التوجه الإصلاحي في الحركات الإسلامية

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
التوجه الإصلاحي في الحركات الإسلامية إلى أين؟
التوجه.jpg

بقلم: إبراهيم غرايبة*


-خريطة العمل الإصلاحي

بين الإصلاحي والسياسي

الدين والإصلاح والتقدم

يمكن رصد الكثير من المؤشرات والأدلة على الوجهة الإصلاحية التي بدأت الحركات الإسلامة تسلكها وإلى تحولها من أعمال تنظيمية وحزبية إلى مؤسسية ومجتمعية. وقد حظيت الظاهرة الإسلامية أو الصحوة الإسلامية أو الحركات الإسلامية أو الإسلام السياسي بدراسات كثيرة جدا مبالغ في كثرتها. ولكنها دراسات يغلب عليها الطابع السياسي والاهتمام الإعلامي, ولم تدرس إلا نادرا في سياقها الاجتماعي والموضوعي.

”وكان خروج الإخوان في بداية تأسيسهم من المغانم والممارسة اليومية فرصة للرقابة والمصداقية والنزاهة وأن تكون حكما ومرجعية للأفراد والسياسيين وموضع تنافس من جميع الأطراف على كسب تأييدها، فكانت بذلك أقدر على التوفيق والإصلاح والدعوة ومساعدة المجتمعات على الاختيار”

لقد أصبحت صيغ العمل الإسلامي شبكة كبيرة وشاملة ومعقدة من العمل الرسمي الحكومي والمؤسسات والعمل المجتمعي, وتشمل العمل السياسي والتعليمي والتطوعي والصحي والاقتصادي والثقافي. ويعبر عن نفسه في هيئة وزارات ومؤسسات حكومية وجامعات ومدارس ومنظمات ودولية وإقليمية ومحلية وشركات وبنوك وجمعيات ونقابات وأحزاب وجماعات وأعمال فردية ومبادرات شخصية ومشروعات مجتمعية وأهلية.

وبرغم هذا التطور والنمو في العمل وامتداده إلى كل مناحي الحياة, فإنه غير مغطى بالدراسة والتنظير والتوثيق. وتبدو عملية فهمه وتحليله خاضعة للأحداث السياسية والتفاعلات اليومية دون محاولة إلا قليلا لفهم حراك المجتمعات العربية والإسلامية وشخصيتها الحقيقية التي لا تصوغها بالتأكيد حوادث الاغتيالات والتصريحات الصحفية والفتاوى الدينية.

وقد تكون الأحداث الجارية اليوم ليست أكثر من فرصة للكتابة في هذا الموضوع, لكنها بالتأكيد ليست مدخلا أساسيا في صياغة مسار الحركات والمجتمعات والدول الإسلامية.

خريطة العمل الإصلاحي

بدأ العمل الإصلاحي الحديث بمبادرات ومشروعات وأفكار ودعوات للنهضة والإصلاح أو للتحرر والاستقلال ومقاومة الاحتلال. قام بها مصلحون وقادة ومفكرون مثل محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، وجمال الدين الأفغاني في مصر والدولة العثمانية، ومحمد عبده ورشيد رضا في مصر، وعبد الرحمن الكواكبي في الشام، ومحمد بلحسن بلحجوي وعلال الفاسي في المغرب، وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي في الجزائر، وسعيد النورسي في تركيا، والطاهر والفضل بن عاشور في تونس، والمهدية في السودان والسنوسية في ليبيا والمريدين بقيادة الإمام شامل في القفقاس، والدهلوية في الهند وحركة دان فوديو في نيجيريا.

كانت هذه الحركات والمشروعات والمبادرات والدعوات قائمة على إصلاح الخلافة والدولة العثمانية أو تحديها ببدائل يراها أصحابها أفضل, أو أنها على هامش الدولة وبعيدا عن تأثيرها وغير معنية بها. ثم شغلت بمقاومة الاحتلال والاستعمار والعمل على التحرر والاستقلال، وانشغل بعضها بالنهضة والتقدم واستيعاب تجربة الغرب وتطوره كما في حالة رفاعة الطهطاوي.

ثمة اتجاه فكري وتاريخي سائد أن جمال الدين الأفغاني هو مؤسس الحركة الإسلامية المعاصرة, وأن جهده الفكري والإصلاحي حمله من بعده تلميذه الشيخ محمد عبده. وقد أثر الأفغاني في جيل كامل من المسلمين, وكان له نفوذ وتأثير في مختلف أنحاء العالم الإسلامي التي طاف بها من أفغانستان إلى إيران والهند وفرنسا ومصر والعراق وتركيا.

وكان له عبر تلاميذه وبخاصة محمد عبده تأثير على المفكرين والمثقفين في مصر وبلاد الشام وبخاصة إصلاح مؤسسات التعليم كالأزهر والمحاكم. وامتد هذا التأثير إلى رشيد رضا الذي كان لمجلته "المنار" صدى وتأثير في كل أنحاء العالم الإسلامي، وكان حسن البنا على صلة قوية برشيد رضا وقد استأنف لبعض الوقت مجلة المنار بعد وفاة الشيخ رشيد رضا.

”لقد كانت حركة "الإخوان المسلمين" بقيادة مرشدها حسن البنا محاولة في التعبير السياسي عن الفكرة الإصلاحية الإسلامية, غير أنها انتهت في هذه المحاولة من التعبير عنها في مشروع سياسي حزبي إلى إجهاضها كمشروع فكري”

وتعد سلسلة جمال الدين الأفغاني - محمد عبده - رشيد رضا - حسن البنا - سيد قطب - عمر عبد الرحمن - أيمن الظواهري من أكثر المسارات دلالة على تطور وتنوع الحركات الإسلامية وتعددها واختلافها والمراحل التي مرت بها الحركات الإسلامية,

وهي نموذج متكرر في كل أو معظم البلدان العربية والإسلامية, ولكن النموذج المصري يساعد كثيرا على التعميم والفهم لثراء التجربة نفسها وحرية المعرفة حولها. وقد يستدرجنا التسلسل الزمني والعلاقات الظرفية إلى فهم مضلل عن علاقات الحركات ببعضها، والصحيح أن منظومة البيئة المحيطة بالعمل الإصلاحي والعام وحراك الأمة والمؤثرات المحلية والظروف الخارجية والتقدم والإنجاز والفشل الذي تحقق كون مشهدا معقدا من الحالات والأعمال والمواقف والأفكار غير المتسلسلة عن بعضها بالضرورة.

يبدو الطابع الإصلاحي لجماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا عام 1928 قويا وواضحا، ثم شهدت فيما بعد تحولات كبرى أشبه بالاختطاف. فقد نصت أهداف الجماعة كما في قانونها الأساسي الذي أقر عام 1948 على أن "الإخوان المسلمون" هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق الأغراض التي جاء بها الإسلام

وما يتصل بهذه الأغراض: شرح دعوة القرآن الكريم، وعرضها وفق روح العصر، وجمع القلوب والنفوس على المبادئ القرآنية، وتقريب وجهات النظر بين الفرق الإسلامية المختلفة، وتنمية الثروة القومية وحمايتها وتحريرها، والعمل على رفع مستوى المعيشة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتأمين الاجتماعي لكل مواطن، والمساهمة في الخدمة الشعبية، ومكافحة الجهل والفقر والمرض والرذيلة، وتشجيع أعمال البر والخير، وقيام الدولة الصالحة، ومناصرة التعاون العالمي، والمشاركة في بناء السلام والحضارة الإنسانية، وتحرير وادي النيل والبلاد العربية والوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي.

ويعتمد الإخوان المسلمون في تحقيق هذه الأغراض وسائل الدعوة بطريق النشر والإذاعة والكتابة والصحف والكتب والمطبوعات، والتربية، والتوجيه بوضع المناهج الصالحة في كل شؤون المجتمع, والتقدم بها إلى الجهات المختصة والوصول بها إلى الهيئات النيابية والتشريعية والتنفيذية والدولية، والعمل بإنشاء مؤسسات اقتصادية واجتماعية وعلمية وصحية وخيرية.

”ثمة مثقفون إسلاميون كثيرون ينتمون إلى الإخوان المسلمين أو ممن جاء إليهم من ضفاف الفكرة القومية والإشتراكية، مثل محمد الغزالي ومحمد سليم العوا وطارق البشري، يؤمنون بالعودة إلى مشروع الفكر الإصلاحي واستئنافه وتطوير الوعي الإسلامي بمتغيرات العالم”

لقد كان ثمة اختيار واع لهذا النهج الإصلاحي للجماعة بأهدافها ووسائلها، فلم تذكرعبارة "الدولة الإسلامية" وإنما الدولة الصالحة. ولم يختر البنا أسلوب العمل السياسي الحزبي وكان معتمدا, ولم يحاول الحصول على أغلبية برلمانية, وكانت مشاركته في الانتخابات النيابية رمزية فقط. وكان الشيخ رشيد رضا أستاذ حسن البنا, وكان بينهما علاقة قوية حتى إن البنا استأنف بطلب من ورثة رشيد رضا مشروعه في تفسير القرآن "المنار".

ولم يختر البنا أن يؤسس حزبا سياسيا كما الأحزاب التي كانت قائمة وتعمل بحرية وتتنافس في الانتخابات النيابية وتشكل الحكومات كالوفد والأحرار الدستوريين، وكانت أيضا مشاركة الإخوان في الانتخابات النيابية في الثلاثينيات والأربعينيات محدودة ورمزية, ولم يحاولوا المشاركة الواسعة في مجلس النواب.

وقد ترشح البنا بنفسه عام 1942, ثم انسحب في صفقة مع حزب الوفد الحاكم مقابل مكاسب أخرى في العمل العام. وربما لم يترشح غيره من الإخوان في الانتخابات النيابية, برغم أن الفرصة كانت متاحة للمشاركة الواسعة ولدخول البرلمان والمشاركة في الحكم بتشكيل الحكومة منفردين أو بالائتلاف مع الأحزاب القائمة, كما كان يحدث بالفعل في مصر في الثلاثينيات والأربعينيات. ولكن الانسحاب من هذا المجال في العمل كان اختياريا, لأن البنا لم يكن يرى جماعة الإخوان حزبا سياسيا يسعى للحكم, ولكنه يسعى في إصلاح وتغيير المؤسسات والأوضاع القائمة لتكون الأمة بأسرها مسؤولة عن الدولة والحكومات القائمة, ولتكون مسؤولية تطبيق الشريعة وتحقيق المصالح العامة منوطة بالمجتمع بجميع أفراده وليس برنامحا لحزب أو جماعة.

وكان خروج الإخوان من المغانم والممارسة اليومية فرصة للرقابة والمصداقية والنزاهة وأن تكون حكما ومرجعية للأفراد والسياسيين وموضع تنافس من جميع الأطراف على كسب تأييدها، وهي بخلوها من الأغراض والمنفعة المباشرة وحيادها كانت أقدر على التوفيق والإصلاح والدعوة ومساعدة المجتمعات على الاختيار.

بين الإصلاحي والسياسي

يميز عبد الإله بلقزيز في كتابه "الإسلام والسياسة: دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي" بين اتجاهين أو تيارين إسلاميين. هما الإصلاحي النهضوي الذي يعبر عنه جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد بلحسن الحجوي في المغرب, وتيار الصحوة الإسلامية ويعبر عنه حسن البنا، وسيد قطب، وعبد السلام ياسين في المغرب، وتقي الدين النبهاني (حزب التحرير الإسلامي).

وقد حدثت قطيعة كبرى بين التيارين فاشتغل الثاني منهما بالسياسة، والأول لم ينغمس بها. ولكن المفارقة المثيرة -كما يلاحظ بلقزيز- أن وعي الإصلاحيين كان إلى الوعي السياسي أقرب من وعي"الصحويين" برغم أنهم (التيار الإصلاحي) تمسكوا بموقعهم الفكري كدعاة إلى مشروع إصلاحي مجتمعي، لم تكن مطالبهم متواضعة ولكنها واقعية، ومحكومة بمراعاة حقائق التحول الكوني الجديد الناشئ في امتداد ميلاد المدنية الغربية. وأما "الصحوية" فقد ظلت مثالية غير معنية بالبحث عن الممكنات في مضمار البناء الفكري والاجتماعي, ولم تقدر على التحرر من وهمها الإرادي في اجتراح المعجزات رغم أنف الواقع.

”قد يضلل أفهامنا ويستدرجنا إلى مواقع غير صحيحة ذلك التناول الإعلامي الذي يتعامل مع الظاهرة الإسلامية باعتبارها وحسب عملاً حركياً منظماً تنسقه جماعات إسلامية بعضها معتدل والآخر متطرف, دون ملاحظة تذكر لدور المجتمع أو المؤسسات الرسمية والأهلية”

لقد كان "الإخوان المسلمون" بقيادة مرشدها حسن البنا تلميذ رشيد رضا محاولة في التعبير السياسي عن الفكرة الإصلاحية الإسلامية, غير أنها انتهت في هذه المحاولة من التعبير عنها في مشروع سياسي حزبي إلى إجهاضها كمشروع فكري. فقد أدت اتجاهات الأجيال التالية المرتكزة على أفكار أبي الأعلى المودودي إلى نشوء بنى سياسية متطرفة أساءت استخدام فكرة الجهاد وفتحت المجال السياسي والاجتماعي (التكفير والهجرة وجماعة الجهاد،...). وقد جاءت تجربة المقاومة الأفغانية للاحتلال السوفياتي لتعطي زخما لهذه الحركات على صعيد قدراتها المادية الضاربة بعد أن زودتها الثورة الإيرانية بالطاقة الفكرية والنفسية.

وقد حاولت بعض الاتجاهات في الحركة الإسلامية استعادة طبيعتها الإصلاحية, إدراكا لخطورة التطرف والعنف في مجتمع وسطي معتدل كالمجتمع العربي, وفي ظل توازنات قوى مختلفة لصالح السلطة والعودة إلى أفكار المؤسس حسن البنا منطلقا فكريا وسياسيا, كما حدث في السودان بقيادة الترابي وفي تونس بقيادة راشد الغنوشي اللذين مثلا أعلى حالات الانفتاح والاجتهاد في الفكر الإسلامي "الصحوي" المعاصر. ولكن الترابي سقط سريعا في الإغراء الانقلابي العسكري, ناقلا ميدان الدعوة من مؤسسات المجتمع المدني إلى السلطة, مغامرا بتصفية تراثه الفكري الاجتهادي.

وثمة مثقفون إسلاميون كثيرون ينتمون إلى الإخوان المسلمين أو ممن جاء إليها من ضفاف الفكرة القومية والاشتراكية، مثل محمد الغزالي ومحمد سليم العوا وطارق البشري، يؤمنون بالعودة إلى مشروع الفكر الإصلاحي واستئنافه، وتطوير الوعي الإسلامي بمتغيرات العالم.


الدين والإصلاح والتقدم

لقد أصبح موضوع العلاقة بين الدين والحياة العامة أهم الموضوعات التي شغلت بها دراسات العلوم السياسية في الجامعات ومراكز البحوث والدراسات والمؤتمرات والندوات فضلاً عن الصحافة والإعلام. وقد كانت معظم الصراعات والحروب في السنوات العشر الأخيرة يشغل الدين موقع القلب فيها. وكانت الدراسة الشهيرة لصمويل هنتنغتون عن صراع الحضارات والتي نشرت في مجلة الشؤون الخارجية الأميركية قد أثارت جدالاً واسعاً لم يتوقف حتى اليوم.

والعودة إلى الدين تحولت إلى ظاهرة اجتماعية. قد تكون مسألة الفنانات المتحجبات واحدة من تجلياتها الإعلامية التي امتلكت دوياً إعلامياً, ولكنها تتعدى ذلك إلى أوساط اجتماعية عديدة. ويلاحظ في مدينة عمان كيف تنتشر مساجد في أحياء مقتصرة على الأغنياء، تمتلئ بالمصلين في جميع الأوقات. ولعل من أطرف المشاهد في هذه المساجد هي مجيء نساء غير محجبات للصلاة في هذه المساجد، وربما يكون هذا الاتجاه يحمل بعداً نفسياً وسلوكياً للبحث عن الشخصية والهوية وعن توازنات نفسية وثقافية جديرة بالبحث والتفكير.

ولكن من أهم ما يجب الالتفات إليه في فهم الظاهرة الإسلامية بشكل خاص والدينية بشكل عام, هو التحول المجتمعي الذي يجري في العالم العربي والإسلامي, وكيف انتقل الهم النهضوي والإصلاحي من عمل فردي بدأ في القرن التاسع عشر أو ما قبله بقليل أو في بدايات القرن العشرين. ثم تبلورت المشروعات الدعوية والإصلاحية في حركات وجماعات إسلامية, كجماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية في دول القارة الهندية وحزب الرفاه في تركيا والجماعات والحركات السلفية والصوفية.

وما يحدث اليوم هو تحول في التدين والعمل الإسلامي من كونه عمل جماعات وحركات إلى عمل مؤسسي ومجتمعي تؤديه الأمة بأسرها. وقد يضلل أفهامنا ويستدرجنا إلى مواقع غير صحيحة ذلك التناول الإعلامي الذي يتعامل مع الظاهرة الإسلامية, باعتبارها وحسب عملاً حركياً منظماً تنسقه جماعات إسلامية بعضها معتدل وآخر متطرف, دون ملاحظة تذكر لدور المجتمع أو المؤسسات الرسمية والأهلية.

ويمكن التقاط مجموعة من التعاملات المؤسسية والاستثمارية مع الظاهرة الإسلامية بعيداً عن عمل الجماعات والحركات الإسلامية، مثل البنوك الإسلامية. وقد أنشأ مؤخراً البنك العربي أكبر وأهم البنوك العربية بنكاً إسلامياً "البنك العربي الإسلامي الدولي" وشركات التأمين الإسلامية، وشركات الحج والعمرة، والمحال التجارية المرتبطة بالسلوك الإسلامي كالحجاب والكاسيت. والأمر يتعدى الملاحظات السابقة بكثير, إذا أعدنا النظر والتفكير في دور وزارات الأوقاف والمساجد والجامعات والمدارس ومحطات الإذاعة والتلفزيون والإنتاج السينمائي والتلفزيوني. فسنجد أن جهوداً كبيرة تبذل للدعوة الإسلامية وينفق عليها مئات الملايين، وهي أعمال ستؤدي مراجعتها وإصلاحها إلى حالة حضارية متقدمة.

ومن هنا فإن الظاهرة الإسلامية تفتقد إلى المعلومات الدقيقة الشاملة، ولا تتلاءم دراساتها مع طبيعة الظاهرة ولا مع فهم المجتمع، وتحكمها صورة نمطية يغلب عليها السجال والهجاء والشغل بالإسلام السياسي، وتعاني من العمومية والتكرار ولا تستند إلى ممارسة تحليلية عميقة.

حالة الانبعاث الديني لا تقتصر على العالم الإسلامي, فالعالم كله يشهد بعثا دينيا يؤثر على الحياة العامة والثقافة، ويعيد تشكيل الدول والمجتمعات. فإلى جانب العالم الإسلامي حيث تمثل الحركة والاتجاهات الإسلامية القوة الشعبية الفاعلة والغالبة، تقوم في أوروبا صراعات دينية قومية مثل الكروات والصرب، الصرب والبوسنة، الصرب والألبان، والكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا.

وتحتل الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة مكانة مؤثرة في الحياة السياسية والعامة, وينسب إليها نجاح الرئيس الأميركي بوش وبرامجه ومواقفه، وتمتلك شبكة واسعة من الكنائس والجامعات ومحطات التلفزة والشركات والجمعيات. وفي الهند تغلبت الأصولية الهندوسية على حزب المؤتمر العريق الذي ظل يحكم الهند منذ تأسيسها. وفي أميركا اللاتينية قام دعاة التحرر من رجال الدين الكاثوليكي بمحاولات للإصلاح الاجتماعي والسياسي، مثل مؤتمر مدبللين للأساقفة الكاثوليك عام 1968، ومؤتمر يوبليا عام 1979.

وكانت الكنيسة في أوروبا الشرقية أهم خصم سياسي للشيوعية, ولعبت دوراً مهماً في إسقاطها. وفي سريلانكا يدور صراع بين البوذيين "السنهال" والهندوس "التاميل". والصراع بين المسلمين والهندوس في الهند لم يتوقف. وفي الصين أخذت انتفاضة المسلمين بُعداً جديداً، حيث تقوم الحكومة الصينية بإعدام العشرات منهم بعد أكثر من نصف قرن من التعايش المعقول نسبياً. وهي أحداث تمثل نموذجاً وليست شاملة, وتدل على القوة الكامنة للدين كما تكشف ضعف العديد من الأمم والدول.

”تفتقد الظاهرة الإسلامية إلى المعلومات الدقيقة الشاملة، ولا تتلاءم دراساتها مع طبيعة الظاهرة ولا مع فهم المجتمع، وتحكمها صورة نمطية يغلب عليها السجال والهجاء والشغل بالإسلام السياسي، وتعاني من العمومية والتكرار ولا تستند إلى ممارسة تحليلية عميقة”

إن الدولة ظاهرة حديثة جداً. ولم تكن الدول السيادية في مطلع القرن العشرين تتجاوز العشرين دولة, لكنها اليوم حوالي مائتي دولة. أي أنها تضاعفت خلال مائة سنة عشرة أضعاف، وهي اليوم تواجه تحدياً حقيقياً يهدد مصيرها واستمرار سيادتها وطبيعتها ووظائفها. وتقدم الحركات الدينية في معظم أنحاء العالم شعوراً جديداً بالهوية والانتماء, وتجمع مساعي الشعوب نحو الإصلاح وحياة أفضل, بعدما فشلت معظم الدول والحكومات في تحقيق الرفاه لمواطنيها.

وقد أضافت العولمة وتقنيات الاتصال فرصاً وتحديات جديدة. حيث بدأت الدول تتخلى بسرعة عن كثير من وظائفها وسيادتها لصالح الشركات والمجتمع الأهلي, أو للقوى والمنظمات الخارجية كالأمم المتحدة وحلف الأطلسي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية, أو للشركات العالمية الكبرى التي تحولت بسرعة فائقة إلى دول وإمبراطوريات عملاقة.

يرى جون أسبوزيتو الأستاذ بجامعة جورج تاون أن مشروعات ووعود النخب السياسية بالتنمية وحياة أفضل لم تتحقق، وارتبط هذا الفشل بالعلمانية. وكان المشهد الذي آلت إليه الدول والمجتمعات يدعو إلى ردود فعل عكسية وغاضبة, وبحث عن وسائل وأطر أخرى للإصلاح غير تلك التي سادت طوال هذا القرن، حيث تكونت مجتمعات تستفيد فيها أقلية ضئيلة عدداً من كل مزايا الحضارة الحديثة، وترزح الأغلبية في بؤس وفقر. وكان هذا الغنى الفاحش والفقر المدقع على درجة من التجاور والاحتكاك، تؤدي إلى المواجهة المستمرة.

ويقدم ممثلو الحركات الدينية أنفسهم على أنهم سيحققون مجتمعاً أكثر أصالة وعدالة اجتماعية، ويدافعون عن الفقراء والمضطهدين. وقد جذبت هذه الحركات مهنيين ومثقفين وأساتذة وعلماء تخرجوا من أفضل الجامعات وأهمها في بلادهم وفي أوروبا وأميركا، كما تستخدم بفاعلية التقنية الحديثة ووسائلها الإعلامية في التأثير والاتصال على نحو يبشر بمهارة قيادية وتقنية تؤهلها لقيادة المجتمعات والدول.

فالمجتمعات تبحث بحرقة عن أصالتها وهويتها، ولا يكفي القول إن الفقر والبطالة والتهميش هي الأسباب الوحيدة المحركة للبعث الديني، وسيظل الدين والثقافة لهما وزنهما في التنمية.

”حالة الانبعاث الديني لا تقتصر على العالم الإسلامي, فالعالم كله يشهد بعثا دينيا يؤثر على الحياة العامة والثقافة، ويعيد تشكيل الدول والمجتمعات”

لقد أدت التحولات الكبيرة في المجتمعات ودور الدولة والنمو الكبير للصحوة الإسلامية إلى أولويات ومجالات جديدة للعمل الإسلامي. قد يكون تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة وتقرير التنمية الإنسانية العربية من مؤشرات اتجاهاتها، مثل تحريك الدوافع الثقافية والخبرات المجتمعية في التنمية والنهوض وإعادة تنظيم المجتمعات والمؤسسات باتجاه تحقيق الاحتياجات الأساسية, كالعدل والمساواة والأمن والغذاء السليم والدواء والمأوى والتعليم والتعليم المستمر والانتماء والمشاركة بأقل التكاليف الممكنة وبأفضل مستوى، والتعامل الصحيح مع مرحلة الخصخصة وتغير دور الدولة وربما مفهومها.

وهذا يجب أن يدفع العمل الإصلاحي إلى أوعية جديدة وأولويات تتفق مع هذه المتغيرات والاحتياجات. وكما كانت الحركات الإصلاحية مرتبطة بمقاومة الاحتلال والتحرر والاستقلال انسجاما مع أولويات المرحلة, فإنها في هذه المرحلة مدعوة إلى بذل الجهد والاهتمام بالتنمية الإنسانية والاحتياجات الأساسية, وبخاصة أنها أعمال وبرامج وأولويات تتفق مع خبراتها وإمكاناتها.