الجزء الأول من أحداث صنعت التاريخ

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ

للأستاذ / محمود عبد الحليم

المقدمة

الحمد لله رب العالمين ، وصلاة الله وسلامه علي رسوله الكريم ؛ محمد الذي أرسله إلي الناس كافة منقذًا ومصلحًا ومبشرًا ونذيرًا ، وأنزل عليه الكتاب الذي وصفه فقال :

" ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين " ، " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرًا من الناس لفاسقون ، أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكمًَا لقوم يوقنون ؟ " .

وبـعـد :

فإن دعوة الإخوان المسلمين هي صدي الدعوة الأولي وليست بالدعوة المستحدثة ، فهي طور من أطوار الدعوة الإسلامية ظهرت في هذا القرن بظهور حسن البنا سنة 1928 .. وتتأهب في أيامنا هذه لطور جديد .

والذي بين دفتي هذا الكتاب ليس تاريخًا لهذه الدعوة ،وإنما هي جوانب منها عاصرتها وشاركت في أحداثها وكنت جزءًا منها .. ولا أدعي أن هذه الجوانب هي كل جوانبها .

ولا يستطيع أحد أن يدعي لنفسه مثل ذلك ، في دعوة بلغت من اتساع الرقعة حدًا يقصر عن الإحاطة بمداه نظر ناظر واحد – مهما قوي بصره – وتشعبت تشعبًا متابعته في كل اتجاه أمرًا مستحيلاً ، فحسب كل نظر أن يصف ما وقع في مجال نظره ، وحسب كل ذي موقع فيها أن يتحدث عما مكنه موقعه من الإحاطة به .. وبعد أن يصف الجميع ما رأوا ، وبعد أن يتحدث جميع ذوي المواقع فيها عما أحاطوا ، يأتي دور المؤرخين الذين يجمعون كل ما رأي الراءون وتحدث المتحدثون ليخرجوا من مجموعه بتاريخ لهذا الطور من أطوار هذه الدعوة .

والذي يتمرس هذا الطور من الدعوة الإسلامية سيجد نفسه أمام سلسلة متداخلة الحلقات من الأحداث ، وأقصد بالتداخل أنها ليست أحداثًا مترادفة يتلو بعضها بعضًا ، فكلما انتهي حدث بدا آخر ، بل إن أكثر من حدث قد يقع في وقت واحد ، ذلك بأن هذه الدعوة تعمل في أكثر من جبهة .. ومن هنا رأيت أن أقرر للقارئ – بادئ ذي بدء – حقيقة يجب أن أقررها هي أنني حين أكتب هذه الصفحات لن أكون مؤرخًا يجمع شتات الأحداث ، ويجري وراءها حيث كانت حتى لا يفلت منه شيء ، وإنما أنا أكتب عن أحداث وقعت بين يدي وشاركت فيها .. وقد أكون خالفت هذه القاعدة في نقطتين اثنتين : أولاهما ما كتبته عن أيام الدعوة في الإسماعيلية ، وقد راعيت فيه الاختصار التام ، وقد سمعته من الأستاذ الإمام نفسه ، والأخرى بطولات الإخوان في حرب فلسطين سنة 1948 ، وقد أثبت في بابها أني نقلت أكثر ما كتبته عنها من كتاب الأخ الكريم الأستاذ كامل الشريف الذي كان من كبار قادتها .

وتحليل الأحداث ، وإبداء الرأي في القضايا ، أمر لا مفر منه لإنسان عاصر هذه الأحداث وباشر هذه القضايا ، ولكن ليس من حقي أن أقرر أن تحليلي هو التحليل الأوحد ، وأن رأيي هو الرأي الأصوب ، فلكل إنسان أسلوب في التحليل ، ورأي فيما يعالج من قضايا .. وحسبي أنني بسطت المواضيع ، وألقيت الأضواء علي الظروف والملابسات ، وكشفت القناع عن كثير مما غشيه الغموض .. وهذه المعلومات الكافية لتغذية القوة الحاسبة في العقل البشري لتخرج لك الحكم الصحيح والرأي السديد . وليس المقصود من تسطير ما سطرت ، ومن سرد ما أوردت ، ومن الإشارة فيما أوجزت ومن الإفاضة فيما أسهبت .. هو إمتاع القارئ بقصة طولها خمسون عامًا ، يملأ بها فراغ وقته ، ويزيد معلوماتها مخزون علمه ، وإنما المقصود من ذلك أن أبرز له صور محددة المعالم للفكرة الإسلامية ، وأوضح له كيف حمل الفرد المسلم أعباء هذه الفكرة ، وكيف أخذ بها نفسه ، وكيف خاطب بها مجتمعه ، وأبين له كيف تلقت المجتمعات هذه الفكرة : فمجتمع الأكثرية المغلوبة علي أمرها من الفقراء والضعفاء ، تلقوها بترحاب ، ومجتمع الأغنياء والمترفين والحكام تلقوها برفض وصلف ، ومجتمع ذوي المصالح من المستغلين والمستعمرين تلقوها ومكر وتآمر – وأجل له الأسلوب الذي واجه به حامل هذه الفكرة هذه المجتمعات ، والصراعات التي نشأت خلال هذه المواجهات ، وكيف اشتدت ، وكيف احتدمت ، وكيف تفاقمت ، وإلي أية نهاية انتهت .

وقراء هذه المذكرات من أبنائها من هذا الجيل الجديد ، سيجدون أنفسهم حين يقرأونها أمام أحداث وشخصيات لا عهد له بأكثرها .. فهل يصرفهم ذلك عن قراءتها أم يكون ذلك حافزًا لهم علي الإقبال عليها واستيعابها ؟ .. فإذا صرفهم ذلك عن قراءتها فسيكون ذلك دليلا علي أن المؤامرة العالمية ضد الدعوة الإسلامية قد تم لها النجاح ، واكتملت لها أسباب الفوز ، فإن الحلقة الأخيرة في سلسة هذه المؤامرة هي إسدال ستار كثيف علي هذه الأحداث وعلي هذه الشخصيات ، ومحاولة محوها من صفحة التاريخ ، وإذا لم يكن بد من إبراز بعضها فليكن إبرازه في صورة مقلوبة أو مشوهة علي الأقل .. ذلك أن مدبري المؤامرة العالمية حريصون كل الحرص علي أن لا يعرف هذا الجيل والأجيال التي تليه أن هذه الأحداث هي التي صنعت التاريخ الذي يعيشونه .

ومن نافلة القول أن نقول : إن شعبًا يجهل حقيقة ماضيه محال أن يتطلع إلي مستقبل مشرق . والمعلومات التاريخية لا تؤخذ عن الطريق الرسمي ، لأن حرص الحكام علي استبقاء أزمة السلطة في أيديهم وفي أيدي شعبيتهم من بعدهم ، يدفعهم عادة إلي صياغة للتاريخ بالأسلوب الذي يحقق أمانيهم ويظهرهم في أعلي قمم العدالة ، ويظهر منا في أدني درك من الخسة والنذالة .. وهم لا يقتصرون في الصياغة علي تزوير الأحداث التي تجري في أيامهم فحسب ، بل تمتد أيديهم إلي الأحداث التي سبقتهم فيعلمون فيها المسخ والتزوير . ولو ادارك علمهم في أحداث المستقبل لزوروها لحسابهم .. ولكنهم مع قصور علمهم بأحداث المستقبل يتقون في أنهم سيطرون عليها بما زوروا من أحداث أيامهم وأحداث سابقيهم ؛ فعقول الجيل التي صيغت بالمعلومات المزورة ، وتشتت عليها وملئت بها أن تبني مستقبلها إلا علي ضوء ما ملئت به من زيف وتزوير ..

ومن هنا كان الخطر الداهم والكارثة المروعة .. ومكمن الخطر والترويع في ذلك أن هذا الجيل حين يتجه بمستقبل بلاده إلي الهاوية – إكمالاً للخط الذي رسم له في ماضيه وحاضره – يتجه واهمًا أنه متجه إلي الأمن والسلامة ؛ فهو لا يلتفت إلي محذر ، ولا يستمع إلي ناصح .. وأمثال هؤلاء أنبأنا القرآن عنهم وحذر انحدارهم إلي الهاوية وهم غافلون فقال وقل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا ؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " .

وإذا كان الله عز وجل قد تكفل لكلمة الحق أن لا تطفأ شعلتها وأن لا يخبو ضوءها ، فهذا شأنه سبحانه وهذه مشيته .. أما أن يكشف معصوبو العيون العصائب عن أعينهم ليروا هذه الكلمة فهذا شأن آخر تركه سبحانه لعباده إن شاءوا رفعوها فرأوا ، وإن شاءوا أبقوا عليها وتشبثوا بها فظنوا في ضلالهم سادرين " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " وقد رتب علي هذا التخيير الثواب والعقاب وحدد يومًا للحساب " إنا أعتدنا الظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها " كما تحيط العصابة – التي يتشبثون بها – بأعينهم لتحاصرهم عن رؤية الحق وهم بذلك راضون وعن الحق ناكبون .

ومما ينبغي أن يعلمه القارئ أن هذه الدعوة .. علي مكانتها بين دعوات العالم ، ومع صراعها مع الظلم والطغيان في الداخل والخارج طيلة خمسين عامًا – فإنها لم تعن بجانب التسجيل عناية كافية والله لا يحس بخلوها من هذه الناحية الهامة إلا من عرض نفسه – لتسجيل أحداثها .. وقد يعزي ذلك إلي أن هذه الدعوة قد تملكت من أول يوم أفئدة من آمنوا بها وعاهدوا علي العمل لها ، بحيث لم تدع لأحد منهم فرصة يخلو فيها إلي نفسه ، أو يخلد فيها إلي راحته ، فهو دائب الحركة ، يواصل الليل بالنهار ، متنقلاً بين المجتمعات ، غارقًا في محادثات ومناقشات ، عاكفًا علي إعداد خطط ومناهج .. حتى إذا أوي إلي فراشه منهكًا لا تكتحل عيناه بنوم حتى تجتر مخيلته ما عاني طول يومه من حقوق الدعوة عليه .. ويصحو من نومه حين يصحو علي ما أوي إلي فراشه عليه من التفكير في الدعوة وحقوق اليوم الجديد ، فهو في سباق مع الزمن ، لا يفرغ لحظة من ليل أو نهار .. فأني لهؤلاء أن يسجلوا ؟! .

ثم كانت أحداث جسام ، وظلمات طال ليلها ، وقهر وكبت وتعذيب وإعنات .. طال الأمد علي الكلمة المسجونة في أغوار الذاكرة من عشرين عامًا ، حتى بات استخراجها منها أمرًا عسيرا ، واختلطت الكلمات في سجنها بعضها ببعض بفعل الزمن حتى لا يعد صاحب الذاكرة يعرف أيها السابق وأيها اللاحق ، وتداخلت التواريخ ، وأصبح صاحب الذاكرة علي خطر عظيم .

هذه حقائق مرة واجهتها في أول يوم أمسكت فيه بالقلم لأسجل أحداثا لهذه الدعوة عاصرتها وشهدتها وساهمت في الكثير منها .. وجدت مخزون ذاكرتي علي ما صورت ، وحاولت الرجوع في شأن هذه الأحداث إلي مرجع فوجدت الساحة خاوية الوفاض .. أغفل الإخوان في غمرة لذاتهم في دعوتهم أن يولوا ناحية التسجيل أدني اهتمام .. ثم أتت يد الإثم والعدوان من عربدة الحكام علي الوثائق والمحررات والصحف في كل مكان خاص وعام ، فلم يبق شيء يرجع إليه أو يعتمد عليه .. حتى المكتبات العامة جردوها من كل ما يمت إلي هذه الدعوة بصلة .

وبالرغم من طول الأمد ، وترادف الأرزاء ، وانقطاع الصلات ، فإن الأحداث التي عاصرتها لم تند عن خاطري لأنها كانت فلذة من كبدي ، وقطعة من ذات نفسي ، وجزءًا من أعصابي ودمي ؛ فكيف أنساها ؟ .. ولكن الذي أعياني هو الترتيب الزمني لبعض هذه الأحداث وهو أمر جوهري لا غني عنه لمن أراد يسجل أحداثاً . ولم أجد أمامي إلا مراجعة الصحف اليومية التي صدرت في خلال أربعين عامًا مضت .. وقد عكفت علي مراجعة هذه الصحف ردحًا طويلاً من الزمن ، فوجدت فيها طلبتي في الترتيب الزمني لما في خاطري من أحداث .. ولقد أفدت من مراجعتي هذه الصحف فائدين ، أولاهما ترتيب الأحداث كما قدمت ، والأخرى نصوص بعض المذكرات والخطابات .. ومما يدل علي أن جانب التسجيل لم ينل حظه في دعوة الإخوان المسلمين ظهور كتاب في هذه الأيام يضم مذكرات الدعوة والداعية ، للأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله ، فقد جاءت هذه المذكرات برهانًا قاطعًا علي إغفال هذه الناحية الهامة ، فلم يسجل في هذه المذكرات عشر معشار ما مر بصاحبها من أحداث ، ولم يكن – رضي الله عنه – عاجزا من تسجيلها وتحليلها ولكن هكذا شاءت الأقدار .

وهذا الفراغ في ميدان التسجيل الذي رأيت دعوة الإسلام في هذا القرن تعانيه هو الذي دفعني إلي النهوض بهذا الواجب ملأ لجزء من هذا الفراغ ، وأداء لحق هذه الدعوة علي .

وإعذارًا إلي الله في حق هذا الجيل والأجيال القادمة . ولقد تعرضت في هذه المذكرات لمعالجة نقاط ذات حساسية بالغة ، ربما تحاشي الكثيرون التعرض لها ، وحاولوا تفاديها . ولكنني آثرت التعرض لها مدفوعاً إلي ذلك بدوافع منها :

أن هذه النقاط – مهما بلغت درجة حساسيتها – هي جزء من تاريخ هذه الدعوة ، وكان لها آثار عميقة في هذا التاريخ ، وما كان ينبغي لعارض أحداث تاريخ أن يغفل جزءًا منه استحياء من ذكره أو طمسًا لمعالمه ، أو إهانة للتراب عليه حتى لا يراه الناس .. والتاريخ كما يقولون – لا يرحم . فإذا تعافي عنه أصحابه وأغفلوا فسيتولى نشره غيرهم .. وحينئذ لا يلام الناشرون إذا هم نشروه مشوهاً أو محرفاً .

ومن هذه الدوافع أنني كنت أكثر الناس ملابسة لهذه النقاط ، وأشدهم اتصالا بها ، وأقربهم رؤية لحقائقها ، فكان لزامًا علي أن أتعرض لها لأكشف النقاب عن كثير مما غاب عن الرائين ، وأن أميط اللئام عما خفي من ظروفها وبواعثها ، وأن أقضي حق للتاريخ في تمحيصها وتجليتها . ودافع ثالث هو أن ألفت النظر – نظر أصحاب الدعوات وأتباعها من الأجيال القائمة والأجيال القادمة – إلي أن إطلاق العنان للعواطف – مهما نبلت من العواطف ومهما حسن مقصدها – قد يجني علي الدعوات ومجتمعاتها .

وأن السبيل الأقوم دائما فيما يتصل بالمجتمعات هو الاقتصاد في العواطف والسيطرة عليها والحد من انطلاقها . كما ألفت نظر القائمين علي شئون الدعوات الشريفة إلي أن تعلق نفوسهم بأبهة المناصب فيها ، ومحاولة الاستئثار بمواقع السلطة والنفوذ بها ، وقد يكون عاملا مدمرًا لهم ولها .. وأن هذه الدعوات لا يصلح لها إلا من يهبها قلبه كله ووجدانه كله .. أما الذين يتذبذبون بين نداء دعوتهم ونداء مصالحهم الشخصية أو العائلية ، فسرعان ما تشدهم الجاذبية الأرضية بمغرياتها فيهوون إلي القرار " واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلي الأرض واتبع هواءه .

ولما كانت الدعوة الإسلامية دعوة عالمية ، لم تأت لتخاطب طائفة معينة ، ولا لتعامل فئة محدودة ، ولا لنعالج قضايا زمن خاص أو مكان محدد ، فقد كان عليها أن يكون كتابها منشور لا يخفي صغيرة ولا كبيرة دون أن يبرزها بين يدي العالم كله .. فلا حجب ولا أسرار ، ولا خصوصيات يحتفظ بها وراء أستار .. ولقد تعرض القرآن الكريم نفسه لأحداث هي من أخص خصوصيات محمد صلي الله عليه وسلم وأسرته ، قد يتحاشى الكثيرون إذا وقع لهم مثلها أن يسمحوا بذكرها بل يحاولون إخفاءها حتى لا يطلع عليها الناس .. ولكن القرآن تناولها في آياته التي تتلي ليل نهار ، بل تناولها بالبسط والإسهاب وبالتحليل والتفصيل والتعقيب ، وخرج منها بقواعد عامة تنتفع بها المجتمعات .. وما نبأ حادثة الإفك ببعيد .

وقد يكون من حق القارئ أن أعتذر إليه فيما قد يلاحظه في الصفحات الأولي من هذه المذكرات من أسلوب هو أقرب إلي الهدوء منه إلي الإثارة ... ذلك أنني .. كما قدمت – لست أتخير موضوعات لمجرد الإمتاع ، وإنما أنا ملتزم بالتمشي مع هذه الدعوة في أطوارها . فإذا كانت الدعوة في مهدها لا تزال تخطو حابية وئيدة – كدأب كل كائن وليد – فما كان لي أن أنتحل لهذا الوليد ما ليس من طبيعته وما هو فوق طاقته .

وعلي القارئ أن يوطن نفسه علي أن الذي بين يديه في هذه المذكرات تاريخ حياة لا قصة من نسج الخيال ، ولكل طور من أطوار الحياة وخصائص ، فلا يتعجل ما ينشد من أحداث مثيرة ، فإن الوليد الذي تضرب فوقه الكلل ، وتسدل من حوله الستائر ، لن يلبث حين يشب أن ينبثق عنه فارس مغوار يأتي بالعجب العجاب ، ويأخذ بالقلوب والألباب .

وهناك قضية جديرة أن يضعها القارئ موضع التمحيص والمناقشة ؛هي أن يجنح كاتب المذكرات في ثنايا تسجيله لأحداث الدعوة ، ومواقعها إلي تناول بعض جوانب حياته ومعالم شخصيته .. فهل في هذا ما يمد خروجا عن الموضوع ، وانتقالاً بالقارئ من ميدان هيأ نفسه وفكره لاستطلاعه إلي ميدان آخر لا يعنيه أمره ؟ .

أما أنا فأعتقد أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الأمثل في كتابة المذكرات بل وفي تأليف الكتب عامة ، فإن القارئ حين يقرأ كتابا لا يعرف عن مؤلفه إلا اسمه ، يكون كالغريب الذي يرتاد مدينة واسعة الأرجاء ، مترامية الأطراف ، لا عهد له بها ، دون دليل معه من أهلها ، فقد يضرب في شوارعها وحاراتها وأزقتها علي غير هدي ، وقد يري من معالمها ما تقع عليه عيناه ، وقد يأوي في النهاية إلي مأوى فيها .. ولكنه في ذلك كله لا يشعر بألفة ولا بائتناس ، ولا يخرج بصورة واضحة عنها – أو يكون الذي يتخذ طريقه في الظلام بغير مصباح يكشف له معالمه ، ويدخل الاطمئنان إلي نفسه ، فهو يخطو ما يخطو متوجسًا خائفاً .

فتقديم المؤلف نفسه إلي قارئه ، وكشفه له عن بعض جوانب نفسه ، وإلقاء الضوء بين يديه عن شيء من معالم حياته .. يدخل الأنس إلي نفس القارئ ، ويبعث روح الألفة بينه وبينه ، فيسير في قراءة الكتاب وقد عقد مع المؤلف صداقة أتاحت لهما أن يكونا متلازمين في رحلة طولها طول الكتاب .. وكلما قرأ عن مؤلف أو حدث أو فكرة قرأها وهو يري جذورها التي تنبت منها وبذورها التي انفلقت عنها ، فلا تكون القراءة في هذه الحالة قراءة سطحية لا يصل أثرها إلي أعماق النفس . ثم إن حياة الدعوات ليست إلا حياة رجالها ودعاتها . والفصل بين حياتهم وحياتها أمر غير مستطاع لاسيما إذا كانت الدعوة قد شكلت حياتهم ، وسيطرت علي كل تصرفاتهم حتى فنوا فيها فصاروا وإياها كما قال الشاعر :

ومازلت إياها وإياي لم تزل

ولا فرق بل ذاتـي لذاتـي أحبت

وموتي بها وجدًا حياة هنيئة

وإن لم أمت في الحب عشت بغصة

وتقع هذه المذكرات بطبيعة موضوعها في ثلاثة أجزاء .. يعالج الجزء الأول منها الدعوة في عهد المرشد الأول ، ويعالج الجزء الثاني منها الدعوة في عهد المرشد الثاني ، ويعالج الجزء الثالث الدعوة فيما بين العهدين . ولما شرعت في تبويب الجزء الأول لاحظت أن أطوار الدعوة فيه مرتبطة بالأمكنة التي شغلها العام فجاءت بذلك أربعة أبواب . وقد وطأت المذكرات بمدخل قدمت فيه نفسي إلي القارئ ، وأومأت إلي تأثير نشأتي في اتجاهي الذي انتهي بي إلي دعوة الإخوان المسلمين ، والطريق الذي سلكته إليها .

علي أنني وقد طرقت باب التسجيل في دعوة الإخوان المسلمين ، لا أدعي أنني ألمعت بكل شيء وحتى القليل الذي ألممت به لا أدعي أنني أوفيت فيه علي الغاية .. ولكنه جهد المقل .. وحسبي أن تحسست الطريق وارتدته لمن يرغب في سلوكه من بعدي .

والله تعالي أسأل أن يجعل هذا المجهود لوجهه ، وأن يتقبله فيما يتقبل من العمل الصالح ، وأن يرفعه وينفع به ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول ، وإنه نعم المولي ونعم النصير .

محمود محمد عبد الحليم

الإسكندرية 5 من شهر ربيع الأول 1398

12 من فبراير 1978


المدخـل

إلي متى تمضي بنا الأيام والسنون وعامل التسويف هو العامل المتصرف في حياتنا وأعمالنا ؛ فنفكر ثم نعزم ثم يقول عامل ما فنؤجل ، وتمضي الأيام سراعًا – وليتها تمضي مليئة بالعمل – ثم نتذكر فنفكر ، ونعزم ثم يكون التأجيل ... وما هو العمر حتى يتسع لعشرات من هذه الدورات التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ ؟! ..

وقد لا يكون موضوع التفكير والعزم مثيرًا وهامًا لأن أصحابه لم ينتهوا إلي النهاية المثيرة التي تستحق الإعجاب وتثير الاشتياق ؛ إلا أن الحكم بمجرد النهاية قد لا يكون حكمًا قاصرًا وظالمًا ، فقد يكون استعراض سلسلة الأحداث مما يغير رأي الذين لا ينظرون إلا إلي النهايات وحدها .... ثم إن اعتبار الهزيمة نهاية أمر فيه نظر ، فانهزام الأشخاص في حياة الدعوات واختفاؤها تحت التراب زمنًا حتى تطأها أقدام الغافلين طورًا من أطوار حياتها لا تستقيم حياتها إلا به .... وهذه ظاهرة فيما أعتقد وأعلم تلازم كل الدعوات علي اختلاف أهدافها وأفكارها .. وقد اعتبرها الإسلام سنة لم يستثن نفسه منها ؛ فتاريخ الدعوة الإسلامية منذ بزغ نوره تنتابه هذه السنة ... فمصباحه بين التبلج والخفوت حتى يظن أنه انطفأ .

والدوافع التي وراء المؤامرات التي تدبر للدعوة الإسلامية تنحصر عادة وتنبع دائمًا من حسب السيطرة الذي يستولي علي نفوس بعض الحكام سواء أكانوا من المنتسبين إلي الإسلام بحكم مولدهم أم كانوا من غير المسلمين ، يجد هؤلاء في الدعوة الإسلامية العقبة الكبرى أمام تحقيق مطامعهم في السيطرة لأن الإسلام بطبيعته ما جاء إلا لتحرير الإنسان والقضاء علي الاستبداد والاستعباد لغير الله .

ولتوضيح ذلك يجمل بنا ونحن في مستهل الحديث عن طور من أطوار الدعوة الإسلامية أن نحاول تصوير هذه الدعوة تصويرًا مجملا ، مبرزين الخطوط العريضة المسكونة لهيكلها فنجدها ثلاثة هي :

أولا :العقيدة ثانيا : العبادة ثالثا : المعاملة .

أولا : العقيدة

هي حجر الأساس وهي الركيزة العظمي التي لا قيام للدعوة الإسلامية إلا عليها ، كما لا قيام لأية دعوة إلا عليها ... ولكل دعوة سواء أكانت دينًا سماويا أو وضعيا عقيدة ، وعلي قدر سلامة العقيدة ينجح العمل المبني عليها .. ونقصد بسلامة العقيدة موافقتها للفطرة للعقل والمنطق ، ومجافاتها للأوهام والتعقيد ، وتجاوبها مع الفطرة السليمة .

وعقيدة الإسلام لله وحده ، هي ما نزل وما دعا إليه كل نبي ورسول سبق نبينا ، فهي نفس عقيدة المسيح عيسي وعقيدة موسي وعقيدة إبراهيم " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل علي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " لا أن أطماع الدنيا وتسلطها علي نفوس من آلمت إليهم أمور الإفتاء في شئون الدين بعد الأنبياء فعلت فعلها فجعلت من هؤلاء الورثة أداة طيعة في أيدي المستبدين من الحكام فحرفوا في كتبهم وأخفوا منها وزادوا عليها حتى يستقر الأمر لهؤلاء الطغاة من الحكام " وقطعناهم في الأرض أممًا منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون .

فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ، ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا علي الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " .

وكيف يستطيع حاكم مستبد أن يحكم قومًا وفي أعماق كل رجل منهم وامرأة وطفل مناد يهتف بهم في كل وقت من ليل أو نهار أن لا خضوع إلا الله وأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأن لا خوف إلا من الله وأن لا فضل إلا من عند الله " قل أغير الله أبغي ربًا وهو كل شيء " ، " وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو علي كل شيء قدير " ، " قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السموات والأرض وهو يُطعم ولا يطعَم " ، " أليس الله بكاف عبده ويخوفك بالذين من دونه " ، " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " . " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " .

والعدالة بين الطغاة من الحكام وبين العقيدة الإسلامية مستحكم من قديم ، فهذا الحاكم المستبد الذي أحسن خطورة هذه العقيدة علي استبداده فاستدعي " إبراهيم " عليه السلام وهو في غرور سلطته وأدار معه حوارًا علي النحو الذي ورد في الآية الكريمة " ألم تر إلي الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " وينهزم الحاكم المستبد حين يدخل مع العقيدة الإسلامية في الحوار فيطيش صوابه ولا يجد في حصته إلا البطش والإرهاب فيأمر بإحراق صاحب هذه العقيدة لعلها تحترق باحتراقه وتبيد ويستريح منها ولا يجد أمام استبداده عائقًا يقف في وجهه " وإبراهيم إذ قال لقومه أعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون .

إنما تعبدون من دون الله أوثانًا وتختلفون إفكًا ، إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون " ، " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو احرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين " .

والقارئ حين يقرأ قصة موسي وفرعون ويري القرآن يقلبها بين صفحاته وفي ثنايا سوره علي كل وجه من وجوهها ليبرز من معاني الظلم والاستبداد ومن ألوان الزهو والكبر والغرور من فرعون وحاشيته ومن أفانين الاضطهاد والتعذيب وأصناف التنكيل والإبادة الموجهة إلي العقيدة الإسلامية التي كان يحملها في ذلك الوقت قلة من بني إسرائيل ... هذا القارئ سيبين له لماذا يكن الملوك المستبدون والحكام الطغاة الكراهية لهذا الكتاب ولماذا يحيكون ضده المؤامرات فهو يؤجج ثورة عارمة ضد كل مستبد ظالم " طسم .

تلك آيات الكتاب المبين . نتلو عليك من نبأ موسي وفرعون بالحق لقوم يؤمنون . إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم إنه كان من المفسدين .

ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " .

ورسالة موسي رسالة واضحة صريحة ، لا تخرج عن كونها دعوة لإنقاذ شعب اضطهده حاكم مستبد لا لشيء لأنه مستمسك بعقيدته التي تتعارض وطغيان هذا الحاكم " فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين . أن أرسل معنا بني إسرائيل " . ويحس فرعون من موسي قوة وصلابة فيحاول استمالته فيقول له " ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " ... وقد يلين الرجل إذا ذكر بهذا الفضل الذي لا يجحد في كل موقف إلا في موقف واحد هو موقف يتعلق بالعقيدة التي لا مساومة عليها فيرد عليه موسي فيقول " فعلتها إذن وأنا من الضالين . ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكمًا وجعلني من المرسلين ثم يقرر موسي مبدأ خطيرًا بأن استعباد الناس جريمة يذهب مع فظاعتها كل فضل أتاه المستبد فيقول " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ".

ولسنا بصدد السير مع قصة موسي وفرعون بكل الوجوه التي قلبها القرآن ، فإن ذلك مجال جد فسيح ن وإنما قصدنا إلي إيراد وجه من هذه الوجوه لندرك منه مدي خطورة هذه العقيدة علي طموح المستبدين وآمال الطغاة الظالمين ، وكيف أن هذا الكتاب بما جاء به من عقيدة هو تحد دائم لا ينشي وسيف مصلت لا ينثلم وحده في وجه الطغيان والاستبداد .

ثانيا : العبادة

لاشك في أن العبادة وليدة العقيدة ، وكل عبادة ليست وليدة عقيدة إنما هي نوع من النفاق لأن العبادة هي اقوي أنواع مظاهر الاعتراف بالفضل ، ومظاهر الاعتراف بالفضل كثيرة متنوعة ، ولكن قمة هذه الأنواع الاعتراف بالعبودية لصاحب الفضل .

ويحث الإسلام الناس على الاعتراف بالفضل للمخلوقين بجميع مظاهر الاعتراف إلا بمظهر العبودية الذي حرمه على الناس ألا لله وحده وجعل الاعتراف بمظهر العبودية لغير الله شركا لا يغفره الله (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر من دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد أفترى إثما عظيما )) (النساء 48) .

والمقصود من العبادة أولا أن يرى الله تعالى من عباده مدى امتثالهم لأمره . والامتثال هو نوع من الطاعة إلا أنه أعلى درجاتها ؛ فإذا كانت الطاعة هي تنفيذ الأمر فيما يسيغه العقل ويسلم به المنطق فإن الامتثال هو الصدوع بالأمر لمجرد أنه أمر ، وكل مبرراته الثقة الكاملة في الذي أصدره .

فإذا أمرنا الله تعالى بخمس صلوات في اليوم والليلة في مواقيت محددة وكل منها ركعات محددة فإذا هذا التوقيت وهذا التحديد إذا عرضا على العقل والمنطق لم يجدا لهما تعليلا ولا تبريرا ؛ فالتزامك بأداء هذه الصلوات بهذا التوقيت وهذا التحديد هو امتثال لأمر الله لأنك تؤديها لمجرد أنه أمر من الله عز وجل الذي آمنت به من قبل عن طريق العقل والمنطق وفى الامتثال معنى العبودية الكاملة التي أرادها الله حيث يقول (( وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون )) (الذاريات 56) .

والمقصود الأخر من العبادة هو أن تكون وسيلة للتعرف على الله والتقرب إليه واستمداد العون منه باعتباره سبحانه هو وحده القادر الوهاب الفعال لما يريد .. وإذا كانت الحياة الدنيا بشرورها وغرورها مسلطة على قلب الإنسان .

وإذا كان الإنسان بطبيعته لا يقوى على مدافعة هذه الشرور وهذا الغرور وقد قال الله تعالى في شأن الإنسان (( يريدا لله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)) ( النساء 28) فما كان أحوجه إلى ركن شديد يأوي أليه وإلى سند منيع يفزع إليه ؛ فكان من فضل الله على عباده إن أتاح لهم فرصا للفزع إليه والاستمداد منه ؛ فشرع لهم العبادة صلة بينهم وبينه وبابا يهرعون إليه كلما حزبهم أمر أو قست عليهم نوائب الحياة (( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين .

ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين )) (الذاريات 50 - 51 ). (( يا عبادي اللذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياي فاعبدون )) (العنكبوت56) ... ولذا فإن المؤمن لا يتطرق اليأس إلى قلبه مهما ادلهمت عليه الخطوب وأظلمت في وجهه سبل الحياة .. وكيف يجد اليأس سبيلا إلى قلبه وهو يسمع واهب الحياة ومدبر الآمر وصاحب الملك كله يناجيه فيقول (( ورحمتي وسعت كل شئ فساكبتها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون )) (الأعراف 156 ).

ويقول (( يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )) ( يونس 57 -58) . ويقول (( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادي في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين )) (الأنبياء 87-88 ).

والعبادة تلعب الدور الأكبر في تكوين الأمة ؛ لأنها تكون الفرد وتصقل روحه وتصفى قلبه وتزكى نفسه وتغسل بما فيها من مناجاة الله صدره .

فهو بها دائم التذكر لربه دائم الخوف من عذابه ، دائم الشوق إلى جنته ، يرى الجنة دائما عن يمينه والنار عن شماله ؛ ومثل هذا لا يصدر منه إلا فضائل الأعمال ... وما الأمة إلا مجموعة من الأفراد (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) (آل عمران 110 ) .

والفرد المسلم في هذه الحالة لا يندفع إلى قول أو عمل من صميم قلبه لا من آمال تتعلق بمتاع الدنيا ، وكلم شدته الدنيا إلى متاعها ، وجرته إلى مغرياتها ، وحاولت تلويثه ببهرجها ، وكادت تغمسه في فتنتها ؛ سمع المؤذن ينادى إلى الصلاة فكان الآذان تنبيها له من غفلته فيترك ما هو فيه شان ويجيب النداء فيتوضأ ويقف بين يدي ربه فيذكر الله بلسانه فينبه لسانه قلبه ثم يستعرض في صلاته عظمة ربه وجلال فضله وشدة عذابه وواسع مغفرته ومدى رقابة الله عليه ومدى احتياجه إلى عونه فيخرج من الصلاة خلقا آخر كأنما اغتسل من قذر ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول (( أرئيتم لو أن بباب أحدكم نهرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يترك ذلك من درنة شيئا ؟ قالوا لا قال ذلك مثل الصلوات الخمس )) وكما يقول الله تعالى في الزكاة (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها )) (التوبة 102) .

وكما يقول في الصيام ((يأيها اللذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على اللذين من قبلكم لعلكم تتقون )) (البقرة 183)(( ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج ((من حج فلم يفسق ولم يرفث رجع كيوم ولدته أمه)) .

والأمة التي يتجه زعماؤها وحكامها في تربيتها إلى غير هذا الطريق إنما هي أمة تائهة ؛ لأن القوانين - مهما تضمنت من عقوبة – لا تردع الفرد متى استطاع التهرب من طائلتها فإن حراس القانون لا يستطيعون مراقبة كل فرد في كل وقت وفى كل مكان .

فإذا لم يكن للفرد رقابة على نفسه من نفسه فهيهات أن تجدي القوانين ... وهذه الرقابة النفسية إنما هي الأثر المباشر للعقيدة والعبادة . فالعقيدة تزرعها فى النفس والعبادة نتعهدها فترويها وتنميها والى ذلك يشير قوله تعالى (( وما تكون فى شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون عن عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )) (يونس 61) .

والتهرب من القانون وحراسة أمر سهل وميسور ، أما التهرب من الله عز وجل فأمر غير مستطاع ولذا فإن القرآن قد جعل الإيمان باليوم الأخر شرطا لا يقوم الإيمان إلا به ففي فاتحة الكتاب التي يرددها المسلم كل يوم سبع عشرة مرة فى صلاته يقول (( الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم مالك يوم الدين)) ويوم الدين هو يوم الحساب ... وفى أول سورة البقرة جعل أول وصف للمتقين الإيمان بالغيب وهو الحساب والجنة والنار (( ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب )) وأشار القرآن الكريم أن انفراط العقد وحبوط العمل إنما سببه ومرده عدم الإيمان بلقاء الله حيث يقول (( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون )) ( يونس 7-8) .

والأمة الإسلامية التي تربت على هذه الأسس أثمرت فيها هذه التربية ثمرا ستظل روعته مضرب المثل فى التاريخ ؛ وحسبنا أن نذكر مثالين أو نموذجين : فهذا (( ماعز)) وقد زل فأتى خطيئة لم يره أحد حين أتاها ولم يعلم بها أحد ويعرف فظاعة عقوبتها ويعرف أنه أصبح بمنجى من هذه العقوبة لكنه مع ذلك نراه يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له رسول الله : لقد زنيت .

فيحاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصرفه عن هذا الاعتراف فيقول له : لعلك قبلت فيقول : لا لقد زنيت حتى يقول له : لعلك فاخذت فيقول : لا لقد زنيت ويصر على قوله ويطلب تنفيذ الحد عليه فيأمر رسول الله به فيرجم بالحجارة حتى يموت . فيصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى من عمر تخلفا عن الصلاة عليه بدعوى أنه زان ؛ فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول (( لقد تاب والله توبة لو وزعت على أهل الأرض لو سعتهم )) .

وفى موقعة القادسية لما دخل المسلمون إيوان كسرى وزالت بذلك دولة الفرس وأرسلت الغنائم إلى المدينة ووزعت الغنائم كما شرع الله ولم يعد أحد يشك فى أن كل ما غنم قد سلم إلى بيت المال ؛ تقدم جندي من جنود الموقعة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وسلمه أثمن ما كان يملكه كسرى ؛ سيفه ومنطقته وزبر جدته . فنظر إليها عمر وقال قولته المشهورة (( إن قوما أدوا هذا ولم يستأثروا به لذووا أمانة )) .

ثالثا : المعاملة

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( الدين المعاملة )) . وما من دين أنزله الله وما من نبي أرسله إلا وهو يدعو إلى حسن المعاملة بين الناس بعضهم مع بعض .

ولكن الدعوة إلى حسن المعاملة كانت فى كل ما سبق الدعوة المحمدية دعوة مجملة أو مركزة في ناحية واحدة ؛

فدعوة هود كانت مركزة فى النهى عن التطاول فى البنيان وفى الاقتصاد فى البطش والجبروت .. ودعوة صالح كانت مركزة فى النهى عن الرفاهية وفى الدعوة إلى العدالة فى اقتسام مياه الري ... ودعوة لوط كانت مركزة فى النهى عن إتيان الفاحشة ... ودعوة شعيب كانت مركزة فى النهى عن الغش فى الكيل والميزان ... وهكذا حتى بلغت الإنسانية رشدها فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة بالكتاب الكامل الشامل فوضع لكل نوع من أنواع التعامل بين الناس حدودا مفصلة وقوانين محددة ؛

فوضع أسس تكوين الآسرة كما حدد حقوق الفرد نحو مجتمعه وحقوق مجتمعه عليه ، فعلاقة البيع والشراء والعلاقات التجارية والزراعية وحقوق المال وحقوق العمل كما نص على عقوبات للجنايات ... وحسبك أن تعلم أن أطول آية فى كتاب الله إنما نزلت فى معالجة موضوع الديون وكيفية كتابة وثائقها وهى الآية282 من سورة البقرة.

فالإسلام نظام كامل شامل لإدارة الدنيا فى جميع شئونها ونواحيها ،ولا يصلح أن يقتبس منه جزء يرفع به نظام خر فكل جزء منه مرتبط ببقية الأجزاء فإما أن يؤخذ بالنظام الإسلامي كله وإما أن يترك كله ؛ فإذا لم ترتكز قوانينه فى المال والجنايات والأسرة على أساسين من العقيدة والعبادة كانت هذه القوانين جسما بلا روح ... وهذا ما تعانيه بعض الدول الإسلامية التي ظهر فيها زعماء لم يفقهوا هذا المعنى فراحوا يدعون إلى الأخذ بالشريعة الإسلامية فى المال والجنايات فى حين أن شعوبهم فاقدة الأصل الأصيل من العقيدة والعبادة فانتهوا إلى مجموعة من المظاهر التي تنتسب إلى الإسلام تخفى تحتها نفوسا لا تمت بصلة إلى الإسلام وصدق الذي قال :

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا

فلا ديننا يبق ولا ما نرقع

ورحم الله أستاذنا الإمام فقد كان يقول : إن القاضي الذي صقلت نفسه التربية الإسلامية يستطيع بهذا القانون الوضعي أن يخرج لنا أحكاما تتفق مع روح الشريعة الإسلامية .. أما القاضي الذي ليس له نصيب من التربية الإسلامية فإنه حتى إذا حكم بالقانون الإسلامي فإن أحكامه تكون مجافية للعدالة وروح الإسلام ...

نعم لابد من أن تكون الشريعة هي قانون البلاد ، ولكن لابد من أن ترافق ذلك تربية إسلامية على أساس من العقيدة والعادة تكون الفرد المسلم الذي سيكون بمثابة الروح لهذه القوانين ، والذي يصبغ بشخصيته المجتمع الذي يعيش فيه أو يتصل به ، والذي يكون الأداة الفعالة للإبداع فى كل عمل يزاوله ، والذي سيعفى الدولة مما تتورط فيه الحكومات من إنشاء رقابة من فوقها رقابة من فوقها رقابات حتى تضمن من أفرادها أداء ما وكلته إليهم من أعمال إن محاولة الإصلاح عن طريق القوانين دون التربية الإسلامية لأفراد الأمة هو نوع من البناء على الرمال ... فإذا رافقت التربية الإسلامية الحكم بالشريعة كانت أحكام الشريعة فى هذه الحالة أشبه بالبذور تنزل على ارض أخذت حقها من الإعداد والري فأنبتت نباتا حسنا وجاءت بأطيب الثمر ... أما إذا نزلت هذه البذور - وهى فى أجود حالاتها - على أرض وعرة أو أرض سبخة لم تمتد إليها يد الإصلاح فان جودة البذور لن تغنى عنها شيئا وستموت على هذه الأرض ولست أقصد من هذا أن تنتظر الأمة الإسلامية فى عصرنا هذا ممثلة فى دولها حتى تتم تربية شعوبها ثم تبدأ بعد ذلك فى الآخذ بأحكام الشريعة الإسلامية .

وإنما الذي أقصده هو أن تتخلص الدول من تصور خاطئ سيطر على تفكير قادتها ، وهو أن النظام الإسلامي منحصر فى الأخذ بالقوانين الإسلامية ضاربة عرض الحائط بما سوى ذلك من أصول التربية الإسلامية القائمة على الأساسين الركينين من العقيدة والعبادة ... فهذه الدول تريد الأخذ بالقوانين الإسلامية فى الوقت الذي تنشر وسائل الإعلام فيها ليلا ونهارا وفى كل شارع وفى كل بيت الدعوة إلى الفساد والتهتك والانحلال الخلقي ... تريد الأخذ بقوانين الشريعة وهى تاركة لنسائها الحبل على الغارب لإغراء الشباب المجرد من أسلحة المناعة الخلقية ... تريد الأخذ بقوانين الشريعة وكبار موظفيها وصغارهم لا رادع لهم من خلق والقوانين الإسلامية وحدها لا تخلق الضمير ولا تنشئ الخلق .

إذا كانت هذه الدول جادة فى الأخذ بقوانين الشريعة فلتأخذ بها فى الوقت الذي تأخذ فيه بأساليب التربية الإسلامية لشعوبها حتى تكون قوانين الشريعة مدعومة بهذه الأساليب التي يظهر أثرها فى وسائل الإعلام وفى صفوف المدارس وفى مكاتب الموظفين وفى مسلك الرجال والنساء أما الأخذ بقوانين الشريعة وكل أجهزة الدولة سائرة فى خط معاكس لهذه القوانين فهو الذي نرفضه لأنه لن يعود على الأمة بفائدة ولا يكون إلا تشويها لسمعة الشريعة الإسلامية .

ولعمري ما أيسر الحكم بالشريعة الإسلامية فإن ذلك لن يكلف الحاكم شيئا إلا أمرا بذلك يصدره .

أما تربية الشعب وإعداده ليكون شعبا مسلما نعيش فى قلب كل فرد منه رقابة الله فإن ذلك هو الأمر العظيم الذي لا يقدر عليه كل أحد ولا يقدر عليه إلا كل عظيم من الناس ؛ لا يقدر عليه إلا لقدوة الحسنة .

وتحول الفرد إلى أن يكون قدوة حسنة يقتضيه الكثير من التضحيات فهذه هي الوظيفة الكبرى للأنبياء ولا يقدر على ذلك من بعدهم إلا ورثة الأنبياء على أن لا يكونوا من الأدعياء.

النشأة

رأيت أن أبدأ بهذه العجالة التي ترسم الخطوط العريضة للفكرة الإسلامية ، والتي يتبين مهما مدى خطورة هذه الفكرة على ذوى المطامع من الجبارين والمستبدين والمستعمرين ؛ ولذا فإن الذي شرعها – عز جاره وجل شانه - شرع معها الجهاد لحمايتها والذود عنها وجعل هذا الجهاد ذروة سنامها كما جاء فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

هذه الفكرة بهذا التخطيط والشمول لم يكن لها - منذ خمسين عاما - وجود فى أذهان المسلمين فى أنحاء الأرض ، وإنما كان الموجود منها فى الأذهان نتفا وأجزاء .. وكان هذا نتيجة خطط محكمة أختطها الاستعمار الذي كان إذ ذاك مسيطرا على جميع البلاد الإسلامية ، وقد تمكن بهذه الخطط من مسخ الفكرة الإسلامية فى أذهان الناس فأصبحت العقيدة مجرد ألفاظ تلوكها الألسن فى حلقات الذكر فاقدة معانيها ؛ فمعنى تحدى الظلم الذي هو أبرز معاني العقيدة حل محله الدعوة إلى العزلة وتحريم التصدي للحاكمين مهما طغوا وظلموا بل وتحريم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فكانوا إذا رأوا أحدا يتصدى لذلك يقولون له : دع خلق الله فى ملك الله )) ، (( لا يقع فى ملكه إلا ما يريد)) (( يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون )) (المائدة 105 ) .

مع أن الانحراف بهذه الآية الكريمة عن معناها إلى عكسه هو الذي حمل أبا بكر رضي الله عنه وهو على المنبر أن يفسرها ويقول للناس (( إنكم تحملون هذه الآية على الدعوة إلى العزلة وترك الناس تفعل ما يشاء ألا إن معناها هو أن الله تعالى يأمر المؤمنين بأن لا سيروا فى ركب أهل الضلال مهما كثروا وقويت شوكتهم بل على المؤمنين أن يخالفونهم ويتمسكوا بكتاب الله ... وناهيك بالتمسك بكتاب الله وما فيه من حث على الجهاد ومقاومة للظلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .

وكان الناس يؤدون العبادة بنفس هذا المعنى الميت ؛ فهي طقوس تؤدى وحركات وألفاظ يرثها جيل عن جيل ليس لها هدف ولا مغزى ... حتى الدروس فى المساجد لم تكن أكثر من حلقات للتسلية والإمتاع ... وبهذه الصورة لم يكن المستعمر وأذنابه من الحكام يعارضون فى بناء المساجد وفى إتيان الصلاة وإلقاء الدروس بها لأنها لم تكن مصدر إقلاق لهم بل كانت وسيلة من وسائل إشاعة روح التخاذل والإلهاء والخضوع فى الناس على حد ما كانوا يقولون : ليس فى الإمكان أبدع مما كان .

وكان الذين يفهمون الإسلام فهما صحيحا قلة من الناس . ومن فضل الله على أن أهلي وأسرتي كانوا من هذه القلة . لأنهم لم يتلقوه عن طريق رسمي فى مدارس الحكومة وإنما تلقوه من أصوله فى أمهات الكتب التى كانت تزخر بها مكتبتهم التى ورثوها كابرا عن كابر وكان كل جيل يزيد فيها .

رأيت أن أبدأ بهذه العجالة التى ترسم الخطوط العريضة للفكرة الإسلامية ، والتي يتبين مهما مدى خطورة هذه الفكرة على ذوى المطامع من الجبارين والمستبدين والمستعمرين ؛ ولذا فإن الذي شرعها - عز جاره وجل شانه - شرع معها الجهاد لحمايتها والذود عنها وجعل هذا الجهاد ذروة سنامها كما جاء فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

هذه الفكرة بهذا التخطيط والشمول لم يكن لها - منذ خمسين عاما - وجود فى أذهان المسلمين فى أنحاء الأرض ، وإنما كان الموجود منها فى الأذهان نتفا وأجزاء .. وكان هذا نتيجة خطط محكمة أختطها الاستعمار الذي كان إذ ذاك مسيطرا على جميع البلاد الإسلامية ، وقد تمكن بهذه الخطط من مسخ الفكرة الإسلامية فى أذهان الناس فأصبحت العقيدة مجرد ألفاظ تلوكها الألسن فى حلقات الذكر فاقدة معانيها ؛ فمعنى تحدى الظلم الذى هو أبرز معاني العقيدة حل محله الدعوة إلى العزلة وتحريم التصدي للحاكمين مهما طغوا وظلموا بل وتحريم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فكانوا إذا رأوا أحدا يتصدى لذلك يقولون له : دع خلق الله فى ملك الله )) ، (( لا يقع فى ملكه إلا ما يريد)) (( يأيها الذين آمنوا ليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون )) (المائدة 105 ) .

مع أن الانحراف بهذه الآية الكريمة عن معناها إلى عكسه هو الذى حمل أبا بكر رضي الله عنه وهو على المنبر أن يفسرها ويقول للناس (( إنكم تحملون هذه الآية على الدعوة إلى العزلة وترك الناس تفعل ما تشاء ألا إن معناها هو أن الله تعالى يأمر المؤمنين بأن لا يسيروا فى ركب أهل الضلال مهما كثروا وقويت شوكتهم بل على المؤمنين أن يخالفونهم ويتمسكوا بكتاب الله ... وناهيك بالتمسك بكتاب الله وما فيه من حث على الجهاد ومقاومة للظلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .

وكان الناس يؤدون العبادة بنفس هذا المعنى الميت ؛ فهي طقوس تؤدى وحركات وألفاظ يرثها جيل عن جيل ليس لها هدف ولا مغزى ... حتى الدروس فى المساجد لم تكن أكثر من حلقات للتسلية والإمتاع ... وبهذه الصورة لم يكن المستعمر وأذنابه من الحكام يعارضون فى بناء المساجد وفى إتيان الصلاة وإلقاء الدروس بها لأنها لم تكن مصدر إقلاق لهم بل كانت وسيلة من وسائل إشاعة روح التخاذل والإلهاء والخضوع فى الناس على حد ما كانوا يقولون : ليس فى الإمكان أبدع مما كان .

وكان الذين يفهمون الإسلام فهما صحيحا قلة من الناس . ومن فضل الله على أن أهلي وأسرتي كانوا من هذه القلة . لأنهم لم يتلقوه عن طريق رسمي فى مدارس الحكومة وإنما تلقوه من أصوله فى أمهات الكتب التى كانت تزخر بها مكتبتهم التى ورثوها كابرا عن كابر وكان كل جيل يزيد فيها .

ولاشك فى أن أعظم عامل يؤثر فى حياة الفرد هو البيئة التى أحاطت به فى شأنه فإنها كفيلة أن تحدد له اتجاهه فى الحياة لأنها تسكب فى قرارة نفسه وتخلط مع مهجة قلبه وتحفر فى ثنايا عقله قيمها ومفاهيمها ... وهكذا نشأت فى بيئة تجمع بين الدين والعلم والأدب والوطنية ؛ فلقد كانت أسرتنا برشيد متميزة بكل هذه المعاني وكان لها مدرسة تخرج فيها جيل من الناشئين على يدي عمين لي كانا أمة كاملة للسمو البشرى بمختلف ألوانه ؛ فلقد كانا يعيشان لا لنفسيهما بل للمجتمع الذي نشآ فيه ، فكانا قادة كل حركة تقاوم الظلم والاستبداد والاستعمار . عاشا ما عاشا يبذلان ولا يأخذان ، وينفعان ولا ينتفعان .. لم يكونا من حملة الشهادات الدراسية لكنهما كانا طودي علم وأدب .

من آثار البيئة  :

معذرة للقارئ فقد أكون شغلت جانبا من وقته بحديث قد لا يعنيه ولكن من حق أصحاب الفضل أن يذكروا ... وأعوذ إلى السياق فأقول ؛ فى هذه البيئة نشأت فوجدته بين يدي كتبا كانت غذاء لعقلي ومهذبا لطبعي . ورأيت بين يدي مثلا حيه لكثير من أروع ما رأت ؛ فلقد كان اتصالي بعمى هذين أكثر من اتصالي بأمي وأبى ... وكنت الابن الوحيد فى تلك الآونة للأسرة كلها فعمل كل بثي كل ما عنده ، وعلى تنشئتي على الصورة التى هي فى قرارة نفسه .. وقد هيأ لي هذا الاتصال أن أقرأ وأتا بعد فى سن مبكرة فى دراستي الثانوية كتبا ذات شأن كشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ووفيات الأعيان لابن خلكان ورسالة التوحيد لمحمد عبده والعقد الفريد لابن عبد ربه والبيان والتبيين للجاحظ والكامل لأبى العباس المبرد كما قرأت ديوان امرئ القيس وديوان المتنبي وديوان البارودي والمعلقات السبع وغيرها من أمهات كتب الدين واللغة والأدب .

ويجدر بي فى هذه المناسبة أن ألفت النظر إلى الأدب العربي شعره ونثره والى ما ينطوي عليه هذا الأدب من توجيهات إلى السمو بالنفس عن الدنايا وإلى تبصير الإنسان بما يجعله إنسانا موفورا الكرامة .

مرفوع الرأس محببا إلى الناس فهو يوضح له المواقع التى عليه أن يتجنبها وتلك التى يسلكها ويعلمه كيف يعامل الناس وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول (( إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة )) ويخيل إلى أن الحكمة الهادية لا يكاد يجدها المرء بعد كتاب الله وحديث رسوله إلا فى كتب الأدب نثرا وشعرا حتى إنه ليبدو لي أن الأديب حين يكتب وان الشاعر حين يقول الشعر تتولاه حالة يكون مهيأ فيها لنوع من الإلهام فتراه يضمن كلامه أو شعره حكما سامية وتوجيهات رائعة ينتفع بها قارئها وقد لا ينتفع هو بها ... ولعل فى هذا إشارة إلى قول الله تعالى (( والشعراء يتبعهم الغاوون . ألم ترأنهم فى كل واد يهيمون .

وأنهم يقولون ملا يفعلون . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا)) .. (224-227 الشعراء)

وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم معلقة زهير بن أبى سلمى الشاعر الجاهلي التى منها :

ومن لا يصانع فى أمور كثيرة

يضرس بأنياب ويوطأ بمنسـم

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

وإن يرق أسباب السماء يسلـم

ومهما يكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

قال عليه الصلاة والسلام " هذا من كلام النبوة " . وإنك لواجد في أشعار الشعراء من التوجيهات والحكم مالا تجده في غيرها وما يوجهك أحسن توجيه فحين تسمع قول الشاعر :

والنفس راغـبة إذا رغبـتها

وإذا ترد إلي قلـيـل تـقنــع

نعرف كيف تسوس نفسك وتحملها على مالا يعيبك وتخرج بذلك من إسار العرف الذي يدعى أن النفس طبعت على طبائع لا يمكن التخلص منه وحين تسمع هذين البيتين :

بلاء لـيس يـعدله بـلاء

عـداوة غيـر ذي حسب وديـن

يبيحك منه عرضا لم يصنه

و يرفع منك فى عرض حصـين

تعرف كيف تعامل من لا خلاق لهم من الناس فلا تحتك بهم ولا تعاملهم معاملة الند بالند .......... وحين تقرأ :

إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها

هوانا بها كانت على الناس أهوانا

فهمت أن احترام الناس لك مرهون باحترامك لنفسك وذكر عن على كرم الله وجهه أنه لما بلغه وفاة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال : رحم الله أبا محمد فقد كان كما قال الشاعر :

فتى كان يدنيه الغنى من صديقه

إذا ما هو استـغنى ويـبعده الفقر

وأنشد النابغة الجعدى النبي صلى الله عليه وسلم شعره حتى وصل إلى قوله :

ولا خير فى حلم إذا لم تكن له

بوادر تحمى صفوة أن يكدرا

ولا خير فى جهل إذا لم يكن له

حليم إذا ما أورد الأمر أصدر

والشعر المأثور عن شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام فى صوره المختلفة وأغراضه المتباينة يزخر بدرر من التوجيهات والحكم لا يمكن تعليل ورودها على ألسنة قائليها إلا بأن وضع الإنسان نفسه فى المجال الموسيقى للشعر يجعله فى تواؤم مع تلقى نوع من الإلهام .

وقد أردت بهذه الإلماحة إلى فضل الأدب والشعر فى توجيه الناس إلى المحامد وصرفهم عن المثالب أن ألفت نظر الجيل الناشئ إلى أن ينظروا إليها نظرتهم إلى منهل يعينهم على تكوين شخصيتهم المسلمة .

ولولا خصال سنها الشعر ما درى

بغاة العلا من أين تؤتى المكارم

ورضي الله عن الفاروق عمر الذي كان يقول : الشعر ديوان العرب .


التعلق بالقرآن :

إن النفس العربية ، في البيئة العربية ، وفي جو الأدب الرفيع الذي يدفع إلي السمو ؛ يجد المرء نفسه جاثيًا أمام كتاب الله العزيز ، ناهلاً من صافي سلسبيله ، مستروياً من عذاب مائة ... وهكذا وجدتني منذ الصغر وأنا في سن السابعة أجلس بين يدي كتاب الله ، أتلو منه وحدي والله وحده يعلم هل كنت في أول عهدي به كثير الخطأ في تلاوته أم قليله .. لأني لم أكن أتلو أمام غيري ... وقد خرجت في إحدى الأجازات الصيفية وأنا في تلك السن المبكرة أن ألتحق بأحد الكتاتيب في رشيد فلم ترقي طريقهم التي تعتمد علي الاستظهار والحفظ دون التلاوة ، فانقطعت عنه واكتفيت بالتلاوة المنزلية ؛ فكنت أقرأ المصحف بالترتيب ، ولم أكن – كما – كما قدمت – أوقن أنني أقرأ قراءة صحيحة إلا أنني تنبهت بعد فترة من الزمن – نحو خمس سنين – حين كنت في أوائل الدراسة الثانوية فوجدتني ماهرًا في تلاوته ، واستطعت في خلال دراستي الثانوية أن أجمع إلي المهارة في التلاوة الحذق في التجويد دون أن يكون ذلك عن دراسة منظمة لفن التجويد ؛ فاللسان العربي قادر بطبيعته مع القليل من التوجيه والملاحظة علي النطق الصحيح وإخراج الحروف من مخارجها الصحيحة ... وقد نكون مداومتي علي التلاوة دون انقطاع مما سهل لي هذا الأمر .

أول فراق لرشيد :

لم يكن برشيد فى ذلك الوقت مدارس ثانوية ، فكان على أن أرحل إلى الإسكندرية ، وكم كان ذلك شاقا على نفسي وعلى نفس والدي .. إلا أنني أفدت الكثير من هذا الفصال الذي فطمني عن عهد الطفولة وأحيا فى نفسي عوامل الرجولة والاعتماد على النفس ، وأوجدني فى بيئة ضممت مزاياها إلى مزايا البيئة التى نشأت فيها ... نعم كنت طالبا (( داخليا )) تعد المدرسة لي الطعام والمنام ووسائل النظافة لكن هذا ليس كل شئ فى الحياة ... لقد تعرفت على أقوام من شتى البلاد وخالقتهم وعاشرتهم وأضفت إلى أصدقائي التقليديين من أهل بلدتي أصدقاء آخرين من بلاد أخرى وكان ألصقهم بنفسي الطالب محمد جمال الدين نوح الذي كان والده زميل والدي وكانوا مقيمين فى الإسكندرية إلا أنه كان طالبا ((داخليا)) .

ومن أجمل مزايا نظام (( الداخلية)) تنظيم حياة الطالب ، فالاستيقاظ من النوم فى الصباح فى موعد محدد ، والإفطار الجماعي فى موعد محدد والغداء والعشاء كذلك والوجبات التى تقدم على مدار الأسبوع أنواع محددة ثم المذاكرة فى مكان محدد وموعد محدد وتحت إشراف يرشد ويعين ، ثم النوم فى موعد محدد .

كانت فترة دراستي الثانوية فى الإسكندرية فترة إنضاج فكرى وروحي لي : فلقد دخلت هذه المرحلة فى سن الثانية عشر وأنا مزود بشحنات من نور القرآن ، وبثقافة سياسية وأدبية - وقد أفردت لأول مرة دون من كنت أستمد منهم وأتلقى عنهم - فوجدتني مهيأ لدور قيادي فى هذه المدرسة .

فبغير إرادة منى وجدتني قدوة يقتدي بي زملائي فى المدرسة ؛ فمصلاي التى كانت تلازمني بجانب فراشي جعلت كل من تهفو نفسه إلى الاستقامة والخير يتجه إلى ؛ ثم فى مسجد المدرسة - وكان مسجدا عظيما . وجدني أوجه زملائي .

ومما يدل على أن التدين لا يرتبط بدراسة معينة أن هذه المدرسة كانت نعج بمدرسي اللغة العربية والدين والمتخرجين فى الأزهر ودار العلوم ، ومع ذلك فلم يكن يصلى معنا فى هذا المسجد من المدرسين إلا مدرس احد هو الأستاذ عفيفي مدرس المواد الاجتماعية ، وهو الذي كان يؤمنا ، كما أن ناظر المدرسة حين رأى إقبال الطلبة على الصلاة فى المسجد انتدب الأستاذ عفيفي ليؤمهم .

ولا أنسى هنا أن أشيد بذكر رجل كان له فضل على كبير فى تنمية ثقافتي الإسلامية ، ذلك هو الشيخ محمد على أمين ، الفراش النوبي المختص آنذاك بمغسل المدرسة فقد كان هذا الرجل عالما عابدا ذا خلق ودين . وكان يقتنى أقيم الكتب ، فقد قرأت من كتبه غير قليل من زاد المعاد لابن القيم والفتاوى الكبرى لأبن تيمية وشرح مسلم للنووي والمجموع فى فقه الشافعي للنووي أيضا وغير ذلك مما غاب خاطري الآن يعد هذه المدة الطويلة ... وهو الذي دلني على تفسير القرطبي وقت أن بدأت دار الكتب المصرية فى طبعه .. كان هذا الرجل مهذبا كريم المعشر عالي النفس مثلا حيا للإسلام ، وكنت أحترمه كما أحترم أقرب أساتذتي إلى نفسي ؛ ولم يكن يدخر وسعا فى معاونتي على الإلمام بمختلف القضايا التى تتصل بالإسلام ... وكان عضوا فى جمعية أنصار السنة المحمدية بالإسكندرية ؛ ولهذه الجمعية مزايا لا تنكر ؛ أهمها أنها دلت المنتسبين إليها على كنوز من الكتب الإسلامية عفي عليها زمن التخلف الذي شمل العالم الإسلامي بضعة قرون ، ومن بينها كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وكتب السنة عموما ؛ فقد كان من معالم تقهقر المسلمين فى القرون الأخيرة هجرهم كتب السنة والاكتفاء بتأليف المتأخرين ، وكان كل متأخر يعلق كلام سابقه حتى نسيت السنة فى غمار هذه التعليقات والمجادلات اللفظية .

ومن حق هذا الرجل على أن أنوه بفضله ، وأن أدعو الله له أن يحسن جزاءه لآن له عندي يا لا أنساها ؛ فإنه أحسن حين لقينى فى غمار عمله ضمن من يلقى من الطلبة أنى أهل لتوجيهه ، وكنت بعد فى سن مبكرة حوالي الثانية عشرة ، ومثلى لم يكن ليستطيع فى مثل هذا السنان يقرأ فى أمهلت كتب الفقه والسنة ، فكيف كشف هذا الرجل بنافذ بصيرته استعدادي للقراءة فى مثل هذه الكتب ؟ لقد كان رجلا متقد الذهن نافذ البصيرة ، كنت تقرأ فى قسمات وجهة ، وفى بريق عينيه ، وفى شحوب وجنتيه ، وفى وضاءة جبينه ، مع وسامة وهدوء ؛ كنت تقرأ فى ذلك سمة قوام الليل صوام النهار .

ومع أنه كان عضوا بارزا فى جماعة أنصار السنة المحمدية كما قدمت ، غير أنى - وقد عاشرته خمس سنوات - كانت كلها مدارسه ومناقشة لم أسمع منه كلمة واحدة عن آيات الصفات والاستواء ؛ مع أن أعضاء هذه الجماعة - وقد احتككت بهم فيما بعد فى القاهرة وكانت لي معهم تجارب ومواقع - لم يكن لهم حديث مع الناس حتى العوام منهم إلا عن هذه الآيات التى فرقت آراؤهم فى تفسيرها المسلمين وغرست بذور العداء فيما بينهم ... ولا عجب مع ذلك فى تجنب عضو بارز كالشيخ محمد على أمين الخوض مع الناس فى مثل هذه المواضيع فإن المنشغل بمهام الأمور لا جد وقتا لسفسافها وصدق البارودي إذ يقول :

ودع من الأمر أدناه لأبعده

في لجة البحر ما يغني عن الوشل

لقد ازددت على يد هذا الرجل علما وفقها وتعرفت على رجال فى تاريخ الدعوة الإسلامية والفقه الإسلامي لا ينبغي لمسلم يتصدى للدعة الإسلامية أن يجهلهم كابن تيمية وابن القيم ومحمد ابن على الشوكانى وهو إمام يمنى من أهل القرن الثاني عشر الهجري أحيا بمؤلفاته ما أندثر من السنة ولعل أشهر كتبه (( نيل الأوطار )) .

وقد لا يكون خروجا عما نحن بصدده الآن أن نتوقف لحظة عند ابن تيمية .. فهذا الرجل وهو إمام الأئمة ليس له من الآثار ، فى عالم الكتب والتأليف ما يصلح أن يسمى (( بالفتاوى الكبرى )) ولا يخرج عن كونه مجموعة من الفتاوى صدرت عنه فى مناسبات متفرقة جمعها أحد تلاميذه ... ذلك أن هذا الإمام لم يكن همه موجها إلى تأليف الكتب وتصنيفها لأنه كان منشغلا بما لم يكن أحد يقدر عليه غيره وهو حمل لواء الدعوة الإسلامية ، فهو الذى هدى الله على يديه التتار حين تحدث مع زعمائهم فكان إسلام التتار من المواقف الحاسمة فى تاريخ الدعوة الإسلامية بل وفى تاريخ العالم ... لم يكن وقته يتسع للتأليف والتصنيف ولكنه استطاع أن يؤلف رجالا منهم ابن القيم الذى ملأ الدنيا كتبا ومؤلفات تعد من أعظم ذخائر المكتبة الإسلامية .

ولما كان ابن تيمية هو حامل لواء الدعوة الإسلامية فى عصره ، كان كثير الإتباع كما كان كثير الأعداء ، وأعداء الدعاة عادة هم من الحكام أو من اللائذين بالحكام ، وقد غلت مراجل الحقد فى صدور هؤلاء اللائذين من أدعياء العلم على ابن تيمية لالتفاف الناس حوله ، فوشوا به عند السلطان الذى أودعه السجن حتى مات فيه ، وانتهت حياته بما تنتهي به عادة حياة حملة لواء هذه الدعوة فى كل زمان .

بلورت دراساتي الخاصة فى منزلنا ثم دراساتي على يد الشيخ محمد على أمين فى المدرسة بلورت الفكرة الإسلامية فى رأسي بحيث تحددت صورتها تماما ، واختمرت هذه الفكرة ، ولم يكن بد بعد ذلك من أن أوضحها لزملائي ، وأتيحت لي الفرص واستجاب كثيرون وكثر المصلون وشعر الجميع سواء فى ذلك زملائي الطلبة وأساتذتي ورجال إدارة المدرسة بأنني الذى يمثل الدعوة الإسلامية ؛ فكانت المدرسة إذا رغبت فى الاحتفال بمناسبة تمت إلى الإسلام بصلة دعتني للاشتراك مع الإدارة فى تنظيم الحفل ، وكنت أؤم المصلين فى المسجد فى غياب الأستاذ عفيفي .. وكان المشرف على الداخلية - بعد أن هداه الله إلى الصلاة _ يرسل إلى كل صباح من يأخذ مصلاي ليؤدى عليها صلاة الصبح .

فى أجازة الصيف :

كان طبيعيا أن تكون أجازة الصيف فى رشيد فرصة سانحة لعرض الفكرة الإسلامية بالصورة التى اكتملت فى خاطري على أصدقائي وزملائي ... وكان مما هيأ لي أحسن الفرص أننا -أنا ومجموعة من أترابي - قد تعودنا على أداء أكبر عدد من أوقات الصلاة فى المسجد (( المحلى )) ثم ننطلق بعد صلاة العصر إلى الرمال فى خارج رشيد للتريض معا ... وكان زملاؤنا الطلبة الذين يكبروننا سنا قد أنشئوا ناديا سموه (( نادي الطلبة )) لم يكن نشاطه يتعدى الاجتماع فيه للمرح واللهو ولم يكن هذا أسلوبنا. .. فلما استجاب لي كثير من الأصدقاء والزملاء فكرنا فى إنشاء جمعية لنشر هذه الفكرة ، واستقرت الآراء على تسميتها : (( جمعية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر )) وقد اتخذت مقرا لها مؤقتا فى منزلنا حيث كانت مدرسة أعمامي تعمل نهارا ونستغل نحن المكان لنشاط الجمعية ليلا ... وقد عكفنا على وضع القانون الأساسي لهذه الجمعية ... ومع إننا كنا صغارا فإنني لازلت أذكر أن المواد التى تضمنها هذا القانون قد شملت كل الأهداف الإسلامية ، وأحاطت بما تحتويه من معالجة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية واشرنا إلى وجوب إيجاد صلات بين المسلمين فى أنحاء الأرض باعتبارهم امة واحدة ... وكان هذا فى ذاته أمرا عجبا لان المسلمين فى ذلك الوقت لم يكونوا يفهمون الإسلام على هذه الصورة .

ثم انتقلت الجمعية إلى دار فسيحة فى وسط المدينة تبرع بها والد عضوين معنا وكان لهذه الدار فناء فسيح . وكانت الدار تزخر طيلة اليوم والليلة بعدد كبير من الطلبة وغير الطلبة من الشباب العامل فى مختلف الحرف ، وقد تعرف هؤلاء على الجمعية نتيجة ما كانت تقيم من حفلات تلقى فيها المحاضرات والخطب والقصائد كلها فى شرح الفكرة الإسلامية وفى إيقاظ الهمم لإحياء مجد الإسلام . فى صيف سنة تاليه كثر عدد الأعضاء وأقبلت عناصر جديدة كانت تستنكف من قبل أن تشترك معنا فلما رأوا نجاح جمعيتنا رأيناهم يأتوننا هرولة .

جمعية الشبان المسلمين برشيد :

ضاقت الدار التي كنا نشغلها بالوافدين الجدد الذين تركوا نواديهم إلينا ، وما كان لنا أن نرد قادما أو نرفض وافدا ؛ وسر إخواننا بهذه الوفود الجديدة ؛ ولكنني كنت منقبض الصدر لأنني كنت أعلم أن هؤلاء الوافدين لم يدفعهم إلينا إيمانهم بفكرتنا بل كان الدافع لهم أنهم رأوا لنا نجاحا أرادوا أن يستغلوه فى الظهور والبروز ... ولم يكن بد من فتح الأبواب لهم ، فلما استقر بهم المقام اقترحوا أن تتخذ الجمعية اسما آخر غير اسمها ، وصوروا للأعضاء الآخرين من إخواني وزملائي أن اتخاذ اسم مشهور يبرز الجمعية فى المجتمع ويعلى صوتها ويرفع مكانتها واقترحوا أن يكون الاسم الجديد هو جمعية الشبان المسلمين برشيد ، واستقر الرأي على ذلك .

وكان لي خبرة بجمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية فى ذلك الوقت حيث كان لي زميل بالمدرسة مشتركا فيها وعضوا فى فريق كشافاتها وفهمت منه أن هذه الجمعية تهتم بالنواحي الرياضية ولا توالى الناحية الدينية اهتماما يذكر فلما جلسنا لوضع القانون الأساسي لهذه الجمعية اشترطت على اللجنة المنوط بها هذا الأمر - وكنت عضوا فيها - أن ينص على أن هذه الجمعية برشيد لا علاقة بينها وبين جمعية الشبان المسلمين فى القاهرة والإسكندرية وتمسكت بهذا الشرط حتى أجازته اللجنة .

واتخذت الجمعية لأول مرة مقرا مستقلا بأجر شهري وفى أبرز مكان فى المدينة واتسعت وذاع صيتها حتى أن النحاس باشا - وكان فى ذلك الوقت زعيم البلاد غير منازع - كان مدعوا فى حفل كبير أقامته لها لجنة حزب الوفد برشيد ، فلم يقم بعد انتهاء الحفل بزيارة لأي مكان أو لأية شخصية إلا هذه الجمعية ؛ والطريف أنه حين قدمنا له دفتر الزيارات ليكتب لنا كل كلمة فيه سألنا قائلا : هل جمعيتكم هذه فرع من جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة فنفينا ذلك وأطلعناه على قانون الجمعية وما فيه من نص على ذلك فابتسم وقال : لو كانت جمعيتكم فرعا من جمعية القاهرة ما قبلت أن أكتب لكم شيئا ومع أن الجمعية قد استكملت مظاهر الأبهة وتقاطر الناس على الاشتراك فيها أموالها إلا أنى كنت أرى عوامل الفشل تدب فى أعضائها وتنخر فى عظامها فقد كثر المتسللون إليها من ذوى الأغراض وطلاب المناصب وعشاق المظاهر وصار من الصعب مقاومتهم حيث صاروا أغلبية فحولوا الجمعية عن أغراضها ولم تعد أكثر من ناد يؤمه الفارغون والمتسكعون فقررت البعد عنها وأعلنت ذلك للجميع .

افتقاد الضالة المنشودة :

أعلنت انفصالي عن الجمعية التى أنشأتها ؛ وحملت معي فكرتي الإسلامية التى تمكنت من نفسي تمكنا جعلني أزن بها كل ما يعرض على ، وأقيس بها ما يقدم لي . ولم أخرج من هذه الجمعية وحدي بل خرجت بالمجموعة التى كنت بثثتها ما عندي من أحاسيس وأفكار ، ولم نكن هذه المجموعة من علية القوم ولا من اكبر مثقفيهم لكنها كانت مجموعة مؤمنة بما أؤمن به وتضطرم نفسها بما تضطرم به نفسي ، وهى المجموعة التى التفت حولي من أول يوم .

كانت وطأة الاستعمار على البلاد على أشدها ، وكان فى البلاد أحزاب يدعى كل منها أنه صاحب الفكرة المثلى لمقاومة الاستعمار فكان حزب الاتحاد ... وبدراسة هذه الأحزاب تبين لي أن الوفد أكثرها جدا وبذلا وتضحية ،واتصالا بالجماهير ومعاداة للملكية فركنت إليه ...

وظهرت في ذلك الوقت جمعية مصر الفتاة التى أنشأها الأستاذ أحمد حسين المحامى ، وكانت تصلنا فى المدرسة مجلتها (( الصرخة )) تفيض بالحماسة الدفاقة ؛ وكنت أميل إليها باعتبارها فكرة ناهضة إلا أنني لم أتخذها لي مبدأ وفكرة لأن نفسي كانت تشمئز من الانتماء إلى التراب ، واتخاذ مصر إلها نقدم له القرابين ؛ إذ كان مبدأها (( مصر فوق الجميع )) وهو ادعاء على غير أساس وتميز عنصري يستطيع كل جنس ادعاءه وما أنزل الله به من سلطان .

وكان (( لمصر الفتاة )) فى تلك الحقبة إنجاز يستحق التسجيل إذ كان لباس الرأس فى تلك الأيام هو الطربوش المصنوع من الصوف أو الجوخ الأحمر ، ولم يكن أحد يجرؤ على كشف رأسه أو تغطيتها بشئ آخر غير الطربوش ، وكان هذا الطربوش يصنع فى خارج البلاد . فنادي الأستاذ أحمد حسين بتمصير لباس الرأس وتكونت لجنة بمشروع سمته (( مشروع القرش )) يجمع من المواطنين قروشا لبناء مصنع فى القاهرة لصنع الطرابيش ونجح المشروع فعلا وأنشئ المصنع ولبس المصريون من إنتاجه واستغنوا عن استيراده .

كنت أميل إلى الوفد باعتباره الحزب الذى يقف للملك بالمرصاد ؛ إلا أنني كنت أحسن بأن فى الفكرة الإسلامية الغناء عن هذه الأحزاب ؛ ولكن الميدان فى مصر خلو من جماعة تبرز هذه المعاني السياسية فى الفكرة الإسلامية ... وهذا هو الذى كان يحملني على الانتساب إلى الوفد آملا فى أن أجد فى يوم من الأيام الجماعة الإسلامية التى تملأ هذا الفراغ .

إلى الجامعة فى القاهرة :

أول لقاء عابر لي مع الأستاذ حسن البنا :

بعد حصولي على شهادة الثانوية العامة نزحت إلى القاهرة للالتحاق بالجامعة التى كانت تسمى فى ذلك الوقت بالجامعة المصرية لأنها كانت الجامعة الوحيدة فى البلاد .. وكان أصدق صديق لي خلال دراستي الثانوية - كما قدمت - زميلي محمد جمال الدين نوح ، وكان والده زميل والدي وصديقه ... وقد توطدت الصداقة بيني وبين جمال إلى حد أننا لم نكن نطيق الافتراق ..... وكانت المدرسة قد رشحتني وجمالا أن نكون من العشرة الأوائل فى شهادة الثانوية العامة معتمدة فى ذلك على مقدرتنا العقلية إلا أن طبيعتنا فى عدم الصبر على الاستظهار لم تتح لنا الفرصة إن نكون من العشرة الأوائل كما أملوا فينا ولكننا حصلنا على مجموع لا بأس به .

لأول مرة فى حياتي سافرت وزميلي جمالا إلى القاهرة لنلتحق بإحدى الكليات .. وحين وصلنا إلى القاهرة قال لي جمال إن والده أوصاه أول ما يصل إلى القاهرة أن يزور صديقا له وكان فى يوم من الأيام تلميذا له أسمه ((الأستاذ حسن البنا )) وقال لي إن والده أعطاه عنوانه وهو 5 حارة الروم بالغورية وانطلقنا نبحث عن هذا العنوان فى أحشاء حي عريق فى القدم حتى وصلنا إليه فرأيناه بيتا من الطراز العتيق يشبه الربع وسألنا فيه عن الأستاذ حسن البنا فصعدنا عدة درجات من سلم جانبي ودخلنا غرفة كبيرة ثبت على جدرانها رفوف خشبية مملوءة بالكتب والمجلدات ورأينا مكتبا تحيط به الرفوف من كل جانب يجلس إليه شاب أبيض الوجه مستديرة و لحية سوداء يرتدى بدلة وعلى رأسه طربوش ؛ فكان منظرا عجيبا حيث لم يكن مألوفا فى ذلك الوقت أن يكون أحد معفيا لحيته إلا ويرتدى جبة وعمامة ... فلما رآنا ترك مكتبه وتلقانا بترحيب حار ، وقال إن الأستاذ محمد خلف نوح أستاذي ... وتحدث معنا فيما جئنا إلى القاهرة من أجله وشجعنا على مواصلة الدراسة وألح علينا أن ننزل فى ضيافته فشكرناه ؛ فطلب إلينا أن نتصل به فى كل ما يلزمنا وانصرفنا ؛ ولكن صورة هذا الرجل وحديثه وأسلوبه وأدبه وجلوسه وسط هذه الأكوام من الكتب واللافتة التى رأيناها تعلو باب البيت المكتوب عليها (( الإخوان المسلمين )) تشغل أفكارنا .

والتحقنا معا بكلية العلوم فكنا فى صدر المقبولين بها وخيرنا بين البقاء بها والانتقال إلى كلية الطب لكبر مجموعنا فرأى جمال البقاء فى كلية العلوم ورأيت أنا أن أحول أوراقي إلى كلية الزراعة وكان لهذا التحويل قصة قد ارجع إليها عند الحديث عن الشيخ طنطاوي جوهري إن شاء الله .

كيف تعرفت على الإخوان المسلمين

كنا آنذاك فى السنة الدراسية 1935- 1936 وكانت هذه السنة سنة نشاط سياسي كبير، إذ أعقبت بضع سنوات تولى الحكم خلالها إسماعيل صدقي وفعل - كما أفهمنا زعماء الوفد - بالبلاد الأفاعيل ، وكان من هذه الأفاعيل أنه ألغى دستور سنة 1923 ووضع دستورا بدلا منه سماه دستور سنة 1923 كنا ندرسه فى التربية الوطنية فى السنة الثالثة الثانوية وإن كنت الآن قد نسيت محتوياته إلا أنني أذكر أنه فى مجموعه كان يهدف إلى الحد من سلطة الشعب - وكانت الدولة المستعمرة - بريطانيا - تؤازر هذا الاتجاه ... وكنت فى مساء كل يوم أذهب إلى مقر حزب الوفد وكان يسمى (( النادي السعدي )) وكان يفد إليه خليط من الطلبة وصغار الموظفين والعمال والتجار كما كان أقطاب الحزب يحضرون ... وقد رأى هؤلاء نشاطي فى إقناع الوافدين من الطلبة بفكرة الوفد فأعدوا لي مكتبا بالنادي ... وفى تلك السنة أنشأ الوفد كتائب القمصان الزرقاء فكنت أحد أفراد أول نواة لها وكانت هذه النواة كلها من طلبة الجامعة والأزهر وكان يقودها طالب بكلية الطب اسمه محمد بلال .

أما اليوم الدراسي فى الكلية فكانت تتخلله فترات لا بأس بها من الفراغ كنت أستغلها فى إدارة نقاش سياسي مع الطلبة فى فناء الكلية ، وكان النقاش فى بعض الأحيان يحتدم ويطول ويزداد عدد الطلبة الملتفين حولي ومنهم من يلتف للاشتراك فى المناقشة ومنهم من يلتف لمجرد السماع والملاحظة وتنتهي أكثر هذه المناقشات عادة بكسب أنصار الوفد .

وفى أثناء إحدى هذه المناقشات تقدم إلى طالب وآسر فى أذني أنه يريد أن يتحدث إلى حديثا خاصا بعد انتهاء المناقشة فى وقت مناسب ؛ وانتحيت وهذا الطالب جانبا فقال لي  : أنا زميل لك بالسنة الأولى ومن الفيوم واسمي (( إسماعيل الخبيرى )) وأنا خالي الذهن عن أية أفكار أو مبادئ ، وقد استمعت إليك كثيرا وأعجبني أسلوبك فى المناقشة وأحس فيه الصدق والإخلاص ، وقد رأيت أن أسلمك نفسي لتوجهني إلى المبدأ الذي تختاره لي ... وأنا أراك تدافع عن الوفد فهل تختار لي أن أكون وفديا ؟ ...

فقلت لا ... فتعجب الشاب من هذا الرد الذي لم يكن يتوقعه ... قال : كيف تكون وفديا ولا تختار لي أن أكون كذلك ؟ ... قلت إنك شاب عديم الخبرة بالمبادئ والأفكار ، وقد استشرتني والمستشار مؤتمن .

ولا أرضى لنفسي أن استغلك منتهزا فرصة خلو ذهنك لأحشوه بما أريد .

قال : إذن فماذا ترى ؟ ...

قلت : الذي أراه أن نذهب بنفسك إلى منتديات الأحزاب وتستمع بنفسك إلى قادتها وتناقشهم وتقضى فى كل ناد عدة ليال ، وتجئ كل صباح تقص على ما رأيت وما سمعت حتى إذا أتممت الجولة على كل النوادي نجلس معا لتقرر بنفسك الاتجاه الذي تسلكه ... قال إذن أرشدني إلى مكان هذه النوادي فأرشدته وكانت هذه النوادي هي: الوفد -الأحرار الدستوريون - السعديون - مصر الفتاة - الحزب الوطني .

ويجدر بي بهذه المناسبة أن أذكر أنني منذ أقمت بالقاهرة - وكان مقر دراستي وسكنى بالجيزة - كنت حريصا على أداء صلاة الجمعة دائما فى مسجد الرفاعى بالقلعة لأن خطيب هذا المسجد الشيخ محمود على أحمد كان خطيبا مفوها وكانت خطبة ذات اتصال بالحياة ، وكان رواد هذا المسجد الفسيح من أعلى طبقات القاهرة ثقافة ... وكنت الأحظ دائما بعد الصلاة فى مستهل الدرس الذي يلقيه الشيخ بعد الصلاة أنه كان يلفت نظر الحاضرين إلى شاب بين يديه مجلات يوزعها ويحثهم على اقتنائها فكنت أحد الذين يشترونها ... وقد تركت هذه المجلة فى نفسي - وكان اسمها (( الإخوان المسلمون )) - أثرا عميقا عندما وقع نظري على واجهتي غلافها ؛ فعلى وجهها وملء الصفحة رسمت الكرة الأرضية مركوزا عليها علم كتب عليه (( إنما المؤمنون إخوة)) .

وتمسك بالعلم قبضة يد قوية كتب تحتها (( الإخوان المسلمون )) - أما ظهرها فيملأه ((أكلشيه)) بعنوان (( عقيدتنا )) تحته سبعة بنود يتكون كل بند من جزئيين أولهما مبدوء بكلمة (( أعتقد )) والآخر مبدوء بكلمة (( أتعهد )) ... وقد لخصت هذه البنود السبعة الفكرة الإسلامية كما تصورتها بجميع أبعادها . إلا أن ((التعهدات )) قد نقلت الفكرة المجردة إلى معترك الحياة فى جميع ميادينها ... وحرصا منى على انتفاع القارئ بهذه البنود رأيت أن أثبتها بنصها لأنها خير ما يصلح أن يكون دستورا ينظم حياة الفرد المسلم والأسرة المسلمة والأمة المسلمة فى أوجز العبارات وأدقها وأجمعها للمعاني .

عقيدتنا :

1- أعتقد أن الأمر كله لله - وان سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم رسله إلى الناس كافة ، وأن الجزاء حق وأن القرآن كتاب الله .

وأن الإسلام قانون شامل لنظام الدنيا والآخرة .

2- أعتقد أن الاستقامة والفضيلة والعلم من أركان الإسلام .

وأتعهد بان أكون مستقيما أؤدي العبادات وأبتعد عن المنكرات ، فاضلا أتحلى بالأخلاق الحسنة ، وأتخلى عن الأخلاق السيئة ، وأتحرى العادات الإسلامية ما استطعت ، وأوثر المحبة والود على التحاكم والتقاضي ، فلا الجأ إلى القضاء إلا مضطرا ، وأعتز بشعائر الإسلام ولغته ، واعمل على بث العلوم والمعارف النافعة فى طبقات الأمة .

3- أعتقد أن المسلم مطالب بالعمل والتكسب ، وأن فى ماله الذي يكسبه حقا مفروضا للسائل والمحروم .

واعهد بان اعمل لكسب عيشي ، واقتصد لمستقبلي ، وأؤدي زكاة مالي ، واخصص جزءا من إيرادي لأعمال البر والخير ، وأشجع كل مشروع اقتصادي إسلامي نافع ، وأقدم منتجات بلادي وبني ديني ووطني ، ولا أتعامل بالربا فى شأن من شئوني ، ولا أتورط فى الكماليات فوق طاقتي .

4- أعتقد أن المسلم مسئول عن أسرته وأن من واجبه أن يحافظ على صحتها وعقائدها وأخلاقها وأتعهد بأن أعمل لذلك جهدي ، وأن أبث تعاليم الإسلام فى أسرتي ، ولا ادخل أبنائي أية مدرسة لا تحفظ عقائدهم وأخلاقهم ، وأقاطع كل الصحف والنشرات والكتب والهيئات والفرق والأندية التي تنادى تعاليم الإسلام .

5- أعتقد أن من واجب المسلم إحياء مجد الإسلام بإنهاض شعوبه وإعادة تشريعه وان راية الإسلام يجب أن تسود البشر ، وأن من مهمة كل مسلم تربية العالم على قواعد الإسلام .

وأتعهد بان أجاهد فى سبيل أداء هذه الرسالة ما حييت ، واضحي فى سبيلها بكل ما املك .

6- أعتقد أن المسلمين جميعا امة واحدة تربطها العقيدة الإسلامية ، وان الإسلام يأمر أبناءه بالإحسان إلى الناس جميعا .

وأتعهد بان أذل جهدي فى توثيق رابطة الإخاء بين جميع المسلمين وإزالة الجفاء والاختلاف بين طوائفهم وفرقهم .

7- أعتقد أن السر فى تأخر المسلمين ابتعادهم عن دينهم ، وان أساس الإصلاح العودة إلى تعاليم الإسلام وأحكامه ، وأن ذلك ممكن لو عمل له المسلمون .

فكانت هذه أول مرة أصادف قوما يعتقدون ما أعتقد بتفاصيله ودقائقه ، فكان تجاوبا عجيبا ، ولكن تجربتي أسابقه فى جمعيات رشيد التي أشرت إليها قبلا ، أفقدتني الثقة فى الذين يدعون العمل للإسلام .

كان إسماعيل يقابلني فى الكلية كل صباح ، ويقص على ما سمع وما رأى فى ليلته الماضية وأناقشه ويناقشني ، ويخرج فى كل مرة برأي معين ونقيم لكل ما رأى وكل ما سمع .. حتى طاف بجميع الأحزاب والهيئات ولم أراه شعر برضا عن أي منها .. فوجهته إلى جمعيات إسلامية كانت موجودة ومشهورة منها جمعية مكارم الأخلاق والجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة ؛ فطاف بها جميعا ولم يخرج منها بشئ يرضى شغفه ويملأ فراغ نفسه ، وأحسست منه ضجرا مما قد يسلم إلى اليأس .

ونذكر المجلة التي أشرت إليها آنفا فقرات عنوان الدار التي تصدرها وقلت له : لم يبقى فى جعبتي إلا جمعية واحدة قرأت عن مبادئها فأعجبتني وملأت نفسي لكن عندي سوء ظن بالناس الذي يعملون بالجمعيات الإسلامية نتيجة تجربة لي سابقة فسأعطيك عنوان هذه الجمعية لتذهب إليها لا لتناقش مبادئها وأفكارها بل لتراقب لي العاملين بها لاسيما رئيسها .. ولقد كنت تقضى فى كل حزب أو هيئة ثلاث ليال أو أربع لكنى أريد أن تقضى فى هذه الجمعية فترة طويلة لا تقل عن الشهر لأن مراقبة العاملين تستغرق وقتا طويلا ..

ذهب إسماعيل إلى هذه الجمعية فى العنوان الذي كتبته له وهو 13 شارع الناصرية بالسيدة زينب وكان كل صباح يقص على ما رأى وما سمع وما لفت نظره ، وكان يمكث بالجمعية كل ليلة حتى تغلق أبوابها .

أخبرني عن رئيسها ووصفه لي فتذكرت الرجل الذي زرته وصديقي جمال فى حارة الروم ووجدت أوصافه حين وصفه إسماعيل تنطبق عليه تماما .

بعد انقضاء الشهر شعرت بأنني أصبحت مقتنعا بالعاملين فى هذه الجمعية كما شعرت بان إسماعيل يبادلني نفس الشعور ، وقد قررت بمحض اختياره أنه يركن مطمئنا إلى الجمعية .

وقد زكيت اختياره وقلت له إذن فاذهب الليلة إليهم وحرر طلب التحاق بها ، وواظب على اجتماعاتها فقال لي : إنا وحدي ؟ .. قلت : نعم أنت وحدك .

قال ولم لا تكون أنت قبلي وأنت أحق منى وانفع ؟ . قلت : إن لي ارتباطات مع هؤلاء القوم ، والحركة السياسية الآن على أشدها ، ولا استطيع أن أنسلخ والحالة هذه فيقال أنى جبنت . فذهب إسماعيل والتحق .

كنا نحن - الطلبة الوافدين -نعد العدة للقيام بمظاهرات ضد القصر والحكومة القائمة - وزارة أحمد نسيم - ومن ورائهما الإنجليز .

فكنا نجمع الطلبة فى النادي السعدي ونشحنهم بأفكارنا وبالخطب التي كان يلقيها النحاس باشا وبعض لكبار أعضاء الوفد .. وكان السكرتير العام للوفد مكرم عبيد يحضر إلى الجامعة ويخطب فيها ويحمله الطلبة على أكتافهم هاتفين - وصحف الوفد فى نفس الوقت تشعل الحماس بمقالات ما تهبه ... كل ذلك هيا الظروف لقيام مظاهرة ضخمة ضمت عدة آلاف من طلبة الجامعة وسميت هذه المظاهرة فيما بعد بمظاهرة كوبري عباس .

مظاهرة كوبري عباس 1936 :

لاشك فى أن مظاهرة كوبري عباس هذه كانت الخط الفاصل فى حياتي ، كما أنها أيضا كانت حركة تاريخية جعلت الطلبة والأهالي على بينة من أن الإنجليز أعداء الداء ، فقد خرج طلبة الجامعة المصرية من كلياتهم بالجيزة فى مظاهرة سليمة لا تمتد يدها إلى تخريب أو عنف ، وإنما كانت تهتف هتافات موحدة بسقوط وزير بريطاني اسمه صمويل هور لأنه هو الذي أوحى بإلغاء دستور سنة 1923 ، ويطالبون فى هتافهم بإرجاع هذا الدستور ، كما يهتفون بسقوط حكومة نسيم .

وقد سارت المظاهرة فى سلام من حرم الجامعة مخترقة شارع المدارس ثم ميدان الجيزة ثم اتجهت إلى الشارع المؤدى إلى كوبري عباس الذي يصل القاهرة بالجيزة ، ودخلت الجموع كوبري عباس حتى إذا صارت فى منتصفه إذ بالكوبري يفتح فجأة فيقسم المظاهرة قسمين ، قسم كان قد عبر الجزء المفتوح وأصبح فى الجزء المؤدى إلى الروضة وقسم حال فتح الكوبري بينه وبين مواصلة السير للحاق بزملائه فكان عليه أن يرجع أدراجه إلى الجيزة .

حاول هذا الجزء الرجوع فإذا به يجد نفسه محاضرا بقوات تطلق العيارات النارية ، وحاول الجزء الآخر مغادرة الكوبري إلى الروضة فإذا به يجد نفسه محاصرا بقوات عند نهاية الكوبري تطلق العيارات النارية . والذي دبر هذه المؤامرة الغادرة ضباط إنجليز على رأسهم حكمدار القاهرة الانجليزي (( رسل باشا )) رأيناهم بأعيننا يصدرون الأوامر إلى جنودنا المغلوبين على أمرهم بضربنا بالرصاص .

كان الرصاص يملأ الأرض والجو ويطلق فى كل اتجاه وامتلأت الأرض بالمصابين ، ولم يكن أمام الطلبة العزل المساكين إلا أن يجروا فى كل اتجاه باحثين عن مهرب من هذا المطر المنهمر من الرصاص كأنما هي حرب بين بلدين غدرت أحداهما بالأخرى بينما كانا على مائدة الصلح ، فإحداهما عزلا حتى من عصا في يدها والأخرى كانت تخفى ثيابها أفتك السلاح ... غدر لا مثيل له .

استطعت بعد الخوض بين جثث الزملاء الملقاة على الأرض أن أغادر الكوبري وانزل تحته حيث الأحراش والطين ، ومع ذلك لم نسلم من الطلقات فقد تابعونا بالرصاص أيضا .. ووقفت لحظة مع بعض الزملاء ودوى الرصاص يصم آذاننا ، وهنا تمثلت أمامي صورة لي وأصبت وتضرجت فى دمائي وقابلت ربى .. فماذا أقول له حين يسألني فى سبيل ماذا قلت ؟ سأقول له فى سبيل دستور 1923 ... هل دستور 1923 هو الدستور الذي انزله الله ليحكم هذا العالم ؟ هل هو الدستور الذي قال الله تعالى فى شانه (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) .

هنا ، وتحت كوبري عباس ، وتحت وابل الرصاص ... وشبح الموت يطاردنا فى كل مكان ... فى تلك اللحظة قررت إن كتبت لي الحياة لأصححن اتجاهي . ولتكونن حياتي كلها لله وحده ، ولاختطن لنفسي الخط الذي أراد ال