الجامعة العربية بين الحصار والحوار
في اجتماع مجلس الجامعة العربية الذي عقد بالقاهرة في 26/11/2008 أثيرت مجموعة نقاط تتعلق بالوضع الفلسطيني وكلها مهمة، ولنر كيف تتصرف الدول الأكثر تأثيراً في مواقف مجلس الجامعة. وسنعمد إلى الإشارة دون ذكر الأسماء تجنباً لأي تأويل في الانحياز ضد البعض مع الآخر، لأن المهم هو العنب لا مقاتلة الناطور، أي تصحيح الموقف وليس الدخول في صراع، على الأقل في هذه المرحلة من تطور مواقف مجلس الجامعة.
بدايةً، يجب أن نلاحظ أن مجلس الجامعة راح يميل كثيراً في مصلحة جانب دون جانب في الانقسام الراهن، والذي طرفه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وفي المقابل حركة حماس بوصفها تمتلك الأغلبية في المجلس التشريعي. فالخروج عن الموقف التقليدي للجامعة العربية وللوسطاء في الحوار وعن إبقاء مسافة واحدة بين الأطراف المتصارعة أو المختلفة أو المنقسمة، ثم الانحياز المكشوف ضد طرف كما ضد ما يمثله من موقف سياسي تشاركه فيه بالتأكيد الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية، فهذه الأغلبية الساحقة -بدلائل كثيرة- ضد المفاوضات الثنائية السرية برعاية أميركا، والتي يمثلها الرئيس الفلسطيني وغرق فيها إلى فروة رأسه، وقد قدم فيها الخطير من التنازلات فيما يتعلق بقضية اللاجئين أو حق العودة أو في تبادل الأراضي، خصوصا حول القدس.. وغير ذلك مما سيكشفه المستقبل القريب. يقينا ثمة خطورة كبيرة على الجامعة العربية، وإساءة إلى دورها وفعاليتها وهيبتها حين لا تحافظ على مسافة واحدة بين أطراف الساحة الفلسطينية فيما يتعلق بالانقسام الراهن، كما حدث في الاجتماع الأخير في مجلس الجامعة المذكور أو من أغلبية وزرائه، أو من قبل أية دولة عربية. والانحياز إلى محمود عباس تحت ادعاء احترام الشرعية الدولية (يا للهول)، هو انحياز سياسي لما يمثله من مواقف وسياسات أشيرُ إلى بعضها لا كلها، مثلاً لم يُشر إلى ما ترتكبه حكومته برئاسة سلام فياض من جريمة نزع سلاح المقاومين من كل الفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية، ورفض حتى اعتبارهم معتقلين سياسيين، ناهيك عما يتعرضون له من تعذيب في التحقيق لجمع المعلومات من أجل تفكيك خلايا المقاومة.
ويشكل الانحياز في الساحة الفلسطينية من قبل الجامعة -سواء أكان قرارها من أغلبية كبيرة أم صغيرة- سابقة خطيرة: أولاً على مستوى دور الجامعة في الساحة الفلسطينية، وثانياً على دور الجامعة عموماً وسمعتها التي لا تحتاج إلى المزيد من النقد والتجريح، والأهم ثالثاً بالنسبة إلى ما يحدث الآن من انهيارات داخلية في عدد من الدول العربية، فكل من يطعن المقاومة الفلسطينية سوف يتخلخل وضعه الداخلي أكثر فأكثر.
هنا يجب الانتباه إلى قضيتين:
- القضية الأولى أن مجلس الجامعة للأسف لم يفعل شيئاً إزاء حصارٍ حتى الموت لمليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة، وبيده على الأقل معبر رفح. ودعك من الحديث عن اتفاقية رفح بين الكيان الصهيوني والرئاسة الفلسطينية والاتحاد الأوروبي، فلا الاتحاد الأوروبي موجود، ولا الرئاسة الفلسطينية تستطيع أن تطالب أو توافق على إغلاق المعبر، وهي تعلن العكس، ومن ثم لا يبقى غير حكومة أولمرت المستقيلة الهالكة، فمعبر رفح بيد مجلس الجامعة العربية ما دام قد اعتبر نفسه مسؤولاً عن الوضع الفلسطيني إلى حد تكليف رئيسه بمواصلة مهمته بعد انتهاء شرعيته المنصوص عليها في النظام الداخلي المعدل (الدستور)، أي وضع نفسه فوق المجلس التشريعي والفصائل الفلسطينية مجتمعة حتى فوق الرئيس الذي يفترض به أنه يحرص على ألا يتحول إلى «رئيس معين» من مجلس الجامعة العربية.
- القضية الثانية: أن التدخل ومحاولة الفرض لها تبعات كثيرة، منها تحمل مسؤولية ما يمكن أن يترتب من صراع نتيجة مثل هذا الانحياز، لأنه سيشجع الرئيس ومن معه على مواصلة الانقسام من خلال إسناد ظهره إلى حائط الجامعة العربية رغم أنه حائط مائل. ولشد ما طالبنا بأن تتحول الجامعة إلى أسد في الحروب ضد الاحتلال الصهيوني في فلسطين أو الاحتلال الأميركي في العراق، حتى يصبح حائطها يمكن الاستناد إليه، فما أصعب أن يصرخ محاصر اليوم في قطاع غزة بقول الشاعر «أسد عليّ وفي الحروب نعامة.. قد كنت تخشى من صفير الصافر».
باختصار، لقد خطا مجلس الجامعة العربية خطوة غير محسوبة في الانحياز الذي اتخذه بين الأطراف الفلسطينية في اجتماعه الأخير، وهذه الخطوة -كما يبدو- يراد منها أن تمهد لخطوات أخرى في الاتجاه نفسه، أي جعل المهمة الأولى للجامعة محاصرة حماس ومحاصرة قطاع غزة سياسياً بدلاً من التصدي لما تتعرض له القدس من تهويد واستيطان وما يجري من حفريات تحت المسجد الأقصى وبناء كنيس تحته وآخر بالقرب منه، وكان على مجلس الجامعة أن يكسر الحصار متحدياً الإرادة الأميركية والإسرائيلية من أجل أن «يخزي عين الشيطان» ولو لمرة واحدة. والغريب ما صدر من تقارير في اليوم نفسه عن مخططات الاستيطان في القدس الكبرى، وقد هدفت إلى إيجاد وقائع لا تسمح بأي إمكان للحديث عن القدس غير تسليمها بالكامل عاصمة للدولة العبرية، بعد أن تكون رُصفت بأبنية الإسمنت وقُطعت بالطرق التي تمزق الوجود العربي من حولها وحتى داخلها، وهو ما لم يهز شعرة في بدن مجلس الجامعة رغم أنه يدكّ الجبال ومنه تندك الجبال، ولكن لماذا يؤخذ موقف حاسم ما دام الشعب الفلسطيني المستضعف من أصحاب المعالي أمامهم ويمكنهم أن يلوحوا له بالعصا الغليظة، فيما مواجهة ما تفعله أميركا وإسرائيل يبعد عن الاعتدال والعقلانية والتلويح بأغصان الزيتون.
ثمة حجة ترددت في أروقة الجامعة العربية أن «الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني يؤثر على الجهود الدولية للدفع بعملية السلام إلى غايتها المنشودة»، والعجيب في هذه الحجة القائلة إن «عملية السلام» (المفاوضات الثنائية السرية) انطلقت فور وقوع الانقسام لا قبله واستمرت وقطعت أشواطاً والانقسام على أشده، وما زالت جارية على قدم وساق، بل أُعلنَ على لسان بوش وكونداليزا رايس وأولمرت أن عودة التفاهم الفلسطيني بوجود حماس فيه ينهي المفاوضات فوراً، مما يعني أن الانقسام هو المرحَّب به من جماعة الحريصين على «عملية السلام» التي انطلقت من أنابوليس، ومن ثم فعندما يصبح موضوع الحوار مُلحّاً، فيجب أن يتجه إلى الانحياز ضد حماس ومحاصرتها وعزلتها (وأكثر إن أمكن) من أجل «وحدة وطنية» «تمضي بعملية السلام» إلى «غايتها المنشودة» فهل هذا ما أراده مجلسالجامعة؟