الانتفاضة الثالثة التي بها يبشرون..
بقلم:معتصم حمادة
محتويات
عوامل التعطيل

العوامل التي عطلت تحول الهبة الجماهيرية الفلسطينية إلى انتفاضة ثالثة هي نفسها العوامل التي حالت دون أن تتزود الهبة الشعبية العربية بالقدرة على التواصل والاستمرار والتصاعد والتحول إلى فعل له تداعياته الملموسة على القرار العربي الرسمي.
عندما شنت إسرائيل ضد قطاع غزة حربها الدموية في إطار عمليتها المعروفة بالشتاء الساخن، كان رد الفعل العربي متناقضاً.
الموقف العربي الرسمي اكتفى بالصمت المريب،منتظراً أن يتحقق للعدوان بعض من أهدافه بحيث تصب في إطار الصراعات الإقليمية لصالح محور على حساب محور آخر،في لعبة تعمل على تحويل الحالة الفلسطينية إلى مجرد ورقة إقليمية،تتنازع الأطراف على الإمساك بها،واستثمارها واستغلالها،ولو بعيداً عن مصالح الشعب الفلسطيني،وقضيته الوطنية.
أما الموقف الشعبي،فقد انفجر في خطوات تصعيدية،بدأت في القطاع،ثم امتدت إلى الضفة الفلسطينية، من بعدها إلى عمان،ومن ثم إلى باقي العواصم العربية،الممتدة «من المحيط إلى الخليج».
وقد أجمع المحللون على وصف التحرك الشعبي الفلسطيني آنذاك على أنه شكل هبة جماهيرية،في وجه العدوان،أرادت التأكيد على روح الصمود والثبات،رغم فداحة الخسائر التي قدمها أبناءالقطاع من شهداء وجرحى، أطفالاً،ونساء وعجائز.. ومقاتلين.
هبة لاتختلف عن سابقتها سوي أنه...
المحللون الذين تابعوا وقائع ما اصطلح على تسميته بالهبة الجماهيرية في القطاع والضفة،كادوا أن يجمعوا على أن معالم التظاهرات التي سارت في شوارع ومدن القطاع والضفة ومخيماتها،لم تكن تختلف في منحاها العام عن تلك التي فجرت الانتفاضتين الأولى (1987) والثانية (2000).
فالذين ساروا في التظاهرات تجاوزوا انقساماتهم الفصائلية،السياسية والتنظيمية،وتوحدوا في الإعلان عن الاستعداد للصمود مهما أوغل العدوان في جرائمه،ومهما غلت التضحيات.
بل لعل التظاهرات التي سارت رداً على عدوان «الشتاء الساخن» كانت في دلالتها التوحيدية أكثر بلاغة من تلك التي انفجرت في مطلع الانتفاضتين الأولى والثانية:خرجت التظاهرات الأخيرة والحالة الفلسطينية تعيش وضعاً انقسامياً مدمراً،ووضعاً احترابياً،توجهت خلاله السهام والرماح إلى الصدور الفلسطينية،بدلاً من أن تتوجه نحو العدو الإسرائيلي.
ودون مبالغة يمكن القول إن هذه التظاهرات، في توحدها،رغم الانقسام الحاصل،شكلت نقطة الضوء الأبرز،والتي اخترقت حجب الظلام التي تحاصر الحالة الفلسطينية منذ منتصف العام 2006،أي منذ أن لجأت حركتا فتح وحماس إلى جولات الاقتتال الدموي،لحسم خلافاتهما السياسية،والتي توجت في معارك حزيران (يونيو) 2007، لصالح حركة حماس.
ومن يقرأ جيداً الحالة الشعبية،في المناطق المحتلة وفي الشتات،سيخلص بالضرورة إلى أن كل الظروف كانت مهيأة لانفجار انتفاضة شعبية فلسطينية ثالثة،تعيد تصويب المسيرة نحو الاتجاه السليم،وتعيد وضع النقاط على الحروف،وتعيد رص الصفوف، وشحذ السلاح،وإعادة صياغة الشعارات،والمواقف،وإعلاء البرامج والمهام الوطنية،وإسقاط برامج ودعوات الانقسام والاقتتال واللجوء إلى العنف لحسم الخلافات والتباينات.
فالعدو الإسرائيلي لا ينفك يهدد بعمل عسكري ضخم يطال قطاع غزة،وتحت ظلال هذا التهديد المتواصل،وعلى وقع قرع طبول الحرب المجنونة،يخوض جولة هنا،وجولة هناك،وكأنه يمارس سياسة الاقتصاص من الشعب الفلسطيني،يغرق قطاع غزة بالدم،ويجتاح بيت لحم،ونابلس،ليغدر بشبان الانتفاضة الذين أوهموهم أن الاحتلال أسقط أسماءهم من لائحة المطاردين لديه.
ويتوغل في أنحاء مختلفة من الضفة،ينسف البيوت ويعتقل،ويغتال.ويزرع في الضفة حواجزه،ويمارس أبشع أنواع الإذلال للناس العاديين،غير آبه باحتجاجات السلطة،واحتجاجات لجان حقوق الإنسان واستغاثات وكالة الأونروا، والحركات الدولية المحبة للسلام.
حصار جائر
والعدو الإسرائيلي لا يتوقف عن فرض حصار جائر على قطاعغزة.لا يطال الغذاء فقط، بل يمتد ليطال الدواء والاستشفاء،والوقودوالمحروقات والإمداد بالطاقة الكهربائية،مما يحول القطاع،ليس فقط لسجن كبير،بل لغرفة تعذيب كبرى،يتعرض فيها كل فلسطيني مهما بلغ عمره،وأياً كان منصبه وموقعه، للتعذيب والإذلال.
وتستمر المفاوضات والمباحثات مع الجانب الإسرائيلي،أملاً بفكفكة الحصار ولو جزئياً،ويصبح إدخال شاحنة دقيق،أو شحنة دواءأو صهريج وقود،عملية لوجستية من الطراز الأول تحتاج إلى اتصالات على أعلى المستويات،تمتد من وزير الأمن المصري عمر سليمان،إلى وزير الحرب الإسرائيلي إيهود باراك،وقد تشمل كذلك رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس،ورئيس حكومته سلام فياض،لتمتد إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت،إلى رئيس إسرائيل شمعون بيريس.
وهكذا تتحول الحياة الفلسطينية في المناطق المحتلة إلى حالة من الاستجداء اليومي المذل،الذي لا يمكن لأي شعب،مهما تدنت لديه أحاسيس الغيرة الوطنية أن يقبل بها،فكيف بشعب فلسطين الذي تتربى أجياله الصاعدة على روح الثورة والصمود،وإرادة التغيير والتمسك بالحرية والكرامة.
إزاء هذا الوضع،تعيش الحالة العربية عجزاً عن المبادرة والفعل والتأثير،وتدلل المؤشرات أن هذه الحالة تمر بأكثر مراحلها بؤساً.فالانقسام العربي قائم بين محور يسمى معتدلاً، ومحور آخر في مواجهته.
والصراع بين المحورين يشتد في أشكاله الإعلامية الفجة.وتتحول بعض الملفات العربية الكبرى إلى مجرد ساحات لتصفية الحسابات ورد الضربات،وكيل الاتهامات.ولعل الموقف الرسمي العربي مما جرى في قطاع غزة من جرائم حرب على يد الاحتلال،كان خير دليل على ذلك.
الصمت المريب كان العنوان الأبرز للأيام الأولى من العدوان،وكأن الأطراف العربية ـ كما قلنا ـ كانت تنتظر أن ينجلي الضباب عن انكسار فلسطيني يتيح لها أن تحول هذا الانكسار إلى ورقة جديدة في حساباتها الإقليمية،وفي صراعاتها المحورية.
لم يعد الدم الفلسطيني المسفوك بنيران الدبابات وصواريخ الطائرات يحرك لدى بعض العواصم ساكناً إلا بقدر ما يمكن لها أن تجند هذا الدم في خدمة مصالحها الإقليمية على اتجاهاتها المختلفة.وبالتالي بات واضحاً لدى الحالة الشعبية الفلسطينية أن المراهنة على حالة عربية رسمية،تتحرك بالسرعة المطلوبة لتضع حداً للمجزرة الإسرائيلية،ما هي إلا وهم،وأن الحل يكون أولاً وقبل كل شيء في الاعتماد على الذات،قبل الاعتماد على «الآخرين».
خلافاً للحالة العربية الرسمية،وقفت الحالة العربية الشعبية موقفاً مشرفاً.فهي،وإن كانت مرهقة في معارك الدفاع عن حقها في الخبز،والوقود،والتعليم،ومياه الشفة (!) وحرية الرأي، وحرية الانتظام الحزبي،وجدت نفسها تعيش معارك الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.
وكثير من القوى السياسية العربية،ذات القدرة على الرؤية بعيدة المدى،ربطت،بشكل جدلي،بين «التخاذل» الرسمي العربي،وبين سياسات إغراق الشعوب العربية بهمومها الحياتية اليومية على حساب تفرغها لواجباتها القومية.
انفجرت التظاهرات في العواصم العربية،في مشهد أعاد إلى الذاكرة المشهد الشعبي العربي الناهض مع انفجار الانتفاضة الأولى، والمتفاعل إلى أبعد حد مع الانتفاضة الثانية.
ولقد كان مقدراً لهذه الهبة الشعبية العربية أن تتواصل، لتأخذ أشكالاً أخرى، فتدوم لفترة أطول، وتضغط على أنظمتها بطريقة أكثر تأثيراً،لكن العوامل التي عطلت تحول الهبة الجماهيرية الفلسطينية إلى انتفاضة ثالثة هي نفسها العوامل التي حالت دون أن تتزود الهبة الشعبية العربية بالقدرة على التواصل والاستمرار والتصاعد، والتحول إلى فعل له تداعياته الملموسة على الصعيد الرسمي.
عوامل الاجهاض كانت سببا في الانقسام
العوامل التي أجهضت الهبة الشعبية الفلسطينية وقطعت عليها الطريق لتتحول إلى انتفاضة ثالثة كانت الانقسام الكبير الحاصل في الحالة الفلسطينية.
ولا بد من الاعتراف أنه انقسام عميق وفاعل ومؤثربحيث عجزت الحالة الشعبية الفلسطينية عن تجاوزه، فوقعت في فخه،أسيرة لمفاعيله السلبية.
فالانتفاضة ليست مجرد قرار،بل هي عملية مراكمة لعوامل عدة تتفاعل فيما بينها،كما تتفاعل العناصر الكيميائية المختلفة للتحول إلى مادة متفجرة.متفجرة في وجه العدو،إن هو تصدى لها،ومتفجرة في يد صاحبها إن هو لم يجد التعامل معها بالشكل السليم.
وكثيرون ممن بشروا بالانتفاضة الثالثة،ـ للأسف ـ عملوا كي لا تأتي هذه الانتفاضة:
@ فمن يفرض الانقسام على الحالة الفلسطينية،ويحول الانقسام إلى أمر واقع،يتمسك به باعتباره مكسباً تاريخياً،يجند في اللعبة الإقليمية.. إن من يفعل هذا لا يريد انتفاضة ثالثة.
@ ومن يضع العصي في دواليب عربة استئناف الحوار،فيعقد شروطه،ويعاند متمسكا بها،رافضاً الاستجابة إلى المبادرات الصادقة،مبدياً ارتياحه إلى الانقسام لأنه أعفاه من بعض الاستحقاقات.. إن من يفعل هذا لا يريد انتفاضة ثالثة.
@ ومن يكم الأفواه، ويعتقل الناس على خلفية سياسية،ويصادر الصحف،ويعتقل الصحفيين،ويمنع التظاهرات والتجمعات،ويخنق الديمقراطية ويمنع عنها الهواء،ويحاول أن يفرض رأيه بقوة السلاح،وبقوة الاعتقال.. إن من يفعل هذا لا يريد انتفاضة ثالثة.
@ ومن يتلاعب بالمؤسسة،ويحولها إلى اقطاعية خاصة به،تقتصر الوظائف بها على المحازبين،والمحاسيب والمقربين والأقارب،ينسف قوانينها،ويعيد صياغتها لتخدم مصلحته الفئوية على حساب مصالح الناس.. إن من يفعل هذا لا يريد انتفاضة ثالثة.
إذن لا تبشروا بالانتفاضة الثالثة مادام الانقسام همكم اليومي وسلاحكم الدائم.الانتفاضة لن تأتي إلا تحت مظلة الوحدة الوطنية.. اللهم إذا كانت انتفاضة ضد الانقسام وضد الانقساميين هذه المرة.. أياً كانت انتماءاتهم السياسية والفصائلية.. عندها يكون للحالة الفلسطينية مشهد آخر.
المصدر
- مقال:الانتفاضة الثالثة التي بها يبشرون.. موقع : المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات