التربية في فكر جماعة الإخوان المسلمين
محتويات
- ١ مدخل
- ٢ أولا : التربية في فكر جماعة الإخوان المسلمين
- ٣ ثانيا :مباحث في التربية الإخوانية
- ٣.١ التربية الدَّعوية.. بداية نجاح الدَّعوة
- ٣.٢ رسائل الإمام حسن البنا ودورها في بناء الشخصيّة الإخوانيّة
- ٣.٣ تجربة نبوية في زمننا المعاصِر
- ٣.٤ العمل التربوي .. تلة الرماة التي تحمي الصف
- ٣.٥ متى تتوقف التربية؟
- ٣.٦ التربية طريق إصلاح المجتمع
- ٣.٧ المنهج التربوي العملي عند الإخوان
- ٣.٨ من آثار التربية الإخوانية
مدخل
إلى كل من يسأل عن دور التربية في فكر جماعة الإخوان المسلمين
بل إلى كل من لا يريد العمل بمنهجية جماعة الإخوان المسلمين في العمل لخدمة الإسلام والمسلمين، مهما كانت الدوافع لذلك...
بينما كان المسلمون يترنحون من جراء سقوط الخلافة الإسلامية، والذي أدى إلى ضياعِ هوية الأمة، وفقدانِها لمصدر عزتها،وبينما كان المسلمون يتخبَّطون في الجهل والظلام، حينما انزوى مفهوم الإسلام الشامل وانحصر مكانه الفعلي ليصبح في المسجد فقط، ولم يعُد له مكانٌ في توجيه الحياة.
ووسط هذا الظلام الدامس ، فإذا بنورٍ يشعُّ في الأفق يُوحي بإعادةِ الحياةِ لهذه الدعوة العظيمة، على يد رجلٍ هيَّأته العناية الإلهية لحمل عبء هذه الدعوة وإعادة إشراقها من جديد، ليعم نورها العالم ثانية، ذلكم هو إمامنا الشهيد حسن البنا ، الذي وفقه الله سبحانه وتعالى للخروج على الدنيا بهذه الدعوة الخالدة التي جاءت في أوانها ومكانها، ليبني من جديدٍ جماعةً مؤمنةً تقوم على حمل هذه الدعوةِ التي جعلها الله أمانةً في أعناقِ مَن ينتسبون إليها، فكان صريحا حينما خاطب الإخوان محددا لهم الغاية :
"هكذا أراد الله أن نرث هذه التركة المثقلة بالتبعات، وأن يشرق نور دعوتكم في ثنايا هذه الظلام وأن يهيئكم الله لإعلاء كلمته وإظهار شريعته " ، فأسس دعوة الإخوان على ركائز ثلاث من (الفهم العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل )، مقتفيا في ذلك نهج الحبيب صلى الله عليه وسلم والذي جاءت به رسالة رب العالمين " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " التي تؤكد على أن التربية والتزكية مقدمة على التعليم والتثقيف ، وقد اختار الإمام البنا أن يسير على خطى الحبيب صلى الله عليه وسلم ، باستخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الدعوة والجهاد ، وضم بعضها إلى بعض، كما حدث في دار الأرقم بن أبي الارقم.
ومن هنا كان منهج الجماعة في التربية اتباعٌ لمنهج الحبيب صلى الله عليه وسلم وليس ابتداعًا.
وتعتبر التربية في فكر الجماعة بأنها المنهجية التغييرية الرئيسية ، بل والمميزة لخطها وعملها، فإن كانت كل الحركات الإسلامية تصدر من معين واحد وهو الكتاب والسنة، وتسير نحو غاية واحدة وهي إرضاء الله سبحانه والتقرب إليه، إلا أن الجميع يختلفون في كيفية تحقيق ذلك، وكلٌّ له وسائله التي اقتنع بها وعمل لها، وإذا كان منهج الجميع تغييري ولا خلاف في ذلك، فإن الاختلاف يقع في منهجية التغيير، فقد ارتضى البعض التغيير الذاتي الفردي في النفوس وإصلاحها كأفراد وانتظار سنن الله الغيبية للنصرة الغيبية حين يرى الله الصلاح في نفوس البشر؛ وذهب البعض الآخر إلى أن التغيير المعرفي والثقافي والانكباب على العلم وتعلمه سيؤدي حتمًا إلى تغيير النفوس، وبالتالي استدعاء قضية النصرة الغيبية من الله حين يرى إخلاص نفوسهم، وسبيلهم في ذلك هو الفردية والسعي إلى الله فرادى في الدنيا كما سيأتون فرادى في الآخرة.
وذهب البعض الثالث إلى عكس ذلك فرأى أن التغيير لا بد أن يكون بالقوة، ومن أعلى إلى أسفل؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولكن أصحاب هذا الرأي بعد ما رأوا ما أحدث ذلك من فوضى وقتلى بغير ذنب، ووقفوا على فساد هذا الرأي بعد سنين من إراقة الدماء، فعمدوا ثانية إلى الدعوة والتربية.
أما الجماعة فقد أخذت التغيير التربوي منهاجًا وأساسًا لها في دعوتها من البداية، واعتبرت أن التربية هي طريق نهضة الأمة وعودتها إلى أداء دورها والاضطلاع بمهمتها في إنقاذ البشرية من ضيق التصورات إلى سعة الإسلام وشموله، لأن المعركة الحقيقية في مفهومها هي معركة على التكوين والخصائص، هم يريدون لنا خصائص وتكوينًا لا يسمحان لنا بشرف حمل الإسلام ونصرته، ونحن نريد أن نحافظ على تكويننا وخصائصنا التي تجعلنا صالحين لأن نحمل الإسلام وننصره.
ولذا فإن التربية هي اختيار أساسي في عملها، اختيارا لا تملك عنه حِوَلاً، وفي هذا الصدد يقول الإمام البنا رحمه الله: إن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا، وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي تواجهنا، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وإن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد والجهد هو التعب والعناء وليس مع الجهاد راحة حتى يضع النضال أوزاره وعند الصباح يحمد القوم السرى.
حرص الأستاذ البنا على التربية باعتبارها مصنعَ الرجال، وفي هذا يقول:
- " أعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل، والعمل القوي البغيض لديها الشاق عليها وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها.
ومن هنا كان اهتمام الدعوة بالتربية منذ نشأتها، وكتب الإمام البنا حول هذا الموضوع سلسلة من المقالات تحت عنوان في سبيل النهضة، جاء فيها:
- (يجب أن تكون دعامة النهضة التربية، فتربّى الأمة أولاً، وتفهم حقوقها تماماً، وتتعلم الوسائل التي تنال بها هذه الحقوق، وتربى على الإيمان بها، ويبث في نفوسها هذا الإيمان بقوة، أو بعبارة أخرى تدرس منهاج نهضتها درساً نظرياً وعملياً وروحياً.
- وذلك يستدعي وقتاً طويلاً لأنه منهج دراسة يدرّس لأمة فلابد أن تتذرع الأمة بالصبر والأناة والكفاح الطويل، وكل أمة تحاول تخطى حواجز الطبيعة يكون نصيبها الحرمان.
- ومن أجل هذا يجب أن تعد البلاد التي تود النهضة مدرسة، طلبتها كل المواطنين وأساتذتها الزعماء وأهل العلم، وعلومها الحقوق والواجبات العامة أو الغاية والوسيلة، ومن أجل ذلك أيضا يجب أن ينظم أمران هامان هما: المنهج والزعامة.
- فأما المنهج فيجب أن تكون مواده قليلة، بقدر الإمكان، عملية بحتة ملموسة النتائج مهما قلت، وأما الزعامة فيجب أن تختار وتنتقى حتى إذا وصلت إلى درجة الثقة أطيعت وأوزرت، ويجب أن يكون الزعيم زعيماً تربى ليكون كذلك، لا زعيماً خلقته الضرورة، وزعّمته الأحداث فحسب، أو زعيماً حيث لا زعيم.
- على مثل هذه القواعد بنى مصطفى كامل ومحمد فريد ومن قبلهما جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده نهضة مصر، ولو سارت في طريقها هذا ولم تنحرف عنه لوصلت إلى بغيتها، أو على الأقل لتقدمت ولم تتعثر، وكسبت ولم تخسر.
- بيد أن زعماء أوجدتهم الظروف أرادوا أن يستعجلوا النتائج قبل الوسائل، وخدعتهم غرارتهم بقيادة الشعوب ومكائد السياسة فظنوا السراب ماءاً وجروا وراءه حتى إذا جاءوه لم يجدوا شيئاً، بعد إنفاق الجهد وتضحية الوقت وفناء الزاد فاضطروا إلى الرجوع من حيث بدأوا، وتقهقروا ولم يتقدموا، وخسروا ولم يربحوا.
- إذا فهمت الأمة هذه الحقائق ناصعة، واتعظت بالتجارب الماضية، وعادت إلى النهضة الصحيحة، وعنيت بالجديات والحقائق وانصرفت عن الأوهام، وأعدت صبراً طويلاً للكفاح والنضال فإنها كاسبة إن شاء الله).
وجاء في مقال آخر تحت العنوان نفسه:
- (لا نهوض لأمة بغير خلق، فإذا استطاعت الأمة أن تتشبع بروح الجهاد والتضحية، وكبح جماح النفس والشهوات، أمكنها أن تنجح، بمعنى أن الأمة إذا استطاعت أن تتحرر من قيود المطالب النفسية أمكنها أن تتحرر من كل شيء، فليكن حجر الزاوية إصلاح أخلاق الأمة).
والتربية عند الجماعة ليست للصف فقط، بل هي تربية للمجتمع وللأمة كلها، ولأن التربية هي عمل الرجل في ألف رجل وليست قول الرجل ولا كلامه؛ لذا كان الأمر شاقًّا، ولأن نتاج التربية يأتي عبر السنين والأعوام وليس خلال فترة قصيرة أصبح عمل الإخوان وتربيتهم للمجتمع لا تظهر للمتابع على المدى القصير، وهنا توجه الانتقادات إلى الإخوان من غيرهم من الحركات الإسلامية بأنهم (أي الإخوان) لا يفعلون شيئًا، أو ماذا قدموا، والإنصاف يستدعي النظر إلى الآثار بنظرة بعيدة، ويقارن تغير المجتمع وتحوله خلال العقود المتتالية وكيف كان حال المجتمع قبل الإخوان؟
وكيف حاله بعد عقد من الزمان أو عقدين؟ ثم كيف حاله الآن؟
- وهذا هو الأثر التربوي للإخوان في المجتمع، وهكذا يقاس؛ لأن التغيير التربوي للمجتمع وللأمة مشروع أجيال متتابعة.
- ولو نظرنا إلى الوراء قليلا لوجدنا أن الكثير من المفكرين والعلماء والخطباء والدعاة قد أبلى كل منهم في دفاعه عن الإسلام ونصرته بلاء حسنا، ثم لما انتقلوا إلى رحمة الله تعالى لم يبق من آثارهم وتضحياتهم الغالية والنفيسة إلا ما ألـَّفوه من كتب أو سجلوه من خطب ودروس ومواعظ.
لماذا؟
- لأن جهودهم لنصرة الإسلام ظلت جهودا فردية مربوطة بأشخاصهم، فلما ماتوا أصبحت هذه الجهود تراثا فكريا وفقهيا ورّثوه لنا جزاهم الله خيرا.
- ولأنهم لم يتمسكوا، خلال بذل جهودهم المباركة لنصرة الإسلام، بالمنهج التربوي الشامل والواحد؛ لم يبق بعدهم من يواصل دورهم النفيس.
- وفي المقابل هاهو الإمام حسن البنا، الذي أرسى منهجا تربويا شاملا وواحدا أقام منه الجماعة العالمية، ها هو يترك خلفه بعد موته مئات الآلاف ممن واصلوا التزامهم بالجماعة ودوام مناصرتها والسمع والطاعة لمسؤوليها، ثم ظلت هذه الحركة تزداد يوما بعد يوم، وتقوى.
لماذا؟
- لأن الإمام البنا جمع بين هؤلاء في دائرة منهج الجماعة التربوي الشامل والواحد، وبذلك وجد من يكمل نصرة المشروع وفق منهج الجماعة بكل أبعاده بعد موته، وبذلك حرر الجماعة من الارتباط بشخصه، وأبقاها مربوطة بمنهج يقوم على العمل الجماعي وليس العمل الفردي، ويصلح أن ينمو مع الأيام وأن تتوارثه أجيال الجماعة جيلا بعد جيل، وأن يصمد في وجه الصعاب التي قد يتعرض لها مهما تواصلت ومهما كانت شديدة، فكان هذا سمت الجماعة الاصيل؛ حيث امتدت بعد موته، وتواصل نموها، وصمدت في كل محطات ابتلائها، واشتد عودها قوة بعد كل ابتلاء.
- والسبب في كل ذلك- بعد حفظ الله تعالى وفضله- يرجع إلى أنها قامت على منهج تربوي شامل وواحد.
- وهذا هو المرجو لاستمرار مسيرة الجماعة بأجيالها الجديدة، بأن تعض على منهجها التربوي الشامل والواحد بنواجذها، لأن صبغة الشمول فيه ستؤهله أن يكون مصنعا لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في نصرة الإسلام، يجمعون بين العلم والعمل، وبين الزاد الفكري والزاد الروحي، وبين العبادة والمعاملة، وبين الفهم السياسي والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين.
- إن أهم ما يميز عمل الجماعة على اختلاف البيئات التي تعمل فيها واتساع المناطق الجغرافية التي يتواجد ابنائها بها أنها تتبنى منهجا تربويا شاملا وواحدا؛ يضم الجانب العقائدي والفكري والفقهي والسياسي والروحي والقراءة الواحدة للتاريخ والحاضر والمستقبل، ويستقي كل ذلك من القرآن والسنة، ثم من المنهج الفقهي للجماعة، وأدبياتها.
- وتهدف الجماعة من وراء ذلك بناء أبناء الجماعة – ذكورا وإناثا – وصياغة الفهم الإسلامي الواحد، والسمت الإسلامي الواحد، والرؤية الإسلامية الواحدة، والالتزام الإسلامي الواحد، والسلوك الإسلامي الواحد لدى كل أبناء الجماعة ذكورا وإناثا.
- وهذا ما يعين على وحدة كلمة الجماعة ووحدة صفها ومواقفها وتفاعلها مع الواقع القطري والعربي والإسلامي والإنساني.
- وإلا لو لم تكن الجماعة كذلك لتحولت إلى مجرد تجمع أفراد ليس إلا، وكلٌ فيهم يغني على ليلاه ويقول: أنا الجماعة في فهمها العقائدي والفكري والفقهي والسياسي والروحي والقراءة الواحدة للتاريخ والحاضر والمستقبل.
- ومما لا شك فيه سيؤدي ذلك إلى تفكك الجماعة، وستصبح مئات الحركات الإسلامية، بل لن تصلح عند ذلك أن يطلق عليها حركة إسلامية، لأنها ستصبح أشبه ما يكون بمئات أو آلاف المسلمين جمعهم درس إسلامي أو صلاة جمعة أو موسم حج أو مجلس ذكر.
- إن ضرورة وجود منهج تربوي شامل وواحد هو كضرورة الروح للجسد، لأن قوة الجماعة في الأساس من قوة منهجها التربوي الشامل والواحد، وقوة الالتزام بهذا المنهج، وبعد ذلك يأتي السؤال عن عدد أبناء الجماعة وعدد مؤسساتها ونشاطها الجماهيري بكل أبعاده، وعن تواصلها المحلي والعالمي، وحضورها الإعلامي.
وإلا لو أبدعت الجماعة بكل هذه العناوين وأسقطت من حساباتها ضرورة وجود منهج تربوي شامل وواحد فهي ليست حركة واحدة، فقد تكون حزبا أو جبهة أو هيئة شعبية أو جمعية خيرية.
وهذا يعني أن هوية الحركة هو منهجها التربوي الشامل والواحد وضرورة الالتزام به وإلا فهي حركة بلا هوية.
كما أن قابلية الجماعة للنمو الحقيقي والاتساع الجاد والزيادة في عددها وعدتها ودورها وكيفها وكمها لا يمكن أن تتحقق إلا إذا تحقق هذا الأصل الثابت؛ ألا وهو المنهج التربوي الشامل والواحد.
ولذلك فإن الجماعة مطالبةٌ أن تنفق معظم جهدها ووقتها، وأن تجند معظم قدرات العاملين فيها في تحقيق وتعميق وإفشاء المنهج التربوي الشامل والواحد بين كل أبنائها.
وهي مطالبة ألا تستثني أحدا من أبنائها من هذا المنهج، مهما حمل من الشهادات، ومهما تقلد من المناصب، ومهما قدم من التضحيات، ومهما مضى عليه من العمر.
فلا يوجد شيء اسمه فلان فوق التربية، ولا فلان بلغ اليقين وأنهى مرحلة التربية، بل لا بد أن يلتزم كل واحد من أبناء الجماعة بهذا المنهج ما دام في الحركة، وإلا فإن وجود ظاهرة فلان فوق التربية أو فلان أنهى مرحلة التربية، أو فلان تقلد المسؤوليات قبل الحد الضروري من التربية.
إن تربية الإنسان المسلم هي المهمَّة الأولى للجماعة، لأنَّه وحده هو أساس التغيير ومحور الصَّلاح والإصلاح، ولا أمل في استئناف حياة إسلامية أو قيام دولة إسلامية أو تطبيق قوانين إسلامية بغيره.
أولا : التربية في فكر جماعة الإخوان المسلمين
التربية أساس التكوين
وقد لفت الإمام البنا أنظار ابناء الجماعة دوما في كتاباته وكلماته لأهمية العملية التربوية، وأكد على ضرورة تعهد الأفراد بالتربية والمجاهدة حتى يشتد العود ويكمل الاستعداد فكان يقول " إن معركتنا معركة تربوية "، كما أكد الإمام البنا أن بناء الرجال هو أهم ما ينبغي أن يُعنَى به المصلحون ، فكان من وصاياه " إذا وجد الرجل المؤمن وجدت معه أسباب النجاح" ومنا هنا كانت التربية عند الإخوان هى الطريق الوحيد لبناء الرجال الأوفياء الأتقياء، وهى الطريق الوحيد لإيجاد الفرد المسلم الصادق المجاهد ، فاختارت جماعة الإخوان أن تكون "مدرسة التربية والتكوين على منهج الإسلام الشامل العظيم" ، مدرسة تربي الفرد وتتعهده وتكون لديه صفات المسلم الصحيح الكامل فهما وعقيدة ، خلقاً وسلوكاً، لقد كان الإمام ملهماً حين حول جوانب الإسلام العظيم من نظريات فى الكتب إلى واقع محسوس وملموس بالتربية والتكوين.
ولقد أولت الجماعة التربية الأهمية الأولى بين سائر الاهتمامات، فكانت منذ نشأة الدعوة أساسها المكين وركيزتها الكبرى، فلا يقيس الإخوان قوة دعوتهم وجماعتهم بكثرة عدد المنتسبين إليها، ولا مدى ذيوع شهرتها، ولا مجرد انتشارها في أنحاء العالم، إنما تقوم على:
نوعية الفرد في الجماعة، من حيث صحة فهمه لدينه، وسلامة عقيدته، وقوة إيمانه بفكرته وارتباطه بجماعته، وتمسكه بمبادئ الإسلام وأصوله ومقاصده، وآدابه وأخلاقه في كل أمور دينه ودنياه، بين إخوانه في الله وسائر الناس، في سره وعلانيته، في عافيته وشهرته، يُعرف الرجال بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال.
ويحرص الفرد في الجماعة على استكمال تربية نفسه ومن معه تربية إسلامية صحيحة متكاملة حتى يكون الفرد في الجماعة رجل فكرة وعقيدة مقتدياً في ذلك سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما كان عليه السلف الصالح في صدر الإسلام وعهوده الزاهية.
الأصول التربوية في فكر الجماعة
ويمكن إجمالها فيما يلي:
- 1- تكوين العقيدة الصحيحة في كل فرد على أساس من الكتاب والسنة، فهي حجر الأساس في تربية الفرد والمجتمع، وهي أساس العمل، عمل القلب وعمل الجوارح.
- 2- إقامة العبادات والمحافظة على أدائها وهي وليدة العقيدة وكلاهما عامل أساسي في بناء الأمة الإسلامية، من صلاة وزكاة، وصيام، وحج، وهي أفضل ما يصل القلب بالله ويربي الوجدان الحي والضمير اليقظ.
- 3- المعاملات الإسلامية وإحسانها أساس الدين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين المعاملة)، ويلحق بها التربية على الآداب الإسلامية الواردة في كتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالح، وغرس مفهوم الأخوة الإسلامية.
- 4- بناء النفوس المؤمنة والعقول الفاهمة، والأجساد القوية.
ماهية التربية
لقد حدد الإخوان مفهوم التربية والتكوين بأنه :
- الأسلوب الأمثل فى التعامل مع الفطرة البشرية توجيها مباشرا بالكلمة وغير مباشر بالقدوة ، وفق منهج خاص ووسائل خاصة لإحداث تغيير فى الإنسان نحو الأحسن ...
- منظومة الخبرات التربوية التى تهيؤها الجماعة للأفراد بقصد مساعدتهم على النمو الشامل المتكامل المتوازن فى جميع الجوانب ( الإيمانية والأخلاقية والإجتماعية والسياسية والعقلية والنفسية والثقافية والفنية والجسمية والمهنية ) نموا يؤدى إلى تعديل سلوكهم ويعمل على تحقيق الأهداف التربوية المنشودة •
- تغيير الإنسان من حال إلى حال في (وجهته وأفكاره، ومشاعره وأحاسيسه، وأهدافه وطرائقه)، تكوين ينفذ إلى الروح والجوهر والمضمون، لا الشكل الظاهري فقط ، وهو بذل جهد مزدوج من الفرد المراد تربيته ومن القائم بالتربية، عبر عملية طويلة ممتدة يتم خلالها صياغة الفرد والأسرة والمجتمع وِفْق منظومة إسلامية متكاملة البناء تراعي مثلث التغيير المنشود في النفس البشرية (المعرفة والوجدان والسلوك) أو (النفس والقلب والجوارح)، فهو منهجٌ للتكوين يبدأ من الفرد.
خصائص التربية الإخوانية
قالها الإمام "تميَّزت دعوة الإخوان بخصائص خالفَت فيها كثيرًا من الدعوات التي عاصرتها، ومن هذه الخصائص العناية بالتكوين والتدرج في الخطوات " ، وقد تميز التكوين الدقيق والتربية عند الإخوان بخصائص، لا يحيد عنها المربون ومن ذلك أنها :
- 1. تربية ربانية: فإننا تحكمنا ربانية الدعوة التي ننتمي إليها، ومن ميزة الربانية التي تتسم بها دعوتنا أنها:
- ربانية المصدر، بمعنى أنها تتلقَّى أوامرها من الله، وتسير وفْق مراد الله، وما أوجبه الله علينا، وربانية الوجهة: ومعناها أننا نبتغي بكل عمل نقوم به وجه الله وابتغاء مرضاته، ومن هنا فإننا برآء من مقولة (الغاية تبرر الوسيلة)؛ لأننا محكومون بأن نجعل الوسيلة ربانيةً أيضًا، فلا ننهج في التغيير أي وسيلة مرفوضة شرعًا، ولو كانت مؤدية لتحقيق الغاية الربانية.
- 2. تربية شمولية: تتناول كل مكونات النفس البشرية (معرفة- وجدان- سلوك)، فيعطي التكوين كل واحدة من هذه المكونات حقها في التغيير حتى تكتمل عملية التغيير التربوي، وإلا كان التغيير الذي نقوم به تغييرًا مشوَّهًا، ونتج عنه شخصية مشوهة.
- 3. تربية وسطية: فلا إفراط ولا تفريط فيها، لا تميل إلى جانب على حساب جانب، ولا تبالغ في أمر دون أمر، تأخذ الأمور بوسطية واعتدال وتوازن.
- 4. تربية إنسانية: فهي تتعامل مع نفس بشرية لا مع جمادات، تأخذ في سيرها بالسنن الإلهية في التعامل مع النفس البشرية، وأن هذه النفس لها مقومات وخصائص ومشاعر وأحاسيس يجب أن تراعَى.
- 5. تربية متدرجة: تنتقل في خطواتها ومراحلها التكوينية وفق معايير متدرجة، ووفق خطوات مدروسة ومرسومة وواضحة المعالم، لا تتعجل النتائج، ولا تستبق الأحداث، ولا تتجاوز درجات السلم التربوي للتغيير المنشود، فمن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
- 6. تربية مستمرة: فهي تبدأ من الميلاد الحقيقي للنفس البشرية؛ أي لحظة الالتزام الدعوي والتربوي؛ بل وربما تبدأ قبل ذلك في سن الطفولة، ثم تمتد بهذه النفس في مسيرة منتظمة مستمرة حتى الوفاة، فهي عملية تربوية لا تتوقف: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر: 99)، ولا يدعي أحد فيها أنه فوق العملية التربوية مهما كانت منزلته.
- 7. تربية إيجابية: فهي دعوة للأمل والفاعلية، ترتكز على البحث عن إيجابيات النفس والبدء بها والتركيز عليها ومحاولة تنميتها، وإضفاء روح الإيجابية البناءة، والتفاعل المثمر، وبث روح الأمل في النفوس، والنظر إلى نصف الكوب الممتلئ بالماء لا الفارغ منه.
- 8. تربية واقعية حيث تبدأ مع النفس من حيث هي، وتخاطبها وفق واقعها المحيط بها.
- 9. تربية مرنة : فهي تتلاءم مع ظروف العمل للدعوة وللأفراد وللمجتمع المحيط
- 10. تربية حركية: فهي تقوم على التربية الميدانية التفاعلية، لا على التوجيه الفكري أو النظري.
- 11. تربية عميقة: فهي ليست أشكالاً سطحية للتربية الهشة؛ بل تغوص في أعماق النفس البشرية ومكنونات تلك النفس .
غاية التربية الإخوانية
لقد حدد الإمام البنا الغاية من التكوين الدقيق في الجماعة ، وبين أن للتربية والتكوين عند الإخوان غايتين :
- 1- غاية قريبة: تتمثل في التكليف الإلهي الفردي ، نسعى إليها منذ اللحظة، ونسير في خطوط متوازية وليست متتالية لتحقيقها، وتتمثل في (إصلاح الفرد المسلم- بناء الأسرة المسلمة- إرشاد المجتمع) كلٌّ وفق شروط تكوينه وتربيته وتغييره، كما وضحها الإمام البنا بقوله " فنحن نريد أول ما نريد يقظة الروح، وحياة القلوب، وصحوة حقيقية فى الوجدان والمشاعر، ونحن نريد نفوسا حية قوية فتية " .
- 2- غاية بعيدة: وتتمثل في التكليف الإلهي الجماعي ، وقد تكون مرحلة تالية؛ ولكنها لا تغيب، وتتمثل في (إيجاد الحكومة المسلمة- إعادة الخلافة الراشدة- الوصول إلى السيادة وأستاذية العالم) وما ذلك على الله بعزيز.
وسائل التربية
ولقد أخذت جماعة الإخوان المسلمين بوسائل متعددة لبناء وتكوين الأفراد، والتي كان لها عظيمُ الأثر في إعداد وتربية الأجيال المتعاقبة من حمَلة هذه الدعوة المباركة والعاملين المجاهدين من أجل نصرة هذا الدين الحق، ولقد أثبتت الممارساتُ العملية لهذه الوسائل على مرِّ الزمن أنه لا بديلَ ولا غنى عنها، وأنها ما زالت صالحةً لتحقيق التربية السليمة والمتوازنة لأفرادها، ولقد حدَّدت الجماعة لكل وسيلة دورَها في البناء والتكوين، نذكر منها:
- 1. الأسرة :هي اللبنة الأولى في بناء الجماعة وتكوينها، كما أنها أساس التكوين للأفراد وأمثل الأساليب لتربية الفرد تربيةً متكاملةً، تتناول كل جوانب شخصيته، وتصوغ هذه الشخصية صياغةًً إسلاميةً وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتُعدُّ الأسرةُ من أهم الركائز التي يقوم عليها بناء الجماعة في تربيتها وفق نظام أسري؛ من أجل الاستمرارية وإعداد الفرد إعدادًا إسلاميًّا متكاملاً، وفي ذلك يقول الإمام الشهيد حسن البنا:
- "يحرص الإسلام على تكوين أسر من أهله، يوجههم إلى المثل العليا، ويقوي روابطهم، ويرفع أخوَّتهم من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الأفعال والعمليات"، ويقول الأستاذ حسن الهضيبي: "وليس نظام الأسر إلا تحقيق معاني الإسلام تحقيقًا عمليًّا بين الإخوان، فإذا هم حقَّقوا ذلك في أنفسهم صحَّ لهم أن ينتظروا ما وعد الله به المؤمنين من نصر.."، ويُعتبر نظام الأسر هو البناء الدقيق للجماعة لكي تستطيع القيام بمسئولياتها وواجباتها تجاه تحقيق النصرة لهذا الدين، وتحقيق العزة والرفعة لأمتنا الإسلامية.
- 2. الكتائب: تعتني بتربية الروح، وترقيق القلب، وتزكية النفس، وتعويد البدن والجوارح على الاستجابة للعبادة بعامة وللتهجد والذكر والتدبر والفكر بصفة خاصة.
- 3. الرحلات : تعتني بتقوية البدن، وكذلك الترويح عن النفس، وتوثيق العلاقة بين الأفراد، وتعميق الارتباط بينهم، كما تُعنَى بتدريب الأفراد على الاعتماد على النفس وحسن التصرف وتحمُّل المشاق، والتزام النظام، والحرص على الانضباط، واكتساب الخبرات العملية.
- 4. المعسكرات: تعمل على صبغ حياة الفرد بصبغة إسلامية لفترة تشتمل على عدد من الأيام؛ ليكتسب السلوكيات الإسلامية والآداب القرآنية، ويتدرب على ممارسة الجندية بكل معطياتها، من طاعة ونظام وتحمُّل وانضباط والتزام، كما يتدرب على تحمل المسئوليات العملية والتعرف على أعبائها وواجباتها.
- 5. المؤتمرات: تتيح للأفراد فرصةً جيدةً للاشتراك في المناقشة والحوار، كما تركِّز بعمق ودقة على تنمية الجانب الفكري والثقافي لدى الأفراد وتنمية الوعي وتعميق المعرفة لديهم تجاه القضايا المطروحة
- 6. الدورات: تعمل على إكساب وتدريب الأفراد على المهارات الأساسية واللازمة في كافة مجالات وأنشطة الدعوة، كما تعمل على إكساب الخبرات والتجارب العملية بالتواصل الفعَّال مع أهل الاختصاص والخبرة.
- 7. الندوات : تُعنى بدراسة القضايا والمشكلات المطروحة والتعرُّف على جوانبها المختلفة وكيفية التعامل معها، كما تعمل على تعميق وعي الأفراد وتوحيد أفكارهم بما يحقق وحدة التصور والفكر.
إن هذه الوسائل التربوية بتكاملها وشمولها تعبر بصدق عن خصائص منهج التربية عند الإخوان المسلمين، وتدل على عبقرية البناء والتكوين عند الإمام الشهيد حسن البنا، الذي استطاع أن يؤلف ويربِّي الرجال أصحاب الهمم العالية والعزائم الصادقة، والذي سار على نهجه الأتباع والدعاة على مرِّ الأزمنة وفي سائر الاقطار.
قواعد التكوين
- 1. إن التكوين يهدف إلى استخلاص العناصر الصالحة لتحمل أعباء الجهاد في سبيل تحقيق الغاية، والأهداف التي من أجلها قامت دعوة الإخوان، والدعوة في مرحلة التكوين خاصة لا يتصل بها إلا مَن استعدَّ استعدادًا حقيقيًّا لتحمل أعباء جهاد طويل المدى كثير التبعات
- 2. إن مهمة التكوين الأساسية هي بناء الفرد المسلم المتكامل في فكره وخلقه وروحه وسلوكه؛ ولذا كانت التربية الروحية أساس هذا التكوين.
- 3. تكوين الوعي في التربية يشمل: وعي عقائدي يستقيم به على دروب السلف ويعصمه محدثات الأمور والبدع يقول الشهيد سيد قطب " فحركتنا منضبطة بعقيدتنا وعقيدتنا تنمو بحركتنا " ، ووعي فقهي يحمله على تتبع النص الصحيح أنى وجده ، من غير ما سلاطة لسان على المقلدين ولا خشونة ، ووعي سياسي يبعده عن الكمين الذي ينصبه له العدو ، ويبصر به لوائح الخطر وإشاراته من على بعد، ويدله على أماكن الفرص وأوقاتها ليستغلها .
- 4. إن التدرج في الخطوات من أصول، وفقه العمل في دعوة الإخوان المسلمين، وفي ذلك يقول الإمام البنا- رحمه الله- في رسالة "هل نحن قوم عمليون":
"ذلك واضح جلي في الخطوات التي سلكتها دعوة الإسلام الأولى فقد وضع الله لها منهجًا محدودًا يسير بالمسلمين الأولين- رضوان الله عليهم- إليه من دعوة في السر، ثم إعلان بهذه الدعوة ونضال في سبيلها لا يمل، ثم هجرة إلى حيث القلوب الخصبة والنفوس المستعدة، فإخاء بين هذه النفوس، وتمكين عُرى الإيمان في قلوبها ثم نضال جدي، وانتصاف من الباطل للحق" .
ثمرات التربية
لقد كان التكوين قائما على تخيُّر الأنصار وإعداد الأفراد وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين ، الذين سمعوا بالدعوة واقتنعوا بها ، وقد حققت التربية في دعوة الإخوان ثمارا إيجابية في المجتمع والأمة ، نذكر منها :
- 1- التفاف أكثر من نصف مليون خلف الدعوة ، في فترتها الأولى ، وقد تربوا على المبادئ والقيم الإسلامية ، حتى صاروا حملة للدين ودعاة له يضحون في سبيله بكل غال ورخيص .
- 2- تحويل المبادئ النظرية إلى حركة ، وتحويل الأفكار إلى واقع ملموس ، وتحويل الرسالة إلى رجال ، وتحويل المنهج إلى جيل ، والانتقال من ترديد الشعار إلى ممارسة الشعار ، فكان أثر التربية واضحا : جرأة في الحق، واستقامة في الخلق، واعتزاز بالدين، وجدّ في الدرس، ورجولةٌ مبكرة، وثقافة إسلامية متنورة، ومقدرة بيانية واعية .
- 3- ثبات المعتقلين في الخمسينات والستينات، والذين بلغوا أكثر من عشرات الألوف ، ولم يسقط في الابتلاء منهم إلا أعدادا محدودة، وهذه هي سنة الدعوات، ولازالت الأجيال ثابتة جيلا بعد جيل رغم المحاكمات العسكرية في تاريخ الإخوان.
- 4- تسابق الإخوان للخروج إلى ساحات الجهاد ، في تنافس عجيب على الموت في سبيل الله ، فخرجت الآلاف من مصر وبلاد الشام والعراق والحجاز واليمن إلى الجهاد في فلسطين سنة 48 م
- 5- عودة الروح لكثير من القيم التي كانت من مآثر جيل الصحابة والتابعين ، مثل روح الأخوة الفريدة ، والإيثار النادر ، وعاطفة الحب في الله ، والتضحيات العظيمة ... الخ
- 6- انتشار "مدرسة التربية والتكوين على منهج الإسلام الشامل العظيم" في ربوع العالم اليوم حيث امتدت إلى أكثر من 90 دولة تنتهج النهج التربوي الإخواني ، تدعو أبناء الأمة ممن يقبل أن يكون أحد تلاميذها ، قتتعهده وتربيه وتكون لديه صفات المسلم الصحيح الكامل .
- 7- "ما أثر التربية الإسلامية في تكوين الشباب؟
- هو أنتم أثرها، هو أن تُحيل ذلك الحطام الآدمي إلى شباب مثلكم، شباب متماسك قوي خَشِن مكافح مؤمن، باع نفسه لله، فأنتم المدلول الحي للتربية الإسلامية، أنتم كلمة الله لأن المسلم الحي هو كلمة الله في الأرض" هكذا قالها الشهيد سيد قطب.
- 8- ”إن هذه الجماعة لعبت دورًا إسلاميًّا رائعًا في حياة الصبيان والشباب والرجال، وغرست أخلاق الإسلام في الملايين، وجعلت الانتساب للإسلام مفخرةً يعتز بها الكثيرون، ودفعت إلى المكاتب والمصانع والوظائف جماعاتٍ تعرف اللهَ وتخافه " كلمات نطق بها أحمد شلبي في موسوعته التاريخية .
- 9- أن الإمام البنا استطاع أن ينتشل الآلاف من شباب مصر من المقاهي ومواخير المخدرات والمسكرات؛ ليصنع منهم دعاةً للإسلام، ويحولهم من حالة الضياع إلى قوة شبابية تخوض غمار السياسة مزاحمةً أقوى الأحزاب العريقة في مصر". شهادة د كاري ردزنيسكي الباحثة في جامعة هارفارد الأمريكية .
- 10- ” الإمام البنا أعطى للشباب المصري الذي كان غارقًا في الإدمان على المخدرات والخمور معنى جديدًا للحياة من خلال العلم الذي كانوا ينهلونه من خلال اجتماعات الجماعة ومن خلال قراءتهم لرسائل الإمام البنا، كما أنه استطاع أن يُعيد اندماج هذا الشباب الخامل الكسول في المجتمع المصري ليكون شعلةَ نشاط في العمل الإسلامي".
شهادة د ديفيد كومونز جامعة ويكنسون الأمريكية
- مسك الختام في كلمة توجيهية من الإمام البنا إلى كل الإخوان ، الدعاة منهم والمربين ، السياسيين والإعلاميين ، الكتاب والمفكرين ، الإداريين والتنفيذيين ، " أيها الإخوان : إنكم فى دور تكوين فلا يلهيكم السراب الخادع عن حسن الاستعداد وكمال التأهب ، اصرفوا تسعين جزءاً من المائه من وقتكم لهذا التكوين وانصرفوا فيه لأنفسكم ، واجعلوا العشرة أجزاء الباقية لما هو لكم من الشئون حتى يشتد عودكم ويتم إستعدادكم وتكمل أهبتكم ، وحينئذ يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين " ، ونصح الجميع قائلا " إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمَن أراد أن يستعجل ثمرةً قبل نضجها أو يقطف زهرةً قبل أوانها فلستُ معه في ذلك بحال، وخيرٌ له أن ينصرفَ عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات، ومن صبر حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة، وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك على الله، ولن يفوتنا وإياه إحدى الحسنيين، إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة".
ثانيا :مباحث في التربية الإخوانية
التربية الدَّعوية.. بداية نجاح الدَّعوة
تكمن أهمية الاهتمام بالشأن التربوي، كون الداعية يتعرَّض للكثير من التحديات الخارجية والداخلية، وهي التي تحتاج منه أن يواجهها بنفس قوّية متينة، وإلا كان هذا الداعية ضحية للكثير من الأمراض، بل وربما أدَّى به إلى التساقط عن الطريق المستقيم لضعفه وقلة مناعته.
ولهذا، فإنَّ الاهتمام بالتربية الدعوية يؤدي إلى إيجاد الأفراد القادرين على تحقيق التغيير الشامل في المجتمع، بحيث يكون هؤلاء قدوة للآخرين، وعاملاً لمساعدة الناس على تحقيق النهضة بكافة أشكالها، سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية وأخلاقية وغيرها.
نظرات خاطئة..
ورغم ما تتمتع به التربية الدعوية من أهمية، إلاَّ أنَّها كثيراً ما تتعرض للتشويه بسبب نظرات مجتزأة، يصاحبها خلل في التعامل معها، ومن الأمثلة على ذلك:
- 1- النظر إليها على أنها مجرَّد شكليات لا تؤثر مطلقاً في سلوك الشخص، أو في تماسك الصف الدعوي. فيظن البعض أنَّ وسائل التربية كالأسرة والكتيبة وغيرها، ليس لها أيّ تأثير سوى إضاعة الوقت، في حين أنَّ الإنسان قد يستبدلها بمادة معرفية تقرأ من كتاب ما على سبيل المثال.
- وهذه النظرة ناشئة عن رؤية مجتزأ لهذه الوسائل من حيث تقييمها من الجانب المعرفي المعلوماتي فحسب، دون النظر إلى آثارها على النفس والسلوك.
- 2- التعامل معها على أنها مجرَّد روتين تنظيمي فحسب، بحيث تكون خالية من الروح والمضمون، ومقتصرة على القراءة والتنظير البعيد عن التوجيه وزرع القيم وحل المشاكل ومعرفة وجهات النظر والتعامل معها بالقبول أو التصحيح.
- وفي هذه الحالة يصاب الأفراد بحالة من الترهل الدعوي والتربوي؛ لأنَّ التربية عندهم تمثل نصوصاً مقروءة، أو كلمات مسموعة، خالية من كل ما يعيد صياغة النفس، ممَّا يجعلها عرضة للكثير من المشاكل.
- 3- النظر إليها إلى أنها مطلوبة في مرحلة عمرية معيَّنة أو في القاعدة دون القيادة.
- بحيث إنْ ترقّى الداعية في المناصب ووصل إلى أعلى الهرم أو قيادة العمل الدعوي، فإنه يستغني عنها ولا يحتاجها.
- وهذه ناشئة من النظر إلى التربية على أنها مجرَّد أمر مرحلي وليس أمراً أساسياً يكون أكثر حاجة وأهمية كلما ارتقى المرء في الدعوة وزادت مسؤولياته.
- 4- تقليل الاهتمام بالجانب التربوي، على حساب الأمور الأخرى. فعلى سبيل المثال يتم اختيار شخصية ما لتولي منصب معيّن، بسبب توفر بعض المؤهلات فيها رغم أنها تعاني من مشاكل تربوية خطيرة، وهذه النظرة عائدة إلى قلة الاهتمام بهذا الجانب، ممَّا يعني عدم اعتبار التقييم التربوي للأفراد إذا عارضته الأمور الثانوية الأخرى.
- 5- إضعاف العملية التربوية، عبر تعيين بعض الأشخاص غير المؤهلين للتربية، أو ممَّن لديهم خلل في الفكر والتربية، أو لا يستطيعون التعامل مع مادة التربية وكيفية إيصالها للآخرين، وهذه نابعة من نظرة خاطئة للتربية الدعوية، على أنها وظيفة أكثر من أنها رسالة، مع عدم الانتباه إلى أن المربّي قدوة لغيره، ولابد أن يتحلى بأفضل الصفات، حتى تنجح العملية التربوية.
رسائل الإمام حسن البنا ودورها في بناء الشخصيّة الإخوانيّة
تعدّ الرسائل من أهم الأدبيات التي كتبها الأستاذ حسن البنا -رحمه الله-؛ إذ بيّن فيها فكر جماعة الإخوان المسلمين، ونظرتها إلى العديد من الموضوعات، وموقفها إزاء الأحداث المختلفة، وذلك من خلال ثماني عشرة رسالة بما فيها رسالة المأثورات.
وللرسائل إسهامٌ مهم في تشكيل الشخصيّة الإخوانيّة؛ إذ قدّمت زاداً وتوجيهاً فكريّاً وتربويّاً ودعويّاً وإيمانيّاً للدعاة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ رسائل الأستاذ البنا ليست منهاج الإخوان المسلمين في الدعوة وإحداث التغيير؛ وإنّما هي المحتوى الفكري للمنهاج، كما أنّ أثر الرسائل على الشخصيّة الإخوانيّة ليس منفرداً أو مستقلاً، وإنما تشترك مع غيرها من الفواعل في التأثير على الشخصيّة الإخوانيّة.
وأمّا أبرز الوظائف والأدوار التي قدمتها الرسائل للشخصية الإخوانيّة تتمثل في الجوانب التالية:
- 1- قدمت فهماً عملياً للإسلام؛ إذ نظرت الرسائل إليه من خلال معلمتي: النظاميّة والشموليّة. فالإسلام يعد نظام تتشابك عناصره على نحو كثيف ودائم، وإنّ كل عنصر ومكون فيه مرتبط بغيره؛ ولا ينفك عنه، وأن المخرجات ينظر إليها كمدخلات لغيرها.
- والشمولية هي النظرة للإسلام من خلال أنه يتناول جميع مظاهر الحياة، فهي جميعاً سواء بسواء.
- وقد نظمت رسالة التعاليم هذه المظاهر في واحد وعشرين مظهراً؛ فالإسلام دولة، ووطن، وحكومة، وأمة، وخلق، وقوة، ورحمة، وعدالة، وثقافة، وقانون، وعلم، وقضاء، ومادة، وكسب، وغنى، وجهاد، ودعوة، وجيش، وفكرة، وعقيدة صادقة، وعبادة صحيحة.
- 2- وضحت الرسائل منهج الدعوة؛ ورسمت الطريق لإحداث التغيير المنشود في الإنسان والمجتمع والدولة، كما حددت رؤية الجماعة، وأهدافها، والوسائل الموصلة لذلك، والمراحل، والسياسات المتّبعة، والمعيقات المتوقعة، كما تناولت البيئة وظروفها.
- 3- حددت الموقف من موضوعات ومصطلحات تهم الداعية؛ مثل: الأحزاب، والوطنيّة، والقوميّة، والحكم، واستخدام القوة في التغيير، والجهاد، والدول الأوروبية، والدستور، والثورة، والأقليّات، والنظام النيابي والرئاسي، والخلاف العقدي السائد في حينه، والأمّة.. وغيرها.
- 4- قدمت حلولاً واقتراحات تعنى بجوانب تواجه الحكّام، مثل: مكافحة الضرائب، ومحاربة الربا، والتقريب بين الطبقات في المجتمع، وصور تطبيق نظام الاقتصاد الإسلامي … وغيرها.
- 5- وثقت الرسائل لفكر الجماعة، وغدت مرجعه، وسهلت على الدعاة التعرف إليه، كما ناقشت الشبهات التي تثار حول الدعوة وأهدافها.
- 6- قدمت وسائل عمليّة للعناية بالأخلاق والجوانب الإيمانيّة، وحثّت الداعية على العناية بتزكية نفسه، والارتقاء بروحه، ويمكن اعتبار ما أوردته رسالة التعاليم من واجبات للأخ الصادق، ومتن رسالة المأثورات، من أهم الأمثلة على ذلك.
- 7- دافعت الرسائل عن الإسلام، وردت الشبهات التي كانت تثار حوله، خصوصاً في قدرته على الحكم، وصلاحية أحكامه لكل زمانٍ ومكان.
- 8- شكلت الرسائل محتوى تربوياً وفكرياً ودعويّاً وإيمانيّاً للمحاضن التربوية في الأسر والكتائب، كما قدمت زاداً للمربين والمتربين على حدّ سواء.
- 9- ناقشت الخلاف العقدي السائد، وقدمت موقفاً منه، امتاز بالتناول العلمي والروح الدعويّة، ويعد الموقف معلماً من معالم التجديد التي قدمتها الجماعة للأمّة، في وقتٍ كانت محتلة من الغرب، وفي أضعف أحوالها الحضاريّة، وكان الدعاة -حينها- منشغلين بالخلافات الفرعيّة.
- 10- عززت الرسائل السلفيّة الحقّة عند الداعية، من خلال تأكيد الالتزام بمصادر التشريع، ومن خلال ما ورد في أصول الفهم العشرين.
- 11- تعد رسالة المأثورات زاداً إيمانيّاً يوميّاً للداعية، وأولت مكانة مرموقة لرابطة الإخوة، من خلال استحضار أسماء الإخوة والدعاء لهم، كما ربطت المأثورات الداعية بالله صباحاً ومساء، والذكر والدعاء من خير زاد الدعاة، وإنّ لآيتي سورة آل عمران 26و27: ((قل اللهم مالك الملك… وترزق من تشاء بغير حساب)) اللتين يقرأهما الداعية كل صباح ومساء وفي مواعيده الدعويّة المختلفة بالغ الأثر في تثبيت معاني العقيدة في نفسه؛ فالملك بيد الله، والعزة من الله، والخير كله من الله، والأمر منه وإليه.
- 12- تعد الرسائل وسيلة دعوة للجماعة والإسلام؛ إذ كثيرون تعرفوا إلى الجماعة ومنهجها من خلال اطّلاعهم على الرسائل.
- 13- ناقشت الرسائل المستجدات التي كانت تعرض للدعوة؛ خصوصاً في رسائل دعوتنا في طور جديد، والمؤتمرين الخامس والسادس.
- 14- حضّت الرسائل الداعية على العلم، وأعلت من منزلته، كما دعت الداعية ليكون متّبعاً للدليل، متعرفاً إليه، ملمّاً به، وأمرته بالابتعاد عن التقليد.كما احترمت الرسائل الخلافات الفقهيّة، ولم تتبن مذهباً فقهيّاً بعينه.
- 15- اهتمت الرسائل بالمرأة والشباب والعلماء، وهذه مكونات أساسية في المجتمع، وكانت أدوارها مهمّشة. ولقد تمّت مخاطبتهم كشرائح مهمّة؛ ينظر دورها في تحقيق التغيير المنشود.
- 16- قدمت الرسائل تأريخاً لبعض الأحداث الداخليّة التي مرّت بها الجماعة، وللأحداث الخارجيّة التي شكلت معطيات البيئة آنذاك.
- 17- صاغت الرسائل فقه العمل الجماعي ومقوماته ومراحله، والذي هو أساس لإحداث التغيير في الأمّة.
- 18- أولت الرسائل اهتماماً خاصّاً بالقرآن الكريم، خصوصاً في أصول الفهم العشرين.
وآتى هذا الاهتمام ثماره في ما تحققه الدعوة من جهود في المحافظة على القرآن الكريم وخدمته.
بالمحمل؛ فإنّ رسائل الأستاذ حسن البنا -رحمه الله- قدمت للداعية زاداً فكريّاً وإيمانيّاً ودعويّاً وتنظيميّاً، ولقد عنت بصوغ شخصيّة إخوانيّة متوازنة وجامعة، ذات مكونات غنيّةمحاضن التربية في جماعة الإخوان ..
تجربة نبوية في زمننا المعاصِر
خرج الرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، من مكة المكرمة، مهاجرًا إلى المدينة المنورة، ببضعٍ وسبعين نَفْسًا من المسلمين الأوائل، وبعد هذا التاريخ بنحو عقدَيْن ونيِّف من الزمان؛ كانت دولة المسلمين قد امتدت إلى ما وراء أطراف شبه جزيرة العرب؛ مسقطة دول الظلم والطغيان وعَبَد الطاغوت، في الشرق والغرب.
ولئن كان هناك فضل في ذلك لشيء، بعد فضل الله سبحانه وتعالى أولاً وأخيرًا؛ فقط كان للوسيلة التي اتبعها النبي “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، في تربية وتنشئة الجيل الأول من المسلمين الأوائل؛ حيث كانت المجموعة التي هاجرت معه، هي التي قادت الدولة بعد ذلك، وبعد رحيل الرسول “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، إلى جوار ربه، مطلقة جيوشها لنشر نور الإسلام في العالم.
إن فترة العقد ونيِّف من عمر الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، حوالي 13 عامًا، كانت الأهم في عمر الدعوة، بالرغم من أنها لم تسفر عن إسلام سوى بضعة عشرات من الأفراد؛ إلا أن الوسيلة التي تم بها ذلك، والأثر العميق الذي أحدثته هذه الفترة، تجعلها تستحق هذه الأهمية.
ركز النبي “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، في تلك المرحلة على قضية التربية والتنشئة، بمختلف جوانبها، الأخلاقية والسياسية والمجتمعية، ولكن في إطار واحد أساسي، وهو الإطار القيمي الكُلِّي أو التأصيلي، اتساقًا مع طبيعة الإسلام كدين شامل، يحمل آخر وأكمل تعاليم الإله الواحد الأحد، إلى الإنسانية كلها؛ حيث سعى إلى تأسيس فكري ومفاهيمي عميق ومتعدد الجوانب لعدد من الأمور، وغرسها في نفوس الرعيل الأول من المسلمين الأوائل.
على رأس هذه الأمور كان فهم المسلم لحقائق الوجود الكوني بشكل عام، والإنساني بشكل خاص، أي لماذا خلق الله تعالى الكون، ولأية غاية، وما هي القوانين التي تحكم العمران الإلهي في خلقه، وخصوصًا سُنن التدافع بين القوى المختلفة في هذا العالم، لاسيما في الإطار القيمي، بين الخير والشر، والحق والباطل، ولماذا خلق الله تعالى الإنسان، وأسكنه الأرض وسخر له ما في الكون.
والأهم، في نظر الكثيرين، كان التأسيس النبوي لقضية معالي الأمور في تفكير وسلوك المسلم من خلال التأكيد على ماهية مهام الإنسان المسلم، والمجتمع المسلم، والأمة المسلمة، في هذه الحياة الدنيا، وكلها من عظائم الأمور وجليلها.
ورفد الأسلوب النبوي في التنشئة والتربية في هذا الإطار، مفرداته بالكثير من النصوص القرآنية، التي تتناول هذا كله، رسالة الإنسان في الأرض، وقيمة الجهاد في سبيل الله.
ومن بين هذه الآيات، آية “التَّوبة” الشهيرة التي يقول فيها رب العزة سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}، والتي نزلت في بيعة العقبة الثانية، في العام الثالث عشر للبعثة النبوية.
وهو ما أسس لسلوك الصحابة الأوائل رضوان الله تعالى عليهم، وما أتوا به من تضحيات قد لا يتصور إنسان عادي أن يأتي بها أحد من العالمين في هذه الحياة الدنيا، لعل كان أبسطها ترك المال والأهل والولد خلفهم في مكة المكرمة، والهجرة بدينهم لأكثر من موضع حتى استقروا في المدينة المنورة.
هذه العملية التأسيسية الشاقة، تمت من خلال وسيلة شديدة الأهمية، وهي ما يطلق عليه علماء التربية والاجتماع مصطلح المحاضن التربوية، أشهرها تاريخيًّا، كان جلسات دار الأرقم بن أبي الأرقم.
هذه التجربة كانت حاضرة تمامًا في ذهنية المؤسسين الأوائل لدعوة الإخوان المسلمين في الثلث الأول من القرن العشرين، وعلى رأسهم الإمام الشهيد حسن البنا.
فالإمام البنا ومؤسسو دعوة الإخوان المسلمين الأوائل، كانوا يسعون إلى إعادة خلق جديد للأمة، ليس بسبب انهيار دولة الخلافة الإسلامية قبل ذلك بسنوات قليلة فحسب؛ وإنما- وللدقة- للأسباب التي أدت إلى انهيار دولة الخلافة.
ومن ثَمَّ؛ فإن الرعيل الأول لدعوة الإخوان المسلمين، درسوا عددًا من الأمور الكُلِّية في هذا الإطار، وعلى رأسها كيف بدأ الرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، في تأسيس الأمة من نقطة الصفر.
فكانت جلسات دار الأرقم محل نظر واعتبار، وكانت هي الأساس النظري والعملي الذي قامت على أساسه محاضن التربية والتنشئة الاجتماعية والقيمية عند الإخوان المسلمين، بمختلف صورها، من أُسَرٍ وكتائب ومعسكرات، وغير ذلك.
هذه المحاضن لعبت أبلغ الأثر في عدد من الأمور شديدة الأهمية، على رأسها الإبقاء على جوهر الإسلام، الأخلاقي والقيمي، حيًّا في نفوس الجيل الجديد من المسلمين، الذي بدأ ينشأ في ظل غياب دولة الخلافة، في مقابل تأثير قوى الاستعمار والأنظمة الاستبدادية العلمانية التي بدأت في السيطرة على الدولة القومية الوليدة في العالم العربي والإسلامي.
وبالتالي، فإن هذه المحاضن، التي حرص القائمون عليها أن تشمل أنشطة فكرية وعملية في ذات الآنٍ، حافظت على هوية الأمة حاضرة في ذهنية الجيل الجديد والنشء المسلم في كل مكان، مع اتساع رقعة انتشار دعوة الإخوان المسلمين، كما حافظت على حضور القضايا التأسيسة المطلوبة من كل مسلم، ومن الجماعة المسلمة بشكل عام، وعلى رأسها نشر الدعوة، مهما كانت العقبات والتضحيات، وهي كبيرة.
ولعلنا لا نكون مبالغين لو قلنا إن جلسات الأُسَر والكتائب وغيرها من الأطر التربوية داخل دعوة الإخوان المسلمين، هي أساس الكثير من الأمور التي غيرت خريطة العالم السياسية.
فهذه المحاضن التربوية، هي التي غرست سمات الصمود والفداء والتضحية، وأصَّلت أمورًا عِظَام في نفوس النشء الجديد، أهمها الإيمان الكامل بأن كل ما يملكه الإنسان هو من عند الله تعالى وفضله، حتى روحه ذاتها، وأن ما يضحي به الإنسان في سبيل الله ودعوته؛ إنما هي تجارة رابحة مع الله عز وجل، وهي أهم قيمة ينبغي تأسيسها عند المسلم، في إطار تهيئته للقيام بفريضة الجهاد، والتي هي ذروة سنام الإسلام، كما قال الرسول الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، وتبعاتها الجِسَام على المسلم في كل شأنه، حتى أعز ما يملك، وهو ماله وأهله وولده.
وفي الأخير؛ فإن المحاضن التربوية ومرتكزات التنشئة الاجتماعية والأخلاقية في جماعة الإخوان المسلمين، هي تجربة نبوية في القرنَيْن العشرين والحادي والعشرين الميلاديَّيْن.
ومن ثَمَّ؛ فإن دراسة نتائجها في صيانة هوية المجتمع المسلم، وإبقاء قضايا الأمة حاضرة في ذهنية الأجيال الجديدة، في مواجهة التشويش والباطل السياسي والإعلامي، لهي كلها أمور شديدة الأهمية ومن واجب الوقت في ظل الحملة المسعورة الحالية على كل ما هو قيمي وأخلاقي وسياسي إسلامي.
العمل التربوي .. تلة الرماة التي تحمي الصف
تشكل غزوة أحد الدرس المكلف والاختبار الصعب الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلمه للفئة المؤمنة والجماعة المسلمة، درس كانت كلفته كبيرة من الجراحات والآهات والآلام، درس تأذى به النبي عليه الصلاة والسلام، ويجيء هذا الدرس ليضع الأمور في نصابها أنّ سنة الله لها مقتضيات في تكوين النفوس والصفوف والإعداد والالتزام بالطاعة والنظام.
وتلة الرماة وأحداثها مشهد أساسي من مشاهد الغزوة التي لا بد أن نقف معها لما لها من دلالة ومكانة مهمة، فلقد جاء في خبر الغزوة أنه عندما وصل جيش المسلمين إلى جبل أحد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم ظهورهم إلى الجبل ووجوههم إلى المدينة، وانتقى خمسين من الرماة تحت إمرة عبد الله بن جبير، ووضعهم فوق جبل عينين المقابل لجبل أحد، وذلك لمنع التفاف جيش المشركين حول جيش المسلمين، وأصدر أوامره إليهم قائلاً: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم)، وقال صلى الله عليه وسلم لأمير الرماة: “انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا”، وقال للرماة: “الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا، وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم”.
وكم نحن بحاجة اليوم إلى تلة الرماة تلك، وإلى ثلة من الصحابة كأمثال عبد الله بن جبير ومن بقي معه ولم يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلة الرماة هي الحماية والسند، هي الركن الحصين وهي اليوم في واقعنا تمثل العمل التربوي الذي تحتاجه الحركة الإسلامية بل الأمة بأسرها، والذي بدوره يحمي شباب المسلمين من أن يتخطفهم العدو، عدو الداخل والخارج وعدو النفس كذلك.
تلة الرماة مدرسة تربوية بحاجة اليوم إلى الاستفادة منها وإعادة إحيائها، وقراءتها قراءة متمعنة في محاولة للاستفادة منها واستلهام الدروس والعبر، كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات واقعنا وزماننا.
فإذا ما نظرنا إلى تلة الرماة، سنجد المكانة التي حظيت بها من اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والموقع الاستراتيجي، والتخصصية والكفاءة، وغيرها من الإشارات التي سنسقطها على عملنا التربوي لنجد بأن:
- – لم تكن تلة الرماة خطة مرحلية جزئية في الغزوة، وكذلك العمل التربوي فهو ليس مجرد مرحلة لها شروطها ومعطياتها وحسب بل هي عملية مستمرة على طول المعركة الممتدة، تعطي من حولها الدروس المستمرة بالمحافظة على الإيمان، والاستمرار فيه وعدم الغفلة عنه بل وتغذيته وتقويته وتمتينه، فالتربية لا تنقطع ولا ينصرف الناس عنها إلى أمر آخر ولا تتوقف عند فترة معينة.
- – موقع تلة الرماة هو ذاك الموقع الخلفي الذي يحمي ظهور المسلمين، المكان المرتفع المطل الذي يرى كامل المشهد، وهذا حال العمل التربوي الذي نحتاج إذ هو صاحب المكانة والموقع الاستراتيجي الذي لا يستغنى عنه في أي لحظة أو مرحلة، وهو صاحب الدور الحيوي الذي يحمي ظهور المسلمين وشبابهم من أن يكونوا لقمة سائغة وهدف سهل للعدو الذي يتربص بالأمة .
- – ومرة أخرى الموقع، إذ التربية هي الحضور الدائم والمعايشة المستمرة، فهي تراقب وتعايش، فبذلك تتعرف على نقاط القوة والضعف والقلة والكثرة والقصور في مسار التربية واحتياجات الأمة والمتربين في وقت واحد، ومن خلال ذلك تستطيع الأمة أن تصوغ رؤيتها التربوية وتضع لذلك برنامجاً واضح المعالم والأهداف، بحيث تحدد الجوانب التي ينبغي التركيز عليها، أو تأجيلها، أو التي تحتاج إلى العمل والتطوير.
- – ونجد على التلة المتخصصين الذين اختارهم رسول الله وانتقى من الصحابة لأجل هذه المهمة، وهكذا التربية ينبغي أن يُنتَقى من يمارسها ويؤمن بها انتقاءً خاصّاً، بحيث يكون مؤهَّلاً مدرباً مستعداً الاستعداد النفسي والمعرفي والأخلاقي، ومتمكِّناً من المهارات الدعوية والتربوية لحمل هذه الأمانة وتبعات هذه المسؤولية.
فلا بد من الالتفات الجاد للحفاظ على العمل التربوي وعلو تلة المربين، والعمل على إصلاحات العيوب وسد الثغرات الموجودة في العمل التربوي وخصوصاً داخل أروقة الحركة الإسلامية ومحاضنها التربوية في شتى الساحات.
العمل التربوي بطيء الثمرة فلن نجني الثمار سريعاً، وعلينا أن لا نغادر تلك التلة لجمع النتائج حتى نتأكد من إحكام الأمور والسيطرة عليها.
متى تتوقف التربية؟
إلى متى التربية؟!
يقول الأستاذ محمد قطب: “التربية لا تنقطع ولا تتوقف عند فترة معنية، ولا ينصرف الناس عنها إلى أمر آخر، لأن الأمر الذي استوجبها دائم لا ينقطع ولا يتوقف”.
فطالما أن الإنسان حي فهو بحاجة إلى تغذية مستمرة لمكوناته الأربع؛ فالتوجيه الإلهي بعبادة الله حتى الموت “وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ” [الحجر: 99]، يستلزم استمرار التعاهد والإنماء ودفع المضار عن المكونات الأربع حتى تتحقق العبودية الحقة لله عز وجل وتستمر حتى الممات.. تأمل قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا” [النساء: 136]، (أي حافظوا على إيمانكم، استمروا فيه، لا تغفلوا عنه.. لا تفتروا عن المحافظة عليه.. لا تفتروا عن معاهدته ورعايته وتغذيته وتقويته والحرص عليه) .
ومما يؤكد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “إن الإيمان يخلق في القلوب كما يخلق الثوب فجددوا إيمانكم” رواه الإمام أحمد وغيره، وخلق الثوب بمعني بَليَ .
يقول د. عبد الستار فتح الله في تعليقه على هذا الحديث:
- والحديث من جوامع الكلم، وهو على إيجازه يشتمل على حقيقة نفسية مؤكدة، وعلى تشبيه يجعلها كالمحسوس، وعلى أمر صريح بتجديد الإيمان.
- انظر إلى ثيابك -مثلا- كم يُبذل فيها غسلا، وإصلاحا، ومحافظة، ورتقا، ثم تجديدًا شاملاً إذا بليت، وهذا يتكرر مع الساعات والأيام، والشهور والأعوام، ولا يمل منه أحد.
- ولا شك أن (الإيمان) أولى وأجدى وأبقى، فينبغي أن تتعهده ليظل على إشراقه في القلوب.
(إن القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور… فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر، تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم، فلابد من تذكير هذا القلب.. ولابد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة) .
في ظلال القرآن 6/3489 .
عتاب للصفوة
لعل في عتاب الله -عز وجل- للصحابة ما يجعلنا نجتهد دوما في الإمداد التربوي المستمر لذواتنا.. هذا العتاب نجده في قوله تعالى: “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ” [الحديد: 16].
وقد روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه من الخشوع، فنزلت الآية.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، والآية مدنية بالإجماع، ولعل المقصود (هجرتنا) بدل (إسلامنا) كما يقول د. عبد الستار فتح الله، وذلك للجمع بينها وبين الرواية التالية:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن الكريم.
- فمهما تقدم عمر المرء، ومهما ارتقى في سلم المسئولية فلابد له من الاستمرار في التربية حتى يستمر قيامه بحقوق العبودية لله عز وجل، وأن تشمل هذه التربية المكونات الأربع (العقل والقلب والنفس والبدن)
التربية طريق إصلاح المجتمع
أن يقوم الدعاة والمربين بالتواجد بين الناس وممارسة معاني الإسلام معهم حتى يتم التغيير المنشود، كان هذا هو دأب الرسل -عليهم الصلاة والسلام- تأمل قوله تعالى في قصة هود عليه السلام (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ) [هود:58]..
وفي قصة شعيب عليه السلام: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) [الأعراف:88]..
وفي قصة موسى- عليه السلام-: (اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ) [غافر:25].
فالملاحظ في هذه الآيات قوله تعالى عن اتباع كل رسول (الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ ((وهي مهمة زائدة على “آمنوا به”، فلفظ (مع) يعطى دلالة على المعية والصحبة والمعايشة كمرحلة ضرورية بعد الإيمان (به)، وهذا يحمل في طياته أعظم الدلالات على أن كل رسول كان يقوم على تربية من يؤمن بالدعوة، ولا يكتفي بإبلاغهم فقط.
يقول الشيخ عبد الستار فتح الله: أيضًا:
- “ يورد القرآن العظيم لفظ (مع) بياناً لعلاقة المؤمنين برسلهم في مختلف العصور”.. بين المؤمنين ورسلهم لم تكن مجرد رابطة الإيمان بدين واحد فقط، وإنما هي تَجَمعٌ مترابط الأصول والفروع، والرأس والأعضاء، يشد بعضه إلى بعض برباط الإيمان أولاً، ثم المعية والصحبة المستقرة على وجه الانقياد والتبعية للدعوة ثانياً، مع ما يحمله ذلك من توحيد في الوجهة والسلوك، والمواقف، والعمل لنصرة دين الله..
- والاستمرار على ذلك حتى يأتي وعد الله الحق، أو يموت الرسول والمؤمنون وهم على محجة الطريق، ونور اليقين”.
- لا بديل عن المعية والصحبة والتربية -إن أردنا تغييراً حقيقياً- ومِن ثَم فإن على جميع الدعاة والعاملين للإسلام أن يكون ذلك هو هدفهم الأساسي وهم يتعاملون مع الناس.
- لابد وأن يكون عمل كل من يريد خدمة الإسلام من خلال التواجد بين الناس.. يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، وليس ذلك فحسب، بل عليه أن يكون هدفه من تواجده بينهم هو التربية وإحداث أثر إيجابي دائم في ذواتهم.
- إن المطلوب من خلال التواجد بين الناس ليس فقط مساعدة الفقراء أو البحث عن عمل للعاطلين، أو مواساة المبتلين، أو عقد الندوات، أو…، فكل هذا مع أهميته إلا أنه لابد وأن يوضع في سياق المنظومة التربوية التي تهدف إلى تحقيق العبودية لله، ومن ثَمَّ التغيير الشامل والدائم في شخصية المسلم وألا يتم التعامل معها على أنها جُزُرٌ منعزلة.
من هنا نقول بيقين:
- إن معركة الإصلاح والتغيير الحقيقي للأمة روحها التربية، ولابد أن يتم تطويع جميع الوسائل لخدمة هذا الأمر، فإن تركنا هذه المعركة فسنظل في أماكننا نراوح بين أقدامنا، ونشتكي من كثرة المحن والابتلاءات التي تمر بالأمة، وسيعلو صراخنا ونحيبنا، وترتفع أيادينا بالدعاء والتضرع إلى الله كلما أصاب المسلمين جرح جديد، وسيعلو صوت الدعاة في الفضائيات وعلى المنابر بأهمية العودة إلى الله، وتغيير ما بالنفس، ثم تهدأ العاصفة ويستقر الجرح في جسد الأمة ويتعود على وجوده الجميع، ثم يتكرر الأمر بعد ذلك مع جرح جديد وهكذا.
فإن قلت: ولكن هل من الضروري تربية الأمة جميعاً؟
- ليس المطلوب أن يكون جميع الأفراد على مستوى عال ورفيع من الصلاح، فسيظل هناك السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه، ولكن يبقى من الضروري توافر الحد الأدنى للصلاح في الأمة.
- فالمطلوب هو إصلاح المجتمع بأن تشيع فيه روح الإسلام ومعانيه، وأن يغلب عليه أنوار الإيمان ومظاهر العفة والتراحم، والتعاون على البر والتقوى، ونكران الذات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، واستشعار المسئولية تجاه الأمة والبشرية، وفي المقابل تختفي منه مظاهر السلبية والأنانية والإعجاب بالنفس، والتفسخ الأخلاقي والإباحية..، وهذا لن يتم إلا بجهد تربوي يبذله الدعاة والعاملون للإسلام مع الناس.. كلٌ يعمل في محيطه.
- وإننا عندما ننظر في أعمال المصلحين الناجحة على مر تاريخ الأمة نجد أنها كانت تمر من طريق التربية التي تهدف إلى تكوين أمة جديدة متحررة من أسر قيود العبودية لغير الله ..
- ومن هذه النجاحات ظهور جيل صلاح الدين، والذي من خلاله تم تحرير بيت المقدس، وكسر شوكة الصليبيين – بإذن الله -..
- سبق ظهور هذا الجيل الميمون عمل تربوي ضخم قام به نور الدين زنكي ومن قبله من العلماء المصلحين كأبي حامد الغزالي وعبد القادر الجيلاني، وكذلك دولة المرابطين التي حكمت المغرب العربي عشرات السنين، وكان أساس قيامها جيل المرابطين الذي تم إعداده وتربيته على الإسلام .
- وفي التاريخ القريب، وبعد إسقاط الخلافة العثمانية وتفكيك الأمة تنادى المصلحون في كل مكان عن سبيل إعادتها وقيامها مرة ثانية، وظهرت التوصيات التي تشخص الداء وتصف الدواء، لكنها كانت توصيات نظرية لا يمكن تنفيذها لأن الأمة كانت – ولا زالت – مريضة..
- وفي وسط هذه الأجواء ظهر الشاب حسن البنا ليقول كلمته بأنه لا سبيل لعودة الخلافة مرة ثانية وقيادة العالم إلا من خلال بناء الأمة من جديد عن طريق التربية والتكوين، حتى تتحول المعاني النظرية إلى واقع عملي .
- يقول رحمه الله حاكيًا تطور تلك الفكرة في نفسه وذلك من خلال تقييمه لعمله في نشر الدعوة الإسلامية وتأكده بأن ذلك وحده لا يكفي لإحداث التغيير، بل لابد من سلوك طريق التربية والتكوين :
- وقَفْتُ نفسي منذ نشأت على غاية واحدة، هي إرشاد الناس إلى الإسلام حقيقة وعملاً ..
- .. ظلت هذه الخواطر حديثًا نفسانيًّا، ومناجاة روحية، أتحدث بها في نفسي لنفسي، وقد أُفْضِي بها إلى كثير ممن حولي، وقد تظهر في شكل دعوة فردية، أو خطابة وعظية، أو درس في المساجد إذا سنحت فرصة التدريس، أو حثّ لبعض الأصدقاء من العلماء على بذل الهمة ومضاعفة المجهود في إنقاذ الناس وإرشادهم إلى ما في الإسلام من خير.
- ويستطرد قائلاً: ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي حوادث عدة ألهبت نفسي، وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس.
- وبدأ في طريقه لترجمة هذه النداءات إلى واقع عملي، فكان تأسيسه لدعوة الإخوان المسلمين لتقوم بهذا الدور..
- فكانت تربية الإنسان هي المهمة الأولى لمدرسة الإمام حسن البنا ولدعوة الإخوان؛ لأنها أساس التغيير ومحور الصلاح والإصلاح، ولا أمل في استئناف حياة إسلامية أو قيام دولة إسلامية أو تطبيق قوانين إسلامية بغيرها.
ومن هنا حرصت الجماعة على توفير عوامل النجاح لصيانه هذه المهمة عديدة التي من أهمها:
- - الإيمان العميق بأن التربية هي الوسيلة الفذة لتغيير المجتمع، وبناء الرجال، وتحقيق الآمال، وكان الإمام يعلم أن طريق التربية بعيد الشقة، طويل المراحل، وكثير المشاق، ولا يصبر على طوله ومتاعبه إلا القليل من الناس من أولى العزم، ولكنه كان يعلم علم اليقين أنه وحده الطريق الموصل، فلا بديل ولا غنى عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم سلك هذا الطريق فكون الجيل الرباني النموذجي الذي لم تر عين الدنيا مثله.
- - المنهاج التربوي المحدد الأهداف الذي تسير عليه الجماعة، فهو واضح الخطوات، ومعلوم المصادر، ومتكامل الجوانب، ومتنوع الأساليب، مستمد من الإسلام دون سواه،
- - الجو الجماعي الذي تهيئه الجماعة، والذي من شأنه أن يعين الأخ المسلم على أن يحيى حياة إسلامية عن طريق الإيحاء والقدوة والمشاركة الوجدانية والعملية، والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه ضعيف بمفرده قوي بجماعته، فالجماعة قوة للخير والطاعة وعصمة من الشر والمعصية.
- - دور القائد والمربي والذي بفطرته وبثقافته وبخبرته يؤثر في قلوب من اتصل به؛ حيث إن صاحب القلب الحي يؤثر في مستمعيه ومريديه أما صاحب القلب الميت لا يستطيع أن يحيي قلب غيره، ففاقد الشيء لا يعطيه.
- - ملمح آخر في تلك المدرسة وهي الوسائل المرنة المتنوعة التي تنتهجها الجماعة بعضها فردي وبعضها جماعي، بعضها نظري وآخر عملي، بعضها عقلي وبعضها عاطفي، من دروس إلى خطب ومحاضرات وندوات وأحاديث فردية وشعارات تحفظ وهتافات تدوي، أناشيد تؤثر بكلماتها ولحنها ونغمها، ولقاءات دورية لمجموعات مختارة في البيوت على القراءة والثقافة والعبادة والأخوة سميت كل مجموعة أسرة إيحاءً بمعنى الألفة والمودة بين أبناء العائلة الواحدة، إلى لقاءات أخرى في شعبة الجماعة تتجدد فيها العقول بالثقافة، والقلوب بالعبادة، والأجسام بالرياضة، وسميت هذه الكتيبة إيحاء بمعنى الجهاد إلى غير ذلك من الوسائل والطرق التي تهدف إلى بناء الإنسان المسلم المتكامل.
المنهج التربوي العملي عند الإخوان
ويمكن تلخيصه فيما يلي:
1- نظام الكتائب
بدأه الأستاذ حسن البنا في وقت مبكر من نشأة الجماعة وهو نظام مبتكر يرجح بعض قدامى الإخوان أنه اقتبسه من اجتماعات المؤمنين – في أول العهد بالدعوة ونزول الوحي – في دار الأرقم بن أبي الأرقم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدارسون الإسلام –
فقد كان الإخوان آنذاك قلة وكان يجتمع بهم المرشد ويحدثهم في شأن الدعوة، ويأخذهم بأسلوب التربية الروحية، في جو من الصفاء الروحي، يصلون خلفه المغرب والعشاء، ويتناولون طعام العشاء معاً خفيفاً بسيطاً، ويتذاكرون معاً ويسمرون قليلاً، وبعد صلاة العشاء بقليل ينامون على الأرض في حجرة واسعة ومعهم المرشد، ثم يستيقظون قبل الفجر بساعتين، فيتوضأون، ويتهجدون بعض ركعات في صمت فرادى، ويجلسون بعد ذلك منصتين إلى تلاوة أحد الإخوة نحو جزء من القرآن الكريم، يستمعون بعده إلى درس من الأستاذ المرشد في التكوين النفسي والروحي والعلمي للداعية مع عرض لتاريخ الدعوات والدعاة، وبيان مواطن الضعف والقوة في كل منها وما يقابل ذلك في دعوتهم، وكيف يتجنب الداعية مواطن الضعف التي عصفت بسابقيه، ثم تأتي فترة قبيل الفجر للاستغفار، حتى يؤذن الفجر فتصليه الكتيبة خلف المرشد.
ويوزع بعدها على أعضائها الورد القرآني في ورقة يجمع فيها الأستاذ المرشد الآيات القرآنية ذات الهدف الواحد يقوم هو بتفسيرها تمهيداً لحفظها وأوراد أخرى قرآنية، فإذا طلعت الشمس قرأ الجميع معاً في صوت خافت (الوظيفة) وهي أدعية من القرآن الكريم ومن السنة النبوية كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسى وكان الإخوان يحفظونها ويحافظون عليها في حياتهم الخاصة وبعد ذلك يتناولون معاً إفطاراً بسيطاً، ينصرفون بعده إلى أعمالهم.
وكان يوزع على أفراد الكتيبة رسالة تسمى (المنهج العلمي) وهي تضم عناوين مجموعة مختارة من الكتب من كل فن من فنون العلوم الإسلامية والتاريخية والتربوية، ويطلب من عضو الكتيبة أن يقرأ ما يستطيع من هذه الكتب لتزوده بذخيرة من المعلومات تنير له الطريق في دعوته وتجعله أهلاً لنشرها.
وكانت تقضى ليالي الكتائب بدار المركز العام أو بخارجه، وكلما سمح المكان بممارسة أنواع من الرياضة قاموا بها معهم المرشد وكان منها ركوب الخيل.
إن عمق أثر هذا النظام في تربية النفوس وإعدادها لتحمل تبعات دعوة الله ورسوله في أخذ النفس بها، ودعوة الآخرين للعمل في سبيلها، ربما صعب على من لم يعشه تقدير روعة هذا الأثر ونجاحه في تكوين نماذج من المجاهدين في سبيل الله عرفتهم مصر والعالم العربي والإسلامي، وفي تخريج علماء ودعاة انبثوا في مشارق الأرض ومغاربها، يحملون مشاعل الهداية ويؤدون حق الإسلام.
2- نظام الجوالة
أراد به المرشد إبراز حقيقة الدعوة الإسلامية عندما يتمثل الداعون إليها والعاملون لتحقيق أهدافها معاني القوة والنظام والأخلاق الرياضية وإعدادهم للجندية الصحيحة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم، فكوّن الإخوان فرقة جوالة منتسبة إلى جمعية الكشافة الأهلية، كانت لهم أناشيدهم الحماسية وتدريباتهم العملية، وكان في الفرقة الواحدة الطالب بجانب العامل، والفلاح بجانب المدرس، والتاجر بجانب إمام المسجد، والصانع بجانب المهندس، والمرؤوس بجانبه الرئيس، والشاب بجانبه الشيخ، كلهم قد انصهر في بوتقة الدعوة ووحدت بينهم الأخوة الإسلامية.
ويشهد للجوالة الأصدقاء والخصوم بأن فرق الجوالة أدت خدمات وقامت بأعمال في مجالات عدة في الريف والمدينة ابتداء من محو الأمية ومقاومة وباء الكوليرا وخدمة البيئة وقد زاد الاهتمام بها في أعقاب المؤتمر الثالث للجماعة في عام 1935م وبلغ عدد أعضائها نحو أربعين ألفاً.
والحق بنظام الجوالة (نظام المعسكرات) فكان يقيمها الإخوان من وقت لآخر في ضواحي القاهرة وكانت معسكراتهم تدريباً على الصبر والاحتمال وتربية للنفس على تحمل المشاق وكان لكل معسكر برنامج يستوعبه أفراد كل دفعة يتضمن أنواعاً من الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية والتربية الروحية والدروس الثقافية ويعقد في نهاية المدة امتحان للدفعة قبل تسريحها.
3- نظام الأسر
وأركان هذا النظام ثلاثة:
التعارف والتفاهم والتكافل، وأهم ما يشغل الأسرة واجتماعاتها:
- حل مشاكل أفرادها، ومذاكرة حول شؤون الإسلام ومدارسة نافعة حول قضايا المسلمين، وتحقيق معنى الأخوة، ويقوم الارتباط بين أفرادها على أساس الأخوة والإيثار والتعاون، وتتكون الأسرة من عدد لا يتجاوز سبعة أفراد، ولكل أسرة نقيب ويجمعها نظام يربط بينها، وهو نظام كان معمولاً به في كل شعب الجماعة التي بلغت نحو ألفي شعبة في أنحاء القطر في أواخر الأربعينيات.
- وكان للأسرة برامجها المتدرجة في صعوبتها وشمولها، وأنشطتها المتنوعة، من دراسة الفكرة، ونشرها، وأخذ بنظم التربية البدنية والعقلية والروحية، مع متابعة دراسة الأحداث، ولها اجتماعاتها الأسبوعية والشهرية، وقد يتجمع أفرادها في صلاة الجمعة، أو في رحلة خلوية، ويتعاون أفراد كل أسرة فيما بينهم على أساس نظام التكافل الإسلامي، إذ تحتفظ الأسرة بصندوق تعاوني، وترسل نسبة من إيرادها الذي تجمعه من أعضائها إلى الشعبة لتغطية نفقاتها والإسهام في مشروعاتها الاجتماعية والاقتصادية والصحية.
- فكانت الأسر محاضن لتربية الناشئة وحسن إعدادهم إسلامياً، ومدارس يتعلمون فيها ويتربون تربية إسلامية حقة، كما كانت سياجاً يحفظ عليهم إيمانهم ويجنبهم أقران السوء ومفاسد المجتمع، وكانت تعني بدراسة السيرة النبوية، وإحسان التلاوة في القرآن الكريم وحفظه وتدبر معانيه.
4- النوادي الرياضية
واهتم الإخوان في الريف والحضر بصفة عامة، وفي العواصم والمدن، بإقامة نواد رياضية يختلف إليها الشباب، ويمارس مختلف ألوان الرياضة وألعاب القوى، ويتردد على المكتبات الملحقة بها، ويتزود من محتوياتها، ويتعود القراءة، كما يؤدي الصلاة في أوقاتها في المساجد التي تضمها أو تكون بجوارها.
وكان الشباب يجد فيها ما يشبع هواياته الرياضية، وما يريده من علم وثقافة، وما يوقظ معاني الإيمان في قلبه ويقوي العقيدة عنده وهو يسمع المؤذن فيخف إلى صلاة الجماعة في وقتها، وكان لكل ناد من يشرف عليه من كل جوانب نشاطاته ويحافظ على نظامه وتحقيق رسالته.
من آثار التربية الإخوانية
- - يحدثنا أحد أفراد أسرة إخوانية فيقول: لقد أنشأت هذه الأسرة فيما بيننا من الحب والعاطفة ما زلت أحسُّه حتى الآن، وبعد أن انقضى على ذلك قرابة خمسة وثلاثين عامًا، ولو أقسم علي أحدهم بهذا الإخاء لأبررته.
النقط فوق الحروف- أحمد عادل كمال- ص 73 .
ويتلوه أحد أفراد كتيبة إخوانية فيقول: كنت أشعر مع نهاية كل كتيبة أنني ولدت من جديد، وهذا الشعور كان يشاركني فيه جميع زملائي، والذين عاشوا هذه الكتائب ما أظنهم ينسون أنهم قضوا أجمل أيام عمرهم..
كانت كتيبتنا تضم ثلاثين شابًّا من خيرة شباب الإخوان، ولو تتبعت تاريخ هؤلاء الرجال الآن وأين هم من المجتمع لاستوقفك الأمر كثيرًا.
25 عامًا في جماعة- حسن دوح، ص- 31.
26 - في المؤتمر الختامي لطلاب الإخوان المسلمين بالمركز العام وقف الأستاذ سيد قطب بعدما رأى هذه الجمـوع الحاشـدة من الطلاب وقال: ما أثـر التربيــة الإسلامية في تكوين الشباب؟
هو أنتم أثرها، هو أن تُحيل ذلك الحطام الآدمي إلى شباب مثلكم، شباب متماسك قوي خَشِن مكافح مؤمن، باع نفسه لله، فأنتم المدلول الحي للتربية الإسلامية، أنتم كلمة الله لأن المسلم الحي هو كلمة الله في الأرض، لنرجع عشرين عامًا إلى الوراء لنرى كيف كان الشباب مائعًا مستهترًا، لقد شهدت شبابًّا يُحمِّر خديه وشفتيه سنة 1920م، فمن هذا الحطام الآدمي كوَّن الإسلام أبطالاً هم أنتم، لقد استطاعت التربية الإسلامية أن تخلق جيلاً لا يستحي من الإسلام كما كان يستحي الجيل السابق.
- - بعد ربع قرن يأتي د. أحمد شلبي صاحب موسوعة التاريخ الإسلامي فيُدلي بشهادة مؤرخ متخصص وفي نفس الوقت مراقب للأحداث ومعايش للمجتمع فيقول: (إن هذه الجماعة لعبت دورًا إسلاميًّا رائعًا في حياة الصبيان والشباب والرجال، وغرست أخلاق الإسلام في الملايين، وجعلت الانتساب للإسلام مفخرةً يعتز بها الكثيرون، ودفعت إلى المكاتب والمصانع والوظائف جماعاتٍ تعرف اللهَ وتخافه، وبالتالي تنتج بجد، وتعمل دون رقيب من الناس ولا تمتد لها الشبهات ولا يمسها الانحراف، وكانت كلمة (من الإخوان المسلمين) طابعًا للتنزه عن الصغائر، والبُعد عن الرشوة وعن الإهمال، والحرص على أداء الواجب، وحيثما رأيت الآن رجلاً يبرز به هذا الطابع فاعرف أنه غالبًا كان منتسبًا إلى جماعة الإخوان المسلمين).
- - في بحث بعنوان (حركة الشبيبة الإسلامية والصناعة الأدبية الحالية في مصر) أشارت الدكتورة كاري ردزنيسكي الباحثة في جامعة هارفارد الأمريكية إلى أن الإمام البنا استطاع أن ينتشل الآلاف من شباب مصر من المقاهي ومواخير المخدرات والمسكرات؛ ليصنع منهم دعاةً للإسلام، ويحولهم من حالة الضياع إلى قوة شبابية تخوض غمار السياسة مزاحمةً أقوى الأحزاب العريقة في مصر.
- - في بحث بعنوان (الإخوان المسلمونفي التراث الشعبي المصري) يقول الدكتور ديفيد كومونز الأستاذ في جامعة ويكنسون الأمريكية: (إن الإمام البنا أعطى للشباب المصري الذي كان غارقًا في الإدمان على المخدرات والخـمور معنى جديدًا للحياة من خلال العلم الذي كانوا ينهلونه من خلال اجتماعات الجماعة ومن خلال قراءتهم لرسائل الإمام البنا، كما أنه استطاع أن يُعيد اندماج هذا الشباب الخامل الكسول في المجتمع المصري ليكون شعلةَ نشاط في العمل الإسلامي).
- - لقد سمت هذه التربية بشباب الإخوان، فكانوا نماذج حية لهذا الدين الذي ضيعه أهله، وضربوا للناس الأمثال، ليبرهنوا لهم أن هذا الدين قادر على أن يحوّل الفوضى نظاماً ، وأن ينبت الأخلاق بين ركام الفساد، وأن يصيّر الضالين الفاسدين أتقياء صالحين.
ولقد ذكر الإمام البنا أمثلة من تلكم النماذج، إنها قصة شاب امتحن في عفته فرفض أن يلوثها، إنه الأخ عبد العزيز علام الذي يعمل ترزياً (خياطاً) في المعسكر الإنكليزي، دعته إحدى زوجات كبار الضباط لبعض الأعمال الخارجية بمهنته، لتنفرد به في المنزل، وتغريه بكل أنواع المغريات، فيعظها وينصح لها، ثم يخوفها ويزجرها، فهددته أنها ستخبر زوجها باعتدائه عليها، فلم يلن، ثم هددته بوضع المسدس في صدره، فلم يتزحزح وقال: إني أخاف الله رب العالمين.
فأوهمته أنها قررت قتله، وستقول بأنه هاجمها في منزلها وهم بها، وصوبت مسدسها إلى صدره، فأغمض عينيه، وصاح (لا إله إلا الله محمد رسول الله)
وفوجئت المرأة بالصيحة، فسقط المسدس من يدها، وارتبكت ولم تر بداً من إخراجه من بيتها، وظل الشاب يعدو حتى دخل دار الإخوان المسلمين.
يقول الأستاذ المرشد ، من أجل ذلك بارك الله الدعوة التي استنارت بها مثل هذه القلوب.
مذكرات الدعوة والداعية- حسن البنا.
ورزقنا الله حسن التوكل عليه وجميل الإنابة إليه
وجزى الله عنا إمامنا وقادتنا والسابقين على طريق دعوة الحق والقوة والحرية خير الجزاء
وعجلت إليك رب لترضى