الحزبية في فكر الإخوان المسلمين .. تقنين آراء وتأصيل اتجاهات (الجزء الأول)

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الحزبية في فكر الإخوان المسلمين .. تقنين آراء وتأصيل اتجاهات (الجزء الأول)

موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين

بقلم:أ/محمد السيد الصياد

تمهيد

لاشك أن الأحزاب السياسية من دعائم العملية الديمقراطية ، ولا شك كذلك أن الأنظمة الشمولية الديكتاتورية سرعان ما تخلصت من وجود الأحزاب السياسية والتيارات الأيدلوجية فور استلامها السلطة كي تمرر السياسات القمعية وتكتم الألسنة وتدك بوادر المعارضة أينما وجدت .

فالأحزاب السياسية المعارضة بمثابة الرقيب علي العملية الديمقراطية من خلال نقد سياسات النظام الحاكم ومن خلال طرح الأنموذج البديل .

ونحن في هذه الورقات نطوف حول الحزبية في فكر جماعة الإخوان المسلمين التي هي أكبر جماعة إسلامية تمثل الإسلام السياسي في العالم ، ونحن حينما نقوم بذلك نضطر أن نرجع للتاريخ ونطوف في أحداثه ووقائعه لنقف علي آراء الآباء الأوائل للدعوة وكيف كانت نظرتهم للأحزاب ،

ورؤيتهم للتعدد في الحياة السياسية . كذلك نجلي في هذه الوريقات عن ماهية الخلاف ، هل هو خلاف في إطار السياق الزمني والإطار التاريخي أم أنه خلاف حول مقدس وثوابت من ثوابت المنهجية الفكرية عند الجماعة والمؤسسين الأوائل ؟.

ومن ثم سوف نجنح إلي اللغة الفقهية تارة ، وإلي التاريخية تارة ، وإلي التحليلية أخرى .

ونوضح في هذا البحث أيضا موقف الإمام المؤسس حسن البنا من قضية الأحزاب وكيف يُفهم كلامه في هذا الصدد ؟

وكيف نجمع بين الأقوال المتناثرة لكوادر الدعوة هنا وهناك في هذا الصدد ؟

وكيف نفهم موقف رواد الدعوة حينها وموقفهم الآن ؟

هل تخلوا عن ثوابت الجماعة الأم ؟

أم أنه فقه الأولويات ؟

ورعاية المقاصد ؟

أم أن الإمام الشهيد لم يعترض من الأساس علي فكرة تكوين الأحزاب ، وإنما كان اعتراضه علي الممارسات الحزبية في ذلك الوقت ؟!

كل هذا سوف تطوف حوله هذه الدراسة المطولة والتي تشعبت بها السبل في الحقب التاريخية والمواقف المعاصرة .

النظم السياسية والأحزاب

النظام السياسي

هو نسق من العمليات والتفاعلات ، التي تتضمن علاقات سلطة بين النخبة الحاكمة من ناحية والمواطنين من ناحية أخرى ( وبين فئات ومجموعات النخبة وبعضها الآخر ) .

هذه العلاقات تحدث في نطاق عدد من الأطر القانونية والمؤسسية ، ويقصد بذلك وجود قواعد وإجراءات لتنظيم هذه العلاقات ، والتي تتأثر بالأيدلوجية والثقافة السياسية والممارسة العملية والمشاركة الشعبية .

وفي ظل هذه العلاقة تقوم النخبة الحاكمة التي تتولي مقاليد السلطة باتخاذ القرارات وتحديد السياسات كما تقوم بتنفيذها ، ويقوم المواطنون بمهمة المشاركة السياسية التي قد تقل أو تزيد والتي تختلف صورها وأشكالها من نظام لآخر ، للتأثير علي هذه القرارات والسياسات أو لمراجعة بعض جوانبها ، وكذا ، للرقابة علي عملية تنفيذ السياسات العامة والمحاسبة علي نتائجها (1).

والنظام السياسي بهذا المعنى لا يعمل في فراغ ، ولكن في إطار بيئة داخلية وإقليمية ودولية يتعامل ويتفاعل معها ..

هذه البيئة لها طابع مزدوج فهي قد توفر فرصا وإمكانات وموارد لاستخدامها لمصلحة السياسات والاختيارات التي يتبناها النظام ، وقد تفرض قيودا وحدودا علي حرية حركته في الاختيار والتنفيذ .

ونريد أن نقول بأن النظم السياسية تمتاز بمعايير تظهر كنهها ، هل تحترم الديمقراطية وتتخذها نظام حكم ؟

وبعبارة أخري / ما هو مذهب النظام السياسي ومرجعيته التي يعتمد عليها ؟

ومن ثم فالأحزاب السياسية هي دعامة النظام السياسي ، فالأنظمة الشمولية والديكتاتورية إنما صارت هكذا لأنها تطبع الكل في قالب موحد ولا تعترف بالأحزاب أو تعترف بها لكن يبقي وجودها شكليا.

وهنا يتجلي السؤال لماذا هاجم حسن البنا الأحزاب السياسية في عصره ؟

هناك افتراضان :

الافتراض الأول : أن هذا الرفض للأحزاب لم يكن لوجودها ولا لكيانها وإنما كان لممارستها ولهيكلها القائم حينئذ ، وأنه إنما رفض خلافاتها التي كانت سببا في زيادة الهوة بين فئات المجتمع وشدة الخلاف والتطاحن بين طبقاته عامة ومثقفيه خاصة .

وعدم اهتمام تلك الأحزاب بالقضايا الوطنية الكبرى ، فكل ما كان يعنيها هو الحصول علي مقعد في البرلمان أو تشكيل حكومة أو المشاركة في تشكيلها .

ولم يكن حسن البنا يرفض الأحزاب كفلسفة ووسيلة لا غني عنها للممارسة العملية الديمقراطية وهذا ما ارتآه القرضاوي في كتابه التربية السياسية عند حسن البنا .

الافتراض الثاني : أن حسن البنا رحمه الله إنما كان يرفض الفكرة الحزبية من الأساس .

وإذا ثبت هذا فمن حق البعض أن يتساءل عن سر تراجع الإخوان عن هذه الرؤية فيما بعد .

ولكي نوضح هذا لابد أن نبين مسألة "الفرق بين قول الإمام وقول مدرسته التي أصلها الفقهاء" .

وهذا فصلٌ مهم جدا ، لا تفهم مذاهب المدارس الفقهية أو الفكرية بدون تأمله جيدا ، وإمعان النظر فيه .

نريد أن نقول بأن إمام المذهب ومؤسسه قد يكون له رأي لا يعتد به عند علماء المذهب ممن أتوا بعد ذلك .

فالمذهب عبارة عن مدرسة علمية كبري قام علي تأسيس دعائمها ، وتحديد معالمها ، رجال كبار وعلماء، علي مر العصور والأزمان وباختلاف الأماكن والأمصار والبلدان .

فإمام المذهب والمؤسس الأول له كالشافعي مثلا وضع الأصول الفقهية ، وقنن القواعد التي يستنبط من خلالها الأحكام من الكتاب والسنة وهي أشبه بالخطوط العريضة والملامح العامة والقواعد الإجمالية لكُنْه هذا المذهب واتجاهه ،

ثم رحل الشافعي وبقي تلاميذه ينقحون أصوله ويضيفون إليها ويحددون معالمها تحديدا دقيقا ، ولكل تلميذ من تلامذة الشافعي تلاميذ تفرقوا في البلدان وكوّن كل منهم نواة لمدرسة علمية كبرى تتبني أصول الشافعي التي وضعها وتستنبط الأحكام في إطارها . هذه لمحة .

ثم إن علم الحديث وكثيرا من علوم الآلة لم يكن قد استقر بعد ، لكن بمرور الزمن استقرت هذه العلوم وبعد استقرارها ارتأت المدارس العلمية التي تعود بجذورها للشافعي وتتبني أصوله ، ارتأت أن تنقح مسائل المذهب وتغربلها وتحققها في دائرة العلوم التي استقرت والأحاديث التي بانت وعُرف صحيحها من سقيمها وغثها من سمينها . هذه لمحة أخرى .

ولك أن تعلم أنَّ من هؤلاء العلماء الذين قاموا علي رعاية المذهب وصوغ أحكامه بطريقة علمية محكمة متينة وإعادة ترشيد فروعه وتدعيمها بما طرأ من مستجدات ، من كانوا محدثين كبارا كالشيخ أبي عمرو والنووي والذهبي والعراقي والبلقيني وابن حجر والسيوطي وزكريا الأنصاري ، فهؤلاء كانوا محدثين كبارا وهم كذلك تمذهبوا للشافعي وغربلوا مذهبه وبينوا المعتمد من غير المعتمد من الأحكام فيه . هذه لمحة ثالثة.

وبانضمام هذه اللمحات واقترانها تعلم أن مذهب الشافعي غير مذهب الشافعية أو أن قول الشافعي غير قول الشافعية فربما كان قول الشافعي قولا مهجورا من علماء المذهب ، أو مرجوحا أو شاذا وكان غير معتمد ، لكن قول الشافعية هو قول المدرسة أو مجمل علماءها ،

ثم إن هذه المدرسة قد استقامت فيما بينها علي أقوال معتمدة وطرح ما سواها حتى ولو كانت لمنظري المذهب ومؤسسيه الأول .

حتى قال السبكي وابن حجر وغيرهما بأنه لا يجوز لأحد أن يفتي بما في الأمّ للشافعي علي أنه مذهب الشافعية .

وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه "الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان" ، يقول :

( ولاختلاف الأحكام باختلاف العرف ترى فقهاء المذاهب لا يأخذون بفتاوى أئمتهم القائمة علي رعاية العرف ، متى تحققوا أن العرف قد تغير وأن الواقعة أصبحت تستحق حكما آخر غير ما قرره الأئمة من قبل ، فلفقهاء المالكية :

كأبي عبد الله بن عتاب ، والقاضي أبي بكر بن العربي ، وأبي الوليد بن رشد ، وأبي الأصبغ بن سهل ، والقاضي ابن زرب ، فتاوى عدلوا فيها عن المشهور في المذهب وبنوها علي رعاية العرف وجرى باختيارهم عمل أهل القضاء والفتوى من بعدهم .

قال شهاب الدين القرافى في قواعده : ( إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره علي عرف بلدك والمقرر في كتبك ، فهذا هو الحق الواضح ، والجمود علي المنقولات أيا كانت إضلال في الدين وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضين(2) اه .

قلت : فلابد من معرفة الأقوال التي اعتمدها رجالات المذهب وعدم مجاوزتها اللهم إلا لمجتهدى المذهب والقائمين علي أصوله .

فمسألة اللحية كمثال / هي سنة عند الشافعية كذا قال الرافعي وأقره النووي والسيوطي وغيرهما وهؤلاء هم محققو المذهب وأعمدته التي لا يقوم إلا بها ورضي الشافعية بإمامة هؤلاء ومن ثم بأقوالهم ونبذ ما سواها ، علي أن ثمة أقوالا تقول بوجوب اللحية عند الشافعي وغيره من المتقدمين إلا أن المعتمد في المذهب قول الرافعي والنووي فليس لأحد أن ينسب إلي الشافعية القول بوجوب اللحية.

وقس مثل ذلك علي بقية المذاهب ، ومن نتائج ما قلناه أنه ليس كل أحد يمكنه أن يقف علي حقيقة المذهب في مسألة ما إلا إذا كان دارسا لهذا المذهب عارفا برجاله حاصرا لكتبه ، وهناك علماء يسروا الأمر فصنفوا في مناهج الأئمة الأربعة ومدارسهم ومصنفاتهم والمعتمد منها وما أشبه.

وأفضل ما وقفت عليه في ذلك كتاب "المدخل إلي دراسة المذاهب الفقهية" المطبوع بدار السلام في القاهرة لشيخنا العلامة الفقيه الأصولي علي جمعة الشافعي مفتي الديار المصرية حفظه الله وأبقاه ، وهو ثمرة اعتكاف سنين طويلة ، ورحلة مديدة حتى أمكنه أن يحبكه هذه الحُبْكة .

ولك أن تسحب هذا الأمر علي مدرسة الإخوان المسلمين التي قام علي تقنين أفكارها وتنظير رؤيتها مفكرون كبار جيل بعد جيل متعاقبون ، الكل يعتكف علي الإضافة للمذهب وطرح ما يأباه الواقع في إطار الشريعة وسياق الأخلاق .

فتجد البنا رحمه الله يختار فكرة ، فيأتي المفكرون والعلماء في أروقة الجماعة من بعده ويقررون أهذه الفكرة من ثوابت الجماعة أم من اجتهادات مرحلة معينة لأحد رجالها –ولو كان المؤسس- ، ومن هنا نتبين مسألة الأحزاب.

وإذا كان حسن البنا يرفض الأحزاب علي الافتراض الثاني فليس لأنه لا يقر العملية الديمقراطية وتداول السلطات أو كونه يريدها كهنوتية .. لا، حسن البنا لم يكن يؤمن بهذا ، لكنه كان يضع البديل الصعب للأحزاب ، وهو أن حق المعارضة مكفول في الإسلام للجميع ، وأن الشورى ملزمة للحاكم .

فحق المعارضة مكفول في الإسلام فديننا برحابة فكره واتساع آفاقه إلي تعدد الآراء والاجتهادات ، وظهور الرأي والرأي الآخر في وجود الضوابط التي تمنع الفرقة والزيغ .

والإسلام يحض علي الاجتهاد وحرية الفكر ، وينبذ الانقياد الأعمى ويجعل للمخطئ أجرا وللمصيب أجرين ، وكانت المعارضة في عهد الراشدين تسلك سبيلا راشدا مرتبطا بطاعة ولي الأمر والحرص علي وحدة الجماعة .

وقد دعا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما المسلمين إلي متابعتهما وتقويمهما إذا أخطأ ، وكان المسلمون يقولون لعمر :"لو وجدنا فيك اعوجاجا لقاومناك بسيوفنا" وهو يسعد بذلك ويقول : الحمد لله الذي أوجد في أمة محمد من يقوم عمر بسيفه .

وهناك موقف مشهور للمعارضة الرشيدة في عهد عمر بن الخطاب عندما عارضه بعض الصحابة في موقفه من أرض السواد بالعراق ، فقد رأي عمر أن تبقي الأرض في أيدي أصحابها ويدفعوا خراجا يمثل دخلا مستمرا لبيت المال علي مر الأجيال ورأي البعض أن توزع هذه الأرض علي المقاتلين ، حكمها في ذلك حكم الغنيمة ، وكان علي رأس المعارضين بلال بن رباح وعبد الرحمن بن عوف وكان عمر يقول "الله اكفني بلالا وصحبه" ، وكان غالبية الصحابة من المؤيدين .

كيف واجه عمر هذه المعارضة ؟

هل منعها أو عمل علي وأدها في مهدها واستبد بالرأي ؟ لا

لكنه التزم الأسلوب الإسلامي القويم ، فلجأ إلي التحكيم وشكل لجنة محكمين من المهاجرين والأنصار ووقف أمامهم يدلي برأيه ويسوق الأدلة والبراهين من الكتاب والسنة .

ثم صدر الحكم من هيئة المحكمين لصالحه ، ولو لم يصدر لصالحه لأذعن .

وقبل أن نسترسل في رصد ومتابعة أيدلوجية الإخوان تجاه الأحزاب نسوق بعض العبارات التي فهمها البعض من موقف الإمام البنا من الأحزاب والتي فهموها بما يتلاءم مع خلفيتهم الفكرية والأيدلوجية كي نكون قد عرضنا للقارئ الموضوع من كل جوانبه وكافة نواحيه ولكي يكون البحث موضوعيا . يقول أحد الباحثين:

هناك مَن أسلم لله وآمن بأن الدين عند الله الإسلام ، فرفض أن يكون ذلك الدين مشرذما إلى أحزاب سياسية دينية ، ورفض أن يكون المسلمون في هرج ومرج ، بل ورفض جازما أن يمارس الإرهاب ، ورفض كليا أن يؤيد الإرهاب بكل أشكاله وألوانه .

وهناك مَن اتخذ الإسلام دينا كأداة للعنف والإرهاب والعدوان من أجل أن يقبض على السلطة بأي شكل من الأشكال لتحقيق مآرب شخصية تحت حجة (الحاكمية) . ولكن الله والإسلام براء من العدوان .

لقد وقع بعض الكتاب والمفكرين العرب في إشكالية الخلط بين الدعوة الإسلامية والسياسة الحزبية للجماعات الإسلامية فجعلوا ، مثلا ، حركة الإخوان المسلمين حركة حزبية منذ تأسيسها .

وأسرع بعض هؤلاء في خلط الأوراق مما جعل من دعواتهم تفقد بعض مصداقيتها ، خاصة إذا أساء البعض من القراء فهم تلك القراءات من أنها ضد العقيدة الإسلامية .

وإن أية قراءة ضد العقيدة الإسلامية لن تنال النجاح في المجتمعات المسلمة . لذلك لابد من التمييز بين الإسلام وبين القوى السياسية الحزبية الإسلاموية التي تمارس العنف والإرهاب لتشويه الإسلام وإظهار المسلمين بمظهر الهمج والمتخلفين وقطاع الطرق .

وكل دعوة لا تميز بين سماحة الإسلام وعبادة الله الواحد الأحد الذي يدعو إلى الخير والمحبة والإخاء والسلام ، وبين الأحزاب الإسلامية التي تمارس العنف والإرهاب والتكفير وتخرج الإسلام من نقاءه وبهاءه لن تنال النجاح .

فالدعوات التي تخلط الأوراق تجعل من الأحزاب الإسلامية أكثر تطرفا وإرهابا .

يجب بيان الحقيقة التي مفادها أن الإسلام ليس أحزاب سياسية ، ولا يمكن أن يكون أحزابا سياسية تجعل من الإسلام واجهة لأعمال بشرية تقتل وتفتك بالمعارضين من أجل السلطان والسيطرة على الحكم لقطع الرقاب ، واحتكار الحقيقة ، وجعل المجتمع يرجع إلى الوراء لعبادة الإنسان للإنسان بدلا من عبادة الإنسان للرحمن .

عندما أسس الراحل حسن البنا حركة الإخوان المسلمين ، وهي أول حركة إسلامية منظمة بالمفهوم المعاصر للتنظيم ، لم تكن تهدف إلى أن تكون حركة حزبية سياسية دينية أبدا ، إنما دعوة إسلامية لاستقطاب بعض المسلمين الذين اتخذوا الإسلام دينا .

فـ " بعد أن كان الكاتبون المسلمون يجدون عنتا في التدليل على أن الإسلام ليس ضد العلم وأنه يواكب الحضارة ، أبرزت حركة الإخوان المسلمين جيلا من الشباب المؤمن المثقف يستصغر الحضارة الغربية في جنب الإسلام ، ويعتقد أنه لن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة " .


(مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ، ط3 ، المؤسسة الإسلامية ، بيروت ، 1984 ، ص 6) .

استطاع حسن البنا أن يرسي دعائم دعوة إسلامية متميزة حيث نجح مع ستة نفر من إخوانه على تشكيل أول نواة لجماعة الجماعة في شهر آذار/ مارس عام 1928.

وأصبح حسن البنا إماما ، وبدأ يركز على ضرورة صب الجهود من أجل بناء جيل مؤمن يفهم الإسلام فهما صحيحا .

مَن هو حسن البنا؟

ولد حسن البنا بمدينة المحمودية بمحافظة البحيرة في مصر عام 1906 م .

درس في دار المعلمين بدمنهور عام 1920 ، وفي دار العلوم بالقاهرة وتخرج منها عام 1927.

بدأ اهتمامه في سن مبكر بالعمل الإسلامي المنظم والدعوة إلى الله تعالى .

نشأ مع زملائه ( جمعية الأخلاق الأدبية ) ثم ( جمعية منع المحرمات ) وتعرف على الطريقة الحصافية.

حفظ القرآن الكريم وهو في الرابعة عشرة من عمره .

كان يرتاد إلى مجالس إخوان الطريقة الحصافية والمكتبة السلفية ومجالس علماء الأزهر .

عمل مدرسا بمدينة الإسماعيلية وبدأ يتصل بالناس في المقاهي ويحثهم على العمل للإسلام .

وبعد تأسيسه لجماعة الإخوان المسلمين انتقل إلى القاهرة عام 1932 وأصدر (مجلةالإخوان المسلمون) الأسبوعية ثم (مجلة النذير) وعددا من الرسائل .

وانتشرت جماعة الإخوان المسلمين في مصر والعالم العربي ، مما هددت النظام المصري ، فباشرت الحكومة بحلها واعتقال قياداتها باستثناء مرشد الحركة الإمام حسن البنا الذي جرى اغتياله في أحد شوارع القاهرة يوم 14 ربيع الثاني 1368 هجرية ، 12 شباط / فبراير عام 1949ميلادية .

وبعد ذلك تحولت حركة الإخوان من مرحلة الدعوة الإسلامية إلى مرحلة التحزب وتسييس الإسلام.

حسن البنا ضد السياسة الحزبية وتحزب الإسلام

كان الإمام حسن البنا يدعو إلى الإسلام عقيدة وشريعة ، عبادة وسلوكا ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

وكان يدعو إلى تجاوز الخلافات التي كانت تسود المجتمع الإسلامي المصري والعالم الإسلامي، والعودة إلى الأصالة الإسلامية المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، وتجاوز الخلافات المذهبية والقومية .

ويمكننا فهم دعوة الإمام حسن البنا ورفضه للسياسة الحزبية والتحزب الديني الإسلامي ، ومعاداته لشرذمة الإسلام وتجزئته إلى قوى حزبية متصارعة ومتنافسة ومتقاتلة بعضها للبعض الآخر ، من خلال قراءتنا لأفكاره ورسائله الموجهة للإخوان المسلمين ، باعتباره مؤسس الجماعة ومرشدها .

لقد أراد حسن البنا أن يكون الإخوان المسلمون للدعوة الإسلامية السلمية البعيدة عن العنف والإرهاب ومساندة الطغاة والظالمين .

فلم يكن يريد أن تكون تلك الدعوة كما نراها اليوم ، بعد أن حوَلها وغيَّرها بعض تلامذته وعلى رأسهم سيد قطب إلى حزب سياسي شبه عسكري .

فقد كان الشهيد حسن البنا يميز بين السياسة العامة والسياسة الحزبية ، وكان يؤكد على فصل السياسة الحزبية عن الإسلام لأن الإسلام دين الله وليس حزا سياسيا ينظم الميليشيا العسكرية .

فنسمع كلمات الشهيد حسن البنا وهو يوضح لنا هذه الحقيقة الناصعة بجلاء وبلا رتوش ومناورة سياسية لنفهم أولئك الذين حولوا الإسلام من دين السلام إلى التحزب السياسي والعسكرة .

يقول الأمام حسن البنا:

" وآن لي في الحزبية السياسية أراء هي لي خاصة ولا أحب أن أفرضها على الناس فإن ذلك ليس لي ولا لأحد .

ولكني كذلك لا أحب أن أكتمها عنهم ، وأرى أن واجب النصيحة للأمة وخصوصا في مثل هذه الظروف – يدعوني الى المجاهرة بها وعرضها على الناس في وضوح وجلاء .

وأحب كذلك أن يُفهم جيدا أني حينما أتحدث عن الحزبية السياسية فليس معنى هذا أني أعرض لحزب دون حزب ، أو أرجح أحد الأحزاب على غيره أو أنتقص أحده وأزكي الأخر ، ليس ذلك من مهمتي ، ولكني سأتناول المبدأ من حيث هو ، وسأعرض للنتائج والآثار المترتبة عليه ، وادع الحكم على الأحزاب للتاريخ وللرأي العام والجزاء الحق لله وحده .

( ينظر: رسالة الإمام حسن البنا في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين في محرم 1358هـ ) ." (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أنَّ بينها وبينه أمدا بعيدا).

ويقول حسن البنا:

"وبعد هذا كله أعتقد أيها السادة إن الإسلام وهو دين الوحدة في كل شئ ، وهو دين سلامة الصدور ، ونقاء القلوب ، والإخاء الصحيح ، والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعا فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه .

والقرآن الكريم يقول: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) .

ويقول رسول الله عليه السلام ، ألا لأدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصوم ؟ قالوا بلى يا رسول الله:

قال إصلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ". ( ينظر: رسالة الإمام حسن البنا في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين في محرم 1358هـ )

ويتابع حسن البنا في رسالته مبينا كيف أن التحزب الإسلامي يخلق الانقسامات والتفرقة بين المسلمين في الإسلام ، فيقول:

" وكل ما يستتبعه هذا النظام الحزبي ، من تنابذ وتقاطع ، وتدابر وبغضاء يمقته الإسلام أشد المقت ، ويحذر منه في كثير من الأحاديث والآيات .

وتفصيل ذلك يطول وكل حضراتكم به عليم ... وفرق أيها الإخوان بين الحزبية التي شعارها الخلاف والانقسام في الرأي والوجهة العامة وفي كل ما يتفرع منها ، وبين حرية الآراء التي يبيحها الإسلام ويحض عليها ، وبين تمحيص الأمور وبحث الشؤون والاختلاف فيما يعرض تحريا للحق ، حتى إذا وضح نزل على حكمه الجميع ، سواء كان ذلك إتباعا للأغلبية أو للإجماع ، فلا تظهر الأمة إلاّ مجتمعة ، ولا يرى القادة إلاّ متفقين.

أيها الإخوان لقد أن الأوان أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية في مصر ، وأن يستبدل به نظام تجتمع به الكلمة وتتوحد به جهود الأمة حول منهاج إسلامي صالح تتوافر على وضعه وإنفاذه القوى والجهود .

( ينظر: رسالة الإمام حسن البنا في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين في محرم 1358هـ ) . ويؤكد الشهيد حسن البنا:

" أن الفارق بعيد بين الحزبية والسياسة . وقد يجتمعان وقد يفترقان . فقد يكون الرجل سياسيا بكل ما في الكلمة من معان وهو لا يصل بحزب ولا يمت إليه ، وقد يكون حزبيا ولا يدري من أمر السياسة شيئا ، وقد يجتمع بينهما ".

( ينظر: رسالة الإمام حسن البنا في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين في محرم 1358هـ )

لقد رشح حسن البنا نفسه مرتين للانتخابات البرلمانية لكنه لم يدعو إلى ممارسة العنف والقتل والاغتيالات والإرهاب بغض النظر عن التزوير الذي تم في الانتخابات .

رشح نفسه لأنه كان من حقه كمواطن مصري أن يرشح نفسه ويدلي بصوته كأي مواطن آخر .

الحزب السياسي .. تحرير مصطلحات وتوجيه دلالات:

الحزب في اللغة: هو عبارة عن جماعة من الناس يجمعهم رأي واحد على موقف واحد.

وفي المصطلح السياسي: هو عبارة عن تجمع منظم يهدف للمشاركة في الحياة السياسية بقصد الاستيلاء كلياً أو جزئياً على السلطة.

قال أحد علماء السياسة هـ. كلن: «الحزب عبارة عن تشكيل يضم رجالا لهم نفس الرأي بهدف تأمين تأثير حقيقي لهم على إدارة الشؤون العامة».

وقال فرانسوا بوردو: «الحزب هو كل تجمع لأفراد يبشرون بنفس الأفكار السياسية و يسعون لجعلها تتغلب من خلال مؤازرة اكبر عدد ممكن من المواطنين لها الاستيلاء على السلطة أو على الأقل للتأثير على قراراتها». و قال العالم السياسي الكبير أوستن رني:

«الحزب عبارة عن جماعة منظمة ذات استقلال ذاتي تقوم بتعيين مرشحيها و تخوض المعارك الانتخابية على أمل الحصول على المناصب الحكومية و الهيمنة على خطط الحكومة».

و يمكننا أن نستخلص من مجموع التعاريف أن الحزب في المصطلح السياسي الحديث عبارة عن «جماعة من الناس لهم تنظيم معين ورأي واحد و موقف موحد لأجل الوصول إلى الحكم و المشاركة فيه بالاعتماد على دعم الجماهير لهم».

و قد وردت في القرآن الكريم كلمة الحزب بمعنى الجماعة التي لها رأي واحد و موقف موحد حقاً كان أو باطلا ولكن أكثر موارد استعمال الحزب في القرآن الكريم جاء في مقام الذم و القدح مثل قوله تعالى: (فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون) [المؤمنون: 53].

مصر والحياة السياسية في ظل المحتل الأجنبي

لقد وقعت مصر في قبضة الاحتلال الإنجليزي في أعقاب فشل الثورة العرابية عام 1882م بعد معركة التل الكبير واحتلال القاهرة في 14 سبتمبر 1882م، ومن ثم أصبحت البلاد وملكها ووزرائها ألعوبة في يد الإنجليز، وبالرغم من الخيانة التي حدثت في صفوف الجيش إلا أن الشعب لم يعدم بعد ذلك الرجل الوطني الذي هب يدافع عن البلاد ويطالب الإنجليز بالرحيل عن البلاد،

من أمثال هؤلاء مصطفى كامل -والذي توفي في فبراير 1908م- والزعيم محمد فريد -والذي توفي في 15 نوفمبر 1919م.

ولقد أحكم الإنجليز سيطرتهم على البلاد والعباد، وهيمنوا على كل نظم المجتمع، وتحقق لهم ذلك عن طريق الاستعمار الفكري فألغوا الشريعة الإسلامية والعمل بها من قانون القضاء، وحصرها في قانون الأحوال الشخصية، وعملوا على فصل الدين عن العلم والمدارس الدينية، كما وضعوا الجيش المصري تحت السيطرة العسكرية للإنجليز وقللوا عدده, وفرضوا سيطرتهم على البوليس وقناة السويس.

وظل الشعب يرسف في أغلال المحتل حتى قامت انتفاضة وثورة 1919م ليعبر عن حاله المأسوي لكن في الواقع لم ينل أي جزء من حقوقه المسلوبة وذلك بسبب:

1- ضعف الملك، والذي سار في ركاب المحتل خوفًا على ملكه، مما تسبب في ضعفه وأصبح يعيش في واد والشعب في وادٍ آخر.

2- وجود الأحزاب الكثيرة، والتي كان كثيرًا منها صنيعة المحتل؛ فكانت تدعو للعيش في كنف ورحمة بريطانيا العظمى، وتحارب كل من هو وطني يحاول الدفاع عن وطنه، ومن أمثلة هذه الأحزاب: حزب الأمة، وحزب الشعب، وحزب الاتحاد، كما أدى تناحر الأحزاب إلى ضعف الساحة السياسية بسبب سيطرة كبار الملاك ورجال المال عليها، وانشغالهم بلعبة السلطة والانتخابات،

مما أدى إلى استهلاك طاقات المصريين في غير موضعها، بدلاً من توحيد الجهود لتحقيق الاستقلال، واحتواء الاحتلال لهذه الأحزاب جميعًا مما أدى إلى أن قبلت هذه الأحزاب جميع المفاوضات مع المحتل محولين الصراع معه من ثورة شعب ضد معتد غاصب إلى مفاوضات سياسيين مع قوة محتلة لا تناقض بينهما أيديولوجيًّا(3).

نشأة الأحزاب السياسية بمصر

بدأ ظهور الأحزاب السياسية في مصر في القرن التاسع عشر انعكاسا للتفاعلات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في ذلك الوقت.

وحال إنشائها كانت الأحزاب تجسيدا للظروف الفعلية والتطور في نواحي الحياة الاجتماعية، وليست مجرد نتيجة لخطة مسبقة أو قرار مطلق، وكان بعضها يمثل الجانب الوطني والبعض الآخر موال للملك، وبعضها موال للاستعمار والبعض الآخر يحاول الترويج لمعتقداته السياسية والدفاع عن آرائه.

الحزب الوطني

يعتبر الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل المؤسس سنة 1907م أول تنظيم حزبي، والذي استطاع أن يقلق مضاجع الاستعمار لا سيما بعد حادثة دنشواي 1906م، ولم يكن في مصر أحزاب أخرى، وكان من سماته الوطنية والعمل من اجل قضية الوطن غير انه بعد وفاة محمد فريد اعتراه الضعف والتناحر الحزبي بل وصل به الحال أن حدث به انشقاقات بسبب اعتراض الشباب على سياسة قادة الحزب فانفصلوا وكونوا الحزب الوطني الجديد برئاسة الأستاذ فتحي رضوان عام 1944م(4).

حزب الأمة

لقد أقلق مصطفى كامل مضاجع المحتل الذي رأى أن سياسة العنف والشدة التي ينتهجها اللورد كرومر لن تأتي إلا بنتيجة سلبية، ولذا شجع تكوين الأحزاب خاصة من الموالين له والذين قنعوا بوجود المحتل على ارض الوطن في سبيل الحفاظ على مصالحهم، ومن ثم شجعوا احمد لطفي السيد والذي كان يسعى لعمل جريدة بأن وافقوا له على عمل حزب في سبتمبر 1907م.

وقد تكون هذا الحزب من عنصرين هما المفكرون المتأثرون بالنظريات الأوروبية في جميع المجالات الداعون للابتعاد عن ثوابت الأمة التي استقر عليها أمثال أحمد لطفي السيد ومصطفى عبد الرازق ومحمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهم.

والعنصر الثاني هم جماعة الباشوات وكبار الملاك مثل محمود سليمان باشا وحسن باشا عبد الرازق وحمد بك الباسل وفخري عبد النور وسليمان أباظة وعبد الرحيم الدمرداش وعلي شعراوي وعبد الخالق ثروت.

وقد رأس الحزب بعد تأليفه محمود سليمان العضو بمجلس شورى القوانين وأحد كبار أثرياء الصعيد، وتولى وكالته حسن عبد الرازق ثم خلفه فيها علي شعراوي، وقد ذكر اللورد كرومر في التقرير الذي رفعه لوزارته أن أعضاء هذا الحزب مجردون عن صبغة الجامعة الإسلامية(5).

حتى وصفه مصطفى كامل في خطاب إلى محمد فريد في 27 من ديسمبر 1907م بقوله: "إن ظهور حزب الأمة من أولئك الذين خبرنا نفسيتهم وميلهم إلى مسايرة المحتلين وفقًا لما يسمونه سياسة اللين والتدرج".

ويقول العقاد: "والذي يعاتب عليه – أي حزب الأمة – أنه فرط جانبًا في مجاملة السلطة الفعلية - أي سلطة الاحتلال – لأنه يؤثر المحاسنة على ما كان يسميه يومئذ بسياسة المعاندة والعداء، وكادت الفجوة بين أقطابه وبين حاشية الخديوي عباس حلمي أن تنحرف إلى صداقة للرؤساء الإنجليز".

وعلى ذلك فقد كان من برنامج حزب الأمة وأعضائه أمران اختلف فيهما عن الحزب الوطني هما مسايرة ومداهنة الاحتلال الإنجليزي والثاني رفض الرابطة الإسلامية وإبدالها بالرابطة القومية تحت شعار مصر للمصريين وهي دعوة حق أريد بها باطل، نشأ عنها تشرذم الأمة الإسلامية والعربية إلى دويلات صغيرة(6).

ولا أصدق على علاقة هذا الحزب بالمحتل من قول لأحمد لطفي السيد في صحيفة الجريدة بتاريخ 23 من مارس عام 1907م تحت عنوان "حالتنا السياسية" فقد قال:

"الأمة المصرية أمة تحب السلام والطاعة، كما تحب الإخلاص لحكومتها، وهي تحترم السلطة التشريعية ولا تنكر السلطة الفعلية، فنظن أنه قد حان الوقت لأن تسمح لها السلطتان جميعًا بأن يكون لها حياة مستقلة بالذات لكي لا تبقى ضائعة المركز بين السلطتين، ولتفكر حقيقة فيما ينفعها من حيث هي أمة مستعدة لأن تؤهل لحكم نفسها بنفسها، ولتقوم بواجبات الأمم في السعي في تحسين أحوالها الزراعية والصناعية والتجارية"(7).

وقد كتبت جريدة حزب الأمة: "أن مصر تريد الاستقلال فإذا لم يكن السبيل إليه ميسورًا، وكان لابد من أن تحكمها أمة أخرى، فإنجلترا خير أمة ترضاها مصر".

حزب الوفد

ظهر حزب الوفد كحركة شعبية في بادئ الأمر كانت تهدف إلى تأييد المجموعة المصرية التي تم اختيارها كممثلين عن الشعب المصري للتفاوض مع المحتل من أجل تحقيق الجلاء.

ونشأت فكرة الحزب في العهد الملكي بتشكيل وفد للتفاوض مع الإنجليز مكون من الإنجليز وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وأحمد لطفي السيد وآخرين.. وأطلقوا على أنفسهم (الوفد المصري) للمطالبة بإنهاء الاستعمار البريطاني على مصر، وتقدم الوفد الذي كان يحظى بشعبية كبيرة بمطالبه أمام القوى المشاركة في معاهدة فيرساي سنة 1919 ولكن محاولته باءت بالفشل وتم إبعاد أعضائه إلى مالطة.

أدى قرار بريطانيا نفي قادة الوفد إلى تفجر مظاهرات احتجاج في القاهرة ما لبثت أن امتدت في جميع أنحاء البلاد، وتحولت الاحتجاجات الشعبية إلى ثورة عارمة عرفت باسم ثورة 1919م.

فعاد سعد زغلول ورفاقه من المنفى وبعد الدعم الشعبي الكبير قرر تحويل الوفد إلى حزب لاستثمار التحرك الشعبي ومواصلة النضال من أجل الاستقلال(8).

ولما عرض أمر الاشتراك في المفاوضة على هيئة الوفد يوم الخميس 28 من أبريل 1921م، رأت الأغلبية عدم الاشتراك في المفاوضة مع عدم محاربة الوزارة فصمم سعد زغلول على إعلان عدم الثقة بالوزارة، فاستقال علي شعراوي باشا واعترض كل من محمد محمود،

وحمد الباسل وعبد اللطيف المكباتي وأحمد لطفي السيد ومحمد علي علوبة على عدم اكتراث سعد زغلول برأي الأغلبية وتحويله القضية المصرية إلى قضية شخصية حيث أجابت الوزارة كل طلبات الوفد إلا شرط الرئاسة الذي لا يقدم ولا يؤخر شيئًا في حسن سير المفاوضات ولما لم تقره الأغلبية على ذلك استهان برأي الأغلبية، وقد سمى سعد هؤلاء بالمنشقين وقد مشى سعد على هذه السنة،

وسمى كل من خالفه الرأي منشقًا وقد انضم إلى هؤلاء من أعضاء الوفد عبد العزيز فهمي، وحافظ عفيفي وعبد الخالق مدكور وجورج خياط.

ولم يبق مع سعد إلا مصطفى النحاس وواصف بطرس غالي وسنيوت حنا وويصا واصف وعلي ماهر(9).

وفي عام 1922 انشق عن حزب الوفد بعض رجاله وكونوا حزبا أخر هو حزب الأحرار الدستوريين، وفى عام 1927م توفي سعد زغلول واختير مصطفى النحاس باشا رئاسة الحزب والذي ارتمى في أحضان الإنجليز فأبرم معهم معاهدة عام 1936م،

وعندما تم حصار الملك فاروق في قصر عابدين في الحادث المشهور حادث 4 فبراير 1942م والتي أجبرت الملك على إسناد الوزارة كاملة للنحاس باشا وفق النحاس على ذلك هذا بالإضافة لما انتشر من المحسوبيات والفساد من جراء هذا الحزب.

حزب الأحرار الدستوريون

نشأ حزب الأحرار الدستوريون في (صفر 1341هـ = أكتوبر 1922م) برئاسة عدلي يكن، وكان يمثل طبقة كبار الملاك المصريين الراغبين في المشاركة في الحكم مع القصر، وقد انسلخ هؤلاء عن الوفد أثناء المفاوضات مع الإنجليز، فيما عُرف بالانقسام بين السعديين (نسبة إلى سعد زغلول) والعدليين (نسبة إلى عدلي يكن)، وسعى هؤلاء لتأكيد سلطة الأمة بين السلطة الشرعية ويمثلها الخديوي،

والسلطة الفعلية ويمثلها الإنجليز، ورأى الأحرار الدستوريون في أنفسهم أنهم الجديرون بالمشاركة في الحكم، دون أن يمتد طموحهم السياسي للسيطرة الكاملة على السلطة.

وكان غالبية قادة هذا الحزب متأثرين بالأفكار الحضارية الغربية، مع تمرسهم في العمل السياسي، وروابطهم القوية بجهاز الدولة الإداري وعلاقاتهم بالإنجليز، هذه الأمور جعلتهم يعتقدون أنهم هم الممثلون الطبيعيون للأمة المصرية دون منازع، ورأوا في الوفد وقيادته للحركة الوطنية مجرد عارض بالنسبة لهم لا يلبث أن يزول أمام أصالتهم وعراقتهم ونضوجهم السياسي،

ورأوا أن ثورة 1919 وزعيمها سعد زغلول ما هي إلا إثارة شعبية لا تلبث إلا أن تهدأ، وأن المظاهرات الشعبية ستتوقف مع الوقت، فاتبعوا -بالاتفاق مع الإنجليز- ما يضمن هذه النتيجة، فنُفِي سعد زغلول، واعتقل ساسة الوفد، وقيدت الحريات، وشكلت وزارة برئاسة عبد الخالق ثروت، قامت بتشكيل لجنة لوضع الدستور الجديد.

وكان من ابرز أعضاؤه عند تكوينه مدحت يكن (باشا) ومحمد محمود (باشا) وحسن عبد الرازق (باشا) ومحمد حسين هيكل (باشا) وحافظ عفيفي (باشا).

واصدر الحزب جريدة يومية تنطق بلسانه تحت اسم "السياسة".

حزب الاتحاد

تأسس هذا الحزب في يناير 1925م حيث دخل الملك فؤاد في معركة سافرة مع الحركة الوطنية، بأن أوعز لحسن نشأت باشا بإنشاء حزب الاتحاد لكي يوقف هيمنة الوفد على الحياة السياسية في مصر، وانضم إلى حزب الاتحاد محمد سعيد باشا وعبد الحليم البيلي‏,‏ دعم كل ذلك نجاح حسن باشا نشأت‏,‏ وكيل الديوان الملكي‏,‏ في إغراء الأحرار الدستوريين أقوي الأحزاب بعد الوفد‏,‏ في الدخول مع الاتحاد في وزارة ائتلافية‏.

ولم يعبأ هذا العهد بقواعد دستور عام ‏1923م‏ الذي لم يكن قد جف مداده بعد‏,‏ فقد خرقها بشكل سافر يوم‏23‏ مارس عام ‏1925م‏ حين حل البرلمان الثاني الذي انعقد وفقا لمواد هذا الدستور‏,‏ قبل أن يمضي علي هذا الانعقاد أكثر من عشر ساعات‏.

وأجريت انتخابات أخرى حصل فيها الوفد على 133 مقعدا والأحرار الدستوريون على 28 مقعدا بينما لم يحصل حزب الملك "الاتحاد" إلا على 4 مقاعد(10).

حزب الشعب

لجأ الملك إلي استخدام إسماعيل صدقي وقام بتوليته الوزارة، فقام الأخير بإلغاء دستور 1923م وأصدر دستور 1930م الذي أعطي صلاحيات واسعة للملك حتى سمي بدستور الملك في مقابل دستور 1923م الذي سمي بدستور الشعب.

وفي 17 نوفمبر 1930م أعلن تأسيس حزب الشعب، وتولى إسماعيل صدقي باشا رئاسته، وأصدر جريدة يومية أسماها "الشعب" وكان من أهم مواد قانون ذلك الحزب "تأييد النظام الدستوري والمحافظة على سلطة الأمة وحقوق العرش، وشارك إسماعيل صدقي التأسيس كلا من عدلي يكن، وتوفيق نسيم، ومحمد محمود.

كما قام إسماعيل صدقي بخوض الانتخابات بحزبه التي قاطعتها الأحزاب الأخرى ما عدا الاتحاد والوطني.

وفاز حزب صدقي في الانتخابات وشكل الوزارة.

ولكن مظاهرات عارمة تفجرت في الشوارع احتجاجاً علي إلغاء دستور 1923 م تصدي لها البوليس السياسي بقسوة شديدة(11).

حزب مصر الفتاة

حركة مصر الفتاة هي حركة سياسية قومية مصرية بدأت في جمادى الآخرة 1352هـ الموافق 12 أكتوبر 1933 بقيادة أحمد حسين متأثرة بالحركات القومية في تلك الفترة.

بدأ الجمعية نشاطها اجتماعيًا بمشروع القرش عام 1930م الذي كان قد أقامه لفيف من الشباب المصري لجمع تبرعات من فئة القرش لتمويل مشروعات صغيرة للمحتاجين والمتسولين، ثم تشكّلت الجمعية بعد ذلك في أكتوبر 1933م بزعامة أحمد حسين.

وكان من شخصيات الجمعية البارزين فتحي رضوان ومصطفى الوكيل.

غير انه في 16 من شوال 1355هـ الموافق31 من ديسمبر 1936م حول أحمد حسين الجمعية إلى حزب سياسي وذلك لعدة أسباب:-

أولا- إن مهام الجمعية صارت اشمل وأوسع من أن تكون مهام جمعيه .. بل مهام حزب سياسي حيث أن مهام الجمعيات وقتذاك كانت قاصرة على النشاط الاجتماعي.

ثانيا – إن تحرير مصر من المستعمر يلزمه إجماع مصر في حزب لا في جمعيه حيث إن الجهاد ضد الاستعمار من اختصاص الحزب السياسي.

ثالثا – إن مبادئ الحركة تحتاج إلى تحول تشريعي .. ولن يتأتى هذا إلا إذا غشى المجال البرلماني حتى يدوى فيه صوت الحركة، ثم تحول أحمد حسين بالحزب في سنة 1948م تحت اسم حزب مصر الاشتراكي(12).

ثارت خصومة شديدة بين هذا الحزب وحزب الوفد، ووقف مع الأحزاب المناوئة للوفد كالأحرار الدستوريين ومع الملك، وهاجم معاهدة سنة 1936م التي أبرمتها مصر مع بريطانيا بزعامة مصطفى النحاس، وبدأ بفرق القمصان الخضراء أُسوة بأصحاب القمصان الزرقاء الفاشية، ودخل الحزب في خصومات متعددة مع الأحزاب والملك.

ولكن تضاءل نشاطه وقل مناصروه وأخيرًا حُلّ مع بقية الأحزاب المصرية عام 1953م(13).

حزب الهيئة السعدية

انشق عن حزب الوفد في أوائل 1938 الدكتور أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي، وفشل السعوديون في القيام بدور البديل للوفد، رغم إحلالهم محل الأحرار الدستوريين، وحازوا في انتخابات 1938 والتي تم تزويرها بواسطة حكومة محمد محمود،

علي عدد مقاعد يقارب مقاعد الدستوريين 80 مقعدا واستمر التواجد السعدي في البرلمان المصري في تصاعد حتى حصلوا عام 1945م علي 125 مقعدا مقابل 74 فقط للدستوريين في ظل مقاطعة الوفد.

وأزداد التواجد السعدي في الوزارة بعد سقوط الوفد في أكتوبر 1944، فتولوا خمس وزارات.. وزارتين برئاسة أحمد ماهر، ووزارتين برئاسة النقراشي، والخامسة برئاسة إبراهيم عبد الهادي.

وبعد اغتيال ماهر والنقراشي تحولت الهيئة السعدية إلي شبح حزب، فاستغني القصر عن الحزب والعودة إلي الأصل وهو حزب الوفد(14).

حزب الكتلة الوفدية

انشق مكرم عبيد عن حزب الوفد عام 1943م وكون حزب الكتلة الوفدية وجاء هذا الانشقاق نتيجة بعض الممارسات الوزارية، وكانت قضية (الاستثناءات) من أخطر القضايا التي أثارت جدلا حيث كان للوفدين منطقهم الخاص في أن أنصارهم يتعرضون لاضطهادات شديدة خلال فترات حكم وزارات الأقلية أو وزارات الأحزاب الملكية،

وأنه من الطبيعي تعويض هؤلاء في فترات الحكم الوفدية، إلا أن استخدام هذه الاستثناءات علي نطاق واسع كان من أسباب تفجير الخلاف داخل الوزارة الوفدية نفسها، فيما جري في وزارة النحاس الخامسة (فبراير ـ مايو 1942) وهو الخلاف الذي أدي إلي إصدار مكرم عبيد للـ (الكتاب الأسود) في محاولة لنشر (الغسيل القذر) حيث واجه ورجاله حكومة وفدية تتمتع بكل أسباب السلطة المستمدة من الأحكام العرفية التي اقتضتها ظروف الحرب.

وقد تم القبض علي مكرم ورفاقه وألقي بهم في المعتقل، وخرجوا جميعا مع وزارة احمد ماهر الأولي في 8 أكتوبر 1944م.

وفي ظل هذا التحول الدرامي سمي مكرم عبيد حزبه بـ (الكتلة الوفدية) وانضم له عدد كبير من النواب الوفديين السابقين وتصور مكرم أنه (وريث الوفد)، كما انه انحاز للقصر مما أثر بالسلب علي الحزب، إلي جانب الخلط بين الحزب وشخصية مكرم حيث اعتبر الحزب ملكية خاصة له،

وبالتالي غلبت الاعتبارات الشخصية علي الاعتبارات العامة في مسيرة الكتلة، مما عجل بنهايته وخاصة بعد انسحابه من وزارة النقراشي وكان هذا الانسحاب آخر دخول لمكرم أو حزبه الوزارة(15).

الحزب الوطني الجديد

تخرج فتحي رضوان وأنشأ مع صديقه حزب مصر الفتاة عام 1933م وظل رضوان به حتى عام 1937م حيث اختلف مع صديقه حول بعض الرؤى، وانضم للحزب الوطني إلا أنه لم يرق له أسلوبه في تعامله مع قضايا الأمة، فأنشأ عام 1944م الحزب الوطني الجديد على مبادئ الحزب الوطني الذي أنشأه الزعيم مصطفى كامل، كما أصدر جريدة اللواء الجديد حيث صدر العدد الأول منها في 12نوفمبر1944م وظل الحزب قائماً حتى حُلّت الأحزاب عام 1953م(16).

هذه هي أهم الأحزاب في الحقبة الملكية قبل ثورة يوليو 1952م، ويتضح من عرضها أهم ما اتسمت به والتناحر الذي فرق الأمة ومكن للمستعمر، والتي كانت عاملا من عوامل تشكيل شخصية الإمام البنا والأسباب التي أدت لكي ينادي بإلغاء الأحزاب.

وفي الجزء القادم سنتحدث عن أسباب اعتراض الإمام البنا على الأحزاب من خلال خطاباته وأحاديثه ورسائله، كما سنتعرض لتغيير هذه الأسباب عند الإخوان الآن والسباب التي دفعتهم للدخول في غمار السياسة بعمل حزب سياسي.


الحزبية في فكر الإخوان المسلمين .. تقنين آراء وتأصيل اتجاهات الجزء الثاني

الحزبية في فكر الإخوان المسلمين .. تقنين آراء وتأصيل اتجاهات الجزء الثاني

موقع ويكيبيديا الإخوان المسلمين

عبده مصطفى دسوقي

محمد السيد الصياد

الأحزاب والحزبية في فكر الإمام البنا

لقد نشأ حسن البنا في بيئة كان يسيطر عليها ثقافة إرضاء المستعمر من أجل الحياة، سواء كانت هذه الحياة كريمة أو ذليلة، غير أن والده رباه على معاني العزة من خلال كتاب الله وسنة نبيه وسيرة السلف الصالح، فنشأ كغيره الكثير ممن تربوا على هذه المعاني،

وحينما شب كشاب وجد سياسة الأحزاب وانسياقها وراء المستعمر وتنفيذ مطالبه وتغليب مصالح المستعمر على حساب مصالح الوطن والشعب، وليس هذا فحسب بل وقعت البلاد في بلاء المهاترات الحزبية والتنافس الحزبي بين هذه الأحزاب للوصول إلى السلطة بأي ثمن سواء بالتزلف للمستعمر أو بالتشهير بالآخر، أو بالعمل لحساب الملك على حساب الوطن والشعب.

ومن ثم بغض الإمام البنا الحزبية والأحزاب لهذه الأسباب والتي شعر فيها بأن هذه الأحزاب هي سبب شقاء البلاد وخرابها، ومن ثم طالب بحلها.

ومع ذلك لم ينظر الإمام البنا إلى الشخصيات الحزبية كلها أنها سيئة بل أعرب عن سعادته بزعماء عملوا من أجل الوطن أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد فيقول في ذكرى وفته عام 1948م:

" لم يكن مصطفى كامل زعيم حزب ولا رئيسًا لجماعة، وإنما كان مبعث حركة، وصاحب مبدأ، وقائد أمة، لقد كان مصطفى كامل موفقًا فى تحديد الهدف، موفقًا فى رسم الوسيلة، فها نحن بعد أربعين سنة من موته نعود من حيث تركنا فننادى اليوم: "بألا مفاوضة إلا بعد الجلاء"،

وها نحن قد ترخصنا فى الوسائل فإذا بهذا الترخص لا يؤدي إلى غير وسيلة رخيصة رأينا فشلها، وها نحن نعود إلى وسيلة مصطفى كامل وهى الكفاح والجهاد".

لقد حاول حسن البنا أن يجد السياسي المحنك الذي يعرف معنى الوطنية الحقه لا الوطنية الزائفة التي سار عليها كثير من الأحزاب فيقول في رسالة دعوتنا:

"وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر، وتتضاغن، وتتراشق بالسباب، وتترامى بالتهم، ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضعية أملتها الأهواء، وشكلتها الغايات والأغراض، وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية،

والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته، ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً، يفرقهم فى الحق ويجمعهم على الباطل، ويحرم عليهم اتصال بعضهم ببعض وتعاون بعضهم مع بعض، ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله، فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لدعاتها ولا للناس.

فها أنت قد رأيت أننا مع دعاة الوطنية، بل مع غلاتهم فى كل معانيها الصالحة التى تعود بالخير على العباد والبلاد، وقد رأيت مع هذا أن تلك الدعوى الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام".

كما فرق بين السياسة الحقه والحزبية البغيضة فيقول في رسالة مؤتمر الطلبة:

" الفارق بعيد بين الحزبية والسياسة، وقد يجتمعان وقد يفترقان، فقد يكون الرجل سياسيًّا بكل ما فى الكلمة من معان، وهو لا يتصل بحزب ولا يمت إليه، وقد يكون حزبيا ولا يدرى من أمر السياسة شيئًا، وقد يجمع بينهما فيكون سياسيًّا حزبيًّا أو حزبيًّا سياسيًّا على حد سواء، وأنا حين أتكلم عن السياسة فى هذه الكلمة فإنما أريد السياسة المطلقة، وهى النظر فى شئون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيدة بالحزبية بحال..

بعد هذا التحديد العام لمعنى الإسلام الشامل، ولمعنى السياسة المجردة عن الحزبية، أستطيع أن أجهر فى صراحة: بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيًّا، بعيد النظر فى شئون أمته، مهتمًّا بها غيورًا عليها.

وأستطيع كذلك أن أقول: إن هذا التحديد والتجريد أمر لا يقره الإسلام، وإن على كل جمعية إسلامية أن تضع فى رأس برنامجها الاهتمام بشئون أمتها السياسية، وإلا كانت تحتاج هى نفسها إلى أن تفهم معنى الإسلام".

ويوضح أن السياسة شئ حيث إنها من الإسلام والحزبية البغيضة شئ آخر لأنها لا تمت للإسلام في شئ فيقول في رسالة مؤتمر الطلبة أيضا:

" أن هذه السياسة الإسلامية نفسها لا تنافى أبدًا الحكم الدستوري الشورى، وهى واضعة أصله ومرشدة الناس إليه فى قوله تعالى من أوصاف المؤمنين: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾..

وإن لى فى الحزبية السياسية آراء هي لى خاصة، ولا أحب أن أفرضها على الناس .. أعتقد -أيها السادة- أن الحزبية السياسية إن جازت فى بعض الظروف فى بعض البلدان، فهى لا تجوز فى كلها، وهى لا تجوز فى مصر أبدًا، وبخاصة فى هذا الوقت الذي تستفتح فيه عهدًا جديدًا، ونريد أن نبنى أمتنا بناء قويًا يستلزم تعاون الجهود، وتوافر القوى، والانتفاع بكل المواهب، والاستقرار الكامل،

والتفرغ التام لنواحي الإصلاح.. وأعتقد -أيها السادة- أن التدخل الأجنبي فى شئون الأمة، ليس له من باب إلا التدابر والخلاف، وهذا النظام الحزبي البغيض، وأنه مهما انتصر أحد الفريقين فإن الخصوم بالمرصاد يلوّحون له بخصمه الآخر، ويقفون منهما موقف القرد من القطتين، ولا يجنى الشعب من وراء ذلك إلا الخسارة من كرامته واستقلاله وأخلاقه ومصالحه..

إننا أمة لم نستكمل استقلالنا بعدُ استكمالاً تامًّا، ولا زلنا فى الميزان، ولا زالت المطامع تحيط بنا من كل مكان، ولا سياج لحماية هذا الاستقلال والقضاء على تلك المطامع إلا الوحدة والتكاتف..

وفرق بين الحزبية التى شعارها الخلاف والانقسام فى الرأي والوجهة العامة وفى كل ما يتفرع منها، وبين حرية الآراء التى يبيحها الإسلام ويحض عليها، وبين تمحيص الأمور وبحث الشئون والاختلاف فيما يعرض تحريًا للحق، حتى إذا وضح نزل على حكمه الجميع سواء أكان ذلك إتباعا للأغلبية أو للإجماع، فلا تظهر الأمة إلا مجتمعة، ولا يرى القادة إلا متفقين".

وقد جاء في مقررات المؤتمر مطالبة الهيئات الإسلامية جميعًا بالاشتراك الفعلي فى السياسة العامة للأمة، مع العمل على تكوين اتحاد عام لها، وحل جميع الأحزاب الحالية السياسية، وأن تستبدل بها هيئة موحدة لها منهاج إصلاحي إسلامي يتناول كل شئون النهضة، وتتوافر على وضعه وإنفاذه جميع المواهب والقوى؛ لما ثبت من أضرار النظام الحزبي، وفشله بالنهوض بالأمة.

ووضح في رسالة المؤتمر الخامس موقف الإخوان من هذه الأحزاب التي نشأت على الحزبية البغيضة والمصالح الشخصية فيقول:

" الإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب السياسية المصرية جميعًا قد وجدت فى ظروف خاصة، ولدواع أكثرها شخصي لا مصلحي ..

ويعتقدون كذلك أن هذه الأحزاب لم تحدد برامجها ومناهجها إلى الآن، فكل منها يدعى أنه سيعمل لمصلحة الأمة فى كل نواحى الإصلاح، ولكن ما تفاصيل هذه الأعمال، وما وسائل تحقيقها؟ وما الذى أعد من هذه الوسائل، وما العقبات التى ينتظر أن تقف فى سبيل التنفيذ، وماذا أعد لتذليلها؟

كل ذلك لا جواب له عند رؤساء الأحزاب وإدارات الأحزاب، فهم قد اتفقوا فى هذا الفراغ، كما اتفقوا فى أمر آخر هو التهالك على الحكم، وتسخير كل دعاية حزبية، وكل وسيلة شريفة وغير شريفة فى سبيل الوصول إليه، وتجريح كل من يحول من الخصوم الحزبيين دون الحصول عليه.

ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكان لها فى حياتهم العامة والخاصة أسوأ الآثار...

ويعتقدون كذلك أن النظام النيابي، بل حتى البرلماني، فى غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة فى مصر، وإلا لما قامت الحكومات الائتلافية فى البلاد الديمقراطية، فالحجة القائلة بأن النظام البرلماني لا يتصور إلا بوجود الأحزاب حجة واهية، وكثير من البلاد الدستورية البرلمانية تسير على نظام الحزب الواحد وذلك فى الإمكان.

كما يعتقد الإخوان أن هناك فارقًا بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة، وهو ما يوجبه الإسلام، وبين التعصب للرأى والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام فى الأمة وزعزعة سلطان الحكام، وهو ما تستلزمه الحزبية ...

هذه مجمل نظرات الإخوان إلى قضية الحزبية والأحزاب فى مصر، وهم لهذا قد طلبوا إلى رؤساء الأحزاب، منذ عام تقريبًا أن يطرحوا هذه الخصومة جانبًا وينضم بعضهم إلى بعض".

ثم يوضح مفهوم الإخوان للسياسة التي يعملون في إطارها فيقول في رسالة المؤتمر السادس: "أما إننا سياسيون حزبيون نناصر حزبًا ونناهض آخر، فلسنا كذلك ولن نكون، ولا يستطيع أحد أن يأتي على هذا بدليل أو شبه دليل.

وأما إننا سياسيون بمعنى أننا نهتم بشئون أمتنا، ونعتقد أن القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام تدخل فى نطاقه، وتندرج تحت أحكامه، وأن الحرية السياسية والعزة القومية ركن من أركانه، وفريضة من فرائضه،

وأننا نعمل جاهدين لاستكمال الحرية ولإصلاح الأداة التنفيذية فنحن كذلك، ونعتقد أننا لم نأت فيه بشىء جديد، فهذا هو المعروف عند كل مسلم درس الإسلام دراسة صحيحة".

ويضيف قوله: لا خلاف بين الأحزاب المصرية إلا فى مظاهر شكلية وشئون شخصية لا يهتم لها الإخوان المسلمون، ولهذا فهم ينظرون إلى هذه الأحزاب جميعًا نظرة واحدة، ويرفعون دعوتهم وهى ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذا المستوى الحزبى كله، ويوجهونها واضحة مستنيرة إلى كل رجال هذه الأحزاب على السواء،

ويودون أن لو أدرك حضراتهم هذه الحقيقة، وقدروا هذه الظروف الدقيقة، ونزلوا على حكم الوطنية الصحيحة، فتوحدت كلمتهم، واجتمعوا على منهاج واحد تصلح به الأحوال وتتحقق الآمال، وليس أمامهم إلا منهاج الإخوان المسلمين، بل هدى رب العالمين ﴿صِرَاطِ اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُور﴾[الشورى: 53].

ونحن لا نهاجمهم؛ لأننا فى حاجة إلى الجهود الذى يبذل فى الخصومة والكفاح السلبى لننفقه فى عمل نافع وكفاح إيجابى، وندع حسابهم للزمن، معتقدين أن البقاء دائمًا للأصلح ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ﴾[الرعد: 17].

لكن الإمام البنا يوضح قاعدة هامة وتفرقه بين السياسة الحزبية والسياسة العامة وموقف الإخوان منها فيقول في رسالة رسالة بين الأمس واليوم:

أيها الإخوان:

أنتم لستم جمعية خيرية، ولا حزبًا سياسيًّا، ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد.

ولكنكم روح جديد يسرى فى قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مرددًا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الحق الذى لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس.

إذا قيل لكم إلام تدعون؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه، فإن قيل لكم: هذه سياسة! فقولوا: هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام.

وإن قيل لكم: أنتم دعاة ثورة! فقولوا: نحن دعاة حق وسلام نعتقده ونعتز به، فإن ثرتم علينا ووقفتم فى طريق دعوتنا، فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا وكنتم الثائرين الظالمين.

وإن قيل لكم: إنكم تستعينون بالأشخاص والهيئات! فقولوا: ﴿آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾[غافر: 84]، فإن لجّوا فى عدوانهم فقولوا: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ﴾[القصص: 55].

ويستطرد الإمام البنا في توصيف الإخوان في رسالة مؤتمر رؤساء المناطق فيقول:

وسيقول الناس: ما معنى هذا وما أنتم أيها الإخوان؟ إننا لم نفهمكم بعد، فأفهمونا أنفسكم، وضعوا لأنفسكم عنوانًا نعرفكم به كما تعرف الهيئات بالعناوين.

هل أنتم طريقة صوفية؟ أم جمعية خيرية؟ أم مؤسسة اجتماعية؟ أم حزب سياسى؟ كونوا واحدًا من هذه الأسماء والمسميات لنعرفكم بأسمائكم وصفتكم.

فقولوا لهؤلاء المتسائلين: نحن دعوة القرآن الحق الشاملة الجامعة:

-طريقة صوفية نقية: لإصلاح النفوس، وتطهير الأرواح، وجمع القلوب على الله العلى الكبير.

-وجمعية خيرية نافعة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتواسى المكروب، وتبر بالسائل والمحروم، وتصلح بين المتخاصمين.

-ومؤسسة اجتماعية قائمة: تحارب الجهل والفقر والمرض والرذيلة فى أية صورة من الصور.

-وحزب سياسى نظيف يجمع الكلمة ويبرأ من الغرض ويحدد الغاية ويحسن القيادة والتوجيه.

ويذكر في رسالة مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي قضية هامة وهي النظام النيابى والدستور المصرى فيقول:

يقول علماء الفقه الدستورى: إن النظام النيابى يقوم على مسئولية الحاكم وسلطة الأمة واحترام إرادتها، وإنه لا مانع فيه يمنع وحدة الأمة واجتماع كلمتها، وليست التفرقة والخلاف شرطًا فيه، وإن كان بعضهم يقول:

إن من دعائم النظام النيابى البرلمانى "الحزبية". ولكن هذا إذا كان عرفا فليس أصلا فى قيام هذا النظام أنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية وبدون إخلال بقواعده الأصلية.

وعلى هذا فليس فى قواعد هذا النظام النيابى الأساسية ما يتنافى مع القواعد التى وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيدًا عن النظام الإسلامى ولا غريبا عنه, وبهذا الاعتبار يمكن أيضًا أن نقول فى اطمئنان:

إن القواعد الأساسية التى قام عليها الدستور المصرى لا تتنافى مع قواعد الإسلام، وليست بعيدة من النظام الإسلامى ولا غريبة عنه، بل إن واضعى الدستور المصرى -رغم أنهم وضعوه على أحدث المبادئ والآراء الدستورية وأرقاها- فقد توخوا فيه ألا يصطدم أى نص من نصوصه بالقواعد الإسلامية، فهى إما متمشية معها صراحة كالنص الذى يقول:

"دين الدولة الرسمى الإسلام" أو قابلة للتفسير الذى يجعلها لا تتنافى معها كالنص الذى يقول: "حرية الاعتقاد مكفولة".

وأحب أن أنبه هنا إلى الفرق بين الدستور وبين القوانين التى تسير عليها المحاكم، إذ إن كثيرًا من مواد هذه القوانين فيه ما يتنافى صراحة مع ما جاء به الإسلام أو يعطل صراحة ما جاء به الإسلام وذلك بحث آخر سنعرض له فى موضعه إن شاء الله.

ولا أدل على هذه الحزبية البغيضة من مواقف كثير من شباب القمصان الزرقاء التابعة للوفد وشباب القمصان الخضراء التابعة لحزب مصر الفتاة الذين كانت تقوم بينهم الحروب والمعارك حتى أصدر محمد محمود باشا رئيس الوزراء قرارا بحل التشكيلات العسكرية عام 1939م وأيضا عدم قبول النحاس باشا لحومة وطنية ائتلافية في وقت عصيب حيث حاصرت الدبابات القصر الملكي لتخير الملك بين البقاء كملك وتكليف النحاس باشا بحكومة وفدية أو عزله ونفه،

وأيضا حينما توجه النقراشي باشا رئيس الوزراء عام 1947م لمجلس الأمن لعرض القضية المصرية فما كان من النحاس باشا إلا أن أرسل برسالة إلى الأمين العام يطلعه أن النقراشي لا يمثل الشعب المصري وأنه لا يمثل إلا نفسه، وأن الوفد هو الممثل الشرعي للشعب المصري،

فكانت ضربة قاضية في جسد القضية، مما دفع الإمام البنا بأن يرسل رسالة للأمين العام يطلعه أن الشعب المصري يقف خلف النقراشي في قضية مصر وعرضها، وجاء في هذه البرقية قوله:

" يستنكر شعب وادي النيل البرقية التي بعث بها إلى المجلس وإلى هيئة الأمم المتحدة رئيس حزب الوفد المصري ويراها مناورة حزبية لا أثر للحرص على الاعتبارات القومية فيها".

كانت هذه الأسباب التي جعلت الإمام البنا والإخوان يرفضون الحزبية والأحزاب في ذلك الوقت، وفي ظل محتل جاثم على صدر البلاد ويسخر هذه الأحزاب، ومن ثم رفض الإخوان إنشاء حزب سياسي يكون مطية فى يدي الملك أو الانجليز.

لكن لم يكن هذا الرأي على طول الخط فقد وقته الإمام البنا بظروف البلاد الواقعة، لكن إذا تغيرت هذه الظروف، وإن كانت الأحزاب هي النظام الأفضل لممارسة المهام السياسة وفق دستور وقانون البلاد فلم يرفضها الإمام البنا، وهو ما سار عليه الإخوان فيما بعد.

1- الأحزاب والحزبية في فكر الإخوان الآن

لقد انطلق الإخوان بعد خروجهم من معتقلات عبدالناصر من قاعدة ثابتة لديهم وهي أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا، فلم يفرقوا بين مجال من مجالات الحياة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية والثقافية وغيرها، وعملوا من خلال الشرعية والدستور سواء العمل من خلال البرلمان أو النقابات أو الاتحادات الطلابية وغيرها من المؤسسات الشرعية، حتى إنهم تعاونوا مع بعض الأحزاب في ائتلاف سري للعمل من أجل الوطن.

وبعدما زاد التضييق عليهم من قبل النظام البائد نظام حسني مبارك، وليس ذلك فحسب بل زادت الأبواق التي تعيب على الإخوان عدم تشكيل حزب سياسي للعمل تحت مظلته،

عمل الإخوان على تحقيق ذلك، وحاولوا أن يتلمسوا الشرعية السياسية بأن وضعوا برنامجا لحزب سياسي خاص بهم، لكن ما كاد هذا البرنامج يخرج في صورة غير نهائية إلا وقد تباري الكثير يهاجم الإخوان في برنامجهم الخاص وكأن الإخوان يصيغون هذا البرنامج كدستور دولة وليس برنامجا لحزب خاص بهم، مثل باقي الأحزاب الليبرالية أو اليسارية أو غيرها من الأحزاب.

كما أن البعض نادي بأنه إما يكون للإخوان جماعة وهيكل فلا يجوز أن يكون الهيكلان موجودين، ولا أدري ما القواعد التي بنى عليها هؤلاء هذا الرأي، فالحزب السياسي له برنامجه وأهدافه التي تسير وفق مبادئ ومنهج الإخوان المستمد من شريعة الإسلام،

ولن يكون الحزب عوضا عن الجماعة كما أنه لن يسير وفق ما تسير به الأحزاب من سياسات ميكافيلية حيث الغاية تبرر الوسيلة، ولن يكون الحزب آداة طيعة في يدي حاكم أو ديكتاتور، أو يخالف الإخوان ما نادى به مؤسس الحركة الإمام الشهيد حسن البنا، لكن سيكون الحزب مكملا لأهداف ومبادئ الإخوان وفقا لما يقتضيه الدستور المتفق عليه في البلاد.

فالإخوان لم يخالفوا مبادئ مرشدهم الأول الأستاذ حسن البنا أو فكره في شئ، لكن الظروف والوضع تغير ومن ثم تغيرت معه الأوضاع وطريقة تناول العمل العام للجماعة،

كما أن البلاد ليست محتلة حتى يسخر المحتل هذه الأحزاب وفقا لسياسته، كما أن الشرعية السياسية الآن تعمل وفق الحزب السياسي وليس الفردية حتى ولو كان الإخوان هم أكبر فصيل سياسي في مصر لكن ما تقتضيه الظروف الآن هو أن يكون للإخوان حزب سياسي يمارسوا من خلاله نشاطهم السياسي.

وإن كان الإخوان منذ خروجهم من السجون لم يعلنوا عن تشكيل حزب سياسي وتأخروا في ذلك فذلك بسبب قانون الأحزاب وتعنت النظام المصري مع الإخوان، ومن ثم فلا غرو حينما علمت السلطات أن الإخوان يشكلون حزبا تحت اسم الوسط تحركت جحافل الشرطة وزوار الليل وألقوا القبض على كل من جاء اسمه في مؤسسي حزب الوسط وقدموا لمحاكمات عسكرية،

ولهذا كان هذا التأخر فى إعلان وتشكيل حزب سياسي، بالإضافة إلى وجود لجنة شئون الأحزاب والتي كان يسيطر عليها الحزب الوطني ورجال النظام البائد، ففي ذلك يقول الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام السابقللإخوان: أن الإخوان لن يتقدموا بالحزب للجنة شؤون الأحزاب،

وإن موقف الجماعة من هذه اللجنة ثابت، ويعتبرونها «غير دستورية»، وأن الإخوان المسلمين لن يتقدموا بحزبهم للدولة مادامت هذه اللجنة قائمة.

ولقد سيقت الأقاويل ضد الإخوان بأنهم جماعة دينية وليست سياسية، بالرغم أن الإخوان لهم منهجهم الثابت وهو العمل في أطر النظام الشامل في كل مقومات الحياة، وأن الإخوان لن تحل الجماعة في مقابل الحزب، حيث صرح للعربية الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح عام 2007 بقوله:

إن إعلان الجماعة اتجاهها لإقامة حزب سياسي مدني، ذي مرجعية إسلامية، ينسجم مع المادة الثانية من الدستور المصري، الذي ينص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وكشف أن الجماعة لن تتقدم بهذا الحزب للجنة شؤون الأحزاب ولن تعلنه من جانب واحد، وإنما تسعى لإقرار مشروع قانون يسمح بإنشاء الأحزاب بمجرد الإخطار.

ومن ثم الإخوان لديهم فكر ومنهج شامل، وهذه هي القاعدة التي انطلق وينطلق منها الإخوان في العمل الدعوي والسياسي، ولم يفرقوا بين دعوة وسياسة، أو بين دين ووطن.

كما أن الإخوان منذ نشأتها ومبادئهم واحدة ومنهجهم واحد لكن أساليب الدعوة والعمل تختلف باختلاف الزمان والمكان والوضع السائد، لكن الأيدولوجيات واحدة، والفكر واحد.

حزب الحرية والعدالة

بعد ثورة 25 يناير التي قام بها شعب مصر ضد نظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك ، والتي شارك الإخوان فيها بكثافة وكانوا وقودها الذي حافظ عليها من التبعثر ، قررت جماعة الإخوان إنشاء حزب سياسي "حزب الحرية والعدالة" ذى مرجعية إسلامية ، بمعني حضاري وثقافي وليس بالمفهوم الثيوقراطى .

وهذه الخطوة تعد تطبيقا عمليا لما نظّره الإخوان في الفترة الماضية من موقف الجماعة من الممارسة الحزبية وعن تفهمها لموقف الإمام الشهيد في سياقه الزمني والتاريخي .

ولم تمانع الجماعة في مشاركة الأقباط في هذا الحزب ، ولا من مشاركة المرأة ، وهو ما طمأن الحركات الليبرالية .

وهذا الموقف العملي الذي صار واقعا هو الموقف الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين من الأحزاب والممارسة الحزبية لأن كثيرا من العلمانيين يزعمون أن الإخوان لا يؤمنون بالحزبية ، وكثيرا من اليمين الإسلامي يحرم الأحزاب والممارسة الحزبية وكلاهما يحتج علي الإخوان بموقف الإمام الشهيد ،

وكما قلنا بأن أفكار الجماعة واختياراتها الفقهية لا يقوم عليها فرد أو أفراد بل مجموعة كبيرة من رواد الدعوة ومفكريها وأقطابها ، أشبه بالخلايا الفكرية والمجموعات العقلية think tanks وليس الرأي أو الخيار نابعا عن فرد بعينه حتى ولو كان الإمام الشهيد رحمه الله فرأيه في أروقة الجماعة الكبرى يفهم بسياقه وإطاره وبمقاصد عصره وخلفيات قوله ودواعيه وأسبابه .

فإذا كان الحكم ثابتا والفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان فكذلك الآراء السياسية والاجتهادات البشرية التي لا تقوم علي قطعيات تتبدل حسب المقاصد وفقه الأولويات .

ولك أن تتأمل هذا الكلام وتمعن النظر فيه ليزول عنك الإشكال من موقف الإخوان من الأحزاب وموقف الإمام الشهيد رحمه الله .

خاتمة

لقد طوفنا سريعا إلي الملامح العامة والخطوط العريضة لموقف الإمام الشهيد حسن البنا من الأحزاب وبينا أن ذلك الموقف كان أسيرَ زَمَنِه ، وظروفِ وقته ، وهيكلية الأحزاب القائمة ساعتها .

وقلنا بأن المواقف الفكرية والأيدلوجية للجماعات الكبرى تتغير بتغير المكان والزمان وأولويات العمل كي لا تظل جامدة وكي تتسم بالدينامية والحركية التي تجعلها محط اعتناق أو دراسة وتبصر من القوي السياسية المترقبة أو من الجمهور الحَكَم .

كذلك أثبتنا أن ثمة فرق بين رأي الإمام المؤسس وبين رأي تلامذته من العلماء والمفكرين الذين ولجوا للدعوة وأضافوا إليها بأفكارهم ومناهجهم في إطار الأسس التي رسختها الجماعة الأم والآباء الأوائل للدعوة ، وأن الرأي المعتمد في أروقة الجماعة ليس من الحتمي أو الضروري أن يكون رأي الإمام المؤسس بل ربما يكون رأيا لغيره من علماء الدعوة وروادها ، حسب مقتضيات المقام وأولويات الزمان وفقه المقاصد .

ودللنا أن موقف الإمام الشهيد من الأحزاب ليس بالموقف الرافض علي الإطلاق كما يزعم البعض بل كلامه في هذا السياق يحتمل عدة محاور ذكرناها وجمعنا بينها في صدر البحث .

وطريقة الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض طريقة قديمة للفقهاء والأصوليين ، كذلك الجمع بين الأقوال والأفعال .

وفهم كلام الإمام عندما يحتمل أكثر من معني ويمكن الأخذ بها كلها فهذا هو الأصوب كما قرر الأصوليون ولا يجب أن ننسي أن الإمام المؤسس فقيها وداعية وعالما قبل أن يكون حركيا نهضويا بمعني أنه يتكلم بمنهجية الفقهاء العلمية ، ولا يلقي الكلام جزافا من فيه .

واستطعنا أخيرا أن نجمع بين ابتعاد الجماعة عن العمل الحزبي في مقتبل النشأة وبين تأسيسها أخيرا لحزب الحرية والعدالة ، وأن هذه خطوات اتخذت لمسايرة العملية الديمقراطية التي تؤمن بها الجماعة والتي ظلت تدعوا إليها عقودا طويلة وضحت من أجلها .

مراجع البحث

1- النظام السياسي المصري بين إرث الماضي وآفاق المستقبل 1981-2010 ، د.علي الدين هلال 12 وما بعدها ، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب 2010م .

2- الشريعة الإسلامية لمحمد الخضر حسين 1/78 ، ملحق مجلة الأزهر.

3- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، الكتاب الأول، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الأولى، 1423ه - 2003م.

4- زكريا سليمان بيومي:الحزب الوطني الجديد 1944 – 1953 (دراسة في أوراق وصحف الحزب) الطبعة الأولى، القاهرة، دار الكتاب الجامعي، 1988م.

5- عبد العزيز عمر: دراسات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، دار المعرفة الجامعية، الطبعة الأولى، 2000م.

6- زُهلول - الموسوعة العالمية المجانية: ٢٨/ 10/ ٢٠٠٦م.

7- صحيفة الأهرام: العدد 41765، ‏السنة 125- الخميس 12 إبريل 2001م، ‏18 من محرم 1422 هـ.

8- يونان لبيب رزق: الأحزاب المصرية قبل ثورة 1952 ، 1977م.

9- علي شلبي: مصر الفتاة ودورها في المجتمع المصري (1933-1941م)- القاهرة 1982.

10- موسوعة المعرفة: 24/ 8/ 2004م.

11- جريدة المصري: كندا، العدد 133، 28/1/2006م.

12- منصور عبد السميع: حزب الكتلة الوفدية 1940 – 1953م، دار الكتب المصرية، الطبعة الأولى، 2005م.

13- القانون أو الشريعة. [المعجم الوجيز، ص(635)].

14- جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (488)، السنة الثانية، 21محرم 1367ه- 4ديسمبر 1947م، ص(3).

إقرأ أيضا

الإخوان بين الدين والسياسة

الإخوان ووحدة الأمة

قضايا سياسية

مطالب الإخوان بتطبيق الشريعة

محاربة الاحتلال

بعض مما كتبه الإمام البنا في السياسة

التربية السياسية

الإمام حسن البنا ومحاربة الفساد

أضرار المقامرة ومشروع ساحل الفيروز

البغاء الرسمي

البغاء

خطر يتهدد الأمة وينذر بفنائها

الروح والقدوة هما أساس الإصلاح الاجتماعي

رسالتان إلى وزير الداخلية ووكيل الأزهر

الإخوان المسلمون يكافحون الوباء

قضايا المرأة والأسرة

محاربة الفساد

نظرات في التربية والتعليم

الإمام حسن البنا في عيون السياسيين

لقد تحدث عن الإمام البنا وجهوده كل من عايشه ورأى مواقفه العملية، بالرغم مما كان يكن له رجال السياسة إلا انهم اجمعوا على كونه رجل عمل الكثير واستحق التقدير ومما قالوا: