الجزء الثاني من أحداث صنعت التاريخ

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث

الباب الثالث : في ميدان الحلمية الجديدة (في المبني القديم)

مد جديد

خرجنا من هذه المأساة الأليمة ،وفي القلوب جراح لا تندمل علي مر الزمن ، لأنها تتصل بأخوة قلوب لا صداقة طريق ... ولم يكن مناص من استئناف المسير بعد هذا التوقف الطويل .. ودوي نداء القائد فسرعان ما استجاب الجنود ، ورأينا الدعوة تشق طريقها شقاً ما كانت تستطيعه من قبل ... وأحسست في التفاف الإخوان حول قائدهم كأنما شعروا وأيقنوا أن دعوتهم وقد عبرت المحنة .. هي دعوة الحق .. ودعوة الحق جديرة بالتفاني فيها والبذل في سبيلها ، فصار الإخوان ألصق بدعوتهم من ذي قبل ...

ورأينا الشباب ، من كل مهنة ، ومن كل حي ، يتقاطرون علي المركز العام أفواجًا يلتمسون طريق الله لإصلاح الناس ليلتزموه وليكونوا حماته والداعين إليه ... وكانت الظاهرة الجديدة أننا رأينا بابنا يطرقه طوائف من العمال والتجار وذوي المهن ، ولم يكن حتى قبيل المحنة يطرقنا إلا الطلبة وقلة من صغار الموظفين ، وهنا بدأت فكرة تكوين شعب ذات كيان حقيقي في أنحاء القاهرة ، وهو ما كان يتوق إليه الأستاذ المرشد من قديم . العجيب حقاً .. أن الدعوة خرجت من هذه المحنة كأنما نشطت من عقال فالإقبال عليها من كل فج عميق ، والدار ضاقت بروادها ، واتجه فكر الأستاذ إلي البحث للمركز العام عن مكان آخر يتسع للنشاط الجديد .

الانتقال إلي الحلمية الجديدة :

اهتدي الأستاذ المرشد إلي دار في ميدان الحلمية الجديدة ، وهي منزل كامل لا جزء من منزل كالمقرين السابقين في الناصرية والعتبة ... وميدان الحلمية الجديد يقع في قلب القاهرة القديمة لكنه أجمل وأنظف حي فيها . والمنزل يطل علي الميدان نفسه ويتكون من دورين أحدهما يقع نصفه تحت الأرض ونصفه الأخر فوقها ، والدور الآخر مما يسمونه " السلاملك " حيث تصعد إليه بصف الدرج . وفوق هذا السلاملك سطح فسيح . ويلحق بالمنزل فناء واسع تقرب مساحته من مساحة المنزل كله ، وبجانب بوابة المنزل علي يمين الداخل حجرة منفردة كأنها حجرة البواب . ولابد أن الله تعالي علم من مستقبل دعوته ما لم نكن نعلم ، فهيأ لها مكانًا ما كنا نحلم به وموقعاً وسطًا ، كما يسر للأستاذ المرشد سكنًا قريبًا من هذا المكان ، وهو ما كان الأستاذ المرشد دائمًا حريصًا عليه .

مرحلة جديدة :

كان الانتقال بالمركز العام من دار إلي أخري مرتبطاً بالانتقال بالدعوة من مرحلة إلي مرحلة جديدة ، فكانت فترة الإقامة بدار شارع الناصرية مرحلة من مراحل الدعوة لها حدودها ولها خصائصها ولما سماتها كما بينا ، ثم كانت فترة الإقامة بدار ميدان العتبة مرحلة أخري لها حدودها وسماتها الخاصة بها والمميزة لها ، ثم كان الانتقال إلي دار ميدان الحلمية إيذانًا التي صادرت شجيرة ثم غلظ عودها وأخرجت شطأها فآزرها وطال ساقها وألقت بفروعها ذات اليمين وذات الشمال .. نعم إنها بذلك قد اكتسبت ثباتاً وقوة لكن استطالتها وارتفاعها قد جعلها عرضة لمهب الرياح من كل اتجاه ، لقد كانت في مرحلتيها الأوليين وهي بادرة ثم وهي شجيرة في مأمن من أن تنال منها هبات الرياح ، أما في هذه المرحلة وقد أغلظت واستطالت وتفرعت وتشعبت فإنها صارت عاتقاً في طريق الرياح من أية ناحية هبت ، فعليها حينئذ أن توطن نفسها علي استقبال صفعات الرياح وأن ترد عليها بمثلها أو أن تحاول تحاشيها بحركة ماكرة ماهرة .

كان حسن البنا يعلم كل هذا وهو يعد العدة للانتقال بالمركز العام من العتبة إلي الحلمية الجديدة ، وستري إن شاء الله خططه التي وضعها منذ الشهور الأولي في هذه الدار ما يدلك علي أن كل هذه المعاني كانت في خاطره . لم يغب عن خاطر الأستاذ لحظة أن عدوه الطبيعي الذي يتربص به ، والذي عليه أن يواجهه في كل لحظة إنما هو الانجليز .. عدو قوي ماكر : واسع الحيلة ، حسن الاستعداد ، قادر علي المواجهة لكنه يؤثر التستر وراء صنائع له من أهل البلد الذي يريد السيطرة عليه ... لم يغب عن خاطر الأستاذ أن عليه أن يواجه كل هذه الأساليب ، ولم يغب عنه أن صنائع الانجليز في مصر كثيرون ، وقد زودهم الانجليز بمختلف وسائل السلطة ، وأن هؤلاء الصنائع بعد أن تربوا في أحضان الانجليز ، وتمرنوا في خيرات بلادهم التي سلبها الانجليز وخصوهم بها دون أصحابها .

لم يغب شيء من هذا عن خاطره ، كما لم يغب عنه لحظة أن الانجليز بوسائلهم الخاصة وبواسطة أذنابهم المصريين يراقبونه ويعدون عليه أنفاسه ، ويعدونه عدوهم الأصيل وعدوهم الوحيد ، لأنه وأن هذا المبدأ وهذه الفكرة إنما تقوم علي أساس القرآن الذي لا يجتمع والظلم في مكان واحد ، لابد أن يقضي واحد منهما علي الآخر . لقد عمل حسن البنا في المرحلة السابقة كل جهده أن يتحدي الانجليز تحديًا سافرًا لفضح فظائعهم من ناحية ، وليلفت الأنظار إلي دعوته من ناحية أخري . لأن دعوته كانت في أمس الحاجة إلي وسيلة من وسائل الإعلام ليحس بها هذا الشعب الغافل ... أما في هذه المرحلة فإنه لم يعد في حاجة إلي وسائل إعلام فقد أحس الناس بالدعوة ، وأقبلوا عليها ، حتى امتلأت السفينة لم يعد بين حافتها وبين الماء قيد شبر .. ودفعتها الرياح حتى وصلت إلي وسط البحر . وركبت أمواجه المتلاطمة ، وصارت مهمة القائد أن يحسن توجيهها ، وأن يحاول أن يتفادى ما يتدافعها من أمواج حتى تصل إلي مرفأ أمين . وعليه مهمة أخري لابد أن ينهض بها في وقت واحد مع مهمته الأولي ، تلك هي إعداد هؤلاء الركاب بحيث لا يأخذهم علي غرة لصوص البحر وقطاع الطريق وما أكثر عددهم وأشد بأسهم .

سمات هذه المرحلة وخصائصها :

أرسي الأستاذ المرشد قواعد العمل في هذه المرحلة علي الأسس الآتية :

أولاً : بدأت هذه المرحلة مع بدء اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939 ، وكان الأستاذ المرشد يري أن الحرب العالمية تغير وجه العالم ، وتفعل في سنواتها مالا يتم فعله من تغيير في مئات السنين ، فهي تختصر الزمن .. وعلي العقلاء الانتفاع بهذه الميزة قبل فواتها .

ثانيًا : ومن هنا فإن يري أن المرحلة التي يحتاج الإخوان في قطعها إلي عشرات السنين ، يمكنهم – بالانتفاع بهذه الميزة – أن يقطعوها في سنوات قلائل .

ثالثًا : أن مواجهة الأعداء والخصوم بهيئة ضعيفة وتكوين هزيل مجازفة غير مأمونة بل إنها قد تؤدي بالفكرة الإسلامية إلي الزوال ، فإذا أضفت إلي ذلك أن هذه المواجهة ستكون في ظروف كلها ظروف استثنائية وكل المرافق للمستعمر ، و المستعمر أعصابه علي أشدها لأنه يخوض حرب حياة أو موت ، كانت المواجهة انتحارًا لا شك فيه ولا إفلات فيه .

رابعًا : كما أنه يري أن انشغال المستعمر بالحرب ومن ورائه الحكومة المصرية ، فرصة للعمل للدعوة دون عوائق ، وعلي الإخوان في هذه الحالة أن يكشفوا من جهودهم حتى ينجزوا أكبر قدر من العمل في أصغر قدر من قبل أن تنتهي الحرب فجأة فيتفرغ هؤلاء – المستعمر والحكومة – للكيد للدعوة وبث العراقيل في طريقها قبل أن تكون قد استكملت عناصر قوتها .

خامسًا : أنه يري أن عناصر القوة التي يجب استكمالها في أقرب وقت هي عنصران : التشعيب والتكوين ، أما الأول فهو العمل علي أن تصل الفكرة الإسلامية إلي كل فرد في أنحاء مصر وأن يصل صداها إلي البلاد العربية والإسلامية وأن يكون للدعوة شعبة في كل حاضرة ومدينة وقرية وعزبة في جميع أنحاء مصر ، وأما التكوين فيكون بالعمل علي ربط المنتمين إلي الدعوة معا بروابط من الإخوة والحب والتعاون في ظل أسلوب عمل من التربية البدنية والروحية والثقافية .

سادسًا : أنه في سبيل إنجاز هذا العمل الكثير ، يجب علي الإخوان – في خلال فترة الحرب أن يغضوا الطرف عن الشئون السياسية فيتجنبوا اتخاذ مواقف سياسية محددة ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا مكتفين بالتعرض لما سوي ذلك من الشئون التربوية والاجتماعية والاقتصادية وإذا دهمهم موقف سياسي معين فعليهم أن يتفادوه ، وأن يطوعوه لخدمة هدفهم الكبير .

سابعًا : أنه يري أنه إذا سلك الإخوان هذا المسلك فإنهم سيفاجئون العالم بعد انتهاء الحرب بأقوى هيئة قادرة علي المواجهة وقادرة علي النهوض بأثقل التبعات ، ويستحيل علي أية قوة في الأرض أن تقضي عليها ، لأنها تكون قد تركزت في النفوس ، واختلطت بالمهج ، وضربت بجذورها في الأعماق .

علي هذه الأسس السبعة سار العمل طيلة سنوات الحرب ، وشقت السفينة طريقها في بحر هادئ كالحصير ، وكلما هبت عاصفة عمل القائد الماهر علي تفاديها حتى وصلت إلي شاطئ الأمان فكانت هي السفينة الوحيدة التي وصلت في سلام بجميع ركابها الذي أقلعت بهم من أول الطريق وبأضعاف هؤلاء من ركاب السفن الأخرى التي أشرفت علي الغرق في أثناء الطريق فمدت إليهم يد الإنقاذ بها من كل جانب .



الفصل الأول : في البناء الداخلي : التركيب البنائي للدعوة في هذه المرحلة

حتى ما قبل هذه المرحلة لم يكن للدعوة تركيب بنائي بالمعني الاصطلاحي المعروف ، وإنما كان هناك المركز العام في القاهرة وفي الأقاليم شعب متناثرة ، وتتلقي هذه الشعب تعليماتها من المركز العام وكان المركز العام يخص نفسه بأساليب معينة في التربية لا يطالب الشعب بالقيام بمثلها مثل نظام الكتائب ، ونستطيع أن نجمل النظام البنائي الذي كان سائدًا بأنه كان أقرب إلي النظام المركزي ... فلما انتشرت الدعوة وعمت أنحاء البلاد وكثرت الشعب حتى لم تعد مدينة ولا حاضرة ولا قرية تخلو من شعبة كان لابد من نظام بنائي جديد يسهل معه العمل وتتوزع فيه المسئولية وتتحدد به الحقوق والواجبات وتتيسر عن طريقه الاتصالات والمتابعة .

والخطوط الرئيسية للنظام البنائي الجديد هي :

أولاً : المكاتب الإدارية :

اعتبر كل إقليم إداري في الدولة مكتبًا إداريًا ومعني هذا أنه صار للإخوان المسلمين في كل عاصمة لمحافظة مكتب إداري هو بمثابة المركز العام للإخوان في أنحاء المحافظة فكل شعب المحافظة تابعة له وهو يشرف عليها ويصدر إليها التعليمات ويتابع تنفيذها . ومنوط به نشر الدعوة في الأماكن التي لم تصل إليها الدعوة في حدود المحافظة ، كما أنه مكلف بمعالجة ما يجد من مشاكل في شعب المحافظة وعليه نقل النظم التربوية التي يضعها المركز العام إلي جميع هذه الشعب والإشراف علي الأخذ بها كما أن عليه توضيح ما تتخذه الهيئات العليا للدعوة من قرارات للشعب التابعة له مع متابعة تنفيذ هذه القرارات . ويتكون المكتب الإداري من أعضاء مجلس الإدارة لشعبة عاصمة المحافظة مضافاً إليهم نواب الشعب الرئيسية في المحافظة ، وعلي كل شعبة من شعب المحافظة المساهمة بجزء من ماليتها في تكوين رصيد للمكتب الإداري يخصص للإنفاق منه علي نشر الدعوة .

ثانيًا : مجالس إدارات الشعب :

يدبر شئون الدعوة في كل شعبة مجلس إدارة يتكون من عدد من الإخوان ينتخبهم أعضاء الشعبة فيما بينهم ويرأس كل مجلس إدارة الشعبة ، ومهمة مجلس إدارة شعبة عاصمة المركز مع شعب بلاد المركز هي نفس مهمة المكتب الإداري بالنسبة لشعب عواصم المركز ، وهكذا تتسلسل القيادة وتتدرج المسئولية .

ثالثا : المركز العام :

تعتبر القاهرة كغيرها من المحافظات مكتبًا إداريًا تتبعه شعب القاهرة ، وفي القاهرة أيضًا المركز العام للإخوان المسلمين وهو شيء آخر غير المكتب الإداري للقاهرة فهو يتعامل مع المكتب الإداري للقاهرة كتعامله مع أي مكتب إداري آخر . والمركز العام هو المقر الذي يجمع اللجان والأقسام التي تمثل أوجه النشاط التي يقوم الإخوان بمباشرتها أداء لحق الدعوة وتحقيقًا لأهدافها وهذه اللجان والأقسام هي :

لجنة الطلبة واللجنة الثقافية وقسم العمال وقسم الجوالة وقسم نشر الدعوة وقسم الكتائب والأسر وقسم الخدمة الاجتماعية وقسم الاتصال بالعالم الإسلامي وقسم الأخوات المسلمات . ولكل لجنة من هذه اللجان ولكل قسم من هذه الأقسام فرع في كل مكتب إداري تتلقي هذه الفروع تعليماتها من اللجنة الموجودة بالمركز العام وترفع إليها تقاريرها وتستعين بها في تنفيذ برامجها ... وقد لا يكون لبعض الأقسام فروع في المكاتب الإدارية لأن طبيعة مهمتها ترتبط بالقاهرة دون غيرها من البلاد مثل قسم الاتصال بالعالم الإسلامي .

قـيادة الدعـوة :

ويمثلها هيئات ثلاث هي :

أولا : الهيئة التأسيسية :

وهي الهيئة العليا للدعوة يناط بها رسم الخطوط الرئيسية لسياسة الدعوة ، ويرجع إليها في كل ما يمس هذه السياسة أو ما يجد من أمور خطيرة أو ما يستدعي تعديلا في هذه السياسة أو ما يتصل بكيان الدعوة من قوانين أو إجراءات أو تصرفات ... واجتماعها العادي مرة كل عام ولكن للمرشد العام دعوتها للاجتماع في أي وقت يري ضرورة لاجتماعها لعرض مسائل جوهرية عليها . وقد تكونت هذه الهيئة أول ما تكونت في سنة 1941 من مائة عضو اختارهم المرشد مراعيا في اختيارهم الشروط الثلاثة الآتية :

1 – أن يكونوا من السابقين الأولين في الدعوة .

2 – أن يكونوا ذوي كفاءات ممتازة أو ذوي تضحيات بارزة من أهل الرأي .

3 – أن يكونوا ممثلين لمحافظات القطر ما أمكن .

وتعتبر الهيئة التأسيسية الجمعية العمومية للإخوان المسلمين ، ومن اختصاصها أن تنتخب من بين أعضائها لجنتين تكمل بها هيئات قيادة الدعوة هما مكتب الإرشاد العام ولجنة العضوية .

ثانيًا : مكتب الإرشاد العام :

ويتكون من اثني عشر عضوًا ومهمته تنفيذ السياسة التي أقرتها الهيئة التأسيسية وحددت خطوطها العريضة ، وإصدار القرارات في مختلف شئون الدعوة مما تلتزم بتنفيذه المكاتب الإدارية وشعبها ... وهو يعتبر مجلس الإدارة للدعوة يمثلها أمام الرأي العام وأمام الجهات الرسمية .

ثالثاً : لجنة العضوية :

وتتكون من سبعة أعضاء مهمتها اختيار الأعضاء الجدد للهيئة التأسيسية ، وتحقيق ما يثار حول أعضاء هذه الهيئة وإصدار القرارات في شأنهم ... وقد رأي الأستاذ المرشد أن أكون عضوًا في هذه اللجنة لما يعلم من صلتي بالكثير من قدامي الإخوان وحديثيهم في القاهرة وغيرها من البلاد ، ولهذا فقد طلب إلي أن أكون بجانبه عند اختياره للأعضاء المائة ليكونوا أعضاء الهيئة التأسيسية حتى يكون ذلك نبراسًا لي عند اختيار أعضاء جدد عن طريق لجنة العضوية فيما بعد . علي أن أعضاء الهيئة التأسيسية لم يزد عددهم حتى منتصف الخمسينات عن مائة وخمسين عضوًا مع أنه كان من حق لجنة العضوية قانونًا اختيار عشرة أعضاء جدد كل سنة ولكن ظروفاً نشأت أعفت اللجنة من أجلها بعض الأعضاء حالت دون استيعاب هذا العدد .

ولقد كان من حكمة الأستاذ المرشد وبعد نظره أن أنشأ الهيئة التأسيسية في هذا الوقت بالذات فقد ظهر بعد ذلك من المواقف والمشكلات والأزمات والخلافات ما لو لم تكن هذه الهيئة موجودة لقضي علي الدعوة وانهار صرحها ، وسوف يري القارئ إن شاء الله الكثير من ذلك فيما بقي من هذه المذكرات . كما أن وجود هذه الهيئة قد أغني عن عقد المؤتمرات التي كانت تعقد كل سنة أو سنتين يحشد فيها أكبر عدد من مختلف بلاد القطر ليلخص أمامهم الأستاذ المرشد ما قطعته الدعوة في خطوات منذ المؤتمر السابق وليشرح لهم بعض ملامح الخطة المستقبلية وكانت هذه المؤتمرات تكلف الإخوان الكثيرين الذين يحضرون من بلادهم الكثير من الجهد والمال كما تكلف المركز العام مثل ذلك ... ومع ذلك فقد كانت طبيعة هذه المؤتمرات لا تتيح فرصة مناقشة ما يعرض من تقارير عن الماضي أو مقترحات للمستقبل .

علي أن هذه المؤتمرات لم تكن ليصلح عقدها بعهد أن كثرت الشعب وكثر عدد الإخوان في كل مكان بحيث تضييق بمندوبيهم الأمكنة في القاهرة مهما اتسع نطاقها للاجتماع والنوم .. أما وقد أنشئت الهيئة التأسيسية علي القواعد الثلاث التي أشرت إليها فإن الأستاذ المرشد كان يدعوها بأعضائها المائة فتضمهم حجرة فسيحة من حجرات المركز العام فيعرض عليهم ما يشاء ويناقشهم ويناقشونه ويقترح عليهم ويقترحون عليه ، ويتحدث كل منهم عن مشاكل محافظته ويصلون في النهاية إلي قرارات مدروسة محددة ، فيرجع هؤلاء الأعضاء إلي محافظاتهم يشرحون لإخوانهم ما تم في الاجتماع بتوضيح وتفصيل ... فيتحقق بهذا الأسلوب مالا تحققه المؤتمرات مع إعداد الدعوة وإعفاء الإخوان من كثير من الجهد والمال والمشقة . ولهذا فقد كان المؤتمر السادس الذي عقد قبيل تكوين الهيئة التأسيسية في 9 يناير سنة 1941 هو آخر المؤتمرات .

استطراد :

لست أدري هل يعد استطرادًا أن أترك هذا الحديث العام لأتحدث عن أمور تخصني ، أم أن حديثي عن هذه الأمور هو من الحديث المتصل ؟ .... إن هناك مجموعة في هذه الدعوة لم تعد حياتها الخاصة منفصلة عن الدعوة بل هي جزء منها ؛ لأنها ارتضت يوم خيرها الأستاذ في اجتماع لجنة الأربعة والعشرين في منزله أن تضع حياتها ومستقبلها رهنا بما تطلبه الدعوة . لقد كانت الدعوة في شخص مرشدها تتحكم في وقت هذه المجموعة فتوجهها التوجيه الذي تريده . فكان الأستاذ المرشد مع شدة احتياجه أن نكون بجانبه ، يمنعنا من الحضور إلي المركز العام طيلة الشهر الذي يسبق الامتحان لأنه يري في إنهائنا حياتنا الدراسية نفعًا للدعوة لا يتوفر لها إذا طالت هذه الحياة الدراسية . وكان الفرد من هذه المجموعة حين يتخرج لا يتجه إلي حياة عملية لا بعد أن يستشير الأستاذ المرشد باعتباره أبصرنا بالاتجاه الأنفع للدعوة ... أفليس الحديث في هذه الأمور إذن حديثاً في صلب الدعوة وفي صميمها ؟ ...

بعد التخرج :

يحسن قبل التطرق إلي ما كان من شأني بعد التخرج أن أبدأ بإشارة موجزة إلي الحالة الاجتماعية التي كانت سائدة في مصر فيما يتصل بالوظائف والموظفين حتى يكون القارئ علي صورة واضحة ؛ كان المتخرجون ف ي أية كلية من الكليات أو مدرسة عليا كما كان أكثرها يدعي في ذلك الوقت لا يجد أمامه عملا يلتحق به ويرتزق به ... كانت فرص العمل نادرة ندرة تصل إلي درجة العدم ، ولم يكن العمل إذ ذاك موجودًَا إلا في الوظائف الحكومية . كان المتخرج يوم يتخرج يكتب طلبات التحاق بعدد وزارات الحكومة ومصالحها ويرسلها جميعا وينتظر لعله يصادف عملا في أي منها ، ولم يكن عادة يصله رد .. ويظل هكذا عاطلا ، وبعد كل ستة أشهر يعيد كتابة الطلبات وتحفي أقدامه في ارتياد الوزارات التي يتوسم أن يجد فيها عملا أيًا كان ، فإذا كان محظوظاً وجد بعد سنتين من تخرجه عملا باليومية في إحدى الوزارات ؛ ومعني ذلك أنه لا يضمن أن يستمر في العمل طول العام فقد يستغني عنه في أي يوم من الأيام . لم يكن في نيتي العمل في وظيفة حكومية بعد تخرجي حتى ولو وجدت وظيفة مناسبة ، وإنما كانت نيتي معقودة علي القيام بعمل حر ، بل إنني حددت نوع العمل أن يكون في الألبان ، ولم نكن ندرس الألبان في كلية الزراعة إلا في السنة النهائية . كاشفت الأستاذ المرشد بعزوفي عن الالتحاق بالوظائف الحكومية ، وبعزمي علي الاشتغال الحر بالألبان ، فزكي الفكرة ، وأبدي استعداده لمؤازرتي في هذا السبيل ، ومن قبل نالت الفكرة قبولا لدي والدي وأبدي استعداده لإمدادي بالمال اللازم .

مشروع الألبان :

كانت الفكرة مختمرة في نفسي ، وعزمي علي تنفيذها علي أشده ، ولكن كيف أنفذها ، وكيف أنتقل بهذا العوم إلي واقع الحياة ؟ كانت معضلة أمام شاب ناشئ لا خبرة له بالحياة . وبعد أيام ناداني الأستاذ ، وكان لتوه راجعًا من رحلة له في الصعيد وقال لي : لقد عثرت لك علي طلبتك . ذهبت إلي مغاغة من أجلك لأني أعلم أن أخاً كريمًا فيها وزميلاً لك تخرج في كليتك منذ أربعة أعوام ، كان قد أنشأ معملا للألبان فيها ، وقد رأيت أن أقابله وأعرض عليه فكرتك ، وقد قابلته وعرضت عليه الفكرة فزكاها ، وأخبرني بأنه أغلق المعمل لأنه محتاج إلي شريك ، ورحب بك شريكًا له .. وكذلك ذلل الأستاذ المرشد عقبة كئودًا كانت في طريقي . وكان لي زميل في الدراسة تخرج معي هو عباس نجل الأخ الكريم الأستاذ محمد حلمي نور الدين ، وقد اقترح والده أن يكون شريكًا ثالثًا في المشروع فرحبنا به .. كنا في ذلك الوقت عقب امتحان البكالوريوس مباشرة أي في أواخر يونيه وأوائل يوليه سنة 1939 ولما كان موسم الألبان يبدأ مع ظهور البرسيم في الحقول فد كانت أمامنا فترة نقضيها في القاهرة قبل الذهاب إلي مغاغة حتى يجئ شهر أكتوبر علي الأقل .

مفـاجـأة :

لم يكد يمضي علينا بعد ذلك شهر واحد وإذا بوفد من إخوان مغاغة – محافظة المنيا – يطرقنا في المركز العام علي غير موعد ويعرض علينا مشكلة غريبة . تتلخص هذه المشكلة في أن في مغاغة مدرسة ابتدائية أهلية تملكها جمعية قبطية . وهي المدرسة الابتدائية الوحيدة – (المدرسة الابتدائية في ذلك الوقت تعادل في أيامنا هذه المدرسة الإعدادية) – التي يلتحق بها أبناء مغاغة وضواحيها الكثيرة ... وناظر المدرسة من قديم هو الأستاذ الشيخ حسن سيد وهو من العلماء وإمام وخطيب المسجد الكبير بمغاغة ... فلما أنشئت شعبة الإخوان المسلمين بمغاغة انضم إليها فضلاء أهالي مغاغة ومنهم الأستاذ الشيخ حسن سيد وأسندت رياستها إليه ... ولم يدر بخلد الإخوان ولا خلد الأستاذ الشيخ حسن سيد أن في هذا تعارضًا مع مصلحة المدرسة ... ولكن تبين أن هناك عقولا ضعيفة ، وصدورًا لا تنطوي إلا علي الحقد والضغينة رأت في انضمام الأستاذ الشيخ حسن إلي الإخوان خروجًا علي الطاعة وتمردًا علي العبودية ، فلم يفاتحوه في ذلك ليقنعهم بخطأ نظرتهم إلي الإخوان المسلمين ، ويشرح لهم أن هذه الدعوة إنما يريد الخير لا للمسلمين وحدهم بل لجميع سكان البلاد علي اختلاف عقائدهم ؛ ون الإخوان – حين انضم إليهم واختاروه رئيسًا لهم – لم يرو في عمله في مدرسة الأقباط ما يتعارض مع دعوتهم ....

لم يفاتحوه في ذلك بل أسروه في نفوسهم حتى انتهي العام الدراسي فلم يفاتحوه أيضًا ، وانتظروا حتى قاربت إجازة الصيف علي الانتهاء وتيقنوا أن جميع المدارس الأهلية في القطر قد استوفت العدد اللازم لها من المدرسين والنظار وأن جميع المدرسين قد تم تعاقدهم مع المدارس ، حينئذ فاجئوا الرجل الذي أفني زهرة شبابه في خدمتهم بخطاب يقولون فيه إن الجمعية قد قررت الاستغناء عنه . وينبغي أن يعلم القارئ أن المدارس الأهلية – أو كما نسمي الآن المدارس الخاصة – في ذلك الوقت لم تكن تحت إشراف حازم من وزارة المعارف لاسيما ما يتصل بحقوق العاملين في هذه المدارس من نظار ومدرسين وكتبة وعمال بل كان كل هؤلاء تحت رحمة ملاك هذه المدارس ؛ فهم الذين يتعاقدون معهم علي المدة التي يردنها علي المرتب الضئيل الذي يحددونه ، وعلي عدد الحصص التي يدرسونها في اليوم وفي الأسبوع ، وهم الذين يلغون هذه العقود في أي وقت يشاءون ودون إبداء الأسباب .

وكانت مرتبات هؤلاء المدرسين من الضآلة بحيث لا تكاد تصدق ؛ فقد لا يصل مرتب المدرس إلي ثلاثة جنيهات ... كما لا يخفي أن مرتبات موظفي الحكومة كما قدمت – وإن كانت أحسن حالا من ذلك ، إلا أن مرتبات أئمة المساجد في وزارة الأوقاف لم تكن أحسن حالا من مرتبات المدارس الأهلية فكان مرتب الإمام المتخرج في الأزهر ويحمل شهادة العالمية في حدود الجنيهات الثلاثة . وقد رأيت أن أشير إلي ذلك حتى يتضح للقارئ فداحة المصيبة التي أصابت هذا الرجل الذي خدم هذه المدرسة ثمانية عشر عامًا والذي كان يعول أسرة كبيرة ، وقد رتب معيشته ومعيشة من يعول علي أساس هذا المورد الذي يكتسبه من عمله بهذه المدرسة حيث لم يكن مرتبه من وظيفته في الأوقاف يبلغ نصف مرتبه من المدرسة ... وفي الوقت الذي انقطع عنه فيه هذا المورد أضحي عاجزًا أن يجد عملا يعوضه عنه لأن التوقيت الذي اختاره ينبأ الاستغناء عنه توقيت مدبر ، أملاه الحقد الأسود بقصد القضاء علي هذا الرجل تامًا ، وفضيحته أمام الناس حيث تظهر الفاقة عليه وعلي أولاده وذويه ، ويضطر إلي الاستدانة والاستجداء ... ولم يكن في ذلك الوقت في تلك المدارس حق للمفصول أو المستغني عنه في معاش ولا مكافأة .

وامعتصماه :

كان وقع هذه القصة حين قصها وفد إخوان مغاغة علي سمع الأستاذ المرشد كوقع كلمة " وامعتصماه " علي سمع الخليفة العباسي المعتصم بالله حين نقلت إليه عن المرأة المسلمة التي أسرت ببلاد الروم منتهزين فرصة أنها امرأة وحيدة لا نصير لها في بلادهم .. وكان رد الأستاذ المرشد تمامًا كرد الخليفة إذ قال لإخوان مغاغة وهو يبتسم " لا بأس . إذن ننشئ له مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها " . لم يكن لقولة الأستاذ المرشد هذه معني في عرف العقل والمنطق والقياس للأسباب الآتية :

أولاً : لم يبق علي بدء الدراسة إلا أقل من شهر واحد .

ثانيًا : أن هذا المشروع إذا أريد تنفيذه فإنه يحتاج إلي رأس مال لا يقل عن بضعة آلاف من الجنيهات في ذلك الوقت ؛ علي أن يسترق تنفيذه إذا وجد المال سنة علي الأقل .. فكيف يمكن مجرد التفكير فيه وليس لدي الشعبة ولا المركز العام شيء من هذا المبلغ .

ثالثاً : إذا افترضنا جدلا أن مدرسة كاملة المباني وافية بجميع ما يشترط من الشروط الصحية والاجتماعية نزلت لنا من السماء الآن ، فإن العقبة الكبرى التي لا يمكن تذليلها هي العثور في هذا الوقت علي مدرس واحد يتعاقد معه بعد أن ارتبط كل مدرس بمدرسته .

رابعًا : أن إعداد المقاعد والقماطر والسبورات لمدرسة كهذه يحتاج إذا وجد المكان والمال إلي عدة أشهر .

خامسًا : إذا افترضنا جدلا أن هذه المدرسة موجودة بكامل معداتها ومدرسيها فإنها باعتبارها مدرسة جديدة تحتاج إلي عام كامل – مع جميع وسائل الإعلام الميسورة – حتى يعلم الناس بوجودها .. ثم هي لا تبدأ إلا بالسنة الأولي أي بالصف الأول فقط ، لأن الناس لن يثقوا بها إلا إذا أثبتت نتائجها جدارتها لاسيما وفي المدينة مدرسة قديمة أثبتت جدارتها من قبل والجميع يثقون بها .

تلقي وفد إخوان مغاغة وتلقينا نحن الحاضرين من إخوان المركز العام قولة الأستاذ هذه بابتسامة فيها كل المعاني التي تضمنتها الخمسة أسباب السابقة ، ولكن الأستاذ المرشد مصممًا علي قولته حيث كررها أكثر من مرة تكرار الواثق المتمكن ... ومع ارتيابنا بل ما نراه من استحالة في تحقيق هذا المشروع فإن ثقتنا التي تفوق كل تصور في الأستاذ المرشد جعلتنا نتهم عقولنا ونتهم المنطق والواقع ونصدق ما يقول ..... إن هذا الرجل الذي أتاه الله تعالي من العلم والحكمة ما بهر عقول كبار العلماء فطلبوا إليه أن يؤلف كتبًا يودعها هذه المعارف فكان رده عليهم : إنني لا أؤلف كتبًا يكون مصيرها تزيين الوقوف وأحشاء المكتبات ، وإنما مهمتي أن أؤلف رجالا أقذف بالرجل منهم في بلد فيحييه ، فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلي الناس ، ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم ، ويبثهم كل ما في قلبه وعقله ، ويؤلف منهم رجالا كما ألف هو من قبل .

إن هذا الرجل الذي ربي هذا الشباب الغض علي أسمي المعاني الإنسانية وأجلها من إيمان وإيثار وتضحية لم تكن تربيته هذه تربية عقيما يقف بها عند حدود تطهير النفس وتزكية الروح ثم يعتزل أصحابها المجتمع متفانين في العبادة ، بل كان يربيهم هذه التربية ثم يلقي بهم في خضم المجتمع باعتبار أنهم كنوز يستثمرها في إصلاح ما فسد منه وبناء ما انهار من بنيانه .. وكان الأستاذ نفسه هو أقدر الناس علي استثمار هذه الكنوز وأبرعهم في الإفادة منها ، وأبصرهم بمكامن اللآلئ والدرر فيها ، وأكثرهم تمكنا من سد كل ثغرة من ثغرات المجتمع بما يناسبها من هذه اللآلئ والدرر كما يقول المثل العربي " يضع الهناء مواضع النقب " . علي أساس من معرفته بما تحت يده من هذه الكنوز قال واثقا قولته التي قالها ... قالها وهو يعلم أنها بحكم العقل وحده والمنطق والحساب إنما هي نوع من المحال ، ولكن الذي بيده مفاتيح هذه الكنوز هو فرق العقل والمنطق والحساب " والله يرزق من يشاء بغير حساب " . إن العنصر البشري طاقة كامنة لا حدود لقوتها ولكنها مفتقرة دائمًا إلي من يستطيع تفجيرها .

إنشاء المدرسة أو تحقيق المحال :

قال الأستاذ المرشد لوفد إخوان مغاغة ، أنتم مكلفون بأمرين اثنين عليكم أن تنجزوهما :

الأول : أن تقولوا للأخ الأستاذ الشيخ حسن سيد إن الإخوان قرروا أن ينشئوا لك في مغاغة مدرسة ابتدائية تبدأ الدراسة فيها من أول هذا العام الدراسي وتكون أنت ناظرها .

الثاني : أن تجتمعوا بإخوانكم جميعًا وتدبروا مكانا يصلح أن يكون مدرسة مهما كان إيجاره والمركز العام متكفل بدفع إيجاره .

فإذا تم تدبير المكان فأخبرونا لنكمل الخطوات الأخرى إن شاء الله .

وبعد أيام وصل وفد من مغاغة يحمل إلينا نبأ إيجاد المكان المطلوب وقالوا إن الأخ المهندس الزراعي الأستاذ شلبي محمد جاد وكيل الشعبة – وهو نفسه الأخ الذي كان الأستاذ المرشد قد اتفق معه لأكون شريكاً له في معمل الألبان – قدم لنا منزلا يملكه ملحق به فناء واسع وهو مكون من ثلاثة طوابق ليكون مقرًا للمدرسة ، وتبرع بقيمة إيجاره في السنة الأولي . وأراد الأستاذ المرشد أن يقتحم علي منافسينا بصاعقة تذهلهم وتفقدهم رشدهم ، فقال لوفد مغاغة : ارجعوا إلي إخوانكم واطبعوا أكبر عدد ممكن من الإعلانات واكتبوا فيها أن المدرسة الإسلامية بمغاغة قد استقدمت جميع هيئة التدريس بها من القاهرة وكلهم من خريجي كليات الجامعة ويحملون شهادات البكالوريوس والليسانس – واكتبوا أسماءهم ومؤهل كل منهم أمام اسمه – واكتبوا في الإعلان أنهم سيحضرون إلي مغاغة يوم كذا في قطار الساعة كذا – وحدد لهم اليوم والساعة ...

وقال لهم : عليكم أن توزعوا الإعلانات في جميع أنحاء مغاغة وفي جميع قري المركز .. وعليكم أن تكونوا جميعًا في انتظارهم علي محطة السكة الحديد . ثم التفت إلي وقال : عليك أن تتأهب أنت وزميلك عباس حلمي ومحمد بسيوني (تخرج محمد بسيوني في ذلك العام في كلية الحقوق) للسفر معًا إلي مغاغة في يوم كذا وفي قطار الساعة كذا وهو اليوم والساعة اللتان حددهما لإخوان مغاغة . ودعوت زميلي وقابلنا الأستاذ فقال لنا : إنكم ستقومون بأهم دور في هذا المشروع الذي أنا أعده مشروع الساعة للدعوة والاختيار الدقيق لها ، وستحملون أنتم أكبر عبئ فيه ... إن عليكم أن تعرفوا الناس بأنفسكم وبمؤهلاتكم ، وعليكم أن تزوروا أعيان مغاغة وجميع البيوت المعروفة في قري المركز ... وستكون زياراتكم هذه لهذه البيوت مبعث ثقتهم في نجاح المشروع ، ودافعًا لهم علي التبرع له بسخاء ... ثم عليكم مع ذلك أن تتعاونوا مع إخوان مغاغة في تدبير كل ما يلزم المدرسة من مقاعد وقماطر وغيرها ... وحين تبدأ المدرسة فعليكم أن تقوموا بأنفسكم بتدريس جميع العلوم وسنضم إليكم في التدريس الأستاذ الشيخ حسن سيد الناظر ، ولا تتركوا مواقعكم في التدريس إلا بعد أن نعثر علي عدد كاف نتعاقد معه من المدرسين المحترفين . تلقينا هذه التعليمات من الأستاذ المرشد ولم يخطر ببالنا أننا مقدمون علي أشق مهمة علي الإطلاق ..

لا يعرف الشوق إلا من يكابـده

ولا الصـبابة إلا من يعـانيـها


مظاهرات من نوع جديد :

حزمنا أمتعتنا – ولم تكن أمتعة ذات بال ، فهي لا تعدو أن تكون ملء حقيبة ضمت أمتعتنا نحن الثلاثة ... وركبنا القطار الذي حدده لنا الأستاذ وتوكلنا علي الله ، حتى إذا صارت محطة مغاغة قاب قوسين أو أدني أعددنا أنفسنا أمام باب عربة القطار التي كنا فيها لنكون أول النازلين حين يقف القطار ، ولما كنا لم ننزل بمغاغة من قبل طمأننا الأستاذ أن سنجد في انتظارنا عددًا من الإخوان الذين عرفناهم في القاهرة . ووقف القطار ، ولم نكد نقدم رجلا للهبوط حتى رأينا المحطة تموج بمئات الناس الذين يبدو عليهم أنهم من علية القوم ، ورأينا الجميع يشيرون بأيديهم إلينا ، وتقدم نحونا الإخوان الذين عرفناهم في القاهرة وتناولوا حقيبتنا وخذوا بأيدينا وأحاطوا بنا ، وخرجنا من المحطة في موكب ضخم مهيب نتقدمه نحن الثلاثة وحولنا إخوان مغاغة وخلفنا هذه الجموع كأننا " عرسان " يزفون ليلة الزواج والهتاف " الله أكبر ولله الحمد " يشق عنان السماء .. وسلكوا بنا في هذا الموكب الشارع الرئيسي الذي يخترق المدينة من أولها لآخرها ، وعلي طول الطريق يرشفنا الناس علي الجانبين بنظرات ، ويوجهون نحونا إشارات كأنهم كانوا علي علم بمقدمنا وفي شوق لرؤيتنا ، حتى وصلنا إلي الدر لم تعد لتكون مقر المدرسة فدخلنا ودخل معنا كثير من الناس وأخذ الجميع يرحبون ويبدون سرورهم بمقدمنا .

كان باقيًا علي موعد بدء الدراسة في المدارس الابتدائية أقل من شهر ، ولم يكن بد من تقسيم المسئوليات علي الإخوان لينهض كل بما يوكل إليه في أسرع وقت ممكن ، وكان من مسئولية الأخ الأستاذ شلبي محمد جاد المتبرع بالدار أن يغير من شكل المبني ومحتوياته فيهدم أجزاء ويضيف أجزاء حتى يتواءم المبني مع الرسم الذي طلبته وزارة المعارف وجعلته شرطا لاعترافها بالمدرسة ، وكان علي الأخ الأستاذ محمد فؤاد سليمان ومعه مجموعة من الإخوان أن يحصلوا من مخازن الوزارة ومن المكتبات الأخرى علي الكتب اللازمة والكراريس وغيرها من الأدوات المكتبية للصفوف الأربعة . وهكذا قسم العمل وكان الموكول إلينا من المسئوليات هو أن نشترك في النهار مع اللجان المختلفة في مسئولياتها حتى إذا انتصف النهار وتناولنا طعام الغداء ، أعددنا أنفسنا لرحلة يومية يشترك معنا فيها الأستاذ الشيخ حسن سيد وبعض الإخوان لنزور كل يوم بلدًا من بلاد المركز أو بلدين لنشرح للناس مزايا هذه المدرسة والسبب في إنشائها وما كان من أمر الغدر بالشيخ حسن سيد كما يرون بأعينهم الأشخاص ذوي المؤهلات العالية الدين سيقومون بمهمة التدريس ، فتكون نتيجة كل زيارة من هذه الزيارات ضمان نقل أولادهم من مدرسة الأقباط إلي المدرسة الإسلامية وإلحاق أولادهم الجدد بها ، ثم تبرعًا سخيا يقدمه أثرياء البلد لحساب إنشاء هذه المدرسة .

كان هذا المجهود المتواصل شاقًا فقد كنا نغادر مغاغة كل يوم عصرًا ولا نعود إليها إلا منتصف الليل لنستأنف في الصباح الباكر العمل مع اللجان المتعددة المسئوليات . انهالت التبرعات من أثرياء القرى التي زرناها وتمكنا بذلك من شراء جميع احتياجات المدرسة من كتب وأدوات وسبورات ومكاتب وكراسي للمدرسين والزوار وأدوات النظافة وغيرها ثم واجهتنا معضلة أننا نريد قماطر للتلاميذ ونريد عددًا كبيرًا يتسع للعدد الذي قدرناه من التلاميذ نتيجة دعايتنا وزياراتنا ، وإذا كان معنا ثمن هذه القماطر فإن صناعتها قد تستغرق عدة أشهر ولم يبق علي موعد بدء الدراسة إلا عشرة أيام . تذكرت أن أحد أصدقائنا في رشيد كان قد أنشأ مدرسة ابتدائية في مطوبس ولكنه أخفق في المشروع فباع محتوياتها فاشتراها أخ كريم من إخواننا التجار برشيد فأرسلت إليه أن يشحن لنا جميع هذه القماطر (التخت) التي اشتراها فوصلت مع بدء الدراسة وكانت جديدة وقد طلب في الواحدة المزدوجة المقاعد ثلاثة عشر قرشًا وهو نفس الثمن الذي اشتراها به مع أنه كان يستطيع أن يبيعها في ذلك الوقت بأكثر من ثلاثين قرشًا ، ولو أننا اضطررنا إلي صنعها لتكلفت أكثر من ضعف ذلك .

بدء الدراسة :

بدأت الدراسة في موعدها والمدرسة مستوفية جميع مالا تستوفيه مدرسة إلا بعد مضي أربع سنوات علي إنشائها أو أكثر إذا كانت الظروف مواتية ، وكادت مدرسة الأقباط تتوقف لولا ما تبقي بها من أولاد الأقباط وقليلا ما هم ، وأحس المستكبرين الغادرون بفشلهم وخطأ تقديراتهم فبعثوا إلي الأستاذ الشيخ حسن سيد يطلبون الصلح معه لكن الرجل رفض أن يضع يده في يد غادرين . وقمنا نحن الثلاثة بالتدريس طول اليوم ومعنا الناظر وابنه وأخ كريم حصل علي دبلوم الفنون التطبيقية في ذلك العام هو الأخ الأستاذ حسن عبد الله القباني قام بتدريس مادة الرسم ، فكان كل منا يدرس جميع حصص اليوم متصلة ، وقد يدرس لفصلين في آن واحد .. وقد انتهكتنا هذه الفترة التي دخلناها ونحن في أشد حالات الإرهاق من أثر الزيارات المتلاحقة للبلاد .... وكان الإخوان في خلال ذلك سواء في القاهرة وفي مغاغة يجدون في البحث عن مدرسين للتعاقد معهم حتى وفقوا إلي ثلاثة منهم حلوا محلنا بعد شهر من بدء الدراسة ، وقد أدركونا ونحن في الرمق الأخير .

تقييم هذه التجربة :

كان هذا العمل الذي انتدب الإخوان أنفسهم للقيام به في مغاغة ، والذي حتمت الظروف النهوض بأعبائه ، كان امتحانًا قاسيًا ورائعًا لهذه الدعوة التي تعد في عمر الدعوات دعوة ناشئة ، وقد كشف هذا الامتحان عن طبائع هذه الدعوة بأسلوب جلي وقد تتضح منه القسمات التالية :

أولا : أثبتت الدعوة للإخوان أنفسهم أنها دعوة إيجابية فعالة ، كما أثبتت ذلك لغير الإخوان ممن شهدوا مسرح الأحداث ، وبينت للجميع أنها دعوة لا تقف عند حد الأقوال والدعاية الكلامية والإقناع العقلي بالأسلوب المنطقي بل إنها تفعل ما تقول وقد تفعل كثر مما تقول .

ثانيا : أثبتت أن العنصر البشري إذا ما تربي التربية الإسلامية السليمة الكاملة النابعة من الكتاب الكريم يستطيع أن يأتي بما يشبه المعجزات ، وأنه لا تعوقه العوائق المادية مهما عظمت .

ثالثاً : أن القيادة القادرة التي تولت الشباب الغض وأنشأته علي أقوم الأسس وأعطته من ذات نفسها هي التي تعرف مقدار ما يكمن في هذا الشباب من طاقة خارقة للعادة ، وهي التي تعرف كيف توجه هذه الطاقة ومن توجهها لإنجاز أعمال يحكم العقل والقدرة المادية والمنطق باستحالة إنجازها .. ومن دستور هذه القيادة المأثور قولها : إذا صح العزم وضح السبيل .

رابعًا : فسرت معني الأخوة الإسلامية " المسلم أخو المسلم لا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه " وأنها إنما تقوم علي أسس من التضحية والإيثار لا علي الأثرة والاستغلال ، فهذا المجهود الذي بذل في إنشاء هذه المدرسة في الظرف المعين الذي كان يجب أن ننشأ فيه ، لا يمكن تقديره بمال مهما كثر ، ومع ذلك وبغير من ولا أذي حين اكتمل المشروع الاكتمال سلم إلي الأخ الذي هببنا لنجدته يتصرف فيه كما يشاء حيث قال الأستاذ المرشد حين بلغه نبأ الغدر به " إذن ننشئ له مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها " .

خامسًا : أثبتت الدعوة أنها مع قدرتها دعوة سلام وعفة ، فقد كان في تصور من دبروا جريمة الغدر من قادة جمعية الأقباط ، كما كان في تصور الناس جميعًا في مغاغة أن رد الإخوان علي هذه الجريمة النكراء سيكون الاعتداء علي هذه الجمعية باليد واللسان ، ولكن المفاجأة كانت في أن شيئًا من هذا لم يحدث ، وإنما كان الرد هو ما تحدثنا عنه دون مس أي من هؤلاء كانت بكلمة نابية أو لفظ جارح ، ذلك أن الدعوة الإسلامية أبعد الدعوات عن فحش القول وعن الاعتداء ، لكنها تهب هبة المذعور لحماية من اعتدي عليه من أبنائها ولا تدخر وسعًا في حمايته وحياطته ..

إلي مشروع الألبان :

بعد أن تم إنشاء المدرسة وبعد أن تسلم المدرسون المتعاقد معهم أماكنهم في المدرسة اتجهنا إلي مشروعنا الأصلي الذي اعترض طريقه هذا المشروع المدرسي الطارئ ، وكان من توفيق الله أننا فرغنا من مشروع المدرسة في الوقت المناسب لمشروع الألبان ، وتذاكرت وشريكي الأستاذ شلبي المشروع وكان معمله مجهزًا أحسن تجهيز وكتبنا عقد الشركة وعرضناه علي الأستاذ المرشد – لأنه كان حريصًا علي الاطلاع عليه – ووقعناه – وفهمت من شريكي أن سبب فشله في المشروع هو عدم تصريف منتجاته فتكفلت أنا بذلك بعد أن استوثقت من إخوان القاهرة التجار استعدادهم لشراء كل ما ينتجه المعمل ، واستمرت الشركة موسم لبن كاملا كنت خلاله كثير التردد علي القاهرة ثم رأيت إنهاءها .

وقد يكون مفيدًا للقارئ أن أسرد علي مسامعه تفاصيل هذا المشروع ولكن إيجازًا للقول أكتفي بوضع خلاصة له بين يديه ولا أكون بذلك قد خرجت علي الموضوع فتاريخ الدعوة هو تاريخ القائمين بها والعاملين لها والذين كرموا حياتهم للنهوض بها ، فلم يكن تحركي لهذا المشروع إلا بوحي من هذه الدعوة ، وما كان اهتمام الأستاذ المرشد به إلا لكونه يري أن مثل هذه المشاريع دعائم للدعوة ، وهاك الخلاصة :

1 – لم يكن يعوذنا المال فالمال كان متوفرًا ولم يكن يعوزنا تصريف الإنتاج فقد كان المطلوب منا أكثر من ضعف إنتاجنا .

2 – لم يكن يعوزنا الإخلاص فشريكي كان من المثل العليا التي يندر وجودها وممن يخشون الله ويتقونه ، وسأذكر واقعة واحد تنبئك عن مدي عمق إيمانه بالله ، فقد كان يملك قطعة أرض واسعة في وسط مغاغة فجاءه رجل أجنبي من خارج مغاغة وعرض عليه ثمنًا مشرفًا لهذه القطعة يبلغ ضعف ما يستحق لينشئ عليها دار للسينما وإذا لم يرغب في بيعها فليدخل معه شريكاً في هذه السينما – وكانت السينما في ذلك الوقت أربح مشروع – فطلب منه مهلة وسألني رأيي في هذا العرض فأجبته بأن السينما ما هي إلا أداة لعرض ما يراد عرضه فيها ولكن الأفلام التي تعرض هي عادة أفلام تدعو إلي الرذيلة .. فرفض عرض الأجنبي علي ما فيه من إغراء خشية أن يكون فيه ما يغضب الله .

3 – لم نبع صفقة إلا بربح ومع ذلك خسرنا خسارة كبيرة نتيجة قلة اللبن الوارد إلي المعمل ، والمصاريف اليومية والشهرية التي كان لابد من صرفها علي المعمل كانت تكفي لتصنيع عشر أضعاف كمية اللبن التي كانت ترد لنا ، ومن هنا نشأت الخسارة .

4 – سبب قلة الوارد إلي المعمل ترجع إلي إيثار شريكي عدم المجازفة بدفع أثمان اللبن لأصحاب المواشي قبل توريده إلينا في حين أن تجار " السمن " في القاهرة كانوا يدفعون لأصحاب المواشي في مغاغة مبالغ كبيرة قبل بدء موسم البن .. وقد اختلفت وجهة نظرنا في هذا الموضوع فكنت أري أننا أولي بالاطمئنان علي مالنا إذا دفعناه إلي هؤلاء الفلاحين من أولئك الذين يعيشون في القاهرة ويدفعون لهم الأموال . ولكن شريكي – لظروف شرحها لي قابلته في تربيته وهو طفل – جعلت عنده في كل تصرفاته فرط حرص .

وكما أن قيامي بهذا المشروع كان بمشورة من الأستاذ المرشد ، فقد كان إنهائي له وفض الشركة بمشورة منه أيضًا ... علي أن الذي أحب أن ألفت النظر إليه أن فض الشركة بيني وبين الأخ الأستاذ شلبي لم يكن له أي أثر علي ما بيننا من علاقة أخويا وسوف يأتي إن شاء الله في سياق هذه المذكرات ما يوضح ذلك .

رأي عظيم لرجل عظيم :

قدمت من خلال الحديث من مشروع الألبان أنني كنت في خلال فترة قيامي بهذا المشروع أتردد علي القاهرة ففي إحدى مرات ترددي وكان مساء يوم خميس وجدتهم في المركز العام يوزعون الدعاة يوم الجمعة علي عدة مساجد ، فلما رأوني بينهم أدخلوني في التوزيع فكان من نصيبي ومعي الأخ صالح عشماوي مسجد أحمد زكي باشا بالجيزة .

وذهبت وزميلي إلي المسجد قبيل صلاة الجمعة ، ولما أذن للصلاة صعدت المنبر وخطبت الناس وأنا أتفحص وجوههم ، فلاحظت من بينهم وجهًا مشرقاً لشيخ معمم ذي لحية بيضاء وقور يرمقني وكأنه هو الذي يتفحصني ، فشغلني أمر الرجل حتى أنهيت الخطبة وصليت بالناس ، ثم قدم الناس يصافحونني وأنا أبحث عن الرجل فلم أجده بين من صافحوني .. فلما انفض الجميع وقلبي منشغل بالرجل تبين لي أنه باق في مجلسه . فلما رأي الناس قدًا تكشفوا عني رأيته قادمًا نحوي فتقدمت نحوه ، ومد يده إلي فشددت علي يده ثم صافح وميلي ثم خرجنا ثلاثتنا من المسجد وسرنًا معًا وقد طلب حين خرجنا من المسجد أن نشرب عنده القهوة فقبلت علي التو شوقاً إلي معرفة الرجل ، حتى إذا كنا أمام " فلة " جميلة قال تفضلوا ، ولمحت علي باب " الفلة " الخارجي لافته عليها اسم صاحبها فظننت رجلنا ساكنًا بها . فلما دخلنا وأخذنا مجالسنا قال الرجل : نريد أن نتعارف ، وقدم لي بطاقته ، فإذا عليها نفس الاسم المكتوب علي لافتة " الفلة " وهو " منصور مهران " الأستاذ بدار العلوم سابقًا ، فبدأت أعرف قدر الرجل ، وإن كنت ازددت له احترامًا فقد كنت أوليه لوقاره احترامًا يتواءم وهذا الوقار .. ثم التفت إلي فقلت : أنا فلان بكالوريوس زراعة وصاحب معمل ألبان في مغاغة ، وزميلي صالح مصطفي عشماوي بكالوريوس تجارة ومحاسب .

قال الشيخ : كم تعطيكم جمعية الإخوان المسلمين التي تنتسبون إليها في كل مرة تقومون بنشر دعايتها وإذا كانت تحاسبكم بالشهر فكم تعطيكم شهريًا .

قلت له : إن الجمعية لا تعطينا شيئًا لنشر دعوتها لا بالمرة ولا بالشهر .

قال : إذن من الذي يتكفل الدعاة بمقابل أتعابهم ومصاريف انتقالهم ؟ .

قلت : ليس عندنا مقابل أتعاب ، وكل منا يتكفل بمصاريف انتقاله .

قال : أنتما فقط أم هذا حال جميع الدعاة ؟ .

قلت : هذا حال جميع الدعاة .

قال : أليس للجمعية دعاة بمرتبات تدفعها لهم ؟ .

قلت : كل الدعاة مثلنا متطوعون . بل إن هؤلاء الدعاة يقدمون للجمعية من جيوبهم .

قال : كم يدفع العضو في الشهر ؟ .

قلت : الاشتراك في جمعيتنا ليس محددًا فمن الأعضاء من لا مقدرة عنده فلا يدفع شيئًا ، ومنهم من يدفع خمسة قروش ومنهم من يدفع عشرة قروش وهكذا ومنهم من يدفع جنيها أو أكثر حسب قدرته ولا فرق بين الجميع .

قال : ومن هو رئيس الجمعية ؟ .

قلت : ليس للجمعية رئيس وإنما لها مرشد هو الأستاذ حسن البنا وهو متخرج في دار العلوم وكان أول دفعته وهو مدرس بمدرسة عباس الابتدائية بالسبتية .

قال : وهل حددت الجمعية له مرتبًا من ماليتها ؟ .

قلت : لا .. وإنما هو يقسم مرتبه الذي يأخذه من وزارة المعارف بينه وبين أولاده وبين الجمعية ، وهو يقوم بنشر الدعوة في الأقاليم ويسافر كل أسبوع مرة أو أكثر علي حسابه الخاص .

قال الرجل .. اسمعوا يا أولادي .. إن هذا اليوم أسعد أيام حياتي ..إنني أؤمن بأن هذا الدين لا ينبض به إلا دعاة يبذلون له ولا يرتزقون منه .. ثم قال : نحن الأزهريين عيال في دراستنا علي كتب الرجال الأمجاد الشيخ الصباغ والشيخ النجار والشيخ الحداد وهؤلاء العلماء لم يسموا بهذه الأسماء إلا لأنها صناعاتهم . فالشيخ الصباغ كانت مهنته التي يرتزق منها هي صباغة الأقمشة ، والشيخ النجار كانت مهنته النجارة وهكذا كان لكل مهنته التي يكتسب عيشه منها ثم في وقت فراغه يضع هذه المؤلفات الإسلامية التي نحن مدينون بمعارفنا لها تقربًا إلي الله .

يا أولادي ... اليوم أموت وأنا مرتاح الضمير لأن الفئة التي كانت تنقص المجتمع الإسلامي قد وجدت ، ونهضة الإسلام كانت مرهونة بوجودهم . وهنا وقفت وزميلي مستأذنين وشاكرين الشيخ حسن ضيافته ودعوته لزيارة المركز العام فاعتذر بأنه قد لا يستطيع لضعفه لكنه حملنا التحية للأستاذ المرشد . ولما رجعنا وقابلت الأستاذ المرشد أبلغته تحية الشيخ وأطلعته علي بطاقته فقال لي إنه كان أستاذه ، ولما حدثته بحديثه استمع إليه باهتمام وقال : إن أمثال هذا الرجل بمثل هذا الفهم قليل في عالمنا اليوم .

الشاي في الصعيـد :

كنت منذ صغري من محبي الشاي ومن المقبلين علي احتسائه كل صباح في المنزل ، فلما شبيت وكنت في السنة الرابعة الثانوية ونظرت إلي هذا الشراب فوجدته له جنايتين علينا نحن المصريين ، إحداهما إنه صادر عادة لنا أو بالتعبير المألوف " كيفاً " سيطر علي أعصابنا بحيث لم تعد تستطيع الاستغناء عنه ، فكأنما استعبدنا فصار لنا سيدًا وصرنا له عبيدًا والأخرى أنه مع ذلك بضاعة أجنبية ، واقتنعت بوجوب مقاطعته .

ولما كنت في مغاغة لاحظت أن أهل الصعيد أشد انغماسًا في هذا " الكيف " منا نحن أهل الوجه البحري ، فالعمال مثلا ينفقون أكثر مما يكتسبون علي الشاي .. وقد لمست خطورة هذا الشراب عن قرب حين كان ساكنا معي الأخ الأستاذ حسن عبد الله القباني وهو من أهل قوص إحدى حواضر قنا وهو مدرس الرسم بالمدرسة كما ذكرت قبلا .. فرأيته يهيئ لنفسه الشاي كل صباح بطريقة يكثر فيها من الشاي الجاف ويظل يغليه في الماء حتى يصل إلي قوام يشبه قوام الزيت ، وحتى إن طعم السكر لا يظهر فيه مهما أكثرت منه عليه ، و يخشي منه قبل أن يذهب إلي المدرسة ثلاثة أكواب صغيرة ثم يذهب للمدرسة ويبدأ عمله في الساعة الثامنة حتى إذا وصلت الساعة العاشرة حيث استراحة التلاميذ ظهرًا فيتغذي ويهيئ الشاي لنفسه بطريقة الصباح ، ثم يذهب إلي المدرسة لفترة ما بعد الظهر حيث تنتهي الدراسة الساعة الثالثة فيجد الفراش بالكوب في انتظاره ثم يشرب الشاي بعد العشاء بمثل طريقة الصباح ،وقد يشرب مرة بين الساعة الثالثة والعشاء .

إنه هو الذي ذكر لي هذا النظام الذي يلتزمه والذي إذا افتقد مرة من مراته عجز عن أداء عمله حتى يسعف بالشاي . ولقد أخبرني أن الشاي في حياتهم هو كل شيء حتى إن أطفالهم يفطمون علي الشاي وأنه هو شخصيًا فطم علي الشاي . ولما كانت القدوة هي أقوي وسائل التأثير فقد سهل علي إقناع الأخ الكريم بضرر الشاي وخطورته وعاونته في أتباع خطة انتهت إلي مقاطعة الشاي والاستعاضة عنه بمشروبات وطنية أخري كالكركديه والينسون والنعناع ، فأدي ذلك إلي تحرره من هذه العادة المسيطرة كما أدي إلي تحسن كبير في صحته . وبهذه المناسبة أذكر أنه لما جاء موعد إجازة نصف السنة وسافر الأخ حسن إلي بلدته قوص ليقضي الإجازة فيها فلما عاد من الإجازة قال لي سأروي لك شيئًا طريفاً وقع لي في هذه الإجازة .. قال : لما وصل بي القطار إلي محطة قوص ، وكان أهلي علي علم بموعد وصولي نظرت من القطار فوجدتهم في انتظاري علي رصيف المحطة ، فنزلت من القطار ومعي حقيبتي فلم يتقدم نحوي أحد منهم ليحمل عني حقيبتي كالمعتاد ، كما لم يتحرك أحد منهم كأنهم لم يروني ، فتقدمت نحوهم حتى التصق بهم ولم يمد أحد منهم يد لمصافحتي فعجبت وقلت لهم مالي أراكم هذه المرة تتجاهلوني ماذا حدث ؟ قالوا من أنت ؟ قلت أنا حسن عبد الله فبدا عليهم الدهشة وقالوا أنت حسن ؟ إذن أنت تغيرت كل التغير ، لقد كنت نحيفًا أسمر الوجه ونراك الآن ممتلئ الجسم أبيض الوجه ماذا حدث ؟ فتذكرن أن شيئًا لم يحدث لي إلا لمقاطعتي للشاي التي أدت إلي فتح شهيتي للطعام فقلت لهم فتعجبوا .

وقد يكون الإسراف في الشاي فعلا من أسباب ضعف الجسم فلازلت أذكر كلمة للأخ الدكتور محمد أحمد سليمان قالها في أثناء محاضرة كان قد ألقاها علينا في المركز العام حيث قال : إن الشاي يحتوي علي حمض العفصيك " التنيك " الذي يستخدم في دبغ الجلود ، وقال إن الهضم في المعدة يتم عن طريق أهداب قطيفية تبطن المعدة من داخلها فإذا نزل الشاي علي هذه الأهداب القطيفية دبغها أي قضي عليها فتعجز المعدة من الهضم .

مواجهة بين المرشد العام وطه حسين :

لما انتقلت الدعوة بمركزها العام إلي ميدان الحلمية الجديد ، رأي الأستاذ أحمد السكري أن ينتقل إلي القاهرة ورأي الأستاذ المرشد أن يهيئ له ذلك فألحقه بوظيفة في ديوان وزارة المعارف سكرتيرًا لمدير التعليم الزراعي . وفي ذلك الوقت عين الدكتور طه حسين المستشار الفني لوزارة المعارف ، وهو منصب لم يكن موجودًا من قبل ولكنه أنشئ للدكتور طه شخصيًا ، وكان لتعيين الدكتور طه في هذا المنصب دوي هائل في جميع الدوائر التعليمية والثقافية في مصر وفي خارج مصر ، باعتبار أن صاحب هذا المنصب هو الذي سيوجه الثقافة في مصر حيث يشاء ، وسيحتكم في تلوين ثقافة البلاد باللون الذي يروقه . وقد يكون هذا المنصب أخطر المناصب تأثيرًا في بلد ناشئ كمصر تتجاذبه تيارات متضاربة لا يدري أيها أنفع له ولا إلي أيها يتجه . ولطه حسين نزعات عرفت عنه واشتهر بها . وتوجس الكثيرون خيفة مما عسي أن يسفر عنه تعيينه في هذا المنصب الخطير .

وطه حسين أديب ضليع تلقي الأدب علي الشيخ المرصفي الذي كان إمام عصره ، ودرس في الأزهر حتى أوشك أن يحصل علي شهادة العالمية منه – وهي أعلي شهاداته – ولكنهم – لسبب ما – أسقطوه مع أنه لم يكن يعوزه العلم ولا اللغة ولا الذكاء .. فاتجه منذ ذلك الوقت – مكرها – إلي الجامعة المصرية الناشئة وحصل منها بتفوق علي الليسانس ، وأوفدته الجامعة في بعثة إلي باريس حيث حصل علي الدكتوراه وتزوج فرنسية حضرت معه إلي مصر وعين مدرسا بكلية الآداب وصار يكتب ويحاضر في الجامعة وخارجها ... واقتحم إلي ميدان السياسة وناصر حزب الوفد فاعتبر بذلك من المناوئين للسراي ... وألف مؤلفات في الأدب الجاهل والشعر الجاهلي كان لها ضجة في أنحاء البلاد ، واستطاع بذلك أن يبرز في المجتمع ، فحقق بذلك من آماله مالم يكن ليحققه لو أنه حصل علي العالمية وسلك طريقها ..

وكاد الأزهر في حملاته عليه أن يعصف به ويقضي عليه قضاء تامًا لولا أنه كان يأوي بانتسابه لحزب الوفد إلي ركن شديد .. ومع ذلك فإن الأزهر بعدائه له واستعداده للسراي استطاع في إحدى الفترات أن يفصله من الجامعة فاحتضنه الوفد وأوسع له من صحفه يحرر فيها بأسلوبه الأدبي الناقد مستغنيًا بذلك عن مرتب الجامعة .. ولكنه بعد كل هذا استطاع أن يرجع إلي الجامعة ويصير عميدًا لكلية الآداب وتبوأ علي المناصب حتى وصل إلي هذا المنصب الذي استحدث أجله تقديرًا لمكانته وإقرارًا بفضله . علي أن احتفاء حكومة في بلد كمصر – لاسيما في الزمن الذي نحن بصدده – بإنسان وإحلاله في أعلي المناصب وإضفاء الألقاب الرنانة عليه ، ليس دليلا علي فضله ولا علي جدارته ، فمثل هذه الحكومات إنما تستوحي قراراتها وتستلهم اختياراتها من إهواء شخصية أو عصبية حزبية أو توجيهات أجنبية ... ولست أقصد من هذا إلي الطعن في طه حسين أو الغض من مقدرته الأدبية أو الاستخفاف بمواهبه الفطرية ، فقد ألمحت إلي ذكائه ومكانته الأدبية ، ولكنني أحببت أن لا يولي القارئ اتجاهات الحكومات في ذلك العهد من الاهتمام والتقدير أكثر مما تستحق .

أما عن طه حسين نفسه فإنه .. مع ذكائه ونافد بصيرته – شاب طاردته أكبر جامعة دينية في بلده فتلقفته جامعات فرنسا ، وأوسعت له من وارف ظلها ، فأحس في ظلالها بترحاب لم يحط بشيء منه في بلده وتقلب في أحضان نعمة لم يذق مثلها في منشئه ، ولم تكتف فرنسا بذلك كله بل حبته أيضا قطعة من نفسها حتى يكون حيث كان ومعه روح فرنسا تسيطر علي بيته ونفسه وقلبه وعقله ، تلك هي زوجته ... ولولا أن طه حسين منطويًا علي قلب حصين – لأنه كان يحفظ القرآن منذ نشأته – لما كان مثله بعد ذلك إلا فرنسيًا مخلصًا . وضع طه حسين في هذه الأثناء كتابة " مستقبل الثقافة في مصر " ضمنه أراء فيما يجب أن تتجه إليه الثقافة في مصر ، وكان لهذا الكتاب دوي كبير في جميع الأوساط لاسيما الأوساط التعليمية والتربوية التي كان يعنيها موضوع الكتاب قبل غيرهم ، ولأن الكتاب كان دعوة صريحة إلي الاتجاه إلي الغرب بطريقة مزعجة فقد جاء في الكتاب ما يكاد يكون نصه " وأري أن نأخذ بالحضارة الغربية خيرها وشرها حلوها ومرها " .

وقد تناولت الكتاب أقلام النقاد بين قادح ومادح ، وسالت أنهار الصحف بهذا النقد ، فالمادحون هو الذين تربوا في أحضان الحضارة الغربية فهم بها مفتنون ، والقادحون كان أكثرهم من أعداء طه حسين التقليديين ... ولا أعتقد أن كتابًا في العصر الحديث في مصر استأثر باهتمام المشتغلين بالتربية والتعليم مثلما استأثر به هذا الكتاب ، للظروف التي صدر فيها والتي أشرت إلي ظرف منها . كنت في ذلك الوقت في عملي في مغاغة ، ولم تكن وسائل المواصلات ولا وسائل الإعلام قد تقدمت في بلادنا في ذلك العهد بعد ؛ فلم يكن الراديو قد انتشر في مصر أو قد وجد ، فكانت الأحداث التي تضطرب بها العاصمة قلما يصل من أنبائها إلي غيرها من البلاد لاسيما بلاد الصعيد ولولا أن هذا الكتاب قد ظهر وقرأت عنه وأنا أتردد علي القاهرة في أوائل أيام انتقالي إلي مغاغة لكنت كأهل الصعيد خالي الذهن عنه .. وصلني خطاب من الأستاذ المرشد يخبرني فيه أنه سيحضر لزيارة إخوان " سدس الأمراء " وأنه يريد أن أكون في انتظاره علي محطة " ببا " وحدد لي اليوم وموعد وصول القطار ...." وفي الموعد المحدد كنت والأستاذ شلبي ومجموعة من الإخوان في انتظاره ، وقد صحبناه إلي سدس الأمراء – وهي قرية من أعمال مركز ببا محافظة بني سويف .. وكان يومًا كريمًا من أيام الله ..

وفي أثناء ذلك انتهز الأستاذ فرصة كنت وإياه منفردين فقال لي : أتعرف يا محمود لماذا حرصت هذه المرة علي أن تقابلني ؟ قلت : لعله خير إن شاء الله . قال : إن عندي حديثًا يجب أن تعرفه وظروفك حالت دون أن تكون معنا لتشهده . قلت متشوقاً : وما عساه أن يكون ؟ قال : لعلك طبعًا علمت بما كان من أمر كتاب الدكتور طه حسين الذي أصدره أخيرًا عن " مستقبل الثقافة في مصر " وما تناولته الصحف من نقده ، قلت نعم ... قال : لقد بلغني أن الرجل لم يكترث بكل ما كتب وأنه مصمم علي وضع آرائه في الكتاب موضع التنفيذ باعتباره " مستشار الوزارة " ولم أكن لضيق وقتي قد اطلعت علي هذا الكتاب بعد .. وقد اتصل بي بعض أصدقائنا من الغيورين وطلبوا إلي أن أنقد الكتاب .. فلما قلت لهم إنني لم أطلع عليه قالوا : إنه لم يعد هناك وقت وكان يجب أن تكون قد قرأت الكتاب فقد ظهر منذ عدة أشهر والدكتور طه حسين لم يكترث بكل ما كتب وبكل ما قيل وقد قرر وضع الكتاب موضع التنفيذ ، ولا ينبغي أن يكون هناك تغيير جذري في سياسة البلد الثقافية دون أن يقول الإخوان كلمتهم قال : ولم يكتفوا بذلك بل أخبروني أنهم حددوا موعدًا في دار الشبان وطبعوا الدعوات وكان الموعد بعد خمسة أيام . قال الأستاذ : ولم أكن أستطيع التحلل من مواعيد كنت مرتبطًا بها في خلال هذه الأيام الخمسة فلم أجد وقتًا أخصصه لقراءة هذا الكتاب إلا فترة ركوبي الترام في الصباح إلي مدرستي وفترة رجوعي منها في الترام ، قال : فقرأت الكتاب – لأنه لم يكن كبيرًا– وكنت أضع علامات بالقلم الرصاص علي فقرات معينة..ولم تمض الأيام الخمسة التي كنت قد استوعبت الكتاب كله .

قال الأستاذ : وفي الموعد المحدد ذهبت إلي دار الشبان فوجدتها – علي غير عادتها – غاصة .. والحاضرون هم رجالات العلم والأدب والتربية في مصر ، ليس من هو دون هذا المستوي .. ووقفت علي المنصة واستفتحت بحمد الله والصلاة والسلام علي رسول الله ، وبجانبي الدكتور يحيي الدرديري السكرتير العام للشبان المسلمين : ورأيت الكتاب كله منطبعًا في خاطري بعلاماتي التي كنت علمتها بالقلم الرصاص ... قال وبدأت أول ما بدأت فقلت : إنني لن أنقد هذا الكتاب بكلام من عندي وإنما سأنقد بعضه ببعضه .. وأخذت – ملتزمًا بهذا الشرط – أذكر العبارة من الكتاب وأعارضها بعبارة أخري من نفس الكتاب .. ولاحظ الدكتور الدرديري أنني في كل مرة أقول " يقول الدكتور طه حسين في الكتاب في صفحة كذا وأقرأ العبارة بنصها من خاطري ثم أقول ويناقض الدكتور طه نفسه فيقول في صفحة كذا وأقرأ العبارة بنصها أيضًا من خاطري ، فاستوقفني الدكتور الدرديري ، وطلب إلي أن أمهله حتى يحضر نسخة من الكتاب ليراجع معي النصوص والصفحات لأنه قرأ الكتاب ولم يلاحظ فيه هذا التناقض وكأنه لم يقرأ العبارات التي يسمعها الآن .

وأحضر له الكتاب ، وظل يتابعني فيجد العبارات لا تنقص حرفًا ولا تزيد حرفاً ، ويجد الصفحات كما أحددها تمامًا ، فكاد الدكتور الدرديري يجن كما ساد الحاضرين جو من الدهشة والذهول ، والكل يتجه – كلما قرأت من خاطري عبارتين متناقضتين – إلي الدكتور الدرديري كأنهم يسألونه : أحقاً هذه العبارات في الكتاب ؟ فيقول الدكتور الدرديري في كل مرة " تمامًا بالنصوص والصفحات " . قال الأستاذ وظللت علي هذه الوتيرة حتى أنهيت الكتاب كله وأنهيت المحاضرة .... فقام الجميع وفي مقدمتهم الدكتور الدرديري بين معانق ومقبل . قال الأستاذ : ولما هممت بالانصراف رجاني الدكتور الدرديري أن أنتظر برهة لأنه يريد أن يسر إلي حديثاً ، واقترب مني وأسر في أذني سرًا تعجبت له قال : لما نشرنا عن موضوع محاضرتك وموعدها اتصل بي الدكتور طه حسين وطلب إلي أن أعد له مكانًا في هذه الدار يستطيع فيه أن يسمع كل كلمة تقولها دون أن يراه أو يعلم بوجوده أحد فأعددنا له المكان وحضر المحاضرة من أولها إلي آخرها ثم خرج دون أن يراه أو يعلم به أحد .

قال لي الأستاذ المرشد : وفي اليوم التالي ، طلب الدكتور طه حسين بمكتبه بوزارة المعارف الأستاذ أحمد السكري وقال له : أحب أن ترتب لي اجتماعًا بالأستاذ حسن البنا في أي مكان بحيث لا يكون معنا أحد وبحيث لا يعلم به أحد ، وليكن هذا المكان في بيته أو بيتي أو في مكتبي هنا ، فليختر واحدًا من هذه الأمكنة . قال الأستاذ : وأبلغني الأستاذ أحمد السكري بذلك فريت أن يكون الاجتماع في مكتبه بالوزارة . قال : وبدأ الدكتور طه الاجتماع بقوله : لعلك يا أستاذ حسن لا تعلم بأني حضرت محاضرتك وبأنني كنت حريصًا علي حضورها وعلي الاستماع إلي كل كلمة تقولها لأنني أعرف من هو حسن البنا ، وأقسم لك لو أن أعظم عظيم في مصر كان في مكانك ما أعرته اهتمامًا .... قال لي الأستاذ المرشد : فشكرته ثم سألته عن رأيه في المواضع التي وجهت النقد إليها في الكتاب وهل لديه من رد عليها ؟ .

قال الدكتور طه : ليس لي رد علي شيء منها ، وهذا نوع من النقد لا يستطيعه غيرك ، وهذا هو ما عناني مشقة الاستماع إليك ،ولقد كنت استمع إلي نقدك لي وأطرب ... وأقسم يا أستاذ حسن لو كان أعدائي شرفاء مثلك لطأطأت رأسي لهم ، لكن أعدائي أخساء لا يتقيدون بمبدأ ولا بشرف ، إن أعدائي هو الأزهريون ، وقد ظنوا أنهم يستطيعون أن يمحوا أسمي من التاريخ ، وقد كرست حياتي لإحباط مكايدهم ، وهاأنذا بحمد الله في الموضع الذي وتتقطع أعناقهم دونه ... ليت أعدائي مثل حسن البنا إذن لمددت لهم يدي من أول يوم . ثم قال الدكتور طه : هل هناك سوي ذلك مما قد تختلف عليه مما تعرفه عنه ؟ .

قلت : هناك قضية العلم والدين ، إنكم تنادون بأن يكون الدين في خدمة العلم ،و هو الرأي الذي تقوم عليه الحضارة الحديثة في الغرب ... وهذا الرأي خاطئ لأن معناه أنه إذا اصطدم الدين مع العلم في أمر من الأمور نبذ الدين واتخذ العلم دينًا . يجب الفصل بين العلم والدين ، لأن الدين حقائق ثابتة والعلم نظريات متطورة ، فإذا ألبسنا العلم ثوب الدين جمدنا العلم ، إذا نحن أخضعنا الدين للعلم ، فلسفنا الدين ف