الثورة التى لا دين لها
بقلم: ابن المبارك
أثناء كتابتى لبحث " إيران للفخر أم للأسف " , اضطررت إلى القراءة عن بعض الثورات الأخرى فى القرن الماضى , كالثورة الروسية البلشفية ( 1917) وثورة غاندى الهندية ( 1934 -1947) , وثورة الجزائر ( 1954- 1962) .. كى أستنتج العوامل المشتركة بين الثورات , ومدى ثبات هذه العوامل وتوافقها مع السنن الكونية , وتأثير الأيدلوجيات المختلفة على الحشد الجماهيرى الذى يصاحبها.
ومع الاختلاف الواضح بين كل هذه الثورات فى أهدافها , وخاصة الفارق بين ثورة ضد المحتل وثورة ضد أنظمة حكم (وطنية) .. إلّا أنّ العنصر المشترك الذى لا ولن يتغير هو الشعب ( لم يتغير سوى فى ثورة يوليو 1953 المصرية التى لم يكن للشعب علاقة بها , وسميت بالثورة بدلاً من الانقلاب ! ) .
بعد الثورة التونسية التى لم تجف دماؤها بعد , انهالت على ذاكرتى مشاهد الثورة الإيرانية , والمقارنات البحثية التى عقدتها , وشعرت أننى بحاجة إلى إعادة النظر فيما كتبت عن الاستنباطات المستقاة من الثورة الإيرانية الإسلامية .. الذى قلت عنها فى الفصل الأول هذه المقاطع :ـ
(( فى أول فبراير 1979, ظهرت طائرة الخمينى فى سماء طهران فى مشهد لا يوصف وسط أكثر من 6 ملايين إيرانى منتظر لهذه اللحظة , واستقرت الطائرة فى مقبرة الشهداء ثم إلى المدرسة الخمينية التى سيقيم عندها الخمينى .. هبط الخمينى من طائرته وبصحبته لفيف من القادة المعارضين والذى كان معظمهم من المنفيين السابقين , ليصبحوا بعد ذلك أول وزراء فى الجمهورية الإسلامية الإيرانية .. وكان مع الخمينى ابنه أحمد الذى كان حلقة الوصل بين باريس وطهران وابراهيم يزدى (وزير الخارجية بعد ذلك) والسيد حسن بنى صدر (أول رئيس للجمهورية) والسيد صادق قطب و داريوش فردهر ذو الاتجاه القومى .. جسّد هذا المشهد معانى متداخلة .. فهذه المجموعة عدا أحمد الخمينى تنتمى الى تيارات ليبرالية متنوعة أكثر منها تيارات اسلامية سياسية, وعليه فقد كان نزول الخمينى مع هؤلاء تجسيداً لاتحاد موازين القوى السياسية فى إيران, فكل التيارات السياسية شاركت بشكل أو بآخر فى الثورة وعلى رأسهم :ـ
- الجبهة الوطنية الإيرانية , التى كان الدكتور محمد مصدق رائداً لها.
- نهضة المقاومة الشعبية , التى أسسها بازركان.
- مجاهدى خلق , التى أسسها مسعود رجوى وكان آية الله طالقانى الأب الروحى لها.
- رجال الدين فى الحوزات العلمية وعلى رأسهم آيات الله فى قُم .
- جماعة شريعتى , وكان معظمها من الطلاب المتأثرين بعلى شريعتى وأفكاره الحديثة.
- حزب تودة الشيوعى.
كل هؤلاء جمعهم هدف واحد كبير هو إزاحة الشاه وإقامة جمهورية ديقراطية حديثة , ووقع اختيارهم على زعيم المرحلة " الخمينى " , ليقود الثورة باعتباره زاهداً فى الحكم, إلا أن شكل السلطة بعد ذلك لم يأخذ بهذا الاعتبار, لتنتهى بذلك رحلة الثورة فى أول مراحلها, فهى إن كانت أكثر المراحل حساسية فقد كانت المرحلة التالية لها أكثر تعقيداً )) .. (( إن أهم الخلاصات المستفادة من الثورة الإيرانية والتى يجب أن توضع فى الاعتبار عند عقد المقارنات وجس نبض الأوضاع القائمة :ـ
1. الرهان على الشعب بكل فئاته الإجتماعية - قبل السياسية - فى تأييد مطالب الثورة وخاصة الطبقات المتوسطة , وقد نجحت الثورة فى الوصول إلى هؤلاء وتحريكهم بكل الوسائل المتاحة ,الشعبية والميدانية والتكنولوجية.
2. كأى نظام استبدادى , لم يكن الواقع كله يصل إلى الشاه , وأخفى المقربون منه كثير من الحقائق والتقارير عن وضع البلاد عبر سنوات طويلة, فجاءت معظم تقديراته فى غير محلها وما ترتب على ذلك من التخبط , وقد أدى ذلك أيضاً لمزيد من التدخلات الأجنبية .
3. البعد العقائدى الدينى - كدافع - أقوى من أى أيدلوجيا فكرية أخرى , حيث يتلاءم مع الفطرة الإنسانية ويعتمد على مكاسب غيبية تزيد من تحفيز الوجدان الدافع للعمل والصمود.
4. دور الطلاب فى أى عملية تغيير سياسية, حيث الاستفادة من طاقاتهم وأعدادهم وحماستهم المتقدة دائماً, بالإضافة إلى استخدامهم كورقة ضغط داخل أكبر مؤسسة تعليمية.
5. لاشك فى أهمية دور الامبراطورة فرح - زوجة الشاه - فى التأثير على كثير من القرارت السياسية ومنها القرارات المعقدة وذات الحساسية, وغالباً ما يأتى الدافع من تدخلات الزوجة عاطفى ثم اقتصادى ثم سياسى, فلقد ظلت تلّح على الشاه بتوريث الحكم لابنه فرفض مراراً .
6. كان الإعلام أحد أكبر المؤثرات فى نجاح الثورة, ولقد استفاد الخمينى منه بصورة جيدة فكانت أحاديثه اليومية لا تنقطع عن الصحف والتلفزيون فى كل أنحاء العالم, بالإضافة إلى أشرطة الكاسيت لخطبه المسجلة والتى كانت توزع على نطاق واسع داخل المجتمع الإيرانى, ولا نغفل بالطبع دور إذاعة البى بى سى البريطانية فى فتح المجال أمام معارضى حكم الشاه .
7 . دور المسجد كعنوان للثورة الدينية , حيث كان الخمينى قد أسس ما يسمى " باللجان الثورية " التى اتخذت من المساجد مقراً لها معتبراً أن بيوت الله لا يستطيع أحد انتهاكها , كما اعتبر المسجد مصدر أمان للاجتماعات والتخطيطات , كما أنها مصدر للإلهام واستمداد " المدد الربانى " , ودمج القوة الروحية المستمدة من الصلاة والذكر والعبادة بالقوة الثورية فى التخطيط والتنفيذ حسب تعبيره )) .
هذا بعض ما كتبته فى المبحث الأول عن الثورة الإيرانية الذى بدأته بقول الشاعر التونسى :
إذا الشعبُ يوما أراد الحياة
- فلابد أن يستجيب القدر
ولا بُـد لليـلِ أن ينجلِــي
- ولا بُد للقيدِ أَن ينكسِـر
وتونس اليوم كشفت مالم يتوقعه أحد فى القرن الواحد والعشرين .. ولعل أبرز ما فيها أنها أيدت أحد أهم قوانين الثورة التى عبّر عنها غاندى بقوله : ( أن 100 ألف جندى فى الجيش لا يستطيعون فعل شيئ أمام 300 مليون هندى ) , وقال الخمينى ذات المعنى : ( أى جيش فى العالم مهما بلغت قوته لن يستطيع أن يفعل أى شيئ أمام 35 مليون إيرانى ثائر ) .
لكن يبقى السؤال ملحّاً : ما الذى حدث فى تونس ؟؟ وأى أيدلوجيا هذه التى حركت الجماهير الغاضبة فتحملت بكامل إرادتها تضحيةً بـ90 شهيداً ومئات الجرحى ؟ وما الذى ينقص الدول الأكثر احتقاناً من تونس كى تنتفض؟ ـ
ثم ما مدى دقة وواقعية تعبير إبراهيم عيسى الغاضب حين قال : ( أثبت الشعب التونسى أن التيارات الإسلامية فى الدول العربية أكثر عجزا من أن تقف إلى جانب الشعب وأنها مجرد وهم كبير يستخدمه كل حاكم مستبد كى يفزع حكام وحكومات الغرب وساعة الحقيقة لا سلفيين ولا اخوان ولا جماعات بل هم فرق حلقية مغلقة لا تتصل بغير أعضائها ولا تعرف التواصل والاتصال بالناس بل كل مطالبها التى ترفعها هى مطالب ذات شعارات دينية لا علاقة لها بواقع الاضطهاد السياسى والاقتصادي! ) ؟؟
وهل كان رفيق حبيب أكثر صراحة من الحركات الإسلامية حين قال : (( أي قوة تملك بنية تنظيمية لها جذور في المجتمع كجماعة الإخوان ، لا يمكنها أن تقود حركة الشارع مثل قيادتها لحركة التنظيم , ونقصد من هذا أن عملية قيادة الشارع وقيادة حركته التلقائية لتحويلها من فعل غير منظم إلى فعل منظم، تنطوي على نسبة من المخاطر لا يمكن تجاهلها. وهذه النسبة تتمثل في قدر من الفوضى، وربما قدر من التخريب , بمعنى .. أن من يستطيع قيادة الشارع ، يمكنه السيطرة عليه نسبيا وليس كليا, وبسبب تلك النسبة من مخاطر الفوضى، تبدو جماعة الإخوان ورغم أنها قادرة على القيام بهذا الدور(تحريك الشارع) ، لا تريد القيام به لأنه ينطوي على قدر من المخاطر التي ترفضها، أي الفوضى واحتمالات الثورة التلقائية أو العشوائية فالمتابع لجماعة الإخوان المسلمين، يعرف أنها لا توافق على عملية التغيير التي تحدث من خلال انتفاضات الشارع غير المنظمة. حيث تميل الجماعة للحذر الشديد من حدوث فوضى في البلاد، رغم أن تلك الفوضى تكون في أحيان معينة ملمح من ملامح العصيان المدني.
وجماعة الإخوان أيضا تنأى بنفسها عن الأعمال غير المنظمة، وكل الأعمال التلقائية من الشارع تكون في الغالب بحكم أنها شعبية وتلقائية غير منظمة. وحالة الشارع المصري اليوم تتجه إلى نوع من الاعتراض والاحتجاج التلقائي العام، وهو سلوك تلقائي وغير منظم. وهو في نفس الوقت، فعل عام من الشارع المصري، قد يتحول في لحظة إلى فعل مؤثر على مجريات الأمور السياسية في البلاد.
وهنا نصبح أمام موقف حرج، فاحتمالات تحرك الشارع قائمة بما فيها احتمالات الفوضى، والقوة القادرة على قيادة الشارع وهي جماعة الإخوان لا تريد أن ترتبط بأي موقف ينطوي على قدر من الفوضى. وبهذا نتوقع عند حدوث تحرك واسع في الشارع المصري يخرج بتلقائية وبصورة غير منظمة، أن جماعة الإخوان لن تقوم بدور المنظم أو القائد لهذا التحرك، وبعض القوى السياسية المعارضة سوف تشترك فيه دون أن تتمكن من السيطرة عليه، وسوف يغيب الإخوان عن المشهد ببقائهم على هذا الحذر والتخوف ، وبالتالي سيغيب الإخوان عن توجيه مسار حركة التغيير الناتجة من تحركات الشارع. ولن تستطيع جماعة الإخوان منع مشهد التغيير والفوضى، فهو نتاج الوضع الراهن، وبهذا يصبح هناك احتمال بأن يحدث غياب لجماعة الإخوان عن لحظة تغيير، ويفقد المجتمع المصري دور التنظيم الأكبر به، وتفقد الجماعة أن يكون لها دور في علمية التغيير. وهي قد تكون خسارة للطرفين معا )) .
أسئلة شائكة .. نحاول الإجابة عنها قريباً .. بثقة كاملة , أن أى تأخر فى الإجابة مهما بلغ , سوف يكون قبل أى ثورة محتملة فى مصر !!ـ