الانقطاع الحضاري

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الانقطاع الحضاري


الأستاذ:أنور الجندي

مقدمة

تجرى محاولة خطيرة ترمي إلى ردة العالم الإسلامي إلى كيان وهمي قديم، وإعطائه صفة الاستمرار التاريخي تحت اسم: حضارة السبعة آلاف سنة الفرعونية والفينيقية والفارسية والهندية وتجرى محاولة لإحياء هذه الحضارات القديمة.

والحق أن هذه الدعوة تتجاوز حقيقة تاريخية أكدها المؤرخون المنصفون، وهي أن الإسلام بظهوره وانتشاره قد قطع العلاقة بين الأمة الإسلامية وبين هذا التاريخ الوثني القديم، وكل ما يتصل به من لغات وأديان وحضارات. ولقد قرر الباحثون الثقات بأن الإسلام كان عامل التصحيح الحضاري مع هذه الحضارات القديمة، وبين الأمة التي دخلت بعد ذلك في الإسلام.

استمرار الحنيفية

والواقع أن الاستمرارية الموهومة التي يحاولون جمع خيوطها ليست هي استمرارية الفرعونية أو الفينيقية أو غيرها وإنما هي استمرارية (الحنيفية الإبراهيمية) التي بدأت بها الدعوة إلى التوحيد، والتي كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ختاماً لها، وانقطاعية عما سواها، هذه الانقطاعية الواضحة في تاريخ البلاد العربية كلها منذ جاء الإسلام، وبعد ألف سنة من اليونانية والرومانية الوثنية.

لقد كان الإسلام هو الخط الفالص الحاسم في تاريخ الإنسانية، فقد قطع الامتداد الفكري والاجتماعي والثقافي بين ما قبل الإسلام وما بعده، قطعه عن العرب أولاً ثم في كل مكان ذهب إليه، وقد ذهب الإسلام إلى كل مكان وأثر في جميع النحل والأقطار.

قطع امتداد الوثنية في العالمن كله من ناحية العقائد والملل، وقطع امتداد العبودية في العالم كله في الحضارات والأمم.

فقضى على استرقاق العبيد في حضارات البراهمة والفرس والفراعنة والرومان. وقضى على قيصر وكسرى جميعاً.

ماذا تعني العودة

وبعد، فماذا تعني العودة إلى ما قبل الإسلام: هل هي ممكنة؟؟ وما هو مفهومها؟؟

إن الباحثين الذين حملوا لواء الدعوة إلى الفرعونية أو الفينيقية أو غيرهما، لم يجدوا أي خيوط يمكن أن تشكل تراثاً أو لغة أو ثقافة أو "فكروا" كما يقولون.

بل تبين لهم أن كل الحضارات البابلية والآشورية وغيرها هي حضارات عربية حنيفية الأصل، وقد كشفت بين الفراعنة والعرب، أو الفينيقيين والعرب.

وذلك في سبيل تمزيق المسلمين إلى أمم وعناصر، وكشفت الأبحاث الجادة عن زيف هذه الإدعاءات، وتعينن أن المصريين الأولين وفدوا من بلاد العرب وعبروا البحر الأحمى، ونزلوا عند حدود الحبشة ثم تدرجوا إلى أن هبطوا وادي النيل، وأسسوا دولتهم.

وقد أحصى المرحوم الأثري الكبير أحمد كمال باشا ما يزيد على خمسة آلاف كلمة متصلة الجذور بين العربية والفرعونية.

وما يقال عن الفراعنة يقال عن الآشوريين والبابليين والفينيقيين، فهم جميعاً موجات خرجت من الجزيرة العربية وإنماعت في هذه المنطقة الممتدة من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا، وإن هذه الموجات توالت في خلال فترات طويلة من القرون المتوالية قبل الإسلام، وكانت ممهدة للموجة الإسلامية الضخمة التي حملت لواء الإسلام والتي وجدت – عندما تمددت – جذوراً لها في هذه المنطقة.

الإسلام حول مجرى التاريخ

أما الانقطاع التاريخي بين ما قبل الإسلام وبين عصر الإسلام فإن أمره واضح ويعترف به حتى من هو أشد المؤرخين الأوربيين تعصباً فإن (هنري بيرين) مؤلف كتاب (محمد – صلى الله عليه وسلم - وشارلمان) يقرر: "أن الإسلام هو القوة الهائلة التي حولت مجرى التاريخ الأوربي، وأن العصر الوسيط والنهضة الحديثة، ثمرتان من ثمار الإسلام، وإن ما يقال من أن سقوط الامبراطورية الرومانية هو العامل المؤدي إلى هذا التحول في التاريخ هو قول خاطئ فإن هذه الشعوب كانت من هوان الشأن، وضيق الحياة، إلى درجة تجعلها تنظر إلى الرومان نظرة العبيد إلى السادة، فما كان يخطر لها – بل ما كانت ترغب أبداً – في أن تناوئ روما وتقضي عليها".

أما المسلمون فكانوا يعتقدون أنهم أرقى وأسمى من الرومان في جميع أساليب الحياة، ولاسيما من الناحية الدينية التي كانت مبعث قوتهم ومصدر تربيتهم، فلم يحجموا عن منازلة الرومان ليقضوا على سطوتهم وسيادتهم وقد ظلت الدولة الرومانية قائمة، وظلت حضارتها باقية، وكل ما حدث أن انتقل مركزها الرئيسي من روما إلى بيزنطة "القسطنطينية" وأصاب حياتها العقلية والمادية شيء من الركود والفساد.

ولكن لم تكد تهب (رياح الإسلام) وتسير ركائبه إلى أراضي اليونان، حتى تلاشى ما كان لهم من المعالم والآثار، وقامت دول جديدة وظهرت حضارة جديدة، حاصرت أوربا من الشرق والجنوب والغرب "بعد فتح الأندلس". فاضطرت ملوكها إلى أن يوجهوا أنظارهم إلى الجزء الشمالي من أوربا حيث قامت المعارك التي كتبت تاريخ أوربا في العصر الوسيط. وإبان العصر الحديث.

أما الجزء الجنوبي من أوربا فلم تقع فيه – في تلك العهود – معارك إلا معركة (بواتيه) التي انتصر فيها شارل مارتل على جيش الأندلس بالخيانة والغدر لا بالقوة والبأس.

فلولا ظهور الإسلام لظلت الامبراطورية الرومانية قائمة، وأن انتقل مركزها من الغرب إلى الشرق، ولظل البحر الأبيض المتوسط بحراً رومانياً – بل قد سمى فترة بحر الروم – ولما قامت الثورات القومية التي خلقت أوربا الحديثة ولا الثورات الفكرية التي تمخضت عنها الحضارة الراهنة.

وهكذا نجد أن الإسلام قد غير العالم كله.

صفحة جديدة

لقد فتح الإسلام – حين جاء – صفحة للبشرية، من حيث "عالمية" الرسالة وخلودها، ودعا الأمم القائمة إلى الدخول في دين الله: لأنه هو الدين الحق، بعد أن زيف رؤساء الأديان مفهوم التوحيد، ولقد أعلن الإسلام وحدة الدين، ووحدة البشرية، والتوحيد الخاص، فحطم الوثنية والأصنام، وعبادة غير الله، وقدم للبشرية منهج الإخاء الإنساني، فقضى على العبودية الفرعونية والقيصرية، ودعا المسلمين إلى النظر في الكون فأنشأ (المنهج العلمي التجريبي) الذي هو قاعدة الحضارة العالمية اليوم، ولقد استطاع الإسلام لأنه الفطرة والحق، وضياء النفس البشرية الأصيل، أن يزحف في خلال قرن ولا يزيد، حتى سيطر على ثلاث قارات آسيا وأفريقيا وأوربا: من الصين إلى حدود نهر اللوار على اللغات والأديان، ونقل العالم كله إلى نور التوحيد، ونفذ بأشعته إلى قلب أوربا، فحررها من الوثنية والرهبانية والمادية، وأدخلها إلى عصر النهضة. وبذلك كان الإسلام هو العامل الأكبر. الذي أدخل العالم كله إلى العصر الحديث.

وعبر الإسلام الشاطئ الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط فأدخله في السلم كافة، وقامت فيه كلمة التوحيد وامتدت نحو آسيا فأخرجت القبائل التركية فيما وراء النهر من الوثنية.

وواصلت زحفها إلى الصين، وفي الغرب اقتحم الإسلام الأندلس، ووصل إلى نهر اللوار ثم لم يلبث أن اقتحم من البلقان حتى وصل إلى أسوار فينا. بل تعداها إلى جبال الصرب والكروات.

ودخل الناس في دين الله أفواجاً

من هذا كله نجد أن الغسلام كان عامل انقطاع حضاري عميق المدى. بين حضارات الفراعنة والرومان والفرس والهنود.

فبعد ألف سنة عاشتها هذه المنطقة بين يدي اليونان والرومان. انداح فيها الإسلام، ولم تلبث بعد عقود قليلة من الزمان، أن تحولت إلى رسالة التوحيد فنسيت لغاتها وأديانها ونحلها القديمة وأقبلت على الإسلام إقبالاً تاماً، ومع أن الإسلام حين سيطر على هذه المناطق لم يفرض عليها دينه، وإنما أقام حكمه العادل، وأفسح أهل الكتاب الحرية الكاملة في حياتهم الدينية، وحمى معابدهم وفتح لهم آفاق العمل في مختلف المجالات في سماحة ورحمة، غير أن الطوائف العربية الداخلة في هذه البلاد سرعان ما انصهرت في البيئات التي عاشت فيها، ولم تستعمل عليها استعلاء سلطان أو استعمار، وإنما تآخت معها وأصهرت إليها، ومن ثم فقد دخل الناس في دين الله أفواجاً، عندما تبينوا أن ذلك الحكم السمح العادل الذي حررهم من مظالم الرومان، هو من عند الله، لذلك فقد دخلوا في الإسلام الذي كانت جذوره موجودة في أعماقهم وضمائرهم.

منذ رسالة الحنيفية الإبراهيمية. التي جددها محمد صلى الله عليه وسلم، واتصل بها بعد أن انحرفت.. في مرحلة ما بينهما (ثم اوحينا إليك أن ابتع ملة إبراهيم حنيفاً) النحل: 23.

ومن هنا فإن الانقطاع ليس إلا عن المرحلة القصيرة التي تعثر فيها طريق الحنيفية العنصرية، وكان هذا أمراً طبيعياً في التاريخ فمصر العربية قد انقطعت عن مصر الإبراهيمية، وكذلك فإن سوريا العربية قد انفصلت عن سوريا الفينيقية، والعراق العربي قد انفصل عن العراق الآشوري والبابلي، وبالإسلام عادت سيرتها الأولى إلى الربط بين الحنيفية الإبراهيمية والحنيفية المحمدية.

الجري ضد تيار التاريخ

وحين جرت المحاولات في العصر الحديث لإعادة البلاد العربية إلى تاريخها قبل الإسلام بإحياء الفرعونية والفينيقية والآشورية، فشلت هذه المحاولات فشلاً ذريعاً، لأنها كانت تجرى ضد تيار التاريخ.

ويصور هذا المعنى العلامة علال الفاسي حين يقول "إن العمليات التاريخية التي سبقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا تمهيداً لإبلاغ الإنسان رشده عن طريق إكمال الدين، بوجود محمد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بدعاً من الرسل، فقد سبقته نبوات ورسالات، كما سبقته دعوات ربانية تشمل كل بقاع العالم، ولكنها لم توفق إلى البقاء، وأصابها الانحراف الذي يستوجب أن تجدد وتصلح ثم انفتحت آفاق التقدم الإنساني ففكان لابد أن يبعث الله الرسول الخاتم. وكانت مهمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يضع الناس في جو الرشد المبني على العققل والروح، على القاب والجسم، ومن هنا فإن كل ما سبق من عمليات التاريخكان يهدف لغاية واحدة هي وجود الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم، وبذلك يصبح الماضي وكأنه ما قبل التاريخ، أما التاريخ الصحيح فيبدأ بالمجتمع الإسلامي، والبشرية كلها مخاطبة لتسير وفق ما ترشد إلى ناموس الكون وما بني عليه هذا المجتمع.

هذه هي قصة الاستمرارية والانقطاع في تاريخ العربية الإسلامية، انقطاعية ألف سنة عن اليونان والرومان والوثنية، والحقيقة أن الاستمرارية هي استمرارية دين إبراهيم أبي الأنبياء. وانقطاعية كل ما سواه من محاولات عنرصةي وقبلية وعرقية وقومية. حاولت أن تخرج بالرسالة الخالدة عن هدفها الأصيل وغايتها الكبرى.

ولذلك فليست هناك استمرارية فرعونية، أو بابلية، أو آشورية، أو فينيقية وإنما هناك استمرارية التوحيد الخالص وميراث إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وكلها على طريق الله الحق.

وذابت الأعراق

لقد ذابت كل القوى التي حاولت أن تسيطر على المنطقة الحنيفية الإبراهيمية، لقد ذهبت العنصرية وبقيت العقيدة الخالصة، وانصهرت القبلية والعرقية كلها في دعوة الله الخالصة.

وأن الوحدة التي التقى عليها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها. هي وحدة العقيدة والفكر والتوحيد الخالص ولغة القرآن.

ولقد انهزمت كل عوامل العنصرية. والعرقية أمام قوة العقيدة والفكر، التي غلبت على فكرة الدم والنسب.

وغلبت لغة القرآن على كل اللغات القديمة. حتى اضطر النصارى إلى ترجمة أناجيلهم إلى اللغة العربية بعد أن ماتت القبطية والسريانية والآرامية التي كان المسيح عليه السلام يتحدث بها إلى معاصريه.

إن الارتباط بين الحنيفية الإبراهيمية والرسالة المحمدية هو التصحيح السليم للاستمرارية.

بل هو التفسير الأصيل للترابط الأكيد الجامع بين عصور هذه المنطقة وأجزائها الجغرافية والتاريخية، وهو ما تعمد المحاولات التغريبية واليهودية إلى التأثير فيه، وذلك حين تشكك المصادر اليهودية: في مجيء إبراهيم إلى مكة وبنائه البيت الحرام مع إسماعيل وذلك بسوء نية.

وهم يهدفون إلى نفي الرابطة الجامعة بين إبراهيم وإسماعيل، وبين محمد عليهم الصلاة والسلام ورسالة الإسلام الجامعة الخاتمة.

التي هي رسالة الإسلام الممتدة منذ آدم عليه الصلاة والسلام ونوح.

لقد عمد الاستشراق إلى تزييف العلاقة بين الحنيفية الإبراهيمية وبين الغسلام، وإثارة الشكوك حول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، على النحو الذي قال به الدكتور طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي حين أنكر وجود إبراهيم وإسماعيل، بالرغم من ثبوت وجودهما في التوراة والقرآن وإن كانت الأحداث لم تلبث إن كشفت زيف ما دعا إليه طه حسين حرياً وراء الصهيونية في دعواها بعد ظهور الحفريات التي كشفت عن كثير من آثار إبراهيم وإسماعيل وأبناء إسماعيل في شمال شبه الجزيرة العربية وحول الكعبة.

ومن الأسباب التي تدعو إلى إنكار الحنيفية الإبراهيمية، أنها يدخلها الكردي والرشكسي والبربر والمسيحيون، وهم يهدفون إلى إعلاء العنصريات للقضاء على هذه الوحدة التي هي "عربية اللسان" ولقد أكد هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه في قوله:

"ليست العربية بأجدهم من أب ولا أم وإنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي إلا أن الالعربية اللسان إلا أن العربية اللسان" رواه الحافظ ابن عساكر بسنده من مالك.

دعوة البغضاء

إن الدعوة المسمومة إلى إعادة بعث الإقليميات والعنصريات القديمة، إنما تهدف إلى إذكاء البغضاء والأحقاد بإثارة الفرقة، بينما تقوم استمرارية الحنيفية السمحاء على وحدة الفكر والعقيدة، وهي الوحدة الحقيقية وليست دعوى اللغة والتاريخ والأرض التي يحمل أواءها العلمانيون الشعوبيون.

أنور الجندي