التضامن والوحدة الإسلامية
« كلمة فضيلة المستشار
من الأمور المسلَّم بها أن الإنسان مدني بطبعه، فهو لا يعيش بمفرده، وإنما يعيش ضمن جماعة، يسهم في كل أمورها، ويشارك في كل ما يصلح شأنها، ويرفع مكانتها، ويُعلي مراتبها.
والعالم اليوم يعيش في حالة تخمة من الدعوات والمبادئ، ما بين سياسية وقومية ووطنية واقتصادية وعسكرية وسلمية، وغيرها من المزيج المركب الذي ينتظم العالم في الشرق والغرب، على حد سواء.
كما يعيش أزمة حادة نتيجة الأهواء الفردية والمطامع الإقليمية والاستبداد والدكتاتورية لبعض الأنظمة التي تستمد بقاءها من البطش بشعوبها والاعتداء على جيرانها.
ونحن ـ المسلمين ـ ننطلق في دعوتنا ومفاهيمنا من أصلي الإسلام، وهما: الكتاب والسنة، اللذان وضحا لنا هدف المسلم في الحياة وغايته، واللذان بيّنا لنا أن البشر سواسية، لا فرق بين أسود وأبيض، فكلهم لآدم وآدم من تراب.
فمنطلق الوحدة عند المسلم يرتكز بالدرجة الأساس على العقيدة والتوحيد والمحبة والأخوة، والخير والمصلحة، وليس على العدوان، وفرض الوحدة بالقوة ووفق المبادئ الوضعية التي تدين بها الأحزاب العلمانية التي لم تجنِ منها الشعوب الإسلامية إلا الويلات المتتابعة والنكبات والمصائب التي لا زلنا نعاني من آثارها، والتي انتصبت برموزها حربًا على الإسلام والمسلمين، وطرحت شعاراتها العلمانية كبديل عن الإسلام.
والإسلام الذي ندين به، ونعمل من أجله، وندعو الناس إليه، هو نظام شامل ينتظم شؤون الحياة جميعًا، ويفتي في كل شأن من شؤونها، ويضع نظامًا محكمًا دقيقًا للسياسة والحكم والاقتصاد والتربية والقضاء والتشريع والإعلام، وهذا ما يوضحه القرآن الكريم بآياته الصريحة، وتوضحه السنة النبوية بأحاديثها الصحيحة، فالقرآن الكريم هو أساس الإسلام ودعامته، والسنة النبوية هي المبينة والشارحة، والمسلمون الأوائل من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين هم المنفذون لأوامر الإسلام، العاملون بها، وهم الصور الصادقة والمثل العملية لهذا الإسلام العظيم الذي نؤمن به، ونعيش في ظلاله، ونجاهد في سبيله.
ومن هنا؛ فإن حدود الوطنية عند المسلم هي بالعقيدة لا بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وطن عند المسلمين جميعًا، له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له، والجهاد في سبيل خيره وعزته ومنعته، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهل وإخوة، اهتماماتهم واحدة، ومشاعرهم واحدة، وهذا هو الفارق بين المسلمين وبين دعاة الوطنية الضيقة الذين لا يتجاوز نشاطهم حدود الوطن الجغرافية، بينما المسلم يعتقد أنه مطالب بهداية البشرية كلها بنور الإسلام، ويبذل في تحقيق ذلك ماله ودمه ونفسه مرضاة لله تعالى، وإسعادًا للعالم بهذا الدين، وتحريرًا للعباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار.
وواقع المسلمين اليوم في شرق الأرض وغربها، شمالها وجنوبها، واقع مؤلم نتيجة التخلف والعصبية والعنصرية والفقر المدقع في مكان، والتبذير والإسراف في مكان آخر، فالاستعمار والحزبية والربا والشركات الأجنبية، والإلحاد والإباحية، وفوضى التشريع والتعليم، واليأس والشح والجبن فضلاً عن الفرقة والجهل والمرض وغيرها من الأمراض التي أصاب المسلمين منها أضعاف ما أصاب غيرهم، بسبب تكالب الأمم عليهم، واحتلال أوطانهم، واستنزاف خيراتهم، وسرقة أقواتهم، وتسخير طاقاتهم لمصالح المستعمرين من شيوعيين وصليبيين وعلمانيين وبوذيين وهنادكة ويهود، فضلاً عن المنسلخين عن الإسلام من أبناء المسلمين وبعض حكامهم الذين ارتبطوا بالأعداء، وأصبحوا لهم عبيدًا، وعلى شعوبهم أسودًا.
عبيد للأجانب هم ولكن على أبناء جلدتهم أسود
كل هذا وغيره من عوامل الضعف يقتضي منا وقفة تأمل، نتدبر فيها الطريق الأقوم لعلاج ما نحن فيه، والخطة المثلى لإقامة الوحدة والتضامن على أساس متين ومنهج سليم، لا يتصدع، ولا ينهار أمام العواصف والأعاصير، بل يظل ثابتًا وراسخًا رسوخ الجبال الشم، ونحن نعلم أن شعوبنا مريضة معلولة بعلل شتى من داخلها ومن خارجها، ولن تتيسر لها العافية حتى نعرف العلة، ونشخصها، ونصف الدواء الناجع لعلاجها، ونباشره بثقة وعزيمة، وصبر ومصابرة.
إن الشعوب الإسلامية اليوم تغلي غليان المرجل، وهي تنفض عن نفسها الكسل، وتحطم السدود التي تحول دون الأمة والعودة إلى دينها وشريعة ربها، وتنطلق صيحاتها في كل مكان: لا حل إلا بالإسلام، ولا نظام إلا الإسلام، ولا وحدة إلا تحت راية الإسلام، ولا عزة إلا بالإسلام، نداء تهتف به من أعماق قلوبها، وجهاد متصل وتضحيات جسام في فلسطين وأريتريا والفلبين وكشمير وتايلند وسريلانكا والهند وغيرها.
وقد أدرك الأعداء ذلك، وانطلقوا جميعًا للوقوف أمام الموجة الإسلامية والصحوة الإسلامية، وراحوا يخططون لحربها وإجهاضها والإجهاز عليها، مستعينين بالحكومات العميلة، والنفوس المريضة، والزعامات الهزيلة، والمقلدين للغرب بخيره وشره، وحلوه ومره، والذين يريدون جر شعوبهم إلى هاوية التردي الخلقي والانتكاس عن الفطرة، والارتكاس في حمأة الرذيلة، وأودية الضلال، ومهاوي الذل والعبودية.
إن مهمة المسلمين في الحياة هي هداية البشر إلى الحق وإرشاد الناس إلى الخير، وإنارة العالم بشمس الإسلام، والمسلم الحق هو الذي يجعل دنياه وقفًا على دعوته؛ ليكسب آخرته جزاء تضحيته، لأن عبادة الله والجهاد في سبيل التمكين لدينه وإعزاز شريعته هي المهمة الأساسية للمسلم.
كما أن تكوين الأمم وتربية الشعوب وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ تحتاج من الأمة التي تحاول هذا إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه، والمساومة عليه، والخديعة بغيره، وصبر ومصابرة وعمل دؤوب وجهاد متصل ويقظة وحذر واستعداد كامل.
وقد يظن كثير من الناس أن المسلمين تعوزهم القوة المادية من المال والعتاد وآلات الحرب والكفاح؛ لينهضوا، ويسابقوا الأمم التي سلبت حقوقهم، وهذا صحيح ومهم، ولكن أهم منه، وألزم؛ القوة الروحية من الخلق الفاضل، والنفس النبيلة، والإيمان بالحق، والإرادة الماضية، والتضحية في سبيل الواجب، والوفاء والثقة والوحدة.
إن الشعوب الإسلامية لا تريد غير الإسلام عقيدة تؤمن بها، ونظامًا يحكمها، ودينًا يجمع شتاتها، وأخوة توحد صفوفها، وعملاً صادقًا يحقق أهدافها، وعدالة تسود مجتمعاتها، ومساواة تنتظم طبقاتها، فالإسلام.. والإسلام وحده أمل الجماهير في إخراجها مما هي فيه، والنهوض بها مما تعانيه، وبناء حاضرها ومستقبلها، والتصدي للتحديات التي تواجهها.
لهذا كله نرى الأمة الإسلامية كلما حظيت، ولو بقليل من حرية الرأي والتعبير، طالبت بتحكيم الإسلام وإقامة شرعه، وقد ظهر هذا في مصر والسودان والأردن والجزائر وتونس وباكستان ودول الخليج وسائر البلاد الإسلامية، وغيرها من البلدان العربية، فضلاً عن الأمم الإسلامية التي تخوض معارك رهيبة من أجل البقاء على دينها وممارسة حقها في الحياة في ظل الإسلام.
لذلك كله لا محيص من الدعوة الصادقة للشعوب العربية والإسلامية كلها للتجمع والتضامن والوحدة على أساس الإسلام في خطوات وئيدة متزنة مدروسة على مراحل متتابعة، كل مرحلة تسلم إلى التي بعدها مع الحفاظ على الخصائص القطرية لكل بلد، والبدء في العمل الموحد للقضايا المتفق عليها، والرجوع إلى استفتاء الشعوب في كل مشكلة، أو خلاف يظهر أثناء السير إلى الوحدة الكاملة الشاملة بإذن الله.
هذا هو التصور العام لما يمكن أن تقوم به الشعوب المسلمة أمام هذه التحديات الحضارية، والتكتلات العالمية التي أخذت تضيق هوة الخلافات بينها، ويتقارب بعضها مع البعض من أجل مصلحة شعوبها، فحري بنا، نحن العرب والمسلمين، أن نكون السباقين لذلك، لأن ما بيننا من عرى الوحدة وأسباب التضامن والتكافل والتعاون والترابط أكثر مما بين أمم الأرض جميعًا، فهل نطمح إلى أن يبادر المعنيون من رجال الحكم والدعوة والسياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع في عالمنا العربي والإسلامي إلى تبني ذلك، والدعوة إليه بصدق وإخلاص وعزيمة وإرادة؛ حتى تقتعد أمتنا مكانها اللائق بين الأمم، وتحقق إخبار الله (عز وجل) في كتابه الكريم (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (آل عمران: 110).
إن تباشير الخير لاحت بوادرها رغم الخطوب المدلهمة والأخطار الجسيمة التي تحيط بالمسلمين، ورغم ضراوة الهجمة الصليبية والصهيونية على الأمة الإسلامية.. رغم ذلك كله؛ فإن اليقظة والصحوة الإسلامية تعم العالم الإسلامي كله، ولا تحتاج منا إلا تضافر الجهود لرفدها ودعمها ومساندتها وترشيدها وتسديدها، فالخير في هذه الأمة باق، وهي الشهيدة على الناس، القائمة بالحق والعدل، الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر.
والعالم يشهد إفلاس القيم الغربية، وتهاوي الأنظمة الوضعية، وكثرة المآسي الإنسانية، وإهدار الكرامة الآدمية، وهذا يتطلب من المسلمين جميعًا أن يكونوا على مستوى المسؤولية، وأن يشرعوا في التضامن فيما بينهم، وتقريب شقة الخلاف والعمل الجاد الدؤوب للسير في طريق الوحدة على هدي من الكتاب والسنة مع فهم مجريات العصر وتقدير ظروفه، والتحرك بخطى ثابتة مدروسة بعيدة عن الارتجال وردود الأفعال، والتعامل مع الأحداث والوقائع بأسلوب العصر ومنهج الشرع.
ولو صدقت النيات لدى المسؤولين ومن بيدهم القرار لاستطاع المسلمون بوحدتهم أن يقدموا النموذج الصادق، والمثل الحي للإسلام الحق الذي تتطلع الإنسانية كلها إليه لانتشالها من عثارها، وإنقاذها من تخبطها، فالحضارة اليوم بمقدار ما تقدمت في العلوم التقنية التجريبية، والاكتشافات والاختراعات وغزو الفضاء، والغوص في أعماق البحار، فإنها مفلسة في عالم القيم والأخلاق والمبادئ، وصارت الأنانية والمادية والشهوات بأنواعها هي المسيطرة على أهواء الحكام والغالبة على أخلاق الشعوب؛ مما جعل الكثير من قادة الفكر المبصرين يحذرون من هذا الانحدار المخيف نحو الهاوية، والتردي إلى المصير المحتوم الذي ينتظر كل أمة تتفلت من الضوابط الخلقية، وتطلق العنان لشهواتها ورغباتها تدمر شبابها، وتقطع أواصرها، وتهدم أُسَرَها ومجتمعاتها.
إن العلاج في الإسلام وحده دون سواه، فإذا حمله أبناؤه بصدق وإخلاص، وعملوا بمقتضاه، وأنزلوا أحكامه في واقع حياتهم، سادوا وانتصروا وفازوا، وإن كانت الأخرى - لا سمح الله - فذلك هو الخسران المبين، والذل المهين.
لقد قامت محاولات للوحدة، ولكن على غير أساس الإسلام، بل على أساس قومي يبعد الإسلام، ويهمل شرائعه، وينادي بالعروبة المجردة، فزالت تلك الوحدة القومية، وانتهت، ولم تترك إلا الجروح الدامية والآثار المدمرة، التي لا زالت الأمة تعاني من ويلاتها.
لهذا فالمؤمل أن تكون الدعوة إلى الوحدة متبناة من قادة الفكر والدعاة والعلماء والساسة وأصحاب القرار الذين جربوا أنواع النظم وما كسبوا منها غير الخراب والدمار وسيطرة الأشرار على الأخيار، وشيوع الفتن واضطراب الأمن، والتباغض والتدابر.
فإلى الإسلام من جديد عقيدة وشريعة ونظامًا ومنهاجًا للأفراد والمجتمعات والدول والحكومات والأمم والشعوب؛ لتسعد البشرية كلها، ويستقر الأمن والسلام، وتصان كرامة الإنسان، فالناس جميعًا وُلِدوا أحرارًا، ويجب أن يعيشوا أحرارًا كرامًا (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً) (الإسراء: 70).
والله الموفق لكل خير والهادي لأقوم سبيل.
المصدر
- مقال: التضامن والوحدة الإسلامية موقع العقيل ابومصطفي