التضحية بمفهومها العملي عند جماعة الإخوان

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
التضحية بمفهومها العملي عند جماعة الإخوان


عبده مصطفي دسوقي

مقدمة

لقد حرص الإخوان على ترجمة حروف وكلمات القرآن والسنة النبوية إلى نماذج عملية تعيش في هذا الزمان الذي غيبت فيه هذه المعاني ولذا استطاع حسن البنا خلال عشرين عاما أن يرسخ لجماعته في قلب المجتمع المصري والعالمي، واستطاع أن يترك خلفه تراث عظيم في مختلف المجالات.

حسن البنا وبذل النفس والمال

وأريد بالتضحية:

"بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء في سبيل الغاية، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾ "التوبة: 111"، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ..﴾ الآية "التوبة: 24"، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ﴾ الآية "التوبة: 120"، ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا﴾ "الفتح: 16"، وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم: (والموت في سبيل الله أسمى أمانينا) ".

كانت هذه هي الكلمات التي نطلق بها حسن البنا في مسيرته التربوية لأنصار فكرته والتي سعى لغرسها فيهم وإحطاتهم بهذه المعاني من كل جانب. فالتضحية هي بذل ما يستطيع المسلم تقديمه وبذله من النفس والمال، والوقت والحياة والجهد، وكل شيء ابتغاء مرضاة الله وفي سبيله، لأجل إعلاء دينه سبحانه، وسيادة شرعه، وإظهار الحق، وكسر شوكة الباطل، ونشر الإسلام، وهداية الناس إلى صراط الله المستقيم، ليفوزوا بسعادة الدارين.

وفي هذا الركن من أركان البيعة يذكر الإمام البنا أتباعه بمعنى التضحية الواجبة على الأخ المسلم لأن لكل دعوة لابد لها من تضحيات فلا يظن الأخ انه سيسير في هذا الطريق دون أن يضحي له بشيء من وقته وماله وجهده لأن الدعوات إنما تنجح بهذه التضحيات، والدعوة التي يبخل عليها أفرادها بالجهد والوقت يكتب لها الفشل، وما حال أمتنا وما يحدث لها إلا خوف كل فرد فيها على نفسه وماله وأهله فبخل كل واحد بالتضحية ببعض الأشياء فكبلت الأمة بالمصائب.

فعندما أراد الإخوان شراء دار لهم جديدة بالحلمية دعاهم الإمام البنا إلى الاكتتاب فكانت تضحيته بأكبر نسبة في الأسهم بل تحمل على نفسه بباقي الثمن كدين خاص عليه حتى سدده، ولذا ضرب المثل العملي لأتباعه.

يقول البنا:

"إن لكل دعوة ثمنًا، وثمن الدعوات الصالحة غال عزيز، هو الثمن الذي طلبه الله من الرسل والمؤمنين ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُون وَيُقْتَلُونََ﴾ "التوبة: 111"، وهذا ما في دعوتنا.
أما النفعي فإن الدعوة تنفيه، ولا يمكن أن تتصل روحه بالإخوان، وهو يضيع ما ينفقه من وقت وجهد هباء، فخير له ولأمثاله ألا يحشروا أنفسهم في صفوف مجموعة مؤمنة تعمل لتضحي، وتخسر خسارة مادية لتكسب في مستقبلها رضوان الله ورحمته. وبهذا الأصل من التضحية والاستعداد لها سعد المسلمون الأولون، فملكهم الله نواصي الأمم ومكن لهم في الأرض!! ويوم نسيه من خلفهم ضربهم الله بالذل".

ويصف رجال الإخوان المسلمين في تضحياتهم بقوله:

"كم أتمنى أن يطلع هؤلاء الإخوان المتسائلون على شبان الإخوان المسلمين وقد سهرت عيونهم والناس نيام، وشغلت نفوسهم والخليون هجع، وأكب أحدهم على مكتبه من العصر إلى منتصف الليل عاملاً مجتهدًا، ومفكرًا مجدًّا، ولا يزال كذلك طول شهره، حتى إذا ما انتهى الشهر جعل مورده موردًا لجماعته، ونفقته نفقة لدعوته، وماله خادمًا لغايته، ولسان حاله يقول لبنى قومه الغافلين عن تضحيته: لا أسألكم عليه أجرًا إن أجرى إلا على الله. ومعاذ الله أن نمن على أمتنا، فنحن منها ولها، وإنما نتوسل إليها بهذه التضحية أن تفقه دعوتنا، وتستجيب لندائنا".

ويضيف قوله:

"يتساءل هؤلاء الإخوان المحبوبون الذين يرمقون الإخوان المسلمين على بعد، ويرقبونهم عن كثب قائلين، من أين ينفقون؟ وأنى لهم بالمال اللازم لدعوة نجحت وازدهرت كدعوتهم، والوقت عصيب، والنفوس شحيحة؟ وإني أجيب هؤلاء بأن الدعوات الدينية عمادها الإيمان قبل المال، والعقيدة قبل الأعراض الزائلة
وإذا وجد المؤمن الصحيح وجدت معه وسائل النجاح جميعًا، وإن في مال الإخوان المسلمين القليل الذي يقتطعونه من نفقاتهم، ويقتصدونه من ضرورياتهم، ومطالب بيوتهم وأولادهم، ويجودون به طيبه به نفوسهم، سخية به قلوبهم، يود أحدهم لو كان له أضعاف أضعافه فينفقه في سبيل الله، فإذا لم يجد بعضهم شيئًا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون.
في هذا المال القليل والإيمان الكبير -ولله الحمد والعزة- بلاغ لقوم عابدين، ونجاحٌ للعاملين الصادقين، وإن الله الذي بيده كل شيء ليبارك في القرش الواحد من قروش الإخوان فإذا هو أزكى من مئات، وأبرك من جنيهات و﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ﴾ "البقرة: 276".﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ "الروم: 39".

ويختم قائلا:

أيها الإخوان، إذا اتفقتم معنا على هذا الأساس فاعلموا أن انتسابكم إلى الله -تبارك وتعالى- يفرض عليكم أن تقدروا المهمة التي ألقاها على عاتقكم، وتنشطوا للعمل لها، والتضحية فى سبيلها، فهل أنتم فاعلون؟".

إن لكل مسلم غاية يعمل لها ويضحي من أجلها ويبذل في سبيلها كل غال ورخيص، ولا تتحقق الغايات والأماني إلا إذا ضحى من اجلها وعمل لها فيقول الإمام البنا في رسالة إلى أي شيء ندعو الناس:

" بين الله تبارك وتعالى أن المؤمن في سبيل هذه الغاية قد باع لله نفسه وماله، فليس له فيها شيء، وإنما هي وقف على نجاح هذه الدعوة وإيصالها إلى قلوب الناس، وذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾ "التوبة: 111". ومن ذلك ترى أن المسلم يجعل دنياه وقفًا على دعوته ليكسب آخرته جزاء تضحيته، ومن هنا كان الفاتح المسلم أستاذًا يتصف بكل ما يجب أن يتحلى به الأستاذ من نور وهداية ورحمة ورأفة، وكان الفتح الإسلامي فتح تمدين وتحضير وإرشاد وتعليم".

لقد ربى الإمام البنا أتباعه على المعاني العظيمة التي تثقل القلوب، وتشحذ الهمم، وتدفعهم ليقودوا الشعوب، وبين الحين والأخر كان الإمام البنا يغرس في إخوانه هذه المعاني ففي المؤتمر السادس الذي عقد في 11 من ذي الحجة 1359ه الموافق 9 من يناير 1941 بدار الإخوان بالحلمية يذكر الإمام البنا إخوانه بمعنى التضحية

فيقول:

"واذكروا جيدًا - أيها الإخوة - أن دعوتكم أعف الدعوات، وأن جماعتكم أشرف الجماعات، وأن مواردكم من جيوبكم لا من جيوب غيركم، ونفقات دعوتكم من قوت أولادكم ومخصصات بيوتكم، وأن أحدًا من الناس، أو هيئة من الهيئات، أو حكومة من الحكومات، أو دولة من الدولات لا تستطيع أن تجد لها في ذلك منة عليكم، وما ذلك بكثير على دعوة أقل ما يطلب من أهلها النفس والمال: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ "التوبة: 111"".

ويقول:

" أيها الإخوان: قليلا من التضحية بالوقت، بالآمال الذاهبة أدراج الرياح، بالخيال الخامل الضعيف المحدود بجدران المعاهد والدواوين والوظائف الفارغة الضئيلة، وسترون عاقبة هذه التضحية خيرا وبركة وبرا بأنفسكم وبأمتكم. ماذا تريدون أيها الإخوان؟ تريدون المطعم والملبس. ستجدونه في عزة وكرامة وإباء.
وهل يتعب المجاهد ببطنه وهو تكفيه الكسرة وتستره الشملة. تريدون الكرامة والجاه. وهل أكرم على الله وعلى الناس ممن يقود القلوب والعقول والأفكار إلى الخير، إلى السعادة، إلى النور؟ أما الآمال فستحقق، وستجدون في نجاح عملكم وفى سعادة الناس بكم أعذب الأماني، بل أفضل الحقائق وأسعد النتائج.
تعالوا إلينا -أيها الإخوان- لنتحد ولنتعاهد، ولنجهز حملة قوية وجيشا صادقا من العلم والفضيلة والخلق والهداية على هذه المراكز والجهات؛ لننقذ إخوتنا وعمومتنا وخئولتنا ومواطنينا من براثن الجهل والأمية والضلال والبؤس والشقاء، وسننجح إن شاء الله. وسترون كل تضحية قليلة هينة في هذه السبيل. فهل أنتم مستمعون وهل أنتم مصدقون؟ وهل أنتم بعد ذلك فاعلون؟".

ومن وصايا الإمام البنا للإخوان المسلمين:

  1. يا أخي، لا تعش بغير غاية، فإن الله لم يخلقك عبثًا، ولم يتركك سدى.
  2. يا أخي، ليكن الله غايتك، واسمع قول الله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إني لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ "الذاريات: 50".
  3. يا أخي، إنما تحرص في هذه الحياة على أمرين: رزقك وأجلك، ولا سلطان لأحد عليهما إلا الله، فلا يمنعنك الحرص عليهما أن تعمل للحق.
  4. يا أخي، إنما تنهض الأمم بالتضحية، وتقوم الدعوات على الوفاء، فإن كنت تعيش لأمتك فضح في سبيلها، وإن كنت مؤمنًا بدعوتك فاجتهد في الوفاء لها.
  5. يا أخي، لا تقل ما لا تفعل، ولا يغرنك أن يحسبك الناس عاملاً، وليكن همك أن يعلم الله منك صدق ذلك، فإن الناس لن يغنوا عنك من الله شيئًا.
  6. يا أخي، لن يستطيع أي صاحب أن يكون لك في غير هذه الحياة الدنيا، وهناك صاحب واحد ينفعك في حياتك ويلازمك في آخرتك، ذلك هو العمل الصالح، فاحرص على أن يكون صاحبًا لك في كل حال، وتذكر قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إني بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ "المؤمنون: 51".
  7. يا أخي، قلبك محل نظر الله منك، فاحذر أن تدنسه بالخصومة، فإنها حجاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ "الشعراء: 88-89".
  8. يا أخي، اجتهد أن تؤمن بفكرتك إيمانًا يُخضع لها أملك وعملك، واسمع قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ "التوبة: 119".
  9. يا أخي، اعتقد أنك تعمل لغايتين: أن تنتج، وأن تقوم بالواجب، فإن فاتتك الأولى، فلن تفوتك الثانية ﴿قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ "الأعراف: 164"

أحب بلاد الله إلى

ومن معاني التضحية التي وضعها الإمام البنا في فهمه ومبادئه التضحية من أجل الوطن وتحريره من أيد كل غاصب، فإذا احتلت أرض من بلاد المسلمين وجب عليهم الدفاع عنها ولا يقال إنها ليست أرضى، لكن كل له قدرته وطاقة يضحى بها من أجلها، وليس المعنى مقتصر على أهل البلد المحتلة فحسب بل كل بلد يرفع فيها الأذان أو يوحد فيها الله عز وجل

وفي هذا المعنى يقول الإمام البنا:

" وإن من واجبنا أيضًا -وأمتنا أمة المدنية والفضائل، والتي كانت موئل الحضارات -أن نطالب بحريتنا، فإن كانوا يريدون سلامًا فنحن كذلك نريد السلام، ولن يكون سلام حتى يعترفوا لنا بحقوقنا، وإن قضايانا كثيرة، قضية: سوريا ولبنان والهند وما إليها من البلاد الإسلامية المستعبدة، وقضية القضايا فلسطين
فعلينا أن لا نتردد وأن نقول للأمم القوية: إن الحق حق والباطل باطل، وأن نبين لهم أن المبادئ غير المبادئ والنظريات غير النظريات، وأن نعمل على توحيد الجهود في داخل بلادنا وخارجها بالسهر على حقوقنا وإزعاج الدنيا. إن إخوانكم في مصر قد عاهدوا الله على بذل التضحية وتوحيد الصفوف لنصر قضية الحق، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لصالح الإسلام والمسلمين فإنه أكرم مسئول".

ويضيف:

"إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ، تحتاج من الأمة قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره. على هذه الأركان الأولية التي من خصائص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمنًا طويلاً".

ويضيف عليه رحمة الله:

"وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ" "البقرة:154"، وهنا نرى الواجب الرابع من واجبات الأمة، وهو واجب هام إن أدَّتْه الأمة لم تسقط راية الجهاد من يدها أبدًا، ولم يتطرق إليها الضعف يومًا من الأيام، ذلك الواجب أن تعتبر الأمة التضحية والفداء مغنمًا لا مغرمًا، ونصرًا لا هزيمة، وتجارة رابحة لن تبور
وأن تعتقد أن الموت في ميدان الشرف هو حياة الخلود، وأن الفناء في سبيل الواجب هو عين البقاء. وهذا المعنى إن تشبعت به الأمة فهي -لا شك- منصورة مهما كان في سبيلها من عقبات، وانظر إلى الكتيبة الأولى كيف استولت عليها هذه العقيدة؛ فكانت سر نجاحها".

لتبلون

لا يطن كل من سار في هذا الطريق الذي سلكه الأنبياء من قبله أن سينعم بالنعيم والرخاء أثناء سيره لكن عليه يدرك أنه طالما سلك هذا الطريق فستعتريه الصعاب التي تتطلب منه تضحيات جسام من أجل بلوغ الهدف، "حُفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره" (رواه مسلم) .

وقفت عند هذه السورة الكريمة -سورة البروج- وأنا أتلو الجزء الثلاثين من كتاب الله، فأعدتها مرارًا، ووجدتنى مدفوعًا بشعور قوى إلى الوقوف عندها فترة من الزمن؛ فقد تمثلت أولئك الكفرة المتمردين، يدلون بقوتهم ويعتزون بسلطانهم، ويستطيلون بالقهر والجبروت على المؤمنين من عباد الله؛ فيشقون الأخدود فى الأرض، ويقذفون فيه بالنار ذات الوقود، ويقعدون من حوله يترقبون أولئك المؤمنين المحتسبين

وقد حشدتهم إليه القوة القاهرة، ودفعتهم إلى جوفه اليد الباطشة، وهم صابرون لا يترددون ولا يتهيبون، قد استعذبوا طعم الموت بعذوبة طعم الإيمان، وذهلوا عن قوة العذاب بشهود رحمة الإله الديان، حتى حدثوا أن امرأة منهم معها صبيها ترددت بعض الشىء، وهى على حافة هذا الأخدود الملتهب، وكأنها أشفقت على صبيها لا على نفسها، فسبقها هذا الصبى إلى التضحية والفداء، وقذف بنفسه فى أعماق هذا البلاء، وهتف بها أن "اقتحمى يا أماه؛ فإنما هى برد وسلام، لا نار وضرام".

كل ذلك وهؤلاء القساة شهود على ما يفعلون بالمؤمنين الذين لا ذنب لهم ولا جريرة إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. والإيمان جريمة عند الجاحدين، والحق إثم كبير فى أعين المبطلين، والمعرفة ظلام أمام الجاهلين "إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" "القصص: 56".

ارتسمت فى نفسى هذه الصورة المثيرة، فأخذت أكرر آيات هذه السورة، وتداعت المعانى تترى يتبع بعضها بعضا، فتلوت قول الله العلى الكبير: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ "إبراهيم: 13-14"، وقوله تعالى حكاية عن قوم شعيب: قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ" "الأعراف: 88-89".

ومرت على الخاطر هذه الصور التاريخية الكثيرة:

صور عصور الأنبياء والمرسلين والشهداء والصديقين والدعاة والمصلحين، وليس منهم إلا من قارع الباطل بحقه، وأخذ من كأس الجهاد والمحنة بحظه، ثم كانت له العاقبة بعد ذلك والعاقبة للمتقين "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُون" "يوسف: 110-111".

فيا أيها العاملون المجاهدون، اقرءوا سورة البروج، وتدبروها مرات، وقفوا عندها وعند أمثالها من السور والآيات، واستلهموا منها الصبر، وخذوا عنها وعن أخواتها بشائر النصر، "وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" "يوسف: 21". والتضحية وصفا هؤلاء القوم، وهما متلازمان كما ترى؛ فمتى صح الإيمان وصدق استغنى به المؤمن عن كل أعراض الحياة فضحى بها فى سبيله، ولن تكون التضحية إلا حيث يكون الإيمان، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

وفي عام 1937م ذكر الأستاذ البنا أتباعه بل الأمة التي يغرس فيها معاني الإيمان الحقة وينتظر أن تنبت هذه المعاني في قلوبهم فتتجسد على أرض الواقع ذكرهم بمعنى التضحية الأصيل فقال: ولأصحاب كل دعوة موقفان لا ثالث لهما؛ فهم فى أول أمرهم مجاهدون دائبون على الكدح والعمل، يضحى كل منهم بكل ما يملك فى سبيل إنجاح الدعوة التى آمنوا بها واعتقدوها؛ فهم يخسرون كل شيء ويربحون شيئًا واحدًا؛ هو تثبيت العقيدة، وتوطيد دعائمها. حتى إذا استوثق لهم الأمر، وتمكنوا من أسباب النصر، جاء الموقف الثاني فطالب كل منهم بتضحيته فى الغنيمة التى غنموها، وود أن لو ظفر منها بنصيب الأسد.

وهنا يأتى دور الفضيلة التى اختص الله بها بنى الإنسان، وهنا يُعرَف المجاهدون المخلصون، ويظهر الوصوليون النفعيون. فإذا كانت العقيدة قويمة وجنودها مخلصين لها لا يرون فيها الغناء عن كل ما سواها استوى عندهم العطاء والحرمان، وترقبوا الجزاء الأوفى من هذا الشعور النبيل الأسمى، وكانوا بحق جنود مبدأ لا جنود تجارة وانتفاع ومصلحة خاصة.

وإذا كانت العقيدة تزلفًا، وكان الجنود مدخولى الضمائر ضعفاء النفوس تكالبوا على هذا الغُنم؛ فوقعت بينهم البغضاء فيه والشحناء حوله، فهدموا ما بنوا، وتفرقت كلمتهم، وذهبت ريحهم، وانتكسوا وهم أقوى ما يكونون بنيانًا وأعز ما يأملون انتصارًا.

لهذا سد الإسلام باب الانتفاع الشخصي بثمرات الجهاد، وضرب على يد النفعيين بتعاليم قوية؛ فقد طالب بالإخلاص قبل كل شيء، ثم وعد بالأجر الأخروي بعد ذلك، ثم ترك الغنائم للقائد وحده يتصرف فيها كما أمره الله، وحدد له دستور الإسلام ثم "حثهم" على التقوى والإيمان، وعلى الصلاح والطاعة والامتثال، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعملون لله، وما جاد فهو نافلة.

ويقول عن طبيعة المجتمع الذي يغرس فيه غرس التضحية:

والشعب المصرى الكريم يحسن فى كل وقت تقديم هذه الضحايا بدون شك، وما لم تعتد الأمة البذل والتضحية فهى أمة محكوم عليها بالفناء والعدم، ولا يمكن أن تصل إلى غاية ما.

على أرض الواقع

يصف الأستاذ عمر التلمساني هذا الركن وفهمه له بقوله:

عملت فترة "وزير مالية الإخوان" وكنت إذا وجدت في الخزانة مائة وخمسين قرشًا كنت أرى وقتها أننا من الأثرياء!!

وكان الداعية إذا ذهب إلى لقاء إخواني ليتحدث في الدعوة أعطيه "ثلاثة تعريفة":

منها ستة مليمات للذهاب, ومثلها للعودة، وثلاثة مليمات يشتري بها ما يروقه من الترمس والفول السوداني واللب الأسمر والأبيض!!

ويذكر الإمام البنا أنه دخل على الأخ سعيد سيد أبو السعود – رحمه الله – تاجر الخردوات فرأى الأخ مصطفى يوسف يشتري منه "زجاجة ريحة" والمشتري يريد أن يدفع عشرة قروش، والبائع يأبى ألا يأخذ أكثر من ثمانية قروش، وكلاهما لا يريد أن يتزحزح عن موقفه، كان لهذا المنظر أعمق الأثر في نفس الإمام البنا وتدخل في الأمر فطلب فاتورة الشراء، فوجد الإمام البنا أن الثمن الأساسي الذي اشترى به الأخ سعيد سيد أبو السعود – رحمه الله – هو الذي يريد أن يبيع به لأخيه "الدستة بستة وتسعين قرشًا".

فقال الإمام البنا له:

يا أخي إذا كنت لا تكسب من أخيك ولا يشتري منك عدوك فمن أين تعيش؟ فقال: لا فارق بيني وبين أخي، ويسرني أن يتقبل مني هذا العمل. فقال الإمام البنا للأخ مصطفى: ولماذا لا تتقبل رٍفْدَ أخيك؟ فقال: إذا كنت أشتريها من الخارج بهذه العشرة فأخي أولى بهذه الزيادة، ولو عرفت أنه يقبل أكثر منها لزدت. وبالتدخل انتهى الإمام معهم إلى تسعة قروش.

ويضيف الإمام البنا بقوله:

ومما هو جدير بالذكر أن الأخ علي أبو العلا "الميكانيكي" كان حاضرًا لتلك الجلسة من أجل شراء قطعة أرض للمسجد بالإسماعيلية، وأراد أن يتبرع للمشروع فباع دراجته بمبلغ 150قرشًا، وتبرع بثمنها، رغم أن المسافة بين منزله وعمله تبلغ 6 كيلومترات، ظل يقطعها ماشيًا حتى علم إخوانه بذلك فاكتتبوا واشتروا له دراجة جديدة قدموها له هدية.

المجتمع المضحي

إن للتضحية أعظم الآثار في حياتنا أفرادًا وجماعات، فإنه ما من شك في أن الفرد الذي يُربَّى على التضحية ويتعودَ عليها، ويتحلى بها؛ يكون قد قطع شوطًا كبيرًا في التخلص من سلطان الهوى، ونوزاع الأثَرَة، وكان قادرا على مخالفة النفس الأمارة بالسوء، كما أن المسلم الذي اتصف بالتضحية وتخلق بها يفوز بمثوبة الله عز وجل، ويربح رضا الله سبحانه، ثم رضا الصالحين من عباده، كما أن الفرد الذي تعود التضحية لا يحزن على ما فات، ولا يفرح بما أتى، وكذلك يكرمه الله في ذريته، ويُخلِف بالخير عليه، وتسعد به الجماعة.

ثم إن الجماعة أو الأمة التي يتخلق أفرادها بالتضحية والبذل، لا شك في أنها تكون قادرة على إنجاز أهدافها، وتحقيق آمالها وطموحاتها، والوصول بعون الله إلى غايتها، كما أن هذه الجماعة أو الأمة تستعصي على الأعداء، وتتأبَّى عليهم، ويقذف الله مهابتها في قلوب أعدائها، فلا ينالون منها، فتعيش عزيزة كريمة مُهابة

كما أن الأمة التي تعود أبناؤها البذل والعطاء، وتخلقوا بالتضحية، تكون في منجاة من الضوائق والأزمات، وتسلم كذلك من الشحناء والعداوات، ويحل الإيثار، وتنمحي الأثرة، وتسودها المحبة، وتزول منها البغضاء، ويعمها التواد والتآلف والتراحم، وتصير أهلًا لرحمة الله، ومثوبته في الدنيا ويوم لقاه.

وإننا في عصرنا هذا لأحوج إلى التخلق بالتضحية والتحقق بها أكثر من أي عصر مضى، لنستعيد مجدنا، ونستردَّ حقوقنا، وننتصرَ على أعدائنا، ونؤديَ رسالتنا، ونُرضيَ ربنا، فيسودَ الحق والعدل، ويَعُمَّ الخير والأمن: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ "الروم: 4، 5".

للمزيد

  1. جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 210 – صـ1 – 17 صفر 1366هـ 9 يناير 1947.
  2. أنظر مجموعة رسائل الإمام البنا: (رسالة الأسردعوتنا- بين الأمس واليوم- المؤتمر السادس)
  3. مجلة الإخوان المسلمين – السنة الخامسة – العدد 12 – صـ5 – 29 جمادى الأولى 1356هـ - 6 أغسطس 1937م.
  4. مجلة النذير، العدد (4)، السنة الأولى، 21ربيع الآخر 1357ه/ 20 يونيو 1938م، ص(3-4).
  5. مذكرات الدعوة والداعية - حسن البنا - دار التوزيع والنشر الإسلامية، صـ 58.