البنات ومحنة الاعتقال سوريا
بقلم : عبده مصطفى دسوقي*
محتويات
مقدمة
لقد حفظ الإسلام حق المرأة الشخصية والمدنية وغيرها من الحقوق، وأعلى شأنها، فالنساء في الإسلام شقائق الرجال، ولقد كرمها طفلة وزوجة وأمً، تُربي أجيال تعمل على إصلاح المجتمع.
وتعد التربية الإسلامية للأبناء من أحد الأمور الهامة للغاية والمؤثرة في حياة الأبناء، والتقصير والإهمال في تربيتهم منذ الصغر سيكون له توابعه السلبية العديدة عليهم خلال مشوار حياتهم.
والبنات نعمة من نعم الله - عز وجل ـ علينا، متى قمنا بما افترضه الله علينا من الإحسان إليهن، فقد لا يدرك بعض الآباء قدر المهمة العظيمة التي يقومون بها عند تربية بناتهم, وقدر الرسالة السامية التي يحفظون بها القيم والأخلاق في المجتمع المسلم إن أحسنوا تلك التربية فضلا عن الأجر والثواب المرجوين لأنها قربى إلى الله سبحانه، ففي الحديث الذي رواه مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين وضم أصابعه".
فلنصاحب بناتنا
كانت المرأة في الجاهلية وفي الأمم الأخرى تعيش حياة الذل والاستعباد وكأنها بضاعة تباع وتشترى، حتى جاء الإسلام فأعطى للمرأة حقوقها.
والبنات مخلوقات رقيقة ناعمة ضعيفة لا يصلح معها ما قد يصلح من الشدة والغلظة التي ربما يتعامل بها بعض الآباء مع الذكور من أبنائهم ولذلك تحتاج تربيتهن إلى وسائل أخرى تتناسب مع رقتهن وتكوينهن الفطري الذي خلقهن الله به.
فقد يظن بعض الآباء أن دورهم التربوي للبنات ينحصر في توفير الملبس والمأكل والمال وفي وضع المحاذير ومعاقبة البنت إن خالفت أو وقعت في محظور ويلقي بتبعة التربية على عاتق الأم وحدها ويظن انه قد أدى كل ما عليه.
فيجب من أجل إعداد بناتنا – بل وشبابنا- لمواكبة الزمن ومجريات الأمور أن نعزز الثقة بالنفس لأنها من أهم نقاط تنمية الشخصية و تقويمها..وإعطائهن جزء من الحرية الشخصية لاختيار ما تحب في نطاق شريعتنا الغراء، وأن يكون لها فكرها الخاص واستقلاليتها في حدود المتعارف ودينها وتقاليد مجتمعها (1).
بنات من قاعات الزفاف لقاعات المحاكم
من سمات النساء عموما لاسيما البنات أنهن ضعيفات وعاطفيات يبحثن دائما عن الأمان، وأول ما تنشد البنت عنده الأمان هو الأب، وأول مكان تأوي إليه البنت عند شعورها بالخوف في أي مرحلة من مراحل حياتها هو بيت أبيها، ولهذا لابد للأب أن يوفر الأمان النفسي لابنته قبل الأمان المادي، كما يوفر الزوج لزوجته.
لكننا في هذا الزمان ابتليت البنات (في دول الربيع العربي عامة وسوريا خاصة) بخطف الآباء وتغيبهن خلف القضبان أو وسدوا في التراب دفينا، ففقدوا عنصر الأمان، وخرجن لدراستهن وهن يدركن أنهن ربما لا يرجعن مرة أخرى فعيون الغدر تتربص بهن، ورفعت الحجب عن تروعهن، بل تم خطفهن والزج بهن في غياهب السجون بلا تهمة ولا جريرة ارتكبتها إلا أنها حافظت على عفتها، وصانت مكانتها، وأحبت أن ترى وطنها حرا كريما، لكنها أصبحت بين قتيل وسجين ومطارد،كما فقدن العدل والعدالة وأصبحن يسألن أنفسن ماذا فعلن؟ وبأي ذنب قتلن؟ وبأي ذنب سجن؟ (2).
قسوة الاعتقال
عانت البنات في دول الربيع العربي عامة (وسوريا خاصة) من أوضاع شاذة لم تكن تحلم بها في لحظة من اللحظات، ولم تكن تتخيل مثل هذه الأمور تحدث، فكان كل ما تحلم به بعد عمرا مديدا هو الفستان الأبيض في حفل بهيج يضم الأهل والأصدقاء، لكنها فاجأة وبدون مقدمات وجدت نفسها في حطام وطن، تتصارع عليه القوى الخارجية والداخلية، ونظام لا يعبأ بهؤلاء البنات بقدر عمله على ترسيخ وثبات عرشه ونظامه بمعاونة حلفاءه الذين لم يتورع عن صب حمم النار فوق رؤوس البنات.
بدأ النظام السوري باعتقال النساء منذ الأيام الأولى للثورة (وإن كان ليس بالجديد فقصص المعتقلات في سجون آل الأسد كثيرة والتاريخ يزخر بقصص كثير من النساء اللاتي اعتقلن منذ تولى آل الأسد الحكم).
وتستمر صور المعتقلين الذين لقوا حتفهم تحت التعذيب بالتدفق يوما بعد يوم، لكن الحدث الأبرز في الأيام الأخيرة كان نشر صور لسيدات قضين تحت التعذيب في سجون الأسد وهو ما فتح الباب على مصراعيه للتساؤل، ماذا ارتكبت هذه المرأة ليحدث لها ما يحدث؟ ما الذي تشكله من خطر على نظام بكامل جيوشه ليرتكب في حقها كل ذلك؟.
تقول هنادي – والتي اعتقلت أواخر عام 2012م-:
- بعدما تحولتُ إلى المحاكمة في عدرا (قرب دمشق)، تم التحقيق معي أكثر من 19 مرة بتهم متنوعة، كان أبرزها تمويل الإرهاب، والتواصل مع قنوات مغرضة عميلة". وتضيف: "هنا بدأت أذوق أشد أنواع التعذيب من الضرب إلى الإهانة، إلى الصعق بالكهرباء، إلى التحرش اللفظي".
وتضيف:
- اعتقلت لمدة 49 يوماً في فرع المنطقة 227، وبعد التحقيق معي تم نقلي إلى الفرع 291، لأني كنت مطلوبة له أيضاً، لكن، لا أعرف لحسن أم لسوء حظي، لم يكن هناك منفردات، فتم اقتيادي إلى فرع الأمن العسكري 215 ذي الصيت الذائع في التعذيب والتهويل، ومن هنا بدأت الحكاية تتشعب أكثر".
وتتابع هنادي:
- "بعد التفتيش دخلت إلى غرفة مكتظة بالفتيات، بعضهن صغار، وبعضهن قد تجاوزن الستين، تعرّفت على الكثير من الفتيات، كنت غارقة بدموعي، لكنهن أحببن أن يخففن عني فاستقبلنني قائلات: فتشك عمو شرشبيل؟".
وتوضح هنادي أن الفتيات كن من كل عموم سوريا، وكان بينهن معتقلات مشهورات، مثل عالمة الفيزياء فاتن رجب، ودعاء محمد، ومعتقلة من الميدان اسمها "حفيظة" والكثيرات. وتتذكر هنادي أنه "بعد أيام قليلة دخلت علينا فتاة بهيئة مزرية، يظهر عليها آثار الضرب والتعذيب، ما إن رأينا ذلك حتى بادرنا لنرسم ضحكة على وجهها ويعود لها نفس السؤال الذي وجه إليّ: استقبلك شرشبيل؟".
وتتابع:
- "كانت هذه الفتاة رحاب العلاوي، طالبة هندسة مدنية، اعتقلت وجيء بها إلينا.. فتاة لها من اسمها نصيب كبير، عليها من رحابة الصدر ما يكفي لأن تحكي كل معتقلة منا ألمها لها، ولها من الأمل ما يحكي عن وطن، ذات خلق رفيع وحضور جذاب، تحب الخير والمساعدة، كانت تجلس مع فاتن رجب في زاوية في السجن وتخططان كيف ستبنيان البلد، هنا سنقيم المشروع الفلاني، وهناك سنعمل على تأسيس مدرسة، كانت أحلامهن أكبر من هذا السجن الضيق الذي وضع فيه الشعب والذي يدعى وطنا" (3).
هذه قصة واحدة من بناتنا الذين تئنون تحت سوط الجلادين بدون جريرة، حيث وقفوا أمام قضاة جهزوا أحكامهم المسبقة لا لشيء إلا أن هذا الشعب لم يضحي في سبيل بقاء النظام، وقد صمتت كل الأنظمة على ما يحدث في سوريا بل وكل أوطان الربيع العربي حيث تجرى أيضا اعتقال البنات. ووفقا لمعطيات حقوقية تركية فإن 13 ألفا و581 امرأة يقبعن في السجون السورية، وجرى تعذيبهن وتعريضهن لممارسات وانتهاكات توصف بـ"الوحشية".
وقالت المحامية التركية غولدان سونمز خلال مؤتمر صحفي أقيم لوداع "قافلة الضمير" بمدينة إسطنبول في شهر مارس 2018م إن ستة آلاف و736 امرأة من بينهن 417 طفلة "يعانين الوحشية وينتظرن الموت في الزنازين السورية"، وأن بعض النساء أقدمن على الانتحار نتيجة التعذيب والاغتصاب (4).
إن من بين المشاهد المأساوية المتكررة في حياة السوريين، تجد أما "تتوسل" عناصر الجيش النظامي كي يعتقلوها عوضا عن ابنتها، كما تجد رجلا مسنا مضرجا بدمائه، وتهمته الوحيدة أنه حاول تخليص ابنته من أيدي مجموعة من الشبحية سيأخذونها لفرع أمني (5).
حطام امرأة
لقد تركت تجربة الاعتقال أو محن الحروب والتهجير في سوريا، تأثيرا شديدا على بناتنا حتى أصبحن كحطام امرأة، لأن معاناة تجربة الاعتقال أو الحرب لا تتوقف بمجرد الإفراج عن المعتقل، بل تمتد لتطال حياتها ومستقبلها ما بعد فترة السجن.
لقد أبدعت الأفرع الأمنية طرقاً مبتكرة من التعذيب بحق المعتقلات سواء جسديا أو اجتماعيا أو نفسيا، وتتجسد هذه الأمور على مستويات عدة:
- المستوى الجسدي: الآثار الصحية الناجمة عن التعذيب والتي قد تصبح بمثابة أمراض مزمنة ملازمة للشخص المعني.
- المستوى الاجتماعي: مشكلات التوافق مع المحيط الاجتماعي، وعدم التوازن بسبب الانقطاع عن الاختلاط بأنماط ونماذج مغايرة.
- المستوى النفسي: الآثار الناجمة عن العنف النفسي، الذي يؤثر على الصحة النفسية، كفقدان التوازن النفسي وصعوبة تجاوز مرحلة السجن، ومن مظاهرها الاغتراب النفسي والاجتماعي، عدم قبول الآخر، العدوانية، الانطواء، الخ (6).
ولا تتوقف أسباب ذلك على التجربة القاسية التي يكون السجين قد مرّ بها، فالأكثر خطراً على شخصية السجين، هو مدى تقبّل المحيط الأسري والاجتماعي للتجربة التي عاشها، وبشكل خاص في مجتمعات كالمجتمع العربي، حيث غياب أو محدودية فاعليات المنظمات الأهلية والجمعيات المتخصصة المستقلة.
أن النساء اللواتي يختبرن بتجارب السجون (سواء جراء الحروب أو الاختلافات السياسية) يعانين بشكلٍ مضاعف لأسباب مختلفة، خاصة في ظل بقاء مفاهيم الشرف والعفة الخاصة بالأسرة مرتبطة بنساء تلك الأسر (7).
خطوات نحو الاحتواء
بلا شك فاعتقال البنات يختلف عن اعتقال الشباب أو الرجال لما يلحق بهن من أضرار نفسية وبدنية أقلهن تعرضهن للتعذيب وهو ما يترك في النفس شرخ عظيم لا يداوى مع مرور الأيام.
ولهذا لابد من وضع أطر وحلول لاحتواء البنات والنساء اللواتي تعرضن للاعتقال بكل أنواعه أو أزمات الحروب التي تعاني منها البلاد الإسلامية، ومن هذه الأمور التي قد تؤدي للعلاج:
- تقوية الوازع الديني لدى الإنسان بشكلٍ عام وتقوية الشعور بالانتماء والولاء للوطن.
- يتحمّل أهالي المعتقلين السابقين والناجين جزءاً مهمّاً من مهام متابعة إجراءات الصحّة النفسية والجسدية للمعتقلين وتحديداً الأطفال والنساء، فيجب على الأهل عدم إهمال هذا الجانب.
- مساعدتهن على أن يشعرن بالأمان والتحدث بحرية، فالمعتقلة تتعرض للاختفاء القسري ويمارس ضدها أبشع أنواع التعذيب والتهديدات المستمرة بالاغتصاب مما يجعلها تخرج حطام ولذا على الأهل والقريبين أن يدركوا ذلك ويوفروا جو الآمان النوعي، والقصص بسوريا والعراق وغيرها كثيرة (8) .
- حسن الاستماع إلى المصاب أثناء الحديث عن الصدمة.
لابد من الاستماع الطيب لها ولكل ما تحكي به للتخفيف عنها سواء كانت معتقلة أو ناجية من الحروب، لتفريغ الطاقة السلبية بداخلها وطرد الكبت النفسي من عدم الحديث.
- تغيير الأماكن إن أمكن مع تغيير الظروف المحيطة بها وعدم ارتياد الأماكن التي شهدت على عذابها سواء الشوارع أو أماكن الحجز وغيرها.
- العمل على دمج الشخص المصاب في أعمال وأنشطة جماعية تساعده في عملية التفريغ الانفعالي.
- محاولة إيجاد الشاب الصالح الذي يستطيع أن يخرجها من تجربتها المريرة ويقدر ما مرت به من ظروف، لكي تشعر بالأمان بعض الشيء في ظل زوج يحبها ويخاف عليها ويقدر ظروفها فلا يذكرها بهذه الأحداث كنوع من الضغط عليها.
الآلام شديدة وكبيرة وتحتاج لمجهود لمداواة هذه الجروح التي ستظل تطارد كل فتاة تذوقت سجون الأنظمة أو الجماعات الإرهابية في كل الأوطان الإسلامية.
- صحفي وباحث
المراجع
- حامد الرفاعي: الإسلام... وتكريم المرأة، مؤتمر العالم الإسلامي، 2008م.
- زهراء مجدي: بالاعتقال والسحل والاغتصاب.، ساسة بوست، 9 يناير 2015م، أورينت نت: سوريا رهن الاعتقال والتعذيب والموت منذ 40 عاماً، عدنان عطية، 4/ 3/ 2014م رابط http://cutt.us/f3tlP
- يمنى الدمشقي: معتقلة سابقة تروي قصص معتقلات أعدمن في سجون الأسد، العربي 21، الأحد، 22 مارس 2015م، http://cutt.us/hNeIT
- تقارير وحوارات: نساء سوريا بيوم المرأة.. تعذيب واغتصاب وتشريد، الجزيرة نت، http://cutt.us/6Kwhn
- تقارير وحوارات: ناشطون: حرائر سوريا هدف للاعتقال، الجزيرة نت، http://cutt.us/ZnU0d
- حسام السعد ..رزان زيتونة: تقرير دروب ما بعد المعتقل أوضاع المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي المفرج عنهم في سورية، آب/أغسطس 2006م.
- Waseem Wasel: الآثار النفسية الناتجة عن الحروب، 30 يونيو 2013م، رابط goo.gl/CtHqJ4
- سوريون من اجل الحقيقة والعدالة اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب: 23 يونيو 2017م.