوه وعناصر جديدة بها.

وكان خصوم الجماعة يتهمون أفرادها بأنهم يقاومون التغيير ضمانا لاحتفاظهم بسلطاتهم ومناصبهم القيادية الخطيرة, وخشيتهم من أن تسفر الانتخابات القادمة عن فشل أعوانهم فى الوصول إلى المناصب الهامة التى كانوا يتولونها وقتئذ فى الإتحاد الاشتراكي و التنظيم الطليعي.

2- خارجيا كان أفراد الجماعة يؤمنون بضرورة استمرار السياسة التى رسمها عبد الناصر, وهى الاعتماد التام على الإتحاد السوفيتي الذى هو المورد الوحيد ل مصر للسلاح, حتى يتم للقوات المسلحة خوض غمار المعركة ضد إسرائيل لتحرير الأرض المحتلة, وأنه ليس فى الإمكان الثقة بأمريكا بسبب انحيازها التام ل إسرائيل .

ولكن السادات كان يرى أنه من الخطأ الاستمرار فى معاداة أمريكا والاكتفاء بالسير فى الفلك السوفيتى, فقد أثبت الإتحاد السوفيتي عجزه عن حل القضية سليما أو فرض تدخله لحلها عسكريا, ولقد وضح بجلاء أن سياسته فى تسليح مصر منذ هزيمة يونيو 67 قائمة على تحقيق قدرتها الدفاعية فقط, مما يعنى عدم إمكان مصر القيام بهجوم ضد إسرائيل , ولذا كان يرى أنه لابد من إجراء الاتصالات مع أمريكا التى نملك فى اعتقاده 99% من أوراق اللعب, والتى فى إمكانها الضغط على إسرائيل من أجل حل القضية سليما.

وكان علي صبري باعتباره نائبا لرئيس الجمهورية وعضوا باللجنة التنفيذية العليا قد انتابه شعور بالإحباط بع أن رأى نفسه رغم بريق ثائرته أسلوب السادات الانفرادى فى اتخاذ القرارات دون مشاورة أحد, كما جرى يوم 4 فبراير 71 حينما أعلن أمام مجلس الأمة فجأة مبادرته للسلام المتعلقة بإعادة فتح القناة للملاحة الدولية, فى المقابل انسحاب إسرائيل إلى منطقة المضايق, ونظرا لأن السياسة التى كان يؤمن بها علي صبري من الوجهتين الداخلية والخارجية كانت تتفق تماما مع السياسة التى كانت تعتنقها جماعة شعراوي وسامى وفوزى هم وأعوانهم العديدين الذين كانوا يدورون فى فلكهم وقتئذ فى المجالين التنفيذى والشعبى – فقد تواءمت أهداف الطرفين, وبدا التعاون الوثيق بينهما بقصد الوقوف فى وجه السادات , وإجباره إذا لزم الأمر على التنحى عن الحكم.

وحاول على صبرى إثارة مشاعر الجماعة ضد السادات كى يستقطب أفرادها إلى جانبه فكان يستفزهم بقوله: إنهم إذا لم يقفوا فى وجه السادات فسوف يطيح فى البلد كلها, وسوف يضربهم فى المستقبل بالأحذية, وسوف ينفرد بالرأى ويصبح دكتاتورا ولن يقدر أحد عليه . ووجدت الجماعة من على صبرى رغم شخصيته غير المحبوبة معارضا عنيدا شديد المراس, يمكنها أن تتستر خلفه لإيقاف السادات عند حده.

وكان علي صبري بحكم المناصب الكبيرة التى تولاها لايهاب السادات, فلم يكن يحترمه كالآخرين, وعندما كان يتحدث أمام أعضاء اللجنة المركزية يوم 25 أبريل 71 معارضا مشروع الاتحاد مع ليبيا وسوريا كان يوجه الحديث إلى رئيس الجمهورية بقوله" أنت يا سادات" وقد اتضح من شرائط التسجيل التى ضبطت ب المخابرات العامة بعد أحداث 15 [مايو] أن علي صبري اعتاد أن يوجه أشد أنواع الشتائم وعبارات السباب الجارحة إلى الرئيس خلال محادثاته التليفونية مع أعضاء الجماعة. وكان هؤلاء يعتقدون أنه باعتباره رجل موسكو رقم 1 فى مصر فإنه غير قابل للعزل, ولن يجرؤ السادات على مسه بسوء, ومما يؤيد ذلك أن شعراوي جمعة قال لعلي صبري خلال محادثة تليفونية جرت بينهما يوم 25 أبريل 71 عقب اجتماع اللجنة المركزية " السادات لن يجرؤ أن يمسك بشىء وإلا يبقى حرق الدنيا"

وكان مخطط الجماعة يقوم على الإستفادة من كراهية علي صبري للسادات ومن نقمته الشديدة عليه, لتحريض علي صبري على مهاجمة السادات بطريقة عنيفة خلال اجتماعات اللجنة التنفيذية العليا واللجمة المركزية, ومما يؤدى إلى إحراج مركزه أمام الرأى العام فى مصر, فى الوقت الذى يقومون فيه بزعزعة ثقة السوفيت فيه, وتشويه صورته أمامهم بإبلاغ القادة السوفيت فى موسكو عن طريق سفيرهم فى مصر فلا ديمير فينو جرادوف بأن السادات قد انحرف عن الخط الناصرى وعن الإشتراكية, وأنه قد باع البلد للأمريكان, وقد علق السادات على ذلك فى كتابه البحث عن الذات بقوله: إنه من المؤلم أن السوفيت قد صدقوا هذا الكلام.

وكانت القضية الكبرى التى أثارت الأزمة وفجرت الصراع بين الطرفين هى قضية الاتحاد العربى الثلاثى بين مصر و سوريا وليبيا, ففى خلال اجتماع اللجنة التنفيذية العليا يوم الأربعاء 21 أبريل 71 بإستراحة االرئيس يالقناطر الخيرية شن على صبرى هجوما عنيفا على السادات من حيث الأسلوب الذى يتبعه فى عدم استشارة أحد,

ومن حيث الموضوع لعدم موافقته على اشتراك مصر فى هذا الإتحاد. ونتيجة للإحتكام إلى أعضاء اللجنة خسر السادات الجولة غذ كانت نتيجة التصويت 4 ضد 3 لصالح علي صبري, مما دفع [السادات] إلى إحالة الأمر إلى اللجنة المركزية التى تقرر أن تعقد اجتماعها يوم 25 أبريل 71 .

ورغم أن الاتفاق كان قد تم مع علي صبري أن يلتزم الصمت ولا يتدخل بتاتا فى المناقشات حتى يبدو أن الاقتراح الذى سيطرح بشأن تأجيل اتخاذ القرار نابع من داخل اللجنة المركزية نفسها – فإن شعراوي جمعة وسامي شرف تمكنا من إثارة [علي صبري] بطريقة غير مباشرة, فقد نقلا نبأ اعتزام ل علي صبري قبل اجتماع اللجنة المركزية مباشرة, وقال : له " خش جامد من الأول بلا تأجيل بلا غيرة" مما أثار ثائرة علي صبري, وجعله يغير خطته من التزام الصمت إلى المبادرة بالهجوم , وإثارة اللجنة المركزية ضد السادات , وكان نبأ اعتزام السادات إقالة علي صبري قد تسرب إلى سامي شرف وشعراوي جمعة بوسيلة خاصة من السفارة السوفيتية, كما تأكد النبأ لدى سامي شرف من أحمد كامل رئيس المخابرات العامة الذى أبلغه له بحكم وظيفته.

وقد ذكر أحمد كامل حلال التحقيق معه بعد أحداث 15 مايو 71 أن شعراوى وسامى كانا من المكر والدهاء بحيث أثارا على صبرى بطريق غير مباشر, وهو توسيط عبد المحسن أبو النور لنقل النبأ إليه, ولما استفسر منهما علي صبري بعد اجتماع اللجنة المركزية عن حقيقة الأمر نفيا له علمهما بأى شىء عن ذلك,

ووعداه بأنهما سيبحثان الموضوع, وقد علق أحمد كامل على ذلك فى التحقيق بأن سامي شرف وشعراوي جمعة كانا يتبعان أساليب ماكرة وغير واضحة فى سبيل الوصول إلى غرضهما وطبقا ذلك حتى فى صرتهما الشخصية – وفى علمهما, وقد نفيا لعلي صبري بشىء مما نقله له عبد المحسن أبو النور بشأن اعتزام السادات إقالته فى حين إنهما يعلمان تماما أن الخبر صحيح لأن أحمد كامل كما ذكر, كان أول من نقله لهما بحكم عمله كرئيس للمخابرات العامة.

الفصل الثانى : هل نجحت المخابرات السوفيتية فى تجنيد مستشار عبد الناصر ؟

فى عام 74 أصدرت مؤسسة الريدرز ديجست الأمريكية بنيويورك كتابا ضخما بلغ عدد صفحاته 462 صفحة, وكان عنوانه غريبا. إذ لم يكن يتكون إلا من ثلاثة حروف لاتينية كبيرة هى (K.G.B)كتبت بلون أبيض على الغلاف الحمر للكتاب. وتحت هذه الحروف الإنجليزية,. كانت مكتوبة بضعة أسطر سوداء باللغة الإنجليزية . كانت ترجمتها العربية هى ( العمل السرى للعملاء السريين السوفيت – تأليف جون بارون) وهكذا اتضح أن الحروف الثلاثة إنما هى اصطلاح باللغة الروسية يدل على أخطر جهاز سرى سوفيتى ظهر فى التاريخ, وهو جهاز المخابرات والجاسوسية بالاتحاد السوفيتى, ذلك الجهاز الذى يعمل فى خدمته نحو نصف مليون شخص, وتشغل رئاسته ثلاثة مبان كبيرة فى ميدان ديزرزنسكى بموسكو وقد سبق أن تولى رئاسة الجهاز يورى أندروبوف الرئيس السوفيتى الراحل ويتولى رئاسته حاليا الجنوزال فكتور شيبريكوف .

إن جهاز المخابرات العامة السوفيتى هو الأداة الرئيسية التى عن طريقها يتمكن الحكام السوفيت من حكم بلادهم ومن رسم السياسة الخارجية السوفيتية ويتحكم هذا الجهاز فى مصير نحو 250 مليونا من مواطنى الاتحاد السوفيتى وعدد آخر لا يحصى من مواطنى الدول التى تدور فى الفلك السوفيتى, وقد قام بتأليف الكتاب كاتب أمريكى معروف يدعى جون بارون. كان محررا قديما فى مجلة ريدرز ديجست, والتحق فى بداية الخمسينات بمدرسة المخابرات التابعة للبحرية الأمريكية, وتخصص فى اللغة الروسية, وعمل فى برلين لمدة عامين كضابط مخابرات. وعندما تم تسريحه من البحرية عام 57 انضم إلى أسرة تحرير جريدة واشنطن ستار, حيث أكسبته مقالاته وتحقيقاته الصحفية شهرة كبيرة ومكانة مرموقة.

وقد أثار الكتاب منذ صدوره ضجة كبرى فى شتى أرجاء العالم إذ إنه كان أول مرجع موثوق بصدقه, يكشف الستار عن الأسرار الخطيرة للجهاز السوفيتى الرهيب ماذا يفعل؟ وكيف يمارس نفوذه الخفى الواسع النطاق على المستوى العالمى؟ ولم يتمكن جون بارون من تأليف كتابه الذى جاز كل هذه الشهرة إلا بعد أن أمضى أربع سنوات جريا وراء البحث والتحقيق فى حقيقة نشاط هذا الجهاز, الذى تشعبت عملياته وامتدت سطوته إلى كل مكان على وجه الكرة الأرضية.

لقد أتيحت للمؤلف الفرصة لدراسة آلاف الوثائق فى أرشيف وكالة المخابرات المركزية الأمريكية . كما تم له معرفة الكثير من الأسرار بالتعاون مع معظم أجهزة المخابرات فى العالم الغربى, وأهم من ذلك كله هو تمكنه من عمل لقاءات مع عدد من ضباط المخابرات السوفيت السابقين الذين فروا من تحت السيطرة المحكمة للجهاز الجبار, الذى كان يتولى تشغليهم, ولجئوا إلى دول أوربا الغربية أو إلى الولايات المتحدة, وقد كشف هؤلاء باعترافاتهم الستار عن دق أسرار جهاز المخابرات السوفيتى, كما كانوا السبب فى انكشاف أمر عدد كبير من عملاء السوفيت فى مختلف بلاد العالم.

ومن بين أهم ثمانى عمليات فى العالم أحرز فيها الجهاز السوفيتى نجاحا باهرا, وسيجعلها المؤلف على غلاف كتابه, عملية تتعلق ب مصر وكان عنوانها " كيف احتال الجهاز سرا على الرئيس المصرى ناصر بتجنيد مستشاره الخاص؟ وقد اتضح أن ضابط المخابرات السوفيتى الذى روى للمؤلف الأمريكى أسرار هذه العملية الخطيرة, كان عميلا مزدوجا, عمل لحساب المخابرات السوفيتية فى الوقت الذى يعمل فيه لحساب المخابرات الأمريكية وهو يدعى فلاديمير سخاروف وقد تمكن من الهرب و اللجوء إلى مندوب المخابرات المركزية الأمريكية بالكويت, قبل منتصف الليل يوم 10 يوليو 71 بعد أن وصلته إشارة التحذير من الأمريكيين بأن المخابرات السوفيتية قد انكشفت أمره, هذا وقد عقد جون بارون عدة لقاءات مع ذلك العميل المزدوج السوفيتية فى هذه الدول كما كشف له عن أسماء بعض أصحاب المراكز الهامة فى مصر الذين جندتهم المخابرات السوفيتية للعمل لحسابها.

من المعلومات التى سجلها جون بارون عن قصة العميل المزدوج سخاروف التى دونها فى الفصل الثانى من كتابه الذى جعل عنوانه " أسرار من الصحراء" والذى بلغ عدد صفحاته 34 صفحة ( من الصفحة 29 إلى62) نعرف أن سخاروف كان عام 67 شابا وسيما فى الثانية والعشرين من عمره, ذا جسم قوى مفتول العضلات, انحدر من أسرة تعتبر بالمقارنة بالأسر السوفيتية ذات ثروة ونفوذ.

وكان والده محل ثقة المخابرات السوفيتية بحكم عمله عشرين عاما فى وظيفة حامل حقيبة دبلوماسية بوزارة الخارجية,وقد قام والده بأداء خدمات جليلة للمخابرات السوفيتية خلال عمله بالخارجية, مما جعل له كثيرا من الأصدقاء من أصحاب القوة والنفوذ فى موسكو. وبحكم دراسة سخاروف اللغة العربية لمدة خمس سنوات فى معهد العلاقات الدولية بموسكو حتى أتقنها.

انفتح أمامه باب العمل بوزارة الخارجية السوفيتية, فأرسلته للتدريب لمدة ستة أشهر فى القنصلية السوفيتية بميناء الحديدة ب اليمن الشمالية, فذهب بمفرده وترك زوجته الحامل فى طفلها الأول فى موسكو.

وكانت الحكومة السوفيتية تسيطر سيطرة كاملة وقتئذ على الرئيس اليمنى عبد الله السلال , ولم يكن السلال يرغب فى أن تتم مقابلاته مع السفير السوفيتى ( ميرزورحماتوف ) علانية فى العاصمة صنعاء, مما دعا المخابرات السوفيتية إلى شراء منزل بالقرب من الحديدة لتجعل منه مكانا لعقد لقاءات السلال مع السفير السوفيتى. وكان التنافس من أجل الحصول على نفوذ فى اليمن على أشده وقتئذ بين الاتحاد السوفيتى والصين الشعبية , ولذا كان الصينيون فى الحديدة يسببون متاعب كثيرة للجالية السوفيتية التى كان الحى السكنى المخصص لأفرادها لا يفصله سوى جدار واحد عن القنصلية الصينية بالحديدة, وانتهز الصينيون فرصة الهزيمة التى حاقت بالعرب فى حرب 67 لشن دعاية شعواء ضد الاتحاد السوفيتى باتهامه بخيانة العرب, وبأنه كان السبب وراء هزيمتهم فى الحرب.

وفى صباح 10 يوليو 67 , وبينما كان سخاروف وحده فى مكتبه بالقنصلية أحاطت بالقنصلية مظاهرة صاخبة, اشترك فيها نحو 1500 يمنى, يتقدمهم بعض المحرضين والمهيجين من الصينيين, وكادوا يحطمون القنصلية ويفتكون بسخاروف الذى أوصد جميع الأبواب والنوافذ, وواجه المتظاهرين وحده لولا وصول النجدة من القوات المصرية التى تمكنت من تفريق المظاهرة, ومن إنقاذ سخاروف, وخلال عمل سخاروف ب اليمن كقائم بأعمال القنصل بسبب قيام القنصل الأصلى بإجازته فى موسكو , اتصل به مندوب المخابرات السوفيتية فى الحديدة فلا ديمير ايفشينكوف , وتم له تجنيده للعمل لحساب المخابرات وطلب منه تقديم تقارير سرية عن جميع أفراد الجالية السوفيتية بالحديدة, خاصة الذين لهم علاقات واتصالات بالعرب, كما طلب منه الحصول على معلومات على الحامية المصرية فى الحديدة.

واستمر سخاروف يقدم تقاريره السرية بهمة ونشاط إلى مندوب المخابرات حتى نجح فى الحصول على ثقته, ونتيجة لذلك أرسل رجل المخابرات ايفتشينكوف إلى إدراته فى موسكو يعدد مواهب سخاروف ويرشحه للعمل ضابطا فى المخابرات السوفيتية. وعندما صدقت وزارة الخارجية على عودة سخاروف إلى موسكو بعد انتهاء المدة المحددة له للتدريب رأى لأول مرة طفلته الجميلة إيكاترينا, ولم تكد حفلات الترحيب التى أقيمت له فى موسكو بمناسبة عودته تنتهى حتى جاءه استدعاء سرى فى نوفمبر 67 ليقدم نفسه على أحد العناوين فى موسكو, وعندما وصل إلى ذلك المكان قابله فاسيلى إيفا نرفش الذى علم بعد ذلك ا،ه مندوب المخابرات الذى تولى عملية تجنيده وفى يناير 68 تم تعيين سخاروف كملحق فى القنصلية السوفيتية فى الإسكندرية , وسافر هذه المرة وبصحبته زوجته الجميلة ناتاليا وابنته إيكاترينا.

وعلى رصيف الميناء وجد سخاروف رجلا فى الأربعين من عمره ينتظره ويرحب به قائلا أنا فكتور سبيرونوف نائب القنصل فى الإسكندرية , حجزت لك شقة جميلة فى نفس المبنى الذى أقيم فيه, تعالوا فإن زوجتى تنتظركم لتناول العشاء معنا, وفى شقة سبيرونوف دار حديث طويل فهم منه سخاروف أن مضيفه يعلم كل شىء عنه, وأدرك على الفور أن سبيرونوف هو رجل المخابرات السوفيتى فى الإسكندرية , وتم الاتفاق على أسلوب العمل بينهما وتناقشا فى تفاصيل كثيرة بعملهما السرى المشترك.

وكانت الفترة التى أمضاها سخاروف فى مصر من أخطر الفترات بالنسبة لنشاط المخابرات السوفيتية فى الشرق الأوسط وكان أشد ما يثير قلق السوفيت هو احتمال توصل مصر و إسرائيل إلى تسوية سلمية بينهما, مما قد يؤدى إلى انتهاء حاجة مصر إلى الأسلحة والمعدات السوفيتية, وبالتالى إلى انتهاء الوجود السوفيتى فى مصر .

وكان ذلك هو ما دفع المخابرات السوفيتية إلى إنشاء مؤسسة سرية فى مصر تابعة لها كانت تستهدف من وراء إنشائها استمرار فرض سيطرتها على مصر فى المستقبل, ولذا بذلت مجهوداتها لتجنيد عملاء لهذه المؤسسة فى المجال العسكرى وفى أجهزة الأمن والصحافة وفى الجامعات وفى الاتحاد الاشتراكى.

بل وبين مستشارى عبد الناصر الشخصيين, وكانت تحاول أن تشكل من هؤلاء العملاء نواة جديدة تدين بالفضل والولاء للإتحاد السوفيتى, وأسندت لسخاروف مهمة ترجمة تقارير عملاء السوفيت فى الاسكندرية إلى اللغة الروسية, كما أتيحت له الفرصة للإطلاع على البرقيات السرية المتبادلة بين موسكو وأجهزة مخابراتها ب الإسكندرية , مما جعله يكون حصيلة ضخمة من المعلومات عن النشاط السرى السوفيتى فى مصر , ولم يمض وقت طويل حتى طلب منه سبيرونوف أن يبدأ فى إقامة علاقات مع بعض العناصر المصرية, وحدد له بالذات شخصا يدعى عبد المقصود فهمى حسن , كان مسئولا من ناحية الأمن عن مراقبة القنصليات الأجنبية فى الإسكندرية , وقال سبيرونوف عنه لسخاروف: عبد المقصود فهمى مازال صغيرا, ولكن لا تنس أن الصغير يصبح كبيرا بسرعة.

ونجح سخاروف فى التعرف على عبد المقصود فهمى هذا, ودعاه إلى بيته عدة مرات, وإلى حفل استقال رسمى فى القنصلية, وبدأ له بعض الهدايا مثل الكافيار والفودكا والويسكى بين الحين والحين, وقام سخاروف بتقديم صديقه المصرى إلى رئيسه سبيرونوف فى إحدى الحفلات المفتعلة لهذه المناسبة فى منزل سخاروف, وبعد مرور بضعة أشهر على هذا اللقاء بوجىء سخاروف برئيسه سبيرونوف يطلب منه قطع صلته نهائيا ب عبد المقصود فهمى حسن , ولما أبدى سخاروف دهشته نظرا للصداقة التى باتت تربطه ب عبد المقصود اكتفى سبيرونوف برد مقتضب, قال فيه:" سوف يفهم هو ويقدر الظروف" وسرعان ما أدرك سخاروف سر قرار رئيسه عندما بدأت تقارير عبد المقصود حسن المسئول المصرى عن أمر القنصليات تصل إليه ليتولى ترجمتها من العربية إلى الروسية فقد تم تجنيد عبد المقصود فهمى حسن للعمل لحساب المخابرات السوفيتية, وكان أحد المسئولين عن مقاومة المخابرات السوفيتية فى الاسكندرية ضابطا يدعى عبد الهادى السيد , وكجزء من خطة لإغرائه دبرت المخابرات السوفيتية بعثة دراسية لشقيقه فى المعهد الزراعى العالى فى تبيليس بالاتحاد السوفيتى, وقبل رحيل الطالب إلى معهده بالاتحاد السوفيتى للدراسة التقى به سخاروف الذى تهيأت له الفرصة بالطبع للتعرف على شقيقهه عبد الهادى السيد , وبدأت الصلة الإجتماعية تتوثق بينهما بحكم وجود أخيه فى بعثته الدراسية بالاتحاد السوفيتى, وبعد أن قام سخاروف بتقديم عبد الهادى إلى سبيرونوف انسحب سخاروف ليتولى رئيسه بنفسه أمر عبد الهادى, كما تولى من قبل عبد المقصود.

وانتقل سخاروف بناء على تعليمات سبيرونوف للبحث عن علاقات جديدة مع موظفين مصريين آخرين بشرط الابتعاد عن الشيوعيين المصريين, فهؤلاء تم إحراقهم والمطلوب البحث عن عملاء جدد, ولا حظ سخاروف أن سبيرونوف يسىء معاملة الشيوعيين المصريين القدامى, ويتعمد إحراجهم وإهانتهم والسخرية منهم.

حدث هذا مع محمد قريطم الذى كان يتولى إصدار نشرة دورية فى الإسكندرية وكان قد تقدم إلى القنصلية السوفيتية يعرض عليها أن يصدر عددا خاصا من نشرته بمناسبة عيد ميلاد لنين شرط أن تشترى القنصلية 500 نسخة, ورفضت القنصلية طلبه وإزاء الحاح قريطم أمر القنصل بطرده من المبنى. وكان سخاروف يسافر إلى القاهرة مرتين او ثلاثا شهريا لأداء مهام خاصة بسبيرونوف أو لأعمال خاصة بالقنصلية. وبعد أن يمر على السفارة كان من عادته قضاء الليلة فى صحبة بعض الأصدقاء. وغالبا ما كان يتحدث مع اثنين من ضباط المخابرات بالسفارة, هما جنادى ينيكيف وفالنتين بولياكوف, ومع رجل سوفيتى ضيلع فى اللغة العربية هو سيرجى أراكيليان الذى أحبه عبد الناصر حبا جما وعينه مترجما خاصا له.

وأتاحت له هذه الزيارات الفرصة للتعرف على حقيقة ما يجرى من أحداث فى المنطقة بعيدا عما تتم إذاعته من أنباء كاذبة عن طريق الدعايات الخادعة واسر إليه أصدقاؤه بأن بعض الطيارين السوفيت الذين يقودون طائرات الميج التى تحمل علامات مصرية يقتلون فى الاشتباكات الجوية مع طائرات الفانتوم الإسرائيلية.

وذات مرة اثناء وجوده ب القاهرة وصلت من الصحراء حثتان لاثنين من الطيارين الروس اللذين أسقطت طائرتاهما, ورأى سخاروف زوجتيهما تبكيان بحرقة فوق تابوتيهما, كذلك ابلغه أراكيليان( مترجم عبد الناصر الخاص)

عن رحلات سرية سافر فيها إلى موسكو بصحبة ناصر, كما أبلغه بكثير من تفاصيل المحادثات التى دارت بين الرئيس المصرى وبين قادة الكرملين.

وعلى الرغم مما كان يتصف به سبيرونوف مندوب المخابرات فى الإسكندرية من تحفظ وحذر, فقد ذكر سخاروف أن رئيسه كان فى بعض الأحيان لا يستطيع أن يقاوم الحافز الذى يدفعه لأن يبهر الآخرين بمعلوماته السرية, وذات مساء من أمسيات ربيع عام 69 كان الإثنان يشربان الويسكى الإسكتلندى, وأعرب سخاروف عن دهشته لأن المخابرات السوفيتية لن تفطن للاستعدادات التى أعدتها إسرائيل لشن هجومها فى يونيو 67 , فقال سبيرونوف أن أحدا لا يجهل أن إسرائيل أعدت عدتها للحرب, ولكن المهمة الأساسية لى مندوب سوفيتى تتمثل فى التأكد من يوم الحرب بالضبط ومن حقيقة نوايا العدو, فعقب سخاروف قائلا: لقد تساءلنا فى اليمن لماذا لم نفعل ذلك؟

فقاطعه سبيرونوف قائلا:" كلا لقد كانت لدنيا المعلومات وكانت معلومات دقيقة. لقد كنا على علم بتاريخ الهجوم وساعته بالضبط, وأرسلنا هذه المعلومات إلى المركز( الرئاسة فى موسكو) ودهشنا لأن المركز لم يبلغ العرب, وربما لم يصدق المصدر أو تطرق إليه شك فى صحته, وربما كان هذا خطأ روتينيا فى المركز, وربما كان شيئا مدبرا فأنا لا أعرف بالضبط.

ومن الطبيعى أن سخاروف قد ثار فضوله من جراء هذا التأكيد بأن المخابرات السوفيتية حصلت على هذه المعلومات البالغة الأهمية وحجبتها عن العرب, وهى معلومات كان يمكن أن تقيهم شر الهزيمة النكراء التى لحقت بهم.

وبعد اقل من أسبوع واحد ثار فضوله أكثر وأكثر عندما سمع خبرا مثيرا من سبيرونوع فى أحد اجتماعاته بالعاملين فى القنصلية. فقد طرح سخاروف سؤالا عما إذا كان النفوذ المتزايد على الحكومة المصرية من جانب الصحفى محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام قد تسببت عنه مصاعب للإتحاد السوفيتى. فرد عليه سبيرونوف قائلا:" لن يحدث ذلك طالما استمر شرف حيث هو الان" فقال القنصل شوميلوف": إنى لم أسمع عنه من قبل" فقال سبيرونوف":" إن سامى شرف هو الشخصية الأولى فى الحكومة فى الواقع فهو مستشار الرئيس لشئون المعلومات, وهو الرجل الذى ينصت إليه ناصر أكثر مما ينصت لأى رجل آخر. وهو يعتبر من وجهة نظرنا أكبر قوة إيجابية فى مصر , فهو قوة التى نعتمد عليها".

وكان سبيرونوف يتحدث بصدق, ولكن حديثه كان يفتقر إلى الحكمة فقد كان سامى شرف من الأهمية بمكان: بحث لا يجوز الكشف عنه بهذه الطريقة.

وقد تضمنت الصفحات من 51 إلى 53 من كتاب ما يلى:" كان سامى شرف فى ذلك الوقت عميلا من أهم عملاء المخابرات السوفيتيى فى العالم كله, فهو يمثل حالة رجل صغير لا شأن له تحول إلى صاحب شأن ونفوذ. لقد كان بمثابة تزكية للأسلوب الذى يتبعه جهاز المخابرات السوفيتية, الذى يتمثل فى تجنيد عدد لا يحصى من العملاء على أمل أن بعضهم سوف ينجح بعد سنوات لقد كان سامى شرف نموذجا ممتازا لإيضاح كيف يمكن لعميل واحد ذى نفوذ ان يغير مجرى التاريخ.

كان سامى شرف يشبه ثمرة الكمثرى الرديئة جدا, وكان مظهره يكذب حدة ذهنه, وميله الغريزى للدسائس, وشخصيته الطموح القوية الشكيمة التى لا تثبط الوساوس عزمها وطاقته غير العادية على العمل, وفيما عدا وصمة الخيانة فليس له نقائص شخصية.

وقد بدأت محاولات المخابرات السوفيتية فى التودد إلى سامى شرف سنة 1955 عندما سافر إلى موسكو مع وفد من أوائل الوفود العسكرية المصرية التى ذهبت تطلب المعونة السوفيتية, وبعد ذلك بفترة وجيزة عينه على صبرى مساعدا له, وليس من المعروف ما إذا كان قد اختاره بناء على تحريض من السوفييت أم لا, وسرعان ما أعاد سامى شرف تنظيم مكتب على صبرى , وفى أثناء هذه العملية حصل لنفسه على مزيد من النفوذ,واستطاع أن يكون على اتصال مباشر مع ناصر. وعاد إلى موسكو سنة 57 مع وفد مصرى آخر.

ومرة أخرى حاول جهاز المخابرات السوفيتى التقرب إليه بطريقة ذكية وقام شرف بزيارة إلى نيويورك سنة 1958( للتمهيد لزيارة ناصر للأمم المتحدة) والتقى سرا مع فلاديمير سوسليف, وهو ضابط بالمخابرات السوفيتية, ومعين فى وظيفة مستشار للوفد السوفيتى بالأمم المتحدة.

وهناك دلائل تحملنا على الاعتقاد بأن سامى شرف أصبح عميلا يتحكم فيها جهاز المخابرات السوفيتية منذ عام 58 , وبعد هذا العام لم يكن سامى شرف يذكر باسمه الحقيقى سواء فى المركز فى موسكو أو فى الرسائل الشفرية التى كان الجهاز يبعث بها, وكان الجهاز يشير إليه بالاسم الرمزى المخصص لأمثاله من العملاء,وكان الاسم الرمزى لسامى هو " الأسد".

وبعد أن أصبح سامى شرف كبير مستشارى الرئيس ناصر لشئون المعلومات, نأى بنفسه عن على صبرى, واتخذ الصورة التى رسمها له بدقة جهاز المخابرات السوفيتية ألا وهى صورة الرجل الشديد التحمس للقومية العربية, وفراح يقول:" إن الهدف الأسمى أمام مصر فى الداخل هو أن تحقق الديمقراطية الاجتماعية, وفى نفس الوقت أن تحقق الهدف الأسمى فى سياستها الخارجية, وهو الوحدة العربية التى تؤدى إلى تصدع إسرائيل ". واستطاع بكل وسيلة ممكنة أن يقنع عبد الناصر برأيه بأنه نظرا لاعتبارات سياسية داخلية فإن أمريكا ستذهب إلى ابعد مدى فى مساندتها ل إسرائيل , وبناء على ذلك فإنه ينبغى على مصر أن تستغل الشرق ضد الغرب, وتحصل على كل ما تستطيع الحصول عليه من روسيا, دون أن تعرض سيادتها للشبهة او المخاطر.

وبعلم ناصر أو بدون علمه أبرم شرف اتفاقا سريا ينص على القيام بعمليات مشتركة بين مصر وجهاز المخابرات العامة السوفيتية, وعلى أن يتولى السوفيت تدريب ضباط المخابرات المصرية, وبفضل هذا الاتفاق تمكن الروس من زيادة تغلغلهم فى الحكومة المصرية عن طريق الضباط الذين يلقنونهم أفكارهم.

كذلك فإن هذا الإتفاق أعطى ذريعة ل سامى شرف لكى يلتقى علانية مع فاديم كربتشنكو أكبر ضابطا للمخابرات السوفينية فى القاهرة . وفى أوائل الستينات كان سامى شرف هو الذى يصدق على جميع تعيينات المصريين فى الخارج, وكان يشرف على تحريات المن عن موظفى الحكومة, كما كان هو شخصيا يتولى إدارة عمليات المخابرات الخارجية التى كان يهتم بها ناصر بصفة . ولهذا السبب أنشأ فى داخل جهاز المخابرات شبكة خاصة من الضباط وظيفتها تقديم التقارير إليه شخصيا.

والأهم من ذلك فإنه كان هو الذى يحدد أى التقارير يمكن أن تصل إلى ناصر. كما كان هو الذى يحدد مضمون التقارير اليومية التى كانت ترفع إليه.

وهكذا استطاع جهاز المخابرات السوفيتية عن طريق سامى شرف أن يسيطر على المعلومات التى كان الرئيس المصرى يعتمد عليها كل الإعتماد فى تكوين أحكامه وفى رسم سياسة البلاد.

وبوصفه أقرب المقربين إلى ناصر حصل سامى شرف سنة 67 على نفوذ لا يزيد عنه سوى نفوذ الرئيس نفسه فقد كان سامى هو الذى ينقل أوامر الرئيس إلى الوزراء, وبهذا أصبح أعلى منهم مكانة فى واقع الأمر, ولكن أعظم نفوذ له على شئون مصر كان ينبع من نجاحه فى إخفاء ولائه الحقيقى, فقد كان ناصر يدرك أن ما يشير به الروس كان يخدم مصالحهم, وقد لا يتفق هذا مع مصالح مصر .كذلك كان يدرك أن كثيرين من المقريبن إليه وخصوصا نائبه على صبرى ووزير الداخلية شعراوى, ووزير الحربية محمد فوزى كانوا حلفاء للسوفيت, ولكنه لم يجد سببا يجعله يشك فى رئيس مخابراته المخلص الذى يحظى بثقته.. سامى شرف , ل\ذلك الرجل الذى كانت المخابرات السوفيتية توجهة دائما لأن يظهر بصورة الرجل الوطنى الذى لا يهتم إلا بأفضل شىء ل مصر .

لقد كان سامى هو الرجل الوحيد الذى كان ناصر يشعر يستطيع ان يلتمس لديه الرأى السديد. وفى خلال ربيع سنة 67 الحرج عندما كان ناصر يتخذ قراراته التى ستؤدى إلى الحرب أو السلام قدم له سامى شرف صورة العالم بالشكل الذى تريد منه المخابرات السوفيتية أن تراه"

هذا ما سجله الكاتب الأمريكى جون بارون عن قصة تجنيد المخابرات السوفيتية ل سامى شرف على لسان العميل السرى المزدوج فلاديمير سخاروف.

وسوف نتناول هذه القصة بالتحليل الموضوعى بهدف الوصول إلى الحقيقة .


بلاغ ضد سامى شرف إلى محكمة التاريخ

كانت العملية الكبرى التى تمكنت المخابرات السوفيتية من تحقيقها بنجاح فى مصر إلى الحد الذى جعل المؤلف الأمريكى جون بارون يحرص على تسجيل عنوانها على غلاف الكتاب ضمن ثمانى عمليات أحرزت فيها المخابرات السوفيتية نجاحا على المستوى العالمى – هى عملية تجنديها ل سامى شرف مستشار عبد الناصر الخاص. وقد أوردها المؤلف فى ثلاث صفحات ضمن الفصل الثانى من الكتاب..

هل اتهام سامى شرف بالعمالة صحيح أو باطل؟

على الرغم من أنه لا يمكن لنا الجزم بصفة قاطعة عما إذا كان الاتهام الموجة إلى سامى شرف بالعمالة للمخابرات السوفيتية هو اتهام صحيح أو باطل حيث لا توجد تحت يدنا ووثائق أو مستندات تثبت براءته أو إدانته, وليس لدينا سوى ما أورده المؤلف الأمريكى جون بارون فى كتابه نقلا عن اعترافات أدلى بها ضابط المخابرات السوفيتى السابق فلا ديمير سخاروف – فإنه يمكن لنا عن طريق تحليل ذلك الإتهام وملابساته تحليلا موضوعيا أن نتوصل إلى صورة أكثر وضوحا, وأن نلقى مزيدا من الضوء على الغموض الذى يحيط بهذا الموضوع وسوف نتبع فى حيلنا الأسلوب الذى يسهل الأمر على القراء بأن نطرح عددا من الأسئلة الهامة والحيوية التى تتعلق بموضوع الاتهام الموجه إلى سامى شرف ,والتى لا شك إن كثيرا منها يدور فى أذهان القراء, وعن طريق التحليل والمناقشة نأمل أن نتوصل إلى إجابات شافية عن هذه الأسئلة, مما قد يزيح الغموض ويكشف الستار عن ذلك السر...

هل هناك غرض خفى يكمن وراء توجيه الاتهام إلى سامى شرف ؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال, يحسن أن نذكر القراء بأن معلومات ضابط المخابرات السوفيتى السابق سخاروف عن عمالة سامى شرف للمخابرات السوفيتية قد استقاها من رئيسه فى العمل فى المخابرات وفى القنصلية السوفيتية ب الإسكندرية وهو نائب القنصل فكتور سبيرونوف, وكان ذلك فى مارس 69 وفقا لرواية المؤلف الأمريكى.

وهذه الحقيقة تقودنا إلى نتيجتين الأولى أن سبيرونوف لم يذكر هذه القصة لسخاروف لأى غرض معين لم يكن يعلم وقتئذ بأن مرءوسه سخاروف على اتصال بالمخابرات المركزية الأمريكية بدليل استمراره فى العمل مع المخابرات السوفيتية لمدة عامين( فى مصر و الكويت ) بعد معرفته بقصة سامى شرف , كما أن سبيرونوع ما زال موجودا حتى الآن فى الاتحاد السوفيتى – والنتيجة الثانية أن سخاروف لم يرو القصة التى سمعها من رئيسه عام 69 إلى المؤلف الأمريكى إلا بعد خمس سنوات من استماعه لها لأن كتاب جون بارون لم يصدر إلا عام 74 مما يجعل من المتحمل بالطبع نظرا لطول المدة حدوث بعض الأخطاء فى ذكر التفاصيل الخاصة ب سامى شرف وتاريخه او صفاته.

ولكن جوهر الموضوع وهو, تجنيد المخابرات السوفيتية ل سامى شرف , وهو الأمر الذى ليس فيه مجال للخلاف أو الخطأ بالنسبة لسخاروف, مهما بعد تاريخ استماعه لهذا الموضوع, وبالنسبة لاحتمال صدور الاتهام بدافع شخصى فإن هذا الاحتمال مردود عليه بأن جميع من أسهموا فى توجيه هذه التهمة ل سامى شرف سواء كان المؤلف الأمريكى جون بارون أو رئيس المخابرات السوفيتى السابق فى الإسكندرية سبيرونوف أو العميل السوفيتى الأمريكى سخاروف – ليس لهم أدنى معرفة او أية صلات سابقة ب سامى شرف سواء كانت رسمية بحكم العمل او وصلات شخصية.

وإذا ما طرأ على ذهن أحد فكرة أن تكون المخابرات المركزية الأمريكية وراء هذا الاتهام, فإن الدافع الوحيد المحتمل بالنسبة لها فى هذه الحالة هو محاولة تحطيم نفوذ سامى شرف وتنحيته عن السلطة حتى يحرم الاتحاد السوفيتى من حليف قوى ذى سلطة ونفوذ فى الحكومة المصرية. ولكن هذا الدافع لم يكن فى الإمكان وجوده عند صدور الكتاب عام 74 , ففى هذا الوقت كان سامى شرف سجينا فى سجن مزرعة طره يمضى مدة العقوبة التى أوقعتها عليه الدائرة الأولى لمحكمة الثورة يوم 10 ديسمبر 71 وهى عقوبة السجن المؤبد أى أنه لم يكن يتمتع بأى نوع من القوة او النفوذ, ولم تكن له أية صلات وقتئذ بالاتحاد السوفيتى, والخلاصة التى نخرج بها أن اتهام سامى شرف بالعمالة للمخابرات السوفيتية ليس وراءه أى هدف شخصى او عرض خفى, بل بالنسبة للمؤلف الأمريكي جون بارون حقيقة مؤكدة آمن بها عن ثقة وسجلها فى كتابه عن صدق واقتناع.

هل كان الغرض من توجيه الاتهام إلى سامى شرف إساءة العلاقات المصرية السوفيتية؟ إن اتهام سامى شرف بالعمالة للإتحاد السوفيتى لم يكن اتهاما جديدا يوجه ضده بحيث يحدث تأثيرا سيئا فى العلاقات المصرية السوفيتية, فإن الرئيس الراحل السادات طوال الفترة الواقعة بين أحداث 15 مايو 71 وموعد صدور الكتاب وهو عام 74 لم يكف سواء فى خطبه العامة او أحاديثه عن ترديد نغمة أن من أسماهم مراكز القوى كانوا عملاء للإتحاد السوفيتى,وكان سامى شرف كما يعلم الجميع من أبرز أعضاء هذه المجموعة وبذا فإن توجيه اتهام جديد ل سامى شرف بنفس التهمة التى وجهها له السادات منذ عدة سنوات سابقة على صدور الكتاب لا يترك مجالا لحدوث أية أزمة جديدة فى العلاقات المصرية السوفيتية. وفضلا عن ذلك فقد كانت العلاقات بين البلدين على درجة من السوء وقت صدور الكتاب بحيث لم يكن الأمر محتاجا إلى محاولة جديدة لدق أسفين فى العلاقات بين مصر و إسرائيل , وبعد سلسة لقاءات السادات وكيسنجر, التى بدأت فى قصر الطاهر ب القاهرة يوم 7 نوفمبر 73 . واستمرت بعد ذلك فى أسوان – اصبح واضحا ان السادات قد نقل جهود السلام فى الشرق الأوسط بأكملها إلى يد الولايات المتحدة , وأن الاتحاد السوفيتى قد أصبح خارج اللعبة, نستخلص من ذلك أن توجيه ذلك الاتهام إلى سامى شرف لم يكن له أى تأثير بالنسبة للعلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتى.

لماذا ركزت المخابرات السوفيتية جهودها على سامى شرف بالذات لتجنيده؟ إن المخابرات السوفيتية من الذكاء وبعد النظر إلى الدرجة التى تجعل من موضوع تجنيدها لكبار المسئولين السياسيين فى الدول غير المنحازة التى تدور فى فلكها – مثل مصر وقتئذ – أمرا يخضع لاعتبارات دقيقة ومقاييس محددة وفقا للطريقة التى سنوضحها فيما يلى:

أولا – ينبغى ألا يكون المسئول السياسى الذى ستقوم بتجنيده معروفا لدى الرأى العام فى بلاده بأنه رجل الاتحاد السوفيتى, أو بأنه شيوعى, لأن مثل هؤلاء يعتبرون فى عرف المخبرات ( محروقين) ولا تمكن استفادة المخابرات السوفيتية بهم مهما علا مركزهم أو بلغ شأنهم.

وأكبر مثال على ذلك هو على صبرى فإن وجود الانطباع لدى الرأى العام المصرى بأنه رجل موسكو رقم (1) فى مصر , وانتشار الشائعات بأنه شيوعى كل ذلك جعل المخابرات السوفيتية لا تبذل أية محاولات لتجنيذه للعمل لحسابها رغم وزنه السياسى الكبير وعلاقته الوثيقة بالاتحاد السوفيتى إلى الحد الذى جعل السادات لا يجرؤ على إصدار القرار بتنحيه يوم 2 مايو 71 إلا بعد أن استدعى السفير السوفيتى فلاديمير فينوجرادوف قبل أن يصدر القرار بحوالى عشرة أيام لإبلاغ القيادة السوفيتية فى موسكو بالقرار الذى اعتزم إصداره حتى لا تنزعج القيادة السوفيتية – على حد قول السادات – عندما تتحدث صحف الغرب عن تصفية رجل موسكو الأول فى مصر .

ثانيا – ينبغى أن يكون المسئول السياسى المراد تجنيده فى موقع أقرب ما يمكن لرئيس الدولة, مما يتيح الفرصة أمامه ليمد المخابرات السوفيتية بأدق الأسرار السياسية والعسكرية الخاصة ببلاده وأهم القرارات التى يعتزم رئيس الدولة اتخاذها فى المستقبل.

وسر نجاح العميل فى هذه الحالة هو قدرته على إخفاء ولائه الحقيقى وظهوره بمظهر الرجل الوطنى المتطرف فى وطنيته والحريص على مصالح بلاده, مما يجعل رئيس الدولة يوليه ثقته الكاملة, وبفضل أن يلتمس لديه دون كل مستشاريه الرأى السديد,وإذا ما استطاع العميل بحكم موقعه القريب من رئيس الدولة يوليه ثقته الكاملة, ويفضل أن يلتمس لديه دون كل مستشاريه الرأى السديد, وإذا ما استطاع العميل بحكم موقعه القريب من رئيس الدولة الوصول إلى هذه المكانة وبلوغ هذه الدرجة من الثقة تصبح لديه المقدرة على ان يجعل رئيس الدولة يتخذ أخطر قراراته وفقا للسياسة التى ترسمها القيادة السوفيتية, دون أن يدرى, وذلك بأن يقدم العميل السوفيتى. له صورة الموقفين العالمى والداخلى بالشكل الذى تريد منه المخابرات السوفيتية أن يراه.

وإذا طبقنا الاعتبارين السابقين على المسئولين السياسيين المصريين الذين كانوا فى تلك الفترة أقرب ما يكونون إلى الرئيس الراحل عبد الناصر بحكم عملهم, والذين نجحوا فى أن يكونوا موضع ثقة, فسوف نجد أن أفضل هؤلاء الأفراد نفعا للمخابرات السوفيتية – فى حالة نجاحها فى تجنيده – كان بلا شك هو سامى شرف , فقد كانت تتوافر فيه جميع الشروط المطلوبة فلم يكن معروفا عنه توثق الصلات أو قوة الروابط بينه وبين الاتحاد السوفيتى ومن جهة أخرى كان من الناحية الواقعية هو السكرتير ورئيس المخابرات الخاص ل عبد الناصر( بصرف النظر عن المسميات التى كانت تطلق على وظيفته), وكان بلا جدال أكثر معاونيه قربا منه سواء فى الشئون الرسمية او الخاصة وأشدهم بالتالى تأثيرا عليه, ولهذه المبررات يكون تركيز المخابرات السوفيتية عليه لمحاولة تجنيده للعمل لحسابها أمرا طبيعيا ومنطقيا ليتسنى لها تنفيذ مخططاتها فى مصر .

لماذا لاذ سامى شرف بالصمت طوال هذه المدة ولم يحاول الرد على أولئك الذين اتهموه بالعمالة؟ لقد وجه الكاتب الأمريكى جون بارون إلى سامى شرف أبشع تهمة يمكن أن توجه إلى أى مواطن مصرى, وهى تهمة خيانة وطنه والإشتغال بالعمالة لحساب دولة أجنبية. ولقد صدر الكتاب عام 74 أى منذ أكثر من عشر سنوات.

وكان المفترض ان يتصدى سامى شرف لهذا الاتهام بالنفى والتكذيب, وإذا كان الاتهام قائما على غير أساس – وأن يقوم برفع قضية ضد المؤلف الأمريكى وضد مؤسسة ريدرز ديجست التى قامت بطبع الكتاب مطالبا بتعويض ضخم بالنسبة لما سببه له نشر الكتاب من إساءة بالغة إلى سمعته وشرفه, وبخاصة أن الاتهام الموجه ضمن الكتاب هو اتهام واضح وصريح وضد شخصه بالذات وقد تضمن أسماء وتواريخ ووقائع محددة. وإذا كنا نلتمس العذر ل سامى شرف لعدم قيامه بالتصدى لهذا الاتهام بجميع الوسائل الإعلامية والقانونية عام 74 بسبب تواجده وقتئذ فى سجن مزرعة طره, فما الذى منعه من القيام بهذا الواجب عقب الإفراج عنه إفراجا صحيا منذ بضع سنوات, بعد أن تقدم للرئيس الراحل السادات بعدة التماسات للعفو عنه, وبصرف النظر عن الإجراءات القانونية التى كان المفترض أن يتخذها عقب إطلاق سراحه ضد المؤلف ودار النشر الأمريكية, فقد كان المنتظر منه أن يقوم بإصدار نفى أو تكذيب أو توضيح للقراء المصريين والعرب بشأن تلك التهمة النكراء التى أضحت تحاصره من كل جانب. وبخاصة أن الكتاب متداول فى مصر والبلاد العربية, وقد وزعت منه آلاف النسخ.

وإذا كان سامى شرف لم يسمح عن هذا الكتاب الأمريكى الشهير طوال السنوات العشر الماضية, فهل تراه لم يسمع عن الكتاب المصرى"الروس قادمون" الذى قام بتأليفه الكاتب الصحفى المعروف إبراهيم يعده , والذى صدر عام 76 ؟ وقد حوى هذا الكتاب فصلا كاملا بعنوان عملاء السوفيت تضمن قصة عمالة سامى شرف لحساب المخابرات السوفيتية.

وإذا كان سامى شرف يؤمن بالحكمة التى تقول بأنه إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب, فإن النصيحة التى نوجهها إليه هى أن هذه الحكمة لا تنطبق على الحالات التى يوجه فيها الاتهام إلى شخص ما بخيانة وطنه وبأنه عميل لدولة أجنبية لأن السكوت فى هذه الحالة معناه تأييد هذا الاتهام الشائن.

قصة اللقاء بين بريجينيف و سامى شرف

أورد المؤلف الأمريكى جون بارون فى الصفحتين 58,59 من كتابه ضمن الفصل الثانى معلومات هامة عن لقاء سرى بين المخابرات السوفيتية و سامى شرف فى موسكو فى منتصف أبريل 71 , وفيما يلى الترجمة الكاملة لأحداث هذا اللقاء:

" فى حوالى منصف أبريل 71 غادرت موسكو إلى القاهرة بعثة مصرية على مستوى عال بعد حضورها مؤتمر الحزب الشيوعى السوفيتى رقم 24, وقد تخلف واحد من أعضاء هذا البعثة وهو سامى شرف إجراء فحص طبى, كما أعلن وقتئذ, وواقع الأمر أن سامى شرف بقى وحده هناك للتشاور مع المخابرات السوفيتية لتدبير انقلاب عسكرى يستهدف الإطاحة بالسادات وإحلال الطبقة الجديدة من الحكام المصريين الموالين للسوفيت مكانه, ولكن السادات علم بالمؤامرة وقضى عليها, وقبض على سامى شرف وباقى المتآمرين".

ونظرا لأن المعلومات السابقة تشير إلى أحداث حقيقية, وكان لها تأثير سياسى كبير على العلاقات المصرية السوفيتية, كما كان لها شأن خاص أثناء المحاكمات التى جرت أمام محكمة الثورة بعد أحداث القصة الكاملة عسى أن تساعدنا على إزالة الغموض, وإلقاء الضوء على حقيقة الدور الذى قام به سامى شرف فى هذا الشأن.

فى ربيع عام 71 كان السادات حريصا على اتخاذ خطوات لتحسين العلاقات بينه وبين القادة السوفيت. لمحاولة إزالة الشكوك التى ساورتهم بشأنه بعد الأنباء التى بلغتهم عن الاتصالات السرية التى كان يقوم بها وقتئذ مع المسئولين الأمريكيين فى واشنطن, لحل مشكلة النزاع العربى الإسرائيلى حلا سلميا وبعد الصدمة التى أحسوا بها عقب إعلان السادات فجأة أمام مجلس الأمة عن مبادرته للسلام فى 4 فبراير 71 دون التشاور معهم أو مع أصدقائهم فى القيادة السياسية فى مصر , ولهذا الغرض أرسل السادات فى 31 مارس 71 وفدا مصريا كبيرا إلى موسكو بمناسبة انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعى السوفيتى, وجعل على رأس الوفد عبد المحسن أبو النور الأمين العام للإتحاد الإشتراكى, و سامى شرف وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية, وكان الاثنان يعتبران وقتئذ من بين أصدقاء السوفيت فى القيادة السياسية المصرية.وعقب حضور الوفد المصرى اجتماعات المؤتمر السوفيتى الكبير فى موسكو عاد الوفد المصرى إلى القاهرة برئاسة عبد المحسن أبو النور بينما بقى سامى شرف وحده فترة من الوقت فى مصحة قرب موسكو لعمل بعض التحاليل الطبية, ونظرا لأنه كان يحمل رسالة شخصية من السادات فقد ألح سامى شرف فى طلب مقابلة الرئيس السوفيتى قبل عودته إلى مصر .

وخلال المقابلة التى دامت نحو الساعة أنبأ سامى شرف بريجنيف بما اثار سخريته وهو أن عبد الناصر وهو على فراش الموت قد كلفه شخصيا بمهمة الحفاظ على روابط الصداقة بين مصر والاتحاد السوفيتى.

ثم مضى يشرح لبريجينيف باستفاضة أسباب الخلاف بين المجموعة التى يمثلها والتى كان يسميها جماعتنا وبين السادات الذى انحرف فى اعتقادها عن الخط الناصرى وعن الإشتراكية, وأصبحت جهوده منصرفة إلى التقارب مع الأمريكيين, وأخبر سامى بريجنيف انه سبق أن أبلغ كل هذه المعلومات على السفير السوفيتى فى القاهرة . فلا ديمير فينو جاردوف وأنه على ثقة من أن السفير ينقل كل أحاديثه إلى القيادة السوفيتية فى موسكو, ليطلعهم على حقيقة السادات , وقد أثير موضوع اللقاء الذى جرى بين بريجنيف و سامى شرف خلال المحاكمات التى جرت أمام الدائرة الأولى لمحكمة الثورة بشكل لم يكن متوقعا, فقد اتضح أن سامى شرف خلال المرحلة من التحقيق كتب كتب خطابين إلى الرئيس الراحل السادات , عبر فيهما عن أسفه وندمه الشديدين على كل ما ارتكبه من أعمال السادات , عبر فيهما عن أسفه وندمه الشديدين على كل ما ارتكبه من أعمال وتصرفات مضادة للرئيس , والتمس منه فى النهاية الصفح والغفران.

والذى يهمنا هو أن سامى شرف سجل فى خطابه الأول الموجه للرئيس بعض التفاصيل التى لم تكن معروفة من قبل عن لقائه مع الرئيس السوفيتى بريجنيف فى موسكو, وخلاصتها أن الرئيس السوفيتى, نظرا للشكوك التى أصبحت تساورها. لا يمكنها الثقة بالرئيس المصرى أنور السادات , لأنه يعمل على تصفية ثورة عبد الناصر وإضاعة مكاسب الثورة . وأكد سامى فى خطابه أن ما سمعه من الرئيس السوفيتى أدى إلى اهتزاز أعصابه وقتئذ وجعله فى حالة عدم انعدام وزن, لاعتقاده أن الاتحاد السوفيتى نظرا لعدم ثقة قادته فى السادات سوف يمتنع عن تزويد مصر بما تنتظره من مساعدات عسكرية واقتصادية, مما يجعل الأمل مفقودا فى قدرة مصر على تحرير أرضها المحتلة عقب حرب يونيو 67, وأن هذا الاعتقاد كان هو السبب الذى أدى إلى سلوك سامى شرف , ذلك المسلك المعادى للسادات.

وقد تم عرض صورة الخطابين أثناء المحاكمة بعد أن أقر سامى شرف أمام المحكمة أن الخطابين قد كتبهما بخط يده, وبدون أى ضغط عليه ولكن المحكمة بتوجيه من السادات حذفت من صورة الخطاب الأول كل ما سجله سامى شرف من معلومات عن لقائه مع الرئيس السوفيتى بريجينيف فى موسكو باعتبار أن ما يحويه الجزء الذى تم حذفه فيه مساس بدولة أجنبية, وقد تم لهيئة الدفاع عن المتهمين الاطلاع على صورة الخطابين, ولكن بدون الفقرات التى تم حذفها من الأول.

وفضلا عن ذلك تم ضبط أحد أشرطة التسجيل بعد أحداث 15 مايو فى مكتب سامى شرف , وكان الشريط يضم تسجيلا كاملا لمقابلة تمت بين سامى شرف والسفير السوفيتى ب القاهرة فلاديمير فينوجرادف, فى النصف الثانى من أبريل عام 71, عقب عودة سامى شرف من موسكو, وقد كرر له نفس عبارة الرئيس السوفيتى عن عدم ثقة القيادة السوفيتية فى السادات .

ويبدو أن السفير السوفيتى كانت لديه فكرة سابقة عن هواية سامى شرف العجيبة فى تسجيل اللقاءات والأحاديث التليفونية التى يجريها مع الآخرين, ولذا لم يتكلم سوى دقيقتين فقط طوال فترة المقابلة التى استغرقت نحو 50 دقيقة أما باقى المدة فقد انفرد فيها سامى شرف بثرثرته المعتادة فى توجيه النقد إلى سياسة السادات وتصرفاته والتهجم عليه, وبخاصة فيما يتعلق باتصالاته مع الولايات المتحدة. ونتيجة لمعرفة السادات بما ذكره سامى شرف عن العبارة التى قالها بريجينيف خلال لقائه مع سامى فى موسكو من جهة عدم ثقة القيادة السوفيتية ب السادات والتى أوردها سامى فى خطابه الموجه للرئيس – غضب السادات من بريجينيف, وانتهز فرصة زيارته للإتحاد السوفيتى فى اكتوبر 71 ليعاتب الرئيس السوفيتى عتابا شديدا فى أول لقاء تم بينهما خلال هذه الزيارة. ولكن بريجينيف كذب بشدة أقوال سامى شرف وأنكر أنه أدلى بهذه العبارة وأكد للسادات أنه يوجد محضر رسمى للجلسة عند بودجورتى, وأنه يمكنه الاطلاع عليه إذا شاء وقال:" حينما طلب سامى شرف مقابلتى كنت مشغولا جدا, ولكنى قابلته عندما أخبرونى انه يحمل رسالة لى من الرئيس السادات , اذكر أنه قال إنه كان واحدا من مساعدى عبد الناصر, وأنه الآن أحد مساعدى السادات , وما كان ليخطر على بالى أن مبعوث السادات يمكن أن يكون عدوا للسادات, إننا ليست لنا صلة على الإطلاق بما يمكن أن يقوله هؤلاء الناس, لقد قيل إن بعض من يحاكمون قالوا إن الاتحاد السوفيتى كان يعلم بنواياهم, ولكنى أستطيع أن أؤكد لك أن هذا ليس صحيحا" بالإضافة إلى ما أورده سامى شرف فى خطابه إلى السادات بشأن لقائه مع برجينيف سجل فى أقواله بالتحقيق أخطر شهادة ضد صديقيه الحميمين وزميليه فى الجماعة الثلاثية شعراوى جمعة والفريق محمد فوزى ( ابن خالة زوجته) إذ ذكر ما يثبت تفكيرها الجدى فى تدبير انقلاب عسكرى للإطاحة ب السادات , وتكوين مجلس رئاسة لحكم البلاد يرأسه محمد فوزى ويشترك فيه أعضاء اللجنة التنفيذية العليا وقد حوكم الفريق أول محمد فوزى أمام الدائرة الثانية لمحكمة الثورة برئاسة الفريق عبد القادر حسن , وكانت إحدى التهم الثلاث الموجهة ضده هى محاولة قلب نظام الحكم بالاشتراك مع شعراوى جمعة و سامى شرف وآخرين, وقد ثبتت إدانته فى هذه التهمة, وكذا فى التهم الأخرى الموجهة إليه.

إن الملابسات التى أحاطت بتخلف سامى شرف عن العودة مع الوفد المصرى إلى القاهرة بعد انتهاء المهمة التى قدم من أجلها إلى مواسكو بحجة عمل فحوص أو تحاليل طبية هى أمر مثير الشكوك والشبهات, وبخاصة أنه نجح فى إقناع السادات قبل السفر بأن يحمل هو رسالته الشخصية إلى بريجينيف , بدلا من أن يحملها عبد المحسن أبو النور الذى كان فى الواقع هو الأولى والأجدر بحملها بحكم أقدميته ورئاسته للوفد فضلا عن أن الوفد المصرى كان يحضر فى مناسبة حزبية, وهى انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعى بموسكو, وكان هو وقتئذ الأمين العام للإتحاد الاشتراكي أى يقوم بتمثيل الحزب الوحيد فى مصر فى ذلك الوقت.

ومن الواضح أن سامى شرف قد تخلف عن العودة مع زملائه إلى القاهرة لغرض فى نفسه بعد أن تحجج بموضوع الفحوص الطبية, وقد يكون هذا الغرض هو رغبته فى لقاء بريجينيف بمفرده دون أن يرافقه عبد المحسن أبو النور فى هذا اللقاء كما كان المفترض وقد يكون السبب هو ما أورده جون بارون فى كتبه عن التقاء مندوبى المخابرات السوفتية به سرا لتدبير انقلاب عسكرى للإطاحة ب السادات , ولا شك أن الظروف والملابسات المريبة التى أحاطت بتخلف سامى شرف فى موسكو, ومقالبته مع الرئيس السوفيتى بريجينيف التى أحاط بها كثيرا من الشكوك ثم أحداث 15 مايو 71 فى مصر التى أعقبتها المحاكمات أمام محكمة الثورة , وإدانة الفريق أول محمد فوزى بتهمة محاولة قلب نظام الحكم بالاشتراك مع شعراوى وسامى..

وكانت أخطر الشهادات التى كانت سببا فى ثبوت هذه التهمة ضده هى الشهادة التى سجلها سامى شرف ضمن الخطابين اللذين بعث بهما إلى الرئيس الراحل أنور السادات والذين أودعا فى ملف الدعوى. وكانت شهادته اعترافا صريحا منه بالأحاديث التى كانت تدور فى حضوره بين زميليه محمد فوزى و شعراوى جمعة من أجل القيام بانقلاب عسكرى..

وقد كشف الستار عن ذلك السر المدعى العام الاشتراكى خلال مرافقته أمام الدائرة الثانية لمحكمة الثورة فى أواخر أكتوبر عام 71 كما سوف يتضح بجلاء فى الفصل الرابع من هذا الكتاب ولا شك أن كل هذه الأحاديث والملابسات تجعلنا لا نستطيع أن نستبعد أن يكون معظم ما ذكره المؤلف الأمريكى جون بارون عن هذا الموضوع صحيحا .

إن الواجب يحتم علينا فى ختام أن نناشد سامى شرف أن يبعث إلينا بوجهة نظره وأوجه دفاعه عن هذه التهمة النكراء التى وجهت ضده منذ أكثر من عشر سنوات والتى لم يقابلها إلا بالسكوت المشبوه والصمت المريب, وسوف نكون أسعد الناس طرا لو استطاع أن يدحض هذه التهمة الشائنة التى وصمه بها الكاتب الأمريكى جون بارون , وبخاصة أن الجميع يعلمون أنه كان أكثر معاونى الرئيس الراحل عبد الناصر قربا منه, مما جعل هذا الاتهام مأساة كبرى بالنسبة ل مصر . وأود أن يعلم سامى أن هناك محكمة كبرى لا يمكن له أن ينجو من الوقوف أمامها إلى ابد الدهر, تلك هى محكمة التاريخ التى تذل الجبابرة والطغاة, وتفضح الظالمين والبغاة, وتكشف العملاء والخونة وتتصف الأبطال والأحرار. والويل لمن استهان بأحكام هذه المحكمة وظن أنها قاصرة عن كشفه, أو عاجزة عن إدانته مهما طال الزمن. ماذا روى السادات عن اجتماع بريجينيف و سامى شرف ؟

ما تزال الحقيقة مادار خلال الاجتماع الخاص الذى عقد فى الكرملين بالعاصمة السوفيتية ما بين الرئيس السوفيتى بريجينيف وبين سامى شرف وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية وقتئذ والذى تم فى حوالى منتصف إبريل 71 تثير كثيرا من التساؤلات وعلامات الاستفهام.وفضلا عما ذكرناه من قبل عما دار خلال هذا الاجتماع فإننا ننقل فيما يلى نص ما ذكره الرئيس الراحل أنور السادات بشأن هذا الموضوع.: فى 14 مارس 76وفى الخطاب الهام الذى ألقاه السادات فى الجلسة الخاصة ل مجلس الشعب تعرض لأمر اللقاء المذكور الذى تم فى موسكو , كما تعرض لموضوع الخطاب الذى أرسله إليه سامى شرف وهو فى السجن, خلال التحقيق معه فى قضية 15 مايو 71 فذكر ما يلى بالحرف الواحد:

" أنا عايز أرجع بيكم للخلف شوية أنا حودع لدى رئيس المجلس هنا جواب كتبهولى واحد من اللى فى السجن النهاردة سامى شرف ويستعطفنى فيه ويقرر بخط يده – ودخل الجواب التحقيق – إنه منذ سنة 71 ورأى برجينيف اللى قالوا ل سامى شرف شخصيا لما بعثته فى مهمة إلى موسكو هو إن السادات بيصفى الثورة بتاعة عبد الناصر , ده فى سنة 71 وطلبت من المعى الإشتراكى أن هذا الجزء لا يعلن ولا يدخل للمحامين ولا للتحقيق حفاظا على الثورة . هو من سنة 71 العملية مش عجباه هنا خالص لأنه كان فيه ترتيب آخر وعشان كدة قعدت سنتين ثلاثة أطلب منهم المعاهدة لافضوا, دنا حاحكى القصة حأقولها وهو بيبكوا على عبد الناصر . ومن سنة 71 لما بعت سامى شرف , موسكو مع وفد قام رجعوا الوفد واحتجزوا سامى شرف قالوا ده فى علاج – جه سامى شرف وفى مايو لما أتمسكم راح كاتب بخط يده جواب افتكر حاييجى خارج نطاق التحقيق فأنا بكل بساطة وديت الجواب للتحقيق بيقول فى هذا الجواب إنه كان فى حالة عدم انعدام وزن وهو فى موسكو قابلع بريجينيف وقال له إن السادات بيصفى الثورة وأنا أعلم إيه اللى تم فى هذه المقابلة ويمكن الكتاب اللى طلع أخيرا عن العملاء السوفيت( يقصد كتاب تأليف جون بارون) وعن دور سامى شرف يوضح هذا الكلام"

وفى 27 مارس 76 وفى خطاب ألقاه السادات أمام اللجنة المركزية للإتحاد الاشتراكى تعرض لنفس الموضوع السابق فذكر ما يلى بالحرف الواحد ردا على تعليق لأحد أعضاء اللجنة:

" وزى ما سمعتنى قدام المجلس لما بعثت رسول واحد من مراكز القوى زمان" سامى شرف " برسالة لبرجنيف وكان لسة بقالى شهور رئيس قام وقال له ده الكلام ده وارد فى جواب بخط سامى شرف قدم لى فبعثته لأنه بخطه ودخلته التحقيق وقلت ابعدوا الاتحاد السوفيتى من الكلام اللى نسبه سامى لبرجنيف. برجنيف قال له السادات بيضيع مكاسب الثورة .كلام برجينيف فى المؤتمر الشهر اللى قال إننا بنضيع مكاسب الثورة .

هذا وقد كان من المفترض وفقا للأصول والأعراف المتبعة فى مثل هذه اللقاءات السياسية أن يقدم سامى شرف بمجرد عودته إلى القاهرة تقريرا شاملا إلى السادات يتضمن جميع ما دار خلال هذا اللقاء بينه وبين الرئيس السوفيتى, أو باصطلاح آخر المحضر الرسمى للاجتماع, وبخاصة أن سامى لم يقابل بريجنيف إلا بصفته مندوبا خاصا للسادات, ويحمل رسالة شخصية منه إلى الرئيس السوفيتى. ولكن الأمر الذى يمكن استنتاجه مما جرى أن سامى شرف إما أنه أغفل تقديم مثل هذا التقرير, وهو تصرف يدعو إلى الدهشى, أو أنه قدمه ولكنه تعمد إخفاء بعض الوقائع الهامة الى جرت خلال الاجتماع, وهو تصرف يدعو إلى إثارة الشكوك فى حقيقة الصلات التى كانت قائمة وقتئذ بينه وبين القادة السوفيتية. وليس أدل من ذلك من أن السادات قد ذكر فى خطابيه.

أمام مجلس الشعب واللجنة المركزية أنه لم يعلم برأى بريجنيف فيه إلا من خطاب الاستعطاف الذى أرسله سامى شرف إليه أثناء وجوده فى السجن رهن التحقيق فى قضية 15 مايو 71 , والذى اعترف فيه بوقائع جرت أثناء اجتماعه ببريجنيف لم يسبق له إبلاغ السادات عنها, مما يكشف بجلاء عن سوء نيته وعن مدى الشبهات التى تحيط بعلاقاته مع السوفيت.

وبالإضافة إلى ما رواه السادات عن هذه المقابلة نقلا عن خطاب سامى شرف إليه فلقد روى الصحفى المعروف محمد حسنين هيكل فى الصفحة 137 من كتابه الطريق إلى رمضان النسخة الإنجليزية طبعة لندن 1975 تفصيل أخرى هما دار خلالها, ومن بينها قصة طريفة لا نرى بأسا من أن ننقلها للقراء وبخاصة أن حسنين هيكل قد ذكر عند روايته لها أن السفير السوفيتى ب القاهرة فيلاديمير فينو جرادوف قد أكد له وقوعها, وفيما يلى ترجمة لها نقلا عن الإنجليزية.

"لقد طلب سامى شرف مقابلة خاصة مع برجنيف, وخلال المقابلة ذر سامى للقائد السوفيتى, أ، عبد الناصر وهو على فراش الموت قد كلفه بمسئولية الحفاظ على روابط الصداقة بين مصر والسوفيت ونظر برجنيف إليه وقال* حسنا.. دعنى إذن أصفعك) ودهش سامى شرف وقال( ولماذا تريد ا، تصفعنى أيها الرئيس) عندئذ شرع بريجينيف فى ذكر إحدى نوادره التى اشتهر بها فقال ألا تعلم قصة الفلاح الروسى الذى وهو على فراش الموت جعل ابنه يعده بأن يحافظ على فازة الأسرة الأثرية التى كانت تعد رمزا للحظ الحسن للأسرة, لقد سأل ابنه إذا كان يقبل تحمل المسئولية فى حالة تحطيم الفازة وعندما رد الأبن بالإيجاب قال له الأب* إذن سوف اصفعك) وبادر بالفعل بصفعه, وعندئذ سألا الأبن أباه ( لماذا صفعتنى وأنا لم أكسر الفازة؟) فأجاب الأب( أنا اصفعك الآن حتى تتذكر ذلك تماما, إذ ما فائدة صفعك بعد تحطيم الفازة؟) ولكنى أشك فى أن سامى شرف قد فهم مغزى القصة"

انتهت رواية محمد حسنين هيكل .

هل الأنسب تقديم بلاغنا ضد سامى شرف إلى محكمة التاريخ أو إلى النائب العام.

منذ صدور كتاب عام 1974 لمؤلفه الكاتب الأمريكى جون بارون والذى ورد فيه أن سامى شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية ومستشار عبد الناصر كان عميلا للمخابرات السوفيتية – لم تكف الصحف ووسائل النشر فى مصر والخارج عن نشر تفاصيل قصة اتهامه بالعمالة او الإشارة والتلميح إليها فى شتى الظروف والمناسبات, ووصل المر إلى حد إثارة هذا الاتهام فى سؤال وجهه أحد أعضاء مجلس الشعب إلى ممدوح سالم رئيس وزراء مصر وقتئذ فى فبراير عام 76 . وفضلا عن ذلك فإن الرئيس الراحل السادات وهو رئيس الجمهورية فى مصر وجه هذا الاتهام فى صراحة ووضوح ل سامى شرف كما رأينا فى الخطاب الذى ألقاه أمام مجلس الشعب يوم 14 مارس 76 والذى كانت إحدى فقراته " فى مايو لما اتمسكم راح سامى شرف كاتب بخط يده جواب بيقول فيه إنه كان فى حالة انعدام وزن وأنه وهو فى موسكو قابله بريجينيف وقال له: إن السادات بيصفى الثورة وأنا أعلم إيه اللى تم فى هذه المقابلة, ويمكن الكاتب اللى طلع أخيرا عن العملاء السوفيت وعن دور سامى يوسف شرف يو ضح هذا الكلام" ومما يدعو إلى الدهشة والتعجب انه رغم توجيه الاتهام إلى سامى شرف بالعمالة للسوفيت على هذا النطاق الواسع فى مصر والخارج منذ أحد عشر عاما إلى حد توجيهه من رئيس الجمهورية ذاته – فإنه سامى شرف كى يعرف حقيقة موقفه من هذا الاتهام الشائن الذى أصبح يحاصره من كل جانب, ولا شك فى أن صمته وامتناعه عن الرد والإيضاح قد ساعد على اقتناع الناس بصحة هذا الاتهام, وفى أن يعتبره الكثيرون فى مصر والخارج بمثابة حقيقة مؤكدة, وهو الأمر الذى يجعلنا نشعر بالأسف وخيبة الأمل إذ أن الجميع يعلمون أنه كان أكثر معاونى الرئيس الراحل عبد الناصر قربا منه مما يجعل الجميع يعلمون أنه كان أكثر معاونى الرئيس الراحل عبد الناصر قربا منه مما يجعل هذا الاتهام مأساة كبيرة بالنسبة للشعب المصرى المعروف بوطنيته الحقة وإيمانه الراسخ, وسوف نورد فيما يلى بعض ما نشر فى مصر والخارج بشأن هذا الموضوع وفقا للترتيب التاريخى:

فى 16 مايو 76 وفى العدد 2675 من مجلة المصور وفى مقال هذا العدد الذى كان إحدى حلقات مسلسل تنشره المجلة بعنوان " قصة ثوار يوليو" بقلم كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة , ورد فى المقال ما يلى بالحرف:

" كانت المناقشات تدور حول أسباب الانفصال ( بين مصر و سوريا ) وكان كل منا يدلى برأيه وجاء دور الأخ بغدادى, وابدي رأيه معارضا مع رأى الرئيس عبد الناصر فى تكوين اللجنة التحضيرية, والبغدادى يريد أن تكون بالانتخاب وعلق عبد الناصر تعليقا اعتبره البغدادى مهينا له وأسر إلى بذلك, وأنه ينوى الاستقالة, فأوضحت ل عبد الناصر أنه يجب أن نجتمع ونسوى المسألة واجتمعنا فى القناطر, وفى أثناء المناقشة قال عبد الناصر :" انتو فاكرين الدنيا واقعة الدنيا مش واقعة ولا حاجة, البلد دى يحكمها سامى شرف " وكانت صدمة وصحت مستنكرا"لا... احنا مفيناش واحد ندل لما تكون الدنيا واقعة يأخد بعضه ويمشى احنا رجاله ووقت اللزوم نقف ونقاتل" وأخيرا سويت المسألة. بقيت جملة الرئيس عبد الناصر التى قيم فيها مصر وطريقة حكمها تطن فى أذنى. والغريب أن سامى شرف قد تمكن من حكم مصر بعد ذلك. والأغرب أن نسمع أنه كان عميلا للإتحاد السوفيتى"

فى أوائل فبراير 76 نشرت جميع الصحف المصرية تحت عناوين بارزة ما يلى:" تقدم المهندس السعدى عبد الحميد السعدى عضو مجلس الشعب عن دائرة العدوة بسؤال إلى رئيس الوزراء ممدوح سالم عن الإجراءات التى اتخذتها الحكومة للتثبيت من صحة المعلومات التى نشرت من أن سامى شرف الذى شغل لفترة طويلة منصب سكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات ومنصب الوزارة فى عهد الرئيس الراحل عبد الناصر كان جاسوسا للسوفيت وقد حدد السيد مرعى رئيس المجلس يوم 76 فبراير لمناقشة السؤال". وفى عدد آخر ساعة الصادر فى 5 مايو 76 نشرت المجلة صورة بالزنكوجراف لإحدى صفحات كتاب تأليف جون بارون ونشرن تحتها بخط كبير العنوان التالى:" السعدى: عضو مجلس الشعب لماذا قدم سؤاله عن سامى شرف " وسجلت المجلة حديثا للمهندس الزراعى السعدى عبد الحميد السعدى عضو مجلس الشعب , ذكر فيه أنه قرأ مصادفة اعترافات سخاروف عميل المخابرات السوفيتية فى الشرق الأوسط, وهى الاعترافات التى نشرها جون بارون رئيس تحرير مجلة " ريد دايجست" فى كتابه عن دور المخابرات السوفيتية فى العالم... وقد انزعج كثيرا كمواطن قبل أن يكون عضوا فى مجلس الشعب لما جاء فى هذه الاعترافات من أن المخابرات السوفيتية قامت بتجنيد سامى شرف للعمل لحسابها, لأنه لو صحت هذه الاعترافات فإن هذا لا يعنى إلا شيئا واحدا, وهو أن الكثير من أسرار الدولة كانت تتسرب أولا بأول إلى الإتحاد السوفيتى على مدى 16 سنة كاملة من عمل سامى شرف فى موقع من أخطر مواقع المسئولية فى الدولة....

ومن مراجعة مضبطة مجلس الشعب يوم 7 فبراير 76 اتضح أن جدول أ‘مال الجلسة التى عقدت صباح ذلك اليوم كان يتضمن بالفعل السؤال الذى تقدم به عضو المجلس إلى رئيس الوزراء, ولكن ورد فى المضبطة أنه تقرر تأجيل نظر السؤال لتغيب العضو عن الجلسة. ورغم أن الصحف المصرية الصادرة فى أول مايو 71 نشرت أن ممدوح سالم رئيس الوزراء سوف يجيب على السؤال المقدم إليه فى جلسات مجلس الشعب التى تبدأ فى 3 مايو 76 – إلا أن الأمر الذى يبعث على التساؤل أنه اتضح من مراجعة مضابط المجلس أن رئيس الوزراء لم يجب قط على هذا السؤال الخطير الذى تقدم به المهندس السعدى عبد الحميد السعدى عضو المجلس, كما أن العضو نفسه لم يطلب من رئيس الوزراء بعد ذلك الإجابة عن سؤاله, ولاشك أن قصة تغيب عضو المجلس عن حضور الجلسة التى تحددت للإجابة عن سؤاله مما أدى إلى تأجيل مناقشته, ثم حرص كل من رئيس الوزراء, والنائب مقدم السؤال على تجنب إثارة الموضوع من جديد أمام مجلس الشعب عقب تأجيل مناقشته فى جلسة 7 فبراير هو أمر يبعث على الاعتقاد بأن ثمة عوامل سياسية قد تدخلت فى هذا الشأن لمنع الحرج عن رئيس الوزراء فى حالة طرح هذا السؤال لمناقشة عامة أمام مجلس الشعب , حرصا على عدم إساءة العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتى.

فى 18 مارس 76 نشرت جريدة الجمهورية مقالا مطولا عن قصة عمالة سامى شرف للمخابرات السوفيتية تحت عناوين كبيرة مثيرة كان أهمها:

اعترافات خطيرة لمدير التدريب بالمخابرات السوفيتية الذى هرب إلى الغرب.

سامى شرف الشخصية التى خدع بها جمال عبد الناصر ؟ وأشارت جريدة الجمهورية فى صدر مقالها إلى المعلومات الخطيرة التى أذاعها الرئيس السادات ضمن خطابه أمام مجلس الشعب فى 14 مارس 76 عن الكتاب الذى صدر أخيرا عن العملاء السويت وعن دور سامى شرف . وذكرت الجمهورية أنها تقدم اليوم الأول مرة فى الصحافة المصرية السوفيتية والذى لجأ إلى الغرب والتى نشرت فى كتاب " إدارة المخابرات السوفيتية والأعمال السرية للعملاء السوفيت" تأليف جون بارون.

فى عام 1976 قام المكتب المصرى الحديث للطباعة والنشر بإصدار كتاب بعنوان" الروس قادمون" من تأليف الكاتب الصحفى المعروف إبراهيم سعده وقد حوى هذا الكتاب فصلا كامى بعنوان : عملاء السوفيت, تضمن قصة عمالة سامى شرف لحساب المخابرات السوفيتية. وقد قامت دار النشر الذى تولت إصدار الكتاب بتدوين فقرة خطيرة عن سامى شرف على الغلاف الخلفى للكتاب ننشر فيما يلى نصها بالحرف:

"هذا الكتاب جاء فى هذا الكتاب أن سامى شرف كان أخطر وأهم عملاء المخابرات السوفيتية فى مصر . جاء فى الاعتراف المثيرة التى أدلى بها رجل المخابرات السوفيتى فيلا ديمير سخاروف عن نشاطه السرى فى العالم العربى. كانت المخابرات السوفيتية تتعامل مع سامى شرف بإعتباره أهم شخصية فى مصر, فقد كان يشغل منصب المستشار الخاص للرئيس الراحل جمال عبد الناصر لشئون المعلومات. كان يقرأ كل كلمة يكتبها جمال عبد الناصر . وكان يستمع إلى كل حديث يجريه عبد الناصر وكان الرئيس السابق يثق فى سامى شرف بلا حدود, ويأخذ رأيه فى كل مشكلة كبيرة وصغيرة تتعلق بأمور الدولة. ولهذا السبب كانت المخبرات السوفيتية تعتمد اعتمادا كاملا على سامى شرف ,ولسنوات طويلة ماضية كما ذكر سخاروف فى اعترافاته المثيرة, وبعد أن لجأ إلى الولايات المتحدة الأمريكية هربا من الاتحاد السوفيتى. وقصة سامى شرف مع المخابرات السوفيتية ليست القصة الوحيدة التى ذكرها إبراهيم سعده فى الفصل الخاص بعملاء السوفيت فى هذا الكتاب وهناك العديد من القصص الأخرى والأسماء المختلفة التى حرص المؤلف على الإشارة إليها ليسلط الأضواء أمام القارىء على النشاط السرى الخطير الذى مارسته المخابرات السوفيتية ضد مصر وضد شعبها خلال سنوات الهوان السابقة"

فى 25 يونيو 77 نشرت جريدة الأخبار تحت عنوان بارز" ملف التنظيم السرى وأسماء أفراده فى الوثائق السرية ل سامى شرف " ما يلى:

" تم العثور على وثائق وأوراق بالغة الأهمية تملأ أربع حجرات فى مبنى الاتحاد الإشتراكى بكورنيش النيل كانت تخص سامى شرف وأخفاها فى مبنى الاتحاد الإشتراكى بعيدا عن عمله فى رئاسة الجمهورية. وقد وصفت الجهات المسئولة هذه الوثائق والأوراق بأنها تحوى معلومات خطيرة, تبين كيف كانت تحكم مصر أيام مراكز القوى, وأسرار تشكيل التنظيم السرى واسماء أفراده.

كان سامى شرف يشغل منصب وزير شئون رئاسة الجمهورية أيام الرئيس الراحل عبد الناصر . وكان من بين أخطر المتآمرين ضد الرئيس السادات , وحكم عليه فى قضية مراكز القوى بالأشغال الشاقة المؤبدة. كما وجهت إليه تهمة استغلال النفوذ واختلاس عملات أجنبية واستعمال ختم رئيس الجمهورية للتوقيع على قرارات جمهورية دون علم الرئيس الراحل.

وبعد وفاة الرئيس الراحل عبد الناصر , اكتشف هدى عبد الناصر أن يدا مجهولة عبثت فى الخزانة الخاصة ب عبد الناصر ووجدت الأوراق بداخلها مبعثرة ووجهت اتهاما صريحا ل سامى شرف بسرقة الخزانة أمام الرئيس السادات , وابلغ الرئيس النائب العام. قيل عن سامى شرف إنه العميل الأول للسوفيت فى الشرق ألوسط, جاء ذلك فى اعتراف الجاسوس السوفيتى الذى لجأ إلى الولايات المتحدة وكشف أسماء العملاء السوفيت فى الشرق الأوسط"

فى 28 فبراير 78 نشرت جريدة الجمهورية نبأ تحت عنوان بارز " مجلة بريطانية تؤكد : سامى شرف جاسوس سوفيتى" ذكرت فيه ما يلى:

"لندن وكالات الأنباء – أكدت مجلة " كونفليكت ستدى" البريطانية أن سامى شرف كان جاسوسا للسوفيت وأنه العميل رقم 1 فى الشرق الأوسط فى الستينات وأنه فى عام 59 كان يستطيع أن يحدد المعلومات التى تصل إلى عبد الناصر والمعلومات التى يمنعها عنه,وكان ينقل التعليمات التى يريدها إلى مجلس الوزراء وأنه كان يتحكم فى تخطيط سياسة عبد الناصر القومية.

قالت المجلة: إن لعبة سامى شرف انتهت عندما قام السادات بثورته للتصحيح وطرد الخبراء السوفيت. وقالت المجلة: إن سامى شرف لم يكن الأول أو الأخير فى سلسلة العملاء السوفيت فقد ضبط مساعد برانت يتجسس لحساب السوفيت, وانكشف أمر قائد الدفاع الجوى السويسرى بعد اعتزاله بثمانية أشهر وكذا كيم فلبى الجاسوس السوفيتى الذى كان يعمل بالمخابرات البريطانية. وقال : إن عبد الناصر ليس أول ضحية للمخابرات السوفيتية فقد كانت دائما تخون أصدقاءها".

7- فى عام 1978 أرسل ليفون كششيان مندوب جريدة الأهرام فى الأمم المتحدة بنيويورك عن طريق التلكس برقية باللغة الإنجليزية إلى جريدته تحوى معلومات على ابلغ جانب من الخطورة تتعلق بالدور السوفيتى للزج ب مصر فى حرب يونيو عام 67 والذى ذكرت البرقية أنه لم يكن يقل خطورة عن الدور الإسرائيلى أو الأمريكى. وورد فى البرقية أنه فى عام 1967 كان رجل يدعى سامى شرف يعد على الأرجح أقوى ثانى رجل فى مصر , كان صديقا مقربا للرئيس ناصر, وكان أيضا مستشار ناصر لشئون المخابرات وكان لقبه مدير مكتب الرئيس للمعلومات, لكن مهمته الحقيقية كانت إدارة عملية المخابرات السوفيتية فى مصر , وكان يعد من قبل المخابرات الأمريكية والمخابرات البريطانية الخاصة واحدا من أهم عملاء السوفيت فى العالم. وكان يستهدف جر مصر كلية إلى المعسكر السوفيتى, وكان الذى يضايقه على الدوام هو عدم تخلى ناصر كلية عن ذلك الأمل الذى يراوده فى إعادة نوع التفاهم بين مصر وأمريكا.

وجاء ضمن البرقية المطولة: أن سامى شرف وجماعته كانوا يعتقدون أنه فى حالة شن إسرائيل هجومها على مصر فإن ناصرا سوف تتم إزاحته بصفة مؤكدة وكان لدى شرف ثقة كاملة بالنسبة لوضعه الخاص, وأنه إذا كان فى إمكان أحد الوصول إلى السلطة فلن يكون سوى هو وجماعته وعندئذ تصبح مصر فى أيدى السوفيت بصفة نهائية مما سوف يعطى للروس أعظم مزية عسكرية فى شرق البحر المتوسط.

واستطرد كششيان فى برقيته قائلا: إن تحركات القوات المصرية أزعجت وكالات الأمن الأمريكية, ولذا أوفدت وزارة الخارجية الأمريكية مبعوثين خاصين لتهدئة الموقف, هما شارلس يوست و روبرت اندرسون , وقد عقد المبعوثان لقاءات مرضية مع ناصر, ووافق الرئيس المصرى على إيفاد مبعوثه الخاص زكريا محيى الدين إلى واشنطن. واغتم شرف عندما رأى المياه الباردة تصب فوق لعبته الخطيرة التى كان يرى فيها فرصة لا تعوض للربح, ولكن الإسرائيليين كانت لهم خططهم الخاصة, وبالمثل أصابهم الإحباط نتيجة لمحاولات الوئام المصرية الأمريكية ولذا بادورا بالقيام بضربتهم.

واختتم مندوب الأهرام فى الأمم المتحدة برقيته قائلا إن خطة الانقلاب العسكرى أصيبت بالفشل, إذا أن الشعب المصرى رفض قبول استقالة ناصر عقب الهزيمة, فقد كانت جاذبيته الشخصية ابعد مما قدره المراقبون السياسيون الروس والأمريكيون.

وفى سبتمبر 70 خلف السادات ناصر, وفى مايو 71 تم اعتقال شرف وشركائه على صبرى و شعراوى جمعة و محمد فوزى , بواسطة السلطات المصرية عقب محاولة انقلاب عسكرى ضد السادات, وقد حكم عليهم بالسجن المؤبد وحكم على شرف بالإعدام ولكن السادات خفف الحكم.

انتهت البرقية ومن الطريف أن كششيان أخطأ فى برقيته للأهرام فى ذكر الإسم الصحيح ل سامى شرف فقد دونه فى البرقية " عمر شرف " ولكنه لم يلبث أن أرسل عن طريق التلكس برقية أخرى على الفور, وأورد فيها أنه يأسف للخطأ الذى وقع فيها من جهة الاسم, وأن الاسم ينبغى ان يقرأ سامى شرف , وكرر الاسم مرة أخرى.

هذا ولم تصرح رئاسة تحرير جريدة الأهرام وقتئذ بنشر هذه البرقية الخطيرة نظرا لما كان ينتظر أن حديثه نشرها من أثر سيىء فى العلاقات المصرية السوفيتية, ولذا اكتفت الجريدة بإبلاغ المسئولين فى الدولة عما تضمنته مع الاحتفاظ بأصلها المحرر باللغة الإنجليزية فى أرشيف الجريدة الخاص حيث ما تزال موجودة هناك حتى الآن.


جاسوس فى بيت الرئيس

الأستاذ ماهر عبد الحميد كاتب متخصص فى الكتابة عن أنشطة المخابرات السرية وقد ترجمت معظم كتاباته إلى اللغة العبرية.

وقد أطلعنى الأستاذ ماهر عبد الحميد مشكورا على جانب من مذكراته الشخصية التى تناول فيها أحداثا هامة وقعت فى فترة نهاية الستينات كانت تختص بطبيعة عمله وقد أعدها لكى تصدر قريبا فى كتاب.ونظرا لخطورة ما ورد بهذه المذكرات فيما يتعلق بعلاقة سامى شرف بالمخابرات السوفيتية مما قد يكشف للقراء الكثير من الحقائق التى ما تزال غامضة حتى اليوم لذلك أثرنا نشر أهم ما تضمنته من أسرار إذ أن نشرها كاملة يحتاج إلى كتاب خاص.

وقد سجل ماهر عبد الحميد فى مذاكراته ما يلى:

من الضرورى ان أسجل بداية. أننى ترددت كثيرا قبل أن أكتب حرفا واحدا فى هذا الكتاب. بقصد النشر, كذلك لابد أن أسجل, أننى أقدمت على إذاعة الأسرار التى تضمنها صفحاته, متحملا كل المسؤولية وحدى.

إن إخفاء الأسرار, والحرص على كتمانها , فضيلة لابد من إتباعها إذا كان تعريض الأسرار للضوء يلحق ضررا بأمننا القومى, ولست أـجاوز الحقيقة إذا قررت أننى بذلت أكبر جهد ممكن, لكى أدعو إلى اتباع هذه الفضيلة فى خمسة كتب, وعدد وفير من التحقيقات الصحفية المسلسلة, ومن خلال الإذاعة والتلفزيون والسينما.

ولكن الفضيلة, الواجبة الاتباع, تنقلب إلى رذيلة ما بعدها إذا أدت دون أى ضرورة, إلى إخفاء الحقائق عن شعبنا, مهما كان حجم هذه الحقائق, ومهما كانت درجة بشاعتها.

لذا سمحت لنفسى فى النهاية, بأن أفتح فمى لأتكلم, بعد سنوات طويلة من الصمت المطبق, خصوصا وأننى مؤمن عن يقين بأن المعرفة شرط جوهرى لصواب الحكم, وكان أكثر ما يؤرقنى, أننى أسهم فى حجب المعرفة عن الرأى العام, فى موقف من أدق مواقفنا الوطنية على الإطلاق.

لقد وجهت إلى الاتحاد السوفيتى تهمتان رئيسيتان:

التهمة الأولى: أنه قصر تقصيرا يصل إلى حد التواطؤ قبل وأثناء حرب 1967 ليس لن المخابرات السوفيتية أخفت عن المصريين الخطط الإسرائيلية لتوجيه ضربة مفاجئة فقط, ولكن لأنهم دفعوا مصر لأن تحشد قواتها فى صحراء سيناء, لتكون فريسة لسلاح الجو الإسرئيلى أيضا.

التهمة الثانية: وهى تلك التى راجت فى العالم كله بشكل غامض وتتلخص فى أن المخابرات السوفيتية تمكنت من السيطرة على مدير مكتب الرئيس عبد الناصر للمعلومات, وأنها استطاعت من خلال جاسوس على هذه الدرجة من الخطورة أن تطلع على كل أسرار مصر دفعى واحدة, كما كان بمقدورهم أن يوجهوا خطوات عبد الناصر , فى الاتجاه الذى يحقق أهدافهم.

لقد تعرضت أهم أسرار مصر للتسرب وتمكنت المخابرات السوفيتية من اختراق مكتب رئيس الجمهورية , حيث تصب كل المعلومات الهامة بلا أى تحفظ وأصبح فى مقدورهم أن يقرءوا بعناية أوراقنا كلها فباءت كل خططنا بالفشل, وتعرض اقتصادنا للتبديد بشكل مدروس ومنظم,وفى النهاية منينا بهزيمة منكرة وفقدنا ألاف الشهداء, وهكذا نسقط إلى الأبد فى براثن " الأصدقاء" الذين تبنوا أهدافنا القومية بحماس زائف لكى يحققوا أهدافهم وحدها.

فلم يكن سامى شرف , ببدنه الممتلىء وقامته القصيرة وثيابه المهدلة, مديرا لمكتب الرئيس فقط, ولكنه كان يرأس منظمة حقيقية للمخابرات وكان عملاؤها منتشرين فى كل شبر من أرض مصر , كانت لديه ميزانية خاصة وأخطر من ذلك كله, أنه كان يطلع على تقارير المخابرات المفرطة فى السرية, وكان مكتبه على مسافة أمتار قليلة من غرفة نوم عبد الناصر , وكانت لديه أجهزة تمكنه من التصنت على كل كلمة ينطق بها الرئيس فى غرفة مكتبه سواء فى قصر الطاهرة , أو مبنى الاتحاد الاشتراكى أو رئاسة مجلس الوزراء, وكان بمقدوره أن يقتحم الباب على الرئيس لكى يذكره بشىء ما, كما كان يحتفظ بمفتاح خزينته الخاصة.

إن القصة جديرة بأن تروى ليس للمتعة الترفيهية ولكن لنتعلم من أخطائنا ولكى نستوعب – جميعا – الدرس جيدا, فقد كان بيننا رجل ارتضى, أن يكون جاسوسا فى بيت الرئيس!!

كنا فى أول يونيو 1968 : وكانت الساعة تقترب من الثانية بعد الظهر, وبينما كان صوت الآلة الكاتبة, ينبعث من مكتب مجاور, كان أحد ضباط المخابرات يتأمل بعينين فاحصتين, مؤلف هذا الكتاب, الذى وجد الشجاعة لن يكتب بخط يده, اتهاما صريحا بالخيانة للرجل الذى كان مربعا عند القمة, مستحوذا على أكبر قسط من النفوذ والسطوة والذى اشتهر باسم سامى شرف !!

كان المناخ السائد وقتئذ قاسيا بشكل لا يصدق, وكان سامى شرف قد انفرد بالسلطة كنتيجة لحرب 1967 بعد الإطاحة بالمجموعة العسكرية التى كانت تستمد قوتها من المشير عبد الحكيم عامر, وبعد أن اختفى صلاح نصر مدير المخابرات المصرية الشهير وراء قضبان السجن, وكان الرئيس عبد الناصر قد أعلن بنفسه, عن سقوط ما اسماه بدولة المخابرات وهكذا أصبح سامى شرف وحده فوق خشبة المسرح. ومن المؤسف أننى كنت ا‘تقد أن المخابرات هى الجهة الوحيدة فى مصر , التى تستطيع أن تعرض ما لديها على الرئيس عبد الناصر مباشرة ودون المرور ب سامى شرف وقد اتضح فيما بعد أن اعتقادى ذلك كان خاطئا.

وبمجرد أن انتهت من التوقيع على الأوراق التى قدمت لى, صحبنى الضابط إلى غرفة مجاورة, وتمتم ببضع كلمات فهمت منها أننى سأبقى " لبعض الوقت" ورغم ما فى هذه الكلمات من دعوة للتشاؤم إلا أننى شعرت بالارتياح لأننى سأبقى إلى أن أعرف النتيجة مهما كان كنة هذه النتيجة بالنسبة لشخصى. كان موقفى دقيقا بقدر ما كان شائكا , فلم تكن فى حوزتى أية قرائن مادية, ولكننى كنت أستند إلى مجموعة من الوقائع, سوف أشرحها بالتفصيل فيما بعد, وقد خلصت من هذه الوقائع, إلى أن مدير مكتب الرئيس يخدم سيدا آخر بالقطع!!

ففى ذلك الوقت, صيف 1968 , كنت قد قطعت شوطا طويلا فى العمل تحت الإشراف المباشر ل سامى شرف , وكنت أتخذ لنفسى اسما كوديا يتكون من ثلاثة أسماء, لأن مهمتى كانت على درجة عالية من السرية, لم يكن أحد يعرف اسمى الحقيقى باستثناء ثلاثة, الرئيس جمال عبد الناصر , و سامى شرف أما الشخص الثالث فلم يكن سوى محمد عبد الحميد السعيد , سكرتيرة الخاص, الذى قدم معه إلى المحاكمة فى الخامس عشر من مايو 1971 !!

هكذا كان الاتهام الذى تحملت مسؤوليته بالغ الخطورة,فى غيبة القرائن المادية, فالاستنتاج الشخصى, مهما كانت درجة قوة منطقة, يمكن أن يتعرض للنقاش, وبالتالى يمكن دحضه بسهولة, لتبقى بعد ذلك النهاية المفزعة لمن يتجاسر على توجيه التهم جزافا إلى الأبرياء خصوصا إذا كان المتهم يجمع فى قبضته كل مقاليد السلطة فى مصر .

قضيت قرابة الساعة فى انتظار ما سوف يتمخض عنه الموقف, ثم صحبنى أحد الحراس المسلحين إلى غرفة أخرى. وهناك اجتمعت باثنين من ضباط المخابرات المحترفين وبعد ساعات من النقاش المتصل أخطرنى أحد الضابطين بأنى سوف أتلقى أوامرى منه فى المستقبل أما عن الوقائع التى استندت إليها قفى توجيه اللإتهام إلى مدير مكتب الرئيس فكان رأى المخابرات أنها مجرد تصرفات خاطئة ناجمة عن الجهل بقواعد العمل!!

وعندما أشرت إلى أننى أرغب فى أن تتولى المخابرات تحذير الرئيس عبد الناصر , كانت الإجابة التى تلقيتها بالغة الغرابة, بل ومثيرة للإندهاش فقد اتضح أن المخابرات ترسل تقاريرها المرفوعة إلى الرئيس عن طريق مكتب المعلومات حيث يطلع عليها سامى شرف !!

إن القصة مثيرة للسخرية بقدر ما هى مريرة, فها هو أحد الجواسيس فى موقف يجعله بمنأى عن مجرد توجيه الاتهام إليه, وفى مثل هذه المواقف يصبح التجسس عملا لا تنجم عنه أية مخاطر, فبحكم منصبه, كان بمقدور سامى شرف أن يتصل برؤسائه ( المقصود أولئك الذين جندوه لحسابهم) وأن يمدهم بالمعلومات التى يرغبون فى الإطلاع عليها, وأن يتلقى منهم الأوامر بشكل علنى.!!

هكذا بقى سامى شرف فى منصبه ولعل أكثر ما فى الموضوع إثارة للدهشة كما سيكشف القارىء هو حقيقة ان المخابرات المصرية كانت تنتابها الشكوك فينا يتعلق بولائه, قبل ذلك بسنوات طويلة, وأن هذه الشكوك لحقت أيضا بعلى صبرى, الذى اشتهر بولائه للسوفيت, وسف نورد وقائع محددة فى هذا الشأن. أوفدت القاهرة وفدا رسميا إلى موسكو لحضور المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعى السوفيتى, وفى الخامس عشر من أبريل سنة 1971 عاد الوفد إلى القاهرة باستثناء عضو واحد وقتها أنه تخلف لإجراء بعض الفحوص الطبية ولم يكن هذا العضو سوى سامى شرف !!

ولكن يبدو أن السوفيت يتمتعون بمقدرة فائقة على ارتكاب الأخطاء إذ تسربت معلومات مؤكدة تفيد بأن سامى شرف بقى فى موسكو ليتدارس مع رؤسائه تدابير القيام بانقلاب للإطاحة ب السادات , الذى تولى السلطة بعد رحيل عبدالناصر , ولست أعتقد أن أحد يختلف معى فى الرأى, بأن ما أقدم عليه السوفيت وعمليهم ليس إلا محصلة الجهل والبلاهة معا.

ورشك أن قصة سامى شرف مثلها مثل كل قصص الجواسيس ذوى الأهمية القصوى حافلة بأسرار كثيرة لم يكشف النقاب عنها بعد خصوصا وانه حوكم فى القاهرة بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم مع على صبرى وآخرين. ولم يحاكم بتهمة الاتصال بالمخابرات السوفيتية, الأمر الذى أدى إلى بقاء تفاصيل قصته سرا حتى الآن.

ولقد أسفر تفتيش فيلا سامى شرف , وهى الفيلا رقم 10 فى شارع بطرس غالى فى مصر الجديدة عن قائمة بالغة الغرابة من المضبوطات التى لا تشكل اى دليل فيما يتعلق بتهمة التآمر ولكنها ترسم علامات ذات مغزى بالنسبة لعلاقته بالسوفيت.

بدأ تفتيش الفيلا فى الساعة الحادية عشرة والثلث, من صباح يوم 24 مايو واستمر حتى الساعة الحادية عشر والنصف ليلا.وقد عثر فى غرفة نوم سامى شرف , على سبع عشرة زجاجة فودكا بيضاء, وأربع زجاجات شمبانيا روسية, وأربع زجاجات من الفودكا الحمراء!!

ومع هذه الزجاجات الحمراء كانت هناك كومة هائلة من أشرطة التسجيل وفى علبة معدنية, عثر القائمون بالتفتيش على أشرطة سجلت عليها مباحثات الرئيس عبد الناصر مع عدد من رؤساء الدول, وفى دولاب الأحذية تم العثور على تسعة أفلام 8 ملم وفيلم 16 ملم بالإضافة إلى فيلم صامت للرئيس عبد الناصر نفسه, ومن المعتقد أن هذا الفيلم قد التقط خلسة!!

كانت أكوام أشرطة التسجيل ومجموعة فريدة من آلات العرض, وآلة تصوير سينمائية, تملأ المكان, وكان هناك مسدس سريع الطلقات وعلبة تحتوى على إثنى عشر طلقة, أما تفتيش غرفة مكتبه, وهى الغرفة رقم 17 فى مبنى الاتحاد الإشتراكى المطل على نيل القاهرة , فقد أسفر عن أجهزة للتسجيل مخفاة فى دولاب بجوار الحائط وتمتد الأسلاك من تحت الدولاب مخترقة جدران المبنى, وهكذا كان فمقدور سامى شرف أن يسجل كل ما يدور فى قاعة الاجتماعات الكبرى وفى قاعة الاجتماعات الصغرى وفى غرفة الصالون!! ولكن أغرب نشاط قام

. به سامى شرف , فى خضم الأنشطة العديدة التى مارسها لحساب السوفيت هو ذلك الخاص بتصنته على الرئيس, فقد تمكن من أن يسمع بأذنيه, أحاديث الرئيس مع ضيوفه, وكانت الأشرطة تفزع فى نهاية كل يوم للإحتفاظ بمضونها مكتوبا!!

إن تلخيص تيار المعلومات الذى كان ينصب فى يدى سامى شرف يستلزم ساعات عمل لا طاقة لأى مخلوق بها, لذلك كان من المنطقى ان يعمد إلى تسليم المعلومات فى وثائقها الأصلية إلى السوفيت, وقد حاول قبل القبض عليه , أن يهرب خمس حقائب مكتظة بالوثائق مع سكرتيره محمد عبد الحميد السعيد , الذى اعترف بالقصة كلها, وتثبت هذا الاعتقاد واقعة من تلك الوقائع التى استندت إليها فى اتهامه بالتجسس. كان ذلك صباح مبكر فى أوائل سنة 1968 , وكنت قد اضطررت للبقاء فى مطار القاهرة ليلة بأكملها , وعندما عدت إلى المدينة, رأيت أن أقضى بعض الوقت فى مكتب المعلومات, ولأحتس شيئا من القهوة يعاوننى على أن أبقى كوال اليوم متيقظا, وما أن عبرت من الباب, حتى هالنى أن المدخل خال من الحراسة وكانت.. الغرفة المبنية من الأسمنت. المخصصة لموظف الاستعلامات خاوية تماما وعلى مقعد أمام المكتب, كانت كومة من المظاريف متراكمة فوق بعضها, وعلى كل مظروف قرأت العبارة التالية: الرئيس جمال عبد الناصر !!

كان الرئيس وقتها فى واحدة من زياراته السرية للإتحاد السوفيتى وكان واضحا أمام ناظرى. أن هذه المظاريف تحتوى على بريد الرئيس, الذى يضم اخطر التقارير وأكثرها سرية.

وفى التاسعة وأربعة دقائق توقفت أمام المدخل عربة تابعة للسفارة السوفيتية وهبط منها اثنان من السوفيت, واتخذوا طريقهم إلى الداخل, وفى غضون دقيقتين كانت عملية تسليم المظاريف قد انتهت, وأصبح بريد رئيس الجمهورية فى حوزة الإتحاد السوفيتى!!

ولا شك ان هذه الإجابة تعد ضربا من السذاجة الحقيقية أو المصطنعة فما معنى أن تتسلم السفارة السوفيتية بريد الرئيس عبد الناصر لترسله إلى وزارة الخارجية فى موسكو لكى تقوم بتسليمه للرئيس عناك, خصوصا وأن لدينا نحن أيضا وزارة خارجية تستخدم هى الأخرى حقائب دبلوماسية كما أن لدينا سفارة مصرية فى موسكو, تستطيع أن تسلم بريد الرئيس وهى من غير نقاش أكثر حرصا عليه!!

إن المظاريف المغلقة, بأى نوع من أنواع الصمغ, وبصرف النظر عما فوقها من أختام, لا تمثل أى عقبة فى وجه أجهزة المخابرات, وهذه الحقيقة يعرفها الأحاديث العفوية مع مختار وعبد العظيم الموظفين فى غرفة الإستعلامات ذا فائدة المبتدئون, فكيف غابت عن مكتب معلومات الرئيس؟!

وكان تصور ما يمكن أن يحدث , نتيجة لهذا التصرف المفرط فى الجهل, أو سوء النية لآبد أن يصيب المرء بالفزع, فالقادة السوفيت يقرؤون التقارير المرسلة إلى عبد الناصر ثم يجلسون للتفاوض معه, وليس ثمة شك فى أنه كان يتعجب من حسن تقديرهم لمجريات الأمور فى مصر ودرايتهم الواسعة بما يحدث فى بلاده.

لم أكن مقتنعا لا بإجابة سامى شرف ولا سكرتيره الخاص فى موضوع بريد الرئيس, لذلك كان تبادل الأحاديث العفوية مع مختار وعبد العظيم الموظفين فى غرفة الإستعلامات ذا فائدة قصوى, وقد اكتشف من هذه الأحاديث أن ضباط المخابرات السوفيتية يترددون علة المكتب وأن لديهما أوامر صارمة بأن يسمحوا للسوفيت بالدخول فى أى وقت.

وفى وقت لاحق تمكنت من تبادل الحديث مع واحد من الروس, وكانت تربطه صداقة متبادلة مع موظفى الإستعلامات, ولاحظت أنه يرتدى بلوفر ضيق فوق قميص مفتوح, ربما ليخلق وهما بأنه موظف عادى فى السفارة ولكن خطواته وبنيته الرياضية والنظرات الفاحصة التى كانت تشع من عينيه, ولدت لدى انطباعا قويا بأنه ضابط محترف من ضباط المخابرات.

كان اسمه الذى يعرفه به الموظفان هو" نيكولا" وكان يحضر إلى المكتب بصحبة روسى آخر صامت دائما ويبدو أنه مساعده, وبعد أن التقينا أكثر من مرة , عمدت إلى رفع الكلفة بيننا فكنت أناديه" نك" ولأن لغته العربية كانت مسيحة تماما, كنا نتبادل الحديث بالإنجليزية وفيما بعد انتظمت فى حلقة دراسية, فى المركز الثقافى السوفيتى, لكى أتعلم اللغة الروسية!!

ولكن سرعان ما حرمت من تلك الصداقة التى عولت عليها كثيرا, فقد تلقيت تنبيها مشددا بألا أجلس فى غرفة الإستعلامات, تحت زعم أن من بين المترددين على المكتب, أشخاص مشكوك فى ولائهم, ويبدو أن الأوامر صدرت بالحيلولة بينى وبين الحديث مع الروسى, فقد حدث أن جاء نيكولا أثناء وجودى فى مكتب محمد سعيد , وما أن تلقى إخطارا تيلفونيا بوصوله, حتى طلب منى أن أختفى فى الغرفة المجاروة حتى ينصرف ضيوفه, وقد شاهدت نيكولا ومساعده من النافذة بنفسى, كانت شكوكى قد بدأت تثور بحدة حول طبيعة العلاقة بين السوفيت و سامى شرف , وكان على أن ألاحظ, بعد النقاش الذى دار بيننا فى مكتبه, مجموعة من التصرفات اللامنطقية, والتى كان هدفها إفشال أية مهمة أقوم بتنفيذها, تمهيدا للتخلص منى بهدوء ودون أن أجرؤ على مجرد الاحتجاج.

كانت خطط سامى شرف تتضح بجلاء يوما بعد يوم, وكانت مراقبتى المحدودة لسلوكه مع الضباط السوفيت قد أتت ثمارها ورغم إحساسى بالندم لأننى كشفت له عن كراهيتى العميقة لدور السوفيت فى حرب 1967 , وإلا أننى على يقين من أن فائدة جسيمة قد تحققت نتيجة لذلك فقد اتخذ من الخطوات ما أكد لى أنه لا يعدو أن يكون تابعا لهم.

وكان ذلك قبل أن ينشر" جون بارون" كتابه الشهير بأربع سنوات وقبل أن توجه التهمة علنا ل سامى شرف , فى مايو 1971 بثلاث سنوات, ومما يدعو إلى العجب والدهشة, أنه مارس الجاسوسية لحساب رؤسائه دون أن يثير ارتياب أحد, إلى حد هؤلاء الذين كانوا بالقرب من القمة, فى عهد الرئيس عبد الناصر ظلوا على إصرارهم فى رفض أى احتمال لأن يكون مدير مكتب الرئيس وموضع ثقته عينا للسوفيت عليه. وقد تعرض على صبرى لهجوم مرير من جانب المخابرات , فعندما كان مديرا لمكتب الرئيس لاحظ ضباط المخابرات أن كل التقارير التى ترفع للرئيس ضد العناصر الشيوعية, تعاد مرة أخرى إلى المخابرات لإعادة البحث!!

وحدث أن كتبت المخابرات تقريرا ضد رئيس مجلس إدارة شركة التعدين فى سيناء وكانت تربطه ب على صبرى صلة قربى, وتضمن التقرير مآخذ خلقية فاضحة, وكان الرجل مستهترا إلى درجة لا يمكن تصديقها, وكانت سكرتيرته تذهب إلى عملها من غير أية ملابس داخلية, كذلك عين مستشارا قانونيا له وكان هذا المستشار شهيرا فى العهد الملكى بعدد لا بأس به من جرائم القمع!!

وكان على صبرى بدلا من أن يعرض التقرير على الرئيس عبد الناصر احتفظ به فى مكتبه, ثم أرتكب حماقة فظيعة عندما أطلع قريبه على التقرير الذى كتبته المخابرات ضده, ويبدو أنه كان ثرثارا بقدر ما كان ماجنا, فقد طفق يثرثر بالمعلومات التى اطلع عليها ,أسرعت المخابرات بتسجيل بعض أحاديثه لعرضها على الرئيس .

ورغم ذلك لم يول الرئيس عبد الناصر تقارير مخابراته أى اهتمام ولكن بعد وقوع الانفصال فى الثامن والعشرين من سبتمبر سنة1961 , الذى قصم عرى الوحدة المصرية السورية, فوجىء عبد الناصر بالوزير السورى طعمه العوض الله يقول له:

سيدى... على صبرى هو مخلص!! ( ليس مخلصا)

واتضح أن الوزير السورى طلب ان يلتقى بالرئيس ليحذره من حركة انفصالية وشيكة الوقوع ولكن على صبرى لم يمكنه من لقاء الرئيس إلا بعد أن وقع الانفصال بالفعل!!

إننا نستطيع أن نربط الحوادث ببعضها, فعلى عكس الشائع كان الاتحاد السوفيتى هو المسؤول عن أول محاولة لتحقيق الانفصال بين مصر و سوريا , وقد تلقت القاهرة تقريرا حوى كل تفاصيل المؤامرة فى ذلك الوقت.

ولم يكن على صبرى وحده موضع ارتياب المخابرات, فقد لاحظ الضباط المسئولون عن متابعة النشاط الشيوعى فى مصر أن تقاريرهم التى تعرض على سامى شرف , لا تلقى أى اهتمام وعندما اكتشفوا تنظيما للشيوعية فى جامعة الإسكندرية أوقف التنظيم نشاطه بمجرد أن عرضت التقارير الأولية على مدير مكتب الرئيس!!

وتكررت ظاهرة" توقف النشاط" مرات عديدة وإن كانت متباعدة واضطر احد الضباط إلى الإفضاء بشكوكه إلى صلاح نصر , الذى استمع إلى مرؤوسيه بهدوء ثم ابتسم وعندما جاء دوره ليتحدث قال: إن الخطأ ربما يرجع إلى العناصر التى تقوم بالمراقبة, واتبع هذا الرأى بان أصدر أوامر شديدة بأن يتوخى الأفراد المكلفون بمراقبة التنظيمات الشيوعية الحرص والحذر.

ومن الغريب أن سامى شرف, بمظهره الذى ينم عن الوداعة, قد تمكن من خداع جهاز المخابرات بعد هذه الشكوك, واستطاع بمهارة فائقة أن يضم إلى جانبه ثلاثة من كبار الضباط, أحيلوا إلى التقاعد بعد القبض عليه. ويقتضينا الإنصاف أن نقرر أن هؤلاء الضباط كانوا يعتقدون أنهم يعملون لحساب الرئيس عبد الناصر نفسه!!

وكان صلاح نصر قد نحج فى إبعاد ثلاثة من ضباط المخابرات كان يعتقد أنهم على علاقة وثيقة ب سامى شرف . ولكن لم يصارح الرئيس عبد الناصر بشكوكه وإنما اكتفى بأن طلب إبعادهم لاستحالة التعاون معهم, ومن المدهش أن اثنين من الضباط الثلاثة قدما إلى المحاكمة مع سامى شرف فى مايو سنة 1971 والضباط الثلاثة هم أمين هويدى الذى عين سفيرا فى العراق , وطلعت خيرى وعين وزيرا الشباب, و شعراوى جمعة وقد عينه الرئيس محافظا للسويس .

وليس لدينا أى شك فى أن سامى شرف استفاد إلى أقصى حد من عدم ثقة عبد الناصر فى مدير مخابراته, وربما كانت عمليات تجنيد ضباط من الجهاز قد تمت بأوامر عبد الناصر ولكن المعلومات التى كان هؤلاء الضباط مصدرها لابد أن تكون قد سلمت للسوفيت وكان عبد الناصر قد اسر إلى مجموعة من زملائه إبان ما يعرف بأزمة 1962 بينه وبين المشير عامر, بأن صلاح نصر ليس مخلصا وأنه يجتمع يوميا بالمشير عامر!!

إننا أمام حالة فريدة بالفعل فى عالم التجسس لأن الجاسوس يتمتع بكل الإمكانيات ليمارس أنشطة متعددة, بل أنشطة الجاسوسية كلها.

فهو يجمع أكبر كم من المعلومات, ويطلع على تقارير المخابرات ,ويجند داخل الجهاز مجموعة من الضباط, ليكون على بينة بكل ما يجرى بعيدا عنه.

وهو يتولى قيادة جهاز ضخم لجمع المعلومات السياسية والاقتصادية ولبث الأنباء الكاذبة والإشاعات وهو مؤثر فى شخصية القائد بحكم قربه منه, ولديه القدرة على الاتصال برؤسائه دون إثارة الشكوك, وهو محاط بأقوى سياج للأمن!!


لماذا نطالب بإجراء التحقيق ؟

وأخيرا وبعد أن قمنا بتسجيل هذا القدر الوافر مما سبق فى داخل مصر وخارجها من اتهام صريح لسامى شرف بالعمالة للسوفيت نرى أنه أنه بات من ألزم الأمور على أجهزة الأمن المختصة فى مصر التحقيق فى هذا الاتهام الخطير خاصة أنه يشمل تواريخ وأسماء ووقائع محددة بسهولة التوصل إلى كنهها وكشف الستار عن سرها.

وليست مطالبتنا بإجراء التحقيق فى مثل هذا الاتهام الخطير أمرا يدعو إلى الاستغراب فلقد كشفت أجهزة الأمن فى الغرب فى الأونة الخيرة الستار عن عشرات من قضايا التجسس التى ثبت فيها أن المخابرات السوفيتية قد نجحت فى تجنيد بعض العملاء الذين كانوا يتولون أخطر المناصب وأكثرها حساسية فى الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا الغربية وبعض الدول الأوربية الأخرى.

وكان آخر هذه القضايا قضية التجسس فى ألمانيا الغربيى التى أزيح الستار عنها خلال الأسبوع الأخير من شهر أغسطس 1985 , والتى وصفتها وكالات الأنباء بأنها أضخم فضيحة تجسس فى تاريخ ألمانيا الغربية, فقد نجح جهاز المخابرات بألمانيا الشرقية فى تجنيد ( يواخيم هانزتيدج) الرجل الثالث فى جهاز المخابرات الألمانية الغربية الفيدرالية, ورئيس إدارة مكافحة التجسس منذ عام 66 , أى أنه ظل طوال ما يقرب من عشرين عاما يمد مخابرات إحدى دول الكتلة الشرقية بأدق أسرار بلاده. وعندما انكشف أمره ونجح فى الهروب إلى برلين الشرقية تفجرت فى ألمانيا الغربية أخطر قضية تجسس فى تاريخها, وبادر مستشار ألمانيا هيلموت كول بإقالة هيلنبرويخ رئيس جهاز المخابرات الفيدرالى بالأمانيا الغربية, باعتباره المسئول الأول عن هذه الفضيحة التى هزت الرأى العام لا فى ألمانيا فحسب بل فى أوربا الغربية والولايات المتحدة.

وقبل أن نختتم دراستنا لهذه القضية الخطيرة التى فجرها جون بارون عام 1974 منذ أن نشر كتابه ,لم تجد ما تستحقه من اهتمام لدى السلطات المسئولة فى مصر رغم أهميتها الكبرى , وبعد أن أوضحنا وجهة نظرنا فى ضرورة قيام أجهزة الأمن بالتحقيق الجاد فى هذه القضية فى سبيل التوصل إلى الحقيقة يحق لنا أن نتساءل فى النهاية هل الأنسب الاكتفاء بتقديم بلاغنا ضد سامى شرف إلى محكمة التاريخ كما ذكرنا فى البداية؟ أم أن الأوفق ولصالح الوطن وبعد أن تكشفت كل هذه الأمور تقديم هذا البلاغ إلى النائب العام؟ إننا نترك الإجابة على هذا السؤال إلى تقدير القراء.

الفصل الثالث : الجوانب الخفية فى شخصية سامى شرف

حار الكثيرون فى تحليل شخصية سامى شرف تحليلا صحيحا, نظرا لما كان يحيط به نفسه من غموض خلال فترة عمله بجوار عبد الناصر , التى بلغت أكثر من 15 عاما, والتى لم يكن يفارقه خلالها إلا فى ساعات النوم ولذا كان فى واقع ألأمر هو أقرب المقربين إلى مكتب سامى شرف حتى بالنسبة لكبار المسئولين فى الدولة, إذ إنه كان من الأشخاص الذين يفضلون العمل من وراء الجدران وبعيدا عن أعين الناس.

وقد ساعد سامى شرف بأسلوبه الخاطىء فى العمل على فقد عبد الناصر لصحته, بسبب إغراقه دائما بسيل منهمر من التقارير والمذكرات والأعمال الروتينية التى لم يكن الأمر يستدعى عرضها عليه وكان واجبه التخفيف عنه بإحالتها عن المسئولين المختصين فى الدولة ولكنه كان يعمل على تركيز كل شئون الدولة كبيرها وصغيرها فى مكتب الرئيس, وبالتالى يضمن سيطرته هو على جميع أجهزة الدولة.

وكانت هواية سامى شرف الأثيرة هى تسجيل اللقاءات والأحاديث التليفونية لكبار المسئولين فى الدولة, ولبعض الشخصيات المصرية والأجنبية الهامة, وكان ذلك سببا فى تنقيبه المستمر عن أحداث ما انتجته التكنولوجيا الغربية من أجهزة التسجيل الصغيرة الحجم, وكان يكلف مندوبيه بإمداده دائما بأقوى وأحدث تلك الأجهزة من الولايات المتحدة واليابان.

وكانت هذه الهواية العجيبة هى السبب فى سقوط المجموعة المناوئة للسادات فى أحداث 15 مايو , فقد ضبط بجهاز المخابرات العامة تسعة أشرطة لأحاديث تليفونية كان أحدها يشمل أحاديث سامى شرف نفسه, والباقى كان يشمل أحاديث على صبرى و شعراوى جمعة و محمد فائق و عبد المحسن أبو النور و أمين هويدى و فتحى الديب و لبيب شقير و ضياء الدين داود , وقد اعترف أحمد كامل رئيس المخابرات العامة بأنه هو الذى أقر فى التحقيق بهذه الواقعة. ولولا هذه الأشرطة التى ضبطت لأحاديث أفراد المجموعة لما استطع المدعى العام الاشتراكى إقامة الاتهامات ضد المتهمين فى القضية, وتقديمهم إلى المحاكمة وكانت هى دليل الإدانة الرئيس ضدهم, مما أدى إلى صدور الأحكام عليهم بما فيهم سامى شرف , وكأنما الأفعى قد لدغت بسمها.

وسوف نكشف الستار فيما يلى عن العديد من الملامح المميزة لشخصية سامى شرف , وبعض أسراره الخفية, وحقيقة آرائه فى زملائه المقربين, ولكنا نعترف من أجل الحقيقة والإنصاف بأن كل ما سوف نذكره ليس نتيجة لاجتهادنا او استنباطنا, وإنما هو عبارة عن أقوال سامى شرف نفسه, كما أدلى بها فى التحقيق أمام جهاز المدعى العام الإشتراكى فى قضية 15 مايو 71 , وليس لنا فيها من فضل إلا التجميع والتصنيف فحسب:

1- ذكر سامى شرف فى التحقيق أنه لم يكن ضمن تنظيم الضباط الأحرار , وليست له أدنى علاقة ب ثورة 23 يوليو , ومن المفارقات المستغربة انه ألقى القبض عليه فى يناير عام 53 فى قضية المدفعية المعروفة باسم قضية رشاد مهنا , وأوزع ضمن عدد من ضباط المدفعية على رأسهم العقيد رشاد مهنا , والمقدم إبراهيم عاطف فى سجن الأجانب, الذى كان يقع قبل إزالته فى ميدان محطة مصر , وتولى التحقيق معهم ضباط من المخابرات الحربية.


2- على الرغم من صدور أحكام قاسية على الضباط المتهمين فى القضية من بينها السجن المؤبد والسجن لمدة 15 عاما والفصل من الخدمة العسكرية فإنه يبدو أن ثمة إعجابا متبادلا قد جرى بين ضباط المخابرات الحربية الذين كانوا يتولون التحقيق وبين سامى شرف , ومما يدل على ذلك أنه أفرج عنه بعد فترة قصيرة, ولم يلبث بعد فليل أن انتدب للعمل فى المخابرات الحربية فى مكتب كان يسمى المكتب الخاص, ومن أقوال سامى شرف فى التحقيق يتضح أن وظيفة هذا المكتب كانت القيام بالمأموريات السرية والمهام ذات الطابع الخاص, وقد تم تكليفه حسب اعترافه بعد مأموريات ومهام من هذا النوع, ونظرا لنجاحه فى تأدية هذه المهام وقع اختيار الرئيس الراحل عبد الناصر عليه للعمل سكرتيرا للرئيس للمعلومات, وكان ذلك فى أول أبريل عام 55 .


3- تم نقل سامى شرف بعد ذلك من المخابرات العامة التى انضم إليها من قبل إلى الكادر المدنى على قوة رئاسة الجمهورية, وبينما كان أقرانه من ضباط دفعته لا يزالون عام 55 فى رتبة النقيب فى الجيش توالت ترقياته بل قفزاته فعين مستشارا لرئيس الجمهورية بدرجة نائب وزير عام 65, وهى تعادل رتبة الفريق فى الجيش, أى أنه ترقى فى خلال عشر سنوات فقد من رتبة نقيب على ما يوازى رتبة الفريق, وفى 27 أبريل 70 صدر القرار الجمهورى رقم 685 لسنة 1970 بتعيينه وزيرا للدولة, ثم عين وزيرا لشئون رئاسة الجمهورية فى نفس العام, إلى أن تقدم باستقالته من جميع مناصبه فى أحداث 15 مايو 71 التى أدت إلى تقديمه للمحاكمة أمام الدائرة الأولى لمحكمة الثورة التى أصدرت عليه حكمها فى9 ديسمبر 71 بالإعدام, ولكن رئيس الجمهورية حين صدق على الحكم أمر بتخفيف الحكم ومعاقبته بالأشغال الشاقة المؤبدة.


4- اعترف سامى شرف فى التحقيق أنه قام بالوشاية ضد شقيقه لدى السلطات المسئولة مما الحق بهما أضرارا بالغة, وفيما يلى نص أقواله التى أدلى بها فى التحقيق فى هذا الشأن:

" أبلغت أنا عن شقيقين لى أحدهما كان ضابطا فى الشرطة ( عز الدين شرف ) وكان ينتمى ل جماعة الإخوان المسلمين , فقلت عنه فى الاجتماع المحدد لبحث مراكز ضباط الشرطة إنه إخوانى خطير, ونقل على أثر ذلك إلى إحدى محافظات الصعيد.

والثانى كان ضابطا فى القوات المسلحة ( الملازم طارق شرف ) وأبلغت الرئيس شخصيا عنه, وأنه بيعمل اتصالات مع ضباط أعتبرها ضارة بأمن وسلامة البلاد, وقبض عليه فعلا وظل مقبوضا عليه فترة, إلى أن أمر الرئيس جمال عبد الناصر شخصيا بالإفراج عنه بدون علمى, وذلك بتكليفه محمد أحمد بالإفراج عنه بالاتفاق مع شمس بدران فى هذا الوقت وإلحاقه بعمل. وعندما علمت بذلك اعترضت, فقال لى محمد أحمد ليس لك أن تعترض لأن دى أوامر الرئيس"

انتهت أقوال سامى شرف .

ولم تكن هذه الوشاية التى قام بها سامى شرف ضد شقيقيه تستهدف فى الحقيقة صالح الوطن او سلامة البلاد فإن شقيقه عز الدين شرف ضابط الشرطة مقل بعد ذلك إلى وزارة الخارجية بمجهوده الشخصى فى بداية الستينات عقب اجتيازه امتحان القبول للخارجية, وقد أظهر من المقدرة والكفاءة والإستقامة فى عمله وبخاصة عندما كان يعمل فى الفترة الأخيرة سفيرا ل مصر فى باكستان – ما جعله اليوم يعد من أكفأ السفراء بوزارة الخارجية.

أما شقيقه الثانى طارق شرف فقد كان يتميز بذكاء حاد, جعله أول دفعته عند تخرجه فى الكلية الحربية, ونتيجة لوشاية ظالمة من شقيق يؤمن بمبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة, وجد الملازم طارق شرف نفسه مع مجموعة من الملازمين الصغار السن الحديثى التخرج فى غياهب السجن الحربى, متهمين بتهمة التآمر على قلب نظام الحكم, وهى تهمة لا يمكن لأى عاقل تصديقها بالنسبة لحداثة خدمتهم وضآلة رتبهم, وانتهى الأمر بفصل المجموعة بأكملها من خدمة القوات المسلحة, ولم يرتض طارق شرف الوظيفة المدنية التى عينوه بها, فسافر إلى سويسرا حيث اشتغل بالترجمة الفورية فى إحدى منظمات الأمم المتحدة, وأخيرا هاجر إلأى الولايات المتحدة , حيث يعمل هناك فى الوقت الحاضر بنجاح.

وهكذا اتضح بجلاء ان و شاية سامى شرف بشقيقيه التى تناقض كل ما عرف من المبادىء الإنسانية وصلات الرحم, وما أصابهما من جراء ذلك من بلاء ونكبات لم تكن ترجع إلى أى دافع وطنى شريف, إنما كانت تستهدف الإستحواذ على ثقة عبد الناصر المطلقة, وضمان البقاء بجواره فى المنصب البراق الذى كان يشغله, بأن يثبت له بالدليل القاطع انه على أتم استعداد للتضحية بأعز مخلوق لديه, حتى لو كان شقيقه فى سبيل خدمته وتأمين عهده.

وكان ذلك يحدث فى الوقت الذى كان يردد فيه سامى شرف على الملأ لكى تجد أقواله طريقها إلى عبد الناصر , وأن الرئيس إذا طلب منه أن يركى أولاده الأربعة ( هالة وليلى ومحمد و هشام) تحت القطار لفعل ذلك دون تردد, وقد سجل هذه الواقعة التى تدل على قمة النفاق الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام السبق فى كتابه" الطريق إلى رمضان" – طبعة لندن 75 صفحتى 125,124وذكر أنه عندما كان يوجه تأنيبه لسامى على هذه الأقوال الغريبة التى يرددها, والتى كان يعتبرها نوعا من الجنون كان سامى ينفجر غاضبا ويقول:" ولكن هذا ليس ولاء... ليس ولاء".


علاقة سامى شرف ب على صبرى

نذكر فيما يلى نص أقوال سامى شرف التى تتعلق بصلته مع على صبرى كما أدلى بها فى التحقيق:

بدأت صلتى ب على صبرى سنة 55 عندما عينت سكرتيرا للرئيس للمعلومات, وكان هو يشغل منصب مدير مكتب الرئيس للشئون السياسية وكان مكتبه فى نفس مبنى مجلس الوزراء. والمسائل ذات الطابع السياسى كنت أنسقها مع على صبرى قبل العرض على الرئيس, حتى لا يكون هناك ازدواج فى العرض.

فى الفترة التى صادفت موضوع الحقائب الواردة من موسكو( المعروفة باسم حادث المطار) بلغنى أن على صبرى ينتقدنى أولا يرتاح إلىّ وبلغنى أنه معتقد أنى وراء هذا الموضوع, وأنا كنت أشكو للرئيس عبد الناصر .

وفى مارس 71 عند سفر الرئيس السادات إلى الإتحاد السوفيتى فلا زيارة سرية, وكانت تعليمات الرئيس ألا يعلم أحد بهذه الزيارة استدعانى على صبرى لمنزله. وسألأنى عن شعراوى وفوزى فذكرت له أنهما فى مهمة بالجبهة قال طيب والريس فين فقلت له برضة الريس فى الجبهة وقال لى حيرجع امتى قلت له معرفش, وبدا على وجهه شىء من الامتعاض, وقد تدخل محمد فائق لتسوية الموضوع.

كانت تعليقات, على صبرى عن الرئيس السادات تشمل سبا وألفاظا خارجة وجارحة تمس الرئيس وأنا أبلغت الرئيس بتصرفات على صبرى وما يردده من أقوال وتعليقات كان على صبرى يردد فى اتصالاته التليفونية " هذه البلد مفيش فيها رجالة؟" وأنا يوميا كنت اقول للرئيس السادات إن على صبرى بيسبّ ويشتم.

بالنسبة ل على صبرى أنا استأذنت الرئيس السادات فى وضعه تحت المراقبة نظرا للأحداث المعروفة التى جرت وأنا بنيت ذلك على ضوء حاسة المن عندى. و أمين هويدى تليفونه تحت المراقبة منذ أن ترك الوزارة.

لإقالة على صبرى لم تترك فى نفسى أى أثر, وعندما اتصل الرئيس وأمرنى بإعداد قرار الإقالة أبديت وجهة نظرى فقط فيما كانت تجرى عليه وأمرنى من ناحية الشكل فقط, حول ما إذا كانت الصورة قبول استقالة وليست إقالة ولكن الرئيس أمر بإعداد قرار الإقالة فنفذته فورا, أما بالنسبة لشعراوى فلا استطيع أن أقول إنه زعل أو تأثر لإقالة على صبرى .

رأى سامى شرف فى زملائه: عبد المحسن أبو النور بطبيعته إنسان عصبى ومنفعل, وكان خلال اجتماع لجنة العمل منفعلا وعصبيا كدأبه, وطريقة عبد المحسن أبو النور فى الكلام معروفة إنه يرمى كلام دب شهوه دايما يدب كلام زى الدبش, وقد لا يكون فاهم معناه والرئيس السادات يعلم عنه هذا.

واضح من كلام أحمد كامل عن اجتماع لجنة العمل ان ما أبداه عبد المحسن أبو النور فى هذا الخصوص هو كلام فارغ.

أعترف أن ما قاله أحمد كامل صحيح عن قول شعراوى بعمل مجلس رئاسة وواضح من حديث شعراوى انه يرمى إلى إجراء تغيير فى نظام الحكم.

لم ابلغ الرئيس بكلام عبد المحسن أبو النور وشعراوى لأنى كنت مقتنع أن دى هلوسة ولا واحد فى دول الاتينين يقدر يحرك نملة.

اعترف سامى شرف على شعراوى جمعة ( أعز أصدقائه) بشأن تدبيره لانقلاب عسكرى.

أنا مش متذكر نص الألفاظ إنما معناه أن شعراوى كان بيسأل الفريق فوزى عما إذا كان يمكن استخدام القوات المسلحة فى عمل انقلاب عسكرى وهذا الكلام قاله شعراوى بعد استعراض الموقف وتحليله وكان ذلك فى اجتماع فى مكتبى او مكتب فوزى فى أوائل شهر مايو وكانت إجابه محمد فوزى أدرس وأشوف. بعد هذه المرة بيومين او ثلاثة فى جلسة أو اجتماع بيننا نحن الثلاثة فى مكتبى أو مكتب فوزى أعاد شعراوى سؤال محمد فوزى عن فكرة استخدام الجيش فى عمل انقلاب عسكرى فأجاب فوزى أنه غير ممكن. قال شعراوى: إن العملية دى حتحتاج إلى اعتقالات وقال اسم حسنين هيكل, ورد فوزى وقال: إن نفسه فى هيكل. المفهوم من ذلك أن حسنين هيكل سوف يكون احد الذين يتم اعتقالهم لما تتطلبه عملية الانقلاب من تأمين.

بعد اجتماع لجنة العمل فى 2 مايو بعد إقالة على صبرى وفى أثناء وقوفى مع شعراوى و أحمد كامل استعدادا لركوب سيارتهم قال  : شعراوى " طيب نفكر فى الأسلوب ويمكن أن نخلى الجيش يعمل العملية ونعمل مجلس رئاسة يضم بعض أعضاء اللجنة التنفيذية العليا ويرأسه الفريق محمد فوزى "


علاقة سامى شرف بالرئيس الراحل عبد الناصر

كنت أعايش الرئيس عبد الناصر حوال 18 ساعة يوميا, وكانت حياتى كلها فى مكتبى بجواره, وكان دخولى الى منزلى ورؤية أسرتى نادرا وهذا جعل بينى وبين الرئيس عبد الناصر ارتباطا خاصا يصعب وصفه أو تقييمه .

كان نظام العمل أن الاتصال بالرئيس عبد الناصر يكون عن طريقى بمعنى ان توجيهات الرئيس تبلغ لى فأبلغها بدورى لوزير الدولة لإبلاغ رئيس الوزراء والوزراء بها. وبالعكس إذا رئى إبلاغ أمر للرئيس يتصل بى وزير الدولة وأنا أقوم بعرض المر على الرئيس".

( وبهذا النظام الذى كان متبعا فى الاتصالات أصبح سامى شرف أقوى شخصية فى مصر بعد الرئيس الراحل عبد الناصر , إذا إ،ه الشخص الوحيد الذى كان يتولى عرض شئون الدولة عليه. ويتلقى توجيهاته وأوامره بشأنها لإبلاغها إلى رئيس الوزراء , والوزراء, كما كان سامى شرف هو السبي الوحيد الذى يمكن عن طريقه لرئيس الوزراء والوزراء إبلاغ أية مطالب أو رغبات أو وجهات نظر إلى الرئيس, ونظرا لأنه من المعروف ان طريقة عرض الموضوع لدى أى رئيس هى أهم وسيلة للحصول على قراره, لذا أصبح رئيس الوزراء والوزراء وكبار مسئولى الدولة يتلمسون السبيل لنيل الحظوة لدى سامى شرف , والحصول على رضائه وثقته, كى يحافظوا على مناصبهم ونفوذهم, ويضمنوا الاستجابة لمطالبهم لدى الرئيس.

ومن جهة أخرى لم يكن فى مقدرة أحد فى الدولة أن يفرق بين توجيهات وأوامر الرئيس الحقيقية وبين المطالب الشخصية ل سامى شرف , إذ إن المعروف لديهم أنه كان يتحدث إليهم دائما باسم الرئيس, ولذا أصبحت مطالبه ورغباته الشخصية حتى بدون قصد بمثابة أوامر صادرة من رئيس الجمهورية .

وقد ساعد على استفحال نفوذه أنه كان يحتفظ لديه بختم الرئيس , وقد اعترف فى التحقيق أمام المدعى الإشتراكى أنه كان مفوضا من الرئيس لختم القرارات الروتينية, فيما عدا القرارات الخاصة بالقوات المسلحة, أو التى لها طابع الأهمية وأن تقدير مدى أهمية القرارات أو عدم أهميتها كان متروكا لتقديره هو, وهكذا استطاع إصدار قرارات جمهورية كثيرة دون أن يعرضها على رئيس الجمهورية).

وقد ثبتت واقعة وجود ختم عبد الناصر لدى سامى شرف وقيامه بإصدار قرارات جمهورية دون أن يدرى عبد الناصر عن معظمها شيئا من نص أقواله فى التحقيق الذى أجراه معه جهاز المدعى الإشتراكى فى قضية 15 مايو 71 وفيما يلى أنقل للقراء نص فقرة كاملة من التحقيق دارت بين رئيس النيابة المحقق و سامى شرف بهذا الشأن:

س- كيف كانت تصدر القرارات فى عهدى عبد الناصر و السادات ؟ وهل حدث أن قمت أنت بإصدار بعض القرارات دون أن تعرضها على رئيس الجمهورية؟.

ج- فى الفترة فيما أذكر من عام 68 أصدر الرئيس عبد الناصر أوامر بأن أختم القرارات الجمهورية الروتينية العادية, وهى كثيرة, فمثلا تغيير اسم قرية مش معقول رئيس الجمهورية يضيع وقته فى حاجى زى كده, والرئيس قال الختم عندك, والقرارات الروتينية عدا القرارات الخاصة بالقوات المسلحة أو القرارات التى لها طابع الأهمية – وترك لى التقدير – القرارات الروتينية والعادية تختم وتمشى على طول, والتى لها طابع الأهمية كانت تعرض بذاتها, وإنا يجهز كشف يتضمن موضوع القرار ويعرض على الرئيس ويؤشر عليه.

س- بالنسبة للقرارات الجمهورية بالسفر للعلاج على نفقة الدولة, وبالنسبة للقرارات الخاصة بمنح معاشات فى الأحوال الاستثنائية, هل كانت تختم عليها مباشرة, أو أن الرئيس يجب أن يوافق عليها ولو تليفونيا؟

جـ- المعاشات الاستثنائية كانت تخضع للروتين, والسفر للخارج للعلاج ده تابع لرئيس الوزارة, إن كان فى بعض الأحيان إذا كان فيه قرارات جمهورية للسفر لخارج الرئيس لازم يعرف, وهى خاصة بشخصيات كبيرة لها وزنها.

س- ما هى الدواعى القومية او الوطنية أو المتعلقة بالمصلحة العامة التى تسمح بإعادة قرار بمعاش استثنائى إلى أرملة ضابط الشرطة السابق العباسى بعد أن طلقها الفريق محمد فوزى وله منها ولدان؟ جـ- أى وزير من الوزراء بيطلب زى دهب يمشى.

س- هل أخبرت رئيس الجمهورية مجرد إخطار عادى بهذا الموضوع وبخاصة وهو يتعلق بإحدى زوجات الفريق أول محمد فوزى ؟

جـ- لا بم أخطر الرئيس وأعتقد أن هذا القرار تاريخه حديث.

س- وهل قبل الرئيس أو إذن بأن توقع هذه القرارات دون عرضها عليه؟

جـ- القرارات الروتينية بتخضع لقاعدة إنى أنا أختمها مباشرة حسب التعليمات السابقة والمعاشات الاستثنائية روتينية وهى ليست كثيرة.

س_ هل قمت بإصدار قرار جمهورى بسفر الدكتور يوسف إدريس للخارج لعلاج ابنه مع تحمل الحكومة بفرق نفقات العلاج بخلاف مصاريف السفر, ولقد قرر ذلك سكرتيرك محمد سعيد , فما رأيك؟

جـ- لا أذكر هذا, وإذا كان صدر لابد له مبرر وأنا مش متذكر التفاصيل.

س- قرار جمهورى بفصل عطية البندراوى , ثم قمت أنت بالاتصال بالمسئولين وطلبت نهم اعتبار قرار الفصل كأن لم يكن, ولم ترسل لهم فرار بسحب هذا القرار السابق , فهل كان اختصاصك أن تلغى قرارات جمهورية بالفصل من الخدمة شفويا وبالتليفون؟

جـ- دى كانت أوامر الرئيس جمال, وأنا لا أملك إلا أن أنفذ أمر الريس.

س- قرر محمد سعيد أنك أخذت مبالغ طائلة من النقد الأجنبى وأعطيتها للسيدة زوجتك وهى تسافر إلى لندن بصحبة شقيقها, وأن بعض هذه المبالغ التى أنفقتها لشئونك الخاصة كانت بعد وفاة الرئيس عبد الناصر , فهل أذن لك الرئيس السادات باستعمال النقد الأجنبى المملوك للدولة فى شئونك الخاصة؟ جـ- سفر زوجتى للعلاج كان بأمر الرئيس السادات , وهو فضب أنه ميطلعش قرار جمهورى, وفى مثل هذه الحالات يعطى مبلغ فى حدود ألف جنيه وهذا ما حدث.

س- هل سمح لك الرئيس السادات صراحة بالألف جنيه نقد أجنبى؟

(مصروف جيب).

جـ- مش متذكر حقيقة لكى مقدرش أدعى على الرئيس, ولكن الإذن بالسفر والعلاج كان بأمر الرئيس ومش معقول تسافر بدون ولا مليم.

مشتريات سامى شرف الخاصى من المصروفات السرية.

تبين من تحقيقات المدعى العام الإشتراكى فى قضية 15 مايو 71 قيام سامى شرف بشراء مشتريات خاصة به وبأسرته من بيروت, وقد سجلت أصناف هذه المشتريات فى كشوفات خاصة بواسطة فتحى قنديل مستشار السفارة المصرية ببيروت الذى كان مكلفا من سامى شرف بعملية الشراء خلال المدة من سبتمبر 69 إلى فبراير 71. وقد تبين خلال التحقيق من أقوال سامى شرف و فتحى قنديل و محمد سعيد السكرتير الخاص ل سامى شرف و فتحى سعد رئيس سكرتارية سامى شرف , والمسئول عن خزانة المصروفات السرية ومن تقرير للمباحث العامة حول هذا الموضوع الحقائق التالية:

بلغت قيمة المشتريات60671 ليرة لبنانية بما يوازى 12134 جنيها مصريا بحساب أن سعر الجنيه المصرى يعادل 5 ليرات.

كانت المبالغ تصرف على دفعات من خزانة المصروفات السرية لرئاسة الجمهورية بالعملة الصعبة( معظمها دولارات) بناء على أوامر سامى شرف تحت حساب مشتريات للمكتب من بيروت.

كانت المبالغ تسلم نقودا سائلة إما إلى فتحى قنديل شخصيا عند تواجده فى الإجازة ب القاهرة ومروره على سامى شرف فى مكتبه او داخل مظروف مغلق عن طريق الحقيبة السياسية ومعها خطاب شخصى من سامى شرف أو عن طريق محمد سعيد الذى اعترف أنه قام بعدة رحلات إلى بيروت خصيصا لتسليم نقود إلى فتحى قنديل .

اعترف فتحى قنديل أن قيام سامى شرف بإرسال هذه المبالغ من العملات الصعبة الجنبية إليه بهذا الأسلوب قد خالف قوانين النقد المعمول بها فى الدولة واعترف كذلك أنه لم يكن فى إمكانه الامتناع عن شراء ما طلبه منه سامى شرف بحكم منصبه ومركزه ولم يقم بإبلاغ رؤسائه بالخارجية بهذا الموضوع لأن سامى كان أحد كبار المسئولين فى الدولة.

أفاد تقرير المباحث العامة أن فتحى قنديل بعد نقله من السفارة المصرية ببيروت( عمل بعد ذلك سفيرا ل مصر فى الكاميرون) قد عاد بعد فترة من نقله هو وحرمه إلى بيروت خصيصا لاستكمال عملية المشتريات تحت ستار انتدابه فى مهمة رسمية ومكثا فى بيوت لمدة أسبوعين لهذا الغرض( وقد تقاضى عن هذه المدة بالطبع بدل السفر المقرر له باعتبار أنه موفد فى مهمة رسمية).

اعترف سامى شرف بأن كل الأصناف المدونة فى الكشوفات ( معظمها فساتين وأقمشة وسجاد) هى مشتريات خاصة له ولأسرته مشتراة من بند المصروفات السرية, وأنها كانت بالعملة الأجنبية, وبإذن خاص من الرئيس الراحل عبد الناصر , وأنها كانت بمناسبة زواج ابنتيه ليلى وهالة, وأن عبد الناصر كان يعلم بهذه المشتريات, ولكنه لم يكن يعرف تفاصيلها.

برر سامى شرف عملية شرائه هذه المشتريات من بند المصروفات السرية بأن المرحوم عبد الناصر قال له: إن جواز البنات من حساب المكتب أى من المصروفات السرية , وعلل ضخامة المبالغ المنصرفة ( أسعار أواخر الستينات) بأن أسعار بيروت غالية,وأغلى من ضعف الثمن فى فرنسا واعترف أنه اشترى مشتريات أخرى من لندن.

لم يستطع سامى شرف التدليل على صحة حصوله على إذن عبد الناصر لأنفاق هذه المبالغ من المصروفات السرية فى مشترياته الخاصى, إذا قال: إن هذا كان حديث شخصيا بينه وبين الرئيس الراحل عبد الناصر , ولم يكن يعلمه أحد ويدخل فى بند العطف الشخصى والتقدير من المرحوم له ولأسرته وبخاصة أنه لم يكن يسافر فى رحلات الرئيس إلى الخارج, وكان الرئيس يقول له " يا ابنى أنت مش عايش, وكون أسمح لك تجيب مشتروات لك ولأولادك ده تعويض بسيط بجهدك واللى انت بتعمله".

اعترف سامى شرف أن الرئيس الراحل عبد الناصر لم يحدد له فى الإذن الشفوى الذى منحه له المبلغ الذى يحصل عليه من خزانة المصروفات السرية وأنه هو شخصيا الذى حدد المبلغ قياسيا على المنح التى كان يمنحها المرحوم كل سنة لسامى وزملائه وكانت فى حدود خمسة ألاف جنيه فى السنة لكل منهم( كان هذ بأسعار الستينات) كما أعترف سامى أن حفل زفاف كريمته تكلف أكثر من 1500 جنيه مصرى دفع كله من المصروفات السرية الخاصة بالمكتب.


اليد الخفية التى امتدت إلى خزانة عبد الناصر

لا يزال حادث اختفاء أوراق سرية هامة من خزانة عبد الناصر الموجودة بغرفة مكتبه بالطابق الأولى من بيته الكائن بمنشية البكرى, يثير كثيرا من التساؤلات وعلامات الإستفهام. إن هذا السر المستغلق سبب الحيرة لملايين من المصريين الذين سمعوا به منذ حوال 14 عاما’ ولم تصلهم عنه أية غجابة شافية حتى اليوم. فلقد حدث فى إحدى الليالى المظلمة أن تسلل شخص مجهول إلأى غرفة مكتب الرئيس الراحل عبد الناصر التى تقع بالطابق الأول من بيته الكائن بمنشية البكرى, وتمكن من فتح خزانته الخاصة والاستيلاء على أوراق ووثائق سرية هامة للغاية.

ونظرا لأن منزل عبد الناصر كانت حراسة مشددة من أفراد الحرس الجمهورى لا تتيح لأى شخص أن يدخله بغير تسجيل اسمه عدا أفراد الأسرة وسكرتيره الخاص محمد احمد ووزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية وقتئذ سامى شرف وضباط الحراسة الخاصة, لذا فإن المأساة ضاعف من مرارتها أن الشخص المجهول الذى تسلل إلى غرفة مكتب الرئيس الراحل ليرتكب جريمته كان حتما واحدا من أقرب المقربين إليه فى حياته فسجل بذلك على نفسه جريمتين فى وقت واحد: جريمة سرقة, وجريمة الخيانة إذ أنه لم يتورع بعد مضى أسابيع قلائل من رحيل رئيسه أن يعتدى على حرمه مسكنه, وغرفة مكتبه وخزانة أوراقه, تحت ستر الظلام, وفى غفلة من الضمير والوفاء والشرف.

كانت غرفة مكتب الرئيس الراحل عبد الناصر تقع فى الطابق الأول فى البيت الذى كان يقطنه مع أفراد أسرته فى حى المنشية البكرى ب القاهرة , ونظرا لرغبة عبد الناصر فى الاحتفاظ ببعض الوثائق والتقارير التى كان يرى أنها سرية للغاية فى خزانة خاصة به فى غرفة مكتبه بمنزله بعيدا عن مكاتب أعضاء السكرتارية الخاصة لرئيس الجمهورية – فقد عهد إلى الأستاذ حسن التهامى الذى كان مستشاره وموضع ثقته بشراء خزانة كبيرة الحجم تم وضعها عقب وصولها فى غرفة مكتب الرئيس بالطابق الأول.

وكان من عادة عبد الناصر أن يضع مفكرة صغيرة بجانب سريره, وعندما كان يستيقظ أحيانا من رقاده أثناء الليل او يصيبه الأرق كان يسجل فى هذه المفكرة ما يطرأ على باله من خواطر وأفكار أو أرائه الشخصية فى بعض كبار المسئولين فى الدولة, وكذا فى بعض الأفراد المحيطين به, وكانت الخزانة الكبيرة تضم عددا من هذه المفكرات التى كانت تعد بلا شك مرجعا هاما يوضح فكر عبد الناصر بالنسبة لكثير من الأحداث التى جرت, وبالنسبة للأشخاص المقربين منه, كما كانت تضم فى باطنها عددا من التقارير السيئة للغاية التى تكشف الكثير من أدق الأسرار الشخصية لبعض أعضاء مجلس القيادة الثورة , وبعض كبار المسئولين فى الدولة, التى حررتها عنهم أجهزة المخابرات خاصة ب عبد الناصر , بعد متابعة دقيقة لنشاطهم وتصرفاتهم, فلقد كان الرئيس الراحل شغوفا بأن يكون على اطلاع تام بكل ما يفعله زملاؤه وكبار المسئولين فى الدولة من تصرفات خاطئة أو منحرفة سواء فى المجال الرسمى او فى حياتهم الخاصة وأن يضع تحت يدع خزانته التقارير والمستندات التى تدين أى مارق منهم يريد أن يخرج عن طاعته او يتحدى سلطانه, كى يرغمه على العودة تائبا مستغفرا إلى دائرة الخضوع وإلى حظيرة الولاء. ولعل أبرز مثال على ذلك حادث الحقائب الشهير الذى كان يطلبه على صبرى الأمين العام للتنظيم بالاتحاد الإشتراكى ورئيس الوزراء السبق وأحد معاونى عبد الناصر الأقوياء.

فعندما بدأ على صبرى يلمع أكثر من اللازم على المسرح السياسى وتزداد علاقته توثقا بالسوفيت حتى أخذ الكثيرون ينظرون إليه على أنه رجل موسكو رقم 1 فى مصر – لم يتركه عبد الناصر ينعم بقوته وصولجانه واتصالاته وسرعات ما استغل المعلومات السرية التى بلغته عن الحقائب والطرود التى تجاوز وزنها 2000 كيلو جرام التى احضرها على صبرى وأفراد أسرته برفقتهم من موسكو على متن الطائرة الروسية الخاصة التى وصلت القاهرة يوم 15 يوليو 69 – وأمر بإلقاء سكرتيره الخاص مصطفى ناجى الذى كان يرافقه فى الرحلة فى زنزانة بسجن القلعة دون أى ذنب جناه, واضطر على صبرى بعد انكشاف.

الأمر إلى تقديم استقالته والتزام بيته والاختفاء عن الحياة عن الحياة العامة أكثر من شهرين وبعد أن أيقن عبد الناصر أن على صبرى قد استوعب الدرس جيدا بدأت الإجراءات تتخذ لتسوية الموضوع, فقام على صبرى بتسديد مبلغ 1300 جنيه إلى وزير الخزانة, وهى قيمة الرسوم الجمركية التى قدرها عبد الناصر على الأمتعة التى احضرها معه من موسكو, وصدر فى 21 سبتمبر 69 كما أسلفنا بيان نشر فى الصفحة الأولى من جريدة الأهرام بعنوان بارز حول هذا الموضوع كان فى وقاع الأمر بمثابة فضيحة علنية.

وانتهت الأزمة بعودة على صبرى مدحوار مقهورا إلى الإتحاد الإشتراكى بعد أن أصبح عمله مقصورا على مجرد عضويته فى اللجنة التنفيذية العليا. أما منصبه اللامع الخطير كأمين للتنظيم فقد أرغم على التخلى عنه لمساعدة السابق والنجم الصاعد وقتئذ شعراوى جمعه , ولم تكن عملية إذلال على صبرى بفضيحة حقائبه وامتعته سوى صورة مألوفة لما كان يجرى فى الماضى نع أى عضو من أعضاء مجلس قيادة الثورة , أو أى مسئول كبير فى الدولة يحاول ان تكون له شخصية مستقلة أو يحاول أن يستمد قوته وسلطانه عن غير طريق رئيس الجمهورية.

وعقب وفاة عبد الناصر فى 28 سبتمبر عام 70 وبعد إحياء ذكرى الأربعين ببضعة أيام فوجىء الرئيس الراحل السادات باتصال تليفونى من السيدة هدى عبد الناصر فى العاشرة والنصف مساء, ابدت خلاله رغبتها فى الحضور إليه هى وشقيقها خالد فى الحال. ولم يتردد السادات فى الإستجابة لهذا الطلب رغم دهشته بسبب تأخر الوقت, وعندما حضرت السيدة هدى وشقيقها خالد أبديا رغبتهما للسادات فى فتح الخزانة الخاصة التى فى غرفة مكتب والدها الراحل بمنزل الأسرة بمنشية البكرى وقالا له " يا عمى تعال معنا نفتح الخزانة" ورغم تأخر الوقت توجه السادات وأفراد أسرة عبد الناصر كما كان حاضرا بناء على استدعاء من الرئيس كل من سامى شرف وزير الدولة لشئون رئاسة الجمهورية وقتئذ, و محمد أحمد السكرتير الخاص السابق للرئيس الراحل, وقد تم فتح الخزانة باستخدام مفتاحين كان أحدهما عند السيدة حرم الرئيس الراحل عبد الناصر , وكان الثانى عند محمد أحمد ولم يكن فى إمكان أحد فتح الخزانة إلا باستخدام المفتاحين معا, كما كان من المستحيل عليه فتحها إذا لم يكن يعرف الأرقام السرية.

وعندما تم فتح الخزانة وجد السادات بداخلها المسدس الذى كان يحمله عبد الناصر ليلة 23 يوليو 52 , فقام بإهدائه فى الحال إلى ابنه الأكبر خالد عبد الناصر كهدية تذكارية من الدولة تقديرا للدور العظيم الذى أداه والده فى تلك الليلة الخالدة, وكان أهم ما استرعى نظر جميع الذين حضروا عملية فتح الخزانة أنها كانت مرتبة ومنسقة فى نظام دقيق وكل قسم منها مسجلا عليه البيانات الخاصة بمحتوياته بطريقة تتفق مع طبيعة عبد الناصر المحبة للنظام.

ونظرا لتأخر الوقت وعدم وجود إضاءة بالغرفة بسبب أعمال البياض والتجديد التى كانت تجرى بها وقتئذ , فقد أثر السادات تأجيل فرز ما بها من أوراق إلى يوم آخر, وأوكل إلى هدى عبد الناصر , وشقيقها خالد مهمة القيام بعملية فرز الأوراق التى كانت موجودة بالخزانة, على اعتبار أن هدى كانت أقدر الجميع على القيام بهذه المهمة, بحكم عملها فى الفترة ألأخيرة كسكرتيرة خاصة لوالدها لمساعدته فى إنجاز أعماله, بعد أن تدهورت صحته نتيجة للأزمة القلبية الحادة التى أصيب بها يوم 10 سبتمبر 69 على أثر الصدمة التى انتابته عندما بلغته الإغارة الإسرائيلية البرمائية فجر يوم 9 سبتمبر على الزعفرانة التى تقع على خليج السويس .

ونظرا لأن الخزانة كانت تضم أوراقا خاصة بالدولة, وأخرى خاصة بأسرة عبد الناصر , فقد طلب السادات من هدى أن تجمع كل الأوراق الخاصة بالدولة, وأن تضعها فى حقيبة وترسلها إليه بمنزله فى الجيزة وان تحتفظ بالأوراق الخاصة بالأسرة, إذ ليست لديه الرغبة فى الإطلاع عليها وكانت عبارته الخيرة لهدى قبل أن يغادر بيت عبد الناصر " أنا مستأمنك يا هدى".

وبعد أسبوع واحد من فتح الخزانة وفى الساعة العاشرة والنصف مساء ولفرط الصدفى أيضا اتصلت السيدة هدى عبد الناصر بالرئيس الراحل السادات فى منزله ب الجيزة وطلبت منه أن يأذن لها بالحضور لمقابلته هى وشقيقها خالد لأمر هام.وعندما حضرا إليه بعد قليل استمع السادات فى دهشة بالغة إلى السيدة هدى عبد الناصر وهى تبلغه بأغرب ما كان يتوقعه, وهو أنها هى وشقيقها عندما قاما بتنفيذ تعليماته بفتح الخزانة لفرز ما بها من أوراق, لفصل الأوراق الخاصة بالأسرة عن ألأوراق الرسمية للدولة, فوجئنا بأن الخزانة فى غير وضعها السابق التى كانت عليه يوم تم فتحها منذ أسبوع فى حضور الرئيس, مما أكد لها أن الخزانة قد فتحت وأن الأوراق التى بداخلها قد تم تفتيشها والعبث بها, وعندما سألهما السادات عما اتخذاه إزاء ذلك. أحيابا بأنهما قد قدما إليه على الفور, لأن فى نيتهما إبلاغ النائب العام, ورد عليهما السادات بأن هذه الخزانة ملك للدولة,ولذا فإن من واجبه بصفته رئيسا للجمهورية إبلاغ النائب العام وانصرفت هدى وشقيقها بعد أن وعدهما السادات بالحضور إلى بيت عبد الناصر صباح اليوم التالى كى يعاين الخزانة بنفسه.

وفى الصباح حضر السادات إلى منزل الأسرة الكائن بمنشية البكرى بعد أن أمر باستدعاء كل من سامى شرف و محمد أحمد , تم فتح الخزانة بحضور جميع الأشخاص الذين حضروا فتحها فى المرة السابقة.

وبدأ للجميع من النظرة الأولى أن الخزانة قد فتحت وأن يدا خفية قد عبثت بمحتوياتها, وأن بعض الوثائق والأوراق السرية الهامة قد اختفت من الخزانة ولم تكن السرقة هى الدافع. فعلى الرغم من وجود مبلغ كبير من النقد داخل الخزانة كان مخصصا للإنفاق منه فى حالة الطوارىء فإن هذا المبلغ وجد بأكمله دون أى نقصان.

واستدعى السادات على أثر ذلك النائب العام وتم تقديم بلاغ إليه من رئيس الجمهورية, وبلاغ آخر من هدى و خالد عبد الناصر نيابة عن الأسرة, لكى يتولى التحقيق لمعرفة الوسيلة التى تم فتح الخزانة بها والبحث عن الأوراق الهامة التى اختفت من دخلها سواء التى تخص الدولة أو تخص الأسرة.

وبدأ النائب العام وقتئذ الأستاذ على نور الدين يوم 26 نوفمبر عام 70 التحقيق فى الواقعة, وظهر منذ اللحظة الأولى أنه حريص على أن يحاط التحقيق بسرية تامة. فلقد تولى هو التحقيق بنفسه, وانتدب أحد أعضاء مكتبه لتدوين الأقوال.

ومن خلال معاينة النائب العام خزانة الرئيس الراحل عبد الناصر ثبت له أن بعض محتوياتها قد سرقت, فقد عثر فى الرف الثانى من الخزانة على علبة خالية كتب عليها أن بها 9 تسجيلات لمحاضر اجتماعات مجلس قيادة الثورة , وبعض تسجيلات للقاءات هامة جرت بين الرئيس وبعض كبار الشخصيات كذلك عثر فى رفين بأعلى الخزانة على كلاسيرات ( أغلفة لحفظ الأوراق) مكتوب عليها أنها تحوى ملاحظات هامة للرئيس على بعض الأحداث والأشخاص, ولكنها وجدت فارغة من محتوياتها وغير منتظمة, فى حين أنه عندما تم فتح الخزانة فى المرة الأولى فى حضور الرئيس الراحل السادات وأفراد أسرة عبد الناصر وكذا محمد أحمد و سامى شرف وجدت مرتبة تماما, وفى الرف الأخير كانت توجد حقيبة من الجلد. وقد أثبتت المعاينة أنه قد عبث بها وتركت مفتوحة بعد أن جردت من جميع محتوياتها.

ومن خلال التحقيق الذى أجراه النائب العام بنفسه بعد أن أدلى كل من هدى و خالد عبد الناصر و سامى شرف و محمد أحمد بأقوالهم اتضحت الحقائق الهامة التالية:

قرر خبير الخزائن الذى كلفه النائب العام بفحص الخزانة أن هذا النوع من الخزائن لا يباع إلا ومعه مجموعتان من المفاتيح. ونظرا لأن مفتاحى المجموعة الأولى كان أحدهما مع السيدة قرينة الرئيس الراحل عبد الناصر والثانى مع سكرتيره الخاص السابق محمد أحمد , فقد جرى البحث عن مفتاحى المجموعة الثانية, ولكن دون نتيجة, فقد أنكر سامى شرف أ،هما لديه رغم اعترافه للسادات والنائب العام بأنه قام بناء على تكليف من عبد الناصر بفتح الخزانة وترتيبها قبل أيام من وفاته.

وقرر خبير الخزائن كذلك أنه كذلك أنه يمكن لمن يحصل على المفتاحين مرة أن يصنع منهما نسخة لنفسه, ولكن من المستحيل لأحد فتح الخزانة إذا لم يكن يعرف الأرقام السرية اللازمة لفتحها حتى لو كان معه المفتاحان, وقال الخبير للنائب العام بالحرف الواحد: " إذا اعطيتمونى المفتاحين الآن وطلبتم منى أن أفتح الخزانة بغير أن أعرف الأرقام السرية فغن ذلك سيستغرق منى – وأنا الخبير – ستة أشهر كاملة لأنه سيكون على أن أجد العملية الحسابية الصحيحة من بين سبعة ملايين عملية حسابية ممكنة.

نتيجة لشهادة خبير الخزائن وجه النائب العام على نور الدين سؤالا إلى الشاهدين هدى و خالد عبد الناصر كل على انفراد, وكان السؤال " من تعتقد أنه يعرف الأرقام السرية لفتح الخزانة؟

وكانت إجابة الاثنين تكاد تكون واحدة فقد قالا" محمد أحمد أقر بذلك بنفسه, أما سامى شرف فعلى الرغم من إقراره أمام الجميع بأنه فتح الخزانه لترتيبها فى سبتمبر عام 70 فإنه أنكر معرفته بالأرقام السرية اللازمة لفتحها ولكنه يوم أن فتحت الخزانة للمرة الأولى فى حضور الرئيس السادات وأفراد الأسرة محمد وأحمد كان فى إمكانه أن يرى بوضوح العملية الحسابية اللازمة لفتح الخزانة".

وسألهما النائب العام: ولكن غرفة المكتب كانت بها إصلاحيات فى هذا اليوم, ولم تكن الإضاءة فيها كافية فكيف كان فى إمكان الفاعل رؤية الأرقام على قرص الخزانة؟

وكانت إجابة هدى عبد الناصر تدل على الفطنة والذكاء إذ قالت:" فى ذلك اليوم – ولعدم قوة الإضاءة – أمسك سامى شرف بالولاعة من على مكتب المرحوم والدى واقترب بها من الإجابة ليساعد محمد أحمد رؤية الأرقام وهو يفتحها. وقبل إغلاقها أمسك خالد بمسدس المرحوم والدى الذى كان بداخلها, وحينما اختلفت الآراء حول طرازه استطاع خالد أن يقرأ الحروف الدقيقة التى كتب بها طراز المسدس, وذلك وحده ينهض دليلا على كفاية الإضاءة المدعمة بولاعة – كان يمسك بها سامى شرف ".

أثناء قيام خبير المعمل الجنائى بعملية رفع البصمات من على باب الخزانة وجدرانها من الداخل من الداخل وعلى الأوراق التى تضمها, وكان ذلك فى حضور هدى و خالد عبد الناصر و محمد أحمد و سامى شرف والنائب العام توقف الخبير فجأة وصاح" غريبة إننى أجد بصمة متكررة فى كل مكان وهى واضحة على جدران الخزانة من الداخل, إنها لشخص يعرف بسرعة وبكثرة, وأحمر وجه سامى شرف بشدة وتساقط عرقه, ولكن أحدا من الحاضرين لم يعقب.

بعد أن انتهت السيدة هدى عبد الناصر من الإدلاء بأقوالها أمام النائب العام طلبت منه أن توقع على أقوالها فأجابها على نور الدين " إننى أنا النائب العام ويكفى توقيعى على الأقوال".

ولكن عندما أعاد النائب العام سؤالها هى وشقيقها خالد لاستيفاء التحقيق بشأن من تعتقد أنه يعرف الأرقام السرية للخزانة, وذكرت له أقوالها التى تتعلق بسامى شرفوا صرت هدى على التوقيع على أقوالها باعتبار ان ذلك حق يكفله لها القانون, وأمام إصرارها وافق على نور الدين على طلبها بأن توقع فى ذيل كل صفحة من الصفحات التى كانت تضم أقوالها. وبعد بضعة أيام انتهى التحقيق الذى قام به النائب العام وقتئذ بدون أية نتيجة. واشر على نور الدين على ملف القضية " يحفظ إداريا".

وقد تناول الأستاذ موسى صبرى بالتعليق قضية سرقة خزانة عبد الناصر فى كتابه " وثائق 15 مايو " الذى أصدرته مؤسسة أخبار اليوم عام 77 فذكر فى صفحتى 26 و261 ما يلى: وفى هذا اليوم قالت هدى عبد الناصر وبكل الإصرار ل أنور السادات إنها تتهم سامى شرف وليس أحد سواه.

والسؤال الأول إذا كان النائب العام قد ضاهى البصمات, وإذا كان هناك اتهام من هدى عبد الناصر ل سامى شرف , فلماذا لم تضاه بصمات سامى شرف ؟

والإجابة عن ذلك تنحصر فى أن النائب العام يأخذ بصمات سامى شرف لأن أحدا لم يوجه الاتهام رسميا إليه, وقد نصح السادات السيدة هدى ألا تبوح بهذا الإتهام لأحد, غذ إن ذلك كان سيحدث فى – رأى السادات – أزمة كبرى, فضيحة أكبر, لأن سامى شرف كان وقتئذ وزيرا للدولة لشئون رئاسة الجمهورية. والسؤال الثانى كيف تمكن سامى شرف من فتح الخزانة والمفتاح الأول مع السيدة قرينة جمال عبد الناصر , والمفتاح الثانى مع محمد أحمد ولا يمكن فتحها إلا بالمفتاحين معا؟ والإجابة عن ذلك هى أن كل الدلائل أكدت أن سامى شرف كان يملك مفتاحين آخرين لسبب بسيط, هو أن أى خزانة تباع لابد أن يكون لها بديل لمفاتيحها( لاستخدامه عند الطوارىء.

وعلى الرغم من أن هذا أمر بديهى فإنه غاب عن فطنة وذكاء وحذر جمال عبد الناصر , فإن حسن التهامى هو الذى اشترى الخزانة, ولكن الذى تسلمها هو سامى شرف الذى أخفى النسخة الثانية من المفاتيح. بقى السؤال الثالث ماذا أخذ سامى شرف من الخزانة؟.. والإجابة هى أنه استولى على الأوراق والتقارير السرية التى كان يحتفظ بها عبد الناصر عن كبار المسئولين فى الدولة, لكى يستخدمها لحسابه هو, وإذا كان السادات قد أخفى عن سامى شرف الإتهام الموجه له من هدى عبد الناصر , وإذا كان السادات لم يظهر ل سامى شرف أى شك فى سلوكه, فإنه أراد أن يجعل سامى وجماعته يطمئنون إليه تماما حتى يستطيع أن ينفذ إلى حقائقهم وأسرارهم..

ولكن السادات كما أوضح الأستاذ موسى صبرى فى كتابه كان يريد فقط أن يتأكد بنفسه من أن سامى شرف هو الذى فتح الخزانة فعلا, وقد تأكد السادات من ذلك عندما جاءه سامى شرف فى اليوم التالى لتحقيق النيابة ليقول له:

نسيت أقول لسيادتك يا أفندم عن الرئيس عبد الناصر كان قد كلفنى قبل وفاته بفتح الخزانة كى أرتبها . وبالأمارة بها مبلغ( كذا)

وهنا تأكد السادات من كذب سامى شرف أولا لأن المبلغ الذى ذكره لم يكن هو المبلغ الذى وجد بالخزانة, وهذا يؤكد أنه كان مهتما بالاستيلاء على الأوراق لا على المال. ومن ناحية أخرى أكد بتصرفه هذا خشيته من أخذ بصماته لمضاهاتها بتلك التى تم لخبير معمل البحث الجنائى رفعها من على الخزانة فأراد أن يسبق إلى نفى الدليل عن نفسه بالقول إن عبد الناصر كلفه بفتحها قبل وفاته.

وقد أيد الرئيس الراحل السادات هذه الواقعة, فقد ذكر فى خطابه الذى ألقاه أمام مجلس الشعب فى 20 مايو 71 ما يلى: الريس امرنى فى سبتمبر الماضى بأن أفتح الخزانة وأرتبها وأنا افتحها ورتبتها" وقد ذكر السادات لأعضاء المجلس فى خطابه أن الشىء الهام الذى كان المطلوب – كما يبدو – الإستيلاء عليه من الخزانة كان هو تقرير سرى عن المخالفات التى تمت فى انتخابات الاتحاد الإشتراكى الأخيرة, إذ كان فيه الدليل الدامغ على أولئك الذين قاموا بتزوير هذه الانتخابات.

وسرعان ما تغيرت الظروف عقب أحداث 15 مايو 71 فقد تجمعت لدى النائب العام الجديد الذى تم تعيينه وقتئذ وهو الأستاذ محمد ماهر حسن – أدلة أخرى فى حادث سرقة خزانة الرئيس الراحل عبد الناصر , جعلت الفرصة تتهيأ ثانية لإعادة التحقيق فيها من جديد, فلقد أمكن العثور على ملف التحقيق فى الحادث وسط الأوراق الخاصة التى تم فرزها فى مكتب الأستاذ على نور الدين النائب العام الأسبق. وبناء على ذلك أصدر الأستاذ محمد ماهر حسن فى يوم 23 مايو 71 أمرا بتفتيش منزل سامى شرف وسكرتيره الخاص محمد سعيد , وكان أمر التفتيش الموقع من النائب العام يتضمن النص التالى:" بحثا عما قد يفيد التحقيق من أوراق أو مفاتيح او تسجيلات تتعلق بسرقة خزانة الرئيس جمال عبد الناصر , تمهيدا لإعادة التحقيق فيها,أو ما قد يرتبط بقضية المؤامرة التى يجرى تحقيقها".

وقد تولى الأستاذ أحمد نشأت رئيس نيابة أمن الدولة عملية تفتيش منزل سامى شرف, الذى كان عبارة عن فيلا فاخرة مكونة من ثلاثة طوابق, لها حديقة واسعة, استأجرها من شركة مصر الجديدة بإيجار رمزى لا يزيد على العشرين جنيها, وقد بدأ التفتيش فى الساعة الحادية عشرة والثلث صباحا يوم 24 مايو واستغرق عدة ساعات, وفى الوقت الذى كان يجرى فيع تفتيش فيلا سامى شرف ب مصر الجديدة كان الأستاذ محمد حافظ توفيق وكيل أول نيابة أمن الدولة يجرى تفتيش منزل سكرتيره محمد سعيد الكائن بشارع الخليفة المأمون بمنشية البكرى. ورغم التفتيش الدقيق للبيتين لم يتم العثور على أية أشياء من متعلقات خزانة عبد الناصر , وكان ذلك أمرا طبيعيا بعد مرور أكثر من ستة أشهر على الحادث, وبدلا من ذلك تم القائمين بالتفتيش العثور فى البيتين على كميات كبيرة من أشرطة التسجيل , والأجهزة الكهربائية وزجاجات الخمر,وقطع فاخرة من الأقمشة من الصوف الإنجليزى. وقد بلغ عدد زجاجات الخمر التى تم ضبطها فى منزل سامى شرف وحده 54 زجاجة من محتلف الأنواع والأحجام( فودكا – شمبانيا – ويسكى – كونياك) كما بلغ عدد قطع قماش الصوف الإنجليزى 11 قطعة, ونتيجة للكيات الكبيرة السابق ذكرها التى تم ضبطها فى البيتين ورد إلى الأستاذ محمد ماهر حسن النائب العام خطاب من مدير المباحث العامة لأمن الدولة بتاريخ 27 مايو 71 كان نصه كما يلى:

الإدارة العامة لمباحث أمن الدولة

الأستاذ النائب العام

تحية طيبة وبعد – ظهر عند تفتيش سكن السيد سامى شرف يوم 24 الجارى بمعرفة نيابة أمن الدولة. وعند تفتيش منزل محمد سعيد سكرتير سامى شرف , وجود كمية كبيرة من أشرطة التسجيل, وزجاجات الخمر , وقطع الأقمشة, والأجهزة الكهربائية والولاعات, أثبت بيان بها بمحضر التفتيش, نظرا لن حجم المضبوطات من الكبر بدرجة تشكك فى مصدرها وكيفية الحصول عليها.نرى اتخاذ اللازم نحو ضبطها والتحفظ عليها, وسؤال المذكورين عن مصدر هذه المضبوطات.

وتفضلوا بقبول فائق الاحترام

عميد / السيد فهمى

مدير المباحث العامة

كيف كانت سياسة مصر ترسم بواسطة الأرواح؟

فى الوقت الذى استطاع فيه الإنسان الوقوف على سطح القمر, وفى عصر الذروة والتكنولوجيا والحاسب الألكترونى, كانت طائفة من حكام مصر الذين كانوا يتولون زمام قيادتها ويتحكمون فى مقادير شعبها عقب هزيمة يونيو 67 مازالوا يؤمنون بأساليب القرون الوسطى فى الإستعانة بالجان وتحضير الأرواح, والاسترشاد فيما يتبعونه فى شئون السياسة والحكم, وفى قضايا الحرب والسلام بالتوجيهات والرسائل الورادة بأسمائهم شخصيا من عالى الغيب, خلال حضورهم جلسات تحضير الأرواح التى كانوا يعقدونها فى بيت أستاذ بجامعة عين شمس, وهو شقيق أحد الوزراء وقد تم القبض عليه عقب أحداث 15 مايو 71 وحقق معه , ثم أفرج عنه لأن الذنب فيما حدث لم يكن ذنبه, بل ذنب الذين يذهبون إليه ويصدقون مزاعمه. ولا أشك فى أن الكثيرين سوف يصدمون بمجرد فراءتهم هذه الكلمات, كما أن البعض سوف يساوره الشك فى إمكان صدور مثل هذه التصرفات التى تدل على فرط السذاجة من أشخاص لعبوا دورا فى تاريخ مصر , سواء دورا طيبا أو سيئا – ولهذا لم أقدم على نشر هذه المعلومات التى تدعوا إلى التعجب والدهشة إلا بعد أن حصلت تحت يدى على الدليل الدامغ الذى لا يمكن لأحد تكذيبه أو التشكيك فيه.

والدليل الدامغ الذى تحت يدى عن هذا الموضوع هو تفريغ رسمى لشريطى تسجيل لجلستين من جلسات تحضير الأرواح, عقدت أولاهما فى 20 أبريل 71 , الثانية فى 4 مايو 71 , وقد تم لرئيس نيابة امن الدول العثور على الشريطين فى درج مكتب سامى شرف , خلال قيامه بعملية تفتيش المكتب ومن مراجعة ما ورد فى التفريغين يتضح أن الجلستين عقدتا فى بيت أستاذ جامعة عين شمس المذكور, وأن الأشخاص الذين حضروهما هم شعراوى جمعة , والفريق أول محمد فوزى و سامى شرف , ويبلغ عدد صفحات تفريغ الجلسة الأولى 28 صفحة, والجلسة الثانية 35 صفحة, ونظرا لضيق المجال فسوف أجتهد فى أن أنقل للقراء أهم ما دار فى كل جلسة منهما.

الجلسة الأولى: بدأت فى الساعة العاشرة يوم 20 إبريل 71 أى من خضم الأزمة التى تفجرت بين الرئيس الراحل السادات , وبين نائبه وقتئذ على صبرى والمجموعة التى كانت تؤيده التى كان يتزعمها شعراوى جمعة , و سامى شرف و محمد فوزى ,بسبب إعلان الاتحاد الثلاثى العربى بين مصر و سوريا و ليبيا , وقد استمرت الجلسة إلى اقرب منصف الليل, وكانت الروح التى يجرى تحضيرها فى هذه الجلسة هى روح عالم دينى يدعى الشيخ عبد الرحيم .

بدأ صوت الوسيط – نقلا عن الروح التى تقمصته – يتلو على الحاضرين مقدمة إنشائية بليغة استغرقت إحدى عشر صفحة, كانت تتضمن دعواته للحاضرين با، يبصرهم الله بالطريق الصائب السليم, ويوصلهم إلى شاطئ الأمان, ثم يمضى بعد ذلك فى حديث طويل يتضمن توجيهاته عن مواقع الهجوم على العدو واتجاهات التقدم فى المعركة القادمة, ويبلغ السويط الحاضرين بعد ذلك أن هناك رسائل شخصية بأسمائهم سوف ينقلها إليهم إلا إذا شاءوا أن يوجهوا أولا ما يريدونه من أسئلة واستفسارات, ويرد عليه شعراوى جمعة قائلا:" إذا سمحتم نستمع إلى الرسائل كلها ثم بعد ذلك ننقل إلى السئلة, ويظهر بعد ذلك صوت الوسيط قائلا" ننقل الآن رسائل لكم منكم".

- يا سامى إن موضوع الإجراءات التأمينية يجب أن يستمر لتأمين الدعم لصالح الوطن وإلا يصبح فى يد رجل آخر.

- يا فوزى عليك أن تتأكد من الصف الثانى فى قيادة السلاح الجوى وفى الحرب الإلكترونية.

يا شعراوى إن بعض الناس استغلوا اتصالا كنت تقصد به لم شمل عناصر مختلفة, ولكن ذلك لم يلق آذانا مصغية, إننا نتوقع حدوث تغيير شديد كبير إن شعراوى وسامى عندهما استعداد مدروس لجزء كبير من هذا التغيير ندعو الله إلى توفيقهما وإلى نجاحهما.

- احذروا سوريا وسيروا بخطوات مدروسة جدا مع شدة وحذر ولا تسرع ولا استعجال, هذا ما شئنا أن ننقله إليكم, وإذا أردتم مناقشة أة استفهاما نرجو الله أن يمكننا إلى أحسن أسباب التصرف, ويدور بعد ذلك حوار سياسى عسكرى مثير عن طريق الأسئلة والإجابات يتضح من مجراه أن أهم ما كلن يشغل بال الحاضرين ثلاثة مواضيع رئيسية, سوف نوجز فيا يلى أهم ما دار من حوار بشأنها.

الموضوع الأول – ما هى أفضل الأساليب للتعامل مع السادات ؟ وما هى نواياه الحقيقية بشأنهم؟ ونذكر فيما يلى مقتطفات نمن نص الحوار:

شعراوى: أنا لو سمحت لى فيه انطباعات بالنسبة للبلد فى الداخل.. بأعتقد ان أعلى قيادة فيها بتعمل ضدنا وقد تطلب منا أشياء.

الوسيط: عليكم المحافظة على الطريق وأن تحاولوا أن تتبوءوا أماكن التحكم فى أزمة الأمور, وأن تجمعوا الطاقات جميعا, وأن ترشدوا الناس فى عمل جماعى يدعم موقفكم, عن المهادنة السائرة حاليا مهادنة مؤقتة, وإذا ما وجد منكم تكتلا ووجد من ورائكم تجمعا راشدا واعيا عمل حسابكم.

شعراوى: ومن هنا باعتبر تقديرنا للموقف بالنسبة له ومن حوله تقدير سليم.

الوسيط: نعم لكن العبرة بتجميع أصحاب الرأى والعزم, والعزم هنا له معنى أظن معناه عند فوزى( من الواضح أنه يقصد بأصحاب العزم القوات المسلحة).

سامى: هل أكبر راسب يضعنا إحنا فى مقدمة العمل واللايستفيد بينا الأول وبعدين.. وإلى أى مدى نسالمه؟.

الوسيط: يهادن مؤقتا, ولكنه لا يعادى حتى الآن ,وإذا ما وجد أنكم على أرض صلبة من ناحية الجبهة الداخلية ومن ناحية أصحاب العزم ما تمكن إلا أن يهادن.


الموضوع الثانى: ما هو التوقيت المناسب لبدء المعركة مع إسرائيل ؟

وهل أفضل القيام بانقلاب عسكرى ضد السادات قبل معركة التحرير أم بعدها؟ ونذكر فيما يلى نص الحوار:

الفريق فوزى: هل تامين الجبهة الداخلية يسبق المعركة أم المعركة تسبق تأمين الجبهة الداخلية؟ الوسيط: المعركة سابقة توقيتا, ولكن التامين واجب الأداء منذ الآن.

شعراوى: تفسير العزم الذى المحتم إليه طبعا يحتاج إلى جهد كبير من فوزى معنا.

الوسيط : نعم هذا ما ألمحنا إليه إنه جهده.

الفريق فوزى: توقيت المعركة الموجود فى ذهنى هل هو مناسب أم لا؟

الوسيط: إنه مناسب جدا ونعتقد أنه سيكون بداية ناجحة لضربة سريعة تمهد للتحرير دون مزيد أو ضرورة للإسترسال فى القتال واستعدوا بالقوة الجوية والبحرية فى هذا المجال.

الفريق فوزى: معركة العزم ( يقصد الانقلاب العسكرى) التى أشرت إليها تجىء قبل معركة التحرير أم بعدها.

الوسيط : بعدها.. بعدها.. ويعد لها من قبلها.

الفريق فوزى: الجميع الموجودون لا ينطبق على أحدهم صفة الخيانة, وبالنسبة للتعويق قد المحنا إلى الإهتمام بالصف الثانى فى القيادة الجوية وفى الصف الصاعد للإكترونيات.


الموضوع الثالث: رئاسة الوزارة هل ستعرض على شعراوى جمعة ؟ وإذا عرضت عليه هل يقبل أو أن من الأفضل التأجيل؟ ونذكر فيا يلى مقتطفات من نص الحوار:

شعراوى: هل تفضل إذا عرضت رئاسة الوزارة بتقبلها الآن؟ والوقت مناسب أم نؤجلها لما بعد؟

الوسيط : تقبل الآن على ألا تعتبر وسيلة لهدفكم الأسمى, تقبل طبعا لأنها ستمكنكم من تجميع الطاقات ومن الخروج إلى الرأى العام الواعي وإلى أصحاب العزم والعزم( القوات المسلحة ومرة أخرى).

شعراوى: وهل تعتقد أنه سيعرضها؟

الوسيط: سيعرضها فى لمحة يقول كذا أو كذا عليكم أن تجيبوا بأن المسألة تحتاج إلى وضع النقط فوق الحروف نحن نفضل هذا الطريق لا الوضع السابق.

شعراوى: يعنى يصارح وألا يلمح إليه؟

الوسيط: عندما يلمح يصارح هو محتاج لكم بقوة شديدة, وإلى وقت ليس بالقصير, ,عليكم أن تروا مواقع أقدامكم, وأن تسيروا فى مخطط العمل الصادق الذى تدارستموه وتواعدتم عليه.

سامى: بس الحقيقة الوقت مفيش والواحد يتمنى هذا.

الوسيط: الوقت معك إذا كنت معه يمكن ان تعمل شيئا فى جزء من برهة إذا كنت قد أعدد له تماما.


الجلسة الثانية:

عقد فى يوم 24 مايو 71 بعد الصراع المثير الذى جرى فى اجتماع اللجنة التنفيذية العليا يوم 21 إبريل , واجتماعى اللجنة المركزية يومى 25و29 أبريل 71 والذى تم فيها لنائب الرئيس على صبرى والجماعة التى تؤيده استعراض قوتهم, والتى كان رد فعلها هو خطاب السادات الشهير فى مناسبة الاحتفال بعيد العمال فى حلوان يوم أول مايو , والذى أنذر فيه بأنه سوف يطيح بمراكز القوى, وأعقب ذلك بإصدار قراره يوم 2 مايو بإقالة على صبرى من منصب نائب رئيس الجمهورية, وفى خلال تلك الفترة ذهب سامى شرف لمقابلة السادات , واقترح عليه تعيين شعراوى جمعة رئيسا للوزراء, بدلا من الدكتور محمود فوزى , ولكن السادات لم يوافق على اقتراحه.

وقد بدأت الجلسة كالعادة ياستطراد إنشائى طويل بصوت الوسيط يتضمن الدعاء والتشجيع ثم بدأت الأسئلة وكانت رئاسة شعراوى جمعة للوزارة هى أكبر الشواغل, وفيما يلى مقتطفات من نص الحوار: سامى: فى الجلسة الماضية تطرقنا إلى احتمال أن الأخ شعراوى بيفاتح فى موضوع الوزارة وفعلا حصل كلام حول هذا الموضوع, وحسبما نذكر كانت النصيحة.

الوسيط: ( مقاطعا) القبول بمعنى أم يكون قبولا مدعما بانطلاق اليد فى طريقة العمل الجماعى الحاسم, وأن يكون مقرونا بأسلوب سياسى مخطط للتدرج فى مواجهة ذيول الأحداث الماضية, ونظن أن الحاجة إليكم وإلى حسن تمكنكم من الأمور فى هذه الظروف ستجعل هذا القبول مشروطا بحجة لن الحاجة إليه ملحة.

سامى:هل هناك ملاحظات أو سلبيات فى الخطوات التى قمنا بها خلال الأسبوع الماضى عشان نتعلم يهمنا أن تكون خطواتنا كلها سليمة.

الوسيط: إنكم أخذتم بعض المفاجأة من سرعة المواجهة وأسلوبها الذى لم يكن متوقعا بهذه الصورة.

شعراوى: هو قد لا يطلب تأليف الوزارة, ولكن يطلب حل الاتحاد الإشتراكى, ثم هو طالب منى الآن دراسة إعادة الانتخابات, وهو إجراء لا نوافق عليه ما هى النصيحة لكى نخرج من المأزق؟

الوسيط: الأهم هو إعادة تكوين الجهاز التنفيذى التخطيطى على أساس من الإتزان واليمان.

شعراوى: الراجل ده مكار جد ( يقصد السادات )

الوسيط ( مقاطعا): ولكنه محتاج لكم ولكل القوى فى هذا الوقت.

شعراوى: هو بتتلف حوله مجموعة مضادة لنا؟.

الوسيط: نعم ولكن هذه بعيدة المدى.. ضرر بعيد المدى. خذوا المسئولية التنفيذية التخطيطية تدين لكم المسئولية السياسية كذلك.

شعراوى: هل سيكلفنى برئاسة الوزارة؟

الوسيط: نعم.. نعم

شعراوى : معنى هذا أنكم تنصحون الآن بأي ضربة داخلية ( هذا السؤال يكشف بوضوح حقيقة نوايا شعراوى جمعه وجماعته).

الوسيط: ننصح بعمليات تشذيب للعناصر الخطرة.

شعراوى: إحنا كنا نفكر نأخذ إجراء ضده هو شخصيا بصورة أو بأخرى عندما نيأس ( اعتراف كامل بحقيقة النوايا).

الوسيط : ليس فى هذه المرحلة.

شعراوى: هناك بعض العناصر الأخرى التى تسعى إلى رئاسة الوزارة يعنى مثلا الدكتور عزيز صدقي نشاطه مستمر, ويحاول انه هو يشكل الوزارة هل سيحصل؟

الوسيط: لن يحصل إلا إذا أظهرتم التردد.

شعراوى : عندى سؤال بالنسبة لفرد ما هو شعور أمين هويدى نحونا إحنا الثلاثة؟ هل الحب أم الحقد أم الكراهية؟

الوسيط: نوع من الأسى لا يرقى إلى الكراهية وعليكم أن تصححوا هذه الصفات لأنه يستطيع أن يفيدكم فى بعض الوجهات.

وانتهت الجلسة الثانية من جلسات تحضير


الأرواح التى عقد الكثير مثلها من قبل بلا شك, التى إما أنه لم يتم تسجليها, إما لم يتسن للسلطات بعد أحداث 15 مايو للعثور على شرائط التسجيل الخاصة بها, ولولا أن سامى شرف قد استخدم هواتيه المعهودة فى تسجيل الجلستين السابقتين لظننا أنها نوع من الحواديت الخرافية أو أقاصيص ألف ليلة وليلة, وكم هو شىء يدعو إلى الخزى والأسف والعار حينما يسجل التاريخ أن سياسة مصر وقضايا الحرب والسلام فى هذه المرحلة كانت تخطط وترسم فى غرف تحضير الأرواح.


الفصل الرابع : أسرار الصراع على السلطة فى 15 مايو

كان تقدير على صبرى والجماعة الثلاثية( شعراوى و سامى شرف و محمد فوزى ) أن السادات سيكون حاكما ضعيفا من السهل السيطرة عليه, وإذا ثبت لهم فى المستقبل أنه مشاكس فسيكون من السهل عليهم اقتلاعه والتخلص منه. وبناء على هذا الاعتقاد صدرت التوجيهات من أمانة الاتحاد الاشتراكى وأمانة التنظيم الطليعى إلى الأمانات والأقسام الفرعية بتأييد ترشيحه وانتخابه رئيسا للجمهورية .

واستمرت أشهر العسل قائمة بين السادات منذ توليه رئاسة الجمهورية فى 16 أكتوبر 70 عقب الاستفتاء الشعبى وبين على صبرى والجماعة الثلاثية التى كانت تحكم قبضتها فى الواقع منذ هزيمة يونيو 67 على جميع أجهزة الدولة الحكومية والشعبية.

وكانت أول مرة تظهر فيها بوادر الخلاف بصورة جدية وعلنية بين الطرفين عند إعلان السادات مبادرته للسلام فى 4 فبراير 71 أمام مجلس الشعب . غذ إنه لم يأخذ برأى الجماعة قبل إعلانها, ولم يأبه بمعارضتهم لها, وبدأت الشكوك تساور أفراد الجماعة نتيجة للمحاولات الخفية التى كان يبذلها السادات لإنشاء قنوات اتصال سرية بينه وبين المسئولين فى واشنطن, بقصد الوصول عن طريق أمريكا إلى تسوية سلمية لقضية الشرق الأوسط.

وكان أفراد الجماعة عديمى الثقة فى الولايات المتحدة لتحيزها الدائم ل إسرائيل , ويرون فى التسوية السلمية حلا استسلاميا سوف ينتهى بفقد مصر كرامتها, وعزلها عن الأمة العربية, وأنه لا مناص من الحرب مع إسرائيل , تنفيذا لشعار عبد الناصر بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة, وأن الطريق الوحيد لاستمرار إعداد القوات المسلحة للمعركة هو التعاون الوثيق مع الاتحاد السوفيتى, وازدادت حدة الخلاف حينما اشتدت حماسة السادات لمشروع الاتحاد مع ليبيا و سوريا الذى عارضه على صبرى والجماعة الثلاثية بشدة وعناد, على ضوء فشل تجربة الوحدة مع سوريا عام 58 وعلى أساس أنه لا يمكن الاعتماد من وجهة نظرهم الا على حزب البعث فى سوريا , ولا على حكام ليبيا الجدد.

ولم يكن الخلاف فى الرأى بين السادات و على صبرى والجماعة الثلاثية حول تلك القضايا أمرا يستدعى نشوب معركة مصيرية بين الطرفين, يفوز فيها الطرف الذى يتغذى بالآخر قبل أن يتعشى به الطرف الثانى كما حدث. والواقع أن كل هذه القضايا كانت الذرائع التى تعلل بها الطرفان لإشعال نار الصراع من أجل السلطة الذى جرى بصورة لم يسبق لها مثيل فى مصر , منذ أزمة مارس عام 54 بين محمد نجيب و جمال عبد الناصر . لقد كان صراعا بين رئيس جمهورية جديد يحاول أن يؤكد ذاته ويفرض شخصيته, وبين مجموعة من الحكام الذين انفردوا بالسلطة فى السنوات الأخيرة من عهد عبد الناصر , واصروا على أن تظل السيطرة على مقاليد الأمور فى أيديهم, وكانوا على استعداد للمضى إلى أبعد الحدود فى سبيل تحقيق أهدافهم.

وفى اجتماع أول مايو 71 ب حلوان احتفالا بعيد العمال دبر الاتحاد الاشتراكى الذى كان على صبرى والجماعة يسيطرون عليه سيطرة تامة استقبالا عدائيا للسادات بقصد ترويعه وبث الذعر فى نفسه ليعود إلى حظيرتهم مستسلما, ويترك لهم زمام الحكم من جديد, وبذا يستعدون سيطرتهم التى بدأوا يفقدونها, ولكن الأمر ما لبث أن انقلب وبالا عليهم, فقد روعهم السادات بدلا من أن يروعوه. غذ أعلن فى خطابه أمام الجماهير أنه ينوى القضاء على مراكز القوى, وفى اليوم التالى مباشرة نشرت جميع الصحف فى مصر خبرا قصيرا كان يتكون من سطر واحد فقط ذكرت فيها أن الرئيس قرر إعفاء على صبرى نائب الجمهورية من جميع مناصبه, وهكذا ألقى السادات القفاز فى وجه الجماعة, واشتعلت منذ تلك الساعة نيران الصراع المصيرى على السلطة.


كيف تمت إقالةشعراوى جمعة ؟

فى صباح الخميس 13 مايو 71 توجه شعراوى جمعة نائب رئيس الوزراء للخدمات ووزير الداخلية إلى مكتبه فى وزارة الداخلية فى لاظوغلى كعادته كل يوم, ودخل إليه مدير مكتبه المقدم فتحى بهنسى ليوقع منه بعض الرسائل العاجلة, وليضع أمامه مثل كل صباح كشف مقابلاته خلال ذلك اليوم, وكانت المقابلة الأولى مع حاد محمود محافظ الجيزة وقتئذ الذى كان يعمل مساعدا ل شعراوى فى التنظيم الطليعى كمسئول عن الطلبة فى جامعة القاهرة وكان مكلفا من الناحية التنظيمية بالإشراف على التنظيم الطلابى داخل الجامعة وعلى العمل على اكتساب شعبية داخل المحافظة يمكنه عن طريقها القضاء على نفوذ فريد عبد الكريم أمين الاتحاد الاشتراكى ب الجيزة .

وكان فريد عبد الكريم كما ذكر شعراوى فى التحقيق كثير النقد والمعارضة فى اللجنة المركزية, وكان يحاول استعراض عضلاته, كما كانت طريقته فى الكلام تثير استياء المسئولين الذين شكوا فى حقيقة اتجاهاته, مما أدى إلى وضع تليفونه تحت المراقبة وتسجيل أحاديث التليفونية, واستمر شعراوى فى مكتبه يبت فى الأمور العادية والمسائل الروتينية الخاصة بالوزارة إلى حوالى الساعة الثانية والنصف ظهرا, وقبيل انصرافه اتصل به سامى شرف وزير شئون رئاسة الثانية والنصف بعد الظهر.

وأنه علم أن الرئيس استدعى ممدوح سالم محافظ الإسكندرية ليلتقى به فى منزله, ولم يثر هذا الموضوع شكا فى نفس شعراوى فى بادىء الأمر, ولكن غياب سامى شرف فى منزل الرئيس, وبقاء ممدوح سالم عنده حتى ذلك الوقت جعل الشك يتسرب على نفسه, فتوجه من الداخلية إلى مكتب الفريق أول محمد فوزى فى الطابق العلوى فى مبنى وزارة الحربية بكوبرى القبة, وانتظر الوزيران فى تلهف حضور سامى شرف إليهما, كى يكشف لهما عن سر طلب الرئيس حضوره إلى منزله وسر استدعاء ممدوح سالم محافظ الإسكندرية , وقبيل الخامسة مساءا انقلب شك شعراوى يقينا فى سبب حضور ممدوح سالم , فقد أمدت لهم الأنباء الواردة من منزل الرئيس من أحد أعوانهم هناك أن ممدوحا مازال موجودا عند الرئيس, وأن سكرتارية الرئيس اتصلت برئيس الوزراء الدكتور محمود فوزى للحضور وان البحث جار عن صورة من القسم الذى يحلفه الوزراء أمام رئيس الجمهورية, وكذا عن أحد المصورين, وعندئذ سارع شعراوى بالاتصال باللواء حسن طلعت مدير المباحث العامة, وطلب منه إعدام كل ما يحتفظ به فى مكتبه من أشرطة التسجيل, وكذا الأوراق التى بها تفريغ المحادثات التليفونية المسجلة والخاصة بالأشخاص الموضوعة تليفوناتهم تحت المراقبة.

وقد قرر شعراوى فى التحقيق أنه أمر حسن طلعت بهذا التصرف حفاظا على أعراض بعض النساء المتزوجات, فقد كانت بعض التسجيلات تضم عبارات تدل على وجود علاقات غير شريفة بينهم وبين بعض الشخصيات التى كان يجرى تسجيل محادثاتهم التليفونية, بالإضافة إلى بعض الألفاظ البذيئة المخلة بالحياء التى كانت ببعض التسجيلات, وتناول الفريق فوزى و شعراوى جمعة طعام الغذاء بمكتب الفريق فوزى, وبعد قليل حضر إليهما سعد زايد وزير الإسكان وبناء على التعليمات الصادرة من شعراوى اتصل به مدير مكتبه المقدم فتحى بهنسى تليفونيا وهو فى مكتب الفريق فوزى, وأنبأه بوصول ممدوح سالم إلى وزارة الداخلية, وأنه دخل على الفور إلى غرفة الوزير حيث جلس على مكتبه وبدأ يمارس عمله كوزير للداخلية, وبعد أن انتهت المكالمة طلب شعراوى الرقم المباشر لوزير الداخلية, ولما رد عليه [ممدوح سالم] قام بتهنئته بالمنصب الجديد, وتمنى له التوفيق, وأجابه ممدوح بأنه لم يكن يود أن يكون هو الذى يخلفه فى منصبه نظرا للصلة الوثيقة التى تربطهما, ووعده بزيارته فى منزله فشكره شعراوى على مشاعره.

وكان الفريق صادق رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة قد حضر خلال هذه الفترة بناء على استدعاء الفريق فوزى له, وقد ذكر صادق أنه بمجرد دخوله ذكر له محمد فوزى فى غضب: أن الرئيس قد أقال شعراوى جمعة وعين لواء من الشرطة يدعى " ممدوح سالم " ليتولى منصب وزير الداخلية وأن هذا التصرف قد صدر من السادات , الذين وضعوه بأنفسهم على الكرسى ليحكم مصر رغم كل ماضيه, ورغم كل ما سجل عليه هو وأسرته فى الملفات, ورد عليه صادق بأن ممدوح سالم ضابط شرطة ممتاز, وهو من أوثق الناس صلة ب سامى شرف , وكذا شعراوى جمعة إذ أنه عضو فى التنظيم الطليعى, وخلال هذه الفترة أيضا اتصل الفريق فوزى بمدير المخابرات العامة أحمد كامل وأنبأه بتعيين ممدوح سالم وزيرا للداخلية واستفسر منه عن أى أخبار جديدة يعلمها عن الموقف, واتضح أن أحمد كامل كان وقتئذ بعيدا عن الصورة.

وفى هذه الأثناء وصل سامى شرف , ومن شدة انفعاله انهار باكيا بمجرد دخوله إلى مكتب الفريق فوزى, نتيجة لموقف رئيس الجمهورية الذى اعتبره غدرا بهم, وقال سامى للحاضرين إن الرئيس طلب منه إبراغ شعراوى جمعة أنه قبل استقالته, ولما سأله عن السبب أخبره أنه قد أهمل فى تبليغه عن محادثة تليفونية تم تسجيلها بواسطة جهاز المراقبة التابع للمباحث العامة – دارت بين فريد عبد الكريم أمين الاتحاد الاشتراكى ب الجيزة والصحفى المعروف محمود السعدنى , وهو حديث يدل على وقائع فى منتهى الخطورة لأن بعضها يتعلق بالرئيس شخصيا.

وتوتر الجو فى مكتب الفريق محمد فوزى , وأخذ سعد زايد يمشى جيئة وذهابا فى المكتب, وقد بلغ به الانفعال حدا يجعله يكرر عدة مرات طبقا لأقوال الفريق فوزى فى التحقيق" مفيش كتيبة دبابات معايا اشتغل بيها)".

وكان وجود الجماعة فى مقر القيادة العامة على هذه الصورة أمرا يثير الشبهات ضدهم بلا جدال, ولذا وجه إليهم الفريق صادق نصيحته بالعودة إلى منازلهم كى يهدأ أعصابهم, وكان يستهدف فى الواقع أخراجهم من مبنى وزارة الحربية, كما نصح الفريق صادق شعراوى بالسفر إلى الإسكندرية للإبتعاد عن هذا الجو وإراحة أعصابه المتعبة, وتعمد الفريق صادق أن يصحبهم إلى فناء الوزارة الخارجى حتى استقلوا سياراتهم وتركوا المبنى فى سلام. http://www.ikhwanwiki.com/skins/common/images/ar/button_link.png وأصر سامى شرف على أن يصحب شعراوى إلى منزله الكائن بشارع منيسى ب مصر الجديدة,وعند وصولهما إلى المنزل جلس سامى بالصالون يمارس أسلوبه المعهود الذى يتبعه كلما واجه أى موقف صعب, وهو الانخراط بحرقة فى البكاء, وقال ل شعراوى : إنه لا يمكنه البقاء فى الحكم من بعده وأسرع إلى التليفون حيث اتصل بالرئيس فى منزله ب الجيزة , ولما رد عليه أخبره أنه بلغ رسالته إلى شعراوى , وأنه تحت أمره, وازداد انفعال سامى واشتد بكاؤه وأخذ يردد للرئيس دون وعى" أنا مش قادر... أنا مش قادر... أنا تحت أمرك يا ريس".

وفى الثامنة والنصف مساء أعلنت إذاعة القاهرة فى مقدمة نشرة الأخبار نبأ استقالة شعراوى جمعة نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية, وأن الرئيس قبل استقالته. وعلى اثر إذاعة الاستقالة بدأ يتوافد على منزل شعراوى جمعة كثير من زملائه الوزراء, ومن أصدقائه ومعارفه, وكان فى مقدمة الذين حضروا إليه الفريق محمد فوزى , و سعد زايد وزير الإسكان, و حلمى السعيد وزير الكهرباء, و محمد فايق وزير الإعلام, الذين سرعان ما استقر رأيهم, وتم اتفاقهم مع سامى شرف , على تقدين استقالاتهم تضامنا مع زميلهم وصديقهم شعراوى .

وتوجه محمد فايق إلى مكتبه بمنبى الإذاعة والتليفزيون, ليشرف بنفسه على إعلان أنباء الاستقالات فى نشرة أخبار الساعة الحادية عشرة مساء من إذاعة القاهرة واستدعى سامى شرف وهو فى منزل شعراوى مدير مكتبه أشرف مروان زوج كريمة عبد الناصر, وسلمه استقالات الوزراء الخمسة, وطلب منه التوجه إلأى منزل الرئيس ب الجيزة لتسليمه الاستقالات على أن يتم ذلك قبل الحادية عشرة بدقائق قليلة حتى لا يتمكن الرئيس من اتخاذ أية إجراءات مضادة لمنع محطة الإذاعة من إعلان نبأ الاستقالات فى نشرة أخبار الحادية عشرة مساء.

وخلال جو الإضطراب الذى كان سائدا فى بيت شعراوى الذى أصبح مركزا لنشاط هائل, اتصل به عبد المحسن أبو النور الأمين العام للإتحاد الإشتراكى تليفونيا, واستفسر من شعراوى عن الموضوع, فشرح له حقيقة ما حدث, وأنبأه بأمر الاستقالات الخمس التى قدمها الوزراء, والتى سوف تعلن بعد قليل من إذاعة القاهرة , ورد عليه عبد المحسن أبو النور بأنه سوف يتقدم هو والدكتور لبيب شقير و باستقالاتهم كذلك, وعقب انتهاء المحادثة التليفونية اتصل شعراوى بزميله محمد فايق فى مكتبه بوزارة الإعلام, حيث أنبأ بالاستقالات الثلاث التى سوف يقدمها عبد المحسن وشقير و ضياء داود, واتصل سامى شرف تليفونيا من منزل شعراوى بسكرتيره محمد سعيد , وكلفه بالاتصال بالوزير على زين العابدين , و أحمد كامل مدير المخابرات العامة, و خالد فوزى وبعض الوزراء الآخرين لتقديم استقالاتهم, واستجاب على زين العابدين بالفعل وقد م استقالته.

وعندما أذيعت نشرة الأخبار فى الساعة الحادية عشرة مساء من محطة القاهرة استمع الشعب المصرى فى دهشة إلى أنباء الاستقالات الجماعية التى أعلنتها الإذاعة فى صدر نشرتها الإخبارية. فقد اذيع نبأ استقالة الوزراء الخمسة سامى شرف والفريق محمد فوزى وسعد زايد وحلمى السعيد ومحمد فايق وبعد قليل أذيع نبأ استقالة عبد المحسن أبو النور ولبيب شقير و ضياء داود ولم يكن هؤلاء الثلاثة قد قدموا استقالاتهم بعد, ولكن محمد فايق أمر بإذاعة النبأ معتمدا على حديث شعراوى جمعة التليفونى له. وعقب إذاعة أنباء الاستقالات طلب عبد الهادى ناصف و محمد صبرى مبدى من أعضاء اللجنة المركزية بالاتحاد الاشتراكى إذاعة نبأ استقالتيهما وقد اذيع النبأ فعلا من إذاعة صوت العرب.


كيف تم للسادات السيطرة على الموقف؟

كان الغرض من تقديم الاستقالات الجماعية وإذاعتها على الجماهير قبل أن تقدم إلى رئيس الجمهورية – كما ذكر السادات – هو أن يحدث انهيار دستورى للبلاد, وأن تخرج المظاهرات الضخمة فى صباح اليوم التالى والتى سوف يحركها الاتحاد الإشتراكى كى ترهب رئيس الجمهورية, وترغمه على التنحى عن منصبه, أى إعادة الوزراء المستقلين, وبذا تنتهى المعركة الصراع على القوة, ويحسم الوضع لصالح الجماعة التى أعلنت انشقاقها على رئيس الجمهورية.

ولكن السادات تصرف إزاء الموقف الخطير الذى يواجهه تصرفا سريعا, ففى اقل من نصف ساعة استدعى محمد عبد السلام الزيات وزير الدولة لشئون مجلس الشعب, وكان قد تعين فى هذا المنصب منذ أيام قليلة, وطلب منه التوجه فورا إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون, وممارسة عمله هناك بصفته وزيرا للإعلام, وكانت فصيلة من الحرس الجمهورى بقيادة أحد الضباط قد أرسلها اللواء الليثى ناصف قائد الحرس الجمهورى إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون المطل على النيل حيث ضربت نطاقا من حوله, وتمركز أفرادها وراء أكياس الرمل الموضوعة حول المبنى الذى أصبح له الأهمية الأولى وقتئذ بالنسبة للصراع الدائر, بعد أن أتضح أن المنشقين على الرئيس قد استخدموا محطات الإذاعة لإعلان إستقالاتهم لإثارة الجماهير.

وعندما وصل الزيات إلى مكتب وزير الإعلام فى مبنى الإذاعة والتليفزيون كان محمد فايق قد أوشك على الإنتهاء من تجميع أوراقه الخاصة, وبدأ الزيات فى ممارسة عمله فى الحال, كان الظرف دقيقا وكل كلمة تبث من الإذاعة سوف يكون لها معناها وأبعادها, وصدرت أوامر الزيات إلى المشرفين على محطات الإذاعة أن تستمر البرامج عادية وألا يطرأ عليها أى تعديل, وألا تذاع أنباء الاستقالات التى سبق إعلانها إلا بعد صدور أوامر بذلك, وكان ذلك بناء على تعليمات السادات .

وعلى الرغم من اتصال الزيات شخصيا محمد فاروق مدير إذاعة صوت العرب, وإصداره له التعليمات الواجب تنفيذها, فإن محمد عروق الذى كان عضوا بارزا فى التنظيم الطيلعى لم يكترث بتعليمات الزيات. فقام بتعديل برنامج صوت العرب بإذاعة الأغانى والأناشيد الحماسية, وفى نشرة أنباء الساعة الواحدة صباحا أذاع نبأ استقالات الوزراء الخمسة, وأعضاء اللجنة التنفيذية العليا الثلاثة, وكذا عضوى اللجنة المركزية للإتحاد الإشتراكى عبد الهادى ناصف و محمد صبرى مبدى , وعلى أثر ذلك صدرت أوامر السادات بإذاعة نبأ قبوله لهذه الاستقالات جميعا وصدر أمر الزيات بإيقاف محمد عروق عن العمل.

ورغم كل ما جرى من أحداث فى تلك الليلة. فإن الصراع لم يكن فى الإمكان حسمه إلا بعد معرفة موقف الجيش, وكان السؤال الخطير الذى يطرح نفسه:

هل سيحاول الفريق أول محمد فوزى استخدام القوات المسلحة فى هذا الصراع الرهيب بين جماعته وبين رئيس الجمهورية؟.

لقد أثبتت مجريات الأحداث فى ذلك اليوم أن الفريق محمد فوزى لم يحاول بالفعل الزج بالقوات المسلحة فى الصراع الذى كان دائرا على أشده من أجل السلطة, فلم يثبت أنه اتصل بأحد من القادة من أجل تحريك أية قوات عسكرية من ثكناتها, وكان سعد زايد يتمشى فى مكتب فوزى حائرا من أجل البحث عن مجرد كتيبة دبابات ليستخدمها, كما أن محمد فوزى ترك القيادة العامة وعاد إلى منزله.

وقد يكون ذلك التصرف بدافع من وطنية محمد فوزى وجماعته خشية حدوث حرب أهلية بين وحدات الجيش, لن يستفيد منها إلا العدو الإسرائيلى الرابض على ضفة القناة الشرقية , وقد يكون السبب هو إدراك فوزى وجماعته حقيقة مشاعر الرأى العام فى الجيش نحوهم, مما كان من المستحيل معه تجاوب أية قوات عسكرية معهم أو انقيادها لأوامرهم, فلقد أخطرهم بذلك صراحة أحمد كامل مدير المخابرات العامة مساء يوم 2 مايو 71 عقب اجتماع لجنة العمل, عندما تطرق الحديث عن إمكان استخدام القوات المسلحة لتنحية الرئيس إذا ما أقدم على حل الاتحاد الإشتراكى, فقد قال أحمد كامل ل شعراوى جمعة و سامى شرف بالحرف" إن ما ذكره عبد المحسن أبو النور فى الاجتماع يحتاج تنفيذه إلى قوة عسكرية, وأنا من تتبعى للرأى العام فى الجيش فإنه يكره جماعتكم كراهة التحريم, كما أن الفريق فوزى مكروه جدا فى الجيش والرأى السائد أن البلد يحكمها خمسة هم شعراوى جمعة و سامى شرف و محمد فوزى و عبد المحسن أبو النور و محمد فايق , وأن الغرض من إنشاء قوات الأمن المركزى هو استخدامها ضد أى حركة فى الجيش" وقد كان للموقف الوطنى الحكيم الذى وقفه الفريق محمد صادق الفضل فى استقرار الأوضاع داخل تشكيلات الجيش ووحداته, وعدم إتاحة الفرصة لأحد لإحداث أية فتنة أو بلبلة أو استغلال الفرصة للقيام بأية تحركات مضادة.

وقد ذكر الفريق صادق رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة فى ذلك اليوم أنه على اثر استماعه لأنباء الاستقالات عاد إلى مكتبه بالدور الأول بوزارة الحربية بكوبرى القبة, وأجرى اتصالا تليفونيا لأول مرة برئيس الجمهورية حيث أبلغه أن القوات المسلحة خارج هذا الصراع , وأن ولاءها للسلطة الشرعية ول مصر , فطلب منه الرئيس الحضور فورا إلى منزله لحلف اليمين كوزير للحربية, ولكنه اعتذر نظرا لضرورة وجوده فى المكتب للإشراف على بعض إجراءات التأمين, وعلى أثر ذلك اتصل صادق بقادة الأسلحة, وقادة الأفرع, والإدارات ,قادة الجيوش, والمناطق العسكرية, وطلب منهم البقاء فى أمكانهم, وعدم إطاعة أية أوامر إلا إذا كانت صادرة منه شخصيا, وكذا منع أية تحركات للوحدات بتاتا, وطلب صادق من العميد إبراهيم رفاعى قائد المجموعة 39 قتال أن يقوم بواسطة وحدات مجموعته بتأمين مبنى وزارة الحربية بكوبرى القبة, ومبنى القيادة العامى بمدينة نصر.

واتصل الرئيس السادات بالفريق صادق متسائلا عن سبب عدم حضوره إليه فأخبره أنه ما زال فى حاجة إلى بعض الوقت, فطلب منه الموافقة على تحريك جماعات من دبابات الحرس الجمهورى من معسكرها بمنشية البكرى لتأمين الحراسة حول منزله ب الجيزة , فاعتذر صادق عن عدم تلبية طلب الرئيس وأخبره أنه قد سبق أن اصدر تعليماته إلى جميع القادة بمن فيهم قادة وحدات الحرس الجمهورى بعدم إجراء أية تحركات, وأكد له أن الأمر مستتب تماما وأنه يضمن سلامته ولا حاجة لزيادة الحراسة المعتادة المخصصة لمنزله, ولم يتيسر للفريق صادق الحضور إلى منزل الرئيس إلا حوالى منصف الليل بعد أن تأكد تماما من استقرار الأوضاع, وعندما وصل صادق المنزل وجد هناك الدكتور محمود فوزى رئيس الوزراء, والدكتور عزيز صدقى وزير الصناعة, و محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام وقتئذ, واستقبل السادات الفريق صادق بالأحضان والقبلات مشيدا بجهوده وولائه للوطن, موضحا أن تدخله جاء فى الوقت المناسب لإنقاذ مصر شخصيا من كارثة محققة, وحلف صادق اليمين أمام الرئيس, وعندما ودع الحاضرين وتهيأ لركوب سيارته لحق به السادات مسرعا ليخبره بأنه تم ترقيته إلى رتبة فريق أول.

وقبل الواحدة صباحا أيقظ السادات باتصال تليفونى اللواء أحمد اسماعيل رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة السابق الذى كان محالا على التقاعد من النوم ليأمره بالتوجه إلى مبنى جهاز المخابرات العامة ليتولى رئاستها, ووصل أحمد إسماعيل إلى المبنى, وجلس على مكتب رئيس الجهاز, وفى الساعة الواحدة والنصف صباحا اتصل أحمد اسماعيل رئيس المخابرات الجديد برئيسها السابق أحمد كامل فى منزله, ليخبره بأنه قد تسلم العمل بدلا منه, وكان ذهاب أحمد إسماعيل إلى المخابرات العامة نقطة تحول خطيرة فى القضية التى قدم من أجلها أعضاء جماعة على صبرى إلى محكمة الشعب, فقد أحضر له عادل العربى وهو رئيس القسم المشرف على تسجيل المحادثات التليفونية بالمخابرات عندما علم بحضوره عددا من شرائط التسجيل لمحادثات على أبلغ جانب من الخطورة شملت فى الواقع تسجيلا كاملا لجميع المحادثات التليفونية التى دارت بين أفراد جماعة على صبرى فى مرحلة الأزمة الحادة الأخيرة التى نجمت عن إقالة على صبرى من جميع مناصبه.

كانت هذه التسجيلات فى الواقع هى دليل الإدانة الأساسى الذى اعتمدت عليه المحكمة فى إصدار أحكامها بالسجن على أفراد الجماعة, وكان سر هذه التسجيلات التى أثارت جوا من الدهشة والتساؤل أن سامى شرف كان قد اصدر أمرا سريا إلى أحمد كامل بأن يضع تحت الرقابة تليفونات على صبرى و ضياء داود و لبيب شقير و أمين هويدى , ونظرا لأن هؤلاء الأربعة كانوا محور كثير من الأحاديث التليفونية مع باقى أفراد المجموعة بمن فيهم سامى شرف نفسه, فقد تم تسجيل كل أحاديث المجموعة بالطبع, ود فع سامى شرف ثمنا غاليا لهوايته العجيبة فى إجراء التسجيلات بمناسبة وبغير مناسبة, ووجد باقى أعضاء المجموعة أنفسهم يدفعون ثمن حماقة زميلهم الذى ألقى بنفسه وبهم إلى الهلاك وقبل انبلاج الفجر تحركت مفارز من الحرس الجمهورى فى عربات جيب مسلحة بالرشاشات, حيث أحاطت بمنازل أفراد الجماعة وأبلغوهم أن إقامتهم محددة فى منازلهم, وفى مساءا الأحد 16 مايو أصدر السادات أوامره بالقبض عليهم جميعا, وإيداعهم فى السجن رهن المحاكمة, وكانت خاتمة أحداث تلك الليلة التى لم تشهد لها مصر مثيلا منذ سنوات طويلة هى تكليف الدكتور محمود فوزى بإعادة تشكيل وزارة الأحداث ما يلى:" فى نفس الليلة أجريت تعديلا وزاريا, وأعيد تشكيل الوزارة , ولم يحدث أى أنهيار دستورى مما كانوا يحلمون به, بل على العكس خرج الناس إلى الشوارع, وهم يهللون فرحين بما تم, لا يعرفون ماذا يفعلون فقد كانت الفرحة أكبر من أن تحتويها صدورهم.. وهكذا تخلصت مصر من كابوس مركز القوة الأساسى الذى شل حركتها سنوات طويلة.. وأمرت بحرق جميع شرائط التسجيل الموجودة فى وزارة الداخلية, وكان هذا رمزا لإعادة الحرية إلى الناس, وأمرت على الفور بإغلاق جميع المعتقلات وتحريم الاعتقال".

نظرا للأهمية البالغة للموضوع الذى سوف نتناوله بالدراسة فى هذا المقال.

فإننا نود أن نؤكد للقراء بادىء ذى بدء عدة حقائق أساسية, أولا : أن هذه الدراسة لا تستهدف منها إلا التسجيل الصحيح للتاريخ, لأن تاريخ مصر ملك لها وليس ملكا لأحد مهما بلغ شأنه أو علا مركزه, ثانيا : أننا فى هذا البحث لا نحابى أو ننحاز لأى طرف من أطراف الصراع خلال تلك الفترة الحرجة من تاريخ مصر , فإن موقفنا هو مجرد تاريخ الأحداث لهذا الموضوع هى دراسة وثائقية نعتمد فيها على الوثائق والمستندات وليس على الاجتهاد أو الإستنتاج.

لقد كان الصراع فى 15 مايو صراع على السلطة ,لم يكن القضايا التى فجرت هذا الصراع قضايا حقيقية تستدعى كل هذا الصدام الذى وقع, بل كانت بمثابة الذرائع التى تعلل بها كل فريق لتتم له تصفية الفريق الآخر, ولقد استطاع الرئيس الراحل السادات بفضل استخدامه لسلاحى الشرعية الدستورية والمبادأة, أن يكسب المعركة وأن يلقى بأعدائه فى غيابه السجن, ولو كان قد خسر المعركة أمامهم لكان قد لاقى بلا شك نفس المصير, إن الصراع على السلطة أمر عرفته البشرية منذ أقدم الحقب والعصور, وقل أن يخلو تاريخ دولة من الدول من أنواع مختلفة وأشكال متباينة منه عبر مراحل تاريخها الطويل, ولكن الأمر الذى يؤسف له حقا أن يتبادل طرفا الصراع فى مصر فى 15 مايو 71 هذه الاتهامات الخطيرة التى تشين السمعة والشرف, وأن تصل الخصومة بينهما إلى حد أن يتهم كل منهما الطرف الآخر بالعمالة والخيانة لدولة أجنبية.

إن السادات سواء فى خطبه بعد 15 مايو 71 أو فى كتابه البحث عن الذات الصادر عام 77 وصف أفراد جماعة على صبرى المناوئين له بأنهم كانوا خونة وعملاء للإتحاد السوفيتى, كما أن بعض أفراد هذه الجماعة عللوا فى مناسبات مختلفة له أن سر مواجهتهم للسادات أنه قد انحرف عن الخط الناصرى وعن الإشتراكية وأنه" باع البلد للأمريكان". والحقيقة أن الأمر بالنسبة للطرفين وقتئذ لم تكن فيه شبهة خيانة او عماله, وأن العملية لم تكن إلا اختلافا فى وجهات النظر بشأن الوسيلة التى يمكن بها حل مشكلة الأراضى العربية التى احتلتها إسرائيل فى حرب يونيو 67 .

فقد كان أفراد جماعة على صبرى يعتقدون انه لا فائدة ترجى من الحل السلمى, وأنه لا مناص من الحرب مع إسرائيل , وأنه لا يمكن الثقة بأمريكا بسبب انحيازها التام ل إسرائيل , ومن أجل ذلك كانوا يرون ضرورة استمرار السياسة التى رسمها عبد الناصر , وهى الاعتماد التام على الاتحاد السوفيتى, الذى هو المورد الوحيد ل مصر فى السلاح حتى يتم للقوات المسلحة خوض غمار المعركة واسترداد الكرامة الضائعة والأرض السليبة. ولكن السادات كانت له سياسة أخرى, فقد كان يرى أن من الخطأ الاستمرار فى معاداة أمريكا , والإكتفاء بالسير فى الفلك السوفيتى, فلقد أثبت الاتحاد السوفيتى عجزه عن حل القضية سلميا, أو فرض تدخله لحلها عسكريا, ولقد وضح بجلاء أن سياسته فى تسليح مصر منذ الهزيمة يونيو 67 قائمة على تحقيق قدرتها الدفاعية فقط,مما يعنى عدم إمكان مصر بالقيام بهجوم ضد إسرائيل فى المستقبل, وقد كان السادات مقتنعا بأن الاتحاد السوفيتى يماطل فى إرسال الأسلحة والمعدات رغم الاتفاقيات المعقودة, ويتذرع بمختلف الحجج والمبررات لتعطيلها... ومن أجل تنفيذ سياسته الجديدة نحو أمريكا التى كان اعتقاده أنها تملك 99% من أوراق اللعب, أعلن السادات مبادرته للسلام فى 4 فبراير 71, وبذل كافة جهوده لتحقيق اتصالات وثيقة بالدوائر المسئولة فى واشنطن عبر القنوات الدبلوماسية الظاهرة, ومن خلال قنوات الاتصال السرية. إلا أن آماله ما لبثت فى أوائل عام 73 أن انهارت من ناحية إمكان الوصول إلى تسوية سلمية عن طريق أمريكا, فعاد تفكيره مرة أخرى صوب الحل العسكرى باعتباره الأمل الوحيد لتحريك الموقف وتحرير الأرض, وعاد يحسن علاقاته من جديد مع الاتحاد السوفيتى بعد الجفوة التى حدثت بينهما نتيجة لقراره فى يوليو 72 بطرد الخبراء والمستشارين السوفيت من مصر , وقد أدت جهوده المثمرة إلى عقد صفقات ضخمة للسلاح بادر الاتحاد السوفيتى بإرسالها إلى مصر خلال عام 73 مما أمكن معه قيام حرب أكتوبر المجيدة. من هذا التحليل الموجز يمكن الحكم بسهولة أن كلا من الطرفين كان لديه من ألسباب المنطقية ما يبرر له المضى فى السياسة التى اعتنقها, والتى كان يرى أن فيها الحل الأمثل للمشكلة, وليس من الجائز عقلا ولا منطقا اتهام أى مصرى كان يؤمن بأى واحدة من هاتين السياستين بأنه خائن أو عميل.

إن انهيار الاتحاد العربى الذى أقيم مع ليبيا و سوريا والذى كان السبب المباشر لانفجار الموقف بين السادات الذى كان مؤيدا للإتحاد وبين خصومه الذين كانوا يعارضونه, لهو دليل واضح على أن القضايا التى أثارها السادات ضد الجماعة المناوئة له لم تكن قضايا عادلة. فلقد أثبتت الوقائع أنهم كانوا على حق فيها, ولم تكن إثارتها بهذه الطريقة من جانب السادات إلا مجرد ذرائع لتصفيتهم والتخلص منهم تمهيدا للإنفراد بالسلطة.

وكانت القضية الكبرى التى أثارت الأزمة وفجرت الصراع هى قضية الاتحاد العربى الثلاثى بين مصر و سوريا و ليبيا . فعلى اثر توقيع اتفاقية بنغازى فى 17 أبريل 71 أعلن على صبرى للسادات أثناء وجودهما فى بنغازى معارضته لهذا الاتفاق فطلب منه تأجيل لحين العودة إلى مصر .

وعلى اثر وصول السادات إلى القاهرة تقرر عقد اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للإتحاد الإشتراكى يوم الأربعاء 12 أبريل . وقد اثبت على صبرى قبل الاجتماع براعته فى التدبير, ففى حين ظل السادات عقب عودته جامدا لا يتحرك استطاع على صبرى إقناع ثلاثة من زملائه من أعضاء اللجنة التنفيذية بوجهة نظره, وتم للثلاثة عقد اجتماع مشترك يوم 20 أبريل وهم عبد المحسن أبو النور و لبيب شقير و ضياء داود بمكتب عبد المحسن بالاتحاد الاشتراكى, واتفقوا على معارضة المشروع وتأييد على صبرى فى موقفه, وبهذا التدبير دخل على صبرى اجتماع اللجنة التنفيذية العليا, وهو واثق من أن الأغلبية ستكون فى صفة . وفى يوم 21 أبريل جرى اجتماع اللجنة التنفيذية العليا باستراحة الرئيس بالقناطر الخيرية وحضره سبعة أعضاء من اللجنة وتغيب عن حضور الاجتماع الدكتور رمزى استينو العضو الثامن باللجنة لوجوده فى زيارة فى بلغاريا, وحضره شعراوى جمعة بصفته أمينا للتنظيم, وخلال الاجتماع شن على صبرى هجوما عنيفا على السادات من حيث الأسلوب الذى يتبعه فى عدم استشارة أحد,

ومن حيث الموضوع لعدم موافقته على اشتراك مصر فى هذا الاتحاد وإزاء انفعال على صبرى رأى السادات الاحتكام إلى الأعضاء.

وكانت نتيجة التصويت 4ضد3 لصالح على صبرى , إذ انضم إليه عبد المحسن أبو النور و لبيب شقير و ضياء داود بينما لم يؤيد السادات سوى حسين الشافعى والدكتور محمود فوزى , وعندما طلب السادات من شعراوى إبداء رأيه أجابه بأن ليس له حق التصويت لأنه ليس عضوا فى اللجنة,وعندما أصر على الاستماع إلى رأيه رد شعراوى بأنه يؤيد رأى على صبرى , وعندما أدرك السادات أنه قد خسر الجولة قرر إحالة الأمر إلى اللجنة المركزية وتحدد يوم 25 أبريل 71 موعدا لانعقادها.

وخلال الأيام الثلاثة التى كانت تفضل بين اجتماع اللجنتين العليا والمركزية حدثت أمور على ابلغ جانب من الخطورة. فمن ناحية السادات كان عزمه قد استقر على ضرورة تنحية على صبرى , وكما ذكر السادات فى كتابه البحث عن الذات استدعى السفير السوفيتى فينو جرادف لمقابلته وقال له:" أنا حريص على العلاقات معكم ولكننى أرجو أن تبلغ القيادة السوفيتية أننى قررت تصفية على صبرى من القيادة السياسية, وقد أخبرتك بهذا الأمر رغم أنه من تصفية رجل موسكو الأول فى مصر وأرجو أن تعلموا أنكم تتعاملون مع الحكومة لا مع أفراد".

أما من ناحية على صبرى فقد رسم مع أعضاء اللجنة التنفيذية العليا الذين شاركوه فى المعارضة خطة منظمة لحمل اللجنة المركزية على عدم التصويت على القرار والموافقة على الاقتراح الذى سيقدم لتأجيل الاجتماع للدراسة وتكوين لجنة فرعية لإعداد اقتراحاتها بالتعديلات المطلوبة.

وخلال هذه الأيام الثلاثة نشطت اتصالات هؤلاء الأعضاء من اللجنة العليا لإقناع أكبر عدد ممكن من أعضاء اللجنة المركزية بتنفيذ الخطة المرسومة وصدرت فى اللجنة المركزية من أجل تأييد التأجيل – وحرصا على أن تسير الأمور فى هدوء فى اللجنة المركزية وتجنبا من حدوث" فرقعة" كما ذكر فى التحقيق تم الاتفاق على أن يلتزم على صبرى الصمت ولا يتدخل بتاتا فى المناقشات حتى يبدو ا، التأجيل نابع من داخل اللجنة المركزية نفسها ولكن الأمور لم تمض كما كان مقدرا لها, فقبل اجتماع اللجنة المركزية مباشرة أبلغ عبد المحسن أبو النور على صبرى بأن السادات قد قرر إقالته وقال بالحرف وفقا لما ورد فى التحقيق" خش جامد من الأول بلا تأجيل بلا غيرة" وكان نبأ اعتزام السادات إقالة على صبرى قد تسرب بوسيلة خاصى من السفارة السوفيتية إلى سامى شعراوى جمعة وأخطر سامى شرف بذلك عبد المحسن أبو النور الذى لم يتردد فى نقل النبأ إلى على صبرى بالصورة التى ذكرناها من قبل, مما أثار ثائرة على صبرى وغير خطته من التزام الصمت إلى المبادرة بالهجوم وإثارة اللجنة المركزية ضد السادات .

وعندما اجتمعت اللجنة المركزية يوم 25أبريل مضى على صبرى , بعد أن أعطيت له الكلمة يشرح لأعضاء اللجنة اسرار اجتماعات بنغازى, ولما قاطعه السادات قائلا: إن هذا الكلام جرى بين رؤساء دول ولا يجوز الكشف عنه طالبته أغلبية الأعضاء بالاستمرار فى الكلام.

وبعد فترة من الوقت اعترض أحمد درويش عضو اللجنة المركزية على أساس خروج على صبرى عن الموضوع وقد اقتراحه للتصويت, وكانت مفاجأة مذهلة للسادات إذ لم يؤيد الاقتراح بإيقاف على صبرى عن الكلام سوى أربعة فقط هم سيد مرعى و حسنين هيكل و محمد الدكرورى و أحمد درويش , بينما وقف فى صف استمراره فى حديثه حوالى 146 عضوا.

وواصل على صبرى كلامه الذى كان يستمع إليه الأعضاء فى شغف شديد ورفعت الجلسة للإستراحة لمدة نصف الساعة, وتوجه السادات وأعضاء اللجنة التنفيذية العليا إلى مكتب عبد المحسن أبو النور , وذهب معهم محمود رياض و سامى شرف و شعراوى جمعة و حسنين هيكل , وحاول شعراوى إصلاح الأمر بين السادات و على صبرى, ولكن السادات كانت نيته مبيتة من قبل على إقالته بدليل حديثه مع السفير السوفيتى, ولذا رفض محاولات شعراوى وقال له:" أنا بينى الآن وبين على صبرى موقف" واستؤنف الاجتماع فى جو شديد التوتر ولكنه انتهى وفقا للخطة المرسومة, وهى الموافقة على تأجيل الاجتماع وتشكيل لجنة فرعية لبحث التعديلات المقترحة على الاتفاق. وفى أعقاب الاجتماع تشكلت اللجنة برئاسة عبد المحسن أبو النور , وبعضوية بعض رجال القانون وبعد أن استقر الرأى على التعديلات سافر سامى شرف والدكتور حافظ غانم إلى ليبيا و سوريا وعاد إلى مصر بعد موافقة الدولتين على التعديلات.

وتدل التعديلات البسيطة التى أدخلت على نصوص الاتفاق الأصلية على أن الزوبعة العاتية التى حدثت فى كل من اللجنتين التنفيذية والمركزية لم يكن لها ما يبررها, وهذا يقودنا إلى التأكيد بأن معارضة اتفاقية الاتحاد بكل هذا العنف والعناد لم تكن إلا ذريعة تعلل بها على صبرى والجماعة الثلاثية من أجل إبراز عضلاتهم واستعراض قوتهم أمام السادات لإرهابه ومحاولة ترويعه, أى أنها لم تكن إلا لحلقة من ضمن حلقات الصراع على السلطة.

لم يرد فى أوراق التحقيق مع على صبرى وأفراد الجماعة الثلاثية ذكر لموضوعات يمكن أن تثير ضدهم الشك فى أنهم كانوا يدبرون الأمر لانقلاب عسكرى سوى واقعتين أساسيتين:

الواقعة الأولى:" فوزى حيكون جاهز " ترددت فى الأحاديث التليفونية المسجلة لأفراد الجماعة قبل اجتماع اللجنة المركزية يوم 25 أبريل وبعدها مباشرة هذه العبارة التى تتعلق بالفريق فوزى, ففى حديث دار بين شعراوى جمعه و على صبرى يوم 24 أبريل ( اليوم السابق على اجتماع اللجنة) بشأن معارضة الاتفاقية وتأجيل نظرها أمام اللجنة المركزية, قال شعراوى :" إيه رأى سيادتك نتحرك يافندم من بكره" ورد على صبرى " إحنا حناخد قرار التأجيل فى اللجنة المركزية لغاية فوزى ما يكون جاهز" واستطرد شعراوى قائلا: " فوزى حيكون جاهز, أنا مالى إيدى من النقطة دى, إحنا حنتحرك تنظيميا على هذا الأساس".

وفى نفس اليوم 24 أبريل قال على صبرى ل محمد فايق :" أنا اتكلمت مع شعراوى و عبد المحسن أبو النور على التأجيل والتأجيل البسيط ده يحتم موضوع فوزى,ورد عليه فايق موافقا" المهم أن يتم موضوع فوزى قبل الاجتماع الثانى".

وفى حديث دار بين على صبرى و شعراوى جمعة يوم 25 أبريل ( بعد اجتماع اللجنة المركزية) قال شعراوى :" السادات لا يجرؤ أن يمسك بشىء يبقى حرق الدنيا, لذلك أنا عاوز سيادتك تنسى الموضوع اللى قاله لك عبد المحسن " وقال لشعراوى معلقا على مسلك أعضاء اللجنة المركزية الموالى تماما لموقف على صبرى :" اللجنة المركزية مشيت تمام اللجنة فى الحقيقة بتاعتنا يعنى نقدر نعمل صحيح كما نشاء".

ورغم أن الاتهام اعتبر عبارة فوزى"حيكون جاهز" عنصر اتهام وأدانه بالتآمر, إلا إن شعراوى جمعة ذكر أنه فى حديثه مع على صبرى وهو يعلم أن تليفونه تحت الرقابة إنما كان يستهدف من ذلك معرفة حقيقة نواياه وخططه وأنها كانت وسيلة استخدمها لكى" يسرح به" لاستدراجه إلى الكلام, وعلل شعراوى عبارة أن فوزى" حيكون جاهز" بأن المقصود بها أنه سيكون جاهزا للمعركة, وكان هناك موعد ابتدائي للمعركة هو يوم 26 إبريل 71 وكان شعراوى يرى أن المعركة بمجرد أن تبدأ سوف تغطى على كل خلافات داخلية.

وكان من أهم الموضوعات التى تحدث فيها شعراوى فى لجنة موضوع جدل الاتحاد الاشتراكى, وإعادة انتخابه من القاعدة إلى القمة, لإيجاد لجنة تنفيذية جديدة وتمهيدا لتشكيل وزارة جديدة, وقد أيد الحاضرون شعراوى جمعة فى رفضه فكرة حل الاتحاد الاشتراكى, وتكلم عبد المحسن فى الاجتماع فقال: إنه من الضرورى مواجهة الرئيس لكى يعدل عن قراره, وأن أمامهم بعد ذلك حلين إما أن يقدموا استقالاتهم وإما أن يقولوا له" قوم معانا". وقد قرر أحمد كامل مدير المخابرات العامة وعضو لجنة العمل فى التحقيق أنه بعد انتهاء اللجنة واستمرار للحديث الذى كان دائرا خلال الاجتماع بشأن حل الاتحاد الاشتراكى, وما ذكره عبد المحسن أبو النور , تحدث مع شعراوى جمعة و سامى شرف قائلا:" إن ما قاله عبد المحسن يحتاج تنفيذه إلى قوة عسكرية وأنا من تتبعى الرأى العام فى الجيش فإنه يكرهكم كراهة التحريم, كما أن الفريق فوزى مكروه جدا فى الجيش" وذكر أحمد كامل أنه قال لهما بعد ذلك:" لازم تلاحظوا أن السادات حصل على شعبية كبيرة جدا, وليس من البساطة القيام بعملية مثل التى يتصورها عبد المحسن ".

وذكر أحمد كامل فى التحقيق أنه بمجرد أن ذكر هذا الكلام رد شعراوى قائلا:" طيب نفكر فى الأسلوب, ويمكن أن نخلى الجيش يعمل العملية ونعمل مجلس رئاسة يضم بعض أعضاء اللجنة التنفيذية العليا, ويرأسه واحد من العسكريين وليكن محمد فوزى ".

ورغم أن سامى شرف قد أيد أحمد كامل فى أقواله, فإن شعراوى أنكر الحديث قدر صدر منه, وصمم على أنه قد صدر من أحمد كامل , وهكذا اتهم كل من شعراوى و أحمد كامل الآخر بأنه هو الذى عرض اقتراح تشكيل مجلس رئاسة. ولكن شعراوى اعترف أنه على أثر هذا الحديث وأثناء عودته مع سامى شرف فى سيارته قال له: إن تشكيل مجلس رئاسة محمد فوزى فكرة جديدة, ولكن إحنا متفقين كلنا نبعد القوات المسلحة عن هذا. وعندما سئل شعراوى فى التحقيق عن مفهوم الكلام الذى نسبه إلى أحمد كامل اعترف بأنه لا يعنى سوى عمل انقلاب عسكرى.

ومما يثير الدهشة أن الفريق أول فوزى قرر فى التحقيق أن شعراوى جمعة سأله عن إمكانية استخدام القوات المسلحة فى عمل انقلاب عسكرى. ولعل أخطر ما أثير عن الموضوع ما رواه الفريق صادق, فقد ذكر أن فوزى وجماعته كانوا يحاولون استمالته لصفهم, وكلما طعنوا فى السادات لم يكن يعلق على كلامهم, وكلنا كشفوا أوراقهم وخططهم لاقتلاعه لم يكن يبدى أمامهم أية معارضة, فاستنتجوا أنه راض وموافق على خططهم, وساعدهم على الوصول إلى هذه النتيجة تجنب السادات لصادق وعدم اتصاله به. وكان الفريق صادق وقتئذ يتولى منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة, وفى مساء يوم 21 أبريل 71 حدثت للفريق صادق مفاجأة أذهلته فقد استدعاه الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة إلى مكتبه فى الدور العلوى من الوزارة فى كوبرى القبة, وكان فاقدا لأعصابه, وأخذ يسب السادات سبا مقذعا متهما إياه بكل التهم, وخلص إلى أن الأمر لا يمكن أن يستمر هكذا, وسحب ورقة وبدأ يكتب أمرا واضحا باتخاذ مجموعة من الإجراءات للسيطرة على القوات المسلحة, وإعدادها لاقتلاع رئيس الجمهورية –( يلاحظ أن هذا اللقاء تم بعد انتهاء اجتماع اللجنة التنفيذية العليا فى القناطر الخيرية فى الصباح الذى اشتد فيه الخلاف بين السادات وعلى صبرى بشأن موضوع الاتحاد) وذكر الفريق صادق أنه وفقا للأمر الصادر فى هذه الورقة, فإن القائد العام يأمره كرئيس للأركان أن يبدأ من اليوم 22 أبريل 71 فى وضع خطة لتمركزه قوة ضخمة لأحكام السيطرة على القاهرة, وكانت هذه القوة تتشكل من الفرقة السادسة المشاة الميكانيكية واللواء رقم 25 المدرع المستقل, وهى قوة تضم لواءي مشاة ميكانيكية ولواءى مدرعات ( 200 دبابة)

وذكر صادق أن الفريق فوزى لم ينس نص على تجهيز المخابرات الحربية والشرطة العسكرية لتنفيذ كل أوامر الاعتقال المنتظر صدورها, كما نص الأمر على عمل نظام سرى للاتصال والسيطرة وتحديد أماكن للتجمع, وكان واضحا من صيغة الأمر أنه ينبغى على الفريق صادق وضع خطة للإستيلاء على الإذاعة ومداخل القاهرة بهذه القوات, كما تقوم إدارة الحرب الالكترونية بالتشويش على أجهزة الاسكلى بالسفارات لمنعها من نقل أخبار التحركات العسكرية ب القاهرة إلى الخارج.

واعترف الفريق صادق بأن الفريق فوزى بهذا الأمر الذى سلمه له قد أمرع كرئيس للأركان بالتخطيط لانقلاب عسكرى للإستيلاء على السلطة لصالحه وصالح جماعته, وكتب هذا الأمر بخط يده, كما دون بخط يده أيضا أن مصدر هذه الأوامر والتعليمات ثلاثة هم فوزى و شعراوى و سامى شرف . وقد ذكر صادق أنه قرأ الورقة وبذل أقصى جهده للسيطرة على أعصابه ومشاعره فقد كان فى الورقة ما يكفى أية محكمة لتحكم بالإعدام على فوزى وزميليه شعراوى و سامى, وكانت المرة الأولى التى يشرك فيها القائد العام أفرادا مدنيين فى إصدار أمر لرئيس الأركان, لقد كان ما كتبه فوزى حسب ما قال صادق هو الإعداد لانقلاب عسكرى بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان, وكان المقصود هو الإطاحة برئيس الجمهورية, وقد ذكر محمد صادق أنه لم يقدم الوثيقة التى أعطاها له محمد فوزى بخط يده, وبخاصة بعد أن تم القبض على فوزى وزملائه, وتقرر مقدمتهم للمحاكمة, وآثر أن يحتفظ بها لإدراكه أنها وثيقة إدانة بالغة الخطورة, قد تؤدى إلى إعدام بعضهم, وتشديد العقوبة على البعض الآخر, وكان صادق يكره كما ذكر أن يقوم السادات بتصفية دموية لأعدائه.

ولقد قام الفريق أول محمد فوزى بالرد على هذه الواقعة التى رواها الفريق صادق, وكان رده الذى استخلصنا منه ما يتعلق بموضوع الورقة التى حررها بخط يده يرتكز على ثلاث نقاط رئيسية: أولا أن مثل هذه الورقة تعتبر روتينا يبين واجب القوات المسلحة فى تأمين القاهرة وحمايتها فى مناسبات مختلفة بصفة دورية, وبخاصة أن القوات المسلحة كانت مقدمة على تنفيذ الخطة جرانيت: وهى عبور قناة السويس والسيطرة على المضايق.

ثانيا: أن أسلوب عملية التأمين القاهرة يتم بالاشتراك مع أجهزة أخرى منها الداخلية ورئاسة الجمهورية, وهو أسلوب متبع منذ قيام الثورة, وأن دور القوات المسلحة مقصور على الاستعداد والتجهيز للتدخل إذا اقتضى الأمر . ومن هنا جاء التنويه فى الورقة بذكر أسماء المسئولين باختصار ( فوزى – شعراوى – سامى) بوصفهم المسئولين عن هذه الأجهزة.

ثالثا: نفى الفريق أول فوزى ما ذكره محمد صادق من أنه حجب الورقة المذكورة عن هيئة المحكمة فقد ثبت له على حسب قوله انه قدمها فعلا للمحققين وهيئة المحكمة, بدليل ما جاء فى الإدعاء الثالث المقام عليه والذى لم تأخذ به المحكمة, وتساءل الفريق فوزى متعجبا: هل من المعقول أن يدبر انقلابا عسكريا, ويسلم الدليل المكتوب بخط يده إلى الفريق صادق؟ وكيف يدبر مثل هذا الانقلاب ثم يترك قيادته ومنصبه ويقدم استقالته فى 13 مايو 71 ؟ انتهى رد الفريق فوزى.

ونظرا لأن الاتهام الذى وجهه الفريق صادق إلى الفريق فوزى يعتمد فى جوهره على الورقة التى أعطاها له فوزى والمحررة بخط يده والتى لم تكن تعنى من وجهة نظره سوى الإعداد الكامل لانقلاب عسكرى, كما أن تبرير الفريق فوزى كتابته لهذه الورقة يقوم أساسا على أن الأوامر الورادة بها هى مجرد تعليمات روتينية عادية لتأمين القاهرة وأسلوب متبع منذ بدء الثورة – لذلك رأينا من الأفضل قبل أن نقدم على إجراء أى بحث موضوعى لحسم هذه القضية الخطيرة التى فجرها علانية أكبر قائدين فى القوات المسلحة فى ذلك الوقت من ناحية الرتبة والمنصب, وهما وزير الحربية والقائد العام من جانب ورئيس أركان حرب القوات المسلحة من جانب آخر – أن نتبع أسلوب البحث العلمى السليم والمنهاج التاريخى الصحيح, وهو أن نعود أولا إلى إجراءات محاكمة الفريق أول محمد فوزى فى النصف الثانى من عام 71 كى يتم لنا الاطلاع على أهم ما ورد فى التحقيقات التى كان يتولاها وقتئذ المدعى العام الاشتراكى, سواء فيما يختص به أو ببعض زملائه المشتركين معه فى بعض القضايا التى مثلوا من أجلها أمام الدائرة الأولى لمحكمة الثورة ثم ننتقل بعد ذلك إلى تقديم الفريق فوزى إلى المحاكمة أمام الدائرة الثانية لمحكمة الثورة التى شكلت خصيصا لمحاكمته, والتى بدأت جلساتها منذ 25 أكتوبر 71 , ليتسنى لنا دراسة الادعاءات الثلاثة المقامة عليه, ولكى نتتبع أهم ما ورد فى مرافعة المدعى العام الاشتراكى أما م المحكمة فيما يتعلق بالوقائع والاتهامات المنسوبة لنا .

وأخيرا منطوق الحكم الذى أصدرته المحكمة على الفريق فوزى فى 10 ديسمبر 71 لتتم لنا معرفة المواد القانونية التى استندت عليها المحكمة فى إصدار حكمها, سواء التى فى قانون العقويات أو فى قانون الأحكام العسكرية. وليتيسر لنا أن نطلع على الحيثيات التى دونتها المحكمة والخاصة بالحكم الذى أصدرته, ونأمل أن نتمكن من إعطاء القراء فكرة موجزة واضحة عن أهم ما دار خلال هذه المحاكمة الفريدة من نوعها. إذ إنها أول مرة فى تاريخ القوات المسلحة المصرية يقدم فيها قائدها العام للمحاكمة بتهم ضد نظام الدولة . ومن خلال وقائع المحاكمة التى سنواصل نشرها تباعا, وعلى ضوء الحقائق التى ستكشف لنا أمامنا يمكن لنا إجراء بحثنا الموضوعى بشأن الورقة التى قدمها الفريق صادق, على أسس سليمة وبمعيار علمى صحيح, بحيث يمكن لنا التوصل فى النهاية إلى نتيجة عادلة تتفق مع العقل والمنطق, وتتمشى مع الوقائع والحداث التى جرت, ويستريح لها ضمير كل منصف وكل باحث عن الحقيقة هذا وسوف ننشر صورة الوثيقة التى حررها الفريق فوزى بخط يده فى المقال الذى سوف نخصصه للبحث الموضوعى المتعلق بها.


التهمة الأولى: محاولة قلب نظام الحكم

فى 15 أغسطس أصدر الرئيس الراحل السادات قرارا جمهوريا رقم 1929 بتشكيل الدائرة الثانية لمحكمة الثورة من اللواء عبد القادر أحمد حسن نائب وزير الحربية رئيسا, واللواء محمد عوض الأحول مدير القضاء العسكرى والعميد بحرى أحمد عبد الرءوف جمال الدين بالقضاء العسكرى البحرى عضوين, على أن يمثل الدكتور مصطفى أبو زيد فهمى سلطة التحقيق والإدعاء ويعاونه فى ذلك عميد أمين الجندى ومقدم مختار حسين شعبان , وعلى أن تسرى بالنسبة للدائرة الثانية الأحكام والقرارات الخاصة بالدائرة الأولى, هذا وقد اصطبغ تشكيل الدائرة لمحكمة الثورة بهذه الصبغة العسكرية نظرا لأنها كانت مخصصة فقط لمحاكمة الفريق محمد فوزى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة السابق. أما الدائرة الأولى التى مثل أمامها جميعا المتهمين الآخرين وعددهم 90 متهما, فقد كانت مشكلة وفقا للقرار الجمهورى من حافظ بدوى رئيس مجلس الشعب رئيسا و بدوى حمودة رئيس المحكمة العليا و حسن التهامى مستشار رئيس الجمهورية عضوين, مثل الادعاء أيضا مصطفى أبو زيد فهمى المدعى الاشتراكى.

وقد بدأت الدائرة الثانية لمحكمة الثورة فى إجراءات محاكمة الفريق أول محمد فوزى عقب انتهاء الدائرة الأولى من محاكمة المتهمين أمامها, وكان ذلك يوم الاثنين 25 أكتوبر 71 بمنبى الحكومة المركزية ب مصر الجديدة. وقد أحضر المتهم من سجن القلعة, وأدخل فى قفص الاتهام فى الساعة التاسعة وأربعين دقيقة وبدأت الجلسة الأولى من جلسات المحاكمة فى العاشرة والنصف صباحا وحضر الدفاع عن المتهم اللواء على منير مراد المحامى.

وبعد أن أقسم رئيس وعضوا المحكمة اليمين على نسخة من القرآن الكريم بأن يحكموا بالعدل وأن يحترموا القانون. وقف العميد أمين الجندى عضو هيئة الادعاء وقرأ نص قرار الاتهام الموجه إلى الفريق أول متقاعد محمد فوزى أمين فوزى وكان القرار يضم ثلاث تهم:

أولا – قام هو والمتهمون ( شعراوى جمعة و عبد الرءوف سامى شرف وثمانية آخرون) بمحاولة قلب وتغيير دستور الدولة ونظامها الجمهورى وشكل الحكومة بالقوة , وبذلك يكون قد ارتكب الجناية المنصوص عليها فى المادة 87 من قانون العقوبات والمادة 138 أ من قانون الأحكام العسكرية.

ثانيا- أتى أفعالا ترمى إلى الخروج عن طاعة رئيس الجمهورية, وإلى مناهضة السياسة العامة التى تتبعها الدولة فى المجالين الداخلى والخارجى, وبذلك يكون قد ارتكب الجناية المنصوص عليها فى المادة 99 من قانون العقوبات والمادة138 أ من قانون الأحكام العسكرية ....

ثالثا- اشترك فى اتفاق جنائى الغرض منه ارتكاب الجرائم سالفة البيان, واتخاذها لوسيلة للوصول إلى الغرض المقصود من الاتفاق, وهو الإطاحة برئيس الجمهورية واللجنة المركزية, وبذلك يكون قد ارتكب الجناية المنصوص عليها فى المادة 96 من قانون العقوبات والمادة 138 أ من قانون الأحكام العسكرية.

التهمة الأولى – استند المدعى العام الاشتراكى فى تكييف التهمة الأولى وهى محاولة قلب نظام الحكم بالقوة إلى ثلاث وقائع أساسية:

الواقعة الأولى: جمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى 18 أبريل 71 وعمد إلى إثارة موضوع اتفاقية الاتحاد الثلاثى للجمهوريات العربية الثلاث وهاجم هذه الاتفاقية بعد أن كان قد تم إبرامها بواسطة السادة رؤساء الجمهوريات الثلاثة.

وحرض القادة القوات المسلحة الحاضرين فى هذا الاجتماع على مناهضتها, على الخروج عن طاعة رئيس الجمهورية, وعلى مناهضة السياسة التى تتبعها الدولة فى المجال الخارجى, وقد ورد فى مرافعة المدعى العام الاشتراكى شرح واف لهذه الواقعة, فذكر أن الفريق فوزى حاول أن يثير خلال الاجتماع كبار القادة ضد رئيس الجمهورية, ويدفعهم إلى الخروج عن طاعته, وقد أجمع الشهود فى التحقيق, وكلهم من كبار القادة على أن أهداف المتهم كانت واضحة كل الوضوح. فقد شهد القادة بأن المتهم قد فاجأ المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى اجتماع 18 أبريل , وعرض عليه موضوع اتحاد الجمهوريات العربية دون أن يكون مدرجا بجدول أعمال المجلس, وبدأ فوزى يتكلم ويعرض الموضوع الذى أضيف فجأة وبدأ كأنه يستطلع رأى المجلس فيه. ولكن القادة أحسوا على الفور أنه أمر غير مألوف أن يعرض موضوع سياسى على المجلس, وأدركوا على الفور أن فوزى يتكلم بطريقة إيحائية, وأنه يقصد تحريض الأعضاء ودفعهم إلى الوقوف ضد مشروع الاتفاقية, فيأخذ من هذا الرفض حجة قوية تدعم المخطط المنحرف للمجموعة التى قبل أن يصبح أحد أعضائها البارزين, ولم يقف فوزى عند حد التحريض ولكنه تعمد إثارة القادة ضد الرئيس بطريقة خبيثة فقال لهم: إنه قد علم بمشروع هذه الاتفاقية من الصحف" زى حضراتكم بالضبط" فكأنه كان يريد أن يدفع إلى صدروهم الحقد على الرئيس الذى جعله وجعلهم يعلمون بالأمور الهامة من الصحف, ومن الغريب أن فوزى كان أحد ثلاثة يعلمون بمشروع الاتحاد منذ البدء فيه.

وأدرك القادة ذلك , فهذه هى المرة الأولى التى يعرض فيها موضوع سياسى على هذا النحو على المجلس الأعلى, ولذلك فقد كان من السهل عليهم أن يدركوا أن فوزى يدفع بهم إلى الخروج عن طاعة رئيس الجمهورية والتآمر لقلب نظام الحكم بالقوة.

ومن ناحية أخرى وردت فى حيثيات الحكم التى دونتها المحكمة عن هذا الاجتماع أن فوزى على أثر توقيع الرئيس لاتفاق الاتحاد فى بنى غازى وفى اليوم التالى مباشرة 18 أبريل 71 جمع المجلس الأعلى للقوات المسلحة وكان اجتماعا طارئا وأخطر أعضاؤه به فى حينه, وبدأ يعرض على المجلسين موضوع الاتحاد ويناقشه مع القادة. وقدم لذلك بمقدمة خبيثة مضللة هادفا من ذلك إلى الحصول على انتقادات ضد الاتحاد, كما حاول التقليل من شأنه ثم قدم معلومات مضللة. فقد أخبر القادة أن هذا الاتفاق ليس هو الذى سبق الاتفاق عليه فى ليبيا , وكانت طريقة كلامه لأعضاء المجلس الأعلى مقصودا بها الوقوف ضد الاتفاق. وكان من نتيجة هذا الأسلوب أن دارت بعض المناقشات, وترجم فوزى هذه المناقشات البريئة, وبأسلوب بين فيه سوء النية.. إلى معارضيه, بل أكثر من ذلك أنه قال للقادة إنه يود أن يعرف آراءهم لأنه ذاهب لاجتماع سياسى هام, وفهم من قوله: أنه ذاب للسيد الرئيس.

ولكن ثبت للمحكمة أنه ذهب بعد الاجتماع مباشرة للاجتماع ب على صبرى و سامى شرف و شعراوى جمعة .

وقد اعترف فوزى فى المحاكمة بأنه لم ينقل أى نبأ عن اجتماع المجلس الأعلى أو ما دار خلاله إلى الرئيس, كما ثبت للمحكمة أن اجتماع فوزى مع زملائه الثلاثة كان مبيتا, وأنهم كانوا يعدون لاجتماع اللجنة التنفيذية العليا, حيث أعلن على صبرى فى هذا الاجتماع أن القوات المسلحة تعارض اتفاقية الاتحاد.

وقد شهد جميع القادة العسكريين أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة أمام المحكمة بأن فوزى كان يعارض مشروع الاتحاد بصورة واضحة ويحاول استمالتهم لجانبه, وثبت للمحكمة أن الصورة المشوهة التى نقلها فوزى إلى " شلته" كان لها تأثير فعال حدث فى اجتماع اللجنة التنفيذية فى 21 أبريل 71 واللجنة المركزية فى 25 أبريل 71 حيث كرر على صبرى فى الاجتماع الأخير الذى كان يحضره فوزى أن القوات المسلحة معارضة لمشروع الاتحاد, ولم يبد فوزى أى تعليق او معارضة لما قاله على صبرى , علما بأنه فى التحقيق وأمام المحكمة قال فوزى إن القوات المسلحة موافقة تماما على عكس ما قرره على صبرى فى وجوده.

وقد ثبت للمحكمة أن معارضة مشروع الاتفاق فى ذلك الحين لم تكن لعيب فيه, وحسب ما جاء فى تخطيط المتآمرين, فإن المعارضة كانت بسبب أن الرئيس أقدم عليه دون موافقة مسبقة منهم للتويح بالقوة فى وجه الرئيس وإثبات أنهم يستطيعون التحرك ومواجهته إذا أصدر أمرا دون موافقة مسبقة منهم. وقد ثبت ذلك بالفعل, فبعد أن حرضوا اللجنة المركزية على الموافقة بعد تعديلات شكلية عاد فوزى فعقد اجتماع الضباط بمناسبة المولد النبوى حيث دعاهم للموافقة على مشروع الاتحاد تمشيا مع نفس المخطط.

الواقعة الثانية: - عقد فى 3 مايو 71 اجتماعا ضم قائد المنطقة العسكرية المركزية وقادة التشكيلات فيها, وهاجم السياسة التى أعلنها السيد رئيس الجمهورية إلى الأمة فى أول مايو 71 بالنسبة للمعركة مع العدو. وتقييم المؤسسات السياسية التى كانت قائمة, وتصفية مراكز القوى, وحرض الحاضرين فى هذا المؤتمر على مناهضة اتفاقية اتحاد الجمهوريات العربية الثلاث, وطلب إليهم مناقشة هذه الأمور بين رجال القوات المسلحة الذين تحت قيادتهم للحصول على رأى عام من القوات المسلحة, الأمر الذى لو حدث لأدى إلى إثارة بلبلة وانقسام فى صفوف القوات المسلحة, مما يؤدى إلى الزج بها فى أمور تتنافى مع رسالتها. ألمر الذى يعد تحبيذا فى أوساط القوات المسلحة للخروج على طاعة رئيس الجمهورية.

ومناهضة السياسة التى تتبعها الدولة فى المجالين الداخلى والخارجى. وقد ورد فى مرافعة المدعى العام الإشتراكى شرح طريف لهذه الواقعة, فقد ذكر أن فوزى جمع فى 3 مايو فى مكتبه قادة التشكيلات التى يمكن أن تساهم فى حدوث انقلاب. وكان ذلك بعد إقالة على صبرى , وأخذ يتودد إليهم بشدة, وبكثرة من مجاملتهم وهو الذى عرف دائما بغلظة الطبع وحدة السلوك , ووصل به التودد الشديد إلى أنه قال لهم:" كنت أود أن تتم هذه المقابلة بعيدا عن الرسميات وتكون حتى بالبيجاما والشبشب" وإنه لإسراف شديد فى الود من رجل عرف دائما بحدة الطبع. ولم يقف الأمر عند هذا الحد, بل سألهم عما إذا كان لدى الضباط من مشاكل شخصية, وأبدى استعداده للوساطة لدى الوزراء الآخرين لحلها. كل ذلك كان على غير مألوف طبعه وعادته, ولكن الهدف الحقيقى من ذلك كله سرعان ما تكشف بعد بدء الاجتماع فقد أخذ يثير القادة ضد رئيس الجمهورية, وتناول بالنقد كل ما جاء بحطاب الرئيس فى أول مايو .

وفيما يتعلق بهذا الاجتماع الذى عقده فوزى لقادة المنطقة المركزية ورد فى حيثيات الحكم الخاصة بالمحكمة أنه قد – عقد اجتماعا يوم 3 مايو بمقر القيادة العامة حضره اللواء أحمد عبد السلام توفيق قائد المنطقة المركزية وقادة التشكيلات بها, وفى هذا الاجتماع كشف المتهم بصورة واضحة عن عصيانه لرئيس الجمهورية, وحاول استقطاب القادة الموجودين بالمؤتمر لجانبه بتودد مريب لم يسبق أن ألفوه من قبل, وقد أدار معهم مناقشة طويلة حول ما دار فى خطاب الرئيس فى عيد العمال, تأكد فيها أنه يعارض وضع دستور للبلاد وتحقيق سيادة القانون, كما- طرح سؤالا عن مصير المؤسسات السياسية القائمة, ولما قال أحد القادة الحاضرين إنه يمكن حل الاتحاد الاشتراكى فى حالة ثبوت انحرافه ثار عليه فوزى ثورة شديدة, وقال : إنه لا يسمح بمثل هذا الكلام.

ثم تطرق الحديث إلى نقطة مراكز القوى, فقال فوزى إن الرئيس ينوى إزاحة كل من يعارضه تحت بند إزاحة مراكز القوى, ثم أظهر فوزى عدم رضاه عن إقالة على صبرى , وتساءل فى نهاية الاجتماع عن موقف درجات الإستعداد فى التشكيلات, وأمر القادة بعد تخفيضها رغم أن ذلك لم يكن له داع فى ذلك الوقت .

وقد ثبت للحكمة أن القادة فى اجتماع 3 مايو بمجرد أن غادروا مكتب فوزى اتفقوا على نسيان كل ما قاله لهم, حيث لو كان كل منهم قد نفذ الأسلوب الصحيح لتلقين وحداتهم وأفرادها بما تم فى هذا المؤتمر لكان من أثره أن يتسبب فى إحداث بلبلة داخل القوات المسلحة.

الواقعة الثالثة: أمر برفع درجة الاستعداد فى بعض وحدات الجيش فى الفترة من 26 أبريل إلى 13 مايو 71 تأهبا لتنفيذ أهداف التآمر المتفق عليه بينه وبين المتهمين الآخرين. كما أمر باستمرار رفع درجة الاستعداد لبعض وحدات المنطقة العسكرية المركزية, وتباحث معهم فى تحميل الدبابات بالذخائر الثقيلة ليتيسر له تحريكها تنفيذا لمخطط التآمر.

وقد شرح المدعى العام الاشتراكى هذه الواقعة فى مرافعته فذكر أن فوزى أصدر فى نهاية شهر أبريل 71 فى ذلك ذات الفترة التى قيل إنه سيكون جاهزا فيها أمر إلى الشرطة العسكرية برفع درجة استعداد السرايا الميكانيكية وبإعداد أطقم من 8 إلى 10 دوريات كل بقيادة ضابط. وكان فوز يسعى بكل الوسائل لاستقطاب قوات تتعاطف معه. ووصل به التودد المشبوه إلى حد أن أحل نفسه من القسم محل القائد الأعلى, فذهب يوم 8 مايو إلى بعض القوات "الخاصة" الصاعقة" وطلب منهم أن يرددوا منطقا غريبا" أنا يا افندم جاهز لتنفيذ أى مهمة تصدر إلى من وزير الحربية" وقد أثار هذا القسم دهشة الكثيرين من القادة وكان محلا لتعليقاتهم, وفيما يتعلق بهذه الواقعة أوردت المحكمة حيثيات حكمها أن الخطة العسكرية كما خطط لها فوزى كانت تهدف إلى استخدام بعض قوات من المنطقة المركزية مع اتباعها بعمليات اعتقال واسعة بواسطة وحدات من الشرطة العسكرية, ومن أجل ذلك أصدر فوزى أوامره برفع درجة الاستعداد فى سرايا الشرطة العسكرية المدرعة, وأمر بتشكيل جماعات خاصة للقبض والاعتقال عددها 10 سرايا كل منها بقيادة ضابط وفى يوم 26 أبريل 71 وبمناسبة مقابلة كانت تتم بين السيد الرئيس وكل من سامى شرف و شعراوى جمعة أجرى فوزى بنفسه المراجعة لدرجة الاستعداد فى هذه الوحدات – مرة أخرى – لتكون جاهزة للتحرك خلال ربع ساعة, وفى نفس اللحظة أمر العميد نور عفيفى قائد الشرطة العكسرية بالتواجد فورا فى مكتبه,وقد ثبت للمحكمة أن هذه الإجراءات قد اتخذت لحماية سامى شرف و شعراوى جمعة ضد أى إجراءات مضادة قد يتخذها الرئيس حيالهما.

وقد عاد فوزى يؤكد هذه الأوامر التى أصدرها وبقيت كذلك حتى يوم استقالته, وقد ثبت للمحكمة أنه تقابل مع قائد الشرطة العسكرية يوم 11 مايو وأعاد عليه التنبيه بشأن تنفيذ الأوامر التى سبق إصدارها إليه, ,كان الهدف من الوحدات والدوريات التى أمر بتجهيزها هو القيام بالاعتقالات لأنصار السيد الرئيس فى أية لحظة يتراءى فيها ذلك, وقد أفصح فوزى عن ذلك صراحة فى مناقشة مع شعراوى جمعة حول الاعتقالات التى تجرى بعد الانقلاب. غذ قال له: إنه يود أن يعتقل محمد حسنين هيكل لأنه نفسه فيه.

ومن الطريف أنه ورد فى حيثيات المحكمة أن فوزى قد أدعى أثناء التحقيق وأمام المحكمة لتبرير التجهيزات لجماعة القبض والشرطة العسكرية أنه قال" لما الوطنية تحبك مفيش غير وزير الحربية". وذكر أن صلته ب شعراوى جمعة و سامى شرف ليست أكبر من صلته بالمشير عبد الحكيم عامر الذى نفذ أمر القبض عليه, مدعيا بقصده أنه كان يجهز نفسه لاعتقال سامى وشعراوى إذا صدر إليه أمر من رئيس الجمهورية فى الوقت الذى ثبت للمحكمة فيها أنه كان ضالعا معهما من بدء التآمر حتى نهايتهما المظلمة.

التهمة الثانية

أتى أفعالا ترمى إلى الخروج عن طاعة رئيس الجمهورية وأى مناهضة السياسة التى تتبعها الدولة فى المجالين الداخلى والخارجى وذلك بأن:

لجأ هو المتهمون( شعراوى جمعة و سامى شرف وأربعة آخرون) إلى العنف والتهديد والوسائل الأخرى غير المشروعة المشار إليها فيما سلف لحمل رئيس الجمهورية على الامتناع عن أداء عمل من خصائصه قانونا, بأن ارتكبوا الجرائم سالفة الذكر لمنعه ممن ممارسة حقه الدستور فى إبرام المعاهدات وإعفاء الوزراء وإجراء الاستفتاء الشعبى.

ب- عمد هو والمتهمون ( سامى شرف و محمد فايق وستة آخرون) إلى تقديم استقالاتهم من مناصبهم فى وقت واحد على اثر استعمال رئيس الجمهورية لحقه الدستورى فى إعفاء شعراوى جمعة من منصبه.كما اتفق هو والمتهمون سالفو الذكر مع المتهم محمد فايق بوصف وزيرا للإعلام ومسئولا عن مرفق الإذاعة على إذاعة هذه الإستقالات الجماعية قبل عرضها على رئيس الجمهورية وقبوله لها, وتمت إذاعتها بالفعل بعد التمهيد لها بتغيير الربامج المعتادة وإذاعة البرامج الوطنية والأناشيد الحماسية بدلا منها. كل ذلك بقصد إثارة البلبلة وإثارة الفتنة بين الجماهير, والإيهام بإنهيار نظام الحكم فى البلاد, وتوطئه لقيام قيادات التنظيم السياسى بتحريك الجماهير على النحو المتقدم ولخلق ذريعة للزج بالقوات المسلحة فى الأحداث.


التهمة الثالثة

اشترك فى اتفاق جنائى الغرض منه ارتكاب الجرائم سالفة البيان, واتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود من الاتفاق, وهو الإطاحة برئيس الجمهورية واللجنة المركزية وبعد أن انتهى العميد أمين الجندى عضو هيئة الادعاء من قراءة نص قرار الاتهام الموجه ضد محمود فوزى وقف الدكتور مصطفى أبو زيد فهمى المدعى العام الاشتراكى وقتئذ وألقى خطبة الادعاء الافتتاحية التى تناول فيها جوانب الادعاءات المنسوبة إلى المتهم عارضا لبعض الأدلة وواضعا التهم فى ثوبها القانونى, وكانت أهم ألنقاط التى تناولها فى خطبته ما يلى:

فوزى فاعل أصلى: اعتبر الإدعاء محمد فوزى فاعلا أصليا إذ كان لوجوده كوزير للحربية وقائد عام للقوات المسلحة ثقل كبير جعل المغامرين والمترددين يقبلون على مشروع الانقلاب العسكرى فى ترحيب شديد. وإذا كانت أشرطة التسجيل التى ضمت العديد من المحادثات التليفونية التى دارت بين المتهمين وبعضهم لم تكن بها محادثات خاصة بالفريق محمد فوزى فإن السر فى ذلك يرجع إلى أن سامى شرف الذى كان يتحكم وحده فى إصدار الأوامر إلى المخابرات العام بوضع تليفونات من يريد تحت المراقبة لم يحاصر محمد فوزى بالرقابة التليفونية كم فعل مع الآخرين من أمثال على صبرى و أمين هويدى و لبيب شقير و ضياء داود , وذلك نظرا لصلة القرابة التى تربطه ب محمد فوزى .

تأييد أدلة الاتهام بأقوال متهمين آخرين: استعان المدعى العم الاشتراكى بأقوال ثلاثة من المتهمين الآخرين أدلوا بها فى التحقيق أمام هيئة الادعاء بالدائرة الأولى لمحكمة الثورة , وهم محمد صبرى مبدى عضو الأمانة العامة, و عادل مصطفى الأشوح مدير مكتب مدير مكتب شعراوى جمعة فى أمانة التنظيم الطليعى. ومن أقوال هؤلاء الثلاثة جميعا يمكن استخلاص الحقائق الآتية:

1- كان هناك مخطط واتفاق مرسوم واسع المدبر هو على صبرى وعاونه فيه الباقون, ,:أ، الهدف منه تأليب الرأى العام ضد رئيس الجمهورية لحمله على الخضوع لهم, أو تنحيته عن منصبه مستغلين فى ذلك السلطات التى كانت فى أيديهم, وهى الاتحاد الاشتراكى ممثلا فى عبد المحسن أبو النور و شعراوى جمعة و ضياء داود .

والقوات المسلحة فى محمد فوزى , وقات الشرطة والأمن ممثلة فى شعراوى جمعة , والإعلام ممثلا فى محمد فائق , وشئون الرئاسة ممثلة فى سامى شرف ومجلس الأمة ممثلا فى لبيب شقير ..

2-الخلاف الذى حدث فى اللجنة المركزية كان خلافا شخصيا وليس خلافا موضوعيا, وإن المقصود بما حدث فى اللجنة المركزية والاعتراضات التى أثراها على صبرى و ضياء داود هو إحراج الرئيس وإسقاطه وإن حركة الهمهمة وحك الأقدام التى حدثت باللجنة المركزية لابد أنها كانت صادرة من أعوان على صبرى من القيادات القديمة الباقية منذ كان أمينا للتنظيم بالاتحاد الاشتراكى.

كان التنظيم الطليعى حكومة وغير حكومة القائمة, بدليل أن شعراوى جمعة أمين التنظيم كان لا يعرض على رئيس الجمهورية التوجيهات التنظيمية الصادرة من الأمانة العامة للتنظيم إلى التنظيمات الفرعية, وكان شعراوى ومن معه فى واد آخر لخطة وسياسة رئيس الجمهورية, وكانوا يقصدون من ذلك إشعار السيد الرئيس بقوتهم اعتمادا على المراكز السياسية والقيادية التى كانوا يشغلونها, وأنه يمكنهم أن يفرضوا عليه أى رأى أو سياسة يرونها.


مناقشة أدلة الاتهام قبل محمد فوزى

أولا – فوزى حيكون جاهز: اتخذ المدعى العام الاشتراكى من مكالمتين تليفونيتين مسجلتين دليلا كما ذكر على عمق الارتباط فى التآمر, ,كانت أولاهما بين على صبرى و شعراوى جمعة , والثانية بين على صبرى و سامى شرف .وفى المكالمة الأولى التى جرت قبل انعقاد اللجنة المركزية فى 25أبريل 71 اقترح شعراوى على صديقه على صبرى تكتيكا معينا: أن يمثل بعض أعضاء اللجنة المركزية دور المعار فى اتفاقية الاتحاد, ويمثل البعض الآخر دور الموافق عليها, ويتدخل اتجاه ثالث يضم العدد الأكبر من الأعضاء ليطلب التأجيل لبحث الاتفاقية على أن يكون لمدة أسبوع, وهنا يقول على صبرى فى التليفون:" أصل أسبوع مش كافى" فيبادر شعراوى بالرد قائلا:" فوزى حيكون جاهز أنا مالى إيدى من النقطة دى". وتستمر المحادثة بين المتهمين ويعود على صبرى متسائلا " طيب هل نقول أسبوع" ويرد شعراوى " مدة أقصاها أسبوع" فيقولها شعراوى جمعة بوضوح" ما هو متهيأ لأن اللجنة مش حتجتمع تانى".

وفى نفس الفترة أى فى الأيام القليلة التى سبقت اجتماع اللجنة المركزية فى 25 أبريل تحدث على صبرى تليفونيا مع سامى شرف وكان حديثهما كما أوضح المدعى العام الاشتراكى لاستعراض الترتيبات والاستعدادات لكى يأتى أعضاء اللجنة المركزية, وقد تحزبوا قبل النقاش وقبل الجدل,وبعد أن استعرضا معا كل هذه الأمور قال سامى شرف :" إنما إحنا نهدى برضة فى المرحلة دة ونخلى فوزى يشرف شغله".

وذكر المدعى العام الإشتراكى أن معنى ما دار من أحاديث هو أن على صبرى قد استوثق من شعراوى وسامى أن " فوزى حيكون جاهز" وأن " فوزى حيشوف شغله" وأن" اللجنة المركزية مش حتجتمع تانى" وعندما اتصل على صبرى بزميله محمد فائق أخطره بهذا التكتيك وأكد له" الاقتراح بتاعنا ده أو التأجيل البسيط ده بدون تحديد يحتم موضوع فوزى" ويرد محمد فائق " آه طبعا والمهم أنه يتم قبل الاجتماع الثانى" ورد المدعى العام الإشتراكى باستفاضى على ما دافع المتهمون عن أنفسهم من أن المقصود بعبارة " فوزى حيكون جاهز" بأن سيكون جاهزا للمعركة مع العدو بأن هذا الدفاع ساذج وضعيف وقول يتنافى مع عبارات الحديث وسياقه,إذا إن المعركة مع العدو أمل كبير إذا عبر عنه الإنسان فى اعتزاز ووضوح, وبإفاضة وتفصيل أو على الأقل فى لهجة واضحة لا تعميه فيها. أما الذى يعبر عنه الإنسان فى إيجاز وتعمية وعبارات مبهمة تكاد تكون شفرة سرية, فهو الانقلاب وليس المعركة ولا يمكن لعاقل أن يقرأ تسلسل هذه المحادثات الثلاث ويؤمن بهذا الدفاع الضعيف الساذج فعبارة" فوزى حيشوف شغله" واضح فيها التعمية والتجهيل المقصود وكلمة " شغله" فى سياق هذا الحديث لا يمكن أن تعنى عند العامة أو الخاصة أن فوزى سيدخل المعركة مع العدو.

وتساءل المدعى العام الاشتراكى عن السر الذى دفع شعراوى جمعة ليقول " ما هو متهيأ لى اللجنة مش حتجتمع ثانى" إذا كان المقصود هو الدخول فى المعركة بالفعل إن الذى يمنع اللجنة المركزية للإتحاد الاشتراكى من الانعقاد ليس الحرب إنما هو الانقلاب العسكرى.

ثانيا: هل طلب من محمد فوزى أن يتدخل عسكريا للقيام بانقلاب مسلح؟

رد المدعى العام الإشتراكى على هذا السؤال بالإيجاب ذاكرا أن فوزى قد اعترف فى التحقيق أن شعراوى جمعة قد سأله قرب نهاية شهر أبريل عما إذا كان يمكن استخدام القوات المسلحة فى إحداث تغيير داخلى, وشهد سامى شرف على صديقه وزميله شعراوى جمعة بأنه قد سأل الفريق فوزى عن إمكانية استخدام الجيش فى عمل انقلاب عسكرى, وقد سجل سامى هذه الشهادة فى خطابين بخط يده بعث بهما إلى سلطات التحقيق, وأودعا بملف الدعوى, وقد أقر سامى فى التحقيقات وأمام الدائرة الأولى لمحكمة الثورة أنهما محرران بخطه.

وشهد أحمد كامل مدير المخابرات العامة السابق بأنه حدث فى مساء 2 مايو 71 بعد انتهاء جلسة لجنة العمل المنبثقة من مجلس الدفاع أن اجتمع شعراوى للإستيلاء على الحكم, ولما نبههم أحمد كامل بأن الجيش يكرههم ويكره محمد فوزى , وأن السادات قد حصل على شعبية كبيرة مما يصعب معه القيام بالعملية تدخل شعراوى جمعة معلقا على ذلك بقوله" طيب نفكر فى الأسلوب ويمكن إننا نخلى الجيش يعمل العملية, ونعمل مجلس رئاسة بضم بعض أعضاء اللجنة التنفيذية العليا, ويرأسه واحد من الجيش وليكن الفريق فوزى".

وتساءل المدعى العام الإشتراكى بعد ذلك هل حاول فوزى أن يتدخل؟. ورد على ذلك بأن أوراق التحقيق تفيض بالوقائع التى تجيب عن هذا التساؤل بالإيجاب. إن محمد فوزى أراد أن يتدخل ولكن كبار قادة الجيش حوله لم يكونوا مثله ولم يسايروه فيما أراد أن يذهب إليه وما أكثر الأدلة على ذلك, إن شعراوى جمعة لا يمكن أن يخدع على صبرى وهو يؤكد له أن " فوزى حيكون جاهز.. وأنا مالى إيدى منه واللجنة المركزية مش حتجتمع تانى"

و سامى شرف يؤكد أيضا أن" فوزى حيشوف شغله" وهو تأكيد له قيمته بحكم ما بين الاثنين من قرابة وصلات وثيقة.

وعلى الرغم من عدم وجود تسجيلات للمتهم فقد أوضح المدعى الاشتراكى أن الأوراق تقدم الكثير من الأدلة, وضرب أمثلة على ذلك يما حدث فى اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى 18 أبريل الذى حاول فيه فوزى إثارة كبار القادة ضد رئيس الجمهورية, ودفعهم إلى الخروج عن طاعته, كما وصف ما دار فى الاجتماع الذى عقده محمد فوزى فى مكتبه بمقر القيادة العامة يوم 3 مايو 71 , والذى ضم قائد المنطقة المركزية وقادة التشكيلات فيها, والذى حاول فيه جاهدا أن يجمع القادة حوله فى تودد مشبوه سرعان ما تكشف الغرض منه بعد بدء الاجتماع فقد أخذ يثير القادة ضد رئيس الجمهورية ويتناول بالنقد كل ما جاء بخطاب الرئيس فى أول مايو ثم طلب فوزى من كبار لقادة إعداد تقارير رأى عام يتضمن رأى القواعد الكبيرة فى القوات المسلحة فى خطاب الرئيس وهو أمر غير مألوف فى القوات المسلحة.

ثالثا – محاولات محمد فوزى يوم 13 مايو 71 ذكر المدعى العام الاشتراكى أن محمد فوزى ارتبط منذ البداية بالمجموعة المتآمرة ارتباطا تاما وتحرك دائما ليخدم أهداف المؤامرة التى جعل من نفسه فاعلا أصليا فيها.

إن محمد فوزى منذ صباح 13 مايو حتى مسائه كان فى سعى دائم خرج فيه من التلميح إلى التصريح عله يجد من كبار القادة من يقبل أن يكون فى خدمة المتآمرين.

لقد طرح على كبار القادة الذين استدعاهم أو قابلوه بحكم العمل كل موضوعات السياسة الداخلية من وجهة نظر المتآمرين بطبيعة الحال. لقد كشف هو بنفسه عن اتفاقه العريق وارتباطه الكامل بالمجموعة المتآمرة وسيلة وأهدافا فى مساء يوم 13 مايو عندما استدعى بعض كبار القادة إلى مكتبه عله يجد بينهم من يناصره أو ينضم إليه, فقد حدث فى ذلك اليوم أن عرض على المجتمعين أن رئيس الجمهورية قد اقل شعراوى جمعة , وقد أقال من قبل على صبرى وأنه يفكر فى الاستقالة, فلما عارضه المجتمعون وأفهموه خطأ هذا العمل الذى يريد أن يقدم عليه إذا به يكشف عن دخيلة نفسه وحقيقة مقاصده فيقول لهم:" إحنا متضامنين وحتى اللى يخطىء فينا الثانى يتضامن معناه". ولكنه لم يجد على الإطلاق قائدا من القادة المصريين يقبل أن يزج بقواته فى العمل الطائش, فذهب يقدم استقالته لتكون فى ركب الاستقالات الجماعية وسيلة لتنفيذ المخطط الذى قبل أن يكون أحد فاعليه الأصليين واستطرد المدعى العام الإشتراكى قائلا: وهكذا قدم وزير الحربية القائد العام أن البلاد فى زمن الحرب, وأنها استقالته من منصبه وهو يعلم تماما أن البلاد فى زمن الحرب, وأنها استقالة ضمن استقالات جماعية , وأنها رف تذاع فى الساعة الحادية ليلا قبل قبولها من رئيس الجمهورية, ول لم يكن هناك غير هذه الاستقالة فى هذه الظروف لكفى ذلك كى يساق هذا المتهم إلى قفص الإتهام بجريمة الخيانة العظمى.. استقالة يقدمها وزير الحربية القائد العام للقوات المسلحة, والبلاد فى زمن الحرب فى ركب استقالات متعددة لتذاع على جماهير الشعب قبل أن يعرضها على رئيس الدولة فيها انتهاك لعديد من الأصول العامة والقواعد الأساسية.

إن استقالة وزير الحربية بالذات فى مثل هذه الظروف من شأنها أن تدع البلبلة والحيرة والتساؤل تتسرب إلى صفوف القوات المسلحة, وتضاعف الإحساس بالخطر لدى جماهير الشعب, بحكم ما تحمله من أن كوادر السلطة العامة فى الدولة من جيش وشرطة قد انهارت لأسباب مجهوله وخافية.


تطبيق المواد القانونية على الاتهامات

ذكر المدعى العام الاشتراكى أنه إزاء الوقائع الثابتة فى التهم الثلاث فإنه يقدم إلى المحكمة الفريق أول متقاعد محمد فوزى كفاعل أصلى فى جناية الخيانة العظمى المعاقب عليها فى المادة الخامسة من القانون 79 لسنة 1958 الخاص بمحاكمة الوزراء فهذه المادة تعتبر خيانة عظمى كل جريمة يرتكبها أحد الوزراء وتمس سلامة الدولة أو أمنها الخارجى أو نظام الحكم الجمهورى ويكون منصوصا عليها فى القوانين المصرية ومحددا لها فى أى من هذه القوانين عقوبة الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة.

والوقائع المنسوبة إلى محمد فوزى تقع تحت طائلة العقاب طبقا لنصوص أربعة: نص المادة 87,96,99, من قانون العقوبات والمادة 138أ من قانون الأحكام العسكرية.

المادة 87 عقوبات بالأشغال الشاقة المربدة أو المؤقتة كل من حاول بالقوة قبل أو تغيير دستور الدولة أو نظامها الجمهورى أو شكل الحكومة فهى تعاقب على مجرد المحاولة, والمحاولة مرحلة سابقة على البدء فى التنفيذ فالشخص الذى يأتى فى هذا المجال أعمالا هى بطبيعتها من قبيل العمال التحضيرية تمكن إدانته ما إذا توافر لديه القصد الجنائى.

والمتهم قد حاول بالقوة تغيير دستور الدولة ونظامها الجمهورى واستهدف بالمحاولة مؤسسين هامتين: مؤسسة دستورية تتمثل فى رئيس الجمهورية ومؤسسة سياسة تتمثل فى اللجنة المركزية.

المادة 96 عقوبات تعاقب بالعقوبات المتقدم ذكرها كل من اشترك فى اتفاق جنائى سواء كان الغرض منه ارتكاب الجرائم المنصوص عليها فى المادة 87 أو اتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود,وواضح أن المتهم قد أفصح بنفسه عن وجود هذا الاتفاق الجنائى الذى عبر عنه هو بوجود تضامن بشأنه بينه وبين شركائه بحيث لو أخطأ واحد يجب على الثانى أن يغطى عليه.

المادة 99 عقوبات: تعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة كل من لجأ إلى اعنف أو التهديد أو أية وسيلة غير مشروعة لحمل رئيس الجمهورية على أداء عمل من خصائصه قانونا أو على الامتناع منه, والوقائع المنسوبة إلى المتهم تقع تحت طائلة العقاب طبقا لهذه المادة أيضا فهو بكل ما نفعل وبتقديمه استقالته الفجائية والبلاد فى زمن الحرب لتأتى فى ركب الاستقالات الجماعية مدعمة لها ومقوية يعتبر أنه قد لجأ إلى الوسائل غير المشروعة لحمل رئيس الجمهورية على عدم مزاولة اختصاصاته الدستورية. وقد ثبت من التحقيق أنه قد طلب صراحة من الرئيس يوم 12 مايو تجميد الخطوات الدستورية التى كان يريد الرئيس القيام بها, فضلا عن أنه قد كشف صراحة لكل القادة أنه يستقيل كتضامن واحتجاج على الرئيس لإقالة شعراوى جمعة و على صبرى .

المادة 138 من قانون الأحكام العسكرية يعاقب بالإعدام أو بجزاء أقل منه كل شخص خاضع للأحكام العسكرية يرتكب فعلا يرمى إلى الخروج عن طاعة رئيس الجمهورية أو قلب أو تغيير نظم الدولة الاقتصادية أو الجماعية أو مناهضة السياسة العامة التى تتبعها الدولة فى المجالين الاقتصادية أو الاجتماعية أو اتفاقه مع غيره على ذلك.

وواضح أن هذه المادة تعاقب على مجرد المحاولة والمحاولة هى كما مر بنا دون البدء فى التنفيذ فكل عمل حتى إن كان من قبيل الأعمال التحضيرية يرمى به صاحبه إلى الخروج عن طاعة رئيس الجمهورية يعد إذا توافر القصد الجنائى مكونا لجريمة المحاولة, واستطرد المدعى العام قائلا: إنه إذا كان الإدعاء يرى أن الوقائع المنسوبة إلى المتهم تقع تحت طائلة العقاب فى هذه النصوص الأربعة فإن ذلك لا يعنى ا،ه يلزم لقيام جريمة الخيانة العظمى أن تنطبق النصوص الأربعة معا. فإن انطباق نص واحد فحسب يكفى لتقوم جناية الحيانة العظمى مستندة عليه.

واختتم المدعى العام الإشتراكى خطبته الافتتاحية قائلا:" إذا كان قانون محاكمة الوزراء يعاقب على الخيانة العظمى فى المادة الخامسة بالإعدام أو يالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة, فإن الادعاء يرى أن المتهم الماثل أمامكم وقد أنزلته الأمة فى جيشها مكانا عليا فخان الأمانة ولم يكن بها حفيا. إن هذا المتهم يستحق ضعفين من العذاب وإنى لأطالب بتوقيع أقصى العقوبة بالنسبة له إنى أطلب الحكم بإعدامه".

وقد استأذن المدعى العام هيئة المحكمة فى الاستماع إلى شريط تسجيل مسجل عليه مكالمة تليفونية بين على صبرى و شعراوى جمعة , وكذلك شريط آخر لمكالمة تليفونية بين على صبرى و محمد فائق , وفى المكالمتين تحدث الثلاثة عن دور محمد فوزى فى الخطة المرسومة, وقد استجابت المحكمة للطلب الذى تقدم به المدعى العام الإشتراكى بأن تكون جلسات المحاكمة للطلب الذى تقدم به المدعى العام الإشتراكى بان تكون جلسات المحاكمة سرية نظرا لما كانت تتضمنه القضية من أسرار عسكرية, وقد استغرق نظر المحكمة للقضية ست جلسات, وكان عدد شهود الإثبات الذين استمعت المحكمة إلى شهادتهم 11 شاهدا هم اللواءات: أحمد عبد السلام توفيق قائد المنطقة المركزية, و محمد على فهمى قائد قوات الدفاع الجوى, وأحمد زكى عبد الحميد رئيس هيئة التنظيم والإدارة, و محرز مصطفى مدير المخابرات الحربية و سعد مأمون رئيس هيئة العمليات, والعميد نبيل شكرى قائد قوات الصاعقة, والعميد نور عفيفى قائد الشرطة العسكرية, وأربعة آخرون من قادة تشكيلات, المنطقة المركزية هم العمداء: الحسينى الديب و صلاح موسى و نجاتى فرحات , و أحمد حلمى بدوى , وقد طلب محامى المتهم اللواء على منير مراد ثلاثة من شهود النفى, وقد مثلوا أمام المحكمة ولكن شهاداتهم لم تكن من صالح محمد فوزى .


الحكم الذى أصدرته المحكمة وحيثياته

كان اليوم العاشر من من ديسمبر 1971 هو الموعد الذى حددته محكمة الثورة بدائرتيها الأولى والثانية لإصدار أحكامها فى قضية الجناية رقم (1) لسنة 71 المقدمة من المدعى العام الاشتراكى والمتهم فيها شعراوى جمعة وآخرون, وكذا فى القضية المتهم فيها محمد فوزى , وبعد أن انتهى حافظ بدوى رئيس الدائرة الأولى من إعلان أحكام المحكمة على 90 متهما تمت محاكمتهم أمام دائرته, رفع الجلسة فى الساعة الحادية عشرة والنصف, وبعد ساعة كاملة دخلت الدائرة الثانية قاعة المحكمة واتخذت مكانها فوق المنصة, وكانت برئاسة اللواء عبد القادر أحمد حسن نائب وزير الحربية وعضوية اللواء دكتور محمد عوض الأحول مدير القضاء العسكرى والعميد بحرى عبد الرءوف جمال الدين بالقضاء العسكرى للقوات البحرية, وفى منصة الادعاء جلس الدكتور مصطفى أبو زيد فهمى ومعاونة المستشار إبراهيم صالح والعميد أمين الجندى مساعد المدعى العام العسكرى والمقدم مختار شعبان رئيسا النيابة العسكرية وبعد أن ساد القاعة سكون عميق بدأ اللواء عبد القادر حسن رئيس المحكمة فى تلاوة منطوق الحكم الذى أصدرته الدائرة الثانية لمحكمة الثورة وكان نصع كما يلى:

باسم الشعب بعد الاطلاع على قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 40 لسنة 1967 وعلى المادتين الثالثة والرابعة من قرار رئيس الجمهورية رقم 1929 لسنة 1971 وعلى قرار رئيس الجمهورية رقم 2109 لسنة 1971 وبعد الاطلاع على مواد الاتهام وبعد المدوالة قانونا تعلن المحكمة حكمها الآتى:

حكمت المحكمة حضوريا بمعاقبة المتهم فريق أول متقاعد محمد فوزى أمين بالأشغال الشاقة المؤبدة وذلك نظير التهم المنسوبة إليه. والمحكمة حرضا منها على بحث كافة جوانب القضية استعرضت طلب الرحمة والاستعطاف المقدم من المحكوم عليه. وعرضته على السيد رئيس الجمهورية عند التصديق على الحكم, والسيد الرئيس وقد تملكه الأسى لتردى المحكوم عليه فى هاوية التآمر وأحس سيادته بالأسى لانزلاق المحكوم عليه مع بقية المتآمرين. فإن سيادته قد فتح صدره الرحيم, وأبان عن سماحته واضعا فى اعتباره ما بذله المحكوم عليه من مجهود سابق بعد نكسة 1967 وما ساهم به مع غيرة فى إعادة بناء القوات المسلحة, لذلك صدق السيد الرئيس على حكم المحكمة بعد تخفيف العقوبة لتكون الشغال الشاقة 15 سنة. والمحكمة من جانبها ما كانت تود أن يكون أمامها فى قفص الإتهام وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة السابق, لكنها كانت تود أن يشارك فى تحرير الأرض المحتلة من العدو, والنصر آت بإذن الله والله ولى التوفيق.

وقد نشرت جريدة الأهرام بعددها الصادر يوم 11 ديسمبر , وهو اليوم الثانى لإعلان الحكم نبأ عن الالتماسات التى قدمها الفريق محمد فوزى إلى رئيس الجمهورية كان نصه كما يلى:" فوزى لم يكف عن الالتماسات: خلال فترة الحبس الماضية لم يكف الفريق أول متقاعد محمد فوزى عن تقديم الالتماسات إلى السيد رئيس الجمهورية, وذلك منذ بداية التحقيق فى القضية حتى صدور الحكم فيها. ويعترف فيها كل مرة بخطئه ويطلب العفو وقد استجاب السيد الرئيس هذه الالتماسات على النحو الذى أشارت إليه الدائرة الثانية فى حكمها" ونظرا لأنه سبق لنا نشر أهم ما ورد فى حيثيات حكم المحكمة بالنسبة للتهمة الأولى وهى محاولة قلب نظام الحكم بالقوة لذلك فسوف نكتفى هنا بنشر أهم ما ورد فى حيثيات المحكمة بالنسبة للتهمة الثانية وهى أنه أتى أفعالا ترمى إلى الخروج فى المجالين عن طاعة رئيس الجمهورية, وإلى مناهضة السياسة التى تتبعها الدولة فى المجالين الداخلى والخارجى, وكذا بالنسبة للتهمة الثالثة وهى اشتراكه فى اتفاق جنائى الغرض منه ارتكاب الجرائم السالفة البيان. واتخاذها وسيلة للوصول إلى العرض المقصود من الاتفاق, وهو الإطاحة برئيس الجمهورية واللجنة المركزية, وفيما يلى أهم ما ورد بحيثيات الحكم بالنسبة لهاتين التهمتين, وكذا بالنسبة لحيثيات التهمة الأولى التى لم يسبق نشرها.

أولا – انضمام فوزى إلى تكتل منحرف: انضم محمد فوزى إلى تكتل منحرف يقع على قمة مركز من مراكز القوى, يضم سامى شرف و شعراوى جمعة يعمل فى مواجهة رئيس الجمهورية الشرعى, حيث تكتلوا ضده وتعصبوا فى مواجهته مع آخرين من أنصارهم واتباعهم ليحولوا بين الرئيس وبين ممارسة اختصاصاته وسلطاته الدستورية.

ولقد كان فوزى فى المخطط يتحمل مسئولية الجانب العسكرى, وكان الباقون يتحملون الجانب السياسى, وكانت خطة فوزى مبنية على استغلال بدء القتال مع العدو, غذ بمجرد العمليات فلن تكون هناك فرصة أمام الرئيس لاستكمال إجراءات الاتحاد العربى بين مصر و سوريا و ليبيا , واستمر هذا التخطيط قائما حتى بعد الموافقة على الاتحاد. إذ إن هذا فى حد ذاته – بدء العمليات – كفيل بتجميد الموقف حيث يجبرون رئيس الجمهورية على عدم القيام بإجراءات التى أشار إليها فى خطاب أول مايو , ومنها إعادة انتخابات الاتحاد الاشتراكى ووضع الدستور الدائم.

ثانيا: الاتفاق على قلب نظام الحكم: لقد كشفت الدعوى أن اتفاقا على قلب نظام الحكم وتنحية الرئيس قد تم بين محمد فوزى وكل من سامى شرف و شعراوى جمعة كرءوس لهذا الاتفاق الذى يشمل على أعضاء آخرين من مرتبة أدنى من هذا الثالوث.

وقد تم هذا الاتفاق بعد أن استشعر الثلاثة أن الرئيس ينوى مساءلتهم عن الموقف الذى اتخذ بتدبيرهم, وهم تحريضهم فى اللجنتين التنفيذية والمركزية ضد الاتحاد, وعندما استشعروا ذلك اجتمعوا فى سلسلة من الاجتماعات تحت ستار لجنة العمل المنبثقة من مجلس الدفاع الوطنى والتى كانت تنعقد كل يوم فى مكتب سامى شرف , وفى هذه الاجتماعات التى كشفت عنها التسجيلات, وشهادة أحمد كامل رئيس المخابرات العامة السابق تم توثق الاتفاق على قلب نظام الحكم بثلاثة أساليب تسير متوازية مع بعضها البعض وهى:

1- عمل انقلاب عسكرى

2- عمل انقلاب سياسى.

3- استخدام سلطات واختصاصات فوزى بشأن بدء العمليات لتكون المبادأة فى أيديهم وليست فى يد الرئيس.

4- وقد قدمت المحكمة بالتحقيق والفصل فى الأسلوبين الأول والثالث واطمأنت الدائرة العسكرية إلى أن المتهم اتفق مع سامى شرف و شعراوى جمعة على استخدام القوات المسلحة فى عمل انقلاب عسكرى لتنحية الرئيس, ولكن لم يكونوا قد اتفقوا بعد على ساعة الصفر لتنفيذ هذا الانقلاب, وكانوا يظنون أن المبادرة فى أيديهم بسبب الضغط المستمر الذى كان يمارسه فوزى لتجميد هذه الاجتماعات التى عقدها فوزى يوم 2 مايو بمكتب سامى شرف بقصر القبة وحضرها سامى شرف وشعراوى جمعة مع فوزى وكذلك عبد المحسن أبو النور وأحمد كامل .

5- وقد ثبت من شهادة أحمد كامل وممن خطابين أرسلهما سامى شرف للسيد الرئيس عن طريق النائب العام وباعتراف المحكوم عليه ( فوزى) فى التحقيق بأن شعراوى جمعة فاتحه فى أخر إبريل بشأن استخدام الجيش فى عمل انقلاب عسكرى, كما ذكر أحمد كامل فى شهادته أمام المحكمة أنه فى نهاية اجتماع يوم 2 مايو على أثر إقالة على صبرى وخطاب السيد الرئيس فى أول مايو الذى أوضح فيه تصفية مراكز القوى أن شعراوى أفضى إليه( أحمد كامل ) بما استقر عليه الرأىى من تشكيل مجلس رئاسة يراسه فوزى بعد القيام بالانقلاب العسكرى. وقد ثبت للمحكمة أن المحكوم عليه وقد كان قائدا عاما للقوات المسلحة اشترك فى كل ما دار من أحاديث وتخطيط وتآمر فى هذه الاجتماعات التى انتهت يوم 2 مايو ولم يقم بإبلاغ السيد الرئيس عن هذه الانحرافات حيث إنه قد ثبت فعلا أنه مشترك فيها ولذا لم يبلغ عنها لأنه عضو أساسى فى نفس المخطط.

واستكمالا لتنفيذ مخطط الزج بالقوات المسلحة فى عمل انقلاب فقد عقد المحكوم عليه يوم 3 مايو اجتماعا بمقر القيادة العامة حضره قائد المنطقة المركزية وقادة التشكيلات فيها, وفى هذا الاجتماع كشف المتهم بصورة واضحة عن عصيانه للقائد الأعلى ورئيس الجمهورية, وحاول استقطاب القادة الموجودين بالمؤتمر لجانبه بتودد مريب لم يسبق أن ألفوه من قبل.

وكان فوزى دائما أثناء المحاكمة يدافع عن كل هذه الأفعال والأقوال التى صدرت منه محاول أن يكسبها صفة أنها تدخل ضمن أعماله العادية كقائد عام للقوات المسلحة, ولكن أثبتت الوقائع وأقوال الشهود أن هذه التصرفات كانت بقصد تدعيم المخطط. وقد ثبت للمحكمة أن اللواء أحمد عبد السلام توفيق قائد المنطقة المركزية اتفق مع قادة التشكيلات المرءوسين الذين حضروا اجتماعا يوم 3 مايو بعد إنزال ما تلقوه من تعليمات إلى القوات ونسيان كل ما سمعوه فى مكتب محمد فوزى منعا من إحداث بلبلة داخل القوات المسلحة.

وكان من اثر هذا الاجتماع وما دار فيه وزيارة محمد فوزى بعد ذلك لبعض وحدات المنطقة المركزية التى كانت تتم حسب المخطط الموضوع أثر بالغ فى تدعيم مركز القوة المنشق على السيد الرئيس, فنجد أن ضياء داود توجه لمدينة دمياط يوم 11 مايو 71 واجتمع بقادة الاتحاد الإشتراكى فيها وقال لهم:

إن الجماعة المتصارعة مع الرئيس هى الجانب الأقوى وأنه إذا لم تفلح إمكانات وزارة الداخلية والمخابرات العامة والتنظيم السياسى فى إنهاء الصراع لصالح هذه الجماعة فسوف تتدخل القوات المسلحة, ستتحرك قوات من المنطقة المركزية اتفق قادتها مع فوزى اتفاقا تاما لإقصاء رئيس الجمهورية وإقرار الوضع لصالح الفئة الأقوى.

وقد ذكر فوزى أمام المحكمة أربع مرات أنه طلب من الرئيس عدم إحداث أية تغييرات داخلية حتى لا يتأثر الوضع فى العمليات.


تصرفات الفريق فوزى يوم 13 مايو

ورد فى حيثيات حكم المحكمة أنه على أثر إقالة شعراوى جمعة فى 13 مايو هرع المحكوم عليه فوزى) إلى مكتبه لم يغادره, وتناول فيها طعام الغداء وجاءه شعراوى جمعة و سعد زايد ثم انضم إليهم سامى شرف , وجلسوا فى مكتبه يبحثون ما يمكنهم أن يفعلوه. وكان سعد زايد يذرع الغرفة جيئه وذهابا وهو يقول مفيش كتيبة دبابات معايا أشتغل بها.

وفى هذا الجو المشحون ب الثورة والانفعال كان فوزى قد أمر تلقائيا سكرتيره باستدعاء قائد

المنطقة المركزية اللواء أحمد عبد السلام توفيق , ورئيس هيئة العمليات اللواء سعد مأمون , وقائد الشرطة العسكرية العميد نور عفيفى من منازلهم وقت الظهيرة للتواجد فى مكاتبهم على التليفون, هؤلاء الثلاثة لابد من تواجدهم فى حالة تحريك أية قوات, عنا يقول فوزى فى المحكمة ردا على سؤاله حول سبب استدعائه لهؤلاء القادة إنه بالنسبة لقائد الشرطة العسكرية ادعى أنه طلب للإستفسار منه عن سبب تواجد إحدى دوريات الشرطة العسكرية فى ميدان التحرير, ولكن ثبت من شهادة العميد نور عفيفى قائد الشرطة العسكرية أنه طلب بواسطة سكرتير المحكوم عليه( أثناء وجود شعراوى جمعة فى مكتبه وفى توقيت مختلف تماما عن موعد تواجد هذه الدورية لم تكن سوى دورية عادية) وقد ثبت أن أول استفسار بشأن هذه الدورية قد جرى بواسطة محمد السعيد سكرتير سامى شرف فى حوالى السادسة للواء سعد مأمون رئيس هيئة العمليات فقد كذب ما ادعاه محمد فوزى قائد المنطقة المركزية فقد ذكر أمام المحكمة أنه ادعى إلى مكتبه ولم يحدد له أسباب الاستدعاء فى الوقت الذى ادعى فيه فوزى أنه استدعاء ليستفسر منه عن سبب وجود دورية الشرطة العسكرية فى ميدان التحرير, وقد اقتنعت المحكمة بأن هذا السبب على فرض صحته لا يستدعى تواجد كل هؤلاء القادة فى مكاتبهم وعلى التليفون.

وفى نفس اليوم وبعد وصول شعراوى جمعة إلى وزارة الحربية استدعى فوزى عن طريق سكرتيره المقدم جلال عبد الحميد ثلاثة من كبار قادة القوات المسلحة هم اللواء محمد على فهمى قائد قوات الدفاع الجوى, واللواء أحمد زكى عبد الحميد رئيس هيئة التنظيم والإدارة, واللواء محرز مصطفى مدير المخابرات الحربية. وكان المتهم يظن أن ولاء هؤلاء القادة له مضمون وأنهم سيساندونه فى موقفه, فطرح عليهم ما حدث" إقاله على صبرى ثم شعراوى جمعة وأن الرئيس ينوى تصفية الشلة, وأن الدور سيأتى عليه, ولذا فقد قرر أن يستقبل تضامنا مع شعراوى جمعه " إلا أن القادة الثلاثة نصحوه بعدم الاستقالة إذ إن موقفه يختلف عن موقف أى وزير آخر, فهو بالإضافة إلى منصبه السياسى كوزير للحربية يشغل منصب القائد العم للقوات المسلحة, وأنه من الواجب عليه بالنسبة لظروف البلاد أن يبقى فى مركزه, ولكنه رد عليهم قائلا:" إحنا شلة متضامنة, وحتى لو واحد فينا غلط لازم الثانى يغطى عليه" وفى نفس الوقت كان فوزى قد استدعى الفريق محمد أحمد صادق رئيس أركان حرب الجيش لهذا الغرض, وذكر له نفس القصة فى حضور القادة الثلاثة وأضاف عليه الدور فى الإقالة. فرد عليه الفريق صادق أنه يجب أن يتذكر أنه قائد عام القوات المسلحة وعليه أن يبقه فى مركزه,وأنه إذا كان الرئيس لا يثق فيه فسوف يحيله على المعاش.

وكان المتهم كما ورد فى حيثيات المحكمة يتردد فى هذه الأثناء ما بين مكتبه, الذى يوجد به سامى شرف و شعراوى جمعة و سعد زايد , وغرفة المؤتمرات المجاورة التى كان القادة الثلاثة الذين استدعاهم قد تجمعوا بها.

وقد سئل القادة الثلاثة اللواءات: محمد على فهمى و أحمد زكى عبد الحميد و محرز مصطفى فى التحقيق, وفى جلسات المحكمة فأجابوا: بأنهم لو كانوا قد أبدوا تأييدهم للمتهم لوسع دائرة اتصالاته وإجراءاته التى ثبت للمحكمة أنا كانت فى الاتجاه الانقلابى, لما سبق أن أصدره المحكوم عليه فى نفس الوقت من أوامر بتواجد قائد المنطقة العسكرية المركزية وقائد الشرطة العسكرية ورئيس هيئة العمليات فى مكاتبهم وعلى التليفون.

وهكذا أسقط فى يد المحكوم عليه واتضح له أن إقحام القوات المسلحة فى عمل انقلابى أمر غير مضمون العواقب فغير مساره, وانحاز إلى المخطط السياسى الانقلابى, وقدم استقالته تضامنا مع شعراوى وباقى الشلة واتفق معهم على إذاعتها قبل موافقة القائد الأعلى, خلافا لما يقضى به القانون العسكرى من ضرورة بقاء موافقة القائد الأعلى, خلافا لما يقضى به القانون العسكرى من ضرورة بقاء الضابط المستقيل فى مركزه حتى يصدر القرار بقبول الاستقالة. وقد أكدت أقوال القادة والشهود هذه النية الخبيثة حيث ثبت للمحكمة أنه أبلغهم وطلب منهم الاستماع إلى نبأ الاستقالة فى نشرة أخبار الساعة الحادية عشرة مساء تم تحدث مع بعضهم فى التليفون ليبلغهم أنه استقال.

وقد ثبت للمحكمة ا، الخطة العسكرية كما خطط لها فوزى كانت تقضى باستخدام بعض قوات من وحدات المنطقة المركزية مع إتباعها بعمليات باستخدام بعض قوات وحدات المنطقة المركزية مع إتباعها بعمليات اعتقالات واسعة بواسطة وحدات من الشرطة العسكرية, وثبت بعد اجتماعه بالقادة أنه كان يجهز لمخطط, وكانت خطواته على الطريق إيجابية, ولكن أمله خاب وأوضحت المحكمة فى حيثيات حكمها أن محاكمة محمد فوزى كقائد عام للقوات المسلحة تختلف عن محاكمة أى ضابط آخر وبالذات بالنسبة لعملية التآمر. فقد رتب كل شىء بحيث لم يبق إلا إصدار الأوامر, وكل فعل قام به المتهم يرمى به إلى الانقلاب يعتبر فى حد ذاته محاولة للإنقلاب بصرف النظر عن الوصول لأغراضه . لأن هذه الجريمة تعتبر من الجرائم الخطرة وأى فعل فيها وإن كان يصلح ليكون عملا تحضيريا يعتبر جريمة تامة هى جريمة المحاولة, وقد ذكرت المحكمة فى نهاية حيثياتها أن المتهم قد أتيحت له كافة الضمانات فى المحاكمة, واستمعت المحكمة له فى أكثر من جلسة, أذن له باستدعاء ثلاثة شهود نفى كلها كانت فى غير صالحه ولما أنكر ما قاله فى مؤتمر يوم 18 أبريل فى اجتماع المجلس الأعلى وجه بالتسجيلات الخاصة بهذه الجلسة اتضح له عدم صحة ادعائه.


كيف شرب فوزى من الكأس التى أعدها لغيره؟

تنص المادة 138 أ من قانون الأحكام العسكرية على ما يلى: يعاقب بالإعدام أو بجزاء أقل منه منصوص عليه فى هذا القانون كل شخص خاضع للأحكام العسكرية ارتكب إحدى الجرائم الآتية:

1- ارتكابه فعلا يرمى إلى الخروج عن طاعة رئيس الجمهورية, أو قلب أو تغير نظم الاقتصادية أو الاجتماعية, أو مناهضة السياسة العامة التى تتبعها الدولة فى المجالين الداخلى أو الخارجى أو اتفاقه مع غيره فى ذلك.

ترويجه أو تجنيده بأية طريقة من الطرق فى أوساط القوات المسلحة فعلا من الأفعال لمشار إليها فى الفقرة السابقة أو تقصيره فى الإبلاغ عن ذلك الترويج أو التجنيد.

وقد ورد فى حيثيات الحكم أن المحكوم عليه( محمد فوزى ) أيام كان وزيرا للحربية, وفى التوجيه الموقع منه والصادر برقم 16 لسنة 1968 وضع تفسيرا جديدا للمادة 138 أ إذ إن أصل هذه المادة عدل بناء على طلبه يوم كان وزيرا للحربية بإصدار القرار بقانون رقم 82 لسنة 1968 والذى أعقبه بتوجيهاته لتفسير هذه المادة التى ذكر فيها بالحرف الواحد" تكفى أول خطوة على الطريق" وقد جاء فى المذكرة الإيضاحية لهذا القانون ان معيار الشروع ى يؤخذ به, وأنه يكفى تحقق القصد مع إتيان المتهم عملا يهدف إلى الخروج عن الطاعة أى مجرد البدء بأية أعمال تحضيرية.

وهكذا شرب فوزى من نفس الكأس التى أعدها لغيره بإصدار التفسير السابق للمادة التى أضحت بموجبه أول خطوة على الطريق تكفى للإدانة وللوقوع تحت طائلة العقوبة, وقد أثبتت المحكمة فى حيثيات الحكم أن جميع مواقف فوزى السابقة واضحة فى الكشف عن القصد الجنائى له. وهى خطوات إيجابية على طريق العصيات وبذا انطبقت عليها أحكام المادة 138 أ من قانون الأحكام العسكرية وفقا للتفسير الذى وضعه بنفسه. علاوة على تطبيق أحكام هذه المادة الواردة فى قانون الأحكام العسكرية أوضحت المحكمة أن الأفعال السابقة للمحكمة عليه فوزى تدخل أيضا تحت طائلة أحكام المواد 87/96/99 من قانون العقوبات.

المادة 87 عقوابت – اتفاقه مع شعراوى جمعة و سامى شرف على عمل انقلاب عسكرى لقلب نظام الحكم بالقوة.

المادة 96 عقوبات – الاتفاق الجنائى بينه وبين سامى شرف و شعراوى جمعة , وهذا الاتفاق ثابت من خطابى سامى شرف للسيد الرئيس عن طريق النائب العام ومن قول محمد فوزى " أنا نفسى فى هيكل" واعترافه بأن شعراوى فاتحه فى عمل انقلاب عسكرى, ثم تبليغه رئيس الجمهورية عن ذلك, وتضامنه مع شعراوى وشلته فى الاستقالة.

المادة 99 عقوبات – حمل رئيس الجمهورية بالالتجاء إلى وسائل غير مشروعة على الإمتناع عن عمل من خصائصه ( وهو إقالة المحكوم عليه وشلته).

المادة 99 عقوبات – حمل رئيس الجمهورية بالالتجاء إلى وسائل غير مشروعة على الإمتناع عن عمل من خصائصه( وهو إقالة المحكوم عليه وشلته).

هذا ولم يمضى الفريق من مدة العقوبة الموقعة عليه من المحكمة وهى 15 هاما سوى حوالى عامين أمضاهما ما بين مستشفى الحلمية العسكرى ومستشفى المعادى ولم يدخل السجن مطلقا مثل زملائه الذين صدرت عليهم الأحكام بالأشغال الشاقة من الدائرة أولى لمحكمة الثورة . وقد ذكر الفريق محمد صادق وزير الحربية وقتئذ أنه لم يسمح بوضع محمد فوزى فى السجن كباقى رفاقه, ولما اغضب ذلك التصرف السادات واتهمه بأنه يجامل أعداءه كان رده عليه بأن القائد العام للقوات المسلحة لا يوضع فى السجن أبدا لأنه أصبح رمزا للقوات المسلحة, وحتى لو أخطأ فيجب ألا يكون جزاؤه ما يمس كرامته , وفى 27 يناير 74 أصدر الرئيس الراحل السادات قرارا بالإفراج صحيا عن ستة من المحكوم عليهم بالسجن فى قضايا مختلفة كان من بينهم الفريق محمد فوزى , أما الخمسة الآخرون فقد كانوا الفريق متقاعد محمد صدقى محمود واللواء متقاعد إسماعيل لبيب والعقيد متقاعد تحسين زكى و الأستاذين عباس رضوان و مصطفى أمين .


الحقيقة الحائرة بين الفريق فوزى والفريق صادق

لقد سبق أن أوردنا الواقعة الخطيرة التى رواها الفريق محمد صادق الذى كان يتولى منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة فى ذلك الحين, فقد وذكر أنه فى مساء يوم إبريل 71 وهو نفس اليوم الذى احتدم فيه الخلاف بين السادات و على صبرى أثناء اجتماع اللجنة التنفيذية العليا فى الصباح استدعاه الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة وقتئذ إلى مكتبه فى الوزارة, وكان فاقدا لأعصابه وأخذ يسب السادات سبا مقذعا متهما إياه بكل التهم وخلص إلى أن الأمر لا يمكن ان يستمر هكذا وسحب ورقة وبدأ يكتب أمرا واضحا باتخاذ مجموعة من الإجراءات للسيطرة على القوات المسلحة وإعدادها لاقتلاع رئيس الجمهورية .

وذكر الفريق صادق أنه وفقا للأمر الصادر فى هذه الورقة فإن القائد العام يأمره كرئيس للأركان أن يبدأ من اليوم التالى 22 أبريل 71 فى وضع خطة لتمركزه قوة عسكرية ضخمة لإحكام السيطرة على القاهرة . وكانت هذه القوة تتشكل من الفرقة السادسة المشاة الميكانيكية واللواء 25 المدرع المستقل وهى قوة تضم لواءى مشاة ميكانيكى ولوءاى مدرعات ( 200 دبابة) وذكر صادق أن الفريق فوزى لم ينس النص على تجهيز المخابرات الحربية والشرطة العسكرية لتنفيذ كل أوامر الاعتقال المنتظرة صدروها, كما نص الأمر الأمر على عمل نظام سرى للأتصال والسيطرة وتحديد أماكن للتجمع.

وكان واضحا من صيغة الأمر أن الفريق صادق قد كلف بوضع خطة للإستيلاء على الإذاعة ومداخل القاهرة بهذه القوات, كما تقوم إدارة الحرب الألكترونية بالتشويش على أجهزة اللأسلكى بالسفارات لمنعها من نقل أخبار التحركات العسكرية إلى الخارج, واعترف الفريق صادق بأن الفريق فوزى بهذا الأمر الذى سلمه له قد أمره كرئيس للأركان بالتخطيط لانقلاب عسكرى للإستيلاء على السلطة لصالحه وصالح جماعته, وكتب هذا الأمر بخط يده كما دون بخط يده أيضا أن مصدر هذه الأوامر والتعليمات ثلاثة هم فوزى و شعراوى وسامى شرف , وقد ذكر صادق أنه قرأ الورقة وبذل أقصى جهد للسيطرة على أعصابه ومشاعره, فقد كان فى الورقة ما يكفى أية محكمة لتحكم بالإعدام على فوزى وزميليه شعراوى وسامى , وكانت المرة الأولى التى يشرك فيها القائد العام أفراد مدنيين فى إصدار امر لرئيس الأركان.

لقد كان صادق أن ما كتبه فوزى كان إعدادا لانقلاب عسكرى بكل ما تحويه هذه الكلمة من معان, وكان المقصود منه الإطاحة برئيس الجمهورية, ولكنه لم يقدم الوثيقة التى أعطاها له محمد فوزى بخط يده. وبخاصة بعد أن تم القبض على فوزى وزملائه وتقرر تقديمهم للمحاكمة , آثر أن يحتفظ بها لإدراكه أنها وثيقة إدانى بالغة الخطورة قد تؤدى إلى إعدام بعضهم وتشديد العقوبة على البعض الآخر , وكان يكره أن يقوم السادات بتصفية دموية لأعدائه..

وقد ورد الفريق فوزى على الاتهام الخطير الذى وجهته إليه الفريق صادق بأن التعليمات التى حررها فى الورقة المذكورة لم تكن إلا تعليمات عادية لتأمين القاهرة , وأنها لا يمكن أن تحمل معنى الانقلاب العسكرى, وفيما يلى النص الحرفى لرد الفريق فوزى :

1- صور الفريق صادق ورقة تحوى فى رأيه معنى الانقلاب العسكرى وأظهرها على أنها وثيقة تاريخية بخط الوزير وأسماها مرة أخرى ( أمر قتال من الوزير) وحقيقة الأمر أن مثل هذه الورقة تعتبر روتينا يبين واجب القوات المسلحة فى تأمين القاهرة وحمايتها فى مناسبات مختلفة وبصفة دورية وبخاصة أننا كنا مقدمين على تنفيذ الخطة جرانيت وهو عبور قناة السويس والسيطرة على المضايق فى وقت لاحق قريب.

2- إن أسلوب عملية تأمين القاهرة يتم بالاشتراك مع أجهزة أخرى منها الداخلية ورئاسة الجمهورية, وهو أسلوب متبع منذ قيام الثورة .إن اشتراك القوات القوات المسلحة مقصور على الاستعداد والتجهيز للتدخل إذا اقتضى الأمر, ولم يحدث أنها تدخلت , ومن هنا جاء التنويه فى الورقة بذكر أسماء المسئولين باختصار ( فوزى و شعراوى و سامى ) بوصفهم المسئولين عن هذه الأجهزة.

3- حاول الفريق صادق أن يتظاهر بشهامة الآن ويدعى أنه حجب الورقة عن هيئة المحكمة و علما بأنه ثبت ان قدمها فعلا للمحققين وهيئة المحكمة بدليل ما جاء فى الادعاء الثالث المقام على فى محاكمتى فلم تأخذ به المحكمة ومما يثير الضحك والدهشة أنه كيف يعقل ان أدبر انقلابا عسكريا وأسلم دليله مكتوبا بخط يدى إلى الفريق صادق أو لغيره.

وكيف يتسنى لوزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة أن يدبر انقلابا ثم يترك قيادته ومنصبه ويستقيل فى نفس الوقت؟ وأكثر من ذلك تحديا للواقع أن يتصل بى الفريق صادق تليفونيا فى منتصف الليل وفى منزلى وبعد تقديم استقالتى يوم 13 مايو 71 ويقول " إحنا مش اتفقنا إن سيادتك تؤجل استقالتك إلى باكر" حيث إننى كنت أبديت عزمى على الاستقالة عند مقابلتى للفريق صادق , وبعض القادة الآخرين فى مكتبى بعد ظهر نفس اليوم بسبب رفض الرئيس صادق توقيع قرار بدء المعركة, وأبدى الفريق صادق وقتئذ رجاء بتأجيل موضوع الاستقالة لليوم التالى, وبالرغم من ذلك قام الفريق صادق بإجراءات حركية ذكرها هو بنفسه لأجهزة الأمن والقوات المسلحة فى المنطقة المركزية, وأبلغ رئيس الجمهورية بنجاحه فى إحباط انقلاب عسكرى مزعوم.

وقبل أن نبدأ دراستنا ينبغى علينا أن نشرح للقراء ما هو المقصود بعملية تأمين القاهرة , وفى سبيل إيضاح ذلك فإن الأمر يستدعى أن نستبعد أولا من نطاق بحثنا موضوعين لا صلة لهما بتاتا بعملية التأمين, وذلك منعا من حدوث أى التباس أو اختلاط بينهما وبين هذه العملية.

والموضوع الأول: هو عملية الدفاع عن القاهرة ضد أى هجوم أو تسلل من ناحية العدو, وهى عملية بحتة تخطط لها هيئة العمليات بالقوات المسلحة بالاشتراك مع قيادة المنطقة المركزية, وتخصص لها تشكيلات عسكرية معينة بالتعاون مع قوات الدفاع الشعبى.

والموضوع الثانى: هو عملية المحافظة على الأمن والنظام داخل القاهرة أى مقاومة أية عمليات تظاهر أو إضراب أو اعتصام أو شغب, غذ إنها كلها من اختصاص وزارة الداخلية, ولا علاقة للقوات المسلحة بها إلا فى حالات معينة.

أما معينة التأمين المقصودة فى دراستنا هذه فهى حماية القاهرة من دخول اية قوات عسكرية مصرية لتنفيذ أية مخططات انقلابية ضد النظام, أو لأغراض أخرى غير مشروعة, وطريقة التأمين المتبعة منذ بدء ثورة 23 يوليو 52 هى إحكام الرقابة على مداخل القاهرة الرئيسية للتأكد من أن جميع المركبات العسكرية ( عربات أو مدرعات أو دبابات) المتجهة إلى العاصمة لديها تصاريح معتمدة بالدخول من السلطات العسكرية المختصة.

والوسيلة الأساسية للتحكم فى مداخل القاهرة هى نقاط التفتيش التابعة للشرطة العسكرية , والكائنة على مداخل الطرق الرئيسية والتى تلتزم جميع المركبات العسكرية وفقا للتعليمات المستديمة بالتوقف أمام بواباتها الثابتة لمراجعة تصاريح المرور التى تحملها, والتأكد من صحة بياناتها وترتبط نقاط التفتيش بقيادة الشرطة العسكرية عن طريق الأجهزة الهاتفية واللاسلكية لإحكام الرقابة على جميع التحركات العسكرية داخل القاهرة والقادة عليها , وفضلا عن بوابات الشرطة العسكرية الثابتة عند المداخل الرئيسية, فإن بعض اجهزة الدولة والقوات المسلحة المختصة بالأمن تتولى عملية الرقابة على هذه المداخل وبخاصة خلال ساعات الليل عن طريق إرسال دوريات متحركة فى عربات خاصة يرأس كل منها ضابط, متصلة لاسلكيا بقيادتها. وبينما تقوم بعض هذه السيارات بالمرور المستمر على مداخل القاهرة يتمركز البعض الآخر منها فى نقاط محدد عسكرية لم يسبق الإخطار عنها ومتابعة خط سيرها ريثما يتم الاتصال بالفرع المختص بالمنطقة المركزية للتأكد من سلامة موقفها ولاتخاذ الإجراءات اللازمة لإيقاف تقدمها فى حالة حدوث أى شك أو اشتباه إلى حين استطلاع هويتها.

ولم يحدث منذ قيام ثورة 23 يوليو 52 أن دخلت أية قوات عسكرية إلى القاهرة بدون إذن رسمى سوى حادث واحد فريد من نوعه جرى يوم 12 أكتوبر 72 ( خلال شهر رمضان) إذ قام نقيب من الجيش على رأس جماعة من السيارات المدرعة قبل الإفطار مخترقا شوارع القاهرة إلى ميدان سيدنا الحسين, وبعد أن أدى مع بعض جنوده الصلاة فى المسجد أخذ يخاطب الناس الذين تجمهروا حوله معلنا أن الوقت قد حان لدخول المعركة مع إسرائيل , وعندما تم حصار وحدته الصغيرة وإلقاء القبض عليه اتضح أنه كان فاقدا توازنه العقلى.

لقد دون الفريق فوزى تعليماته التى ذكر أنها لتأمين القاهرة بصيغة غير مألوفة بالنسبة للتعليمات العسكرية وبأسلوب غير معهود بالنسبة لعمليات التأمين, ولكى يمكن التوصل إلى حقيقة ما كان يستهدفه الفريق فوزى من إصداره لهذه التعليمات و فإن الأمر يقتضى منا دراسة البنود الواردة بها ومناقشتها بدقة لمعرفة أسرارها وخباياها.

1- إذا كانت عملية تأمين القاهرة عملية روتينية وتجرى بصفة دورية وأنها أسلوب متبع منذ قيام الثورة , فما الذى دعا الفريق فوزى إلى إصدار تعليمات جديدة بشأن التأمين؟ ثم أليس فى النص فى ديباجة الأمر على أن الفريق صادق ( يرتبط وينظم ويخطط) ما يقتضى ا،ه مطلوب منه إعداد خطة جديدة لم يسبق إتباعها من قبل؟ بالإضافة إلى ذلك كله, فإننا نسأل الفريق فوزى هل سبق أن تلقى هو شخصيا تعليمات لتأمين القاهرة على غرار التعليمات التى أصدرها مساء 21 أبريل 71 للفريق صادق , وذلك خلال السنوات التى أمضاها رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة قبل أن يتولى منصب الوزير والقائد العام؟.

2- حاول الفريق فوزى أملا فى تبرير موقفه فى إصدار هذه التعليمات ان يربط بين عملية داخلية روتينية تجرى بصفة دورية منذ بداية الثورة على حسب ما روى, وهى عملية تامين القاهرة, بين عمليات حربية على جبهة القناة من المزمع القيام بها ضد إسرائيل فى المستقبل حينما قال:" خاصة إننا كما مقدمين على تنفيذ الخطة جرانيت وهى عبور القناة والسيطرة على المضايق" علما بأنه لا يوجد أدنى ارتباط بين الموضوعين.

3- سبق أن أوضحنا عند شرح عملية تأمين القاهرة انه لا يجرى بشأنها أى اشتراك أو تنسيق بين الأجهزة التى تتولاها حتى لا يضيع الغرض المنشود من تعدد جهات الرقابة على مداخل القاهرة , ولذا فإن ذكر عبارة أن مصدر الأوامر( فوزى + شعراوى + سامى) يعتبر أمرا مستغربا فى مثل هذا المجال, هذا بالإضافة إلى ما تحمله تلك الصيغة وهى اشتراك وزراء مدنيين فى إصدار أوامر عسكرية من مخالفة تامة للتعليمات والأوامر العسكرية المعهودة فى القوات المسلحة, وإذا كان الفريق فوزى فى ريب من ذلك فإننا نرجو منه أن يظهر لنا أو يدلنا على الوسيلة التى يمكن بها العثور على أمر واحد فقط كتب بهذه الصيغة العجيبة منذ إنشاء الجيش المصرى الحديث عام 1883 حتى اليوم ( أى خلال مائة عام).

4-السؤال الذى يسبب لنا الحيرة ونود أن نوجهه للفريق فوزى هو ضد من كان رئيس الأركان مكلفا بتجهيز وإعداد كل هذه القوة الضخمة من تشكيلات المنطقة المركزية التى كانت تتكون من الفرقة السادسة المشاة الميكانيكية واللواء 25 المدرع المستقل.

المعروف أن تشكيلات الجيش الثانى والثالث كانت بأكملها وقتئذ داخل الدشم والخنادق وفى مواقعها الدفاعية على خط المواجهة مع العدو على الشاطىء الغربى لقناة السويس , ولا يمكن من ناحية العقل والمنطق أن نتخيل أن تشكيلا منها كان فى قدرته أو فى تفكيره أن يترك مواقعة الدفاعية ويستدير للعدو ليحاول القيام بمغامرة انقلابية فى القاهرة والقوات الوحيدة التى كان يمكن استغلالها فى القيام بهذا الدور هى قوات المنطقة المركزية المرابطة فى معسكراتها حول القاهرة .

وعلى ذلك يكون الأمر الذى يثير الدهشة والتساؤل هو أن يطلب الفريق فوزى من الفريق صادق إعداد هذه القوات بالذات عن طريق ( الربط والتخطيط والتنظيم) لتأمين القاهرة ضد عدو مازال مجهولا حتى يومنا هذا, ألا تدل هذه الملابسات كلها على أن عمليات التأمين هذه لم تكن إلا ستارا لإخفاء الهدف الحقيقى, وهو إعداد هذه القوة الكبيرة لتكون رهن الإشارة وجاهزة لتنفيذ أية مهام يكلفها بها القائد العام وبخاصة إذا هدنا بذاكرتنا إلى وقائع محاكمة الفريق فوزى لنتوقف قليلا عند المؤتمر الذى عقده فى مكتبه بمقر القيادة العامة يوم 3 مايو 71 وحضره قائد المنطقة العسكرية المركزة وقادة التشكيلات بها, وكان من بينهم بالطبع قائد الفرقة السادسة المشاة الميكانيكية وقائد اللواء 25 المدرع المستقل, وقد كشفت وقائع المحاكمة عن محاولة فوزى استقطاب القادة الذين حضروا المؤتمر لجانبه بتودد مريب لم يسبق أن ألفوه منه من قبل, ولم تقتصر محاولاته على استقطاب قادة تشكيلات المنطقة المركزية فحسب, فقد ورد فى إجراءات المحاكمة أنه حاول أيضا استمالة قوات الصاعقة إلى صفه خلال زيارته لها فى يوم 8 مايو حينما طلب منهم ا، يرددوا قسما يتعهدون فيه بتنفيذ أية مهمة تصدر إليهم من وزير الحربية.

5-أوضح اللواء أحمد عبد السلام توفيق قائد المنطقة العسكرية المركزية فى ذلك الوقت أن الفرقة السادسة الميكانيكية واللواء 25 مدرع مستقل ( اللذين خصصهما الفريق فوزى فى عملية التأمين) كانا ضمن تشكيلات المنطقة المركزية التى يتشكل منها احتياطى القيادة العامة, وهو الاحتياطى الذى كانت وحداته منذرة بالتحرك فى أى وقت إلى منطقة القناة لتنفيذ الواجبات الموكولة إليها فى خطة العمليات الحرية الموضوعة ضد إسرائيل , ولذا فغن تخصيص هذه القوات فى أية عملية أخرى خارج واجبها الرئيسى فى خطة العمليات كما فعل الفريق فوزى يعد مخالفة صريحة للمبادىء العسكرية الأساسية, ولا يعنى تخصيص كل هذه القوة الضاربة فى خطة داخلية لتأمين مداخل القاهرة سوى محاولة لاستغلالها فى تنفيذ أهداف خاصة خطط لها الفريق فوزى, ولا علاقة لها بخطة العمليات الحربية الموضوعة بمعرفة هيئة العمليات.

6-لو أجرينا مقارنة بين الوحدات المعروفة المدونة بالورقة التى أعطاها الفريق فوزى للفريق صادق وبين الخطة الموضوعة للإنقلاب العسكرى التى وردت فى حيثيات الحكم الذى أصدرته المحكمة – لاكتشفنا على الفور الهدف الخفى الذى كان يرمى إليه الفريق فوزى من إعداد وتجهيز الوحدات التى ذكرها فى الورقة, وهى الفرقة السادسة الميكانيكية واللواء 25 مدرع والمخابرات الحربية والشرطة العسكرية, فقد جاء فى حيثيات المحكمة أن الخطة العسكرية كما خطط لها فوزى كانت تهدف إلى استخدام بعض قوات من المنطقة المركزية مع إتباعها بعمليات اعتقال واسعة بواسطة وحدات من الشرطة العسكرية, ومن أجل ذلك أمر فوزى بتشكيل جماعات خاصة للقبض والاعتقال عددها 10 سرايا كل منها بقيادة ضابط.

7-السؤال الذى نود أن نسأله للفريق فوزى هو ما دخل عملية تأمين القاهرة بعملية التشويش على اجهزة لاسلكى السفارات باستخدام أجهزة ومعدات إدارة الحرب الالكترونية؟ وما دخل عملية تأمين مداخل القاهرة بمبنى الإذاعة والتليفزيون الكائن فى قلب العاصمة, والذى تتولى حراسته بصفة دائمة قوات كبيرة من الأمن المركزى التابعة لوزارة الداخلية؟.

8- أكد الفريق فوزى أن الورقة التى أعطاها للفريق صادق قد ثبت له أنه قد قدمها للمحققين وهيئة المحكمة, بدليل ما جاء فى الإدعاء الثالث المقام عليه فى محاكمته والذى لم تأخذ به المحكمة, وهذا القول مردود عليه بما سبق أن نشرناه من وقائع المحاكمة التى ينصح منها أن هذه الورقة لم يرد لها ذكر ر فى تحقيقات المدعى العام الاشتراكى أو فى مرافعته ولا فى حيثيات الحكم التى دونتها المحكمة, أما قوله بأن الادعاء الثالث الذى كان موجها ضده وهو الاشتراك فى اتفاق جنائى لم تأخذ به المحكمة فهو قول مخالف للحقيقة بدليل أن الحكم الذى صدر عليه من الدائرة الثانية لمحكمة الثورة فى 10 ديسمبر 71 بالأشغال الشاقة المؤبدة ( قبل تخفيفه إلى 15 سنة بناء على استعطافه للرئيس) قد صدر نتيجة لإدانة المحكمة له جميع التهم المنسوبة إليه ومن حيثيات الحكم يتضح أن الإدعاء الثالث المقام عليه قد دخل تحت طائلة المادتين 96 من قانون العقوبات و138أ من قانون الأحكام العسكرية.

9- الرواية الطويلة التى ذكرها الفريق فوزى بشأن اتصال الفريق صادق به تليفونيا عند منتصف الليل بعد تقديم استقالته يوم 13 مايو لم يستهدف من ذكرها سوى محاولة إثبات أنه قد قدم استقالته بسبب رفض الرئيس التوقيع على قرار بدء المعركة, أى أنه لم يقدمها تضامنا مع باقى أفراد المجموعة, ولكن وقائع التحقيق وأقوال الشهود وحيثيات الحكم تنفى كلها هذا الإدعاء, فإن القادة الذين كانوا فى مكتبه عند مقابلته للفريق صادق بعد ظهر يوم 13 مايو 71 واستشهد بهم الفريق فوزى لإثبات أنه أبدى أمامهم جميعا عزمه على الاستقالة بسبب رفض الرئيس التوقيع على قرار بدء المعركة, هؤلاء القادة وهم اللواءات: محمد على فهمى , و أحمد زكى عبد الحميد , و محرز مصطفى , وقد شهدوا فى التحقيق وأمام المحكمة إن الموضوع الوحيد الذى حدثهم فيه الفريق فوزى بعد أن استدعاهم إلى مكتبه كان بشأن الاستقالة التى اعتزم تقديمها تضامنا مع شعراوى جمعة على أثر إقالته بواسطة الرئيس, وعندما حاولوا إسداء النصح له هم والفريق صادق بالعدول عن هذا التفكير بالنسبة للظروف الحرجة التى كانت تمر بها البلاد وقتئذ, أجابهم, قائلا: إحنا شلة متضامنة وحتى لو واحد غلط لازم الثانى يغطى عليه, ولم يذكر هؤلاء القادة فى شهاداتهم أن أى موضوع يتعلق بالمعركة قد أثير خلال اللقاء, أو أن الفريق صادق قد رجا فوزى أن يؤجل استقالته إلى اليوم التالى, وقد نفى الفريق صادق واقعة اتصاله تليفونيا بالفريق فوزى فى منزله عند منتصف الليل يوم 13 مايو 71 وذكر أنه فى ذلك التوقيت كان فى طريقه إلى منزل الرئيس ب الجيزة لحلف اليمين كوزير للحربية.

10- تساءل الفريق فوزى متعجبا كيف يدبر انقلابا عسكريا ويسلم دليله مكتوبا بخط يده إلى الفريق صادق, ولكن هذا التساؤل يبدو وجيها لأول وهلة تمكن الإجابة عنه بسهولة إذا وضعنا فى اعتبارنا حقيقين

الحقيقة الأولى:

أن الصياغة التى كتب بها الفريق فوزى التعليمات تشهد له بالبراعة, فعلى الرغم من أن مغزاها الحقيقى كان لا يعنى سوى الإعداد لانقلاب عسكرى فإن أسلوبها الظاهر لا يمكن أن ينم صراحة عن معناه الباطن, وكان فى تدبير الفريق فوزى فى حالة انكشاف أمر الورقة ومساءلته بشأنها أن يجيب ببراءة بنفس الأسلوب الحالى الذى استخدمه فى رده على الفريق صادق, وهو أن هذه الورقة لم يكن بها سوى مجرد تعليمات روتينية معتادة لتأمين القاهرة , وهذا الأسلوب سبق أن اتبعه رفاقه خلال أحاديثهم التليفونية المسجلة فى الفترة التى سبقت أحداث مايو 71 , فلقد كانت العبارة التى كثر تدوالها فيها بينهم هى:" فوزى حيكون جاهز"وهى عبارة وصفها المدعى العام الاشتراكى فى خطبته أمام المحكمة بأنها عبارة مبهمة تكاد تكون شفرة سرية, بينما أكدوا هم جميعا فى أقوالهم خلال المحاكمة أن المقصود بها هو أن فوزى حيكون جاهز" للمعركة مع العدو, وقد علق المدعى العام الإشتراكى على هذا التبرير بأنه دفاع ساذج وضعيف.

الحقيقة الثانية:

كان الفريق فوزى على أتم ثقة من جهة ولاء الفريق صادق له ولجماعته, وقد كانت علاقته معهم ومع سامى شرف قوية ووثيقة منذ عهد عبد الناصر , ويبدو أن الفريق صادق قد سايرهم وتمشى معهم إلى الحد الذى اعتقد معه فوزى أنه يمكن الاعتماد عليه, وأن أصبح ضالعا معه فى كل خططه وتدبيراته , وقد اعترف صادق بنفسه بأنهم قد قربوه إليهم ولوحوا له بالمناصب, وكان لا يعلق كلما طعنوا فى السادات أمامه,ولا يعارض كلما كشفوا أوراقهم ومخططاتهم لاقتلاعه, مما أقنعهم فى النهاية بأنه قد غدا واحدا من جماعتهم وليس أدل على ذلك من دليلين قاطعين.

أولهما أن فوزى وجماعته فى إحدى جلساتهم بمكتب الفريق فوزى, وفى لحظة من لحظات التجلى والانسجام كشفوا أمام صادق بلا أى تحفظ أو حذر عن نيتهم المبيتة فى التخلص من محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام وقتئذ, وكان ذلك هو السبب الذى دعا صادق إلى أن يرسل سرا إلى هيكل تحذيرا قويا بأن يلتزم الحيطة والحذر, وقد حمل التحذير إليه الصحفى المعروف عبده مباشر الذى كان اتصاله بالفريق صادق لا يثير الشبهات بحكم تردده المعتاد على القيادة العامة باعتباره محررا عسكريا ل جريدة الأهرام , وفكرة التخلص من هيكل واعتقاله بحكم صلاته الوثيقة ب السادات وقتئذ لم يبتكرها خيال الفريق صادق, بل كانت حقيقة واقعة سجلتها المحكمة فى حيثياتها فى خلال الحديث الذى دار بين فوزى و شعراوى جمعة بشأن الاعتقالات التى من المنتظر القيام بها عقب نجاح الانقلاب العسكرى ذكر فوزى فى تلهف وتشوق بأن نفسه فى هيكل. أما الدليل الثانى يثبت مدى قوة الصلات التى كانت ظاهرة للعيان وقتئذ بين الفريق صادق وجماعة فوزى, فإن قوة تلهف وتشوق بأن نفسه فى هيكل. أما الدليل الثانى الذى يثبت مدى قوة الصلات التى كانت ظاهرة للعيان وقتئذ بين الفريق صادق وجماعة فوزى, فإن ذلك يمكن إدراكه مما كتبه هيكل فى كتبه خريف الغضب, والذى يتضح منه أن السادات نفسه كان لديه الانطباع بأن الفريق صادق كان أقرب إلى مجموعة فوزى التى تناوئه منه إلى السادات , وكان هيكل أدرى الناس بالطبع بمشاعر السادات ووجهات نظره بحكم صلته الوثيقة به وقتئذ, وقد ذكر هيكل فى كتابه أن السادات ظل تحت تأثير ذلك الانطباع حتى أكد له هيكل فى اللحظات الحرجة مساء يوم 13 مايو بأن فى إمكانه الاعتماد على الفريق صادق, وعند ذلك فقط أجرى السادات أول اتصال تليفونى به وهو الاتصال الذى عزز الثقة فى نفس السادات من ناحية صادق, ودفعه إلى أن يطلب منه الحضور إلى إلى منزله بالجيزة لأداء اليمين كوزير للحربية, وأعقب ذلك ترقيته إلى رتبة الفريق أول, وهذا الانطباع الذى ظل السادات تحت تأثيره تجاه الفريق صادق حتى اللحظة الأخيرة يوم 13 مايو 71 يفسر لنا بوضوح السر فى تغير معاملة الرئيس لصادق عقب أن تولى رئاسة الجمهورية, فقد كان ذكر صادق أن السادات كان يتجنب الاتصال به, رغم أنه كان يتصل به يوميا فى عهد عبد الناصر ليسأله عن أحواله وصحته وأحواله أسرته, ولقد تساءل فوزى فى نهاية رده عن كيف يتسنى لوزير الحربية والقائد العام أن يدبر انقلابا مسلحا ثم يترك قيادته ومنصبه ويستقيل.

ولا يوجد رد على هذا التساؤل أشد إقناعا من ذلك التفسير الذى ورد فى حيثيات المحكمة من أن فوزى عقب أن استدعى إلى مكتبه بعض كبار القادة الذين كان يظن أن ولاءهم له مضمون, وبعد أن فوجىء بعد تجاوبهم معه فى اتجاهه الانقلابى, اسقط فى يده واتضح له أن إقحام القوات المسلحة فى عمل انقلابى أمر غير مضمون العواقب فغير مساره وانحاز إلى المخطط السياسى الانقلابى وقدم استقالته تضامنا مع شعراوى وباقى الشلة.


ملحـق : دراسات تاريخية حول حادث 4فبراير 1942

لماذا لم يشترك الجيش فى الكفاح المسلح ضد الإنجليز؟

فى ليلة الجمعة 25 يناير 52 تحركت قوات بريطانية ضخمة من معسكراتها وحاصرت مبنى محافظة الإسماعيلية وثكنات بلوكات النظام المجاورة لها. وقبيل السادسة صباحا استدعى المقدم شرطة شريف العبد ضابط الاتصال المصرى لمقابلة الجنرال إكسهام قائد القوات البريطانية بمنطقة الاسماعيلية الذى سلمه انذارا طلب فيه أن يقوم جميع قوات الشرطة ب الإسماعيلية بتسلم أسلحتها إلى القوات البريطانية وأن جلاء أفراد تلك القوات عن دار المحافظة وعن الثكنات وهم مجردون من السلاح ليستقلوا القطارات إلى خارج منطقة القناة وأبلغ ضابط الاتصال هذا الإنذار إلى قائد بلوكات النظام اللواء أحمد رائف وإلى وكيل المحافظة على حلمى ( نظرا لأن مقر المحافظ كان فى بورسعيد ) وقابل الرجلان الإنذار البريطانى بالرفض, واتصلا تليفونيا بوزير الداخلية فؤاد سراج الدين حوالى الساعة السادسة والربع صباحا فأكد عليهما ضرورة عدم التسليم ودفع القوة بالقوة والصمود حتى آخر طلقة.

ووقف القائد البريطانى فى عجرفة واعتداد قائد الشرطة بأنه فى حالة عدم التسليم بعد خمس دقائق فسوف تهدم قواته دار المحافظة والثكنات على من فيها ,لكن الشرطة ورجاله رفضوا الإنذار وصاح النقيب مصطفى رفعت صيحته المشهورة مخاطبا القائد البريطانى " لن يستلم البريطانيون منا إلا جثثا هامدة".

وبعد دقائق قليلة نفذ البريطنيون وعيدهم وأمطروا دار المحافظة والثكنات بوابل من قذائف مدافعهم ورشاشاتهم ورد رجال الشرطة على النار بالمثل.

ونشبت بين الطرفين معركة دموية رهيبة أبدى فيها رجال الشرطة من ضباط وجنود شجاعة جعلتهم مضرب الأمثال فى البطولة والفداء, ولم يتوقفوا عن إطلاق النار حتى نفدت ذخيرتهم بعد أن استمرت المعركة نحو ساعتين وسقط منهم 50 شهيدا وجرح 80 ضابطا وجنديا وأحنى الجنرال أكسها مراسه احتراما لبطولة قوات الشرطة. وقال لضابط الاتصال إن رجال الشرطة قد قاتلوا بشرف واستسلموا بشرف. ولكن هذه المجزرة البشرية لطخت شرف بريطانيا بالخزى والعار وسجلها التاريخ فى صفحاته كأبشع جرائم الاستعمار وكانت الحادث عواقب سياسية خطيرة.

ففى اليوم مباشرة وهو السبت 26 من يناير 52 شب حريق القاهرة المدمر الذى كان ختاما مأساويا للكفاح الشعبى المجيد فى القناة وجاء نذيرا لانتكاسة الانتفاضة الشعبية الجارفة التى كانت جذوتها قد اشتعلت منذ أكثر من ثلاثة أشهر ففى يوم 8 اكتوبر 51 كان مصطفى النحاس رئيس الحكومة الوفدية قد ألقى بيانه التاريخى أمام البرلمان ( مجلسى النواب والشيوخ) الذى أعلن فيه إلغاء معاهدة 36 واتفاقيتى 19 يناير و 10يوليو 1899 بشأن إدارة السودان وقال عبارته المأثورة" من أجل مصر أبرمت معاهدة 36 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها" وفى 13 أكتوبر 51 تقدمت إلى حكومات الدول الأربع بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا و :تصنيف:الإخوان في تركيا|تركيا إلى الحكومة المصرية بمشروع للدفاع المشترك يتضمن أن تتولى حماية قناة السويس قوات دولية تشترك فيها القوات المصرية وقوات الدول الأربع بالإضافة إلى قوات من إستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا ورفضت الحكومة المصرية فى اليوم التالى مباشرة هذا المشروع وأعلن فؤاد سراج الدين وزير الداخلية والمالية وقتئذ فى مجلس النواب يوم 15 أكتوبر قرار الحكومة برفض مشروع الدفاع المشترك. ولم تمض أيام على إلغاء المعاهدة حتى بدأت الحركات الشعبية فى التصاعد فامتنع عمال الشحن والتفريغ فى موانىء القناة عن تفريغ حمولة السفن البريطانية وترك سائقو القطارات ومعاونوهم القطارات التى يستقلها جنود بريطانيون ورفضوا تزويدها بالماء والوقود مما أدى إلى تعطيلها.

وجاءت الضربة التالية متمثلة فى انسحاب أكثر من أربعين ألف عامل مصرى من معسكرات الانجليز وبين يوم وليلة أصبحت القاعدة الضخمة بغير عمال مما أدى إلى تعطيل المرافق وشل الحياة بداخلها.

وقابلت الحكومة هذا العمل الوطنى بالتأييد والتشجيع واعتمدت ستة ملايين من الجنيهات لتشغيل هؤلاء العمال فى أعمال مؤقتة وامتنع المتعهدون والموردون عن إمداد القوات البريطانية بالسلع التموينية الأمر الذى اضطر الإنجليز إلى استيراد مأكولاتهم من الخارج مما كبدهم خسائر مالية فادحة.

ولم تلبث حركة المقاطعة الشاملة أن تحولت بعد بضعة أيام إلى حركة مقاومة شعبية عنيفة شملت جميع أرجاء منطقة القناة وبدأت كتائب التحرير والفدائيين والمنشآت البريطانية. ووقعت مصادمات دموية بين القوات البريطانية والجماهير فى بور سعيد و الاسماعيلية و السويس سقط فيها مئات من الشهداء والجرحى ولمقاومة حركة الكفاح الشعبى المسلح قام الانجليز بعزل منطقة القناة عن مصر عزلا تاما وأقاموا حكما فيها حكما عسكريا غاشما متجاهلين تماما السلطات الإدارية المصرية: وعلى الرغم مما اتصف بع ضباط وجنود الجيش المصرى من نخوة وطنية وما تميزوا به من شجاعة وإقدام عبر سجل تاريخهم الحافل بالأمجاد والتضحية والفداء فإن الظروف لم تكن مواتية عقب إلغاء المعاهدة فى 8 أكتوبر 51 كى تشترك وحدات نظامية مصرية فى معارك سافرة ضد القوات البريطانية فى منطقة القناة وكان قرار الحكومة المصرية بتجنيب الجيش المصرى الاشتباك مع الجيش البريطانى قرارا يتسم بالحكمة وبعد النظر, إذ أن التفوق العسكرى البريطانى الساحق على القوات المصرية كان حقيقة واقعة لا يمكن الجدل بشأنها, إذ كيف يمكن تصور أن بريطانيا التى كانت المورد الوحيد للسلاح ل مصر يمكن أن تزود الجيش المصرى بالأسلحة والمعدات الحديثة التى تكفل له الوقوف فى وجه القوات البريطانية فى منطقة القناة. لقد كان القتال الوحيد الذى فى الإمكان نجاحه ضد قوات عسكرية على هذه الدرجة من القوة والضخامة وعلى هذا المستوى العالى من التدريب والتسليح هو حرب العصابات طويلة المدى وقد ثبت بالفعل أن قتال الفدائيين وكتائب التحرير رغم ضعف تدريبها وتسليحها وحداثة عهدها بالقتال قد أدى إلى نتائج باهرة خلال الفترة القصيرة التى لم تتجاوز المائة يوم من ( 18 أكتوبر 51 حتى 25 يناير 52 ) التى كانت تشم خلالها هجماتها على القوات البريطانية ومعسكراتها ومنشآتها. فلقد أزعجت هذه الهجمات القيادة البريطانية إلى الحد الذى جعلها تسارع بترحيل قواتها وتشتيت شمل وحداتها فى كل أرجاء منطقة القناة ووصل الأمر إلى اضطرارها لاحتلال بعض مدن وقرى محافظة الشرقية ووضع حراسة دائمة على جميع الطرق المؤدية إلى منطقة القناة وعلى جميع المرافق الحيوية والمنشآت الهامة. مما أرهق القوات البريطانية وكلف قيادتها ثمنا غاليا. ولو كانت القوات النظامية المصرية قد صدرت لها الأوامر بالاشتباك مع القوات البريطانية أو تم للقيادة البريطانية استدراجها إلى لك الشرك الخبيث. لكان ذلك فى صالح بريطانيا على طول الخط إذ إن نشوب معارك بين الجيشين المصرى والبريطانى كان سينتهى حتما وفقا لمقياس مقارنة القوات ببعضها إلى هزيمة ساحقة للجيش المصرى مما كان سيكسب بريطانيا مركزا حربيا جديدا بحكم انتصار قواتها فى ساحة القتال. وكان الأمر المحتمل بعد ذلك هو تقدم قواتها إلى القاهرة واختلالها من جديد وهو نفس ما جرى عقب هزيمة الجيش المصرى فى التل الكبير خلال وقائع الثورة العرابية عام 1882 مما كان كفيلا بانتكاس قضية المطالبة بجلاء قوات الاحتلال وفقد المكاسب الثمينة التى ظفرت بها الحركة الوطنية عقب إلغاء معاهدة 36 وبدء حركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز فى منطقة القناة, وعلاوة على ذلك العامل السياسى الهام الذى ذكرناه كانت الأوضاع الإستراتيجية للجيش المصرى لا تسمح له بتاتا بالاشتراك فى القتال ضد القوات البريطانية نظرا للعوامل الآتية:

أولا – تحكم البريطانيين فى مصير معظم تشكيلات الجيش المصرى وكان يبدو ذلك بوضوح بالنسبة لتشكيلات الفرقة الأولى المشاة المرابطة فى سيناء والقوة المصرية المرابطة فى السودان . وكانت وحدات الفرقة الأولى التى كانت تعد وقتئذ أكبر تشكيل مقاتل بالجيش المصرى والموزعة فى رفح والعريش والقنطرة شرق لا ترتبط بقواعدها الإدارية فى الدلتا و القاهرة إلا عبر كوبرى الفردان فوق قناة السويس الذى يمر عليه الخط الحديدى الذى يصل بين القاهرة وغزة, وكانت قطارات السكة الحديد هى الوسيلة الأساسية لتزويد وحدات الفرقة بما تتطلبه من إمدادات ومؤن, وفى ليلة 17 أكتوبر 51 تمكنت قوة بريطانية كبيرة من الإستيلاء على هذا الكوبرى الهام فى عملية ليلية مفاجئة بعد أن كانت تتولى حراسته منذ زمن بعيد دون أن تفكر القيادة المصرية فى تدعميها وزيادة تسلحيها للمحافظة على شريان الحياة الوحيد الذى يمد وحدات الفرقة الأولى بمقومات بقائها, وأعقب البريطانيون هذه العملية بالإستيلاء على جميع معديات عبور القناة من بورسعيد شمالا إلى السويس جنوبا والتى كانت تعمل فى نقل العربات والأفراد بين شطى قناة السويس .

وبهذا العمل تم عزل وحدات الفرقة الأولى فى سيناء عن قواعدها الإدارية فى مصر وأصبح مصيرها معلقا فى يد البريطانيين الذين أصبحوا يتحكمون فى جميع خطوط مواصلاتها البرية مع مرابطة قواتهم على مؤخرتها فى الوقت الذى تواجه فيه وحداتها القوات الإسرائيلية فى الشمال مما جعلها فى مأزق استراتيجى خطير. وكانت القوة المصرية فى السودان المرابطة فى الخرطوم وجبل الأولياء والمكونة من كتيبة من المشاة ورئاسة القوات فى موقف لا تحسد عليه. فلم تكن لديها أية مقدرة على مواجهة قوات الاحتلال البريطانى الضخمة فى السودان التى كانت لها السيطرة الكاملة على جميع أراضى السودان ولديها كل السلطات الإدارية والعسكرية وكانت أية حركة عدائية من ناحية هذه القوة معناها إعادة مأساة نوفمبر 1924 التى تم خلالها طرد الجيش المصرى من السودان عقب حادث اغتيال السيرلى ستاك سردار الجيش المصرى وحاكم عام السودان ب القاهرة .

وكانت أوامر الحكومة المصرية إلى القيادة العامة تقضى بمقاومة القوات البريطانية فى حالة اجتيازها منطقة القناة ومنعها بالقوة من التقدم إلى القاهرة ونظرا لأنه لم يكن متوفرا من التشكيلات المقاتلة ب القاهرة سوى لواءين من المشاة . لذا صدرت الأوامر بأن يحتل أحدهما موقعا دفاعيا على جانبى طريق السويس القاهرة , والثانى على جانبى طريق الإسماعيلية القاهرة على بعد عدة كيلو مترات من العاصمة بعد أن عززت قوتهما ببعض الوحدات المعاونة من سلاحى المدفعية والفرسان.

وكانت هذه الدفاعات التى أقيمت على عجل فى الرمال على مشارف القاهرة لا تعدو أن تكون دفاعا مظهريا شكليا لا جدوى منه من الناحية الواقعية فقد كان فى مقدرة القوات البريطانية المزودة بأعداد وفيرة من الدبابات السنتوريان والتى تحميها قوات جوية لها السيادة الكاملة على الأجواء المصرية إما اكتساح الدفاعات المصرية الضعيفة التحصين والمكشوفة الأجناب وإما تطويقها بالالتفاف حولها وعزلها تماما عن القاهرة .

ثانيا : سوء حالة الجيش المصرى.. من النواحى المادية والمعنوية إذ كانت قيادة الجيش وقتئذ خاضعة تماما لسيطرة الملك فاروق الذى لم يكن مؤيدا لسياسة الحكومة الوفدية فى إلغاء المعاهدة وقتال الإنجليز ولم يقدم على توقيع مراسيم إلغاء المعاهدة إلا خشية انتفاضة الشعب ضده, وعندما شرع مصطفى النحاس زعيم الوفد عقب فوز حزبه الساحق فى الانتخابات فى تشكيل حكومته فى 12 يناير 50 حاول الملك إقناع النحاس بتعيين الفريق محمد حيدر وزيرا للحربية وهو المنصب الذى ظل يشله حيدر فى جميع الحكومات المصرية التى تشكلت منذ 19 نوفمبر 47 لضمان سيطرة الملك على الجيش وعندما رفض النحاس محاولاته وأصر على تعيين مصطفى نصرت وزيرا للحربية أصدر الملك مرسوما بإنشاء منصب جديد لم يكن للجيش عهد به من قبل وعين فيه الفريق محمد حيدر وهو منصب القائد العام للقوات المسلحة وجعل حق تعيينه وعزله من سلطة الملك وحده كى يتمكن من الإستمرار فى فرض سيطرته على الجيش – وكانت تتبارى فى إظهار ولائها للقائد الأعلى بوسائل ممجوجة أمرا أثار سخط الضباط الوطنيين خاصة بعد أن أصيب الجيش بالهزيمة فى حرب فلسطين عام 48 نتيجة لسوء قيادته وساعد على اهتزاز ثقة الضباط فى قياداتهم ما أثارته قضية الأسلحة الفاسدة من ضجة شديدة وتأثير على الرأى العام مما أرغم الفريق محمد حيدر على تقديم استقالته فى نوفمبر 50 وإحالة الفريق عثمان المهدى رئيس الأركان إلى الاستيداع ضمانا لحيدة التحقيق الذى شمل عددا كبيرا من كبار الضباط.

ولكن لم يمض أقل من ستة أشهر حتى أصدر الملك أوامره فى مايو 51 بعودة حيدر و عثمان المهدى إلى منصبيهما وكانت هذه التصرفات المعادية لمشاعر الضباط بالإضافة إلى إبعاد اللواء محمد نجيب المعروف بوطنيته وشجاعته عن منصب مدير سلاح الحدود ليتولاه اللواء حسين سرى عامر أحد أذناب السراى وأحمد المتهمين فى قضية الأسلحة الفاسدة من العوامل التى أثارت ثائرة الضبط ضد الملك وسهلت الفرصة أمام تنظيم الضباط الأحرار لتجنيد عدد كبير منهم فى هذه الآونة ولهذا السبب اشتعلت معركة انتخابات نادى الضباط التى كانت بمثابة صراع علنى وتحد سافر بين الملك والعناصر الوطنية فى الجيش فى شهر ديسمبر 51 , واستطاع الضباط أن يكيلوا لطمة شديدة للملك بفوز اللواء محمد نجيب وقائمة مرشحى الضباط الأحرار فوزا ساحقا فى الانتخابات وإبعاد ممثل سلاح الحدود عن مجلس الإدارة وتوالت الأحداث التى أظهرت مدى ما يكنه الضباط نحو الملك من عداء مما اضطره إلى الضغط على الفريق حيدر لإصدار القرار بحل مجلس إدارة النادى فى 16 يوليو الذى لم يمض سوى أسبوع واحد على صدروه حتى قامت ثورة 23 يوليو 52 وعلاوة على الروح المعنوية السيئة التى كان عليها الجيش فقد كانت حالته أشد سوءا من ناحيتى التدريب والتسليح بعد الخسائر الجسيمة فى الأسلحة والمعدات التى منى بها خلال حرب عام 48 . وقد تعمدت السلطات البريطانية عدم استعراض النقص الشديد الذى كان يعانيه الجيش فى أسلحته ومعداته أو تزويده بأية أسلحة حديثة تجعل منه قوة مقاتلة حقيقية بعد أن أزعجها المد الثورى المتزايد على مصر واشتعال الروح الوطنية ومطالبة الشعب المصرى لها بجلاء قواتها عن المنطقة القناة. ورغم عدم اشتراك الوحدات النظامية المصرية فى القتال, فقد اشترك عدد كبير من ضباط الجيش وخاصة الضباط الأحرار بالإسهام سرا فى المقاومة الشعبية بتدريب الفدائيين على حرب العصابات وإمدادهم بالسلاح والذخائر والمفرقعات والاشتراك معهم شخصيا فى بعض عملياتهم وهجماتهم ضد المنشآت البريطانية.

من المسئول عن حادث 4 فبراير 1942 ؟

لم يشهد التاريخ فى مصر حدثا تضاربت حوله الآراء وتناقضت فيه الأحكام وتباينت بشأنه وجهات نظر الكتاب والمؤرخين, مثل ذلك الحدث السياسى الخطير الذى عرف فى تاريخنا الحديث باسم حادث 4 فبراير عام 42 . ويرجع السر فى ذلك إلى أ، القوى المعادية للوفد التى كانت تتمثل فى السراى و أحزاب الأقلية وجدت فى ذلك الحادث الفرصة التى كانت تتحينها منذ زمن بعيد لمحاولة هدم حزب الوفد والقضاء على ما يتمتع به من شعبية كوسيلة للإنفراد بالسلطة والاستئثار بالحكم.

وتركزت محاولاتهم من جهة لتصوير الحادث للشعب بأنه قد تم بناء على تواطؤ بين مصطفى النحاس والسفير البريطانى, وأن الوزارة التى تألفت عقب الحادث إنما تشكلت على أسنة الحراب البريطانية.

ومن جهة أخرى حاولوا أن يخلقوا من املك السابق فاروق بطلا شعبيا, فزعموا انه رفض الإنذار البريطانى فى إباء وشمم, ووقف صامدا فى وجه تهديد الدبابات البريطانية التى كانت تحاصر قصر عابدين, وكان على أتم استعداد للتخلى عن عرشه فى سبيل الحفاظ على كرامة مصر .

وصادفت هذه الدعايات صدى واسعا لدى قطاعات عريضة من الشعب المصرى, خاصة بين أفراد الطبقة المثقفة وبين ضباط الجيش الذين استثاروا حميتهم بأنباء ذلك العدوان على القصر الذى اعتبروه اعتداء على كرامة الجيش والوطن, هذا ويعود السبب فى نجاح هذه الحملات الدعائية إلى أمرين:

أولهما : غموض المعلومات التى توافرت وقتئذ لدى الرأى العام عن الحادث إذ أنه وفقا لتعليمات الرقابة امتنعت جميع الصحف عن ذكر تفاصيل الحادث أو مجرد الإشارة إليه.

كما أن الزعماء والقادة السياسيين الذين حضروا الحادث واشتركوا فى وقائعه وتفاصيله كانوا كلهم ما عدا مصطفى النحاس من خصوم الوفد, لذا لم يتطوع واحد منهم ليلقى بكلمة الحق التى تميط اللثام عن خفاياه وخبايا أسراره, وعندما استدعى هؤلاء الزعماء أمام محكمة الجنايات عام 46 للإدلاء بشهاداتهم فى قضية اغتيال أمين عثمان , لم يكن التعويل على شهاداتهم إلا بقدر محدود, فقد كانوا وقتئذ فى موقف الدفاع عن أنفسهم لا أمام محكمة الجنايات إنما أمام محكمة التاريخ , ولذا تركز جهد كل منهم فى تبرئة نفسه وإضفاء هالات البطولة على موقفه.

أما الأمر الثانى فهو نجاح السراى فى استغلال الحادث إعلاميا على أوسع نطاق بفضل نفوذها على بعض دور الصحف الكبرى وعدد من كبار الكتاب ولهذا السبب استمرت الحملة الدعائية المضادة للوفد والتى أدانت موقفه فى حادث 4 فبراير تواصل هجماتها الضاربة ضده لسنوات طويلة وخاصة خلال عهد فاروق.

واليوم وبعد أن أنقضت ثلاثة وأربعون عاما على الحاث رحل خلالها أبطاله وشهوده إلى العالم الآخر سواء من المصريين أو الإنجليز, وعقب ان سمحت السلطات البريطانية بنشر مذكرات اللورد كليرن السفير البريطانى فى مصر وقت وقو ع الحادث, وكان اسمه الأصلى مايلز لامبسون, وبعد أن تم رفع الحظر القانونى عن نص جميع الوثائق والبرقيات التى تم تبادلها خلال تلك الآونة بين السفير البريطانى ب القاهرة ووزير الخارجية بلندن السير أنطونى إيدن , ولاشك أن الوقت قد حان لتناول وتحليل ما جرى فى ذلك اليوم العصيب من وقائع وأحداث بتجرد وحياد دقيقين بعيدا عن العواطف الشخصية أو الأهواء الحزبية فمن حق الشعب المصرى بل الأمة العربية بأجمعها أن يطلعا على الحقائق الصحيحة المدعمة بالوثائق والمستندات , وكفى مالقيه هذا الحادث من محاولات التزوير وأساليب التزييف والخداع, ووفقا للحكمة المأثورة: إذا كان فى لإمكان خداع الناس بعض الوقت فغن من المستحيل خداعهم طول الوقت.

ولكى يمكن لنا إصدار حكم لتحديد من الذى تقع عليه مسئولية ما وقع فى 4 فبراير عام 42 , ينبغى أن نوضح أن حادثا مماثلا قد جرى قبله بحوالى عام وسبعة أشهر, وكان ذلك بالتجديد فى 17 يونيو عام 40 فى عهد حكومة على ماهر وبعد إعلان إيطاليا الحرب على الحلفاء بأسبوع واحد,

وعلى الرغم من أن الموقف البريطانى فى الحادثين يكاد يكون واحد, فإن رد الفعل الذى اتبعه فاروق فى مواجهة كل منهما كان مختلفا, فبينما نراه فى حادث 17 يونيو عام 40 قد للإنذار البريطانى دون اعتراض, وقام بتنفيذ الطلبات البريطانية دون احتجاج, نجد أنه فى حادث 4 فبراير قد نحا مسلكا مختلفا رغم أن الوضع السياسى كان أشد حرجا, فقد كان روميل يطرق أبواب مصر من الغرب,والمظاهرات تطوف أنحاء القاهرة تهتف" إلى الأمام يا روميل" وأزمة الخبز مستحكمة إلى الحد الذى دعا الناس إلى تخاطف الخبز من حامليه فى الشوارع.

ولم يكن السر فى اختلاف موقف فاروق فى الحادثين يعود إلى أية دوافع وطنية, فلقد كان الإنذار فى المرتين متشابها, ,والطلبات البريطانية فى كلتيهما قاطعة الدلالة على تدخل الإنجليز فى الشئون الداخلية لمصر, كان الإنجليز يطالبون الملك فى حادث 17 يونيو 40 بمطلبين , أولهما تنحية رئيس وزرائه على ماهر عن الحكم لشكهم فى ميوله مع ألمانيا وإيطاليا, وثانيهما تشكيل حكومة صديقة لبريطانيا تتولى تنفيذ المعاهدة نصا وروحا. واستجاب فاروق للإنذار البريطانى فقدم على ماهر استقالة حكومته, وبادر الملك بتكليف أحد كبار المستقلين من أصدقاء الإنجليز وهو حسن صبرى بتشكيل حكومة جديدة فى 27 يونيو 40 كانت تضم ستة من الوزراء المستقلين وعشرة وزراء يمثلون أحزاب الأقلية( 4 من السعديين و4 من الدستوريين وممثل واحد لكل من الحزب الوطنى و حزب الاتحاد ) وكان الأمر الذى أدى إلى وقوع الحادث الثانى 4 فبراير 42 هو تقديم حسين سرى رئيس الوزراء استقالته فى 2 فبراير بعد أن عجزت وزارته الضعيفة عن مواجهة أزماتها مع القصر, وعن السيطرة على الموقف السياسى المضطرب فى البلاد, ونظرا للوضع العسكرى السيىء الذى كانت عليه بريطانيا وقتئذ.

فقد بدأ روميل هجومه الكبير يوم 21 يناير 42 الذى نمكن خلاله من هزيمة القوات البريطانية التى كانت قد اختلت من قبل, واستطاع بعد أسبوع واحد فقط احتلال بنغازى يوم 29 يناير ومواصلة تقدمه شرقا فى اتجاه الحدود المصرية, لذلك تقدم السفير البريطانى إلى الملك بمطلب واحد أبدى إصراره الشديد على تنفيذه, وهو تكليف مصطفى النحاس زعيم حزب الأغلبية بتشكيل حكومة قوية يمكن عن طريقها مواجهة الموقف المتدهور فى مصر . فى هذه المرة لم يبد فاروق استجابة كالمرة الأولى, وحاول التسويف والمراوغة اكتسابا للوقت. وعندما أدرك السفير البريطانى أن الملك يراوغه وأنه لم يستجب للإنذار مثل المرة السابقة ساق الدبابات والعربات المدرعة البريطانية لتضرب الحصار حول قصر عابدين فى الساعة التاسعة مساء يوم 4 فبراير 42 , وبعد أن ألقى السفير على فاروق بيانا حمله فيه مسئولية انتهاك المادة الخامسة من المعاهدة, قدم إليه وثيقة تنازله عن العرش كى يوقعها وعندئذ انهار فاروق وطلب السفير فى ذلة واستجداء أن يمنحه فرصة أخرى, وأقسم له بشرفه أنه سيستدعى النحاس فورا لتشكيل الوزارة..

والأمر الذى يدعو إلى التساؤل هو: لماذا أوصل فاروق الأمور إلى هذا المنزلق الخطير؟ ولماذا لم يعالج الموقف فى أزمة 4 فبراير 42 بنفس الأسلوب الذى انتهجه فى علاج أزمة 17 يونيو 40 مادام الموقف كان فى الحالتين واحد؟ لقد كان فاروق أدرى الناس بالطبع بطبيعة اللعبة السياسية التى كانت تدور على المسرح السياسى المصرى وقتئذ, وأن السلطات العسكرية والسياسية البريطاينة هم أصحاب القوة الحقيقية فى البلاد خاصة فترة الحرب, وأن السفارة البريطانية فى جاردن سيتى هى التى ترسم وتنظم عملية تشكيل الوزارات وتغييرها, وأنه هو شخصيا ضالع مع البريطانيين فى ممارسة اللعبة السياسية وفقا للقواعد والأصول التى وضعوها منذ احتلالهم مصر عام 1882 والتى اتبعوها مع جميع الجالسين على عرش مصر منذ عهد الخديو توفيق, التى تقضى بأن يكون التخطيط والتدبير من اختصاصهم, وأن السبب الرئيس فى محاولة فاروق الخروج على قواعد اللعبة السياسية وعدم الالتزام بالأسلوب الذى جاء عليه العرف والذى مضى على إتباعه 60 عاما كاملة منذ بدء الاحتلال البريطانى ل مصر , يرجع فى اعتقادي إلى العاملين: أولهما إيمان فاروق المطلق بانتصار المحور على الحلفاء وأنه لن يمضى سوى وقت قصير حتى يكون روميل على رأس قواته فى القاهرة مما يدعم مركزه لدى الألمان ويحفظ له عرشه.

هذا وتؤكد الوثائق الألمانية التى وضع الحلفاء يدهم عليها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وجود صلة بين فاروق والمحور نشأـ منذ أبريل 41 عن طريق اتصالات قام بها يوسف ذو الفقار السفير المصرى فى طهران ووالد الملكة فريدة مع السفير الألمانى فى طهران لإبلاغ وجهة نظر فاروق لهتلر. أما العامل الثانى فهو عبارة عن نوازع شخصية وعقد نفسية تراكمت فى نفس فاروق واستقرت فى أعماق وجدانه, فعلاوة على العداء التقليدى الدائم بين السراى والوفد كان فاروق يكن كراهية شخصية شديدة ل مصطفى النحاس , وكانت هذه الكراهية ترجع فى واقع الأمر إلى خمس سنوات سابقة على وقوع حادث 4 فبراير 42 .

لقد كان النحاس رئيسا للوزراء عندما تولى فاروق سلطاته الدستورية فى 29 يوليو عام 37 , وكان وقتئذ غلاما يافعا فى السابعة عشر من عمره, وفى 20 أكتوبر أصدر أمرا ملكيا بتعيين على ماهر رئيسا للديوان الملكى دون استشارة الحكومة وفقا للدستور. وتمكن على ماهر وأنه من رجال القصر فى فترة قصيرة أن يحولوا الغلام الصغير إلى طاغية كبير, وأن يشجعوه على الاستئثار لنفسه بكل نفوذ وسلطان دون اعتبار لحكومة أو دستور أو برلمان .

وأخذت الأزمات الدستورية تتوالى بين الملك والحكومة بسبب دسائس على ماهر وحاشية القصر.

ونتيجة لموقف النحاس المتصلب إزاء المخالفات الملكية للدستور لم يطق فاروق صبرا على بقاء النحاس, وعندما أدرك أن التخلص منه لن يسبب له مشكلة لدى الجانب البريطانى بادر فى 30 ديسمبر عام 37 ( ولم يكن قد أتم الثامنة عشرة من عمره بعد) إلى أرسال كتاب إقالة إلى النحاس بلغ من عنفه وشدة لهجته أن أرسل السفير البريطاى إلى حكومته قائلا" لم أقرأ فى حياتى إقالة أكثر عنفا وأشد بذاءة مما فى هذا الخطاب".

ورغم ابتعاد النحاس عن الحكم فإن كراهية فاروق له لم تنقطع, وليس أدل على ذلك من أن السفير البريطانى حينما تقدم إلى الملك فى 17 يونيو عام 40 مطالبا بعزل على ماهر وتشكيل حكومة صديقة لبريطانيا, نصح الملك باستدعاء كل من محمد محمود باعتباره زعيم المعارضة فى مجلس النواب و مصطفى النحاس باعتباره زعيم حزب الأغلبية الشعبية للتشاور معهما من أجل تشكيل الوزارة الجديدة, وأجاب فاروق على الفور" من الصواب لتغيير الحكومة أن أستشير زعيم المعارضة, أما النحاس فقد أهاننى" وهكذا كشف فاروق عن خبيئة نفسه, فقد اعتبر أن ألازمات الدستورية التى وقعت بينه وبين النحاس خلال مدة رئاسته للوزارة هى إهانات شخصية وجهت إليه.

نعود بعد أن أوضحنا الحقائق السابقة إلى استكمال المقارنة التى عقدناها بين حادثى 17 يونيو 40 و4 فبراير 42 فنجد أن هناك سؤالين هامين ما زالا ينتظران الإجابة عنهما, السؤال الأول: مايلز لا مبسون إليه فى 17 يونيو 40 هو تدخل فى شئون مصر الداخلية بينما فى فبراير 42 اعتبر ذلك تدخلا خطيرا فى تلك الشئون؟ والسؤال الثانى: لماذا لن تعتبر أحزاب الأقلية أن الوزارة التى شكلها حسن صبرى فى 27 يونيو 40 نتيجة للإنذار البريطانى قد شكلت على أسنة الحراب البريطانية كما اتهموا وزارة النحاس بعد ذلك فى 4 فبراير 42 ؟ إن السر فى ذلك يرجع إلى أن وزارة النحاس فى فبراير 42 كانت وزارة وفدية صرفة, بينما كانت وزارة حسن صبرى تضم عشرة وزراء من أحزاب الأقلية, لقد واجه النحاس بنفسه زعماء أحزاب الأقلية بهذه الحقيقة الجارحة حينما كانوا يتداولون معه خلال الاجتماع الذى دعا إليه الملك رؤساء الأحزاب والزعماء السياسيين فى قصر عابدين بعد ظهر يوم 4 فبراير عام 42 عقب تلقيه الإنذار البريطانى, فعندما أخذوا يلحون عليه فى قبوله تشكيل وزارة قومية برئاسة تضم ممثلين عن الأحزاب .قال لهم النحاس بصراحته المعروفة: كيف تعتبرون دخول الأحزاب الأخرى معى فى الوزارة رفضا للإنذار البريطانى وعدم استسلام منى بينما تأليف وزارة وفدية يعتبر استسلاما؟.

نسرد بعد ذلك بإيجاز الأحداث التى جرت يوم 4 فبراير عام 42 على ضوء الوثائق البريطانية, فى العاشرة من صباح 4 فبراير عقد مجلس الحرب فى مصر اجتماعا بالسفارة البريطانية حضره أوليفر ليتلون وزير الدولة المقيم بالشرق الأوسط والجنرال أوكنلك القائد العام للقوات البريطانية فى الشرق ألأوسط والسفير البريطانى,وقرر المجلس أن يوجه السفير البريطانى إنذار أخيرا إلا أن رئيس الديوان الملكى وفى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا قابل السفير البريطانى رئيس الديوان الملكى أحمد حسنين فى قصر عابدين وسلمه الإنذار البريطانى المتفق عليه, وكان نصه كما يلى" إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة من مساء اليوم أن النحاس باشا قد دعى لتأليف الوزارة فإن جلالة الملك فاروق يجب أن يتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج". وعلى أثر تلقى فاروق الإنذار استدعى للحضور إلى قصر عابدين 17 من رؤساء الأحزاب والزعماء السياسيين, وتم الاجتماع فى الرابعة مساء واستمر قرابة ساعتين, ورأس الملك الاجتماع, وتلا أحمد حسنين بيانا باسم الملك أخطر الحاضرين فيه بالإنذار البريطانى الذى تسلمه.

وختم البيان بدعوة المجتمعين إلى تبادل الرأى فى هذا الموقف, وانصرف فاروق تاركا لهم حرية التشاور فى الأمر, وحاول الزعماء إقناع النحاس بالموافقة على تأليف وزارة وفدية, وعندما رفض عرضوا عليه تشكيل الوزارة واتفقوا جميعا على ألا يشكل إلا وزارة وفدية عدلوا عن فكرة تشكيل الوزارة واتفقوا جميعا على تقديم احتجاج على الإنذار البريطانى باعتباره اعتداء على استقلال البلاد وإخلالا بأحكام المعاهدة ووقعوا عليه جميعا وندما عاد الملك إلى الاجتماع أقر صيغة الاحتجاج, واتصل أحمد حسنين بالسفير البريطانى وأبلغه أن سيحمل إليه رد الملك فى السادسة والربع مساء وقبل وصول أحمد حسنين بالرد كان السفير البريطانى قد أرسل إلى حكومته برقية تفصح بجلاء عن حقيقة نواياه تجاه فاروق وأن مظاهرته العسكرية التى اعتزم القيام بها ليس الغرض منها هو إرغام الملك على تكليف النحاس بتشكيل الحكومة كما ورد فى الإنذار الذى سلمه إلى رئيس الديوان عند ظهر اليوم بل تغير الغرض وأصبح الآن هو إرغام الملك على التنازل عن العرش أو عزله على أساس عدم صلاحيته للحكم وفشله فى تنفيذ المعاهدة عن العرش أو عزله على أساس عدم صلاحيته للحكم وفشله فى تنفيذ المعاهدة ويبدو هذا بوضوح من البرقية المرسلة من السفير إلى وزارة الخارجية. والتى كان نصها ما يلى:

" تم الاتفاق فى مجلس الحزب على أنه إذا لم يصلنى رد مرض فى السادسة مساء فسأطلب مقابلة الملك فاروق. سيصحبنى الجنرال ستون قائد القوات البريطانية فى مصر وستتخذ الإجراءات العسكرية الضرورية فى نفس الوقت وعند الوصول إلى القصر سأطلب من الملك فاروق أن يعتزل العرش ما دام لم يبعث إلى بالرد المرضى وسأقوال إنه يجب أ، يوقع وثيقة بذلك فى حضورى.

ولن يكون طلبى على أساس رفضه تكليف النحاس بتشكيل الوزارة , بل سيكون الطلب ابتداء على أساس عدم مسئوليته, وأنه ثبت عدم صلاحيته للحكم وفشله فى تنفيذ المادة الخامسة من المعاهدة, وإذا رفض فاروق الاستجابة فسوف أبلغه أنه خلع,وفى الحالتين فإن الملك يجب أن يصحبنى أنا والجنرال ستون خارج القصر, وقد اتخذت الاجراءات لنقله على سفينة بريطانية ,وقد تلقيت مكالمة تليفونية من أحمد حسنين انه سيحضر إلى رسالة فى السادسة والربع وعلى ذلك اتفقت مع الجنرال ستون على أن نؤخر اجتماعنا بالملك إلى التاسعة مساء بدلا من الثامنة". وعندما حضر أحمد حسنين إلى السفارة وسلم نص الاحتجاج الذى وقعه الزعماء إلى السفير لم يلبث بعد قراءته أن قال لحسنين إن هذا ليس ردا وإنه سيحضر لمقابله الملك فى التاسعة مساء, ولا يعنى ما قرره السفير فى برقيته لحكومته أنه قد تخلى عن فكرة تأليف النحاس لوزارة وفدية, ولكن الخطة الجديدة تعدلت لكى يتولى النحاس الوزارة, ولكن بعد خلع فارق وعلى الرغم من أن أمين عثمان قد أعطى السفير التأكيد بذلك فإن الثابت أ،ه لم يكن قد أجرى بعد أية اتصالات مع النحاس بشأن هذا الوضع الجديد لأ، النحاس كان حتى هذه اللحظة ما يزال مجتمعا مع الزعماء فى القصر.

نستخلص من ذلك أن الدبابات البريطانية عندما قامت بحصار قصر عابدين مساء 4 فبراير 42 لم يكن هدف السفير من ذلك الإجراء العسكرى هو فرض النحاس على فاروق,وإنما كان هدفه هو إسقاط فاروق ذاته عن العرش.


كيف حاصر الإنجليز قصر عابدين بالدبابات؟

أوضحنا فى مقالنا السابق الأحداث التى جرت يوم 4فبراير 42 ابتداء من الإنذار البريطانى الذى سلمه السفير السير مايلز لامبسون إلى رئيس الديوان الملكى أحمد حسنين فى قصر عابدين فى الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا والذى طالب فيه الملك السابق فاروق بضرورة استدعاء النحاس زعيم حزب الأغلبية الشعبية لتأليف الوزارة قبل الساعة السادسة مساء, وإلا فسوف يتحمل الملك ما سوف يترتب على ذلك من نتائج, وأشرنا بعد ذلك إلى الدعوة التى وجهها الملك لعقد اجتماع فى قصر عابدين فى الساعة الرابعة مساء حضره 17 من رؤساء الأحزاب والزعماء السياسيين. وقد انتهى بعد ساعتين بتقديم احتجاج على الإنذار البريطانى وقعه جميع الحاضرين باعتباره اعتداء على استقلال البلاد وإخلالا بأحكام المعاهدة.

وأوضحنا فى النهاية الوسيلة الخطيرة التى اعتزم السفير البريطانى اللجوء إليها والتى أخطر بها وزارة الخارجية البريطانية عندما أدرك أن الملك يهدف إلى مراوغته لاكتساب الوقت وعدم الاستجابة لمطالبة, وكانت تقضى باستخدام القوة العسكرية لإرغام الملك على اعتزال العرش أو خلعه وإخراجه من القصر بصحبة السفير البريطانى والجنرال ستون قائد القوات البريطانية فى مصر ونقله على ظهر سفينة حربية بريطانية إلى المنفى.

وضمانا لحسن تنفيذ الهملية تلقى الجنرال ستون قائد القوات البريطانية فى مصر أمرا من مجلس الحرب فى القاهرة بالإجراءات العسكرية المطلوبة منه تجهيزها. ولم يكن الجنرال ستون قد تولى قيادته الجديدة إلا منذ أيام قلائل فقط. فقد كا يشغل من قبل منصب رئيس البعثة العسكرية البريطانية فى الجيش المصرى, وبادر الجنرال أوكنلك قائد عام القوات البريطانية فى الشرق الأوسط وعضو مجلس الحرب بإخطار زميله الأدميرال جون كنجهام قائد أسطوال البحر المتوسط ومارشال الجو تيدر قائد القوات الجوية بالشرق الأوسط بالموقف المتأزم استعداد للطوارىء, وقبيل الساعة مساء بقليل تحركت قوات بريطانية كانت تتكون من مجموعات من الدبابات والعربات المدرعة والمشاة المنقولة فى لوريات النقل تحت قيادة البريجادير جون كريستال قائد القوات البريطانية ب القاهرة من ثكنات قصر النيل التى كانت تقع فى المنطقة الواسعة التى يشغلها حاليا مقر الجامعة العربية وفندق هليتون النيل والمبنى الضخم الذى شغله الحزب الوطنى الديمقراطى والبنوك, وقد تمت عملية تحرك القوات البريطانية بطريقة سريعة ومباغتة وعلى أعلى درجة من السرية خشية حدوث أى صدام مع الشعب أو وقوع أى اشتباك مع وحدات من الجيش المصرى, وقد ساعد على نجاح العملية وعدم انكشافها حالة الإظلام التام التى كانت تسود القاهرة وقتئذ بسبب الغارات الجوية, وبمجرد وصول القوات البريطانية إلى ميدان عابدين قامت مجموعات من الدبابات بضرب حصار محكم حول القصر الملكى من جميع الجهات, بينما توزعت مجموعات مشتركة من العربات المدرعى والمشاة لسد جميع الطرق والمنافذ المؤدية إلى ميدان عابدين, وقامت قوة خاصة بتطويق ثكنات الحرس الملكى المجاورة لقصر عابدين سيارة رولزرويس سوادء يخفق عليها العلم البريطانى فى مصر , وكان يتبع السيارة لحراستها فوج من سيارات الجيب امتلأت بعدد من الضباط البريطانيين المسلحين بالمسدسات, وكان هؤلاء قد تم اختيارهم بعناية لهذه المهمة ودخلت سيارة السفير تتبعها السيارات الجيب من البوابة الرئيسية لقصر عابدين التى كانت مفتوحة على مصراعيها بعد أن اقتحمتها من قبل ثلاث دبابات دخلت إلى الفناء الرئيس للقصر وكانت جميع أبواب قصر عابدين قد أخليت من حراسها من جنود الحرس الملكى الذين تم أسرهم وتجريدهم من سلاحهم وتولى حراسة الأبواب جنود من المشاة البريطانيين المرتدين ملابس الميدان والمسلحين بالبنادق والرشاشات, وعندما عبرت سيارة السفير البريطانى الفناء ووصلت إلى باب القصر الداخلى استقبله إسماعيل تيمور كبير الأمناء ليقوده إلى الطريق, ولكن السفير أزاحه جانبا بعجرفته المعهودة قائلا له:" أنا أعرف طريقى", وصعد السفير والجنرال ستون السلم الداخلى للقصر, وكان يتبعهما ثمانية من الضباط البريطانيين المدجيين بالسلاح, وقف بعضهم بفواصل منتظمة على السلم للحراسة الخارجية بينما تولى الباقون حراسة السفير والقائد البريطانى اللذين أدخلا بمجرد وصولهما الطابق الثانى إلى غرفة الانتظار, وكان السفير يقتحم غرفة مكتب الملك دون استئذان عندما مرن خمس دقائق دون دعوته للدخول لولا وصول كبير الأمناء الذى دعاه فى الوقت المناسب.

وحاول إسماعيل تيمور كبير الأمناء أن يعترض طريق الجنرال ستون.

ولكن السفير البريطانى نحاه جانبا ودخل وبرفقته الجنرال ستون إلى حجرة المكتب التى كان يقف فى منتصفها الملك وبجواره أحمد حسنين رئيس الديوان الملكى بينما وقف على باب الحجرة من الخارج أربعة من الضباط البريطانيين لمنع أى فرد من الدخول ,وطلب الملك من السفير بقاء أحمد حسنين أثناء المقابلة فوافق على الفور وجلس الجميع بعد ذلك السفير والجنرال ستون فى مواجهة الملك و أحمد حسنين , ولم تبدأ المقابلة بالمجاملات التقليدية كما جرت العادة بل دخل السفير البريطانى فى الموضوع مباشرة. فقال للمك فى تجهم" لقد كنت أتوقع ردا بنعم أو لا قبل الساعة السادسة مساء على رسالتى التى بعثت بها هذا الصباح وبدلا من ذلك أحضر لى حسنين باشا فى السادسة والربع رسالة لا أستطيع إلا أن أعتبرها رفضا ويجب أن أعرف الآن هنا ودون أى مواربة ما إذا كان معنى هذه الرسالة هو لا؟".

وحاول فاروق أن يشرح وجهة نظره فى الموقف, ولكن السفير قاطعه وقال له باستنكار إن الأمور خطيرة للغاية وأنا أعتبر أنك أجبت بالنفى, وبناء على ذلك فسوف أشرع فى مهمتى وأخرج السفير من جيبه بيانا كان قد سبق إعداده بعناية فى السفارة, وأخذ فى قراءاته على فاروق بلهجة غاضبة, وكان نص البيان كما يلى:

( كان واضحا منذ زمن طويل أن جلالتكم تخضعون لتأثير مستشارين ليسوا غير مخلصين فحسب للتحالف مع بريطانيا العظمى بل يعملون بالفعل ضد هذا التحالف ويساعدون بذلك العدو, إن موقفكم وموقف معاونى جلالتكم يمثل انتهاكا للمادة الخامسة من معاهدة التحالف التى يتعهد فيها كل طرف من الطرفين الساميين المتعاقدين على ألا يتبع بالنسبة للدول الأجنبية موقفا لا يتمشى مع التحالف, وبالإضافة إلى ذلك فقد تسببتم جلالتكم بطريقة جائرة لا مبرر لها فى إثارة أزمة بشأن قرار اتخذته الحكومة المصرية " المقصود حكومة حسين سرى التى قدمت استقالتها" تلبية لطبل قد إليها وتبرره المادة الخامسة من المعاهدة" المقصود القرار الذى اتخذته حكومة حسين سرى بناء على طلب بريطانيا بقطع العلاقات بين مصر والحكومة بسبب عدم الحصول على موافقة الملك قبل إصدار القرار".

وأخير فإنه بعد أن فشلتم فى تشكيل حكومة ائتلافية فقد رفضتم جلالتكم أن تعهدوا بتشكيل الوزارة إلى الحزب السياسى الرئيس الذى يتمتع بتأييد عام من البلاد, ويعد نتيجة لذلك الحزب الوحيد الذى يتيح له مركزه ضمان استمرار تنفيذ المعاهدة بروح الصداقة التى وضعت المعاهدة فى ظلها إن هذا التهور وعدم المسئولية من جانب الملك يعرضان أمن مصر والقوات المتحالفة للخطر وهما يوضحان أن جلالتكم لم تعودوا أهلا للبقاء على العرش).

ولم يكد السفير ينتهى من تلاوة البيان حتى قدم إلى فاروق إقرار يقضى بتنازله عن العرش وقد أعد هذا الإقرار المستشار القانونة للسفارة وساعده فى صياغته السير مونكتون مدير الدعاية البريطانية فى الشرق الأوسط والمستشار القانونى لمجلس الوزراء البريطانى, وكان قد سبق له صياغة إقرار تنازل الملك إدوارد الثامن ( دوق وندسور) عن العرش وكان نص الإقرار كما يلى:

" نحن فاروق ملك مصر – حرصا منا على مصالح بلادنا فإننا نتخلى ونتنازل – بالنسبة لنا ولورثتنا 0 عن عرش مملكة مصر وعن جميع حقوق السيادة والامتيازات والسلطات على مصر ورعاياها ونعفى بالتالى هؤلاء الرعايا من ولائهم لنا – صدر بقصر عابدين فى الرابع من فبراير عام 1942 بناء على تعليمات مجلس الحرب البريطانى ب القاهرة عن العرش والصادر فى يوم 26 يوليو 52 ( بعد حوالى عشر سنوات) والذى أعده سليمان حافظ المستشار القانونى لرئاسة مجلس الوزراء بالاشتراك مع الدكتور عبد الرازق السنهورى رئيس مجلس الدولة وقتئذ بناء على تعليمات قادة الثورة 23 يوليو 52 والذى أجبر فاروق على توقيعه وتم على اثره طرده من البلاد فى السادسة مساء يوم 26 يوليو فإنه تتضح لنا الاختلافات التالية بين الوثيقتين:

1- فى وثيقة التنازل البريطانية نعت فاروق بلقب ملك مصر , بينما فى وثيقة التنازل المصرية نعت باللقب الذى كان عليه رسميا فى مصر عقب معاهدة 36 وهو: ملك مصر و السودان .

2- فى وثيقة التنازل البريطانية كان التنازل عن عرش مصر يشمل فاروق وورثته من بعده, وبالتالى كان الملك سينتقل إلى الأمير محمد على ولى العهد وقتئذ وابن الخديو الخائن توفيق الذى استعان بالإنجليز للقضاء على الثورة العرابية واحتلال مصر منذ عام 1882 , بينما كانت وثيقة التنازل المصرية تقضى بنزول فاروق عن العرش لابنه وولى عهده الطفل أحمد فؤاد وبذا يكون العرش قد ظل محصورا فى ورثته.

3- تضمنت وثيقة التنازل المصرية عبارة وطنية هامة وهى أن النزول عن العرش كان نزولا على إرادة الشعب, ولم يكن فى الإمكان بالطبع أن تتضمن الوثيقة البريطانية هذه العبارة لأن تنازل فاروق عن العرش فى 4 فبراير كان وقتئذ نزولا على إرادة بريطانية.

نمضى بعد أن عقدنا هذه المقارنة فى استئناف سردنا للأحداث التى جرت عقب أن تسلم فاروق من سفير البريطانى إقرار تنازله عن العرش, فقد طالبه السفير بالتوقيع فورا على الإقرار وإلا فإن لديه المزيد من الأشياء التى سيواجهه بها.

وأوشك فاروق بعد فترة من التردد أن يوقع الإقرار لولا تدخل أحمد حسنين الذى تحدث إليه باللغة العربية طالبا منه التريث وبذل محاولة أخيرة مع السفير البريطانى لاسترضائه وفى البرقية رقم 491 التى حررها السفير البريطانى مساء 4 فبراير على أثر عودته من قصر عابدين إلى السفارة, وبعث بها إلى وزارة الخارجية صباح 5 فبراير وصف السفير بالتفصيل وقائع مقابلته مع الملك فى قصر عابدين, وسوف نكتفى بان ننقل عنها الفقرة التى تصور الأحداث التى جرت بعد نصيحة أحمد حسنين لفاروق بعدم توقيع إقرار التنازل عن العرش ومحاولة إنقاذ الموقف بالخضوع التام للسفير. وفيما يلى نص الفقرة المشار إليها:

" وبعد فترة توتر تطلع الملك الذى كان التهديد قد روعه تماما وطلب بشكل يثير الشفقة ودون أى مظهر من مظاهر الشجاعة التى كان يبدو بها من قبل أن أعطيه فرصة أخرى. وأجبته بأنى ينبغى أن أعرف على وجه التحديد اقتراحه وكررت سؤالى بشكل قاطع فأجاب أن اقتراحه هو أن يستدعى النحاس – وفى حضورى إذا رغبت – لأبلغه بتشكيل حكومة جديدة وبعد أن تأكدت أنه يعنى حكومة يختارها النحاس ترددت ثم قلت أخيرا:

رغبة منى فى تجنب أية تعقيدات يحتمل حدوثها فى البلاد فإنى مستعد لإعطائه فرصة واحدة أخيرة ولكنه يجب أن يتصرف بسرعة. قال الملك فاروق بانفعال واضح: إنه يشرفه ومن أجل خير بلاده, فإنه سيستدعى النحاس فورا, قلت موافق, جاهد الملك فاروق كى يبدو رقيقا ومتفاهما بل شكرنى شخصيا لأنى أحاول مساعدته دائما .

تركناه واجتزنا ردهات القصر التى كانت تغص بالضباط البريطانيين وأمناه القصر الذين كانوا أشبه بمجموعة من الدجاج المذعور.

وكان نفس الشىء عند مدخل القصر فى الطابق الأسفل ولم يكن فى مشهد الجنود البريطانيين المتجهمين فى خوذاتهم الحديدية وبنادقهم الرشاشة ما يبدد انزعاج هؤلاء الأمناء. وهندما انطلقنا بالسيارات خارجين من فناء القصر مررنا بالأشباح الرهيبة للدبابات والسيارات المدرعة التى كانت تصطف على استعداد للعمل وكان المشهد مثيرا".

ولم يكد يختفى موكب السفير من ميدان عابدين عن الأنظار بعد أن سدد إلى استقلال مصر هذه الضربة الأليمة حتى بدأ البريجادير جون كريستال القائد البريطانى لمنطقة القاهرة فى سحب قواته بالتدرج من ميدان قد خلا تماما من القوات البريطانية وعادت الأمور إلى مجاريها. وقد تمت العملية العسكرية البريطانية فى سرعة خاطفة وإحكام بالغ إلى الحد الذى لم يجعل أحدا من سكان القاهرة سوى بعض القاطنين فى ميدان عابدين يحس بأن ثمة أمور غير عادية قد جرت, وساعد على ذلك عدم حدوث أى صدام بين القوات البريطانية وبين أحد من الشعب أو مع أية جماعات من الجيش الصمرى. فلم تطلق خلال العملية رصاصة واحدة ولم ترق نقطة من الدماء. وعلى أثر انتهاء مقابلة السفير للملك استدعى رئيس الديوان رؤساء الأحزاب والزعماء والسياسيين للإجتماع ثانية بقصر عابدين فتكامل عددهم فى نحو العاشرة مساء وحضر الملك فاروق الاجتماع. ووفقا لشهادة مصطفى النحاس أمام محكمة الجنايات عام 46 فى قضية اغتيال أمين عثمان والتى لم يتعرض لها أحد بعد ذلك بالنفى قال النحاس" دخلت فوجدتهم مجتمعين( يقصد الزعماء السياسيين) سألت ماذا جرى؟ قالوا جاءت دبابات وانصرفت الحالة خطيرة. قلت للحاضرين هذا نتيجة عملكم لأنه كان اندفاعا بغير حكمة, ثم شرف جلالة الملك فقال لى: اعتبر إنه لم يحصل شىء فى هذا اليوم وإن كل ما حصل كأن لم يكن وأنا أعهد إليك يا نحاس بتأليف الوزارة ووطنيتك تقضى أن تستعمل الحكمة فيها".

ووفقا لشهادة النحاس جرى جدال شديد بين الملك والنحاس بشأن تأليف الوزارة, إذ بينما أصر النحاس على رفض تأليفها متذرعا بالتعهد الذى اتفق عليه الزعماء بعد اظهر بعدم قبول أحدهم الوزارة إذا دعى لتأليفها كان الملك فى المقابل يلح عليه إلحاحا شديدا مستخدما صيغة الأمر لحمله على القبول وحدث أن قال أحمد ماهر زعيم الحزب السعدى " إن قبل النحاس يكون ذلك على أسنة رماح الإنجليز" ورد عليه النحاس فى انفعال صائحا" اخرس... أنتم الذين جئتم على أسنة الإنجليز ووصلتم البلد إلى هذه الحالة والنحاس أشرف منكم كلكم".

وكرر الملك فى إصرار أمره للنحاس بقبول تأليف الوزارة فرجاه أن يمهله للغد, ولكن الملك قال له" انزل من هنا على السفير" وفهم النحاس كما ذكر فى شهادته أن حديثا دار بين الملك والسفير لأنه مطلوب منه أن يطمئن السفير, وعلى الرغم من أن إصرار الملك على تكليف النحاس أمام الزعماء السياسيين بالذهاب للسفير فى نفس الليلة كان يعد تنفيذ لتعهده للسفير البريطانى خلال المقابلة بينهما. إلا أن الملك كان يستهدف من وراء ذلك تحقيق غرض آخر خبيث بيته فى قرارة نفسه وهو أن يظهر النحاس أمام الزعماء السياسيين بصورة المتواطىء فى حادث 4 فبراير مع السفير البريطانى. ووفقا لشهادة النحاس فإنه ذهب إلى السفير البريطانى لا ليطمئنه ولكن لكى يحتج على ما جرى, وعندما التقى به فى السفارة وكان معه وزير الدولة المقيم بالشرق الأوسط أوليفر ليتلون أراد أن يقابله بالسلام فقال له النحاس" لا أسلم عليك لأنك أسأت إلى فى غيابى" وأخذ السفير فى استرضائه وسأله عن السبيل لترضيه فأجابه إن ذلك لن يتم إلا بعد سحب الإنذار البريطانى, وأنه لم يقبل الوزارة إلا إذا سحب الإنذار ووافق السفير على سحب الإنذار وتم الإتفاق بينه وبين النحاس على تبادل خطابين بينهما بهذا المعنى. وعلى اثر ذلك صدر المرسوم الملكى يوم الجمعة 6 فبراير 42 بتأليف وزراة النحاس الخامسة.

كيف دبر رئيس وزراء مصر مع بريطانيا عزل فاروق؟

عقب إبرام معاهدة 1936 استعاد الجيش المصرى طابعه لأول مرة بعد أكثر من نصف قرن من السيطرة البريطانية عليه, إذا تخلصت مصر وفقا لأحكام المعاهدة من كل الضباط البريطانيين فى الجيش المصرى. وكان عددهم27 ضابطا من كبار الرتب وعلى رأسهم الفريق سبنكس باشا المفتش العام الذى كان يتولى قيادة الجيش ونائبه اللواء فوربس باشا, وعادت قيادة الجيش مرة أخرى مرة أخرى منذ هزيمة أحمد عرابى وتسريح جيشه عام 1882 إلى قائد مصرى هو اللواء محمود شكرى الذى عين رئيسا لأركان حرب الجيش, وتولى الضباط المصريون لأول مرة منذ الثورة العرابية القيادات والمناصب الرئيسية.

ولكن الجيش التى تسلمته مصر بعد أن أكثر من نصف قرن من تقلد البريطانيين زمام أموره لم يكن جيشا من ناحية مفاهيم الجيوش الحديثة إلا باسم فقط فلقد حرص البريطانيون على أن يحولوا بينه وبين التطور الحديث, وقاوموا جميع المحاولات المصرية لتدعيمه وتسليحه, وعندما أرادت الحكومة المصرية و البرلمان تنفيذ سياسة زيادة حجمه وتسليحه وتقليص سلطات المفتش العام الإنجليزى سبنكس تفجرت بين مصر وبريطانيا أزمة حادة عرفت بأزمة الجيش 1927 , تقدم خلالها اللورد لويد المندوب السامى البريطانى بمذكرة سياسية خطيرة إلى رئيس الحكومة المصرية كان يستهدف منها استبقاء الإشراف البريطانى على الجيش المصرى واقترفت طلبات المندوب السامى بمظاهرة عسكرية, فلقد توجهت بعض الطرادات البريطانية إلى الإسكندرية مما أدى إلى إذعان الحكومة المصرية لكل المطالب البريطانية, ولهذه الظروف كان الجيش المصرى عند إبرام معاهدة 36 من حيث التنظيم لا يتعدى عشرة آلاف من كل الرتب موزعين فى إحدى عشرة أورطة مشاة وأربع بطاريات من المدفعية المجرورة بالبغال وآلاى خياله وبعض الوحدات الإدارية أما من ناحيتى التدريب والتسليح فقد وصفه الجنرال جيمس كورونوول رئيس أول بعثة عسكرية بريطانية فى مصر عند تقييمه لكفاءته وقدراته بأنه عبارة عن جيش من القرون الوسطى..

ومع توقيع المعاهدة واقتراب نذر الحرب العالمية الثانية بدأت سياسة تطوير وتحديث الجيش تأخذ مجراها, وحدثت تغييرات رئيسية فى كيانا الجيش كان أخطرها شأنا بلا شك هو أن المدرسة تغييرات رئيسية فى كيان الجيش كان أخطرها شأنا بلا شك هو أن المدرسة الحربية التى تحولت إلى كلية فتحت أبوابها لدفع كبيرة متتالية من الطلاب من أبناء الشعب خاصة من الطبقة الوسطى, ممن أسهموا من قبل فى حركات التحرر الوطنى السليم. ولكن الجيش المصرى رغم تخلصه من قادته البريطانيين لم يتسن له الخلاص من الوجود البريطانى, فقد نصت المعاهدة على أن تنتفع مصر بمشورة بعثة عسكرية بريطانية أنيطت بها مهمة الإشراف على إعداد وتدريب وتوجيه الجيش للمدة التى تراها مصر ضرورية لتحقيق ذلك الغرض. وقد وصل أول رئيس لها وهو الجنرال جيمس كورنوول إلى مصر فى 13 يناير 37 , وأخذ عدد أفرادها يتزايد تدريجيا حتى وصل خلال الحرب العالمية الثانية إلى 51 ضابطا و98 ضابط صف واستمرت البعثة العسكرية البريطانية فى ممارسة عملها طيلة عشرة أعوام كاملة, لم ينقطع خلالها الصدام بين أعضائها وبين الضباط المصريين الوطنيين خاصة الشبان منهم حتى انتهى عملها فى 31 ديسمبر 47 بناء على قرار من جانب واحد اتخذه رئيس وزراء مصر وقتئذ محمود فهمى النقراشى استنادا لنصوص المعاهدة وبذا طويت نهائيا صفحة الوجود البريطانى فى الجيش المصرى التى بدأت عام 1882 واستمرت 65 عاما كاملة, ومما يستلفت النظر أن قيام الجيش ب ثورة 23 يوليو 52 قد تم عقب أربعة أعوام ونصف عام فقط من انتهاء الوجود البريطانى, كما أن قادة الثورة وضباطها الأحرار كانوا جميعا من أبناء الشعب الذين تسنى لهم دخول الكلية الحربية عقب إبرام معاهدة 36 وبعد أن تخلصت الكلية الحربية من نزعتها الأرستقراطية القديمة فى انتقاء الطلاب.

وكانت السياسة البريطانية إزاء الجيش التى عهد إلى البعثة العسكرية البريطانية الإشراف على تنفيذها عقب إبرام المعاهدة وزوال السيطرة البريطانية عن الجيش تهدف إلى تحقيق غرضين: أولهما إعاقة توصل الجيش المصرى إلى مستوى حقيقى من المقدرة والقوة والكفاءة, حتى لا يكون فى يوم من الأيام خطرا على جيش الاحتلال البريطانى أو عائقا يحول دون استخدام بريطانيا لقوتها أو التهديد بها لفرض إرادتها على مصر , والغرض الثانى هو عدم إتاحة الفرصة ل مصر للشكوى من أن بريطانيا تتعهد حرمان الجيش المصرى من أسباب القوة حفاظا على علاقتها الطيبة مع مصر ومنعها من اللجوء إلى أى مكان آخر بحثا عن المساعدة وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية بين الخلفاء وألمانيا فى 3 سبتمبر 39 حدث تعديل واضح فى مهمة البعثة العسكرية البريطانية إذ أصبح من واجبها إعداد وتسليح وحدات مصرية فى مهمة البعثة العسكرية البريطانية إذ أصبح من واجبها إعداد وتسليح وحدات مصرية معينة للقيام بحماية وتأمين المصالح البريطانية بالتعاون مع الجيش البريطانى خلال الحرب, ولذا تم تزويد هذه الوحدات بالأسلحة والمعدات الحديثة المطلوبة على وجه السرعة, بعضها من المصانع الحربية البريطانية رأسا , والبعض الآخر من المخازن والوحدات البريطانية الموجودة فى مصر على سبيل الإعارة, أما الوحدات المصرية الأخرى التى لم يكن لها دور فى المجهود الحربى البريطانى, فقد أدى إلى انخفاض روح أفرادها المعنوية وبمجرد نشوب الحرب العالمية الثانية ألقيت على عاتق وحدات الجيش المصرى مسئوليات وواجبات كبرى ضمن خطة الدفاع البريطانية عن مصر , فقد تولت المدفعية الساحلية والمدفعية المضادة للطائرات حماية قطع الأسطول البريطانى فى الإسكندرية واشتركت قوات مصرية من كتائب مدافع الماكينة ومدفعية الميدان والمدفعية المضادة للطائرات والمضادة للدبابات فى الدفاع عن مرسى مطروح , وحرصا على وقاية الجنب الأيسر للجيش البريطانى فى الصحراء الغربية من خطر التطويق من الجنوب تشكلت القوة الميكانيكية التى عرفت باسم القوة الجنوبية الغربية من وحدات من الدبابات والسيارات المدرعة الخفيفة ومدفعية الميدان الغربية والمدفعية المضادة للطائرات والمضادة للدبابات وعناصر من مدافع الماكينة والمهندسين بخلاف الوحدات الإدارية, وتولى قيادة هذه القوة أحد أمراء البيت المالك وهو المقدم الأمير إسماعيل داود , وتم تمركزها فى منطقة الواحات البحرية , وقام الجيش المصرى بدور فعال فى حماية حركة الملاحة فى قناة السويس فى وجه الغارات الجوية الألمانية والإيطالية بفضل الوحدات المضادة للطائرات وكتائب المشاة التى انتشرت سراياها على ضفتى القناة, لرصد وتسجيل الألغام التى تسقطها الطائرات الطيران المعادية لكى يتسنى لجماعات إزالة الألغام تفجيرها أو إزالتها. وأسهم سلاح الطيران المصرى فى الدفاع الجوى عن القاهرة ومنطقة قناة السويس , وقامت الطائرات المصرية بدوريات جوية فوق البحر الأحمر لحماية القوافل البحرية البريطانية واستكشاف الغواصات. وقد أشاد رئيس وزراء بريطانيا وقتئذ ونستون تشرشل بجهود الجيش المصرى فى معاونة قوات الحلفاء أثناء الحرب, فقال:" إن مصر قامت بدور مشرف مهم له قيمته لا فى دفاعها عن نفسها فحسب ولكن فى الصراع العالمى".

وعندما أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا فى 3 سبتمبر 39 إلى أثر الغزو الألمانى لبولندا لم يكن قد مضى على تشكيل على ماهر لحكومته سوى أسبوعى فقط, وقد بادرت الحكومة المصرية بإعلان الأحكام العرفية وقطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع ألمانيا, وكانت رغبة بريطانيا أن تعلن مصر الحرب على ألمانيا تنفيذا لأحكام المعاهدة, ولكن على ماهر أعلن أمام البرلمان سياسة حكومته التى كانت تقضى بتجنب مصر ويلات الحرب, وقد أيده فى تلك السياسة أعضاء البرلمان بالإجماع.

ولقد ثارت مخاوف السلطات البريطانية السياسية والعسكرية فى مصر منذ بدء عهد حكومة على ماهر , خشية القضاء على نفوذ البعثة العسكرية البريطانية فى الجيش المصرى وتهديدا المصالح البريطانية فى مصر , بسبب وقوع الآلة الحربية المصرية فى قبضة ما كانوا يسمونه بالثلاثى الحربى وكان يتكون من اللواء صالح حرب وزير الدفاع والفريق عزيز المصرى رئيس أركان حرب الجيش المرابط الذى بلغ تعداده 25 ألف رجل. فلقد عرف عن الثلاثة ميولهم الواضحة للألمان وعداؤهم الشديد للإنجليز. وقد سبق لهم جميعا التطوع للقتال فى صفوف الأتراك ضد الغزو الإيطالى لليبيا عام 1911 .

وكان صالح حرب و عبد الرحمن عزام عضوين فى البرلمان , عندما نشبت أزمة الجيش بين بريطانيا و مصر عام 1927 , وكان لهما دور بارز فى التنديد ب سياسة الإنجليز فى إضعاف الجيش المصرى والسيطرة على قياداته , أما الفريق عزيز المصرى الذى أمضى خدمته العسكرية فى صفوف الجيش المصرى, إذ لم يكن يكف عن إبداء إعجابه علنا بالعسكرية الألمانية ونظرياتها الحربية المتطورة فى الوقت الذى يبدى فيه انتقاده للبعثة العسكرية البريطانية التى توالت الأزمات الحادة بينه وبين رئيسها وكان نجاح عزيز المصرى فى الاستحواذ على إعجاب ضباط الجيش الشبان الذين آمنوا بكفاءته ووطنيته والتفوا حوله سببا فى ضغط الإنجليز الشديد على رئيس الوزراء على ماهر حتى تمت تنحية عزيز المصرى عن منصبه بمنحه إجازة طويلة ثم إحالته إلى التقاعد.

وفى 10 يونيو 40 أعلنت إيطاليا الحرب على بريطانيا وفرنسا, وبعد مضى 48 ساعة أعلن على ماهر سياسة حكومته أمام البرلمان , وهى الاستمرار فى سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب مع وفاء مصر بتعهداتها وتقديم أكبر عون لبريطانيا الحليفة فى حود معاهدة 36, وبادر على ماهر بقطع العلاقات السياسية مع إيطاليا واعتقال رعاياها عدا رجال القصر الملكى من الإيطاليين .

ولكن مع قصف الطائرات الإيطالية السلوم وسيدى برانى و مرسى مطروح فى 18 يونيو ازداد تعقد الموقف بين الإنجليز وحكومة على ماهر التى اتهمها البريطانيون بانتهاج خطة العداء نحو الوجود البريطانى والسعى للإتصال بدولتى المحور بتشجيع من الملك وفى 17 يونيو 40 التقى السفير البريطانى مايلز لامبسون ب الملك فاروق فى قصر المنتزه ب الإسكندرية وقدم إنذار بوجوب تنحية على ماهر , وأن يجرى تشكيل وزارة جديدة صديقة للإنجليز تتولى تنفذ المعاهدة ما وروحا, واستجاب فاروق للمطالب البريطانية , وقدم على ماهر استقالة وزارته التى أشار فيها صراحة إلى تدخل الإنجليز لإرغامه عليها, فقد كتب فى خطاب استقالته إلى فاروق " أصبح الاستمرار فى الحكم متعذرا لأسباب قاهرة خارجة عن إرادتنا وإرادة الشعب المصرى". والتقى فاروق بالسفير البريطانى وابلغه تعيين حسن صبرى " أحد المستقلين المعروفين بصداقتهم للإنجليز" رئيسا للوزراء, وذكر له أن الحكومة الجديدة ستنفذ معاهدة 36 نصا وروحا وبالذات المادة الخامسة, ووعده بأن القصر سوف يساند هذه الوزارة بإخلاص, ,طلب الملك من السفير أن يؤكد لفخامة اللورد هاليفاكس وزير الخارجية البريطانى أن الاتهامات الموجهة إليه بأنه ضد بريطانيا كذابة وأن اختياره قد وقع على الرجل الوحيد الذى يعرف أنه يتمتع بثقة الإنجليز الكاملة وكلفه بتشكيل الوزارة من أعضاء يؤيدون الإنجليز.

وهكذا شكل حسن صبرى وزارته يوم 27 يونيو 40 من ستة من المستقلين, والبقية من المنتمين ل أحزاب الأقلية , منهم 4 من السعديين( النقراشى وغالب و إبراهيم عبد الهادى وعلى أيوب) و4 من الدستوريين_ هيكل و مصطفى عبد الرواق و أحمد عبد الغفار و عبد المجيد صالح ) وممثل لحزب الاتحاد ( حلمى عيسى ) وممثل للحزب الوطنى( حافظ رمضان )....

وبالرغم من أن حسن صبرى قد انتهج حيال الحرب نفس الموقف الذى انتهجه على ماهر بتجنيب مصر ويلاتها, فإن خطة التعاون التى التزم بها حيال الخليفة قد أدت إلى تحسن الأمور بين الطرفين بشكل واضح, ولكنه أدى إلى توتر العلاقات بينه وبين السعديين الذين كانوا يشكلون أهم المجموعات الحزبية فى وزارته, فبعد أسابيع قليلة من تشكيل الوزارة بدأ الدكتور أحمد ماهر زعيم الحزب السعدى ورئيس مجلس النواب فى شن حملة سياسية تستهدف دخول مصر الحرب, وقد انتهى الأمر بانسحاب الوزراء السعديين الأربعة من الوزارة يوم 21 سبتمبر بعد دخول القوات الإيطالية الأراضى المصرية.

وقد اتضح من الوثائق الرسمية المحفوظة فى مجلس الوزراء أن الجنرال مكريدى رئيس البعثة العسكريى البريطانية أجرى اتفاقا مع حسن صبرى رئيس الوزراء فى 10 يوليو 40 بمناسبة قرار مصر بعدم الاشتراك فى الحرب يقضى بانسحاب القوات المصرية من مرسى مطروح إلى القاهرة و الإسكندرية , على أن تسلم إلى السلطات العسكرية البريطانية هناك مدافع الميدان والمدافع المضادة للطائرات والمضادة للدبابات ومدافع الماكينة التى كان يرتكز عليها النظام الدفاعى عن مرسى مطروح , وأن تعاد إلى الجيش البريطانى كذلك من مختلف الوحدات المصرية جميع الأسلحة والمهمات التى سلمت إلى الجيش المصرى على سبيل الإعارة,كذلك الأسلحة التى اشترتها مصر ولم يتم تسديد ثمنها بعد وعندما صدرت الأوامر إلى الوحدات المصرية بتسليم الأسلحة المذكورة إلى السلطات البريطانية رفض الضباط المصريون وهددوا بأن هذه الأسلحة لن تسلم إلا على جثتهم, وعقد الضباط اجتماعات خطيرة فى نواديهم و ميساتهم خاصة فى مرسى مطروح , وعندما أبلغ رئيس الوزراء ورئيس البعثة العسكرية البريطانية بحقيقة الموقف الذى قد يؤدى إلى اشتباكات دامية بين الجيش المصرى والبريطانى فى الوقت الذى حذرت فيه مصادر الاستطلاع وتقارير المخابرات البريطانية من قرب وقوع الهجوم الإيطالى على مصر. لذلك تم عقد اجتماع ثان بين حسن صبرى والجنرال مكريدى, وقد ورد فى وثائق المحفوظة فى مجلس الوزراء أن المباحثات المصرية البريطانية بشأن المطالب قد انتهت فى 15 يوليو 40 إلى الاتفاق على احتفاظ جميع وحدات الجيش المصرى بكافة أسلحتها وكذا الأسلحة المعارة إليها من الجيش البريطانى, وأن تعود قوات مطروح بجميع أسلحتها ومعداتها وعدم إجراء أى تعديل على الخطط والواجبات التى كانت مخصصة للقوات المصرية فى عهد وزارة على ماهر قبل دخول إيطاليا الحرب. وفى 10 سبتمبر 40 بدأ الجيش الإيطالى العاشر تقدمه, ووصلت القوات الإيطالية إلى منطقة سيدى برانى وأخذت تستقر فى خطوط دفاعية حصينة.. وفى أكتوبر 40 وصل انطونى إيدن وزير الحربية البريطانى وقتئذ إلى القاهرة واستقبله الملك فاروق بحضور السفير البريطانى الذى لم يلبث أن أقام حفلا كبيرا للحفاوة بوزير الحربية بالسفارة البريطانية.

دعا إليه زعماء مصر السياسيين, وتمكن إيدن من الانفراد بكل منهم ومعرفة وجهة نظرهم جميعا, وخلال الفترة التى قام فيها أنطونى إيدن فى مصر والتى تسنى له خلالها معرفة آراء الزعماء والمسئولين المصرين والبريطانيين أمكنه أن يتوصل فى النهاية إلى قرار خطير, وهو أن الموقف السياسى العسكرى المضطرب فى مصر ليس فى الإمكان علاجه إلا بخلع فاروق عن العرش. وكان السير مايلز لامبسون قد ذكر له فى أول لقاء بينهما وفقا لما ورد فى مذاكراته ما يلى:

" فى رأيى انه ما دام هذا الغلام جالسا على العرش فإننا لن نلقى تعاونا حقيقيا, وسيبقى لدينا الإحاس بأنه متى ساءت الأحوال فإننا سوف نطعن فى الخلف", وقد اتضح من نص البرقيات المرسلة من السفير البريطانى ب القاهرة إلى اللورد هيالفاكس وزير الخارجية البريطانية وقتئذ التى نشرن بعد رفع الحظر القانونى عنها أمرين خطيرين يبعثان على التساؤل والدهشة: أولهما أن جميع الزعماء السياسيين المصريين الذين قابلوا انطونى إيدن على انفراد أدمعوا على أن الملك فاروق هو سبب كل المشاكل فى مصر , أما الأمر الثانى فهو أن رئيس الوزراء حسن صبرى صديق الإنجليز وموضع ثقتهم أبدى استعداده لاستخدام الحيلة مع الملك ليتيح للإنجليز الفرصة لوضع يدهم عليه ونفيه خارج البلاد. وقد كشف السفير البريطانى عن السر الأول والثانى فى برقيتين أرسلهما إلى اللورد هاليفاكس فى لندن وفيما يلى نصهما:

البرقية الأولى :" أبلغ كل زعماء مصر واحدا بعد الآخر وبغير استثناء على الإطلاق انطونى إيدن وزير الحربية أن الملك فاروق هو سبب كل المشاكل فى مصر , مما جعل غيدن يصل على نتيجة واحدة, وهى أن الحل عن طرد فاروق".

البرقية الثانية رقم 407 بتاريخ 25 أكتوبر " أكد رئيس الوزراء حسن صبرى أنه إذا تعقدت الأمور فإنه على استعداد لدعوة جلالة الملك للقيام برحلة بحرية, بينما يترك الباقى لنا أى" للبريطانيين". ولكن المناقشات التى دارت بين قادة القوات البريطانية فى الاجتماع الذى دعاهم إليه السفير البريطانى خطارهم بقرار أنطونى إيدن لم تسفر عن نتيجة عاجلة فقد كان الموقف العسكرى متحرجا والظروف غير ملائمة للقيام بعملية خلع الملك, ولم يكن فى الإمكان تنفيذ الفكرة بعد ذلك, فلقد تلبد الموقف الحربى فى الشرق الأوسط بالغيوم إذ شنت إيطاليا فى نهاية أكتوبر 40 هجومها على اليونان واضطر الجنرال ويفل قائد القوات البريطانية فى الشرق الأوسط إلى إرسال قسم من قواته لاختلال جزيرة كريت, كما أن الرئيس الوزراء حسن صبرى وافته منيته أثر نوبة قلبية, وهو يلقى خطاب العرش أمام البرلمان فى 14 نوفمبر 40 .

نستخلص من ذلك أن فكرة خلع فاروق عن العرش لم تنشأ فى أوائل فبراير 42 إنما نشأت فى أواخر أكتوبر 40 , وكان أنطونى إيدن وزير الحربية وقتئذ على استعداد تام لتنفيذها بالتعاون مع حسن صبرى رئيس الوزراء و مايلز لامبسون السفير البريطانى, وفى 4 فبراير 42 كان إيدن قد أصبح وزيرا للخارجية وكان هو أيضا الذى ساند وأيد فكرة خلع فاروق التى اقترحها السفير البريطانى..


الجيش المصرى وحادث 4 فبراير 1942

عند نشوب الحرب العالمية الثانية فى 3 سبتمبر 39 كان الجيش المصرى يتكون من حوالى 1000 ضابط و25 ألفا من الرتب الأخرى.وكان الشعور الوطنى قد بدأ ينمو فى الجيش ويشتد عوده, غذ أن نصف عدد ضباط الجيش وقتئذ كان من الملازمين الشبان من أبناء الطبقة الوسطى الذين تم التحاقهم بأعداد كبيرة بالكلية الحربية عقب إبرام معاهدة 1936 , بعد أن زالت الحواجز القديمة التى كانت تقصر الالتحاق بالكلية على أبناء الضباط وأبناء الأسر الثرية المعروفة بولائها للإنجليز وقد تخرج معظم هؤلاء الطلاب ضباطا خلال عامى 38 و 39 , إذ أن مشروعات تطوير الجيش وتحديثه عقب إبرام المعاهدة أدت إلى مضاعفة حجم الجيش فى أقل من ثلاث سنوات, ما أدى إلى تخرج دفع متلاحقة فى الكلية الحربية لسد النقص الشديد فى صفوف الضباط, وقد صادف نشوب الحرب العالمية الثانية تعيين على ماهر رئيس الوزراء للفريق عزيز المصرى رئيسا لأركان حرب الجيش.

وكان لهذا التعيين أثر كبير فى رفع الروح المعنوية للضباط, فلقد أحسوا أن على رأس الجيش قائدا من طراز يختلف كلية عن طراز القادة الآخرين من باشوات الجيش الذين تربوا على أيدى المفتش العام البريطانى سفنكس باشا, فاعتادوا التزلف والانحناء للملك وتقبيل يده عند لقاءاته بهم, وتعزدوا على الطاعة والخنوع لقادتهم الإنجليز, وخلت عقولهم من أية ثقافة عامة أو فكر عسكرى متقدم إلى الحد الذى جعل الجنرال كورنوول رئيس أول بعثة عسكرية بريطانية يصف معلوماتهم بأنها من أنتيكات القرون الوسطى.

وقد اشترك العديد من العوامل فى تكوين شخصية عزيز المصرى وإبرازها بهذه الصورة القيادية الفذة التى اجتذبت إليه المشاعر الضباط خاصة الشبان منهم فلقد كان للرجل تاريخ مشرف فى الكفاح ضد الإستعمار الإيطالى فى ليبيا عام 1911 , وعلاوة على ثقافته العسكرية كضابط سابق فى الجيش التركى ودراسته فى كلية أركان الحرب التركية على ايدى العسكريين الألمان, فقد كانت له قراءاته العديدة فى كتب الإستراتيجية وفن الحرب التى جعلت منه مفكرا عسكريا قديرا, وكان أمرا محتوما أن يحدث صدام بين عزيز المصرى الشديد العداء للاحتلال البريطانى والشديد الإعجاب بالعسكرية الألمانية. وبين رئيس البعثة العسكرية البريطانية وأعضائها الذين كانت سياستهم المرسومة هى عرقلة التطور الحقيقى للجيش تأمينا للإحتلال البريطانى, وعندما أدركت السلطات البريطانية فى مصر مدى خطورة عزيز المصرى على نفوذهم بالجيش المصرى وعلى مصالحهم الاستعمارية ركزوا ضغطهم على رئيس الوزراء على ماهر حتى أرغموه أخيرا على تنحيته عن منصبه ليخلفه الفريق إبراهيم عطا الله احد ياوران الملك فاروق , وكان البون شاسعا بين الرجلين, فبينما عزيز المصرى لا يهتم إلا بإرضاء ضميره والعمل على ما فيه النهوض الحقيقى بالجيش دون التفات للمظاهر, وكان عطا الله لا يهتم إلا بإظهار الولاء للملك والعمل على مرضاة الإنجليز والاهتمام بالمظاهر والشكليات, وقفا لما تعلمه خلال خدمته الطويلة تحت سيطرة قادته البريطانيين, وكانت مشاعر معظم ضباط الجيش فى تلك الآونة خاصة الشبان منهم تميل فى واقع الأمر نحو الألمان لا حبا فيهم وكلن كراهية للإنجليز الذين يختلون بلادهم منذ حوالى 60 عاما, والذين أدت الحرب العالمية إلى أن يحشدوا فى مصر عشرات الألوف من قوات الأمبراطورية من شتى أجناس ألأرض ليقاسموا شعب مصر رزقه, وليعثيوا فسادا فى شوارع العاصمة والمدن الرئيسية, حتى كانت الشوارع تكاد تخلو من المارة عند الغروب خشية تعرض الأهالى لاعتداءات جنودهم السكارى ونزواتهم الطائشة, ووفقا للقول المأثور بأن عدو عدوى هو صديقى كان الكثيرون يرحبون بدخول الألمان مصر لطرد الإنجليز تحت تأثير وهم ساذج بأن دخول الألمان سوف يحرر مصر من نير الإستعمار دون أن يدركوا الحقيقة المرة, وهى أن دخول القوات الألمانية النازية مصر لم يكن يعنى سوى استبدال احتلال باحتلال آخر ربما كان أثقل وطأة وأشد وبالا وأكثر إذلالا.

وعندما وقع حادث 4 فبراير 42 كانت وحدات الجيش المصرى موزعة ومشتتة فى أ{جاء شتى من البلاد وفقا للواجبات الملقاة على عاتقها حسب الخطة البريطانية الموضوعة للدفاع عن مصر , والتى كانت تجعل من مسئولية الجيش المصرى الدفاع المضاد للطائرات وتأمين الملاحة فى قناة السويس وحراسة المنشآت والمرافق الحيوية ومعاونة القوات البريطانية فى الصحراء الغربية, وكانت معسكرات الجيش المصرى الرئيسية تقع فى أربع مناطق ب القاهرة هى :

ألماظة ومنشية البكرى وكوبرى القبة والمعادى, وكانت أهم هذه المنطق من جهة كثافة القوات التى ترابط فى ثلاثة معسكرات كبرى بالعاصمة كانت أصلا معسكرات مصرية, ولكن الجيش البريطانى استولى عليها بعد دخوله القاهرة فى سبتمبر 1882 عقب هزيمة أحمد عرابى فى موقعه التل الكبير, وأصبحت منذ ذلك الحين مأوى لقواته وهى: معسكرات العباسية وقصر النيل والقلعة, وعقب الزيادة الكبيرة التى طرأت على حجم القوات البريطانية فى مصر عند مشوب الحرب العالمية الثانية القيادة البريطانية عدة معسكرات ضخمة فى منطقتى المعادى و حلوان .

ولم يكن الجنرال ستون قائد القوات البريطانية فى مصر الذى عهد إليه مجلس الحرب ب القاهرة إعداد التجهيزات العسكرية لعملية حصار قصر عابدين فى حاجة إلى من يرشده إلى حقيقة أوضاع الجيش المصرى, فقد كان منذ أيام قلائل فقط بتولى رئاسة البعثة العسكرية البريطانية, وبالتالى فلديه أدق المعلومات والتفاصيل, وعندما رسم الجنرال ستون خطته فى 4 فبراير 42 كان أهم الأسس التى حرص على مراعاتها هو أن تتم عملية حصار قصر عابدين بطريقة مباغتة دون سابق إنذار والالتزام أثناء التجهيز لها بأعلى قدر من السرية والحيطة, كما وضع فى تخطيطه ألا يستغرق من وراء ذلك إلى تجنب وقوع اشتباكات مسلحة بين القوات البريطانية التى عهد إليها بأمر تنفيذ العملية وبين وحدات مصرية حتى لا يتفاقم الموقف وينقلب الحال على مواجهة سافرة بين الجيشين تضطر إزاءها القيادة البريطانية إلى ضرب القوات المصرية ومعسكراتها برا وجوا, وبذا تتحول مصر من دولة حليفة طبقا لمعاهدة 36 يشترك جيشها فى خطة الدفاع البريطانية لتصبح أرضا محتلة من جديد, مما سوف يؤدى بطبيعة الحال إلى تغيير جذرى فى الوضع الاستراتيجى للقوات البريطانية فى منطقة الشرق الأوسط, وقد ساعد على نجاح العملية طبقا للخطة المرسومة عاملان: أولهما حالة الإظلام التام التى كانت تسود القاهرة وقتئذ بسبب الغارات الجوية, وثانيهما بعد معسكرات الجيش المصرى عن ميدان عابدين وتوزيع قواته فى وحدات فرعية صغيرة مبعثرة, وفقا للواجبات المنوطة بها.

وضمانا لعدم تدخل أية قوات مصرية أثناء عملية حصار قصر عابدين, تم وضع دوريات بريطانية حفيفة الحركة مزودة بالأجهزة اللأسلكية لسد الطرق ما بين مناطق معسكرات الجيش المصرى ومنطقة وسط القاهرة طوال الفترة التى استغرقتها العملية, ولكن أنباء حصار الدبابات البريطانية لقصر عابدين فى مساء 4 فبراير لم تلبث أن أذاعت وانتشرت بسرعة فى كل وحدات الجيش المصرى, وأدى ذلك إلى ازدياد سخط الضباط ومضاعفة نقمتهم على الإنجليز, واعتبروا الحادث عدونا صارخا على استقلال البلاد وعلى كرامة الجيش, ونتيجة للإتصالات التى جرت بين الوحدات تم عقد اجتماع كبير فى نادى الضباط بالزمالك بعد ظهر 7 فبراير حضره ما يقرب من 500 ضابط من مختلف الرتب والأسلحة, وأخذ الضباط يتدارسون خلال الاجتماع الذى اتسم بالصخب والانفعال فى الوسيلة التى ينبغى عليهم اتخاذها للثأر من الإنجليز ورد الإهانة التى جرحت كرامة الوطن وسمعة الجيش, ولم يلبث بعض المتحمسين من الضباط الشبان أن عرضوا اقتراحات متطرفة كانت تدعو إلى استخدام القوة والاصطدام بالإنجليز, رغم التفاوت الكبير فى القوى التسليح بين الجيشين المصرى واالبريطانى مما كان سيؤدى إلى مجاوز رعيبة وعواقب وخيمة. وأخيرا تغلب صوت العقل والحكمة على أساليب التهور والاندفاع واستقر رأى الأغلبية على التوجه إلى قصر عابدين للتعبير بأنفسهم عن ولائهم لقائدهم الأعلى, واستقل الجميع عربات الجيش إلى قصر عابدين, واصطفوا بنظام فى الفناء الداخلى للقصر, وردد الضباط خلف الفريق عطا الله رئيس الأركان هتافا الجيش التقليدى بحياة الملك ثلاث مرات, وفى أعقاب الهتاف أطل الملك على الضباط من شرفة القصر بالدور الثانى حيث حياهم وشكرهم,وطلب منهم العودة إلى عملهم بهدوء, وتوجه وفد من الضباط يمثل مختلف الرتب والأسلحة إلى دفتر التشريفات حيث قيدوا أسماءهم إعلانا عن ولاء الجيش ضباطا وجنودا للملك, واستغل رجال القصر وعلى رأسهم أحمد حسنين رئيس الديوان حاث 4 فبراير , وما أحيط به من عوامل الإثارة وما نسج حوله من شائعات لاكتساب الرأى العام فى مصر إلى صف الملك, وخاصة ضباط الجيش بتصوير فاروق بطلا شعبيا لم يأبه للإنذار البريطانى, ولم يكترث بتهديد الدبابات البريطانية فى سبيل الحفاظ على كرامة مصر , وساعد على تجسيم هذه الصورة الأسطورية للملك حملات الدعاية التى أطلقتها أحزاب الأقلية وبعض دور الصحف المعروفة بانتمائها للسراى بغرض التزلف للملك من جهة, ولمحاولة القضاء على شعبية الوفد من جهة أخرى بترديد الشائعات عن تواطؤ النحاس مع السفير البريطانى وإطلاق الاتهامات بأن الوزارة الودية قد شكلت على أسنة الحراب البريطانية.


حاولوا تضليل الشعب

وكانت الخدعة الكبرى التى وقع الكثيرون فى حبائلها عندما نجحت حملات الخداع والتضليل فى إيهام فئات عريضة من الشعب, خاصة من بين ضابط الجيش والفئات المثقفة أن القصر قد تخلى عن مكانه الطبيعى فى المواجهة فى المواجهة المضادة للحركة الوطنية, وأنه قد فسخ تخالفه التاريخى مع الاحتلال البريطانى الذى يحمى عرشه بأسنة حرابه وفوهات مدافعه منذ عهد الخديوى توفيق, لكى يتبوأ مكان الريادة ويتولى – لسخرية القدر- مركز القيادة لحركة الكفاح الشعبى ضد الإستعمار, وكانت هذه الخدعة التى انطلت على الكثيرين سببا فى تزعزع ثقة الضباط الشبان بالوفد, وكن أمرا طبيعيا بعد ما أصابهم من إحباط أن بدأت ميولهم تتجه إلى الجماعات الجديدة التى أخذت وقتئذ تبرز على مسح السياسة المصرية وهى: جماعة الإخوان المسلمين والجماعات اليارية و مصر الفتاة وفى دهاليز القصر الحفية رسمت الخطط وأحكم التدبير لإخراج بضعة مشاهد مسرحية متقنة فى نادى الضباط بالزمالك لإظهار مدى ما يخطى به الملك من حب وتأييد بين ضباطه الأوفياء كنوع من استعراض القوة أمام الوزارة الوفدية الجديدة, وقد أتيحت لى الفرصة لأحضر بنفسى مشهدين منها, اشترك فى إخراجها أحمد حسنين رئيس الديوان و إبراهيم عطا الله رئيس الأركان, وكانت الفرصة لتنفيذ الخطة المرسومة قج سنحت بسرعة إذ لم يمر سوى أسبوع واحد على حادث 4 فبراير حتى حل عيد ميلاد الملك فى 11 فبراير الذى اعتادت إدارة نادى الضباط بالزمالك الإحتفال به فى كل عام بإقامة حفل ساهر يحضره عدد كبير من ضباط الجيش, وتدعى إليه صفوة المجتمع من الوزارة وكبار رجال الدولة, وكان يقام لهذا الغرض سرادق كبير تنصب فى مقدمته خشبة للمسرح ليتولى نجوم الحفل من المطربين والمطربات والمنلوجست المتفق معهم أداء أدوارهم فوقه, وحرصت إدارة النادى فى حفل 11 فبراير 42 أن يكون السرادق متسعا وأن يزداد عدد الحاضرين من المدعويين والضباط بنسبة كبيرة تفوق كل الأعوام السابقة , وأن يكون العشاء فاخرا, وأن تشترك أم كلثوم فى إحيائه,ولبى دعوة النادى لحضور الحفل رئيس الوزراء وقتئذ مصطفى النحاس ومعظم أعضاء وزارته, وعدد كبير من رجالات الدولة, ولم يكد المندوب الذى أنابه الملك لحضور الحفل وهو ياورة اللواء عبد الله النجومى يصل إلى النادى حتى عزفت الموسيقى السلام الملكى وأطفئت الأنوار وبدأ الحاضرون يتابعون فى إهتمام برنامج الحفل أحس المشاهدون بحركة غير عادية تنبعث من الممر الأوسط للسرادق أعقبها تصفيق من بعض الأفراد الجالسين بجوار الممر وفجأة أضيئت جميع أنوار السرادق, ولمح الضباط رئيس الديوان الملكى أحمد حسنين الذى كان معروفا أنه رجل الملك ومستشاره الأول وهو يسير فى الممر الأوسط قاصدا مكانه فى الصف الأمامى, ووقف جميع الضباط فى السرداق يصفقون فى حماسة لرئيس الديوان أكثر من خمس دقائق كان يبادلهم خلالها التحية بيده, وتوقف البرنامج بالطبع طوال تلك الفترة التى استغرقها المظاهر المسرحية الصاخبة التى دخل بها رئيس الديوان الملكى إلى السرادق حتى جلس فى المقعد المخصص له. وفى حفل آخر مشابه أقيم بعد ذلك فى حديقة النادى بمناسبة عيد الجلوس الملكى فوجىء المدعوون الضباط فى منتصف الحفل بلافتة ضخمة يزاح عنها الستارة فجا’ ليظهر شعار الجيش فى هالة من الأنوار الساطعة وكانت صدمة للحاضرين حينما اكتشفوا التغيير الغريب الذى جد على الشعار, فإن الفريق إبراهيم عطا الله فى سبيل التزلف لمولاه قد جعل الملك يسبق الوطن فى الشعار الجديد الذى غدا منذ تلك اللحظة الشعار الرسمى للجيش وهو " الله الملك الوطن" ودعوا الله أن يهدى الفريق عطا الله فلا يقوم بتقديم الملك أكثر من ذلك.

وقد اعتاد فاروق عقب حادث 4 فبراير 42 مفاجأة نادى الضباط بالزمالك بزيارة شخصية مساء 4 فبراير من كل عام, ونظرا لأن هذه الزيارة كانت متوقعة لذا كان دائما فى استقباله رئيس الأركان وكبار قادة الجيش, وكان الملك يتوجه إلى الصالون الخاص به فى الطابق الأول من النادى, حيث يدعى كل الضباط الموجودين بالنادى للمثول بين يديه والجلوس حوله على المقاعد وعلى الأرض, وكان يتعمد التبسط معهم فى الحديث, وأن يتبادل النكات والقفشات معهم وهو لا يكف عن إطلاق ضحكاته المدوية حتى تنتهى الزيارة فى ساعة متأخرة من الليل.

ولكن الزعامة الزائفة التى أراد فاروق أن يحتلها فى قيادة الحركة الوطنية بفضل دعايات المضللين لم تكن غير انعطاف حاد فى الخط المسيرة الوطنية. ونتوء شاذ كان يتناقض تماما مع منطق الأمور وطبيعة الحركة الثورية المصرية لذا سرعان ما تكشف الحقيقة الأليمة للواهمين والمخدوعين من الشعب بعد سنوات قلائل, فعلى أثر انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت حركة المد الثورى تتخذ طريقها بقوة منذ أوائل عام 46 فى عهد حكومة إسماعيل صدقى لمطالبة الإنجليز بالجلاء عن مصر , وفى 21 فبراير 46 وهو اليوم الذى عرف بيوم الجلاء وقعت اشتباكات دامية بين المتظاهرين من أبناء الشعب وبعض الجنود البريطانيين فى القاهرة و الإسكندرية ,وعندما اشتد التوتر وأصبح الموقف السياسى ينذر بالأخطار هرع فاروق ليتخذ مكانه الطبيعى والتاريخى كحليف للاحتلال الذى يدعم عرشه ويحميه من نقمة الشعب, وانتهز فاروق فرصة نقل السفير البريطانى اللورد كليرن وضعف حكومة إسماعيل صدقى التى لا تستبد إلى أى تأييد شعبى ليسفر القناع عن حقيقته كطاغية مستبد انفرد تماما بالحكم دون اكتراث لدستور أو حكومة أو برلمان, وتحت وطأة جموع الشعب الثائرة سقطت اتفاقية صدقى بيفن التى وقعها رئيس وزراء مصر مع وزير خارجية بريطانيا بالأحرف الأولى, واضطر إسماعيل صدقى إزاء السخط الشعبى الذى واجهه إلى تقديم استقالته فى ديسمبر 46 .

وأدت هزيمة الجيش فى حرب فلسطين عام 48 وانكشاف ما يحيط بالجيش والمجتمع من فساد ورشوة وانحلال إلى خلق رابطة فكرية مشتركة بين عدد من الضباط الوطنيين من اتجاهات سياسية مختلفة, وكانت هذه الرابطة الوطنية هى الأساس الذى بنى عليه جمال عبد الناصر تنظيم الضباط الأحرار الذى كونه فى سبتمبر 49 , والذى ضم الطليعة الوطنية الواعية من ضباط الجيش.

وتركزت بين الضباط النقمة الشديدى على الملك عقب ان انكشفت أمامهم فضائحه ومخازيه , فلقد رأوه لا يتورع عن القتل وسفك الدماء بواسطة ضباط حرسه الحديدى الذى أرسلهم مرتين لمحاولة اغتيال مصطفى النحاس , وبعد وبعد أن اكتشفوا أن الملك ينتهك الأعراض والحرمات ويسلب أموال الشعب, ويدير أهم شئون الدولة وهو على مائدة القمار وأن السلطة الحقيقية فى الدولة قد انتقلت إلى أيدى الخدم والشماشرجية والقوادين,وعندما أعلن رئيس الحكومة الوفدية مصطفى النحاس إلغاء معاهدة 36 أمام البرلمان فى 8 أكتوبر 51 ,وبدأت حركى الكفاح مع الإنجليز فى تدبير حريق القاهرة فى 26 يناير 52 , الذى أتاح له تحقيق الغرض الذى استهدفه من تدبيره وهو التخلص من حكومة الوفد والقضاء على حركة التحرر الشعبى التى كانت على وشك أن تجنى ثمارها بإرغام الإنجليز على الجلاء عن منطقى قناة السويس .

حصار رأس التين

ولم تمر على حادث 4 فبراير 42 سوى عشر سنوات حتى تعرض فاروق لأحداث تكاد تماثل الحادث الشهير غير أن الأبطال كانوا فى هذه المرة من الجيش المصرى المخلصين. ففى صباح السبت 26 يوليو52 ضربت قوات الجيش المصرى حصارا حول قصر رأس التين ب الإسكندرية , ولم يجد فاروق حوله فى تلك اللحظات الحرجة سو حاشيته العفنة انطون بوللى سكرتيره الخاص وقواده وكافاتسى مدرب الكلاب وجارو الحلاق و حلمى حسين السائق و محمد حسن الشماشرجى , ولم يكد يسمع فاروق بعض الطلقات النارية تطلق على القصر حتى انهار من فرط الخوف, وأسرع إلى التليفون ليطلب من المستر جيفرسون كافرى السفير الأمريكى التدخل لحمايته وإنقاذ حياته.

ومن مقر الحكومة فى بولكلى ب الإسكندرية حمل على ماهر رئيس الوزراء فى الصباح إلى الملك فى قصر التين الإنذار الموجه إليه من محمد نجيب باسم ضباط الجيش ورجاله, وقد دمغ الملك فى هذا الإنذار بالعبث بالدستور وامتهان إرادة الشعب والإساءة إلى سمعة مصر وإضفاء الحماية على الخونة والمرتشين الذين أثروا على حساب الشعب الجائع الفقير والتدخل السافر فى قضية الأسلحة الفاسدة,مما أفسد الحقائق وزعزع الثقة فى العدالة, وفى نهاية الإنذار طلب محمد نجيب باعتباره مفوضا من الجيش الممثل لقوة الشعب ان يتنازل الملك عن العرش لولى عهده احمد فؤاد فى موعد غايته الثانية عشرة من ظهر السبت 26 يوليو , وأن يغادر البلاد قبل السادسة من مساء اليوم نفسه وإلا فإن الجيش يحمل الملك كل ما يترتب على عدم النزول على رغبة الشعب من نتائج,وقبل الساعة الثانية عشرة توجه سيلمان حافظ المستشار القانونى لرئيس الوزراء وهو يحمل وثيقة تنازل الملك عن العرش التى أعدها بالاشتراك مع عبد الرازق السنهورى رئيس مجلس الدولة إلى قصر رأس التين, ووقع الملك الوثيقة وهو فى حالة انفعال شديد, وفى تمام الساعة السادسة أنزل العلم الملكى من على سارية قصر رأس التين وأدى الحرس الشرف التحية العسكرية وعزف السلام الملكى لآخره مرة فى حياة فاروق, وبعد أن صافح مودعيه استقل اللنش البخارى الذى أوصله إلى المحروسة, ولحق به محمد نجيب بعد أن أخرته الجموع الحاشدة فى طريقه, وصعد إلى المحروسة ومعه عدد من زملائه وأدى التحية العسكرية للملك المعزول, وتصافحا باليد. وبعد فترة سكون انطلق صوت محمد نجيب قائلا للملك: عندما اقتحمت الدبابات البريطانية قصرك فى 4 فبر اير 42 كنت أنا الضباط الوحيد الذى قدم استقالته احتجاجا على هذا الاعتداء الشنيع على استقلال البلاد, فعلت هذا باسم الجيش كله وعبرت به عن شعور هؤلاء الضباط الذين قاموا بالحركة اليوم وفى هذا مد يدل على مبلغ ما كلن من ولائنا نحن رجال الحركة لك, أما الآن فقد تطورت الأحوال وانقلبنا نحن حماتك إلى ثوار عليك نتيجة أعمالك وتصرفات من حولك!.



للمزيد عن الإخوان وثورة 23 يوليو

وصلات داخلية

كتب متعلقة

.

ملفات وأبحاث متعلقة

.

مقالات متعلقة

تابع وثائق متعلقة

وصلات خارجية

مقالات خارجية

وصلات فيديو

تابع وصلات فيديو