الاغتيال السياسي فى الإسلام
هادي العلوي
محتويات
- ١ فائدة لغوية
- ٢ الفصل الأول:الحكم الشرعي وتجارب العهد النبوي
- ٣ الفصل الثاني :في الخلافة الراشدية
- ٤ الفصل الثالث:في الخلافة الأموية
- ٥ الفصل الرابع:في العصر العباسي
فائدة لغوية
الاغتيال اشتقاق من الجذر الثلاثي غ- و- ل الذي يفيد الهلال، وصياغته على زنة افتعال تفيد الطلب، أى بما ينطوي على العمد والقصد. فالاغتيال هو إرادة الغول – الهلاك- للآخر، وبهذا المعنى يفيد القتل العمد. وإذا اعتبرنا اشتقاقه من غ- ي- ل . فهو مفسر فى قول الفيروز آبادي وابن منظور: " قتله غيلة ، خدعه فذهب به إلى موضع فقتله" . أصل ف- ي- ل . فى الحرج ذو الأشجار الملتفة الكثيفة. وعندئذ قد يصح لنا الاستنتاج على قول الفيروز آبادي وابن منظور أن قولهم اغتاله مأخوذ من قتله فى الغيل، أي غفلة فو موضع خفي.
مع ملاحظة أن عبارة غيلة أكثر ورودا فى النصوص القديمة من اغتاله.يرادف الاغتيال كلمة أخرى هي الفتك، التي تتضمن معنى مزدوجا : القتل عمدا وهو ما تؤديه الكلمة الانكليزية murder التي تترجم تسامحا إلى القتل بإطلاق. المعنى الثاني هو القتل على غرة كما نص عليه الزمخشري فى " الأساس " . وهو المقصود فى الحديث النبوي : " الإيمان قيد الفتك، الذي سيأتي الكلام عليه. وميز اللغويون الاغتيال عن الفتك، فالاغتيال إذا قتله من حيث لا يعلم، والفتك إذا قتله من حيث يراه وهو غافل) غير مستعد. وتدخل الحالتان في مفهوم الغدر .
لكن الفتك أعم فهم يشتمل على جملة أركان تكتنف الفعل : العمد، الاستغفال، الاندفاع غير المحسوب، الجرأة والإقدام ، ونجد هذه الأركان مجتمعة فى صفة الفاتك التي ترد فى معان تتراوح بين الإعجاب وعدم الارتياح. ولذلك لا نجدها تستعمل لوصف الشخصيات التاريخية المشتهرة بالشجاعة مثل على بن أبى طالب مع أنها تطلق مع الإشعار بالمهابة على الشجعان العاديين.
من هنا ينفرد الاغتيال بالدلالة على القتل العمد المشتمل على أحد ركنين:
- استغفال المقتول ، كأن يأتيه القاتل من ورائه، أو يكمن له .
- أو استدراجه للإيقاع به فى مكان معزول.
والاغتيال هو اللفظ الشائع اليوم، والذي يجب أن تقتصر عليه المعاجم الحديثة، دون قتل الغيلة لأنه مهجور فى العربية المعاصرة ولأن الأفضلية فى الاستعمال يجب أن تكون للاصطلاح المؤلف من كلمة واحدة.
الفصل الأول:الحكم الشرعي وتجارب العهد النبوي
أورد الفخر الرازي فى تفسير الآية 38 من سورة الحج من " تفسيره الكبير" (إن الله يدافع عن الذين آمنوا . إن الله لا يحب كل خوان كفور...). إن مسلمي مكة استأذنوا النبي على قتل المشركين الذين آذوه سرا. فنهاهم ونزلت الآية لتؤكد هذا النهي.
وفى هذا المعنى يرد حديث أبو داوود فى كتاب الجهاد من سننه ، نصه.. " الإيمان قيد الفتك. لا يفتك مؤمن" .. وقد تردد هذا الحديث فى أخبار قتل الحسين، إذ يروي أبو الفرج الأصفهاني فى " مقتل الطالبين" أن مسلم بن عقيل استشهد به حين دافع عن عدم تنفيذه لخطة رسمها له قائد شيعي بالكوفة لاغتيال عبيد الله ابن زياد ويمكن قبول صحة الحديث فى ضوء الآية الآنفة من سورة الحج، وهو يشكل بالتكامل مع الآية موقفا شرعيا غير محبذ للاغتيال مهما تكن دوافعه.
مهما تكن دوافعه. ويتجانس هذا الاتجاه مع قيم الفروسية الجاهلية التي تتمسك بالقتال وجها لوجه ولا تقر حتى ملاحقة الهارب. والفارس الجاهلي إذا صادف خصما له خاطبه بالعبارة الشائعة:" خذ حذرك إني قاتلك" قبل أن يهاجمه.
ولعل الموقف الإسلامي لا يتعدى هذا المنحي الجاهلي بقدر ما يكون قاعدة أخلاقية متعارف عليها. لكن هذا ليس هو السبب الأرأس فى النهي عن اغتيال المشركين بمكة، فهذا النهي يأتي في سياق إستراتيجية النبي محمد في الطور المكي. وكانت الدعوة الإسلامية حينذاك مقتصرة على التبشير وإمكاناتها لا تسمح باستعمال السلاح، كما أنها لم تكن قد امتلكت بعد مستقرا تتحرك منه لمزاولة هذا الشكل من الصراع.
وفى الظروف الصعبة التي كانت عليها الدعوة آنذاك، كان مقتل أي شخص من المشركين يكفي لإعطاء مبرر لشن حملة إبادة ناجحة ضد تلك الفئة القليلة من مسلمي مكة. وفيما يتعلق بسلوك مسلم بن عقيل فهو – إذا صحت الرواية- لا يعبر عن التزام جدي بالحديث بقدر ما كان تبريرا لتردد مسلم، المعروف أنه لم يكن قد المهمة التي كلفه ابن عمه حين أوفده إلى العراق.
وفى وسعنا الافتراض أن النهي عن الاغتيال كما يتحدد في الموقف الشرعي الإسلامي موجه لمحيط العلاقات الفردية، و" نافذ" ضمن الوضع الاعتيادي لمجتمع لم يتأزم فيه التناحر- حيث تأخذ القوانين أو الأعراف مكانها فى ضبط سلوك الأفراد، وتخضع حالات الصراع اليومي لاختصاص السلطة القضائية، وهو اختصاص لا يشمل أطراف الصراع السياسي والاجتماعي فى ظروف التحولات التاريخية القائمة على العمل المسلح.
ويستفاد من دراسة السيرة النبوية أن فضلا كثيرا في النجاحات التي أحرزها محمد يرجع إلى مرونته فى اختيار الوسائل وقدرته على التصرف خارج منظومة المحرمات التي تشكلت منها شريعته. ولا شك في أن منشئ تاريخ من طراز محمد لا يعجز عن التفريق بين إقدام فردي ينتهك مبادئ داخلية تقوم عليها البنية الأخلاقية لمجتمع ما، وبين تكتيك حركة ينفذ بالسلاح منطلقا من أرضية سيا- تاريخية أشمل وأبعد مدى. تضمنت مصادر السيرة والتاريخ ثماني وقائع اغتيال ناجحة ومحاولة واحدة فاشلة حدثت جميعها إلا واحدة فى المرحلة السابقة للحديبية.
وهذه المرحلة اتسمت بالنمو البطيء للقدرة السياسية والعسكرية للإسلام الناشئ، وكانت فيها المدينة معقله الأوحد حينذاك، عرضة باستمرار للاجتياح. وقد استعمل تكتيك الاغتيال السياسي في ذلك الوقت ليوفر أحيانا، تعويضا نوعيا عن الافتقار إلى دقة عسكرية ضاربة وليساعد أحيانا أخري على ردع العناصر المناوئة داخل يثرب في وقت كانت سلطة الإسلام لم تترسخ بعد حتى في معقله الوحيد هذا. سأتناول هذه الوقائع حسب تسلسلها التزميني جهد الإمكان.
وأجد لزاما علي الاعتراف. قبل الشروع، أني زاولت وأنا أقدم على هذه الدراسة قدرا من الرياضة الروحية أردت منها تطهير الذات، في آن واحد، من الرعب السلفي المقدس ومن مقابله الاستشراقي اللدود، اللذين تطوعا، كلا في مضاره الخاص به، لتغييب تاريخنا في مستبقاتهما المنمطة، وإني بالتالي ورغم حساسية الموضوع لا أجد نفسي مضطرا لمراعاة الأذواق- السائد منها والمستجد، لا سيما وقد اخترت التعامل مع مصادر تاريخا دون وسائط.
اغتيال زعماء يهود
كانت في يثرب كما هو معلوم تجمعات يهودية تعيش غالبا في حصون بعيدة عن مركز المدينة. وكانوا خليطا من مهاجرين وسكان أصليين (عرب) وقبائلهم الرئيسية هي بنو النضير وبنو القينقاع وبنو قريظة. إلى جانب يهود خيبر خارج يثرب على طريق الشام. وكان محمد قد سعى أول هجرته غلى التحالف معهم ضد مشركي على أساس العقائد المشتركة للديانتين .
لكنه أخفق، لأنهم توقعوا أن انتشار الإسلام سيضعف موقعهم فى جزيرة العرب. وقد لعبوا فى المدينة دور الرتل الخامس المؤيد لقريش ضد الإسلام، فكان لمحمد أن يسعى لإضعاف تأثيرهم عليه. وكانت وسيلته المبكرة إلى ذلك هي الاغتيال، الذي وجه للتخلص من عناصر مؤثرة بينهم.
وقد نفذت ضدهم خمس خطط اغتيال نستعرضها فيما يلي:
كعب بن الأشرف
زعيم يهودي بارز والده من قبيلة طيء وأمه من بني النضير وكان حليفا لبني قريظة أقوى عشائر يثرب اليهودية. نشط ضد محمد منذ أول الهجرة وكان من حلقات الاتصال الأساسية بين اليهود وقريش. وبعد معركة بدر ذهب إلى مكة ليحرض قريش على الثأر لقتلاها فى تلك المعركة.
وكان يقرض الشعر فنظم قصائد يعرض فيها بنساء الصحابة وأنشد فى مكة قصيدة فى رثاء قتلى بدر من أهل مكة. وتقول مصادر السيرة إن ذلك مما أغاظ النبي كثيرا. لكن خطره في الحقيقة لا يتمثل فى هذا الجانب، لا سيما فى مستوى شعر الفحول الذين يخشى من جاذبيتهم، وإنما يكمن فى موقعه القيادي بين يهود يثرب ونشاطه التآمري الواسع.
للخلاص من عناصر خطر كهذا تقرر اغتياله. وقد وردت تفاصيل العملية فى روايات مختلفة يغلب عليها الاضطراب والابتسار، وأقدم هنا خلاصة موحدة بالمحتويات الرئيسية المقبولة عندي لهذه الروايات.اختار النبي صحابيا يدعى محمد بن مسلمة عرف بخبرته في حبك المكايد- اعتمد عمر بن الخطاب فيما بعد للتجسس على الولاة- وأمره بالتشاور مع زعيم الأوس سعد بن معاذ .
وكان الأوس حلفاء بنى قريظة فى الجاهلية، فهم يعرفون بعضهم جيدا كما توطدت بينهم علاقات شخصية استمرت بعد الإسلام. وتقول المصادر إن محمد بن مسلمة اختار لتنفيذ المهمة نفرا من الأوس، وهو نفسه أوسي، بينهم رجل يكنى أو نائلة كان هو وابن مسلمة رضيعين لكعب بن الأشرف. وتمت الخطة على مرحلتين: ذهب أولا محمد بن مسلمة أو أبو نائلة- بحسب اختلاف الروايات- إلى كعب وقال له إن هذا الرجل. يعنى محمد ، قد طلب منا صدقة وإنه قد عنانا وإني قد آتيتك أستفتيك .
ورأى كعب فى هذا الكلام من رضيعه مصداقا لتحذيراته لهم من محمد فعقب عليه: وأيضا ، والله لتملنه. فقال صاحبه: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أى شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفا وسقا أو وسقين. فوافق كعب أن يسلفهم لقاء رهن. واتفقوا على موعد.ورجع ابن مسلمة- أو أبو نائلة- إلى جماعته فأخبرهم, وتوجهت المجموعة لموعدها ومعها النبي محمد يسايرها حتى البقيع – من ضواحي المدينة- حيث بقي فى انتظارهم.
ولما بلغوا قلعة كعب ناداه ابن مسلمة أو أبو نائلة فنزل إليه فعرفه على جماعته، وتمشوا خارج القلعة للتحدث فى الشأن الذي تواعدوا عليه. ولم يطل بهم المسير حين مد ابن مسلمة أو صاحبه يده إلى رأس كعب، ثم سحبها ليشمها وهو يقول مداعبا إياه: ما أطيب عطرك. وكان كعب حديث عهد بالزواج من امرأة عرفت بكثرة التعطر. وبعد قليل أعاد المذكور هذه الحركة معبرا مرة أخرى عن إعجابه بعبيره، ثم رجاه أن يسمح لأصحابه أن يشموه ليتمتعوا معه بهذه الرائحة النادرة ...
وكانت هذه إشارة متفق عليها فتقدم أفراد المجموعة من كعب بوضعية من يريد أن يشتم شعره المطيب وأهووا عليه بسيوفهم فقتلوه ثم قطعوا رأسه . وقد تمت هذه العملية بسرعة خاطفة لأنها نفذت فى أراضى اليهود الذين انتبهوا على صرخة كعب لحظة ضربه فأشعلوا نيرانهم فوق أسوار القلاع. وعاد المنفذون إلى البقيع ومعهم رأس كعب ووضعوه بين يدي النبي برهانا على نجاح المهمة.اغتيل كعب بن الأشرف فى الشهر الثالث من السنة الثانية للهجرة، بعيد معركة بدر..
وقد اشتملت عملية اغتياله على تكتيكات وأهداف نجملها فيما يلي:
- اختيار شخصين قريبين إلى المراد اغتياله لتسهيل استدراجه إلى الفخ.
- إيكال المهمة إلى رجال من الأوس وهم كما قلنا حلفاء بني قريظة . ويهدف هذا التكتيك إلى منع ردود الفعل المحتملة إزاء مقتله في أوساط الأوس.
- التظاهر أمام كعب بمعارضة النبي والاستياء منه، استغلالا لوجود معارضة فعلية في يثرب سواء من المنافقين أو الناس الآخرين الذين لم يكونا مرتاحين لما تعرضت له مدينتهم من مشاكل بعد هجرة النبي إليها، ويدخل ذلك في تكتيك الاندساس الهادف للإيقاع بالعدو.
- جعل العملية فى الليل لتسهيل الانسحاب بعد القيم بها.
أما الأهداف التي وفرها الاغتيال فهي:
- التخلص من متآمر خط على حركة ناشئة.
- إرعاب المناوئين للتخفيف من اندفاعهم ضد الحركة، لا سيما وأن نجاح الاغتيال قد بين لهم أن الحركة تمتلك أدوات ووسائل كافية للردع . كما أثبتت لهم جدية محمد فى المجابهة.
- إن هذا العمل قد بين ليهود المدينة أن محمد ليس هدفا سهل المنال كالمسيح، ولعله قد أزل ما قد يكون تبقى بعد معركة بدر من أوهام بهذا الخصوص.
استنتاج فقهي خاطئ:
قال السهيلي في " الروض الأنف" الذي شرح فيه سيرة ابن هشام، إن الفقهاء- عدا أبو حنيفة- رتبوا على قتل كعب بن الأشرف حكما بوجوب قتل من سب النبي وإن كان ذا عهد. والحكم مبني على أن كعب قتل لأنه كان يهجو النبي. وقولهم " ذا عهد" يشير إلى ارتباط يهود المدينة فى ذلك الوقت بميثاق يثرب الذي حاول النبي محمد أن يجعله إطارا للتحالف معهم. وقد أكسبهم هذا الميثاق صفة أهل الذمة.
وهذا من الأقيسة السطحية القائمة على مناط شكلي، إذ لم يدخل هؤلاء الفقهاء فى اعتبارهم أركان الحدث من جهة ارتهانه بحالة حرب وكون المقتول من قادة العدو المقاتل وكونه بالتالي إجراء سياسيا عسكريا لا يصلح أن يكون سابقة، لحكم قضائي. وكم من الفرق بين هذه الحالة وحالة إنسان عادي يشتم النبي لغوا أو مهاترة. ولعل معارضة أو حنيفة لهذا الحكم عدم إجازته قتل من سب النبي مسلما أو ذميا هي نتاج هذا التفريق بين الحالتين. وأبو حنيفة معروف بدقة أحكامه وسعة أفقه فى الاجتهاد.
سلام بن أبى الحقيق
كان من زعماء بنى النضير والتحق بعد إجلائهم بخيبر ليستمر فى مناهضة المسلمين من هناك. وهو من المحرضين الكبار الذي عملوا على دفع قريش لشن هجومها الأخير على المدينة حيث وقعت معركة الخندق.. وكان قد ذهب فى وفد يهودي إلى مكة لهذا الغرض. وبعد عودته وضعت خطة لتصفيته. ومصادر السيرة تفيد أن المبادرة جاءت من الخزرج وأنها كانت بدافع المنافسة من الأوس، خصومهم القدماء الذين حصلوا على شرف اغتيال كعب بن لأشرف. لكن الفكرة لم تكن، مع صحة هذه المصادر، لتغيب عن النبي الذي سبق أتباعه إلى إدراك الفوائد المترتبة على مثل هذه العمليات . وقد اختار لهذه المهمة مجموعة من رجال الخزرج وأمرهم بالتوجه إلى خيبر.
وفيما يلي تفاصيل العملية:
كان على المجموعة أن تدخل حصن خيب ليلا، حسب الخطة، فتقدم أحدهم ويدعى عبد الله بن عتيك أو ابن عقبة من بوابة الحصن ، وتظاهر بأنه يقضى حاجته خارج السور فصاح عليه البواب: إن كنت تريد أن تدخل فادخل أريد أن أغلق الباب. فدخل وكمن فى معلف حمار قريبا من المدخل. وبعد أن دخل أهل الحصن فى وقتهم المحدد دخل البواب وأغلق الباب وانتظر عبد الله فى مكمنه حتى أقفر المدخل من الناس فقام وأخذ المفاتيح، وكان قد رأى أين علقها البواب، وفتح البوابة. وكانت المجموعة تنتظر خارج الحصن فدخلوا .
وكان الغسق قد حل، فتوجهوا إلى دار ابن أبى الحقيق فدخلوها. وكانت الدار أشبه بمجمعة تحتوى على عدة بيوت. ولم تصف الرواية كيف استطاعوا دخولها لكنها تذكر أنهم أغلقوا أبواب البيوت على أهلها من برة. ثم اقتحموا المنزل الذي يقيم فيه ابن أبى الحقيق، والرواية هنا مبتسرة لا توضح كيف اقتحموا المنزل. وعلى أى حال فقد وصلوا إليه فوجدوه مع زوجته على فراشهما. وكان البيت مظلما ولكي يميزوه عن زوجته نادى عليه احدهم فأجابه فزعا: من أنت ، فهجم باتجاه الصوت وضربه ضربة عشوائية بالسيف لم تصبه. ونهضت امرأته فى وجوههم فارتبكوا لأن النبي أوصاهم أن لا يتسببوا فى قتل امرأة أو طفل.
غير أنهم استطاعوا أخيرا دفعها عنه وتناولوه بأسيافهم فأجهزوا عليه. وفى هذه الأثناء خرج أهل الحصن من بيوتهم على صراخ المرأة، فاختفى المنفذون فى إحدى زوايا الحصن، فلم يعثر لهم على أثر لشدة الظلام. وعاد اليهود بعد أن يئسوا من العثور عليهم إلى زعيمهم فوجدوه قد مات، فانشغلوا به، وانتهزت المجموعة هذه الفرصة فتسللوا من الحصن.إن اغتيال سلام بن أبي الحقيق يندمج فى اغتيال كعب بن الأشرف ويحقق نفس الأهداف بالنظر للدور والمركز المتماثلين لكلا الزعيمين.
ابن سنينة
هكذا ورد الاسم فى المصادر. وكان من يهود بنى حارثة. ولم تذكر له الرواية دورا يتعدى هجاء النبي والمسلمين بالشعر. تولى اغتياله بأمر النبي شخص يدعى محيصة بن مسعود. وكان المقتول حليفا لشقيق القاتل وهو حويصة بن مسعود. وقد اغتاله بحضور شقيقه دون علم مسبق منه. وكان حويصة مشركا متنفذا وقد اختار النبي أخاه محيصة لهذه المهمة وهم مسلم، بخلاف أخيه، لتفادي مشكلات الثأر.
اغتيل ابن سنينة بعد اغتيال كعب بن الأشرف. ويؤخذ من الرواية التي تناولت الحدث أنه جاء فى سياق التخويف لغيره لأن اليهود جاءوا بعد مقتله إلى محمد يشكون ما حدث فأجابهم:" إنه لو قر كما قد قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل. لكنه نال منا الأذى وهجانا بالشعر". وكلام النبي هنا واضح فقد اغتيل الرجل لأنه نشط فى المناهضة ولو سكت كما سكت غيره محتفظا بوجهة نظره لسلم.
اغتيال امرأة
ورد هذا الحديث فى روايتين مختلفتين كثيرا، إحداهما في مصادر الحديث والأخرى فى مصادر السيرة. رواية مصادر الحديث أخرجها النسائي وأبو داود فى كتاب الحدود من سننهما وملخصها أن أعمى كنت له أم ولد( جارية- زوجة) وله منها ابنان وكانت تكثر الوقيعة بالنبي وتسبه وهو ينهاها ويزجرها فلا تنتهي. وذات ليلة ذكرت النبي وأخذت بشتمه فتناول مغولا( سيف قصير دقيق) فوضعه فى بطنها ثم اتكأ عليه حتى قتلها.
وجاء الأعمى إلى النبي وقال له: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت أم ولدي وكانت بن لطيفة رقيقة ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ولكنها كانت تكثر الوقيعة فيك وتشتمك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر. فلما كانت البارحة ذكرتك فوقعت فيك فقمت إلى المغول فوضعته فى بطنها فاتكأت عليها حتى قتلتها. فقال النبي" ألا اشهدوا أن دمها هدر" ولم تذكر الرواية اسمها.
رواية مصادر التاريخ تفيد أن المرأة هي عصماء بنت مروان وأنها كانت يهودية ولم تكن جارية بل زوجة رجل من بني خطمة كانت تحرض على الإسلام وتهجو النبي بالشعر. فنذر صحابي يدعى عمير بم عدي الخطمي- من نفس عشيرة زوجها- أن يغتالها إذا رجع النبي سالما من معركة بدر. فلما رجع جاءها ليلا فدخل عليها وهي بين أولادها وكان أحدهم على صدرها ترضعه، وكان عمير أعمى، فتسلمها فوجد الرضيع فنحاه عنها ووضع سيفه فى صدرها حتى أنفذه من ظهرها. وعاد من الصبح وصلى مع النبي. ولما انتهت الصلاة نظر إليه النبي وقال: أقتلت ابنة مروان؟ قال : نعم يا رسول الله فقال : نصرت الله ورسوله يا عمير فقال: على شيء من شأنها يا رسول الله ؟ فقال : لا ينتطح فيها عنزان. وقال لأصحابه: إذا أحببتهم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي.
ويصعب الجزم بأي الروايتين أصح. ولو أنهما تشتركان فى كون القاتل أعمى وفى أن المبادرة إلى الاغتيال جاءت منه ولم تكن أمرا من محمد، وأنه أقرها بعد أن تمت. وربما استنتجنا من قوله فى الرواية الثانية: أقتلت ابنة مروان؟ أن هناك أمرا ما ، ما لم يكن هذا القول إضافة من الرواة للتدليل على معرفة النبي بالغيب. ويمكن ترجيح وجود أمر إذا أخذنا بما أوردته الرواية الثانية من كون القاتل من عشيرة زوجها لأن فيه تفاديا لمشكلات الثأر.
وفى الروايتين إشكالات عسيرة الحل إذ يمكننا الارتياب فى صحة الثانية من الوصف المبسط للعملية الذي يبدو منه كأن المرأة كانت تمثالا تجلس أمام الأعمى في صمت وهو يلتقط المغول ويزيح رضيعها من على صدرها ثم يغرز المغول فيها ويتكئ عليه حتى تموت لكننا نجد هذا الأسلوب في مصادر التاريخ العام. وهو ابتسار يكرس طبيعة النقل الشفوي للأخبار قبل مرحلة التدوين. ويتعذر علينا كذلك أن نعرف الصفة الحقيقية للمرأة، وهل كانت زوجة أم جارية؟ وهل هي يهودية؟ وما هو رد فعل زوجها إذا كان القاتل غيره؟ وماذا يدل عليه كون القاتل أعمى فى الروايتين؟ يضاف غلى ذلك تعارض هذا الفعل مع التشديد فى النهي عن قتل النساء.
وقد رأينا كيف كادت خطة اغتيال ابن أبي الحقيق تفشل بسبب زوجته لأن المكلفين بذلك تحاشوا المساس بها التزاما بوصية نبيهم. إننا مضطرون أمام هذه الإشكالات إلى التوقف بشأن الروايتين وعدم الجزم إن كان مثل هذا الحدث قد وقع فعلا، ولو أن ورود الروايتين فى مصادر متعددة، مختلفة الاختصاصات- حديث ، سيرة ، تاريخ عام، تراجم، وأموال- يمنع من التشكيك الاعتباطي فيهما مع بقاء التفاصيل مجهولة فيما يتعلق بهوية المرأة ودورها فى الخصام إذا كان لنا أن نقبل المضمون الأولي للروايتين.
أبو عفك: يهودي من بني عمرو بن عوف، كان يحرض على محمد شأنه شأن غيره من كبراء اليهود فى يثرب، ولجأ فى ذلك إلى الشعر. وتقول الرواية إن صحابيا يدعى سالم بن عمير الأنصاري عزم على اغتياله وأنه دبر الخطة بنفسه. وقد بقي يترصده حتى جاء الصيف حيث ينام الناس فى الأفنية. وفى إحدى الليالي كان أبو عفك ينام في منازل عشيرته فتسلل إليه سالم وقتله بالمغول. وكان قد ناهز المائة والعشرين . وأقر النبي ههذ العملية.وكان اغتياله بين معركة بدر وأحد، وهي المدة التي اغتيل فيها أقرانه اليهود عدا ابن أبي الحقيق الذي اغتيل بعد معركة أحد.
توقفت الاغتيالات الموجهة ضد الشخصيات اليهودية بعد فتح خيبر الذي أعقب معركة الخندق ، آخر معارك الإسلام ضد أهل مكة. وبفتح خيبر كانت المعارضة اليهودية قد صفيت حيث سبقه إجلاء بني القينقاع والنضير وإبادة بني قريظة وأصبح الخيبريون رعايا لمحمد بموجب عقد الذمة الذي أعقب اجتياح معقلهم الأخير.
اغتيال زعيم قبيلة
وقع هذا الحدث بين معركتي بدر وأحد. وقد رواه الطبري في أحداث السنة العاشرة للهجرة ضمن فصل عدد فيه سرايا النبي، أي الحملات التي كان يوجهها لأهداف موصوفة. يدعي هذا الرجل خالد بن سفيان وهو من هذيل. وكان قد قرر تجميع قوة من عشيرته وغيرها لمهاجمة يثرب بعد معركة بدر, وقد يكون فعل ذلك بتحريض من قريش. ويبدو أن محمد وقف من طريق استخباراته على جدية هذا القرار. وقد نفذ هذه المهمة صحابي يدعى عبد الله بم أنيس كان من المجموعة التي اغتالت كعب بن الشرف. وحسب رواية هذا الصحابي نفسه أن النبي دعاه وأبلغه أن خالد بن سفيان يجمع الناس ليغزو المدينة، وأمره أن يذهب إليه ليقتله.
وتوجه إليه بعد أن عين النبي أوصافه حتى يستطيع تشخيصه ، إذ لم يكن قد رآه من قبل، ووصل قبل الأصيل فرآه يمشي مع نساء كان يبحث لهن عن منزل. ويظهر من الرواية أنه كان بعيدا عن الحي. فسلم عليه فرد عليه السلام ثم سأله من الرجل؟ فقال: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل- يعنى محمد- فجاءك لذلك. فرد خال: أجل أنا في ذلك .فتمشى معه قليلا يحادثه فى هذا الشأن فلما وجد منه غفلة عاجله بضربة من سيفه فأراده. وعاد إلى نبيه ليخبره بإتمام المهمة فكافأه بعصا لتكون وسيلة تعرف بينهما يوم القيامة... وباغتيال خالد بن سفيان فشلت خطة الهجوم.
يلاحظ أن اغتيال هذا لزعيم تم بسهولة لأنه كان يتحرك على طريقة البدو. بلا حرس ولا أركان حرب. ولم يتطلب الأمر خطة معقدة كالتي اقتضاها اغتيال كعب بن الأشرف- التاجر والمتحصن فى قلعة. ويرجع تأثيره الحاسم فى إفشال الهجوم إلى أنه كان قرارا منفردا ومرتهنا بشخص القتيل، فانتهى بانتهائه. وكان محمد حين قرر اغتياله ملما بهذه الحقائق جيدا لأنه كان يعتمد على جهاز رصد كفوء.
اغتيال زعيم قبيلة آخر
فى سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري أن زعيما لقبائل قيس يدعى رفاعة بن قيس الجشمي كان يجمع قيسا لحرب رسول الله. فوجه إليه ثلاثة فدائيين ذكر منهم عبد الله بم أبى حدرد فكمنوا له. ورماه ابن أبى حدرد بسهم فقتله وجاء برأسه إلى النبي.أورد هذا الخبر أيضا ابن حبيب فى " أسماء المغتالين من الأشراف" ويختلف الرواة فى اسم المغدور إذ يرد أحيانا باسم قيس بن رفاعة.
ويمكن الشك فى قطع رأسه لأنه يفترض وقتا طويلا للعملية مع انفراد المقتول عن أصحابه ، مما يتعارض مع خطة العملية التي اعتمدت على كمين متحرك، كذلك يتعارض حمل الرأس مع حكم، شرعي ينهى عنه لأنه من باب نجاح العملية. وكما بينت فمؤسس الإسلام لم يتقيد بالأحكام الشرعية إذا تعارضت مع مخططاته. أدى اغتيال زعيم قيس غلى فشل خطة الهجوم على المدينة.
اغتيال عبهلة- الأسود العنسي
كان عبهلة ( أو عيهلة) من زعماء الردة وقد تحرك باليمن فى أواخر حياة محمد وسيطر على معظم أنحائها وامتد نفوذه إلى أجزاء واسعة من الجزيرة تصل حتى الخليج وكانت حركته من مستوى حركة مسيلمة (الكذاب) فى اليمامة من حيث قوتها وخطورتها.
كان من المعتاد أن يعالج محمد مثل هذه التحركات بالمجابهة الحربية لا سيما بعد أن صار هو القوة الأولى فى الجزيرة منذ صلح الحديبية. وهو السبب فى أننا لا نجد عمليات اغتيال فى هذه المرحلة. لكن طبيعة تحرك عبهلة فرضت على محمد مجابهة من طراز خاص تنطلق من خطة اغتيال تأتى فى سياق عمل منظم لسحق الحركة بأقل قدر من التكاليف. وكانت هذه الخطة من أعقد مخططات الاغتيال السياسي التي أوعز بها النبي محمد وأشدها إثارة . وفيما تفاصيل العملية كما وردت فى تواريخ الطبري وابن الأثير اليعقوبي وفتوح البلدان للبلاذري ( تراجع الأبواب التي تحدثت عن حروب الردة فى السنة الأولى من خلافة أبو بكر).
كان محمد قد أصدر بنفسه قرار الاغتيال وكلف به جماعة من أهل اليمن واستغرقت العملية وقتا أطول من أي عملية سابقة بحيث لم تتم إلا والنبي على فراش الموت.
نهض بالمهمة إلى جانب الأشخاص الذين كلفهم محمد بأعيانهم جماعة أخرى مؤثرة من أهل اليمن بينهم القائد العام لجيش عبهلة قيس بن عبد يغوث، الذي قدم تسهيلات بهذا الشأن بعد اختلافه مع نبيه، وقد تصدر التنفيذ زعماء " الأبناء" وهم من الفرس الذين استوطنوا اليمن بعد جلاء الأحباش عنها وكان لهم نفوذ سياسي كبير إلى جانب أقيالها. وكان هؤلاء قد ناهضوا حركة عبهلة وخاضوا ضده معركة خاسرة انتهت بقتل قائدهم المسمى " شهر" واستيلاء عبهلة على زوجته " آزاد" . وتم التنسيق على المستوى الأبعد للخطة مع غير المرتدين من أهل صنهاء على أن يتحركوا إذا سمعوا الأذان من داخل قصر عبهلة.
كانت العقدة الأساسية فى الخطة هي كيفية الوصول إلى عبهلة لأنه كان يقيم فى قصر محصن ومحاط بحرس شداد لا يفارقونه ليلا ولا نهارا. وقد تولى حل العقدة آزاد، الزوجة المغصوبة التي عزمت على الثأر لزوجها. فدلت ابن عم لها يدعى فيروز كان من عناصر التنفيذ الرائسة، على مكان خلفي فى القصر يكون وراء الحرس ويؤدي رأسا إلى غرفة نوم عبهلة. وفى ليلة متفق عليها مع آزاد جاء فيروز ومعه فارسيان آخران أحدهما يدعى داذويه والآخر قيس بن جشيش الديلمي ونقبوا القصر من المكان الذي عينته آزاد. ودخلوا عليه والحرس لا يشعر لأنه كان يقف خارج الحجرة. وباغتوه بسيوفهم فأجهزوا عليه .
وتقول الرواية إن الحرس سمعوا صوته لحظة ضربه فنادوا على آذار فقالت لهم: النبي يوحى إليه.. وكان قد عرف عند العرب من الأخبار التي تحدثت عن كيفية نزول الوحي على محمد ما يحدث له أثناءه من الرعدة والغيبوبة. وبقي الحرس فى مكانهم خارج الغرفة والمجموعة مع آذار فى داخلها وعبهلة قتيل بينهم حتى الصباح. وكانوا قد رتبوا من يرفع الأذان من داخل القصر عند الصبح. وعلى صوت المؤذن تحرك مسلمو صنعاء وهجموا على القصر، وتحرك الحرس من جانبهم فخرجت إليهم المجموعة من غرفة عبهلة وألقت إليهم برأسه مقطوعا، فارتبكوا واختلت صفوفهم مما سهل على المهاجمين احتلال القصر. وهرب جنود عبهلة إلى خارج صنعاء.
"تشتمل عملية اغتيال الأسود العنسي على جملة عناصر ومدلولات تتميز بها عن سائر العمليات المماثلة فى تاريخ السيرة نستخلصها فيما يلي:"
- إنها كما قلنا فى البدء ليست عملية اغتيال فردي بحت، لأنها جاءت كجزء / أساسي/ من خطة انقلابية لنسف الحركة من الداخل. وكما بينا فإن قادة العملية نظموا مسلمي صنعاء للهجوم على القصر عند سماع الأذان، الذي قام هنا بدور كلمة السر التي أعلنت ساعة الصفر، مع ما في الأذان المحمدي من قصر عبهلة من إرباك لأتباعه.
- إن اغتيال عبهلة قد حسم الوضع لصالح محمد. ولكن هذا ل يتم إلا بالارتباط مع المخطط الانقلابي فى جملته. وقد أدى الاغتيال بدوره إلى نجاح الانقلاب بسرعة وبأقل كلفة- مما أغنى عن حروب طويلة كانت ستكلف ما كلفه القضاء على حركة مسلمة من ثمن باهظ، لا سيما وأن عبهلة أثبت أنه يتمتع بقدرات كبيرة لعلها هي التي أطمعته أن يضع نفسه ندا لمحمد شأن نظيره مسيلمة.
- وهنا لابد من التنويه بأن مبادرة كالتي قام بها عبهلة كان يمكن ان تثمر لو توفر لها مقومان: أحدهما منهاج محدد، مقترن بأيديولوجينا واضحة المعالم ، كالذي كان لدى محمد. والثاني لو أنها ظهرت فى أوانها. إذ من الواضح أن عبهلة جاء متأخرا كما هو حال مسيلمة، بعد أن تهيأ لمحمد أن ينجز ما كانت المرحلة التاريخية فى جزيرة العرب وعموم المنطقة تريد أن ينجز على يد نبي ما.وفي ظرف كهذا تميل فيه عوامل النصر الموضوعية مع محمد، فإن تحركا كتحرك عبهلة بدا مع تنفيذ ذكى وجريء لخطة اغتيال أشبه بحدث عابر سرعان ما تلاشى على صوت المؤذن. ويؤدي الاغتيال هنا، ضمن ظروفه المادية وما ارتبط به من مخطط شامل، إلى نتائج بعيدة لا يؤديها الاغتيال الفردي.
- قامت بشوط كبير فى إنجاح عملية الاغتيال زوجة عبهلة المغصوبة آزاد. والمسئولية هنا تقع على عبهلة نفسه لأنه خاطر بالزواج من امرأة قتل زوجها. ولابد أن جمال آزاد الفتاة الفارسية، قد أنساه مرتكسات مثل هذا التصرف. إن آزاد هي التي جعلت تنفيذ الخطة ممكنا، ولولاها لكانت شبه مستحيلة، مع الوضع الحصين الذي رتبه عبهلة لنفسه، ولكن على خليفة محمد أن يجهز جيشا كالذي جهزه لحرب مسيلمة للقضاء على هذه الحركة.
من المفيد أن نذكر هنا أن حالة آزاد قد سبقتها حالة مماثلة لكنها لم تؤد إلى النتيجة نفسها . فقد سبق لمحمد أن أقدم على نفس المخاطرة حين تزوج من صفية بنت حيي بن أخطب أحد زعماء خيبر. وكانت صفية متزوجة من زعيم يهودي من بني النضير هو كنانة بن الربيع، لذي التجأ إلى خيبر بعد إجلاء عشيرته عن يثرب. وقد قتل أبوها وزوجها فى معركة فتح خيبر التي قادها على ابن أبى طالب واشرف عليها محمد بنفسه. وأسرت صفية فتزوجها محمد .
وتنقل مصادر السيرة عن صفية أنها كانت تكره محمد أشد الكره، وهو أمر طبيعي، لكن المصادر تضف أنها قالت إن الله أدخل حبه فى قلبها بعد ذلك. ومن المرجح أنه لم تكن صادقة فى هذا القول. ويخبرنا " ابن سيد الناس" فى سيرته المشهورة " عيون الأثر" أن تقريرا رفع إلى عمر بن الخطاب بأن أم المؤمنين صفية تحب السبت وتتصل باليهود سرا. فاستجوبها عمر فأنكرت حبها للسبت واعترفت باتصالها باليهود قائلة بأن لها أقرباء فيهم فهي تبرهم. وقبل منها عمر وأغلق القضية. ولم يكن به بد من ذلك لأنها من " أمهات المؤمنين" فلا سبيل لع عليها، فضلا عن أن اليهود لم يعودوا فى زمان عمر قوة يؤبه بها حتى يقلقه اتصال صفية بهم.
المهم فى هذه الحالة أن صفية كان يمكن أن تلعب مع محمد نفس الدور لذي لعبته آزاد مع عبهلة لو أن محمد كان قد وقع فى وضع مماثل. لكن الانتصارات الساحقة التي أحرزها مؤسس الإسلام منطلقا من قاعدته التئريخية الراسخة قد نجته من عواقب هذا الزواج الخطر.
خطة فاشلة لاغتيال أبو سفيان
بعد معركة بدر، التي قتل فيها نفر هام من زعماء قريش، تركزت قيادة أهل مكة فى يد أبو سفيانـ شيخ الأمويين. وكان أبو سفيان هو منظم وقائد حملتي أحد والخندق ووراء جميع النشاطات المعادية التي قام بها المكيون حتى فتح مكة، وكان من المنتظر أن يدرج فى قائمة الاغتيالات. لكن الأمر لم يكن سهلاـ لسببين أولهما طول المسافة بين مكة ويثرب، وبالتالي عدم ضمان خ انسحاب لمجموعة تكلف بهذه العملية، لا سيما وأن قريش كانت تسيطر على معظم الطريق بين المدينتين . الثاني، وهو الأهم، صعوبة توفير مكمن فى مكة تتحرك منه المجموعة، لأنها كانت خالية من المسلمين.
لكن هذه الصعوبات لم تمنع محمد من المحاولة، وقد وردت تفاصيل ذلك فى الطبري وابن الأثير – حوادث سنة 4- وتقول الرواية إن النبي اختار لهذا الغرض " فاتكا متشيطنا" يدعى عمر بن أمية الضمرى، ، دخل فى الإسلام بعد أن شارك مع قريش فى معركتي بدر وأحد. ولعله كان بانتظار إسلام مغامر كهذا ليجرب حظه مع أبو سفيان . وقد بعث معه رجلا من الأنصار. وخرج الرجلان إلى مكة فدخلاها فى الليل، وهو الوقت الذي تمت فيه المهام الأخرى. وكان أهل مكة يرشون أفنيتهم فى المساء ويجلسون فيها للسمر.
وفى طريقهما إلى منزل أبو سفيان، مر عمرو وصاحبه بجماعة جالسين فى فناء. فأبصروا عمرو. وكان معروفا لديهم لشهرته، فصرخوا : هذا عمرو بن أمية ، فاهتاج أهل مكة وأدركوا أنه لم يأت إليهم إلا لغرض شرير. وكان عمرو يعرف دروب البلد فاستطاع الإفلات مع صاحبه فى جنح الظلام. وعاد إلى المدينة وقد سلم أبو سفيان. ولم تتكرر المحاولة. ولا شك فى أن محمد كان مدركا لصعوبتها وهو عندما اختار فاتكا كعمرو بن أمية الضمري قد فعل غاية ما فى الإمكان، ولم يكن ميسورا لغير هذا الرجل أن يوفق فيما فشل هو فيه.
ومن الجدير بالذكر فى هذه المناسبة أن شخصية عمرو بن أمية الضمرى دخلت فى الحكايات الشعبية التي تناولت بعض أحداث الفتوحات. وقد أخذت فى هذه الحكايات نفس منحاها التاريخي , ولو أن عمرو فى الحكايات الشعبية خلافا له فى مصادر التاريخ، لا يمكن أن يفشل فى مهمة.
تنتهي إلى هنا قصة الاغتيالات فى العهد النبوي . ويسوف نتناول فى الفصل الثاني قصتها فى خلافة الراشدين.. وقبل أن نترك هذا الفصل يلزمنا إيراد بعض الملاحظات الضرورية:
- إن محمد مارس هذا التكتيك كما قلنا فى تعارض مع الحكم الشرعي الذي ثبته بنفسه . وهو بذلك يكرس تصوره الخاص للدائرة التي يمكن لهذا الحكم أن يتحقق فيها- حيث نجده يمارس الاغتيال فى دائرة الصراع السياسي المسلح وبقدر ملموس من الذرائعية.
- إن الاغتيالات التي نفذت فى عهد النبوة محدودة عدديا ومحصورة زمنيا.. وضمن هذه الحدود أعطى تكتيك الاغتيال نتائج ذات مفعول بالنسبة لمسيرة الثورة المحمدية دون أن ينعكس – أو – يتحول إلى نزعة إرهابية. وقد مر بنا أن محمد استخدم هذا التكتيك حين كان ضعيفا ، ولا يستثنى من ذلك اغتيال عبهلة الذي كان جزءا من مخطط انقلابي.
- إن الأطراف التي وجهت ضدها الاغتيالات هي أطراف معسكر العدو الذي كان يضم المشركين واليهود. ويرتبط اغتيال الشخصيات اليهودية الخمس أو ألأربع بالأدوار الخطرة التي لعبتها الجماعات اليهودية في يثرب ضد محمد وهو فى أحرج أوضاعه. وقد أعطته الاغتيالات ورقة رابحة رجحت كفته عليهم وحدت نشاطهم المناوئ. وهو لم يلجأ إلى هذه الوسيلة إلا بعد أن استنفد وسائل التحالف معهم، أو على الأقل منعهم من التحالف مع قريش ضده.وكما بينت، فقد توقفت الاغتيالات ضد اليهود بعد تصفية المعارضة اليهودية.وقد عاش اليهود فى المدينة بعد ذلك من خلال عقدالذمة كرعايا لمحمد.وتحتوي مصادر الحديث والفقه والتفسير على وقائع كثيرة، عولجت كسوابق فقهية، كان أشخاصها من يهود المدينة، منها رواية تقول إن النبي كان إذا وزع الخمس يقول"ابدأوابجارنااليهودي"وهى من الأخبار التي يستدل منها على جواز التصدق على غير المسلمين. وثمة قصة ظريفة عن حادث سرقة اتهم بها يهودي ثم بريء . وفيها دلالة هامة على كيفية تعامل الإسلام الأول مع غير المسلمين. وقد اقترنت بها مجموعة من الآيات تميزت بنبرة بلاغية عالية ولغة انتقادية لاذعة- تراجع الآيات 105 – 112 من سورة النساء في مصادر التفسير.
- فى محادثة مع فقيه شيعي قال لي إن استخدام وصف الاغتيالات للعمليات التي جرت فى العهد النبوي خطأ. وأورد على ذلك أن مقتل الأشخاص المذكورين جرى بناء على أمر شرعي بتنفيذ عملية إعدام. وقد أوردت عليه ما أنا متمسك به وهو أن محمد لم يكن حين جرت هذه العمليات، عدا عملية عبهلة، قد استكمل بناء دولة محكومة بقوانين يقف هو على رأسها. فقد كانت سلطته إلى ما بعد الخندق لا تزال متداخلة مع سلطة التقليد القبلي ولم تصل بعد إلى حد تمكينه من إصدار أوامر كهذه وتنفيذها بواسطة أجهزة الدولة. يضاف إليه أن بعض المطلوبين كانوا خارج مدى سلطته ومتحصنين فى مواقع عسكرية، فلكي تتم تصفيتهم كان لابد من إجراء عسكري يتولاه فدائيون وليس جلادون.
إن ما جرى بالفعل هو عمليات اغتيال وليس إجراءات تنفيذ حكم بالإعدام. وقد تمت على أساس عنصر المباغتة المعروف فى حروب العصابات، وانطوت بالتالي على مخاطرة لا يتضمنها تنفيذ حكم عادي بالإعدام.
الفصل الثاني :في الخلافة الراشدية
وقعت في خلافة الراشدين أربعة حوادث اغتيال طالت خليفتين وصحابيا كبيرا وقائدا شيعيا. وقد جاءت هذه الحوادث فى مجرى الصراع السياسي الذي انفجر بين المسلمين لحظة وفاة النبي، واستمر متفاقما حتى تأوج بالحروب الأهلية التي بدأت بالانتفاض المسلح ضد عثمان ثم تواصلت فى خلافة على لتنتهي بانهيار دولة المدينة- حكومة الخلفاء الراشدين وتأسيس الإمبراطورية الأموية.
نفذت ثلاثة من الاغتيالات بأيدي إسلامية وواحدة بيد أجنبية. وجرت ثلاثة منها فى العلن كعملية اغتيال مكشوفة، وواحدة منها سرا. لكن إحدى العمليات، هي التي طالت الخليفة الثاني، اشتملت على احتمالات عنصر سري يكمن خلف خطة التنفيذ المكشوف للاغتيال.
اغتيال سعد بن عبادة
هو زعيم الخزرج وأحد النقباء فى بيعة العقبة التي مهدت لهجرة محمد إلى يثرب. عرف في الجاهلية بسمو أخلاقه وتعدد كفاءاته فلقب بالكامل . وينقل ابن عساكر عن الواقدي أن النبي قال بسببه كلمته المشهورة: "خيار الناس فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا فى الدين". وكان هو قائد الأنصار فى حروب الإسلام على عهد النبي وسلك حينذاك سلوك رجل متعفف عن الغنائم. كما كان يتولى حماية المدينة أثناء الحروب التي كان النبي يقودها بنفسه.
وكان سعد بن عبادة يتمسك بزعامة الأنصار ويعارض قريش. وقد أخرج البخاري أنه هتف يوم فتح مكة وفى يده راية الأنصار بسقوط الكعبة- كرمز لسيدة قريش- فشكاه أبو سفيان للنبي فقال: كذب سعد هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة. ثم أوعز بنزع الراية منه وتسليمها إلى ولده قيس فى رواية أو غلى علي بن أبى طالب فى رواية أخرى. من هذا الموقع رشح سعد نفسه للخلافة يوم السقيفة. لكنه لم يحصل على إجماع الأوس، خصوم الخزرج التقليديين، مما رجح عليه كفة أبو بكر، الذي أيدته قريش ومعظم الأوس.
على أن سعد لم يقر بالهزيمة، وأصر على عدم الإقرار باستخلاف أبو بكر. وبسبب ذل اختار العزلة فلم يشارك في نشاطات الخلافة فى الداخل ولا في الفتوحات. وكان لا يحضر حتى الصلاة فى المسجد وإنما يصلي فى بيته. ويبدو أنه لبث يتحين الفرص لمغادرة المدينة. فلما فتحت بلاد الشام هاجر إليها وأقام فى حوران. لكنه لم يعش طويلا، فقد مات فى ظروف غامضة سنة 14 للهجرة.
وقد وردت فى موته أخبار نستعرضها فيما يلي:
- رواية ابن عساكر عن النضر بن شميل وهي موجزة تذكر بأنه بال قائما فمات ، فسمع قائل يقول:نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادةورميناه بسهمين فلم نخط فؤاده
- ثلاث روايات أوردها صاحب العقد الفريد إحداها عن هشام الكلبي وتفيد أن عمر بن الخطاب بعث رجلا إلى الشام فلقيه بحوران فى حائط ( بستان) فدعاه إلى البيعة فقال له: لا أبايع قرشيا أبدا. قال: فإني أقاتلك قال: وإن قاتلتني . قال: أفخارج أنت مما دخلت فيه الأمة؟ قال: أما من البيعة فأنا خارج. فرماه بسهم فقتله.الثانية عن ميمون بن مهران، وتفيد أن سعد بن عبادة رمي في حمام بالشام فقتل، ولا تزيد عليه شيئا.الثالثة عن ابن سيرين وفيها أن سعد بن عبادة رمى بسهم فمات فبكته الجن فقالت:وقتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادةورميناه بسهمين فلم تخطيء فؤاده
- رواية فى شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد تقول إن سعد بن عبادة خرج إلى حوران فمات بها، واستطرد : فقيل قتلته الجن لأنه بال قائما فى الصحراء ليلا.ثم أورد البيتين المنسوبين غلى الجن فى نص مطابق لنص ابن عساكر. لكن ابن أبي الحديد يعود فينقل رواية تقول أن أمير الشام يومئذ أكمن له من رماه ليلا وهو خارج إلى الصحراء بسهمين فقتله لخروجه عن طاعة الإمام، أي الخليفة. وأردف هذه الرواية بأبيات قال إنها لبعض المتأخرين تضمنت إشارات صريحة عن ملابسات مقتل ابن عبادة سنرويها للقراء بعد قليل.
تتفق هذه الروايات فى جملتها على أن سعد ابن عبادة مات ميتة غامضة. ويمكننا أن نستبعد منها الرواية التي تقول إنه قتل مباشرة بأمر عمر بن الخطاب، لأن قتل زعيم الخزرج وقائد الأنصار وأحد نقباء بيعة العقبة على المكشوف تهور لا يقدم عليه سياسي محنك كعمر بن الخطاب. ولعله كان سيثير فتنة تعيد غلى ذاكرة الخليفة أحداث الردة القريبة. ولا مفر بالتالي من قبول الروايات التي تحدثت عن الاغتيال.
ومما يلفت النظر هنا دور الجن فى العملية وتفسيره بأن سعد بال قائما. والتبول قياما مكروه فى الشريعة، وهو مكروه طبعا لأسباب تتعلق بالنظافة، لكن ارتكابه كمحظور ديني قد يكون سببا في التعرض لعقوبة خفية، مما يمكن أن يكون قد جرى توظيفه هنا لإعطاء سبب غيبي للموت. والوعي الديني لا يستكثر مثل هذا الإسراف في العقوبة، المتضمن فى قتل قائد إسلامي كبير سلفت له أيادي جليلة على الإسلام بسبب مخالفة بسيطة.
أما قتله على يد الجن فيفهم منه أن هؤلاء الجن كانوا من المسلمين – والجن كالإنس فيهم المسلم وفيهم الكافر- وأنهم تولوا قتل الصحابي غيرة على الدين، لأنه خالف الشرع بتبوله قائما. هذا مع ما في القول بأن سعد بال قائما فقتلته الجن، أو مات ميتة خفية من تصغير لشأنه فى عيون المؤمنين..
نأتي الآن إلى الأبيات التي أوردها ابن أبي الحديد لبعض المتأخرين وهذا نصها:
إن قائل هذا الشعر لم يستوعب كيف يصح للجن أن تقتل رجلا كسعد بن عبادة لمجرد أنه بال قائما، وهو بالتالي يضع الحادث على ملاك الغدر- الاغتيال، مصرحا بالسبب وهو موقف سعد من خلافة قريش متمثلا فى رفضه مبايعة ابو بكر. وقد عزز الشاعر استنتاجه بالكلام عن شدة إغراء السلطة، الذي يضعف أمامه حتى الزهاد القادرين على ترويض أنفسهم للصبر عن متع الحياة. ومن الواضح أنه يلمح بذلك غلى عمر وأبو بكر اللذين عرفا بالزهد وبساطة العيش قبل الخلافة وفي أثنائها.
هذه الأبيات تعطي تفسيرا يمكن أن يكون سليما لمجمل ما حدث بشأن سعد بن عبادة . وقائلها قريب العهد بالحادث .وهى من جهتها شاهد على وعي سياسي قادر على أن يخرق حجاب العقائد الشعبية ليطل منها على أسرار السياسة. ونحن نميل غلى القبول بهذا التفسير ونعتقد أن اغتيال سعد تم بتدبير عمر بن الخطاب وأن الباعث عليه هو إصراره على عدم الإقرار بخلافة قريش وإباؤه أن يبايع للخليفتين حتى بعد أن بايع الهاشميون بصدارة على بن أبى طالب ، صاحب الحق الأكثر رجحانا من سعد فى خلافة محمد..
ومع أن عمر لم يكن ليجهل أن زعيم الخزرج غير قادر على تغيير مجرى الخلافة فمن المحتمل أنه كان يخشى من تأثيره على الأنصار، وربما على غيرهم من المسلمين. وهناك ما يشير غلى أن نواياه المعادية للخليفتين قد تجاوزت الأنصار فعلا. وقد اتضحت هذه الحقيقة في وقت لاحق حين انضم ولده قيس، الذي ورث الكثير من سجايا والده، إلى علي بن أبى طالب وكان من اشد أنصاره حماسا ضد الأمويين إلى حد أنه امتنع عن مبايعة معاوية بن أبي سفيان بعد انتزاعه الخلافة من الحسن بن على حتى بعد أن بايعه الحسن نفسه...
إن مصرع سعد بن عبادة هو أول حدث من نوعه في تاريخ الإسلام يقتل فيه مسلم على يد رفاقه أنفسهم، وهذا الحدث يجري من جهته على سنن شائعة في الحركات السياسية المسلحة بعد انتصارها. فهذه الحركات قلما تخلو بعد وصولها إلى السلطة من مصائر مأساوية يذهب ضحيتها بعض قادتها الذين يشاء سوء حظهم أن لا يتمتعوا بثمار انتصارهم.
اغتيال عمر بن الخطاب
اغتيل عمر بن الخطاب على يد فيروز الديلمي المكنى أبو لؤلؤة . وكان عبدا للمغيرة بن شعبة الثقفي. وقد جرى اغتياله وهو يؤدى صلاة الصبح. وكانت العملية سهلة لم تتطلب خطة معقدة كالتي اضطر إليها المسلمون لتنفيذ الاغتيالات التي أمر بها النبي. وسبب هذا أن عمر كان بلا حرس لأنه شأن صاحبيه أبو بكر وعلى لم يكن يرتح لمظاهر السلطة ويعتبرها من قبيل أعمال كسرى وقيصر- طغاة ذلك الزمان في عيون العرب. وقد دخل أبو لؤلؤة مع جمهور المصلين إلى المسجد رغم أنه لم يكن مسلما، دون أن يعترض عليه أحد. وكان يخفي خنجرا له رأسان فلما تقدم عمر صفوف المصلين اتجه إليه أبو لؤلؤة وطعنه ست طعنات، أو ثلاث بحسب اختلاف الروايات، كانت إحداها تحت سرته وهي التي قتلته. ويتدل من ذلك أنه لم يطعنه من الخلف وإنما دغره من الأمام، مما يدل في حد ذاته على سهولة العملية الناتجة كما قلنا من انعدام مظاهر السلطة فى أيام عمر.
"من هو قاتل عمر؟ وأية حالة ضمنها رحيله؟"
المعروف أن الباعث على اغتيال عمر كان هو الانتقام لهزيمة الفرس وانهيار إمبراطوريتهم. وهو ما حرك أبو لؤلؤة للقيام بهذه المغامرة. ويذكر عن هذا الفدائي المجوسي أنه كان يقول: أكل عمر كبدي. ولعله كان يقولها حقا، إذا لم نشأ أن نتجاهل رد الفعل الطبيعي الناتج عن الأحاسيس القومية. ومما أثار حفيظة أبو لؤلؤة ومن على شاكلته من الفرس أكثر، هو أن الفتوحات الإسلامية لنتخرج، رغم نتائجها التاريخية الهائلة، عن ناموس الفتوحات والحروب القديمة القائمة على جمع الغنائم واسترقاق الأسرى بما فى نساء المقاتلين وأطفاله. ولقد قيل أن أبو لؤلؤة كان إذا رأي سبايا بني قومه في المدينة يمسح على رؤوس الأطفال ويبكي.
لكن هل كان اغتيال عمر مجر رد فعل فارسي؟ لقد أشبع الغاضبون الفرس نزوة الثأر بمقتل الخليفة دون أن ينتهي بهم ذلك إلى استرجاع إمبراطوريتهم . بل ولقد حدث هذا في وقت أخذ فيه الفرس يدخلون فى الإسلام أفواجا ويتحولون هم أنفسهم إلى فاتحين ينشرون الإسلام فيما وراء بلادهم التي أصبحت بدورها من مراكز الفتوحات الإسلامية فى المشرق . وفى هذا الميزان لا يعني مقتل عمر شيئا يتعدى رد الفعل الانتقامي العابر.. لكننا نلمح من جانب آخر رغبات مستجدة طمنها رحيل عمر ويمكن أن يكون لها صلة بمخطط تصفيته. وقد تنبه كتاب معاصرون لهذه المسألة وأثارا حولها شكوكا جدية. وفى الحق أن مصادر التاريخ الإسلامي لم تترك هذا الحدث يمر دون أن تضع بنفسها علامات استفهام هي ما يفتح عيوننا على ملابساته.
وسنتابع فيما يلي بعض المؤشرات الهادية في هذا الشأن. كانت قريش هي الارستقراطية الأغنى والأكثر نفوذا فى بلاد العرب. ومع أنها حاربت الإسلام فى البداية فسرعان ما انضوت تحت لوائه لكي تتصدر العرب المسلمين كما تصدرت العرب الجاهليين. وبالطبع قد أصبحت قريش بعد الإسلام أغنى وأقوى منها في الجاهلية كما اتسعت قاعدتها العددية، كطبقة اجتماعية بالعناصر الارستقراطية الجديدة التي تكونت مع الفتوحات وتدامجت معها في موقع اجتماعي واحد دون أن تكون بالضرورة من قريش. وقد ساهم عمر بنفسه فى نمو هذه الفئة، وذلك عن طريق سياسته فى العطاء( التخصصات المالية) وكان عمر بعد أن تدفقت عليه أموال الفتح قد اتبع قاعدة فى العطاء تقضى بتفضيل المسلمين الأولين- ومعظمهم من قريش- وأقرباء النبي من قريش أيضا من حيث مقادير الأموال التي تدفع لهم. وقد تكدست لديهم بسبب ذلك مبالغ طائلة أضيفت لدى أكثرهم إلى ثروته السابقة من التجارة.
ورغم أن هذا المبدأ حرم من العطاء عددا من زعماء قريش الذين أسلموا متأخرين- بعد فتح مكة، فإن نفوذ هؤلاء استمر فى أبنائهم وأقاربهم الذين سبقوهم إلى الإسلام فشملهم التفضيل. وقد استند عمر بهذه السياسة إلى منطق" حزبي" عبر عنه بقوله:" لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه" صادرا فى ذلك عن نهج شبه سائد فى لحركات السياسية التي تصل إلى السلطة فيستأثر قادتها وكوادرها بامتيازات مخصوصة.
غير أن عمر لم يكن على وفاق تام مع هذه الفئة. ورغم أنه كان من قريش ومتمسكا بزعامتها للعرب فقد صدر منه ما ينم عن عدم انسجام النزعات المعروفة لهذه القبيلة الارستقراطية ، ويورد الطبري كلاما له يحذر فيه من فتيان قريش وذوي الأرومة النبيلة فيها يدل على معرفة جيدة بشخصية التاجر الذي يجمع بين احتياز الثروة والجاه. ولهذا الاتجاه لدى عمر أصول اجتماعية وقبلية، فعشيرة عمر( بنو عدي) لم تكن ذات وجاهة أو ثروة قبل الإسلام.
ويقول أبو حيان التوحيدي عن عمر نفسه إنه كان يشتغل دلالا فى السوق. وهي حرفة غير محترمة كثيرا عند العرب حتى الوقت الحاضر. وما يقال عن عمر أنه كان يسفر ، يتوسط، فى الخصومات بين قريش فمرجعه ليس إلى مكانته بل إلى كفاءته الشخصية.
ويبدو أن معايير عمر" الحزبية" والدينية لم تمنعه من الوقوع في تناقض مع أولئك الناس الذين فضلهم بالعطاء بتأثير واحد من هذه المعايير. ولدينا روايات تحدثت عن نوايا مستجدة لديه بشأن الأموال تمس علاقته بهذه الفئة على نحو خطير. ونستعرضها فيما يلي:
- الأولى فى كتاب الخراج لأبو يوسف وفيها يقول عمر : " لئن عشت إلى هذه الليلة من قابل لألحقن أخرى الناس بأولاهم حتى يكونوا فى العطاء سواء ويفهم من توقيت موعد التعديل أنه قال ذلك فى عامه الأخير". وهو ما يؤكده أبو يوسف بقوله بعد أن أورد هذا الكلام إنه توفي قبل ذلك أي قبل أن يحين موعد العطاء التالي. وكان العطاء سنويا.
- الثانية لابن الأثير. وفيها قول عمر : " إن رسول الله قدر فوضع الفضول مواضعها وتبلغ بالتزجية وإني قدرت، فوالله لأضعن الفضول مواضعها ولأتبلغن بالتزجية".
" الفضول: لأموال الفاضلة عن الحاجة . التبلغ بالتزجية :كناية عن عيش الكفاف". ويؤخذ من ظاهر العبارة أن عمر يقصد نفسه بالإعلان عن نيته فى التنازل عن أمواله والاحتفاظ منها بما يكفيه لضرورياته.
- الثالثة فى تاريخ الطبري وفيها يقول: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين". ويفهم من قوله: " لو استقبلت ما استدبرت إنه صرح به فى عامه الأخير" . والأغنياء المقصودون هم الذين استفادوا من التوزيع المتحيز والمستفيدين من عوائد الفتوحات. وكان بينهم تجار المسلمين من قريش وهم فريقين: المسلمين الأول كعثمان بن عفان ومسلمي الفتح. أما فقراء المهاجرين فهم فقراء المدن الذين هاجروا إليها من البوادي والأرياف بموجب نظام الهجرة الذي أشرنا إليه سابقا.
إن الروايات الثلاثة متكاملة فى محتوياتها بشكل يبعث – مع ورودها عن رواة متفرقين لا يصدق عليهم وصف التواطؤ- على تعزيز الثقة بصحتها. وهى تشكل بما تضمنته من نوايا معلنة بشأن الأموال موقفا جديدا موجها ضد الارستقراطية القديمة- الجديدة التي ساهم عمر نفسه فى بلورتها وترسيخ موقعها الاقتصادي. ويتمتع بأهمية دالة فى هذا الصدد، إجراء سبق لعمر أن اتخذه بحق القرشيين الذين اختصهم بأفضلية العطاء سبب فى حينه صراعا خفيا بينهم وبين الخليفة. ولنترك للطبري تفسير ذلك..
- عن الحسين البصري : كان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج( من المدينة إلى الأمصار) إلا بإذن وأجل (سفر مؤقت).
- عن الشعبي : لم يمت عمر حتى ملته قريش. وقد كان حصرهم فى المدينة وقال إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم فى البلاد.ويضيف الشعبي أن بعضهم كان يستأذنه فى الخروج إلى الجهاد فيقول له قد جاهدت مع النبي وهذا يكفيك. وخير لك من الجهاد اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك..ويقول الشعبي فى نفس الرواية إن عثمان رفع الحجر عن قريش فتنقلوا فى البلاد فكان أحب إليهم من عمر. وهو ما تؤكده الراوية التالية:
- عن محمد وطلحة: لم تمض سنة من إمارة عثمان حتى اتخذ رجال من قريش أموالا فى الأمصار وانقطع إليهم الناس- يقصد تجمعوا حولهم وصار لكل واحد حاشية وأتباع.
- نقرأ فى هذه الروايات مقدمات انشقاق سياسي بين عمر وارستقراطية الجديدة تسبق تصريحاته الثلاثة، منشأة الحجر عليها فى المدينة. وهو إجراء يحد من اتساع ههذ الفئة التي كانت تطمح إلى إيجاد مواقع لها في الأمصار مدفوعة بحافز طبيعي نحو تركيز وتوسيع مصالحها الاقتصادية ونفوذها الاجتماعي. ومن هنا كان تبرمها من عمر. وتوقها بالتالي إلى الخلاص منه ( ما مات عمر حتى ملته قريش).
على أن الخلاف لم يبلغ، حتى السنة الأخيرة من حياة الخليفة، من التناحر ما يكفى لتفجير صراع دموي. وينبغي لذلك أن لا نتوقع تحركا معاديا يستهدف التضحية بإمام عظيم، حتى فى عيون الارستقراطية التي ملت منه، من أجل أن تتحرر وتنطلق. ولو أنها كانت تود، بحسب ما يسعنا استخلاصه من إفادات رجال الطبري، لو أن هذا الإمام مات فى أجله المسمى ليذهب غلى ربه دون أن تتحمل شيئا من وزره. وللمؤمنين من أتباع الأديان السماوية نهج معروف في التوفيق بين الدين والدنيا يرتبط بحرصهم على الفوز بسعادة الدارين، نعيم الدنيا والآخرة معا. لكن انتقال عمر إلى موقع آخر، ذو طبيعة صدامية، كان من شأنه أن يثير ردود فعل من درجة أشد قد ترتقي بالرغبة إلى مرتبة الإرادة.
"هنا يخبرنا الطبري أن عبيد الله بن عمر قال مهددا بعد مقتل والده:" والله لأقتلن رجالا ممن شرك ( شارك) فى دم أبى.وينقل الطبري عن أحد رواة الخبر وهو عبد العزيز بن سياه تعقيبا عليه يقول : إنه – أى عبيد الله – يعرض بالمهاجرين والأنصار.
وكان عبيد الله قد قتل الهرمزان ورجلا مسيحيا اسمه جفينة اتهمهما بالتواطؤ على اغتيال والده ثم قتل ابنة لؤلؤة وبقة شاهرا سيفه. ويقول الطبري إن صهيب الرومي أرسل إليه حينذاك عمر بن العاص وسعد بن أبي وقاص. وقد صاوله سعد حتى انتزع السيف منه وحجزه فى داره. وتبعا للرواية فإنه كان يردد هذا التهديد فى تلك الساعة، مما يعنى أنه كان ينوي بعد أن فرغ من مقتل الثلاثة أن يتوجه إلى أولئك الرجال ليصفي حسابه معهم. ولذلك لم يلق السيف إلا بعد المبارزة مع عسكريين كبيرين ما كان بمقدوره أن يتغلب عليهما.
ويبدو أن عمر لم يكن بعيدا عن التفكير فى احتمال كهذا ، لأنه كان يسأل الداخلين عليه من الصحابة وهو يحتضر: أعن ملأ منكم كان هذا؟ وهم يقولون: معاذ الله ( عن ملأ: تواطؤ . والملأ اصطلاح يمنى يشير إلى مجالس ممثلي القبائل التي كانت تشارك في إدارة الدولة في الدول اليمنية الغابرة).
وبوسعنا الافتراض أن الجهة التي كان يهمها التخلص من عمر قد جسدت إرادتها، أو رغبتها على الأقل، من خلال الغضب الفارسي على هادم الإمبراطورية الساسانية. ومما له مغزاه أن أبو لؤلؤة كان كما بينا عبدا للمغيرة بن شعبه الثقفي، وهو شخصية تآمرية قديرة كانت له وشائج صميمة مع الارستقراطية الجديدة، وهو الذي سعى لدى عمر للسماح لغلامه هذا بالإقامة فى المدينة لأن عمر كان قد نهى عن دخول الأعاجم الذين فتحت بلدانهم إلى عاصمة الفاتحين المسلمين كإجراء أمني.
ترد فى هذا السياق أخبار غامضة عن كعب الأحبار. وهو يهودي من اليمن أسلم في خلافة أبو بكر وقدم إلى المدينة فى خلافة عمر. وتدور شبهات حول إسلام هذا الرجل. الذي يحل في التقييم الشيعي محل عبد الله بن سبأ في التقييم السني، كلاهما لعب دورا في تأجيج الفتن بين المسلمين بحسب الاتهامات المتقابلة بين الطوائف. أورد الطبري فى تفصيله لأحداث مقتل عمر أن كعب قال لعمر قبل اغتياله بثلاثة ايام أنه سيموت . ولما سأله الخليفة من أين علم ذلك قال إنه مكتوب فى التوراة. ويقال أن عمر دهش لهذا الكلام فأكد عليه: الله إنك لتجد أبن الخطاب فى التوراة؟ فرد عليه : " اللهم لا . ولكن أجد صفتك وحليتك" ولما ضرب عمر فى اليوم الثالث ودخل عليه كعب أنشد عليه عمر بيتين يذكر فيهما نبوءة كعب.
وفى طبقات ابن سعد رواية أخرى تفيد أن زوجة عمر، أم كلثوم بنت على، قالت لزوجها وهي تبكى – وكانت شابة غريرة- إن هذا اليهودي ، تقصد كعب الأحبار، يقول إنك على باب من أبواب جهنم. فأرسل إليه وسأله عن ذلك فقال يا أمير المؤمنين لا تعجل على، والذي نفسي بيده لا ينسلخ (لا ينصرم) ذو الحجة حتى تدخل الجنة. فقال عمر: أي شيء هذا مرة فى الجنة ومرة فى النار؟ فرد عليه: أنا لنجدك فى كتاب الله (التوراة) على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقعوا فيها.
تتحمل هذه الأخبار وجوها مختلفة، أن تكون صحيحة، وتكون بالتالي دليلا على معرفة كعب الأحبار اغتيال عمر، وبمعنى ما : ضلوعه فيه وأنا أستبعد ذلك لاعتبارات منها أن حوار عمر مع كعب يظهره مؤمنا ساذجا سريع التصديق ، مما لا يأتلف مع شخصية قائد سياسي وعسكري كبير يصعب على مشعوذ ، أيا كان، أن يضحك عليه بهذه الطريقة المفضوحة. وينبغي أيضا نفى صحة البيتين اللذين يقال أن عمر أنشدهما حين دخل عليه كعب لأنهما من الشعر المتين، الجيد السبك.
ولم يكن لعمر من الشاعرية ما يمكنه من نظم مثل هذا الشعر وهو سليم فكيف وهو يحتضر؟
أو أنها اختراع أريد به إضفاء القداسة على الخليفة الثاني من حيث النص عليه فى أصلها شائعات بثت عن عمد بعد مقتل عمر لإعطاء هذا الحدث صفة التدبير الإلهي عير الخاضع لإرادة البشر، وبالتالي لقطع اللغط حوله. إن الكثير من الأخبار التي اعتدنا على اعتبارها مكذوبة واتهام المؤرخين باختلاقها هي في الواقع من هذا النمط ونحن نعرف من تجاربنا الراهنة أن الأخبار الكاذبة غالبا ما تنشأ حول الحدث السياسي، وبالتزامن معه أحيانا، لدوافع وأسباب مختلفة.
يهمنا أيضا أن نشير إلى صلة جفينة، المسيحي الذي مر ذكره بسعد بن أبي وقاص وكون الأخير هو الذي جاء به إلى المدينة حين عاد إليها معزولا من ولاية الكوفة بأمر عمر. ولابد أن تبعث على التساؤل هذه الصحبة إلى المدينة بين فاتح العراق وأحد العشرة المبشرين بالجنة وبين رجل نصراني من عرب الحيرة غريب على الحجاز. ومن الجدير بالذكر أم جفينة كان على صلة الهرمزان وأبو لؤلؤة وهو ما حدا بعبيد الله بن عمر إلى قتلهما معا. وقد مر بنا أيضا أن سعد بن أبي وقاص هو الذي انتزع السيف من يد عبيد الله وحجزه فى داره. ومن المفيد أن نذكر هنا أن عمر كان على خلاف شديد مع سعد بسبب سلوكه عند ولايته الكوفة، مما حمله على عزله بعد أن أرسل مبعوثا من قبله إلى الكوفة وأمره بإحراق باب قصر الإمارة الذي يقيم فيه سعد. وكان عمر يمنع الولاة من اتخاذ أبواب لمقراتهم حتى لا ينحجبوا عن الناس.
تتجمع من مجمل ما رويناه حتى الآن خيوط مؤامرة خفية قد تكون حيكت من خارج المجموعة الفارسية الصغيرة التي اتهمت بالتواطؤ مع القاتل. ولعل عبيد الله بن عمر كان مطلعا، أو على الأقل متحسسا بملابسات من هذا القبيل حين هدد بقتل آخرين قال إنهم اشتركوا فى الجريمة، إذا صح ما نقله الطبري. وقد حال الإسراع بالقبض عليه دون تنفيذ تهديداته، وبالتالي أدى إلى كتمان أسماء كان يمكن أن تظهر للعلن مع لمعان سيف الولد الموتور.. ولكن لماذا لم يتفوه عبيد الله بذكر هذه الأسماء بعد أن قبض عليه؟ هنا قد نجد أنفسنا أمام سر آخر يتعين علينا كي نستشفه أن نعرف من كان يقصدهم عبيد الله بالتهديد.
وهم فى حالتنا هذه أحد ثلاثة: قريش ، أو أنصار على ابن أبى طالب ، أو ورثة وأعوان سعد بن عبادة. وكان هؤلاء الثلاثة قد استقطبوا فى جبهتين متخاصمتين ستخوضان حربا أهلية بعد قليل ، تضم الأولى قريش وتضم الثانية الفريقين الآخرين. وقريش هي التي استلمت الخلافة في شخص عثمان وهي التي احتجزت عبيد الله وتحكمت فيه. وبالتالي فلو أنه كان يقصد بتهديده الفريق الآخر فقد كان من مصلحتها أن لا يسكت. لكنه وقد سكت لابد أن يكون المقصود بالتهديد رجال من قريش. وبالطبع فإن قريش، الحاكمة، تملك القدرة على إسكاته. وثمة عامل هام يفترض أنه أثر على موقف عبيد الله وهو مطالبة على بن أبى طالب بإعدامه لقتله الهرمزان.
وكان على يصدر فى هذه المطالبة عن موقف شرعي بحت. وعلي معروف بعدم مرونته فى هذا الجانب. وقد لج فى مطالبة عثمان بعد استخلافه بإعدام عبيد الله إلى أن حسم عثمان القضية بتخريج قانوني قال فيه إنه أى عثمان ولي الهرمزان لأن الهرمزان لا ولي له (يقصد ليس له أقرباء يطالبون بدمه، وفي هذه الحالة يكون الخليفة هو الولي) وأنه بالتالي قد تنازل عن دمه وقرر العفو عن قاتله. وهكذا وجد عبيد الله نفسه فى حماية قريش، والأمويين بالأخص فكان من الطبيعي أن ينحاز إليهم ويعتبر قضية والده منتهية إلى هذا الحد.
لا مجال مع ذلك لأي قدر من الجزم بنتيجة قاطعة . وإن كنت لألمح من الضجيج الذي أثاره القدماء والمتأخرون من رواة التاريخ حول هذه " الجريمة الفارسية" دورا فى التمييع والتستر رأينا له منذ اغتيال عشرين سنة مثالا في تقري لجنة وارن الأمريكية حول ملابسات اغتيال جون كندى رئيس الولايات المتحدة، الذي دخلت سياسته فى تعارض مع الفئات الأكثر تطرفا فى قيادة الإمبريالية الأمريكية . ومعروف أن هذا التقرير لم يفعل رغم لغته القانونية المحكمة أكثر من إلقاء ضوء أسود على الأسماء التي وقفت وراء القاتل الفرد أوزوالد. وبقدر ما بقي الكشف عن قتلة كندي الأصليين شبه متعذر قد يكون بقي كذلك بالنسبة لقتلة الخليفة الثاني للمسلمين..
على أننا لنملك حق البت في الحقيقة التالية، وهي مقتل عمر قد استجاب لمصالح اجتماعية إن لم يكن هي التي دبرت قتله فإنها كان المستفيد الأوحد من هذه العملية. وأنه ليبدو لنا الآن دون أن نجد حافزا إضافيا لمواصلة الطخ على أبو لؤلؤة المجوسي، أن الفاتح العظيم قد ذهب ضحية- محتومة- لتلك المفارقة الكبرى (التي تكررت أيضا في خلافة على بن أبي طالب وانتهت به إلى المصير المماثل الذي سنقصه بعد قليل) بين سياسة تقوم على الفتوحات- أى بناء إمبراطورية- وتسعى فى نفس الوقت لإقامة نظام داخلي في توزيع المنهوبات يقوم على التساوي بل ويسعى لمصادرة أموال الأغنياء(قادة الفتح ومؤسسي الإمبراطورية) وتوزيعها على الجنود..
إن من يفكر في المساواة، وفي أي إطار كانت، ولا يستطيع أن يبني إمبراطورية ولا شك أيضا أن من يبنى إمبراطورية لا يسعه أن يسلك سلوك عمر. لقد خلق عمر بهذه السياسة المزوجة تناقضا لم يكن ممكنا حله باستخلاف عثمان بن عفان. وهو الخيار الوحيد الذي أمكن حله إلا باستخلاف عثمان بن عفان. وهو الخيار الوحيد الذي أمكن معه لتاريخ الإسلام أن يأخذ مساره اللاحق . ولم يكن خنجر أبو لؤلؤة غير الرافعة التي اختارتها المسيرة لإزاحة عقبة ناشزة فى مجراها.
اغتيال علي بن أبى طالب
وصل علي بن أبى طالب غلى الخلافة بعد الحركة المسلحة التي أودت بعثمان . واغتيل على يد نفس الحركة والفريق الذي اغتاله هم الخوارج الذين انشقوا عليه فى صفين . فاغتيال علي هو نتيجة لتناقض فى صفوف مجموعة سياسية واحدة أخذ بعدا تناحريا أدى إلى انفجار صراع دموي بين شقيها. وهذه ظاهرة مطردة فى تاريخ الحركات السياسية المسلحة بعد وصولها إلى السلطة نجدها في العصور الحديثة كما كانت فى العصور الفارطة.
وقد تسبب اغتيال الخليفة الرابع عن مسلك تدميري لدى الخوارج هو ما دفعهم إلى اتخاذ قرارهم بتصفية زعيمهم السابق وخصومه فى آن واحد. والخطة معروفة، فقد تداول فريق من الخوارج في أمر الأمة فوجدوا أزمتها تكمن فى زعامتها. واتخذوا من ثم قرارهم الذي يقضي بالتخلص من هذه الزعامة التي تمثلت حسب تحديدهم فى علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص. وعهد بالتنفيذ إلى ثلاثة فدائيين أرسل أحدهم إلى الكوفة والثاني إلى دمشق والثالث إلى مصر. وعينت الخطة للتنفيذ يوما واحدا هو التاسع عشر من رمضان بعد أن حسبت المدة الكافية لوصول الثلاثة إلى مقاصدهم ، وساعة واحدة هي ساعة صلاة الفجر.
وفي الوقت الموعود. كان كل من الثلاثة قد توجه إلى هدفه. ويبدو أن الفدائي الذي أرسل غلى معاوية لم يحسن توجيه الضربة، فوقع السيف في إليه معاوية ولم يقتله . أما فدائي عمرو بن العاص فأجاد الضربة وقتله. ثم تبين أنه شخص آخر ناب عنه فى الصلاة لمرض ألم به ذلك اليوم. ويفهم من هذا أنه لم يكن يعرف شكل عمر فلم يميزه عن نائبه. وكان اسم النائب القتيل " خارجة" فقال الفدائي قولته المشهورة : " أردت عمرا وأراد الله خارجة". ونجحت خطة اغتيال علي بن أبي طالب . ونحاول الآن استقصاء عوامل نجاحها.
- فدائية الخوارج ، وهي عامل مشترك بين الثلاثة الذين نفذوا ما عليهم دون تردد ودفعوا حياتهم ثمنا لها، لولا أن صاحب معاوية لم يظهر قدرة في توجيه الضربة القاتلة إذا لم نضع في الحسبان وضع معاوية الأكثر حصانة من زميليه لما عرف به من دهاء وحذر.
- وجود الرتل الخامس لمعاوية فى معسكر علي، مع خوارج في الكوفة بحكم كونها المكان الرائس للحركة التي انشق عنها الخوارج. وكان علي قد ترك للخوارج بعد معركة النهروان حرية الإقامة فى عاصمته ولم يلاحقهم . وقد تمت العملية بتنسيق مشترك مع الطرفين، عملاء معاوية والخوارج. وكان من العناصر البارزة فى الرتل الخامس الأشعث بن قيس زعيم كندة وحفيد ملوكها الغابرين. وتفيد المصادر أنه ساعد الفدائي الخارجي في الاختفاء حتى يحين موعد التنفيذ، وكان معه صبيحة اليوم الموعود. وقد دفع ذلك بعض المؤرخين الذين لا يعرفون ألاعيب السياسة إلى جعل الأشعث من الخوارج، وهو في الحقيقة عدو مشترك لهم ولعلي وحليف سري لمعاوية. وكان من الذين حرضوا على علي مقاتلة الخوارج فى النهروان بدلا من استئناف الحرب ضد معاوية. وكان التخلص من على هدفا كبيرا لمعاوية سعى إليه الأشعث ومن على شاكلته من زعماء الارستقراطية العربية في العراق.
- عدم توفر إجراءات صيانة لحياة على. وقد أشرنا إلى ذلك في قضية عمر بن الخطاب. والخلل هنا أشد، لأن عمر كان يحكم من دون معارضة مكشوفة أو جدية حتى عامه الأخير، أما علي فحكم وسط قلاقل دامية وجبهة مفككة. وكما بينا ، كان المنشقون عليه من الخوارج وخصومه من عملاء معاوية يجاورونه في الكوفة دون أن يتعرضوا للملاحقة. وقد تحسس أعوانه بالخطر وحذروه من الاغتيال ولم يلتفت إليهم ورفض أن يخصص له حرس شخصي. وهو ما كان الخوارج يعرفونه جيدا، فقد أورد الطبري أن صاحب معاوية أخبره بعد القبض عليه أن علي بن أبى طالب قد يكون قتل في نفس الساعة، وكشف له عن خطتهم. ولما شكك معاوية فى احتمال نجاحهم فى قتل علي قال له الخارجي: إن عليا يخرج وليس معه من يحرسه. وقد حاول أولاده وبعض أعوانه الخلص أن يحرسوه من بعيد ولكن إجراءهم لم يك جديا. وهو بلا شك ملمون على ما حدث لأنهم وقد استوعبوا الخطر كان بمقدورهم أن يشكلوا حراسة منظمة من بينهم دون أن يشعروه بها. أما المراقبة من بعيد فقد دلت على بؤس القائمين بها لأن الفدائي الخارجي نفذ غلى المسجد واقترب من علي. الذي كان يصلي وحده، دون أن يثير انتباه أحد إلا بعد أن صاح على أثر الضربة. وكانت صيحة مضروب فعلموا أنه أصيب.
- من الملاحظ أن كلا من خطة الخوارج الثلاثية وخطة اغتيال عمر بن الخطاب نفذت عند الصلاة. وتفسير ذلك أن للصلاة موعدا معلوما لابد أن يظهر فيه المطلوب اغتياله ليؤم المصلين مما يوفر ضبطا في توقيت العملية لا يتيسر خارج أوقات الصلاة. يضاف إليه أن الإمام عند الصلاة يكون مكشوفا وسهل المنال لأن الصلاة تتم- حسب الأصول الشرعية- دون شكليات وتوجب أن يندمج الإمام بالمصلين ليتساوى معهم. وقد بلغ التشدد في هذا المبدأ أنهم حرموا أن يصلي الإمام على دكة حتى لا يكون أعلى مقاما من المصلين. وقد بادر معاوية بعد التجربة التي مرت به إلى تسكير هذه الثغرة فأمر ببناء مقصورة منفردة يؤم منها المصلين. وهو إجراء مخالف للشريعة. ولكن من المعروف أن معاوية لم يكن من الخلفاء الراشدين وكان في سياسته معنيا بتأمين مصالح إمبراطوريته وليس بتنفيذ أحكام الشريعة.
- من الجدير بالذكر أخيرا أن قاتل علي استخدم سيفا مسموما . وقد اعترف بعد القبض عليه أنه سمم سيفه بإتقان، لضمان أن تكون الضربة مميتة إذا هو لم يوفق إلى توجيه ضربة قاضية. وهو ما حدث بالفعل، فقد كان على القاتل أن يضرب ضربة خاطفة توفر له وقتا للهروب من داخل المسجد قبل أن يحاصر. وقد عاش الخليفة بعد الضربة ثلاثة أيام رغم وقوعها فى رأسه. ويستفاد من الوصف الذي أوردته المصادر عن كيفية الوفاة أن السم انتشر فى جسمه ببطء حتى أجهز عليه في اليوم الثالث. ونحن نستنتج من هذا أن خطة اغتيال علي كانت قد درست بعناية ومن جهات أخرى لا تقتصر على الخوارج مما ضمن لها نجاحا لم يتوفر لخطة اغتيال معاوية.
ماذا حقق الخوارج باغتيال علي؟
تدل خطة الاغتيال الثلاثي التي رسمها الخوارج ونفذوها على خصوبة فى الخيال العنفي تقترن بحيوية التحرك غير المقيد باعتبارات ضيقة. وهي تمثل من هنا نهجا قتاليا ثابتا لا يطاله التردد ولا يخضع لدقة في لحساب أو براعة في التخريج النظري.لكن أصحاب الخطة تجاهلوا عنصر هاما فى تكتكة العنف وهو ترتيب الأولويات في المجابهة ضد خصوم متفرقين ومختلفين في أهدافهم، وما يتيحه ذلك من إمكان العمل على كسب الأقرب إليهم لضرب الأبعد. وبالطبع فهذا يعني وجود توجه جبهوي، وهو ما لم يعرفه تاريخ الخوارج قط. وقد انطوت الخطة من هذه الجهة على خطأ سياسي كبير تمخض مع نجاحها في اغتيال علي وحده، عن كارثة على الخوارج أنفسهم.
فقد ترتب على مقتل علي بن أبى طالب إنهاء خلافة الراشدين وإقامة الخلافة الأموية، وقطع أي احتمال للحوار السلمي يمكن أن يظل قائما مع بقاء السلطة الراشدية. وقد وجد الخوارج أنفسهم بعد انفراد معاوية بالسلطة أمام عدو مختلف حصرهم بين خياري القتال أو البيعة.أضف إلى ذلك أن مقتل علي حرم الخوارج من الميزة التكتيكية التي تمثلت بوجود معسكرين متناحرين يشغلهما الاقتتال بينهما عن التفرغ لهم. وكان لدى الخوارج بفضل وجود هذين المعسكرين فرصة ثمينة لتنظيم أنفسهم والعمل على إقامة قاعدة لهم في موقع مناسب خارج نفوذ علي ومعاوية اللذين اقتصرت سلطتهما الفعلية على الشام والعراق.
كان ثمة أيضا خطر لم يحسب الخوارج حسابه، فماذا كان سيحدث لو نجحت الاغتيالات كلها؟ الخوارج لم يطرحوا على أنفسهم هذا السؤال. والمصادر التي تحدثت عن الأمر لم تتحدث عن أية لواحق يمكن أن تكون قد ارتهنت بالخطة في حال نجاحها. ويمكن القول ببساطة ، حسب هذه المصادر ، إن قرار الاغتيالات كان أحاديا مبتورا يكتفي بتصفية الزعماء الثلاثة بوصفهم سبب فساد الأمة.وليس لدينا ما يدل على أن الخوارج فكروا في استثمار هذا الاقتحام الكبير للتحرك نحو استلام السلطة وإعلان قيام خلافة جديدة. وهو الاتجاه المعقول الذي يبرر مثل هذه المغامرة ويعطيها مفعولها التاريخي المكافئ.
وفي ضوء هذه الثغرة الواسعة في الخطة فإن نتيجة شديدة الاحتمال كان يمكن أن تترتب على شغور القيادة الإسلامية وهي أن يقع تحرك من الجانب البيزنطي المتربص على حدود الشام لتوجيه ضربة سريعة وخاطفة كانت ستؤدى على الأقل إلى إعادة احتلال بلاد الشام. ونحن نعرف أن محاولات من هذا القبيل حصلت عند اندلاع الحرب الأهلية بين العراق والشام مرتين، في عهد معاوية وفي عهد عبد الملك بن مروان. لكنها اصطدمت حينذاك بخليفتين عظيمين كانت مواهبهما السياسية والعسكرية تتألق في ظروف الأزمات فتمنحهما القدرة على احتواء التحركات المضادة مهما تعددت جبهاتها. وكان من المستبعد أن لا ينجح البيزنطيون هذه المرة مع ما سيحدثه اغتيال القادة الثلاثة من اختلال في أوضاع الأقاليم الإسلامية المصاقبة لهم، الشام والعراق ومصر، وهي نفس الظروف التي مكنت الصليبيين في عصر لاحق من القيام بفتوحاتهم الظافرة في الشام.
ولم يكن للخوارج من الحنكة السياسية ما يبصرهم بهذا المرتقب. وتدل خطتهم الثلاثية على براعة حزب مسلح يمتلك المؤهلات العالية للاقتحام العسكري الناجح، لكن غير المقرون بتخطيط سياسي يبرر الإقدام عليه. فالخوارج كانوا مقاتلين جمعوا إلى الروح الفدائية فقرا ملحوظا في العمل السياسي. ويصدق هذا الوصف على الفرقة بتشعباتها العديدة طوال الخلافة الأموية، ولو أنهم اكتسبوا من بعدها بعض الخبرات التي ساعدتهم على التوصل إلى إقامة كيانات سياسية صغيرة نسبيا، خلال الحقبة الأولى من الحكم العباسي.
تعقيب: في تعليق على الكتاب قالت جريدة النهار البيروتية أني أغفلت في مسألة اغتيال علي وجود تواطؤ عليه بين الخوارج ومعاوية. وهي تبني ذلك على رواية مفردة تقول إن الخارجي المكلف بقتل معاوية أبلغه أن عليا مقتول في هذا اليوم وإن لم يقتل فإنه مستعد للتوجه إليه وقتله. وكان ذلك في محاولة للتخلص من القتل. وأن معاوية حبسه حتى جاء الخبر بقتل علس فأطلقه. ويقول أبو الفرج في " مقاتل الطالبين" ص 30 أن بقية الرواة متفقون على أن معاوية قتل الخارجي في الحال. وحتى لو صحت الرواية الأولى فهي لا تتضمن خطة مسبقة مع الخوارج بل مبادرة فردية من رجل أراد التخلص من القتل. ويستحيل على الخوارج أن يعقدوا مثل هذه الصفقات..
اغتيال مالك الأشتر
كانت مصر من محاور الصراع بين علي بن أبي طالب والأمويين لما تتمتع به من ثقل استراتيجي يمكن أن يساهم في ترجيح كفة الطرف الذي يسيطر عليها. وقد اختار علي لولاية مصر أول الأمر قيس بن سعد بن عبادة فاستطاع ضبطها وإحباط محاولات الأمويين لانتزاعها من علي. غير أن معاوية توصل فيما بعد وبأساليبه الماكرة إلى زعزعة الثقة بين قيس وخليفته، القليل الدهاء، فعزله عن مصر. وقد عين علي في مكانه ربيبه محمد بن أبي بكر وهو شاب متحمس ولكنه ضعيف الخبرة. بيد أن علي وقد أدرك جسامة الخطر الذي يتهدد مصر سعى لتعزيز الولاية بشخصية كفوءة أخرى هي مالك الأشتر أحد قادة الحركة المسلحة التي أوصلته إلى الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان. وقد سبب تعيين الأشتر لولاية مصر قلقا شديدا لدى معاوية فسعى لمنعه من الوصول إليها. وتختلف الروايات في وصف الطريقة التي تم بها لمعاوية الخلاص من الأشتر ولو أنها تتفق في جملتها على أنه اغتيل وهو في طريقه إلى مصر.
وفيما يلي عرض لهذه الروايات مأخوذ من " شرح نهج البلاغة" لابن أبي الحديد..
- إن معاوية بعث إلى رجل من أهل الخراج يثق به وعرض عليه أن يعفيه من الخراج المترتب عليه طيلة حياته إذا تمكن من اغتيال الأشتر. وكان هذا الرجل يقيم في مفترق سبل تؤدي إلى مصر والحجاز على البحر الأحمر يمر منه من يريد التوجه إلى مصر. فلما وصل الأشتر إلى هناك تلقاه الرجل وضيفه. وكان قد أعد شربة عسل مسمومة فقدمها له بعد الطعام فلما شربها مات على الأثر.
- إنه بعث رجلا ليتابع الأشتر حتى يحتال في اغتياله. وكان الرجل يحمل مزودتين فيهما شراب. فاستسقاه الأشتر يوما فأعطاه من إحدى المزودتين، وكانت مسمومة ولما شربها مال عنقه ومات. وهرب الرجل قبل أن يلحق به رجال الأشتر.
- إنه دس إليه رجلا من موالي عمر بن الخطاب. وكان آل عمر قد انحازوا إلى الأمويين منذ أيام عثمان لكن معسكر علي لم يصل غلى درجة القطيعة معهم، بتأثير بعض الوشائج التي كانت تجمع بين علي وعمر في سنواته الأخيرة، وقد اطمأن الأشتر إلى الرجل وضمه إلى مرافقيه في سفره. وبينما هم في بعض الطريق وعطش الأشتر قدم له المذكور شربة سويق مسمومة فمات منها.
تتفق ههذ الروايات على أن الأشتر اغتيل بالسم وبتدبير من معاوية وأن السم فى شراب من عسل أو ماء أو سويق. ورواية العسل أكثر شيوعا، وقد وردت عن الواقدي وهو مؤرخ مبكر وموثوق ، وروايته تفيد أن الرجل الذي سم الأشتر كان دهقانا في العريش. وهذه البلدة من أعمال مصر لكنها قريبة إلى الشام. وقد اقترنت بالحادث كناية مشهورة لمعاوية وهي قوله بعد أن بلغه نفاذ خطته:" إن لله جنودا من عسل، أو منها العسل" والله كما نعلم قاسم مشترك لجميع الأطراف والطبقات والأحزاب المتصارعة في مجتمعات الأديان السماوية الثلاثة. أدى اغتيال الأشتر إلى خسارة قائد كبير كان علي بن أبي طالب يعتمد عليه كثيرا في صراعه المرير ضد الأمويين مما مكن معاوية أخيرا من الاستيلاء على مصر بعد أن انفرد بحاكمها الضعيف محمد بن أبي بكر.
وقد نجحت الخطة لأنها اعتمدت ، بحسب الروايات كلها، على استغفال مالك الأشتر وهو درس استفاد منه اللاحقون في إحباط وتنفيذ خطط مماثلة كما سيأتي تفصيله في القسم التالي.
دلالات مستخلصة من حوادث الاغتيال الراشدية:
ترجع الاغتيالات في هذه الحقبة إلى الأصل الذي بني عليه الإسلام كتحرك سياسي - اجتماعي أملته ظروف العرب الخاصة في المقام الأول، والظروف العامة للمنطقة في المقام الثاني. وقد رأينا كيف سلك مؤسس الإسلام بعد هجرته إلى يثرب خط العمل العسكري، بما في ذلك الاغتيالات، كنهج ثابت أشاح به عن نهجه التبشيري الذي اتبعه في مكة. وترتهم سياسات النبي محمد في يثرب بصراع قومي موجه لتوحيد أمة/ أرض في دولة ومجتمع . بينما يعكس نهجه في مكة حالة صراع اجتماعي داخل معشر محدود هو المعشر القريشي- المكي- وكان ثمة صراع من هذا القبيل في يثرب ولكن داخل نفس الحركة بين الفئات الاجتماعية والقبلية التي تتكون منها كتلة الصحابة المشكلة لقوام الحركة في طورها اليثربي.
وحيث أفلح الإسلام في إقامة مجتمع ودولة شملت الجزيرة بامتداداتها العراقية والشامية وما وراءها من أقاليم ، فقد تعين عليه أن يواجه كل مرتكساتها. فالمجتمع يعني الصراع والدولة هي أداة الصراع التي لا وجود لها من دونه. وهو أداة قابلة للتداول. ( اسم الدولة فى العربية مأخوذ من هذا المعنى الدال فى جوهره عل الصراع) . ولو أراد محمد لحركته أن تكون دعوة ولنفسه أن يكون محض مبشر فإن شيئا مما قد سردناه للتو لن يقع في أوانه. ولو أننا قد لا نعدم عندئذ شيئا آخر، ولكن بعد مضي قرون يكون فيها الإسلام قد تمكن من قلوب الناس، وتوطدت مؤسسته الدينية، المؤهلة لأن تضع نفسها في خدمة دولة خارجة عنها لتكون أداتها القمعية أو غطاءها الأيديولوجي، مثلما تهيأ للمسيحية والبوذية بعد ثلاث قرون من وفاة صاحب الدعوة.
وهناك دلالة هامة في أن كتاب الإسلام المقدس لم يصطبغ، رغم مضاهاته للكتب المقدسة التي قبله في طقوسيتها .بقداسة أحادية تجعل منه كتابا إلهيا عديم اللحم والعظم، فقد استغرقه التناحر فأضفى عليه صفة خاصة به، ويتجاوز عدد المرات التي ذكر فيها القتل بمشتقاته في القرآن عدد المرات التي ورد فيها ذكر الصلاة بمشتقاتها ( حوالي 174 مقابل 99) . ولغة الصراع في الإسلام تحريضية شديدة النبرة تذكر القارئ بلغة البلاغات الحربية. ولا شك في أن مؤسس الإسلام كان يستجيب في ذلك لمستلزمات وضعه/ مهمته التاريخية .
وهو في الحقيقة لم يكن شديد الافتقار إلى الوعي بنواميس التاريخ البشري لأنه سجل في كتابه أن الناس لا يمكن أن يكونوا أمة واحدة فهم " لا يزالون مختلفين، إلا ما رحم ربى، لذلك خلقهم" خلقهم كما يقول المفسرون ليختلفوا لا ليتفقوا. وإذا كان الناس في حسابه لا يمكنهم أن يكونوا أمة واحدة فهو يعرف أيضا أن أمته نفسها لن تنجو من الاختلاف. وقد عايش بنفسه ولا سيما في مرحلة ما بعد مكة ، جانبا من التكتلات التي بدأت تشق الصحابة إلى أجنحة. ولم يكن بمقدوره، لو أراد، أن يؤلف بين أتباعه، وهم طبقات لا طبقة واحدة، ولا من أن يمنعهم من الاقتتال وهم ينظمون حياتهم وفقا لعلائق المادة وليس الروح، شأن غيرهم في كل زان ومكان.
كان الصراع الذي خاضه الإسلام الأول من الحدة بما يكفي لتعزيز صياغة شخصية تناحرية مشتركة بين طبقات المجتمع الجديدة الظالمة والمظلومة. ولو أن هذه الشخصية لم تنشأ من فراغ إذ يمكننا في الواقع أن نتابعها في الشخصية الجاهلية التي يشغل السيف موقعا مؤثرا في علاقاتها. والمجتمع الجاهلي هو كما نعلم مجتمع تناحري لم يعرف السلم إلا كهامش استغرقته الأشهر الحرم الأربعة في أضيق نطاق. ولم تقتصر هذه الظاهرة على الأغلبية الوثنية من العرب، حيث جرت العادة على اتهام الديانة الجاهلية بتأجيج العداوات، فالمسيحية الشرقية التي اعتنتقها بعض القبائل ، ومنها قبائل كبيرة مثل تغلب، لم تستطع أن تخلق من البدوي مسيحيا بسيطا من الغرار الذي عرفاه مثلا في الحيرة. يقول الشاعر المسيحي جابر بن حني التغلبي ردا على استخفاف صدر من قبيلة بهراء تجاه قبيلته:
وقد سبق لبني تغلب أن قتلوا ملكا في الحادثة المعروفة . والشاعر يرد هنا ليس على بهراء وحدها، بل وعلى تعاليم الخد الأيمن لنبيه.. وثمة إدراك لضرورة هذا اللون من العلاقات يتمشى مع التورط فيها عمليا. فالطبري ينسب إلى عمر بن الخطاب أنه علم المسلمين أن يطيعوا الخليفة إذا استقام ويقتلوه إذا اعوج . ولما اقترح عليه أحدهم الخلع بدل القتل رد عليه أن القتل أنكل لمن بعده، أي أكثر ردعا. وسواء صدر هذا التوجيه عن عمر أو غيره فهو يحمل نزوعا إلى أدلجة وشرعنة ما جرى في صدر الإسلام.
يمكننا أخيرا أن نرصد مؤشرين لهذه الأحداث: أولهما هو دلالتها، رغم ما قد يكون فيها من تكدير لمزاج الإنسان المستريح، على حيوية مجتمع غير قابل للاستخضاع، لأنه يشتمل فى مقومه الأرأس على تلك الشخصية الاجتماعية القادرة على التصرف خارج دائرة المحرمات حيثما اصطدمت بقناعاتها، أو بكلمة أدق، بمصالحها الجوهرية. الثاني أن العنصر التحريضي للإسلام يؤكد هنا حضوره على حساب الدور التخديري للدين، إذ لا يسعنا بحال أن نفصل ما حدث في صدر الإسلام عن الإسلام نفسه . ويمكننا أن نتلمس في هذا المجرى تلك المؤثرات المتعددة المصادر التي خصلت مجتمع صدر الإسلام سواء ما يعكس منه امتدادات المجتمع الجاهلي أو ما هو نتاج الصراعات الاجتماعية التي سبقت أو زامنت نشوءه.
وبالطبع فإن هذه الحالة ما كانت لتستمر طويلا مع وجود الدين كتكوين جوهري في الوعي الإسلامي. وسنصادف في وقت مبكر نسبيا محاولات لاهوتية لضبط سلوك المسلم يتصدرها الحسن البصري، وهو فقيه ومتكلم من أصل فارسي لم يعايش الإسلام الأول ولم يمتحن بموروثات العصر الجاهلي.
وكان يتكلم بلغة دينية ناضجة لا تشوبها لكنة جاهلية، من ذلك الغرار المألوف لدى الأحبار الخلص. والحسن البصري هو من أقدم مؤدلجي السلام الاجتماعي في الإسلام، ولو أن آراءه لم تتفق في حياته لأنها ظهرت في وقت كان العنصر التحريضي للإسلام لا يزال أيدا في نفوس أتباعه وكان الكثير من الفقهاء لا يزالون يتلقون الجلد والنفي على أيدي الخلفاء الأمويين وولاتهم.
وقد أخرج ابن عساكر في ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي ما يلى: لما كانت فتنة أبن الأشعث – يقصد انتفاض أهل العراق بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث الكندي ضد الحجاج- دخل جماعة على الحسن فقالوا: ما تقول في هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال الحرام وترك الصلاة وفعل وفعل؟ وذكروا من أفعاله فقال الحسن:" لا تقاتلوه فإنه إن يكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم.وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين" فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟ وكانوا قوما عربا فخرجوا مع ابن الأشعث. وإشارة ابن عساكر أنهم كانوا من العرب وأنهم نبزوا الحسن بأنه " علج" يقصدون أعجمي يكرس ما ذهبنا إليه بشأن العنصر التحريضي لإسلام صدر الإسلام بتركيباته المعقدة التي لم يستوعبها الاكليروس الناشئ الذي كان الحسن البصري يعبر عن اتجاهاته.
الفصل الثالث:في الخلافة الأموية
في هذه الحقبة ، كانت الاغتيالات السياسية متقابلة بين السلطة والمعارضة. وقد مارسها الخلفاء الأمويون بدءا من معاوية الذي استهلها باغتيال مالك الأشتر في خلافة علي ثم واصلها بعد انفراده بالخلافة . أما المعارضة فقد انفردت منها الخوارج بالتوسع في الاغتيال بادئين بما حدث منها على يد السلطة.
اغتيال الحسن بن علي
كان الحسن قد سلم الخلافة لمعاوية بعد مقتل والده، انسياقا مع نهجه الاستسلامي المعروف. لكنه اشترك في عقد التسليم، تحت ضغط المتشددين من أصحاب علي، أن تعود إليه الخلافة بعد وفاة معاوية. وكان هذا الشرط في غاية الخطورة بالنسبة لمستقبل الخلافة الأموية، لأنه يعني احتمال استعادة الراشدين للخلافة في شخص الحسن، الذي كان أصغر سنا من معاوية. ولم يكن أمام الأمويين من خيار إلا التخلص من الحسن بوسيلة ما. لكن معاوية لم يستعجل الأمر، لأن وريثه يزيد كان لا يزال صغيرا وكان التفكير في تعيينه وليا للعهد سابقا لأوانه.
ولذلك عاش الحسن لمدة عشر سنوات بعد تنازله وهو في دعة ينتظر، أو على الأصح، ينتظر أصحابه موت معاوية ليعود إلى المطالبة بالخلافة بحكم العقد المبرم بينهما. وفي هذه المدة كبر الوريث وصار مؤهلا للولاية، كما جرى تطبيعه في عيون أهل الشام وبني أمية على السواء، واقترب معاوية من شيخوخته بينما الحسن لا يزال يتمتع بشبابه. وعندئذ بدأ معاوية يفكر في إزالة هذه العقبة التي تحول دون استمرار الخلافة في أسرته.
ثمة ما يشبه الإجماع على أن الحسن مات مسموما ، مع الميل إلى تحميل زوجته جعدة بنت الأشعث الكندي مسئولية ذلك. وقد وردنا شعر يرثي فيه كثير عزة- أو النجاشي الشيعي- الحسن ويستهله بتوجيه الخطاب إلى جعدة إشعارا باتهامها . وكنا قد أشرنا في القسم الثاني إلى موقف الأشعث بن قيس المناهض لعلي والمتواطئ مع معاوية. ويبدو أن هذه الزيجة كانت تدبيرا من على للتقرب من الأشعث واستدراجه إلى جانبه. والأشعث زعيم كندة شبه المطاع إذ هو سليل ملوكها الغابرين. لكن حسابات علي لم تكن موفقة، فالمصالح الاجتماعية غالبا ما تعلو على اعتبارات القرابة ناهيك عن المصاهرة.
وقد تواطأ الأشعث مع قتلة علي فليس من الصعب أن يكون لدى ابنته التي نشأت في بيت تآمر، مناوئ لعلي وأولاده استعداد للقيام بدور مماثل لما قام به أبوها. وكان معاوية يعي هذه الحقائق وعي الحاكم الخبير باتجاهات وسرائر رعاياه. ومن المثير للانتباه أن جعدة بقيت زوجة للحسن الذي عرف بكثرة التطليق ولم تكن المرأة تثبت عنده إلا قليلا. ولعلها بقيت كذلك تقديرا لمكانتها وما ينجم عن ذلك من تمتين الروابط مع قبيلة كندة القوية. من بين الذين أكدوا تسميم الحسن، " المدائني" وهو من أقدم كتاب السير. وقد وردت روايته في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. وهي تفيد بأن الحسن توفي بعد مرض دام أربعين يوما وأن معاوية دس له سما على يد جعدة بنت الأشعث زوجته. وقال لها إن قتلتيه بالسم فلم مائة ألف ( درهم) وأزوجك يزيد ابني. فلما مات الحسن وفى لها بالمال ولم يزوجها من يزيد لعدم اطمئنانه إليها. لكن قول المدائني أن مرض الحسن دان أربعين يوما غير واقعي بالنسبة لمسموم. ويغلب على الظن حصول التباس في معدود الأربعين، وقد ورد في رواية ابن عساكر أن الحسن بعد أن سم كان يوضع تحته طست ويرفع نحوا من أربعين مرة.
يشير إلى ما أحدثه السم فى بطنه من مفاعيل. فلعل المرة صارت فى رواية المدائني يوما على جهة الاشتباه. ونص على موت الحسن مسموما ابن عبد البر في الاستيعاب" عن قتادة وأبي بكر بن حفص، وهما من قدماء الرواة. هؤلاء الرواة في تعقيب على هذا الخبر أن جعدة كان لها ضرائر. والمقصود من ذلك إلقاء الشك على علاقتها بزوجها قبل أن يحدث له ما حدث.
وأشار إلى موته مسموما ابن حجر فى " الإصابة " و " تهذيب التهذيب" وابن الأثير في " أسد الغابة" والكتب الثلاثة هي ، إلى جانب الاستيعاب من المصادر المعتمدة في التراجم.
ويلاحظ تجاهل الطبري لوفاة الحسن فلم يذكرها في حوادث السنين التي يرجح المؤرخون وفاة الحسن في إحداها . لكن ابن الأثير ذكرها في حوادث سنة 49 ، ونص على وفاته مسموما على سبيل القطع كما فعل في " أسد الغابة" وهو بذلك يستدرك على أستاذه الطبري ( تاريخ ابن الأثير " الكامل" مبني على تاريخ الطبري حتى السنة التي ينتهي بها ثم يكملها حتى السنة التي تسبق وفاته وهي سنة 629هـ ) لكن الطبري ذكر ذلك في " ذيل المذيل" عند ترجمته للحسن. والطبري يتحسس للأخبار التي تسيء إلى الأمويين فيسعى لاستبعادها ما استطاع.
وروى ابن كثير في البداية والنهاية (حوادث 49) أن الحسن مات مسموما بتدبير من معاوية. وأن الذي دس إليه السم خادم له، في رواية، وفي روايات أخرى زوجته جعدة. وأثبت الرثاء الذي يستهله الشاعر بمخاطبة جعدة ونسبه إلى كثير عزة. والرواية التي تتهم الخادم بتسميمه غير مشهورة في المصادر، التي تميل في جملتها إلى اتهام الزوجة بذلك.
وربط أبو الفرج مشروع البيعة ليزيد بالتخلص من شخصيتين هما الحسن بن علي وسعد ابن أبي وقاص . وكان سعد من بين القلائل الذين تبقوا من قادة الإسلام الكبار، الذين يعسر تخطيهم في خطط الاستخلاف، لا سيما لشخصية عادية مثل يزيد. ويجب أن يفسر التخلص من سعد، إذا صحت رواية أبو الفرج، بمعارضته لاستخلاف يزيد وليس بطمعه في الخلافة لأنه كان يومذاك قد عمي، والبصر شرط رائس في صحة الاستخلاف عند المسلمين.
إن لجوء معاوية إلى السم للتخلص من المناوئين قد أشار إليه ابن أبي أصيبعة لدى ترجمته للطبيب السرياني ابن أثال. فقد جاء في " عيون الأنباء" أن ابن أثال كان متخصصا بالسموم، وأن معاوية كان يقربه لذلك كثيرا. ثم استطرد فقال: ومات في أيام معاوية جماعة كثيرة من أكابر الناس والأمراء من المسلمين بالسم. وتلقى هذه الملحوظة الهامة لابن أبي أصيبعة بعض الضوء على الوفيات المشبوهة لأمثال سعد بن أبي وقاص ، رغم أن المؤرخين لم يعنوا باستقصائها في ترجمتهم لهذه الشخصيات عدا الحالات المشهورة مثل حالة الحسن بن علي.
ويبدو أن أثال كانت له مدرسة ومريدون في هذا الفن، لأنه قتل في وقت مبكر من خلافة معاوية كما سنبين، بينما اهتمام معاوية بمسألة التخصص في تحضير السموم إنتاج سموم لطيفة لا يظهر لها أثر. وقد ذكرت الروايات التي تحدثت عن موت الحسن إنه سقي السم مرات عديدة فلم يمت، مما ألجأ فيما يبدو إلى استعمال وصفة أشد مفعولا هي التي قتلته. وتدل المحاولات الفاشلة السابقة على أن السموم كانت ضعيفة المفعول بسبب المبالغة في لطافتها. بعد موت الحسن بدأ معاوية مساعيه العلنية لمبايعة يزيد وليا لعهده. وقد نظر بعض القدماء إلى هذا الحدث على أنه من الأحداث الفاصلة في تحول الخلافة إلى ملكية، واشتداد وطأة الاستبداد على العرب.
وينقل أبو الفرج عن رجل يدعى أبو اسحق أنه سئل: متى ذل الناس؟ فقال: حين مات الحسن، وادعي زياد وقتل حجر. وهي ثلاثة أحداث متكاملة الدلالة في هذا الصدد، فموت الحسن أفسح المجال لمبايعة يزيد حيث اتخذ تحول الخلافة إلى ملكية شكله الرسمي، وادعاء زياد(استلحاقه بآل أبي سفيان) ارتهن بتسلطه على العراق ليفرض على أهله أول سياسة قمعية يقع العرب تحت طائلتها. وقتل حجر( ابن عدي الكندي) بأمر من معاوية نظر إليه في حينه على أنه تحدي مباشر للعرب الذين كانوا حتى ذلك الوقت يجاهرون بمعارضتهم للدولة دون أن تجرأ على قمعهم بهذه الطريقة.
اغتيال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد
كان عبد الرحمن قائدا عسكريا مرموقا كوالده. وقد انضم إلى معاوية في صراعه ضد علي بن أبى طالب . وبعد أن استتب الأمر لمعاوية عينه لقيادة جبهة الفتوحات في آسيا الصغرى (أرض الروم) ، التي بدأ المسلمون يقضمونها بالتدريج بعد إخراج البيزنطيين من بلاد الشام. وقد أحرز عبد الرحمن نجاحات كبيرة في حروبه هناك جلبت له شهرة واسعة بين أهل الشام أضيفت إلى رصيده الموروث من والده .
ويذكر الطبري أن عبد الرحمن انصرف عام 46 من بلاد الروم إلى حمص وان قد عظم شأنه بالشام ومال إليه أهلها لما كان عندهم من آثار أبيه ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه ، حتى خافه معاوية فأمر ابن أثال أن يحتال في قتله. فلما وصل عبد الرحمن إلى حمص دس إليه أثال شربة مسمومة، يقول ابن أبي أصيبعة إنه شربة عسل ، فمات منها.
وكافأ معاوية ابن أثال بإعفائه من الضرائب طيلة حياته وتعيينه واليا على خراج ( ضرائب) حمص.إن رواية الطبري، التي اعتمد عليها ابن عساكر وابن أبي أصيبعة كما يبدو، تجعل سبب الاغتيال خوف معاوية من منافسة عبد الرحمن له في سلطانه، لكن رواية لأبي الفرج تربط الحدث ببيعة يزيد وخلاصتها أن معاوية لما أراد أن يظهر البيعة لابنه قال لأهل الشام إن أمير المؤمنين قد كبرت سنه ودق عظمه واقترب أجله ويريد أن يستخلف عليكم فمن ترون؟ فقالوا: عبد الرحمن بن خالد. فسكن وأضمرها في نفسه حتى دس إليه الطبيب ابن أثال ، فسقاه سما فقتله.
قد يكون محتملا أن معاوية خاف على نفسه من عبد الرحمن عندما نعتبر أن تصفيته تمت في وقت مبكر نسبيا- بعد خمس سنوات من انفراده بالسلطة. لكن الباعث الأقوى يجب إرجاعه إلى بيعة يزيد إذ يصعب القول أن معاوية الذي انتصر على رجل كعلي بن أبى طالب يخشى رجلا كعبد الرحمن بن خالد، بينما نجد عبد الرحمن يشكل خطرا حقيقيا إزاء ابنه يزيد، الذي لا يمتلك مثل رصيده. وتبدو رواية أبو الفرج من هنا معقولة أكثر، مما يحملنا على الاعتقاد أن اغتيال عبد الرحمن بن خالد يندرج في نفس الاعتبارات التي أدت إلى اغتيال الحسن بن علي والوفاة المشبوهة لسعد بن أبى وقاص وهي إزالة عقبات تقف دون البيعة ليزيد واستمرار الخلافة في بني أمية.
تمت عملية اغتيال عبد الرحمن بن خالد في سهولة أكبر، بالقياس إلى اغتيال الحسن. ذلك لأن عبد الرحمن لم يكن يحس بحاجة إلى التحفظ من خطر كهذا نظرا لعلاقاته الطبيعية بمعاوية. وقد حدثت قبل اغتيال الحسن وقبل شيوع الحديث عن بيعة يزيد، أي في وقت لم تظهر لعبد الرحمن بوادر تثير مخاوفه.
لكن العملية انكشفت بعد وقوعها وأدت إلى ردود فعل مباشرة انتهت باغتيال الطبيب ابن أثال . وقد قام بذلك ابن المغدور أو ابن أخيه، بحسب اختلاف الروايات واسم كليهما خالد(تميل الروايات إلى أنه ابن الأخ) وتفيد رواية أوردها أبو الفرج أن هذا الشخص كمن لابن أثال في مسجد دمشق وكان يمسي مع معاوية فلما خرج من القصر وحاذاه وثب عليه فقتله. وقد اعتقله معاوية وأمر بجلده مائتي سوط وأغرمه الدية ألفي دينار. وبقي في السجن حتى وفاة معاوية.
وتقول الرواية إنه قال لمعاوية عند اعتقاله : " قتلت المأمور وبقي الآمر" وهذا مجرد تهديد، إذ كان المفروض أن يبدأ بالآمر لأنه الفاعل الأصلي. لكن من الواضح أنه قد اختار الأسهل والأقل كلفة. وهو بذلك قد تصرف بموجب حساب مسبق حدد له سلوكا مزدوجا: لم يسكت عن الجريمة التي ارتكبت بحق والده، أو عمه. ولم يذهب في إدراك ثأره إلى المدى المطلوب حين قرر قتل المأمور دون الآمر. ومع أن المأمور يستحق نفس العقوبة لا سيما وهو طبيب مؤتمن على أرواح الناس فخان رسالته وتحول إلى أداة قتل بيد السلطان) فقد كان الأولى بالموتور أن يبدأ بالخليفة، لولا أنه استرخص الثمن.
ولا شك في أنه كان واثقا أنه لن يقتل إذا اغتال المأمور، بخلاف ما لو اغتال أو حاول اغتيال الآمر. وحسابه مبني على اعتبارين: مكانته الأعلى بوصفه حفيد خالد بن الوليد، ومكانة القتيل الدون بوصفه طبيبا غير مسلم. وهو حساب مضبوط أدرك به جزءا من ثأره من دون أن يكلفه حياته. ومما يؤكد لنا أنه أجرى هذا الحساب سلفا ما ذكرته رواية أبو الفرج من أنه أشرك في كمينه رجلا من مواليه يمتاز بشدة البأس ورسم له خطة تقضي بأن يكون هو الذي يتولى قتل ابن أثال بينما يقتصر دور المولى هو الذي تولى قتل الطبيب لكان من المحتمل أن يقتل به، لا سيما وهو يتجرأ على اغتيال طبيب الخليفة وأداته الضاربة في تصفية خصومه ومنافسيه.. وربما ساعدنا هذا الموقف الأخلاقي من جهته على ترجيح أن قاتل الطبيب هو ابن الأخ وليس الابن.
وابن الأخ هو خالد بن المهاجر بن الوليد ، وكان أبوه مع علب بن أبي طالب خلافا لأخيه الموالي لمعاوية والأمويين، ولابد أن الولد قد اكتسب من خلال ذلك شيئا من أخلاقيات علي ابن أبي طالب هي التي جعلته يتجنب توريط مولاه في قضية تخصه شخصيا، رغم ما انطوت عليه خياراته من حسابات ربح وخسارة لم تكن لعلي بن أبي طالب خبرة كافية لها.
اغتيال عمر بن عبد العزيز
تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة بين عامي 99 و 101 هـ ومجمل مدته سنتين ونصف. وكانت خلافته بمثابة انقلاب ( أبيض) ضد السياسة الأموية نفذ في أثنائه إجراءات كثيرة وجذرية استهدف بعضها الاتجاه العام للخلافة السائدة وبعضها الآخر المصالح المباشرة لأركان الأسرة. وكان مقدار الخطر الذي حملته خلافة عمر بن عبد العزيز على الوضع الأموي يكفي لإثارة ارتكاسات شديدة من جانب أسرته. لكن هذه الارتكاسات ظلت متطامنة وعبرت عن نفسها في احتجاجات هادئة أخذت في الغالب شكل عتاب أو نصائح من شيوخ الأسرة ووجهائها.. وفي هذا السياق المتطامن نفسه تأتي الوفاة العاجلة للخليفة لتضع حدا لانقلابه القصير العمر.
توفي عمر بن عبد العزيز قبل أن يكمل الأربعين. وكان لا يزال شابا لم يستهلك طاقاته البدنية بالإسراف الذي اعتاده الخلفاء وأبناؤهم في الملذات الحسية وقد ذكر ابن كثير في حوادث 101 من البداية والنهاية أنه مات باسل، في رواية، وبالسم في رواية أخرى. لكن مصادر سيرة عمر لم تتحدث عن أعراض سل حين تحدثت عن مرضه الذي توفي به. وتتجه معظم الروايات غلىا لقول أنه مات مسموما. وقد أورد الطبري في حوادث 99 التي أعقبت استخلاف عمر بعد أن استعرض مفاوضاته مع وفد من الخوارج أن بني مروان " خافوا أن يخرج ما عندهم وفى أيديهم من الأموال فدسوا إليه من سقاه سما" ذكر الطبري ذلك بعد أن تحدث عن اتفاق وشيك بين الخوارج وبين الخليفة يعلن الخوارج بموجبه تأييدهم له مقابل خلع يزيد بن عبد الملك من ولاية العهد.
وكان يزيد وليا لعهد عمر بموجب وصية سليما بن عبد الملك التي تضمنت استخلاف عمر ثم يزيد، وكان ذلك هو الاعتراض الأساسي الذي أبداه الخوارج على سياسة عمر. وفيما يتعلق بخبر اغتياله بالسم فإن رواية الطبري لها قيمتها الكبرى في إثبات هذا الاحتمال، لأن هذا المؤرخ الكبير قلما يتبنى خبرا مضادا للأمويين ما لم يتثبت منه. وقال الكتبي فى " الوفيات" ما نصه : سقاه بنو أبيه السم لما شدد عليهم وانتزع كثيرا مما في أيديهم . بينما ذكر أبو الفدا في ترجمته لعمر في مختصره أن موته بالسم معروف لدى أكثر الناس. وقد نص على وفاته مسموما كذلك الشعراني في طبقاته عند ترجمته لعمر في المجلد الأول. بينما أورد الغزالي في أحياء علوم الدين ، أن أعراض تسمم ظهرت في مرض عمر الذي توفي فيه.
اكتشف ذلك طبيبه وأخبره بها فقال عمر إنه قد أحس بالسم حين وقع في بطنه. وفي " حلية الأولياء" لأبي نعيم حكاية ذات مضمون غيبي تحدثت عن تسميمه نسبت غلى الوليد ابن هشام ( لم يذكر إن كان عبد الملك) قال فيها: لقيني يهودي فأعلمني أن عمر سيلي أمر هذه الأمة فيعدل فيه. فلقيت عمر فأخبرته بقول اليهودي . فلما استخلف عمر ودنت وفاته لقيني اليهودي وقال لي: إن صاحبك قد سقى فأمره فليتدارك نفسه. قال فلقيت عمر فذكرت ذلك له. فقال : قاتله الله ما أعلمه. لقد عرفت الساعة التي سقيت فيها.
لا شك أن مخترع هذه الحكاية قد استفاد من وجود خبر ذائع عن تسميم عمر لإعطائه " كرامة ولي" مما يحرص ذوو الأمزجة الصوفية على منحها للأولياء. ومن المعتاد للحكايات التي تتوخى هذا الغرض أن تجري على لسان يهودي أو نصراني لأنهم عند المسلمين من أهل العلم الأول الذين سبقوهم إلى الاتصال السماء.
وتقرن رواية لابن عبد الحكم تسميم عمر بحكاية عن ملك الروم تقول إن الملك المذكور لما بلغه سقى عمر أرسل إليه رأس الأساقفة وكتب إليه يعلمه حاله عنده وما يحفظه له من الحق عنده بوصفه من أهل الخير وطاعة الله ويقول له إنه قد بلغني أنك سقيت وقد بعثت إليك رأس الأساقفة وأطبهم(أعلمهم بالطب) ليعالجك مما بك. فقد عليه فقال لع مر: انظر إلي فجسه فقال: سقيت يا أمير المؤمنين . وتقول الرواية إن عمر أبى أن يتقبل العلاج الذي وصفه له المبعوث الرومي. وأنه دعا في نفس الوقت الرجل الذي اتهمه بدس السم إليه فاستجوبه فاعترف وقال إنه خدع وغر فقال عمر: خدع وغر، خلوه، ولم يعرض له بشيء.
والحكاية بقدر ما يتعلق بملك الروم باطلة، لأن مدة وصول الخبر وإرسال رأس الأساقفة لا تتناسب مع حالة مسموم. ولو أننا لا نعدم أن نجد لها أساسا لأن خلافة عمر كانت فترة سلام مع البيزنطيين ، وقد سحب عمر القوات التي كانت تحاصر القسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الملك، كما أظهر ميلا غلى عدم التوسع في الفتوحات حيث كان يقول: " حسب المسلمين ما نعى عمر لقومه حين بلغته وفاته ورثاه رثاء مؤثرا".
لا يسعنا أيضا قبول الخبر المتعلق بالمتهم بدس السم، فانكشاف مثل هذا لفعل ليس سهلا. وإذا انكشف فليس من السهل ترك المتهم طليقا، إن لم يكن من جهة عمر فمن جهة أولاده. كما أن الذين يقفون وراء المكيدة سيجدون أنفسهم مضطرين إلى القضاء على أداتهم الجرمية لإخفاء مكيدتهم. وما أيسر أن يأمر الخليفة الأموي الذي استلم بعد عمر بقتل المتهم " غضبا" له و " انتقاما" من القاتل..
مهما يكن من شيء فإن روايات اغتيال عمر بالسم هي الأرجح بين المؤرخين. وقد ذكر أبو الفدا في ترجمة عمر من مختصره أن أكثر الناس يميلون إلى هذا الرأي. وليس لدينا في الحقيقة ما يضعف هذه الروايات غير سكوت بعض المؤرخين عنها، بينما لا نجد مؤرخا عنى بأبطالها أو تقدم برواية أخرى تصلح للتوثيق. وسكوت بعض المؤرخين يرتهن بالطبيعة السرية للحدث وهو كما رأينا حدث غير اعتيادي تقوم به أسرة حاكمة ضد خليفتها الذي يتمتع بشأن خطير ومكانة لا تطال.
علامة استفهام:
فتح الله عليهم" فمن المنطقي أن تكون للبيزنطيين مصلحة في بقائه. وقد يكن صدر عن الإمبراطور البيزنطي في هذه الأثناء رد فعل ما، فصاغ منه الناس حكاية. ومن الطريف في هذه المناسبة أن بعض المصادر زعمت أن ملك الروم تقول بعض مصادر سيرة عمر إنه لم يتخذ عبيدا لمنزله أثناء الخلافة. لكن هذا لا يمنع أن يكون له خدم يتولون شئونه الشخصية والمنزلية. وهناك ما يدل على أن مائدته كانت ، على بساطتها، تحضر وفق الأصول وأنه كان يساهم أحيانا في ترتيبها كجزء من سلوكه الشخصي المتسمم بالتواضع. فهل دس السم في طعامه أو شرابه من طرف بعض الخدم؟ مر بنا أن بعض الروايات صرحت بذلك. وهو احتمال وارد، إذ من المعروف أن الخدم كانوا من الأدوات الشائعة لمثل هذه المكايد... لكن لدينا احتمال آخر قد يتوارد إلى الذهن.
كان عمر بن عبد العزيز متزوجا من ابنة عمه فاطمة بنت عبد الملك. وكانت حياته معها قبل الخلافة مترعة بالحب والنعيم. ولكنها أصيبت بخيبة أمل كبرى بعد استخلاف عمر. وقد أوردت المصادر عنها أمورا تدل على تبرمها الشديد بحياتها في تلك المدة. ومن ذلك إفادة لها بعد وفاته تقول فيها إنه لم يغتسل من جنابة منذ تولى الخلافة حتى مات. ومثل هذه الإفادات كانت مألوفة من نساء العرب في صدر الإسلام فلا يستبعد صدورها عن زوجة عمر، ولو أنها قد تكون غالت في ذلك لتعبر عن مدى عزوفه عن متع الحياة بسبب انهماكه في تنفيذ سياسته الإصلاحية.
بالطبع لم يكن في مقدور أميرة مدللة ربيت في بيت إمبراطوري تجبى له كنوز الدنيا من المحيط الأطلسي إلى الصين أن تتقبل وضعا كالذي أراده لها خليفتها الزاهد، فطباع هؤلاء الناس هي أبعد ما تكون عن القناعة والعزوف عن الامتيازات الخرافية التي ينعمون بها. ورغم أن المصادر ذكرت أن فاطمة تابعت زوجها في البدء في التخلي عن بعض مقتنياتها النفسية وإرجاعها إلى بيت المال، فقد عادت تتذمر فيما بعد إلى الحد الذي جعلها تصرح بتلك الإفادة المثيرة عن حياتها الجنسية.
وقد تحدثت الروايات في نفس الوقت عن علاقة حب جمعت بين الزوجة الساخطة وبين رجل من أبناء عمومتها بدأت فى أيام عمر وانتهت بالزواج من هذا الرجل بعد وفاة الخليفة. وقد هجيت بسبب ذلك بشعر نسبه ابن عساكر إلى الأحوص وصاحب الأغاني إلى موسى شهوات وهو شاعر من موالي قريش. وفي رواية أن عمر سمع زوجته أو جاريتها تقول: أراحنا الله منك. وقد وردت في مصدر معتمد وعن محدث قريب الزمن منه. بالاستناد إلى هذا الوضع يتوارد احتمال أن تكون للزوجة يد في التخلص من الخليفة. وهو احتمال لا أستبعده ولا أثبته.
لا أستبعده لأنه طبيعي جدا في هذه البيئات ومن هؤلاء الناس في ظرف كالذي وصفناه للتو. ولا أثبته لأني لا أملك رواية صريحة أو ضمنية تدل عليه. مهما يكن فإن مصير عمر بن عبد العزيز قد تقرر كما رجحنا في منزله وأن خطة تصفيته رسمت من طرف أسرته. وقد استعادت السياسة الأموية سيرتها الأولى على يدي يزيد بن عبد الملك تبعا للترتيب الذي أوصى به سليمان بن عبد الملك.
ولو قدر لعمر أن يتمر في الخلافة مدة أطول، وهو أمر كان في قيد الإمكان لأنه حين مات لم يكن قد بلغ الأربعين، لكان ممكنا أن يشتد ساعد المعارضة الإسلامية للخلافة الأموية لتنتهي إلى انقلاب جذري يعيد حكمن الخلفاء الراشدين. الذي بقي طوال الحكم الأموي حلما مشتركا لجمهور المسلمين. وهو ما كان الأمويون يخشونه من خلافة عمر بن عبد العزيز.
وقد جسدت هذه المخاوف عبارة شديدة الوقع ينسبها ابن عبد ربه غلى مسلمة بن عبد الملك قالها بعد وفاة عمر: " أما والله ما أمنت الرق حتى رأيت هذا القبر" والرق الذي يقصده مسلمة هو خروج السلطة من أيديهم وتحويلهم إلى رعايا.
وفيات مشبوهة
ذكرنا عند الكلام على اغتيال الحسن بن على ما أورده أبو الفرج عن موت سعد ابن أبي وقاص مسموما بتدبير من معاوية. وهو خبر لم يشتهر بين المؤرخين فسجلناه على ملاك الوفيات المشبوهة. وهناك وفيات أخرى حصلت في ظروف غامضة أو جاءت فيها روايات اغتيال غير مقطوع بها يمكن وضعها فى نفس العداد ومنها:
وفاة معاوية بن يزيد بن معاوية
شاب تولى الخلافة بعد والده. ويتردد المؤرخون بين وصفه بالضعف ووصفه بالورع وعدم الرضا عن سياسة أبيه وجده. وقد تنازل عن الخلافة بعد أربعين يوما أو ثلاثة أشهر واعتكف في منزله. لكنه لم يعش طويلا، فقد مات في نفس السنة وهو في الثالثة والعشرين . وتقول بعض الروايات إنه مات بالطاعون وبعضها إنه مات مسموما . وهو بعد أن تنازل واعتزل السياسة لم يبق من له مصلحة في التخلص منه ما لم نأخذ بروايات تقول إنه أظهر ميولا راشدية تحت تأثير مؤدبه عمرو بن مقصوص وكان من القدرية.
وفاة مروان بن الحكم
تولى مروان الخلافة بعد معاوية بن يزيد مسجلا بذلك انتقال السلطة من آل أبي سفيان إلى آله. وقد توفي بعد تسعة أشهر من استخلافه. وكان قد تزوج أرملة يزيد بن معاوية وهي أم ابنه الثاني خالد الذي طالب بالخلافة بعد تنازل أخيه لكن صغر سنه لم يساعده في تحقيق ههذ الغاية. ويقال أن مروان تزوج أمه بقصد إذلاله، وأنه شتمه مرة فقال له : يا ابن الرطبة فأبلغ خالد ذلك غلى أمه ولامها على الزواج وتواطأت مع جواريها فألقين مخدة على عنقه وقعدن عليها حتى اختنق. وهذه أقرب إلى أن تكون حكاية لا رواية. على أن موت مروان قد حامت حوله بعض الشكوك رغم أنه كان قد قارب السبعين. وقد أورد اليعقوبي رواية تفيد أن أم خالد سقته سم في لبن. وهو أمر غير مستبعد في بيئات القصور. بينما ذكرت بعض المصادر أنه مات بالطاعون وقد يكون ولو أننا لا نملك دليلا على حصول موجة طاعون بالشام سنة وفاته.
وفاة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز
هذا الحادث هو أكثر الحوادث مدعاة للريبة. فقد كان عبد الملك غلاما فى السابعة عشرة حين مات فجأة في خلافة والده. وكان هذا الغلام أعجوبة في وعيه الديني والسياسي وقد وقف إلى جانب والده في سياسته الإصلاحية المعادية لأسرته، وكان أشد تطرفا منه وأكثر اندفاعا في تنفيذ الإصلاحات. وقد تبناه الخوارج لهذا السبب . وتزعم بعض مصادرهم أن والده دفعه حين مات إلى مندوبيهم الذين كانوا فى ذلك الحين يفاوضونه ، ليتولوا غسله ودفنه بأنفسهم، باعتباره " صاحبهم" وكان من بين هؤلاء أبو حمزة، الذي احتل الحجاز في وقت لاحق، أيام مروان الحمار، وهو الذي صلى على الولد صلاة الجنازة كما تقول الرواية الخارجية.
لم أجد فيما رجعت إليه من المصادر شيئا عن هذه الوفاة المفاجئة لغلام فى السابعة عشرة ، ولا ما يعين المرض الذي مات منه. فهل مات مسموما؟ المصادر أيضا لا تتضمن ما يشير غلى أعراض تسمم ظهرت عليه. على أن الحاجات التي طمنها رحيل هذا الغلام تلقى شيئا من الريب على وفاته. لا شك أن الأسرة التي كانت تسعى لإنهاء خلافة الوالد قد وقفت على اتجاهات الولد فصار واضحا لها أن بقاءه بعد والده يجعل العودة إلى سياسته من بعده أمرا ممكنا. وهناك ما يدل على أن تجربة هذا الخليفة قد أثارت هلعا لدى الأمويين من احتمال تكرارها.
وهو احتمال يقويه وجود مثل هذا الوريث الخطر. ويؤخذ من رواية لابن الجوزي أن الأمويين كانوا يتخوفون من أن يكون عبد الملك بديلا عن يزيد في ولاية العد. وفي مثل ههذ الحالة يكون من المعقول جدا أن يفكروا في تصفية الولد قبل الوالد، لأن قطع الأصل مع بقاء الفرع قد لا يحسم الداء.
من هنا يتقوى الشك في هذه الوفاة. ويمكن تفسير سكوت المؤرخين عن سبب الوفاة في ضوء الطريقة التي يمكن أن يكون قد تم بها إنهاء الغلام قبل والده. وهي هنا استخدام لطيف خفي الأثر لا يترك أعراضا على المسموم. وعلى أية حال، ينبغي أن لا نستبعد ما تقدمه الطبيعة من خدمات مجانية في بعض الأحوال. فلعل الغلام قد مات فى أجله الموعود كما يحدث لأقرانه ليوفر على ذويه إثما زائدا كان عليهم أن يثقلوا به ضمائرهم. ولو أن المشكلة تبقى قائمة على أي حال لا سيما حين نعلم أن الولد لم يمت وحده، فقد لحقه عمه المسمى سهل بن عبد العزيز وكان على نهج أخيه ومن أعوانه الأشداء على الإصلاح. ثم لحق بالاثنين مولى عمر المسمى مزاحم وهو بدوره من أخلص أعوانه. ويقول ابن عبد الحكم إن عمر صار بعد موت الثلاثة يتمنى الموت ويدعو الله لأجل ذلك. وأنه لسؤال صعب أن يكون القضاء والقدر قد مالأ بني أمية إلى هذا الحد فصفى لهم أربعة خصوم كلهم شبان في أقل من سنة؟
وفاة يزيد الناقص
هو يزيد بن الوليد بن عبد الملك، كان يعارض سياسة أسرته، وقد استصباه القدرية المناهضون لهذه الأسرة فانضم إلى جبهتهم ثم قاد تمردا مسلحا في ضاحية المزة، من ضواحي دمشق، وزحف على دمشق فاحتلها وقضى على حكم الوليد، ابن عمه، الذي اشتهر بمجونه وطغيانه، وألقى يزيد عند مبايعته بالخلافة خطابا ضمنه برنامجا في الحكم شبيها ببرنامج عمر بن عبد العزيز مما كان يشكل الأهداف المشتركة للمعارضة الإسلامية لحكم الأمويين. مات يزيد بعد ستة أشهر من استخلافه وكان عمره أربعين. وتقول بعض الروايات أنه مات بالطاعون، مغيرها أنه مات مسموما. وليس لدينا ما يدل على أن طاعونا جارفا قد ضرب الشام في ذلك الوقت واحتمال تسميمه قوي جدا وتبرره نفس الأسباب استيلاء مروان الحمار على الخلافة بعد إزاحة شقيقه الضعيف إبراهيم بن الوليد. وربما كان لآخر خلفاء بني أمية، المشهور بدهائه وجبروته يد في تصفية هذا الخليفة القصير العمر.. ولو أن اليعقوبي ينقل خبرا عابرا يتهم أخاه إبراهيم بسمه. والغيب لله وحده.
على بن الحسن وابنه محمد الباقر
حسب المأثور الشيعي (الاثني عشري) أن الأول مات مسموما بتدبير من الوليد بن عبد الملك، والثاني بتدبير إبراهيم بن الوليد، وحسب مصادر التاريخ العام، مات الإمامان المذكوران في أجلهما الموعود دون أية شبهة وفي ظروف لا تتحمل أي شك في سبب الوفاة. ويعطي هذا المأثور الباطل دليلا على الانطلاق المعكوس من الأيديولوجيا غلى الوقائع، لأنه مبني على اعتقاد جمهور الاثنى عشرية أن الإمام لا يموت إلا شهيدا. وهو مسلك يتميز به المؤرخون الدعاة في الغالب ويتحاشاه المؤرخون المحترفون. ولذا نجد خبر تسميم الإمامين في " بحار الأنوار" للمجلسي وهو من كتب الدعاة، ولا نجده في " تاريخ اليعقوبي" وهو من مصادر التاريخ العام رغم أن مؤلفي كلا الكتابين هما من الشيعة الاثنى عشرية.
قبل أن ننتقل غلى الكلام عن الاغتيالات التي قامت بها المعارضة نود التنويه بأن وسيلة الاغتيال التي استعملتها السلطة في الخلافة الأموية قد اقتصرت على السم كما هو واضح من المخططات التي وصفناها. ويرجع هذا إلى أن الشخصيات التي طالتها الاغتيالات كانت لها مكانة في الأسرة الحاكمة أو في المجتمع تمنع من تصفيتها علنا. والاغتيال بالسلاح قد يعرض الخطة للانكشاف بالقبض على القاتل. وقد وفر السم الذي كان يحضر كما قلت آنفا بطريقة متقنة غطاء للخطط ساعد كثيرا على إخفائها، مما ساعد بدوره على البلبلة والاختلاف الذي يجده المرء وهو يجوس خلال المصادر ليتعرف على مصير أولئك الناس.
الاغتيال من جانب المعارضة
كانت المعارة الإسلامية للأمويين تتألف من الشيعة والخوارج والقدرية وجمهور الفقهاء والمتكلمين- مثقفي ذلك الوقت. وقد سلكت المعارضة بجميع أطرافها سبيل العمل المسلح. وكان الأسلوب الغالب هو أسلوب الانتفاضات المسلحة ومن أبرزها انتفاضة الحسين فى كربلاء، والمختار فى الكوفة، وزيد بن علي في الكوفة، وولده يحيي في جرجان، وابن الأشعث في العراق والمشرق والقدرية في الشام، والحارث بن سريج في خراسان.
وقد تخص الخوارج دون غيرهم بأسلوب قريب من حرب العصابات يعتمد على القواعد المتحركة والهجمات الخاطفة التي تقوم بها مجموعات صغيرة. وبحكم إتباعهم لهذا الأسلوب، كان من المتوقع للخوارج أن يتبعوا تكتيك الاغتيال، الذي يعتمد في المعتاد على الضربات المباغتة والانسحاب السريع. وقد انفرد الخوارج بهذا التكتيك ، غذ لم يحدث أية عملية مماثلة في هذه الحقبة على يد الشيعة أو القدرية أو المثقفين الذين أيدوا العمل المسلح وشاركوا فيه. والفرق في تقديري يرجع إلى نهج الانتفاضات الذي اتبعته هذه الأطراف وليس غلى اعتبارات أخلاقية، لأن الخوارج لم يكونوا في الواقع أقل تمسكا بقواعد الأخلاق المرعية في المجتمع العربي/ الإسلامي لذلك الوقت من قرنائهم في جبهة المعارضة.
وما له دلالته هنا أن الخوارج تجنبوا استعمال السم في اغتيالاتهم واقتصروا على الاغتيال بالسلاح، مكرسين بذلك نهج القوى المعارضة التي تقاتل من أجل قضية تراها عادلة ضد سلطة ظالمة، حيث تغلب سيكولوجية الشجاعة المقترنة بأخلاقيات العنف الثوري على سيكولوجية الغدر المقترنة بأخلاقيات العنف القمعي، بما يرسم خطا فارقا بين اغتيالات الأمويين واغتيالات الخوارج.
تميزت خطط الاغتيال الخارجية بدقة التكتيك ونفذت بروح فدائية عالية. وقد وجهت حصرا ضد أعوان السلطة دون أطراف المعارضة الأخرى التي كان الخوارج على خلاف شديد معها( لم يحدث اقتتال بين هذه الأطراف طوال الخلافة الأموية واقتصر الخصام بينها على الميدان النظري والإعلامي) وكان المستهدف بالاغتيال من بين أعوان السلطة من قام منهم بأعمال قمع ضد الفرقة، فاتخذت الاغتيالات لذلك شكل الرد. الفوري غالبا، بقصد الانتقام والتأديب. وقد أعطت بعض المفعول حين جعلت هؤلاء يجمحون أحيانا عن تنفيذ المهام الموكلة إليهم ضد الخوارج تحسبا من الرد. وفي " انساب الأشراف" للبلاذري أن عبيد الله بن زياد، حاكم العراق لمعاوية وابنه يزيد، أعرب عن حيرته أمام الخوارج لأنه كلما أمر بقتل رجل منهم اغتالوا قاتله.
ولم تستعمل الاغتيالات لتحقيق الوثوب إلى السلطة بتوجيهها ضد الخلفاء ، ربما لعاملين : الأول صعوبة تنفيذها مع الخليفة، العائش خلف أسوار الحماية الحديدية، والثاني لأن قتل الخليفة لا يترتب عليه انهيار حكم الأسرة نظرا لوجود الوريث جاهزا للاستلام بعد موت أي خليفة. ومثل هذا الهدف كما لا يخفى يمكن إنجازه باغتيال في حالة حكم الفرد دون حكم الأسرة.
فيما يلي وصف لبعض ما وقفنا عليه من عمليات الاغتيال الخارجية مأخوذ في الأساس من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد..
اغتيال جلاد
أسر عبيد الله بن زياد خارجيا فأمر بإخراجه إلى أحد ميادين المدينة لإعدامه علنا. لكن أفراد الشرطة تحاموا قتله لأنه كما تذكر الرواية كان متقشفا عليه أثر العبادة، وفي الحقيقة لخوفهم من الانتقام على يد أصحابه. فلم يجد ابن زياد من يقبل هذه المهمة غير رجل يدعى المثلم بن مشرح البابلي. ولم تخبرنا الرواية بصفة هذا الرجل، لكننا نستطيع أن نستشف من اسمه الذي يبدو أنه لقب، أنه كان جلادا محترفا شديد السطوة.. ووضع الخوارج خطة لقتله مقابل صاحبهم. وكان هذا الرجل مولعا باللقاع(النوق الغزيرة اللبن) فكان يتتبعها في أماكنها ليشتريها. فدس الخوارج إليه شابا منهم تنكر في زي الفتيان وعليه قميص مزعفر مما يلبسه المتنعمون.
وقد لقيه الشاب في المربد- بالبصرة – وهو يسأل عن لقعة يريد شراءها. فقال له إن كنت راغبا في ذلك فعندي ما يغنيك عن غيره فتعال معي. فسار معه المثلم على فرسه والفتى يسير أمامه راجلا حتى وصلا إلى منزل في أحد أحياء المدينة، فدخله الفتى وقال له ادخل على فرسك . فلما دخل وتوغل في الدار أغلق الباب من ورائه وباغته رجلان من الخوارج فتقلاه . وبعد قتله شقوا بطنه ووضعوا في داخلها دراهم كان يحملها معه. ولم أتبين غرضهم من ذلك. ثم دفنوه في نفس الدار وحكوا آثار الدم لإخفاء أثر العملية. وانتظروا حتى يأتي الليل فسيبوا فرسه، فأصبحت في الغد وهي في الإسطبل دون أن يعرف أحد من أين جاءت.
اغتيال قائد عسكري
كان أبو بلال مرادس بن عمرو من وجوه الخوارج في الكوفة، وكان في بداية أمره من القعدة ، الذين لا يشاركون في العمل المسلح، وبقي على ذلك وقتا كان يزاول فيه نشاطا سريا ضد ولاة الكوفة الأمويين. ثم اكتشف أن هؤلاء لا يجدي معهم إلا السلاح. فخرج من الكوفة مه جمع من الخوارج وأعلن العصيان على حاكمها آنذاك عبيد الله بن زياد. فأرسل إليه الأخير جيشا بقيادة رجل يدعى عباد بن أخضر. وكان أتباع مرادس قليلين فاشتبكوا مع الجيش في معركة غير متكافئة انتهت بقتلهم جميعا بما فيهم مرادس.
حصل عباد بن أخضر على مكافآت جمة من سيده لقاء هذه الخدمة، وصارت له وجاهة في البلد، ويبدو أن الخوارج تريثوا حتى يمضي وقت كافي لنسيان قضية مرادس لكي يتراخى المطلوب في إجراءات التحفظ . وعندها دبروا خطتهم. في أحد أيام الجمع كان عباد في طريقه إلى قصر الإمارة، أو إلى الجامع للصلاة، وكان يركب بغلة وقد أردف معه ابنا له.
فتقدم منه رجل ضمن جماعة واستوقفه ليستفتيه فوقف فقال له الرجل: رجل قتل رجلا بغير حق. وللقاتل جاه وقدر عند السلطان ولم يقبل السلطان شكوى ولي القتيل لجوره. وهل يجوز للولي أن يقتل القاتل إذا قدر عليه؟ قال عباد: كلا بل يرفعه إلى السلطان. قال خارجي: إن السلطان لا يقبل شكواه لمكانة القاتل عنده وعظم جاهه. قال عباد: أخاف عليه إن فتك به من السلطان. قال الخارجي: دع ما تخافه من السلطان. أتلحقه تبعة فيما بينه وبين الله؟ فقال عباد: لا . وهنا هتف الرجل وجماعته بشعار: " لا حكم إلا الله" وهو شعار الخوارج الذي يهتفون به حين يقومون بعمل ما ثم خبطوه بأسيافهم حتى أجهزوا عليه. ولم يقتلوا ابنه.
اغتيال قائد آخر
قام الخوارج بآخر وأكبر تحرك لهم ضد الأمويين في خلافة مروان، آخر خلفائهم. وقد أخذ هذا التحرك شكل انتفاضة واسعة شملت اليمن بما فيها حضرموت وامتدت إلى الحجاز. وكانت بقيادة الخارجي الملقب طالب الحق وصاحبه أبو حمزة. فعين مروان لإخماد الانتفاضة قائدا يكنى أبو عطية وأرسله على رأس جيش كثيف فاحتل مكة والمدينة وقضى على الخوارج الذين كانوا فيها بقيادة أبو حمزة. وقد قتل أبو حمزة في المعارك التي خاضها ضد الجيش الأموي مع جمع كبير من أصحابه واستسلم من تبقى منهم وعددهم أربعمائة مقاتل فأعدمهم أبو عطية جميعا. ثم اتجه المذكور إلى اليمن فهاجمها وسحق حركة طالب الحق وأباد من معه من الخوارج. وأقام بعد الفراغ من مهمته في حضرموت، لكنه لم يلبث هناك طويلا.
ففي موسم الحج من نفس السنة، استدعاه مروان لينوب عنه في إمرة الحج تكريما له على خدماته . فخرج مسرعا ومعه تسعة عشر فارسا. وكان الخوارج يترصدونه في هذه الأثناء. فنصبوا له كمينا في طريقه إلى مكة. وعند اقترابه من المكين خرجوا عليه وقتلوه مع حراسه التسعة عشر. ويصف ابن أبي الحديد مقتله على الوجه التالي: كان الكمين بقيادة أخوين من كندة فبارزه أحدهما فضربه بسيفه ضربة كادت تقضي عليه، لولا أن عاجله الأخ الآخر فطعنه برمحه فصرعه.. ونزل إليه الأول وقعد على صدره. فقال له أبو عطية يستعطفه: هل لك في أن تكون أكرم العرب أسيرا؟ فلرد عليه: يا عدو الله أتظن الله يهملك أو تطمع في الحياة وقد قتلت طالب الحق وأبا حمزة؟ ثم ذبحه ذبحا.
استمر الخوارج في استخدام هذا التكتيك في الخلافة العباسية، ولكن بوتيرة أقل. ومن ضرباتهم المشهودة آنذاك اغتيالهم معن بن زائدة أحد كبار القواد المخضرمين. وسنصف كيفية ذلك في الفصل الآتي.
الفصل الرابع:في العصر العباسي
يشمل العصر العباسي المدة الكائنة ما بين 132هـ و656هـ . والمصطلح غير دقيق إذا أريد به مطابقة هذه المدة مع السلطة العباسية في امتدادها الجغرافي لأنها لم تكن شاملة منذ البداية حيث انفصلت الأندلس، ثم تلتها أقاليم أخرى بالتتابع، حتى لم يبق في غضون القرن الأخير من هذا العصر ما يصدق عليه وصف عباسي غير جزء صغير من العراق. وقد تخللت هذا العصر كيانات سياسية لم تعترف بالعباسيين، أعظمها شأنا الحكم الأموي في الأندلس والخلافة الفاطمية في شمال أفريقيا. لكن مصطلح عصر عباسي صار يطلق على مجمل هذه المدة بصرف النظر عن مسميات الدول فيه لاعتبارات عديدة أهمها عندي توفير إطار زمني موحد لتسهيل دراسة الحضارة الإسلامية التي بلغت أوج فاعليتها خلال المدة المذكورة. وعلى هذا الأساس وضعت عنوان هذا القسم دون أن أقصد مفهومه الحرفي بالتحديد.
حدثت الاغتيالات في هذا العصر على نطاق أوسع من ذي قبل. مارستها السلطة متمثلة في الخليفة العباسي أم في المنقلبين عليه أم في حكام الأسر الأخرى، ومارستها المعارضة متمثلة أولا في الخوارج ، ثم في الإسماعيليةالتي استلمت هذا التقليد من الخوارج ومشت فيه إلى المدى الأبعد. واستعملت السلطة فى اغتيالاتها السم، لكنها لم تقتصر عليه وإنما لجأت أيضا إلى الفتك بالسلاح باستخدام مأجورين. وكان الاغتيال بالنسبة إلى السلطة وسيلة للتخلص من أشخاص لا يمكن المجاهرة بإعدامهم بسبب مكانتهم السياسية أو الاجتماعية أو الدينية ، أو بسبب وجودهم خارج نفوذ السلطة، وبالنسبة للمعارضة كان الاغتيال وسيلة لتوجيه ضربات مدروسة ضد الحاكم أو أعوانه الكبار.
نظرا لطول وتشعب هذا العصر وتعقد الأحداث فيه، لا مجال لحصر الاغتيالات بالشكل الذي حاولناه في الأقسام الثلاثة الأولى وستقتصر دراستنا على حوادث منتقاة ، إما لأهمية نتائجها أو لخطورة عنصر التنفيذ فيها. على يد السلطة
اغتيال إدريس بن عبد الله
من أحفاد الحسن بن علي. كان قد اشترك في تمرد قاده أحد أبناء عمه بالحجاز في خلافة موسى الهادي، أخ الرشيد، وهو التمرد المعروف بوقعة فخ. وبعد سحق التمرد هرب إدريس غلى مصر ومن هناك واصل سيره حتى المغرب الأقصى، حيث بدأ بتنظيم حركة ناجحة ضد العباسيين انتهت إلى إقامة أول دولة علوية في أفريقيا. وكانت حركة إدريس ثاني حركة انفصالية خطيرة ضد الخلافة العباسية بعد انفصال الأندلس بزعامة عبد الرحمن الداخل. وقد أرقت هارون الرشيد ، الذي استلم بعد أخيه الهادي، القصير المدة.
لكن الرشيد ارتأى عدم أفضلية استخدام القوة العسكرية ، ربما لبعد المكان، أو لاعتبار آخر فكر فيه ، فلجأ إلى المكيدة لضرب إدريس وحركته.يتفق معظم المؤرخين على أن إدريس مات مسموما وعلى أن الرشيد دس إليه رجلا استغفله حتى سمه. لكنه يختلفون في اسم الرجل وكيفية أدائه لمهمته. وتقول رواية لأبو الفرج الأصفهاني إن هذا الرجل كان من الزيدية ، وهو مذهب إدريس نفسه، وأن يحيي البرمكي رغبه وأغراه لاغتيال إدريس. واسم الرجل في هذه الرواية هو سليمان بن جرير الجزري. وهو مشابه لاسم متكلم زيدي يدعى سليمان بم جرير الرقي، والرقة كانت من أعمال الجزيرة، ومن المستبعد أن يكون هو الفاعل لأنه كان من أعلام الزيدية المناهضين لبني العباس، كما كان من كبار متكلميهم ورأسا لشعبة منهم تسمى الجريرية. ولعل رواية أبو الفرج قد وقع في اشتباه ناتج عن تقارب الاسمين.
وقد ورد الاسم عند ابن خلدون هكذا: سليمان بن حريز ويعرف بالشماخ. فربما تصحف تحريز غلى جرير. أما الشماخ فهو اللقب الذي تتفق معظم الروايات على تلقيب الفاعل به. وهو ليس لقب سليمان الرقي. وينبغي مع هذا أن لا نستبعد أن يكون الرشيد أو كبير وزرائه قد اختار رجلا زيديا لهذه المهمة حتى يمكنه استدراج إدريس للمكيدة. وتذكر رواية أخرى لأبو الفرج وردت أيضا عند الطبري وابن خلدون أن الشماخ كان طبيبا وأظهر أنه من الشيعة. أما كيفية تنفيذ الخطة فيستفاد من مجمل الروايات أن الرجل المذكور التحق بإدريس متظاهرا أنه من أنصاره وأنه ساخط على العباسيين. ومن المحتمل جدا أن إدريس صدقه لكونه شيعيا.
وقد أنس به وجعله من جملة خواصه. ثم حدث أن اشتكى إدريس وجعا في أستاته فأعطاه مسواكا مسموما ونصحه أن يستاك به عند طلوع الفجر. وهرب الرجل في نفس الليلة. وعند الفجر استيقظ إدريس وأخذ المسواك فجعل ينظف به أسنانه، ويفترض أنه كان قد بين له أن في المسواك مادة علاجية، فتسرب السم إلى جسده وقضى عليه. وقد وردت عن ابن خلدون عبارة تشكك في هذه الرواية.
ولعل ذلك لأنه استصعب أن يكون المسواك المسموم سببا في الموت، فمثل ههذ الحالات من التسمم كانت ميسورة العلاج بالمضادات الترياقية آنذاك. وقد جاء في رواية أخرى لأبو الفرج أن الشماخ قدم إليه سمكة مشوية مسمومة. وهو ما يرد أيضا عن ابن حبيب الذي يسبق أبو الفرج بنحو القرن. وفي رواية غيرها لأبو الفرج أنه قدم إليه عطرا مسموما فقتله بعد أن شمه وتعطر به. وقد تكون هذه الوسائل أفتك من المسواك.
مهما يكن الخلاف حول كيفية التسميم فقد مات إدريس وكافأ الرشيد مغتاله بتعيينه موظفا كبيرا في مصر. وكانت لإدريس جارية حامل منه فانتظرها أعوانه حتى ولدت ولدا سموه إدريس وتعهدوه ليكون وريثا لوالده. واستمروا في هذه الأثناء يدبرون شئون الدولة حتى بلغ الوريث سن الرشد. وقد استطاعوا بذلك صيانة دولة الأدارسة من السقوط فلم يتحقق للرشيد الهدف الذي كان يتوخاه من اغتيال مؤسسها.
تصفية الوزير ثم ولي العهد
بعد أن انفرد المأمون بالخلافة بمقتل أخيه الأمين، وكان مقيما حينذاك في خراسان، استدع علي الرضا بن موسى الكاظم، وهو الإمام الثامن في سلسلة الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية، وقرر تعيينه وليا للعهد، فى حركة دراماتيكية أراد أن ينقل بها الخلافة من بني العباس إلى آل البيت. وقد تم ذلك خلافا لرغبة الإمام الشيعي الذي قبل الخطة، مكرها، رغم أنه كان من المطالبين بالخلافة. ولعل السبب هو عدم تيقنه من قدرة المأمون على فرض خطته على أسرته العباسية ذات النفوذ القوى، أو عدم اطمئنانه إلى جدية الخطة.
وقد سبب هذا الإجراء تمردا في بغداد قاده عم المأمون إبراهيم بن المهدي، وتم فيه خلع المأمون ومبايعة إبراهيم بالخلافة. وكانت أخبار التمرد تصل إلى وزيره الفضل بن سهل فيكتمها عنه، وكأنه كان يتوق إلى معالجة الأوضاع بنفسه قبل أن ينتبه إليها المأمون, لأن الوزير كان من أهداف المتمردين وأحد الأسباب التي دعتهم إلى العصيان . لكن الأمور تفاقمت وخرجت من يد الوزير فاضطر علي الرضا إلى مكاشفة الخليفة بتفاصيل ما يجري في بغداد وبين له أن العباسيين وأنصارهم في بغداد قد خرجوا على طاعته بسب ولاية العهد وأن الفضل يستر عنه الأخبار ويتصرف باسمه في أمور سببت المزيد من القلاقل وعرضت سلطته للخطر. وكان علي ملتزما بعدم غش المأمون، جريا على أخلاقيات متوارثة لدى أئمة أهل البيت .
قرر المأمون على الأثر أن يتوجه إلى بغداد لتدارك الأوضاع، وفي مدينة سرخس كان الفضل بن سهل، الذي رافق الخليفة في عودته، يغتسل في حمام فشد عليه جماعة وتناولوه بسيوفهم فأردوه قتيلا. وكان المهاجمون من حشم المأمون، فأمر بالبحث عنهم وجعل لم جاء بهم عشرة آلاف دينار، فلما مثلوا أمامه قالوا: " أنت أمرتنا بقتله" فأمر بإعدامهم وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل، شقيق الفضل، وكان معتمد المأمون في واسط. وقد ورد قتل الفضل في الحمام في مصادر أخرى لم ينص بعضها على تورط المأمون. فابن العماد يقول إن الاغتيال كان بإيعاز من خال المأمون. بينما أوردها اليعقوبي بعبارات لا يفهم منها إن كان القتل من المأمون أو تصرفا كيفيا من القتلة. ورواها الخطيب البغدادي بطريقة لا تشعر بعلاقة المأمون بها. بينما صرح ابن حبيب أن المأمون دس غالب الرومي، وهو مولاه، فقتله في الحمام وأنه قبض عليه فقتله وقتل معه أربعة آخرين من الحشم.
لسنا بحاجة إلى مجاراة المؤرخين الذين يتحرجون أحيانا من توريط الخلفاء في المكايد، فقد كان المأمون في أمس الحاجة لإنهاء الفضل بن سهل الذي كان أحد أخطر عقبتين في طريق تسوية الفتنة ببغداد. وصراخ القتلة حين قدموا للإعدام لا لبس فيه، فالمأمون هو الذي أمر بقتل وزيره، وحتى لو لم يصرخوا لكان علينا أن نفهم سر الاغتيال: فالفضل يجب أن يذهب ثمنا لعرش الخليفة. وقد يتساءل القارئ: أما كان بمقدور الخليفة أن يقتل الفضل علنا وهو شيء مألوف عند الخلفاء بعد الراشدين؟ أو يعزله على الأقل؟ وأجيب أن الفضل كان له أعوان مستعدون للتمرد لو قتل صاحبهم بأمر الخليفة، وأن له كذلك أخا متنفذا لم يكن ليسكت لو حدث هذا لأخيه.
أما عزله فقد كان محتملا أن يدفعه إلى القيام بنشاط مناوئ مستفيدا من كثرة أعوانه وإخلاصهم له، وقد جاء الاغتيال حلا لهذه الارتكاسات الممكنة حينئذ. ومما له دلالة هامة هنا أن يبعث المأمون برؤوس القتلة إلى الحسن شقيق الفضل مشفوعة بكتاب يرثي فيه المغدور ويبكيه ويخبر الشقيق أنه قد صيره مكان شقيقه... سياسي بارع من طراز معاوية ورجل دولة دقيق الحساب.
بعد قتل الفضل في سرخس، واصل المأمون سيره إلى بغداد فنزل في طريقه بمدينة طوس ليقيم أياما عند ضريح والده الرشيد. وهناك مات ولي العهد فجأة.. وميتة هذا الرجل محيرة، فالكثير من المصادر المعتمدة لا تنص على سبب قاطع يفيد الاغتيال لكنها أفادت أنه أكل عنبا فأكثر منه فمات، وكان فيما يقال مشغوفا بأكل العنب. والإكثار من أكل العنب لا يميت وإنما قد يحدث ارتباكات هضمية في أسوأ الأحوال. وتنص روايات أخرى على أن العنب كان مسموما ، وهي القناعة التي يبدو أن أبو الفرج قد توصل إليها.
وقد أورد في ذلك روايتين تقول إحداهما إن المأمون أمر أحد أعوانه المسمى عبد الله بن بشير أن يطول أظفاره ثم أخرج إليه شيئا يشبه التمر الهندي وقال له أفركه واعجنه بيديك جميعا، ففعل. ثم دخل عي الرضا وكان قد اعتل فسأله عن حاله ثم قال له: هل جاءك أحد من المترفقين اليوم (يقصد الممرضين والمعتنين بالمرضى) فقال له: لا . فغضب المأمون وصاح على غلمانه . ثم قال له: خذ ماء الرمان اليوم فإنه لا يستغنى عنه . ودعا برمن فأعطاه عبد الله بن بشير وقال له: أعصر ماءه بيديك. ففعل وسقاه الرضا بيده فشرب، ومات بعد يومين. وفي الرواية الأخرى يرد ذكر العنب وأن الرضا كان مولعا بأكله فأخذ له عنب وغرست الإبر في أقماعه. وتركت أياما ثم قدم له فأكل منه، وكان مريضا، فقتله. وتضيف هذه الرواية أن ذلك كان من لطيف السموم.
وفي الروايتين ما يدعو إلى عدم الثقة بهما، ففي الأولى يجري التسميم بحضور الخليفة حيث يعصر أحد الأعوان رمانا بيده بعد أن طول أظفاره وأشبعها سما. ومثل هذه الطريقة في تحضير الأشربة والأطعمة غير مألوفة في دور الأباطرة التي يعد كل شيء فيها سلفا ويقدمه خدم متخصصون في أواني وكؤوس مخصوصة وبطريقة مخصوصة أيضا. وسيكون من الشذوذ المثير للشك أن يعصر الرمان بحضور الخليفة وولي عهده. أما في الرواية الثانية فإن ترك العنب أياما وفيه الإبر لابد أن يفسده، وكان الرضا- مثل سائر أهل بيته- متحريا للنظافة وله معرفة جيدة بالطب، فهو لا يستسيغ أكل طعام فيه علامة فساد، مع إمكانية توفر الأصناف له.
وقد أشار اليعقوبي إلى مسألة التسميم بالرمان دون أن يجزم بصحتها . بينما ذكر ابن العماد أنه مات بالحمى أو بالسم والترجيح الأول يعزز ما ورد في بعض الروايات من أنه كان عليلا قبل أن يدس إليه السم. واستعرض المحقق الشيعي محسن الأمين قضية موت الرضا فجزم بأنه مات مسموما، لكنه أورد عن علماء شيعة كبار شكهم في ذلك. وقد لاحظ أن الكليني لم يتطرق إلى اغتياله، والكليني من أقدم مؤرخي الشيعة. ونقل الأمين كذلك عن " كشف الغمة" أن السيد رضي الدين على بن طاووس – من مراجع الشيعة في القرن السابع- كان لا يوافق على أن المأمون سم الرضا ولا يعتقده. وكان كثير المطالعة والتنقيب والتفتيش عن مثل ذلك. وعزز ابن طاووس قناعته بما كان يظهر من المأمون من الحنو على الرضا والميل إليه واختياره له دون أهله وأولاده.
وقد استبعد ابن الأثير رواية العنب المسموم، ورأى ابن الأثير جدير بالاعتبار لأنه مؤرخ رصين وقلما يتحيز فيما لا يتعلق بمعاصريه.
وترددت أصداء اغتيال الرضا في الشعر، في قصيدة باكية لدعبل الخزاعي وهو معاصر للرضا عبر عن حيرته بشأن الموت المفاجئ لإمامه ولو أنه مال فيما بعد إلى تأكيد الاغتيال حين صب غضبه ولعناته على بني العباس: شككت فما أدري أمسقى بشربة ؟ فأبكيك أم ريب الردى فيهون وأيهما ما قلت إن قلت شربه وإن قلت موت إنه لقمين أيا عجبا منهم يسمونك الرضا وتلقاك منهم كلحة وغضون لكن أبو فراس الحمداني جزم بالاغتيال إذ قال في قصيدته التي هاجم فيها العباسيين ودافع عن آل البيت: " باءوا بقتل الرضا من بعد بيعته" وأبو فراس من أبناء القرن الرابع. ولعله يردد هنا ما شاع بين الناس ، لا سيما الشيعة.
يستبين من مجمل ما استعرضناه أن تسميم الرضا غير متفق عليه. لكن ميتة مفاجئة كهذه وفي وقت كان المأمون محتاجا إليها لابد أن تثير شكوكا جدية. وأنا أميل، دون أن أستيقن ، إلى وجود خطة اغتيال، لا سيما وأننا لا نملك دليلا على إصابة الرضا بمرض قاتل سوى الحمى التي لم يذكر لها المؤرخون مضاعفات أو أعراضا خطيرة. فضلا عن أنه حين مات كان بين الرابعة والأربعين والخمسين، تبعا لاختلاف الأقوال في عمرهن وفي مثل هذا السن لا يموت الإنسان إلا بعلة واضحة. وكان المأمون قد كتب فور وفاته إلى العباسيين الغاضبين في بغداد يخبرهم (يبشرهم؟ ) بأن الرجل قد مات وأنه عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين الذي كان قد خلعه ولبس الخضرة شعار العلويين. وانتهت بذلك قصة ولاية العهد التي فجرت الأزمة.. أترى المأمون كان على موعد مع القدر المسارع له في هواه وهو يجتاز مدينة طوس متوجها لإخماد الفتنة في بغداد؟
مقتل المتوكل
قتل المتوكل بتدبير من ابنه المنتصر وحاشيته التركية. ولم تتضمن الخطة أية تعقيدات فقد باغته المسلحون وهم أنفسهم من أفراد القصر في حجرته وخبطوه بسيوفهم جهارا ودون أية تكتيكات. وقد وضعنا الحدث على ملاك الاغتيال لأنه دبر في غفلة من المغدور ونفذ بالمباغتة . وتعكس طريقة قتله روح التهور غير المحسوب لدى المتغلبين الأتراك، وكان واضحا أن الابن يقف وراء المؤامرة ، وهو ما جاهر به البحتري في مرثيته لولي نعمته: أكان ولي العهد أضمر غدرة ؟
والسبب الذي حمل الابن على الغدر بالأب أنه قدم عليه في ولاية العهد أخاه الأصغر. لكن ثمة ما هو أبعد من هذا السبب. فمقتل المتوكل ترتب عليه فقدان الخلافة العباسية سلطتها لحساب المتغلبين الأتراك، وما رافق ذلك من تفكك وحدة الدولة الإسلامية وظهور دويلات الطوائف. ومثل ههذ التحولات الكبرى لا تنشأ من مجرد نزاع بين خليفة وابنه. وفي تقديري أن المتغلبين الأتراك بعد أن اشتد بأسهم في عهد المتوكل أخذوا يتأهبون للانقضاض على الخلافة وانتزاع السلطة الفعلية منها.
وكان المتوكل قويا مهيوبا ، والدولة في عهده لا تزال محتفظة بوحدتها وتكاملها المركزي. فلم يكن ميسورا لأحد أن يتطاول على سلطته ، فدبروا خطة لاغتياله. وقد انتهزوا تأخير الابن الأكبر في عقد الولاية فاتخذوا منه أداة لتنفيذ المكيدة. وكان شابا غرا ضعيفا فانساق معهم. ولما قتل المتوكل استخلف الابن بقوة الحاشية التركية خلافا لعقد الولاية. وبهذا تمت للأتراك السيطرة على الخلافة العباسية بإزاحة آخر الخلفاء الأقوياء.
اغتيال أبو سعيد الجنابي
منشئ الحكم القرمطي في شرقي الجزيرة العربية . قتله خادمه في الحمام . ولم يذكر سبب مباشر لقتله لكن ابن العماد يقول إنه راود الخادم في الحمام فاضطره إلى قتله. وهذا اتهام مندرج في عداد التشنيعات التي روجها الإعلام السني ضد الباطنية ولم يعرف عن زعماء القرامطة مجون أو فجور يجيز الشك في سلوكهم، إذا استثنينا الحسن الأعصم حفيد أبو سعيد الذي حكم بعده بستين عاما وكان سيء السلوك والسياسة معا وبسببه اضطر القرامطة إلى إبعاد أسرة الجنابي عن الحكم.
وتعطينا تفاصيل العملية دليلا على أنها جرت خارج العلاقة المباشرة بين الخادم ومخدومه، لأنه بعد أن قتله استدعى رجلا من كبار القادة وقال له: السيد يستدعيك. فلما دخل الخامس فطن للمكيدة وأمسك بالخادم وأخذ يصيح فتداعى الناس وقبضوا عليه. ويقودنا ذلك إلى أحد احتمالين: أن يكون الاغتيال قد وقع بدافع شخصي وهو أن يكون الخادم قد أصيب بلوثة مما يرتكس أحيانا في أعمال قتل جماعي يرتكبها المصابون بمثل هذه الحالة المرضية. الاحتمال الآخر أن يكون الاغتيال نتاج خطة مدبرة في بغداد- الخصم الأكبر للقرامطة. وهو احتمال يعززه واقع الصراع الدموي بين العباسيين والقرامطة.
يبقى أن ننوه بأن الاغتيال في الحمام قد تكرر ضد آخرين. وقد مر بن قتل الفضل بن سهل في نفس المكان. ومن الأحداث الأخرى اغتيال مؤسس لأسرة الحمودية العلوية في الأندلس علي بن حمود، الذي قتله خدمه في الحمام أيضا. والحمام مرفق أساسي في الحياة الإسلامية وله ترتيبات تقتضي الخدمة كإعداد وتقديم الملابس والمناشف وتقديم الماء فى حالة انعدام تأسيسات المياه الداخلية وتدليك المستحم واستعمال مزيلات الشعر وتوفير أصناف من المشروبات والمأكولات ملائمة للاستحمام. وقد جعل ذلك من الحمام مصيدة للمستحم لأنه يكون منفردا فيه لمدة طويلة في المعتاد مع الخدم الذين يتولون خدمته في أثناء ذلك. والاستحمام يتكرر أسبوعيا على الأقل تبعا لتعاليم النبي محمد.
لم تترتب نتائج خطيرة على اغتيال أبو سعيد فقد استلم بعده ولده الأصغر أبو طاهر الذي واصل سياسة والده وبلغ فيها إلى مدى أبعد مما بلغه الوالد نفسه.
اغتيال زعيم قرمطي آخر
كانت الدعوة الإسلامية قد وصلت بجناحها الأكثر تطرفا إلى اليمن في وقت مقارب لوصولها المغرب. وقد تزعمها في اليمن علي بن الفضل الخنفري الذي تمكن من إقامة كيان قرمطي على أنحاء واسعة من هذا البلد استمر بضعة عشر عاما. وكان علي قد اصطدم في أثناء ذلك بعدد من القواد وأمراء الحرب اليمنيين فأنهى بعضهم وتساوم مع بعضهم الآخر فضمهم إلى دولته. وكان من هؤلاء قائد متنفذ يدعى أسعد بن أبي يعفر علي بعد أن تصالح معه واليا على صعناء. لكنه بقي يتحين الفرص للإيقاع بالزعيم القرمطي لأنه كان مواليا للعباسيين ومعبرا عن مصالح عشائرية وإقطاعية واسعة في اليمن.
والظاهر أنه لم يستطع تدبير أمر ما من داخل اليمن لأن الفرصة لم تسنح له إلا بعد وصول رجل من العراق انضم إليه في مسعاه للتخلص من علي بن الفضل. وقد ذكر صاحب " بلوغ المرام" هذا الرجل بعبارة:" الشريف الواصل من العراق" وقال إنه كان معروفا بالطب. ويستفاد من وصفه بالشريف أنه كان علويا.
ويمكن أن يفهم من ذلك أنه اختير لهذه المهمة لأنه قد يكون أقدر من غيره على التوصل إلى علي بن الفضل بحكم علويته. والذي اختاره للقيام بهذا العمل لا يعدو الخليفة العباسي أو المتحكمين فيه من الأتراك، وكان الخليفة آنذاك هو المقتدر الذي اقترن الصراع ضد الباطنية الأوائل باسمه. وتقول الرواية إن ابن أبي يعفر شجع هذا الرجل على أداء ما جاء من أجله وتعهد له أن يشاطره ماله (يعطيه نصفه) وعلى هذا الأساس ، ذهب الرجل إلى المذيخرة حيث يقيم علي بن الفضل. ولم يردنا تفصيل عن كيفية وصوله إلى الزعيم القرمطي سوى عبارة في " بلوغ المرام" تقول " إنه بقي هناك يتردد" حتى استدعاه ابن الفضل ليفصد عرقا له. ولا شك أنه لم لم يطلب هذا منه إلا بعد أن وثق به واطمأن إليه. وكان قد سقى ميضعه سماه وأعده لهذا اليوم. فلما فصد العرق التهب سم على فمات. وقد هرب الفاعل ولكنه أدرك فقتل.
أدى اغتيال علي بن الفضل إلى إضعاف الكيان القرمطي في اليمن. ومع أن السلطة أسندت بعده إلى ولده المسمى بالفأفأ فإن الكيان لم يصمد أمام هجوم موحد من بعض العشائر اليمنية بقيادة أبن أبي يعفر. وقد استطاع المذكور أن يبسط سلطانه على معظم اليمن ويعيدها إلى الخلافة العباسية . ويمكننا الاستدلال من هذا على أن دولة على بن الفضل في اليمن تأسست بقيادته قد ارتهن مصيرها بقيادته أيضا ، فكانت مثلا على كيان غير راسخ يزول بزوال مشيده. وقد لعب الاغتيال هنا دور العامل الحاسم الذي يتجاوز بنتائجه البعيدة المدى حجم ونطاق العملية نفسها.
سلطانة تركية تقتل أولادها
زمرد خاتون زوجة السلطان السلجوقي ألب أرسلان تولى ابنها الأكبر تتش السلطنة بعد وفاة والده فلم يعجبها فسممته في عنقود عنب. وقام بعده ابنها الآخر بوري فلم يعجبها فألحقته بأخيه وأجلست مكانه شهاب الدين بن بوري لكي تضمن لها التحكم في السلطنة.
على يد المعارضة
اتسعت حركة المعارضة في الخلافة العباسية مع تفاقم وتعقد الأزمات الاجتماعية في عموم المجتمع الإسلامي وحصلت في أثناء ذلك تبدلات في مواقع وفصائل الفرق المعارضة. فقد استمر الخوارج من خلال تشعباتهم المعروفة وأسلوبهم المعتاد (حرب العصابات) لغاية النصف الثاني من القرن الثالث قبل أن يبدأوا انحسارا في الرقعة التي كانت تشملها نشاطاتهم ليتمركزوا في مواقع نفوذ حصلت فى أيديهم نتيجة انتفاضات مسلحة تجاوزوا بها أسلوبهم القتالي السابق. أما القدرية فقد تطوروا حينئذ إلى المعتزلة وحافظوا على نهجهم المعارض إلى عهد المأمون الذي تحالف معهم وجعل مذهبهم رسميا للدولة.
وقد اشترك المعتزلة في أوائل العصر العباسي في حركة مسلحة كبرى قادها إبراهيم بن عبد الله الحسني في البصرة وكادت تقضي على الخلافة العباسية لحساب المعارضة الإسلامية. لكنها فشلت. ولم يظهر للمعتزلة نشاط سياسي هام بعد هذه الحركة. وبقي الفقهاء في معارضتهم للخلافة غير الراشدية التي أصبحت الآن من نصيب العباسيين وشارك بعضهم في حركتي إبراهيم وأخيه محمد- الذي استولى على المدينة في عهد المنصور. لكن معارضتهم أخذت في التراجع بعد هاتين الحركتين لا سيما في ساحة العمل المسلح، لتنتهي إلى وئام مع السلطة الإسلامية تبلور في غضون القرن الرابع .
ومن الشيعة ظهرت الزيدية بنشاط مسلح استهله الشقيقان إبراهيم ومحمد ضد المنصور. وتواصل متراوحا بين الشدة والخفوت حتى انطفأت جذوته نهائيا بوصول الزيدية إلى السلطة في اليمن . وفي النصف الثاني من القرن الثاني بدأت الإسماعيليةالباطنية نشاطها السري الذي تطور غلى حركة كاسحة غطت العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه وكانت وسيلتها الضاربة في مرحلة الظهور عي العمل المسلح.
إلى جانب الفرق، ظهرت حركات مسلحة أخذت شكل الانتفاضات في أماكن معينة وعلى يد قيادات غير مرتبطة بتنظيم فرق كان من أعظمها شأنا انتفاضة الزنج في جنوب العراق والبابكية (الخرمية) في أذربيجان. من بين الحركات والفصائل المسلحة. واصل الخوارج أسلوب الاغتيال ولكن في نطاق ضيق. والعملية الهامة التي قاموا بها في هذه المرحلة هي اغتيال القائد البارز المخضرم معن بن زائدة. وسنصفه بعد قليل . بيد أن الإسماعيليةملأت الشاغر الذي تركه الخوارج. وكانت ههذ الفرقة قد لجأت كما قلنا إلى إستراتيجية العمل المسلح في مرحلة الظهور.
وقد تجلي ذلك أول الأمر في انتفاضات كبرى هي التي تمخضت عن الخلافة الفاطمية والكيانات القرمطية في العراق واليمن وشرقي جزيرة العرب. وفي غضون القرن الخامس شرعت في استخدام أسلوب الاغتيال. ويأتي لجوء الإسماعيليةإلى هذا الأسلوب في ترتيب مناقض لنظيره عند الخوارج، الذين استخدموه في البدء ضمن إستراتيجيتهم العامة في " حرب العصابات" ثم تخلوا عنه لصالح الانتفاضات في مواقع نفوذهم. أما الإسماعيليةفقد بدأت بالانتفاضات وإنشاء مواقع النفوذ ثم الكيانات وانتهت إلى الاغتيال.
يقترن هذا التحول عند الإسماعيليةبمقدمات دخولها مرحلة الأفول متمثلة في انحسار الخلافة الفاطمية في مصر وشروعها في التدهور، وانكماش الحركة القرمطية في شرقي الجزيرة ثم زوالها في أواخر القرن الرابع بعد أن صفيت تماما في العراق والشام. ولذلك لم تعط الاغتيالات مردودا استراتيجيا للفرقة، وإنما حققت لها مكاسب موضعية.. ويستدل من تحليل لابن أبي الحديد على أن الإسماعيليةسلكت هذا السبيل بدافع شرعي.
ولأهمية هذا التحليل نورده بنصه:
" .. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أصحابنا (المعتزلة) أصل عظيم من أصول الدين. وإليه تذهب الخوارج الذين خرجوا على السلطان متمسكين بالدين وشعار الإسلام مجتهدين في العبادة لأنهم إنما خرجوا لما غلب على ظنونهم. أو علموا من جور الولاة وظلمهم وأن أحكام الشريعة قد غيرت وحكم بما لم يحكم به الله. وعلى هذا الأصل تبني الإسماعيليةمن الشيعة قتل ولاة الجور غيلة".
إن لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نطاقات مختلفة: فردية وجماعية، كما ورد هذا التحليل في سياق شرح لكلمة في نهج البلاغة عن مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.إن فيها ما يتعلق بالسلطة وما يختص بعامة الناس. وتحليل ابن أبي الحديد هنا منصب على نطاقها السياسي حيث يتعين على المسلم أن يقاوم السلطة الجائرة بالوسائل المتاحة له، حسب شروطها وظروفها، ومن ذلك استعمال السلاح سواء كان هذا السلاح في حرب مكشوفة ضد السلطة أم أعمال قتل منفردة. وقتل الحاكم الجائر مبدأ إسلامي قديم، متأثر كما بينا فى القسم الثاني بنزعة التمرد اللقاحية عند العرب الجاهليين. وقد أشرنا في القسم الأول إلى أن الإسلام لم يحرم الاغتيال السياسي وإنما حرم الاغتيال الشخصي.
على أن التعليل الشرعي للاغتيال لا ينفي دلالته الإستراتيجية بوصفه نتاجا لحالة الانحسار التي أصيبت بها الحركة. وهو من هذه الجهة تعويض عن فشل الثورة. ولو أنه كان عند الإسماعيليةتعويضا باهظ الثمن للمعسكر المعادي. وقد ساعد في بعض حالاته على انتقال سلطة أو انهيار كيان كما أعطى الإسماعيليةوهي في أوان تراجعها هيبة في عيون أعدائها جعلت لها حضورا مؤثرا في الأحداث.
ربطت بعض المصادر بعض الاغتيالات التي قام بها الإسماعيلية بالصراع على السلطة بين أمراء الحرب الأتراك، بحيث ظهرت في بعض الأحيان كما لو أنها كانت أعمالا مأجورة. لكن الأحداث التي فسرت على هذا النحو، كانت في الواقع قد تحددت سلفا بحلف سري بين بعض الأمراء والإسماعيليةضمن هؤلاء بموجبه عدم التعرض لأعضاء الحركة مع تقديم تسهيلات تساعدهم على مواصلة التنظيم والدعوة وهي من هنا أقرب إلى تكتيك الاستفادة من تناقضات الأعداء منها إلى مفهوم الارتزاق، الذي لا ينسجم مع المبادئ التي تعمل المجموعات الفدائية بموجبها. ومن الجدير بالملاحظة. أن الفدائيين الإسماعيليين كانوا يعملون تبعا لتوجيهات من مركز قيادتهم وكانت المبادرات الفردية في هذا المضمار شبه معدومة.
نأتي الآن إلى وصف بعض العمليات التي نفذتها المعارضة في هذا العصر..
اغتيال معن بن زائدة
كان معن من قواد الأمويين في أواخرهم ثم انضم إلى العباسيين في خلافة المنصور. وكان إرهابيا سفاكا، عينه المنصور واليا على اليمن وكانت قد وقعت فيها قلاقل فقمعها بوحشية وأباد الكثير من أهلها. ثم أرسله المنصور إلى سجستان فأساء السيرة فيها. وهناك عزم الخوارج على تصفيته. وكان للخوارج حضور قوي في تلك النواحي. وقد وصف ابن الأثير وابن خلكان كيفية ذلك فرويا إن المجموعة الفدائية التي تكلفت بالعمل تنكرت في زي عمال بناء.
وكان معن يبني منشآت في منزله فدخل هؤلاء مع العمال. ويفهم من الرواية أنهم أخذوا يأتون يوميا إلى المنزل ويخرجون منه عند انتهاء ساعات العمل. وهم في أثناء ذلك ينتظرون الفرصة للتمكن منه. فلما بلغوا التسقيف جلبوا أسيافهم وأخفوها في القصب المعد لهذا الغرض. وسنحت الفرصة عندما استدعى معن حجاما واختلى معه في حجرة ليحجم له. فأخرج الخوارج سيوفهم من مخابئها وداهموه في حجرته ففتكوا به، وقد شق أحدهم بطنه بخنجر، للاشتفاء منه كما يبدو، وهتف آخر وهو يخبطه بالسيف:" أنا الغلام الطاقي" نسبة غلى قرية في سجستان تسمى الطاق.
إن قتل معن يأتي على سبيل التأديب والزجر لغيره من الولاة الذين عرفوا بالتعطش إلى الدماء. لكنه لم يترك أثرا رادعا. فقد أخذ ابن أخيه يزيد بم مزيد مهمة عمه وأربى عليه في القتل والتنكيل في منطقة ولايته. وكان قد قبض على قتلة معن فقتلهم وقتل معهم عددا كبيرا من الخوارج.
اغتيالات باطنية
قتل المقتدر بالله العباسي
عاصر المقتدر نهوض الدعوة الإسلامية وتوطد كل من دولتها في المغرب والحكم القرمطي في شبه جزيرة العرب وكانت الحملات توجه ضد القرامطة باسمه أو من قبله رأسا. ولأبو طاهر القرمطي رسالة جوابية إلى المقتدر ردا على رسالة تهديد كتبها إليه يدل محتواها على مدى العداء المستحكم بين الطرفين.
اغتيل المقتدر سنة 320 حين كان يحارب مؤنس الخادم، المتمرد عليه. أما كيفية اغتياله فيقول ابن الأثير إن جماعة من المغاربة والبربر لقوه في ظاهر بغداد حين انهزم فشهروا عليه سيوفهم فقال: ويحكم أنا الخليفة. قالوا قد عرفناك يا سفلة أنت خليفة إبليس تبذل في كل رأس خمسة دنانير وفي كل أسير عشرة دنانير( يشيرون إلى المكافآت التي كان يعطيها لمرتزقة عن كل قتيل أو أسير يأسرونه) ثم ضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فطاح على الأرض وجلس آخرون على صدره وذبحوه ورفعوا رأسه على خشبة وهم يكبرون ويلعنونه.
ويخبرنا ابن الأبار أن عبيد الله المهدي مؤسس الخلافة الفاطمية في المغرب ادعى المسئولية عن تصفية المقتدر وأقام مجلسا للتهنئة بنجاح خطة الاغتيال. وقد نقل ابن الأبار عن الصولي أن الذي قتل المقتدر رجل يسمى عليون الصنهاجي وأنه رماه بحربة في صدره فخرجت من ظهره. وقد يكون عليون هذا أحد أفراد المجموعة التي هاجمت المقتدر بحسب رواية ابن الأثير. وفي كلتا الروايتين فالقاتل من المغرب.
مما يعزز ادعاء المهدي الفاطمي.إن اغتيال المقتدر هو من أوائل العمليات الكبيرة التي نفذتها الإسماعيلية. لكنه حدث حين كانت الحركة في أوج قوتها وانتصاراتها فكان لذلك حدثا منفردا لا يندرج في سياق موجة الاغتيالات التي سيشهدها القرن التالي. أما مردوده فكان ضئيلا إذ لم يترك أثرا كبيرا على العدو الذي كان المقتدر رمزا واحدا من رموزه العديدة ولم يكن شغور مكانه ليسبب ارتباكا أو قصورا في مركز السلطة، لا سيما وأن السلطة الفعلية كانت حينذاك بأيدي أمراء الحرب الأتراك المتسلطين على الخلافة .أما ابتهاج عبيد الله المهدي به فهو من باب استعراض القوة وإظهار قدرة الحركة على توجيه الضربات الموجعة للعدو في الوقت والمكان الذي تختاره.
اغتيال أمير حرب تركي
تم ذلك عام 440 أي بعد أكثر من قرن على اغتيال المقتدر. وكان الهدف هو حاكم همدان الأمير آق سنقر. وكان هذا الشخص كما يصفه ابن الأثير كثير الغزو للإسماعيلية والقتل فيهم والنهب لأموالهم والتخريب لبلادهم. وقد جرى قتله في كمين نصب له وهو في طريقه لزيارة أحد رجال الدين جريا على عادة أمراء الحرب الأتراك في توقير هذه الفئة والعناية بشئونها.
كان اغتيال آق سنقر فاتحة لموجة الاغتيالات التي نفذتها الإسماعيليةعلى امتداد حوالي القرن و النصف . وهو يأتي مع ظهور لقلاع الإسماعيليةفي المشرق حيث أخذت الحركة بالانكفاء في مواقع نفوذ صغيرة كانت تنطلق منها لتنظيم الدعوة في الخارج. وقد استخدم الاغتيال في تلك الظروف للدفاع عن القلاع بتوجيه ضربات مباغتة للأمراء الذين يفكرون في مهاجمتها، كما استفادت منه الإسماعيليةلإرهاب بعض الحكام وإرغامهم على التساهل مع الدعاة، وعدم التعرض لنشاطاتهم. وفي هذه الحقبة حدثت الحروب الصليبية، فاستجد للإسماعيلية هدف آخر هو رؤوس الصليبيين وقوادهم . وكما سنرى فيما بعد فقد صار الفدائيون الباطنيون مصدر رعب غير عادي لأولئك الغزاة.
اغتيال نظام الملك
هو الوزير المشهور وأعظم رجال الدولة في عهد السلاجقة. وكان إلى هذا يدا ضاربة للمعسكر السلفي الذي بدأ يستحوذ علة العالم الإسلامي في ظل الأتراك. ويتكرس ذلك نظريا في كتابه " سياست نامه" الذي ضمنه البرنامج الإسلامي، وعمليا في السياسة القمعية المنظمة التي اتبعها اتجاه هذه القوى لا سيما الإسماعيلية. تحدث ابن الأثير عن مقتل نظام الملك في حوادث سنة 485 ووضع له أسبابا تختلف بحسب الروايات التي تناولت هذا الحدث. أحد هذه أن الباطنية قتلوا مؤذنا من أهل اصبهان كانوا قد عرضوا عليه الدعوة فلم يستجب فخافوا أن ينم عليهم بعد أن كان قد عرفهم. وكان الذي تولى قتله نجار باطني. وقد قبض نظام الملك على النجار فأمر بقتله فقتل تحت التعذيب . فقتل الإسماعيليون نظام الملك وقالوا: قتل نجارا فقتلناه به.
وفي رواية أخرى تحدث ابن الأثير عن شقاق بين نظام الملك وسلطانه ملكشاه نتج عن استبداد نظام الملك بالسلطة دون ملكشاه. مما حدا بالأخير إلى التفكير في التخلص منه. وفي رواية ثالثة قرن ابن الأثير اغتيال نظام الملك بتضييقه على الحسن بن الصباح واستعداده لإرسال جيش لفتح قلعة الموت أكبر قلاع الإسماعيلية في المشرق. ولا أرى تعارضا بين هذه الروايات. فقد يكون قتل النجار الباطني حدث في وقت التخطيط لاغتيال نظام الملك فجعلته الرواية سببا مباشرا له، على طريقة الرواة في تفسير وقوع حدث آخر سابق له إلى حد يظهر معه الحدث المفسر معزولا عن ظروفه ومسبباته الأبعد والأعمق أثرا.
ويمكن أن تكون القيادة الإسماعيليةقد استفادت من الشقاق بين السلطان ووزيره لتنفيذ خطتها ضد الوزير، الذي كان خطر عليها من السلطان نفسه. أما تضييقه على الحسن بن الصباح وتأهبه لمهاجمة قلعة الموت التي كان قد أسسها بنفسه لتكون مركزا حصينا لدولته في المشرق، فيأتي في مجرى النهج العدائي الذي انتهجه نظام الملك ضد الحركة، وهو أمر مفهوم ويشكل بالتالي حافزا معقولا للتفكير في تصفيته لإحباط خطة الهجوم.
قتل نظام الملك في مدينة نهاوند الفارسية القريبة من العراق وكان قد وصل إليها صحبة السلطان قادما من أصبهان في طريق عودته إلى مقر عمله في بغداد. وكان الوقت رمضان فجلس للإفطار . وبعد أن فرغ منه حمل في محفة إلى خيمة الحريم. وفي باب الخيمة تقدم منه صبي ديلمي من الباطنية في هيئة مستغيث وهو يخرج من المحفة فعاجله بطعنة سكين قضت عليه في الحال. وكان الصبي هو عنصر التنفيذ الوحيد وقد هرب بعد أن ضربه لكنه عثر بطنب خيمة فأدركه الحرس فقتلوه.
كان مقتل نظام الملك ضربة موجعة لدولة ملكشاه الذي توفي بعده بخمسة وثلاثين يوما فانحلت الدولة وعمتها القلاقل مما أعطى متنفسا للإسماعيلية وصان قلعة الموت من الاجتياح.
مقتل ابن نظام الملك
كان يدعى فخر الملك. اغتالته الباطنية سنة 500 ولم يذكر سبب معين لقتله، فهو جاري ضمن العمليات التي استهدفت أركان السلطة. أما كيفية قتله فقد كان خارجا من داره إلى دار النساء عند العصر فسمع في الطريق صياح رجل متظلم شديد الحرقة وهو يقول ذهب المسلمون فلم يبق من يكشف مظلمة ولا يأخذ بيد ملهوف. فأحضر الرجل إليه فسأله عن أمره فدفع إليه ورقة مكتوبة بمظلمة. وبينما فخر الملك يتأمل الورقة عاجله المتظلم بطعنة سكين فقضى عليه. والمثير في هذه العملية أن الفدائي الإسماعيليى حين قبض عليه واستجوب سمى جماعة من كبار المسئولين قال إنهم كانوا وراء خطة الاغتيال فأخذ هؤلاء وقتلوا. ولم تكن لعم علاقة بذلك. وهكذا ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد حين أضاف إلى قتيله عددا آخر من أهل الدولة قتلوا مجانا بأيدي أصحابهم.
اغتيال الآمر بأحكام الله الفاطمي
تولى الآمر الخلافة بعد والده المستعلي الذي اغتصب الخلافة من أخيه الأكبر نزار بن المستنصر. وكان لنزار أصحاب من الإسماعيليةداموا على ولائهم له واعتبروا المستعلي وابنه غاصبين. وكان من مرتكسات هذا الخلاف ظهور الطائفة النزارية التي استعصمت فيما بعد بقلعة الموت تحت قيادة الحسن بن الصباح. وكان الآمر بعد أن اغتصب الخلافة لم يحسن سياستها مما جعله معزولا عن جمهور الدعوة مكروها من عامة الناس ، فعزم النزارية عل إنهائه. ونصف فيما يلي كيفية ذلك كما أوردها ابن تعزي بردي.
توجهت إلى القاهرةمن خارجها مجموعة فدائية من عشرة أفراد وبقيت هناك تتحين الفرصة للوصول إلى المقصود. ومر وقت طويل نسبيا على ذلك فتناهى خبرهم إلى الآمر فاحتاط لنفسه وأخذ في تعقبهم. ولما فشا أمرهم اجتمعوا للتداول. وكانوا يريدون أن يتأكدوا إن كانت سلطات القاهرةقد استطاعت تشخيصهم فاقترح أحدهم أن يقتلوا واحدا منهم ويرموا رأسه في المدينة فإن تعرفت عليه السلطات وجب على الباقين الانسحاب منها. فردوا على صاحب الاقتراح: ما يتسع علينا قتل واحد منا ينقص عددنا وما يتم بذلك أمرنا . فقال الرجل: أليس هذا من مصلحتنا ومصلحة من تلزمنا طاعته؟ قالوا نعم. فقال : وما دللتكم إلى على نفسي. وأخرج سكينا وطعن بها نفسه فمات بين أيدي أصحابه. فأخذوا رأسه ورموه في الليل في مكان محدد. وفي الصباح خرجوا متفرقين ليستطلعوا الحال فوجدوا الناس يبحثون في شأن الرأس وصاحبه دون أن يعرفه أحد منهم. ثم حملوه إلى الوالي (عمدة المدينة) فأحضر عرفاء الأسواق فلم يعرفوه ثم مسئولي الأرباع والحارات فلم يعرفوه. وأيقن التسعة عندئذ أن السلطات لم تتوصل إلى تشخيصهم فاطمأنوا إلى الإقامة في المدينة لأداء ما كلفوا به.
وجاء يوم أحب الآمر أن يذهب للنزهة في جزيرة تسمى الروضة. وكان عليه للوصول إليها أن يمر على جسر ممدود من القاهرةإلى الجزيرة. وكان من عادة الخلفاء أن يعلنوا نيتهم في الخروج بين الحاشية حتى يكونوا متأهبين لما ينبغي من الخدمة فسرى الخبر إلى المجموعة النزارية فسيقوه إلى الجزيرة وكان فى قبالة الجسر فرن فدخلوه ودفعوا إلى الفران دراهم وافرة ليعمل لهم فطيرا بسمن وعسل، فأخذ الفران يخبز لهم وهم يأكلون. وكانوا في هذه الأثناء يتطلعون صوب الجسر حتى طلع الآمر منه. وكان الجسر ضيقا ولا يسمح بمرور موكب فرأوه منفردا عن حراسه، فوثبوا عليه ومزقوه بسكاكينهم . ولكي يتأكدوا من الإجهاز عليه قفز أحدهم فركب وراءه وطعنه طعنات مميتة. وفي هذه اللحظات وصل الحرس إلى خليفتهم ولكن بعد أن كان قد انتهى غير أنهم أدركوا الرجال التسعة وقتلوهم.
لم يترتب على اغتيال الآمر نتيجة مذكورة. وقد تولى بعده أحد أبناء عمومته الملقب بالحافظ وكان أسوأ منه. لكن النزارية سجلوا لهم بهذا الإنجاز وقفة زادت من هيبتهم في قلوب أعدائهم.
اغتيال أمير حرب إرهابي
كانت مدينة الموصل في شمال العراق قد خضعت شأن غيرها من مدن العراق والجزيرة لأمراء الحرب الأتراك الذين تداولوها بالوراثة أو التغلب. وكانت في ذلك الحين من مراكز النشاط الإسماعيلي فتصدى له أمراؤها الأتراك على طريقتهم وكان أشدهم في ذلك أمير حرب متدين يسمى قسيم الدولة آق سنقر البرسقي . يقول ابن الأثير إن هذا الرجل قد تولى استقصاء الباطنية في الموصل ووصله خبر أنهم يجتمعون لدى اسكاف في درب إيليا، من أحياء الموصل، فقبض عليه واستجوبه فلم يخبره بشيء. فأمر به فقطعت يداه ورجلاه وعضوه التناسلي ثم رجموه بالحجارة حتى مات. فترصد الباطنية آق سنقر حتى وجدوا منه غفلة وهو يصلي الجمعة فانقض عليه بضعة عشر رجل منهم بالسكاكين . وكان منفردا عن حراسه فقاتلهم بنفسه وجرح ثلاثة منهم. لكنهم استطاعوا القضاء عليه.
اغتيال حاكم صور الصليبي
ذكر هذا الحاكم في المصادر العربية باسم المركيس. والمعرف أن المركيس ليس اسما بل لقبا يشير إلى مكانة أو منصب في أوربا القديمة. وكانت للمذكور قرابة ملكية فقد كان، تبعا للمؤرخين العرب، ابن أخت ملك فرنسا من أبيه وابن أخت ملك انكلترا من أمه. ويوجد اختلاف كبير في دوافع وعواقب اغتياله على يد الإسماعيليةبين ابن الأثير في " الكامل" وابن واصل في " مفرج الكروب" وقد أرجأت البحث في هذه المسألة لعدم مساسها بموضعنا وأكتفي بوصف كيفية التنفيذ.
جرى ذلك عام 588هـ وكان مقدم الإسماعيليةفي الشام هو راشد الدين سنان . ولما تقرر قتل المركيس المذكور كلف راشد الدين اثنين من فدائييه. وقبل أن يتحرك هذان الفدائيان تنكرا في زي الرهبان. وفي صور اتصلا باثنين من قادة الصليبيين فأقاما معهما ستة أشهر يظهران العبادة. فأنس إليهما المركيس ووثق بهما. وجاءت مناسبة أقام فيها أسقف صور وليمة للمركيس فحضرها. وكان الباطنيان حاضرين في حرم الأسقفية بحكم منصبهما الروحي فانتظراه حتى خرج. فوثبا عليه وطعناه طعنات سريعة لم تكن قاتلة. وهرب أحدهما ودخل كنيسة قريبة هناك. وصادف أن حمل المركيس إلى تلك الكنيسة ليعالج فوثب عليه الباطني وأجهز عليه. وقد قبض الصليبيون على الفدائيين وقتلوهما تحت التعذيب.
اغتيال وزير سلجوقي ظالم
في حوادث 516هـ من " البداية والنهاية" تحدث ابن كثير عن علي بن أحمد الشميرمي وزير السلطان السلجوقي محمود حديثا ننقله بنصه لأنه ظريف ووافي الرواية: كان مجاهرا بالظلم والفسق وأحدث على الناس مكوسا وجددها بعد أن كانت قد أزيلت من مدة متطاولة وكان يقول قد استحييت من كثرة ظلم من لا ناصر له وكثرة ما أحدثت من السنن السيئة: ولما عزم على الخروج إلى همذان أحضر المنجمين في تلك الساعة وبين يديه السيوف المسلولة والمماليك الكثيرة بالعدد الباهرة فما أغنى عنه ذلك شيئا بل جاءه باطني فضربه فقتله ثم مات الباطني بعده. ورجع نساؤه بعد أن ذهبن بين يديه على مراكب الذهب حاسرات عن وجوههن قد أبدلهن الله الذل بعد العز والخوف بعد الأمن والحزن بعد السرور جزاء وفاقا.
اغتيالات باطنية أخرى
- القاضي أبو سعد بن نصر بن منصور الهروي المقرب من المسترشد العباسي قتلته الباطنية عام 519هـ .
- المسترشد العباسي قتلته الباطنية سنة 529. ويتهم به السلطان السلجوقي مسعود بعد حروب وقعت بينهما.
- وزير الخليفة المستضيء واسمه عضد الدولة رئيس الرؤساء ابن المسلمة قتلته الباطنية عام 574 وهو متوجه إلى الحج وقد خرجت حاشيته لوداعه.
- صاحب مراغة ( بآسيا الوسطى) قتله الباطنية في مجلس السلطان السلجوقي محمد سنة 590هـ.
وقفة عند اصطلاح " حشاشين"
عرف الإسماعيليةبهذا الاسم أيام الحروب الصليبية مقترنا بمفهوم الاغتيال. يقول فاير في دائرة المعارف الإسلامية أن الاسم أطلق على الفريق الإسماعيلي الذي كان يحتل أيام الحروب الصليبية القلاع الجبلية في الشام وغيرها من بلاد المسلمين، والذين جروا على التخلص من خصومهم بالاغتيال. وأردف فاير ذلك بما كان يقال من أن الفدائيين الإسماعيليين كانوا يدفعون إلى تعاطي الحشيش حتى يصبحوا كالآلة الصماء يقومون بكل ما يطلب منهم.
هل كان الإسماعيليةيتعاطون الحشيشة لهذا الغرض؟ إن هذه العادة عرفت في العصور الإسلامية المتأخرة ومارستها حينذاك بعض الجماعات الصوفية التي استمرت عليها أيضا في العصر العثماني. وكانت المخدرات قد عرفت أيضا فى الحقلين الطبي والعام ومنها البنج والأفيون. ومن المظنون أن الإسماعيليةقد مارسوا ههذ العادة في حدود معلومة. ويمكن قبول هذا الاحتمال بالاستناد إلى اصطلاح " حشاشين" في صيغته اللاتينية وهى " assasinus" أو الفرنسية القديمة " haussasin" فهذه الصيغة تشير إلى الأصل اللغوي الذي أخذت منه وهو لغة الكلام ( العامية) لأنها تستعمل جمع المذكر السالم في حالتي الجر والنصب التي تتم بالياء والنون فقط ولا تغيرها مع تغير موقع الكلمة من الإعراب.
ويدلنا ذلك على أن الاسم قد جرى على السنة العامة في بلاد الشام أيام الحروب الصليبية. وظهور الاسم في التداول لا يمكن أن يكون بلا أساس تماما، ولو أننا لا نسقط من هذا الحكم إمكان تبلور الإشاعة في صيغة قناعة شعبية راسخة. وفي كل الأحوال لا يصح القول أن الإسماعيليةأدمنوا الحشيشة لأن هذا يتعارض مع مطلب الانضباط الشديد المفروض على أعضاء الفرقة لا سيما فدائييها. والمدمن على الحشيشة يتعذر عليه أن يكون فدائيا من ذلك الغرار الخارق الذي عرفناه عند الباطنيين. لكن ربما كان الفدائيون يتناولون جرعة مقننة من مخدر ما تساعدهم على عدم التوتر عند تنفيذ عملياتهم وأعرف شعراء سياسيين لا يمكنهم إلقاء قصائدهم الحماسية إلا ذا شربوا الخمر.
يجدر الملاحظة أيضا أن المبالغة في هذا الوصف جاءت من الأوربيين، الذين استعملوا الاسم مشفوعا بإيحاءات مرعبة تعكس بلا شك حالة الفزع التي سببتها النشاطات الإسماعيليةفي صفوف الصليبيين، وقد أورد قاموس أكسفورد التاريخي جملة تعريفات للاصطلاح تشعر بهذا المعنى ، القاموس نفسه يفسر الكلمة على النحو التالي: " الحشاشون هم مسلمون متعصبون أيام الحروب الصليبية كان يرسلهم شيخهم – شيخ الجبل- للفتك بالزعماء المسيحيين ( يقصد الصليبيين).يقول القاموس أيضا إنها أطلقت على الإسماعيليةالذين اعتادوا على تخدير أنفسهم بالحشيشة عند الاستعداد لإهلاك ملك أو أي شص آخر. وأورد القاموس تعريفا للاسم يرجع إلى عام 1603 جاء فيه أنه أطلق على فئة من المستقلين الخطرين من المحمديين" وآخر من عام 1611 يقول أنها فرقة دموية من السراين"( الاسم الأورو- قروسطي للمسلمين)" يقومون بدون أدني خوف من العذاب بالفتك بأي أمير مرموق يشك في فسقه أو مروقه.
وقد أدخلت بعض التعريفات الأوربية عنصر الاستئجار على عمل " الحشاشين" وهو اتهام يتردد أحيانا في المصادر الإسلامية . ويتضمن المعنى الحديث للكلمة الانكليزية " assassin " : " من يغتال لسبب سياسي أو مكافأة".
هذا ويجد التصور الأوربي لمفهوم " حشاشين" تعزيزا في رواية أوردها ماركوبولو تحدث فيها عن تخدير المريد الإسماعيلي بالأفيون ثم نقله إلى رياض مونقة أعدت وفق أوصاف الجنة المذكورة في القرآن. ثم إخراجه منها بعد أن يكون قد رآها بنفسه ليكون أكثر اندفاعا في تنفيذ الأوامر وقبول التضحية من أجل أن يعود إلى تلك الجنة. وهذا على الأكثر افتراء نقله ماركوبولو عن أعداء الإسماعيليةالذين التقى بهم أثناء رحلته.ومعلومات هذا الرحالة البندقي عن المسلمين غير موثوقة لعدم دقة نقله من جهة وتعصبه العدائي ضدهم من جهة أخرى.
بالنسبة للمصادر العربية، لا يتردد اسم حشاشين. والاسم الشائع هنا هو الفداوية وهو تحريف عامي للكلمة الفصيحة: الفدائية. (الإبدال بين الهمزة وحروف العلة الثلاثة شائع عند العرب) ومن المثير للانتباه أن الغزالي الذي بذل ما في وسعه لفضح الباطنية بتوجيه من السلاجقة والعباسيين لم يذكر هذا الاسم الجارح بين عشرة أسماء نص عليها في كتابه " فضائح الباطنية" وشرح معانيها ومدلولاتها. ولم يكن الغزالي ليشيح عن هذا الاسم تورعا.
اغتيالات أندلسية
كانت ظروف الصراع والحروب في الأندلس مثلها في المشرق قائمة على قدم وساق حتى نهاية الحكم الإسلامي في تلك الأنحاء . لكن مضمون الصراع كان مختلفا نوعا ما . فبسبب خصوصية وضع الأندلس لم تبلغها الحركات الاجتماعية التي قاتلت ضد السلطة إلا بمقدار . والمعروف أن مجتمع الأندلس كان مجتمع مهاجرين وقد عاش في حالة مجابهة متصلة ضد أهل البلاد، الأمر الذي حد من حالي الاستقطاب بين الشعب والسلطة وحصر الصراع في دائرتين كان في الأولى بين الفئات الأندلسية الحاكمة وفي الثانية ضد أهل البلاد.
وقد ظهرالاغتيال هنا كما في المشرق ولكن ضمن هاتين الدائرتين. ويتضمن سجل التاريخ الأندلسي حوادث اغتيال تفاقمت بعد انفصال الأندلس عن مركز الخلافة واشتداد الخصومة بين حكامها الأمويين وأمراء الحرب (ملوك الطوائف) ثم بين أمراء الحرب أنفسهم. واستعملت في الاغتيال نفس الوسائل: السم والمباغتة بالسلاح والقتل في الحمام. وضحايا الاغتيال هم الملوك والأمراء أنفسهم. ولم أعثر في حدود استقصاءاتي على حادث اغتيال موجه ضد قائد أسباني من ذلك الضرب الذي حصل في المشرق ضد الصليبيين.
ولا شك في أن الأندلس كان مفتقرا للخبرات الإسماعيليةفي هذا الميدان. ولم يعرف الأندلسيون الجماعات الفداوية التي عرفها المشرق والتي نفذت بدورها المرعب إلى عمق القاموس الأوربي. ويرتهم الفارق في الحالتين بطبيعة النزاع، فهو في الأندلس من محتلين ضد سكان أصليين، وهو في المشرق من سكان أصليين ضد محتلين. ويعني ذلك اختلاف الدوافع وبالتالي تفاوتها في درجة التحفيز مع ما يترتب عليه من التفاوت في عنصر الإبداع على صعيد التكتيك حيث يضعف في الأولى ويشتد في الثانية.
يمكن للباحث أن يتبين من مراجعة السجل الأندلسي أن أخطر حوادث الاغتيال هناك هي تلك التي وقعت في الحقبة الغرناطية / الأخيرة، لأنها أثرت بعمق في مجرى النزاع الإسلامي الأسباني وربما ساهمت بحسمه لصالح الطرف الآخر. وقد ترك لنا مؤرخ غرناطة الأكبر لسان الدين بن الخطيب ثبتا وافيا بهذه الأحداث إلى عهده سنختار منها ثلاثة حوادث أساسية لما تضمنته من مدلولات خطيرة في تاريخ غرناطة الإسلامي.
اغتيال السلطان إسماعيل بن فرج – أبو الوليد
هو خامس ملوك غرناطة من بني الأحمر. وقد يكون أعظمهم على الإطلاق . انتزع الملك من خاله المسمى أبو الجيوش نصر، رابع الملوك، وكان ضعيفا، لكنه لم يقتله كما جرت العادة، وإنما عينه واليا على ناحية وادي آش من أعمال غرناطة. وكان والده حينذاك حيا ويتولى مدينة مالقة، فأنكر على ولده ما فعله بخاله، فقبض عليه احتياطا من نشاط مناوئ قد يصدر عنه بالتواطؤ مع الخال المخلوع. لكنه لم يكل به وإنما فرض عليه إقامة جبرية في مكان مناسب له.
تهيأت لغرناطة في عهد أبو الوليد إمكانات صمود كبيرة ضد الأسبان. وكان هؤلاء قد تجمعوا بقيادة بيدرو الأول منتهزين الاضطرابات التي رافقت خلع سلطانها وبيعة أبو الوليد، وحاولوا اقتحام حصون غرناطة وتقدر بعض الروايات عدد جيش الأسبان في هذه المحاولة بخمسين ألف وخمسمائة فارس وأربعة آلاف راجل فقط. لكن الغرناطيين بقيادة أبو الوليد ألحقوا بالأسبان هزيمة نكراء أسفرت عن مقتل الملك بيدرو وتمزق جيشه الجرار.
بعد الانتصار الكبير في هذه المعركة بدأ أبو الوليد، محاولات استرجاع مضادة، فخرج من غرناطة بجيش قوي معزز بالمدفعية وحاصر بلدة حصينة للأسبان تسمى إشكر. وقد وصف ابن الخطيب القصف المدفعي على هذه البلدة فقال : " ورمي بالآلة العظمى المتخذة بالنفط كرة حديد محماة طاق البرج المنيع من معقله فاندفعت يتطاير شررها واستقرت بين محصورين فعاثت عياث الصواعق السماوية فألقى الله ( يقصد المدفع) الرعب في قلوبهم وأتوا بأيديهم ونزلوا قسرا على حكمه، ويبدو من هذا الوصف أن مدفع السلطان أبو الوليد كان متطورا عن المدافع الأولى التي استعملها عرب المغرب قبله بحوالي القرن، لأنه يدل على حدوث انفجار شديد.
وقد لفتت هذه التجربة الجديدة أنظار أهل غرناطة فنظم حكيمهم أبو زكريا بن هذيل وكان من المتخصصين في العلوم قصيدة وصف فيها المعركة وتحدث عن القصف المدفعي بالأبيات التالية:
وظنوا بأن الصعق والرعد في السما فحاق بهم من دونها الصعق والرعد غرائب أقطار سما هرمس بها مهندة تأتي الجبال فتنهد إلا أنها الدنيا تريك عجائبا وما في الثوى منها فلابد أن يبدو هرمس: حكيم يوناني ( خرافي) تنسب إليه الكيمياء والغنوص.
لا شك ، إذن ، في أن حاكما مثل أبو الوليد كان من شأنه أن يؤرق الأسبان الطامحين إلى استرداد ما تبقى من أراضيهم المحتلة. وكان المسلمون في هذه الحقبة قد انحصروا في رقعة صغيرة نسبيا من أسبانيا هي غرناطة وجوارها. وقد جعل ذلك للأسبان هيمنة على الوضع العام في بلادهم كرست تفوقهم السياسي والعسكري على المسلمين. وكان بمقدورهم من هنا أن يؤثروا في مجريات الأمور بغرناطة نفسها بل وأن يكون لهم رتل خامس بين أهلها من العرب والبربر والمولدين ( الأسبان المستعربين) على السواء. وفي ضوء هذه الحقيقة يمكن أن نتوقع تفكيرا جديا من الأسبان في التخلص من حاكم خطر يبلغ بع بعد النظر وعمق الطموح إلى البدء بإدخال تغيير جذري في أنظمة الجيوش كما كان مقدرا له أن يعيد الكرة للمسلمين على الأسبان.
جاء في الإحاطة أن السلطان أبو الوليد كان عائدا من مدينة مرتش بعد أن فتحها . وفي الطريق نقم على ابن عم له أمرا فقرعه عليه وبالغ في الإهمال لع وتوعده. فتواطأ المذكور مع جملة من القرابة والخدم فوثب عليه وهو يمشي بين الصفين من أعوانه إلى مجلس عام كان يجلسه للناس. وكان يلصق خنجرا في ذراعه فطعنه ثلاث طعنات كانت إحداها في عنقه من أعلى الترقوة. وقد خر السلطان صريعا وحمل إلى بعض الدور في قصر الحمراء وفيه رمق بسبب لزوق عمامته بفوهة شريانه المبتور. وسرعان ما أسلم الروح عندما أزالوا العمامة من ذلك المكان.
يصعب القول في الواقع أن مثل هذه العملية الفادحة قد تمت بمجرد خلاف مع ابن عم. ثمة احتمال قوي في وجود تدبير مسبق شارك فيه بعض أعوان السلطان من عملاء الأسبان وأنهم كانوا يتحينون فرصة للتنفيذ حتى حصل الخلاف بين السلطان وابن العم هذا فاتخذوه مطية لأغراضهم. وكانت دول الطوائف الأندلسية مليئة بأمثال هذا الشخص من المغامرين المستعدين للقيام بأي عمل تمليه عليهم مصالحهم الطارئة أو أمزجتهم الحادة.
اغتيال الوريث: إن مقتل أبو الوليد كان بمثابة ضربة قاصمة لمخططاته الاسترجاعية، لولا أن السلطة آلت فورا غلى ولده محمد. وكان الوليد جاريا في سلك والده سياسة وكفاءة وطموحا. وقد استعاد مدينة قبرة الحصينة بعد قصفها بالمدافع كما فتح مدينة باغة واسترجع جبل طارق واستولى على حصون هامة للأسبان. وأخذ بعد هذه الفتوحات يتهيأ لاستعادة أشبيلية. وكان مقدرا له أن يحقق ذلك لو طالت مدته، ولكان ممكنا بالتالي أن يحدث انعطاف ما في مجرى الصراع العربي الأسباني.
كان السلطان محمد بن إسماعيل يهم بالانصراف من جبل طارق بعد أن أتم فتحه، على نية العودة إلى غرناطة بالبحر. وقبل نزوله إلى البحر خرج إليه كمين من بعض مشايخ أعوانه كان بينهم مملوك أسباني لوالده يقول ابن الخطيب أنه صونع على اغتياله. وقد تولى هذا المملوك قتله بنفسه. ويقول ابن الخطيب إن ممن تواطأ على قتله كبير فقهاء غرناطة أبو الحسن المريني يتهم فيها السلطان المغدور بالمروق من الدين ويدافع عن خطة قتله اغتيالا.
إن اليد الأسبانية ملحوظة في هذا الحادث من خلال التورط المباشر للمملوك الأسباني. ومن المرجح أن يكون لهذا المملوك رديف من عملاء الأسبان قد يكون كبير الفقهاء واحدا منهم ما لم نقل إنه أي الفقيه ساهم في تنفيذ خطة معادية مدفوعا بخلاف شخصي مع السلطان.
تسلطن بعد محمد أخوه يوسف المكني أبو الحجاج. وكان أقل فاعلية من أخيه ووالده، ولم يحقق شيئا أمام الاندفاع الأسباني. ومع ذلك لم ينج من الاغتيال. ولعل الأسبان أرادوا أن يستأصلوا آثار أبو الوليد في أبنائه حسما للمخاطر الكامنة في سلسلة الوارث. وقد صرحت المصادر أن مغتاله كان ممسوسا وأنه داهمه وهو يؤدي صلاة عيد الفطر في جامع الحمراء ويقول ابن الخطيب إنه طعنه بخنجر كان قد أعده واعتنى بعلاجه. وهذا دليل على إعداد مسبق يجب أن تستبعد معه مسألة المس. ومن المحتمل أن يكون القاتل قد تظاهر بالجنون بعد أن قبض عليه ولو أن ذلك لم ينجه من القصاص. ومما يلقي الشك على الحادث كيفية وصول هذا الشخص إلى مصلي السلطان، وهو أمر لم يعد ميسورا بعد الخلفاء الراشدين إلا للحاشية.
إن هذه السلسلة من الاغتيالات قد ساعدت كثيرا على بتر الخطط الاسترجاعية لحكام غرناطة ووفرت للأسبان فرصا جيدة لتعزيز قدراتهم. وبالدرجة الأولى، أحبط اغتيال كل من أبو الوليد وابنه محمد مفعول تلك الخطوة التي تحققت لجيش غرناطة بتطوير مدفعيته. وقد أظهرت الحروب اللاحقة تفوقا للأسبان في هذا المضمار تم على حساب الخطة المجهضة للسلطان العظيم أبو الوليد.
لا يفوتنا مع ذلك تذكر ما قلناه آنفا هو أن استرجاع الأسبان سيادتهم على الشطر الأكبر من بلادهم قد أعطاهم أفضلية في صراعهم الأخير مع المسلمين. وفي ظروف التفوق تكون العلاقة شائلة بين طرفي الخصام ويتهيأ للمتفوق وسائل تأثير في المعسكر الآخر من بينها أن يتوصل إلى إيجاد رتل خامس يعمل لصالحه. ويبين تاريخ السياسة الحديثة أن العميل هو في الغالب فرد من بلد ضعيف يخدم مصالح بلد قوي متفوق عليه اقتصاديا وعسكريا. ومع أن مسلمي غرناطة كانوا حتى ذلك الوقت محتفظين بتفوقهم الحضاري على الأسبان فإن حالة الهيمنة التي تمت للأسبان بعد نجاح حروب الاسترداد قد أوجدت لها معادلا نفسيا كانوا يستطيعون من خلاله التأثير على أهل غرناطة. ومما له دلال ناطقة هنا أن يكون تسليم غرناطة قد جرى على يد أمير كان قد استولى على عرشها بالتواطؤ مع الأسبان وجعلها قبل أن يسلمها نهائيا شبه محمية لهم.
وفيات مشبوهة
أبو حنيفة:
هو النعمان بن ثابت بن زوتي ، أفغاني الأصل من كابل ، مؤسس المذهب الحنفي وأحد أعظم الفقهاء وأكثرهم نضجا وتحررا. ظهر في المرحلة التي كان فيها الفقهاء يعارضون السلطة الإسلامية لانحرافها عن سياسة الراشدين وكان يؤيد العمل المسلح للفرق المعارضة، وقد اختص بتأييده حركات الشيعة في أواخر الأمويين وأوائل العباسيين، وكان له دور مشهود في حركة إبراهيم بن عبد الله الحسني في البصرة ضد المنصور. وبعد نجاح الأخير في إنهاء هذه الحركة استقدمه من الكوفة وعرض عليه العمل قاضيا فأبى. وقد اختلفت الأقوال في مصيره بعد ذلك.
فقيل إنه تولى عد اللبن عند بناء بغداد حتى يكفر عن يمينه، وكان المنصور حين عرض عليه القضاء فأبى، حلف عليه أن يقبل فحلف هو أن لا يقبل. واليمين هنا ملزم للمنصور وليس له، فلا موجب للكفارة. ويبدو على هذا القول في الواقع مسحة الحكايات الظريفة التي دارت حول هذا الفقيه، ومعظمها يعكس، دون أن يكون صحيحا بالضرورة، شخصيته الاجتماعية المتسمة بالتسامح مع الناس وبرودة الأعصاب ، مع القدرة التي اشتهر بها على القياس وحضور البديهة. وقد ذكر ابن حجر أن هذا القول مردود من الأئمة وأن الصحيح أنه مات في السجن من الضرب أو السم. وقد أشار إلى رواية تسميمه في السجن ابن عبد البر القرطبي في " الانتقاء" والذهبي في العبر " دون أن يجزما بها.
وأورد ابن حجر رأيا يقول إن الامتناع عن القضاء لا يوجب أن ينكل به المنصور إلى هذا الحد، وإنما السبب هو دوره في حركة إبراهيم وأن المنصور لم يتجرأ على قتله بغير سبب فطلب منه القضاء مع علمه بأنه لا يقبل ليتوصل بذلك إلى قتله.
والأرجح عندي أن المنصور كان جادا في عرض القضاء عليه مع علمه بدوره في حركة إبراهيم لأنه، أي المنصور كان حريصا على استصفاء المثقفين وإلحاقهم بجهاز الدولة، ولو قبل أبو حنيفة لعينه فعلا وقربه إليه. لكن رفضه الذي جاء بعد تورطه في حركة إبراهيم كان استفزازا للخليفة أفقده اتزانه فألقى به في السجن. وقد ذكر ابن حجر أن المنصور أمر بضربه في ميدان عام ضربا مبرحا أدى إلى هلاكه. وأنا استبعد ذلك لأن المنصور كان من حسن السياسة وعدم التهور بحيث لا يقدم على هذا الإجراء بحق رجل كأبو حنيفة، والأولى عندي أنه مات بالحبس إما بالسم أو موتا طبيعيا. وكان عمره سبعين سنة حين سجن وهو عمر لا يساعد على تحمل ظروف السجن التي كانت رديئة للغاية.
موسى الكاظم
الإمام السابع في سلسلة الأئمة الاثنى عشر. وردت تقارير إلى هارون الرشيد عن علاقات واسعة له وأموال كثيرة تجبى إليه من الجهات، فوضعها على ملاك التنظيم السياسي المناوئ، وهو أمر متوقع من قبل موسى، فسافر إلى الحجاز بنفسه متظاهرا بالحج. وعند العودة أمر بالقبض على موسى ، وكان في المدينة واقتاده إلى بغداد.
سجن موسى في دار رجل من أعوان الرشيد يسمى السندي بن شاهك ، هندي الأصل، في دار رجل من أعوان الرشيد يسمى السندي بن شاهك، هندي الأصل، وبعد مدة لم يعنيها المؤرخون أخرج ميتا من دار السندي ووضع جثمانه على الجسر ونودي عليه: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه ويوجد خلاف في سبب موته. وقد روى أبو الفرج من طرق مختلفة أن السندي لفه ببساط وقعد فراشون من النصارى على وجهه حتى مات مختنقا. ثم أدخل عليه الفقهاء ووجوه أهل بغداد فنظروا إلى جثمانه فلم يجدوا أثرا لموت مريب، وشهدوا على ذلك.
وشهادة هؤلاء وردت في تاريخ بغداد للخطيب وفي تاريخ اليعقوبي. ولم يذكر الخطيب أنه اغتيل أما اليعقوبي فقال إن السندي هو الذي تولى قتله. وفي رواية أبو الفرج بعض الخلل. فالميت مختنقا لا تخفى ىثاره ولا يمكن للقاتل أن يجازف بعرضه على الشهود. كما أم الإشارة إلى ديانة الفراشين تحمل تغليظا للحادث ينم على الأثر الشيعي في الرواية. وقد يقال هنا أن غير المسلم أكثر استعدادا للقيام بهذا العمل ضد إمام مسلم، لكن تاريخنا يثبت أن الأكثرية المطلقة من الجلادين وقتلة أهل البيت كانوا مسلمين.
أما إغفال الخطيب لاحتمال موته اغتيالا فقد يكون سببه اتجاه هذا المؤرخ الميال لدفع التهم عن الخلفاء العباسيين. ويفسر هذا أيضا مسلك الطبري الذي اكتفى بالنص على موته في بغداد ، وربما ابن كثير صاحب البداية والنهاية. ويلاحظ عدم ذكر موسى الكاظم في قائمة المغتالين من الأشراف التي أوردها ابن حبيب البغدادي وهو قريب العهد نسبيا من موسى. ويمكن أن نستخلص من هذا دليلا على عدم اشتهار الشك في موته، لأن مؤلفي مثل هذه القوائم ذات الطبيعة الإحصائية يميلون عادة إلى توسيع قوائمهم، فلو تطرق إلى ابن حبيب شك ما في هذا الحادث لما أهمله. على أن ابن خلكان ذكر قول البعض أنه مات مسموما ولو أنه لم يؤكده.
من مجمل ما سيق يكون موت موسى الكاظم في السجن مثارا لشبهة صعبة الحل. من المحتمل جدا أن إشاعات موته اغتيالا قد رافقت إخراجه ميتا من السجن. وهو أمر معتاد في مجتمعاتنا حيث تلعب الإشاعة دورا كبيرا في صياغة الخبر السياسي، ولو أن الإشاعة قد لا تخلو من أساس متين حين تتعلق بحادث كهذا: يخرج فيه معارض كبير للدولة لم يجاوز الخمسين، ميتا من السجن. وسوء الظن بالسلطة تقليد سياسي راسخ عند العرب. ومن الملحوظ مع ذلك أن ظروف سجن موسى الكاظم لم تكن رديئة لأنه سجن في قصر ولم يسجن في المطبق، السجن العباسي السيئ الصيت. فاحتمال موته نتيجة السجن ضعيف . ويبقى البت في ذلك رهنا بعالم الغيب الذي لا تدركه الأبصار..
وفاة ثائر شاب
حاول الشيعة الاستفادة من تخلخل أوضاع العراق بعيد حرب الأمين- المأمون فبدأوا تحركا في الكوفة. وكان أبرز القادة من أهل البيت في ذلك الوقت شاب يدعى محمد بن إبراهيم بن طباطبا، من نسل الحسين بن علي، هو الذي تصدى لقيادة التحرك الشيعي. وقد أظهر هذا القائد وعيا اجتماعي متقدما تعرفنا عليه من رواية أوردها أبو الفرج كنت قد اقتبستها في بعض كتاباتي السابقة ولا بأس من إعادتها هنا لأهميتها في إلقاء الضوء على مصير هذا الزعيم. قال أبو الفرج بعد أن تحدث عن استعدادات ابن طباطبا للخروج على الدولة:
... فبينا هو في بعض الأيام يمشي في بعض طريق الكوفة إذ نظر إلى عجوز تتبع أحمال الرطب فتلقط ما يسقط منها فتجمعه في كساء عليها رث. فسألها عما تصنع بذلك فقالت: " إني امرأة لا رجل لي يقوم بمؤونتي ولي بنات لا يعدن على أنفسهن بشيء فأنا أتتبع هذا من الطريق واتقوته أنا وولدي" فبكى بكاء شديدا وقال : " أنت والله وأشباهك تخرجوني غدا حتى يسفك دمي" ونفذت بصيرته في الخروج.
ولابن طباطبا أبيات يذك رفيها ههذ الحادثة وصلتنا عن طريق الصفدي، الذ قال إنه كان خطيبا شاعرا، والأبيات واضحة في دلالتها على الحادثة ولو أنها ليست متينة السبك وسنرويها هنا لأنها تضيف عنصر توثيق لرواية أبو الفرج:
ويؤخذ من أحاديث المؤرخين عن حركة ابن طباطبا أنه اكتسب شعبية واسعة في الكوفة وأريافها وبواديها، فابن كثير يقول: اتفق أهل الكوفة على موافقته واجتمعوا عليه من كل فج عميق ووفدت إليه الأعراب من نواحي الكوفة والطبري يقول: أتاه الناس من نواحي الكوفة: الأعراب وغيرهم والأصبهاني يقول: " تبعه أهل الكوفة كالجراد المنتشر" . ولا غرابة في أن يتبعه أهل الكوفة الذين عاشوا في انتظار من ينادي باسم أهل البيت حتى يهرعوا إليه يراودهم حلم الخلافة العلوية التي مرت عليهم كالسحابة العجلى.
أما ألأعراب فقد وجدوا في ظهور هذا الثائر الحساس فرصة للاشتفاء من جوع البادية . ولا يعرف جوع البادية إلا من يكابده. ولقد أثارت شخصية أبن طباطبا هذه خيال الناس والرواة فنسجوا لها أخبارا غيبية تنسجم مع طعمها الخاص. قال أبو الفرج إن زيد بن علي تنبأ بظهور محمد بن طباطبا فقال : " يبايع الناس لرجل منا عند قصر الضرتين (موضع في الكوفة) سنة تسع وتسعين ومائة في عشر من جمادي الأولى، يباهي الله به ملائكته.." وفي رواية أخرى يقول أخوه محمد بن علي الباقر:" يخطب على أعوادكم يا أهل الكوفة سنة تسع وتسعين ومائة من جمادي الأولى رجل منا أهل البيت يباهي الله به ملائكته" ولست أتهم أبو الفرج فليس هذا من نسج خياله وإنما خيال الذين رأوا الثائر الشاب وعاشوا على مقربة من تاريخه.
كان ابن طباطبا بحاجة غلى قائد عسكري يعبيء تلك الجماهير التي اتبعته كالجراد المنتشر ويسلحها ويقودها لمجابهة العباسيين، فوجد ضالته في ضابط متشيع اسمع السري بن منصور الشيباني وكنيته أبو السرايا. وكان من المغامرين الطموحين الذين تحركهم نزعة تمرد مشوبة بالروح العسكرية. وقاد هذا الضابط الكفوء جماهير الكوفة وأعرابها في معارك ظافرة ضد الجيوش العباسية. . لكن الزعيم الشاب ابن طباطبا لم يلبث أن مات فجأة بعد معركة حاسمة سجل فيها أبو السرايا نصرا كبيرا.
كيف مات ؟
يفهم من " مقاتل الطالبين" أن المعركة كانت قيد الإعداد من فريقيها لما اعتل محمد بن إبراهيم علته التي مات فيها. ولتأكيد قصة المر يقول أبو الفرج أن الحسن بن سهل- متولي العراق للمأمون الذي كان حينذاك في خراسان- كان يعرف علم النجوم وأنه كان ينظر في نجم محمد فيراه محترقا فيبادر في طلبه.. وبعد أن يتحدث عن تفاصيل المعركة التي انتصر فيها أبو السرايا ويذكر عودته إلى الكوفة يقول إنه دخل على محمد بن إبراهيم وهو يجود بنفسه، أى يحتضر، وأن محمد انتقده بشدة لعدم مراعاته الأصول الشرعية في الحرب. ثم أن أبو السرايا رأي في وجه محمد الموت فالتمسه أن يوصيه فأوصاه . ثم مات ساعته ودفنه أبو السرايا في الغري ( النجف) . وتولى بعده الزعامة حفيد لزيد بن علي صغير السن تم اختياره من قبل وجوه أهل البيت أنفسهم وقبل به أبو السرايا بناء على ذلك.
لكن مصادر رئيسية أخرى أثارت الشك حول الموت المفاجئ لابن طباطبا ، الذي لم يكن قد ناهز الثلاثين آنذاك. فالطبري يقول:" ذكر أن أبا السرايا سمه. وكان السبب في ذلك فيما ذكر أن ابن طباطبا لما أحرز ما في عسكر زهير- يشير غلى الجيش العباسي المهزوم- من المال والسلاح والدواب منعه أبا السرايا وحظره عليه، يقصد أنه منع أبا السرايا من التصرف فيه. وكان الناس له – يعني ابن طباطبا – مطيعين فعلم أبو السرايا أنه لا أمر له معه فسمه" .
ويستطرد الطبري أن أبو السرايا أقام مكانه غلاما أمرد حدثا هو محمد بن محمد بن زيد فكان أبو السرايا هو الذي ينفذ الأمور... والطبري باستعماله الفعل المجهول " يذكر " يسجل تهمة دون أن يجزم بها. وبهذه الصيغة يرد خبر مماثل عند ابن كثير وابن العماد. لكن ابن الأثير الذي يعتمد على الطبري كأساس يخالفه فيثبت التهمة ضد أبو السرايا. وقد ساق ابن خلدون خبر ابن طباطبا فلم يتطرق إلى التهمة وإنما نص على أن أبو السرايا هو الذي نصب الغلام الزيدي واستبد عليه. وفي " فوات الوفيات" تفاصيل مشابهة لما في " المقاتل" لا شك في أنها مقتبسة عنه.
هكذا فالطبري وابن كثير وابن العماد يتهمون أبو السرايا دون أن يبتوا في التهمة وابن خلدون يذكر استبداده في الأمر بعد وفاة الزعيم ونصب الغلام الزيدي. وابن الأثير يبت فيها مستدركا على الطبري، والأصبهاني يتجاهل ذلك كليا ويجعل موت ابن طباطبا نتيجة علة لم يذكر ما هي. ونحن مضطرون في ضوء هذا التضارب في الروايات إلى وضع القضية على ملاك الوفيات المشبوهة. ويمكن مع ذلك أن نتفهم الباعث على تجاهل التهمة في مقاتل الطالبين، فكلا الطرفين في ههذ القضية: المتهم والمجني عليه كان من الشيعة . فهي إذن قضية داخلية تخص حزب المؤرخ ولا يجوز نشرها على الناس. وإذا انكشف منها جانب لابد من تغطيته بالطريقة النموذجية التي تمت في مقاتل الطالبين. لقد فصل أبو الفرج وهو شيعي زيدي قصة الموت المفاجئ لابن طباطبا بشكل يدل على أنه تقصد دفع التهمة عن أبو السرايا مع علمه بها.
من جهتي أنا، وبرغم اضطراري إلى وضع القضية في خانة الوفيات المشبوهة وقوفا عند المقدار الذي تضمنته المصادر الرئيسية ، فإن قناعتي تميل بي إلى تأكيد الاغتيال. فهذه القضية الملتبسة قد اشتملت في جوهرها على تعارض خطير بين قطبين متباعدين : زعيم مبدئي يريد أن يستولي على الأموال حتى يعطيها للفقراء، وضابط مغامر يريد أن يحوز الأموال لنفسه ولجماعته. ومع أن كلاهما متفق على الهتاف لآل البيت فإن الهتافات يمكن أن تطوي تحتها مواقف مختلفة. لقد أراد أبو السرايا أن يقيم سلطة لآل البيت ترتفع فيها رايتهم وينادي بشعارهم، على أن يتقاسم أهل السلطة، ومنهم وجوه أهل البيت، مغانمها بالطريقة السائدة فيعطون ما لله لله وما لقيصر لقيصر . أما ابن طباطبا فكان يريدها سلطة لأهل البيت ينعم الفقراء في ظلها بالشبع ولا ينال هو ومن معه منها إلا قدر الحاجة.
ليس من شك في أن هذا الفتى لو لم يمت في ذلك اليوم، لمات في يوم آخر. وأنه لو أفلت من المكيدة وعاش حتى ينتصر تماما ويقيم سلطته التي كان يتوق إليها، فلن يفلت من عواقب التمرد والانشقاق في معسكره.
المأمون
توفي المأمون في طرسوس ، من مدت تركيا في الوقت الحاضر، وثمة اتفاق على أنه توفي من حمى أصابته بعد جلسة على نهر في تلك المدينة أكل فيها رطبا جيء به من بغداد . وكان المأمون في الثامنة أو السابعة والأربعين، ولم تلق المصادر الأمهات ظلا من الشك على وفاته، لكن ابن عماد الحنبلي يقول إن " مادة في حلقه تحركت عليه فبطت قبل بلوغها غايتها فكانت سبب وفاته".
لماذا بطت هذه المادة قبل أن تنضج؟ وهل كانت مجرد خطأ من الطبيب؟
الجواب عند ابن أصيبعة ، وهو مؤرخ علم لا سياسة . ففي ترجمة للطبيب السرياني يوحنا بن ماسويه تحدث هذا المؤرخ العالم الذي كرس سفره الجليل لترجمة أناس كان يحبهم بحكم محبته للعلم، تحدث عن شخصية يوحنا فتجلت لنا من حديثه شخصية مثقف مسيحي خارج عن سلوك الملة يستخف بطقوسها ورجالها ولا يلزم نفسه بشيء من قواعدها في التفكير أو السلوك. فهو قريب من غرار زنديق متعالي لم يعجبه الدين ولكن ليس من اجل حالة أفضل بل للتخفف من قيوده الأخلاقية.قال ابن أبي أصيبعة بعد أن ذكر أكل المأمون للرطب.
" .. ثم نهض محموما. وفصد فظهرت في رقبته نفخة كانت تعتاده ويراعيها الطبيب إلى أن تنضج فتنتفخ وتبرأ . فقال المعتصم للطبيب ابن ماسويه : ما أطرف ما نحن فيه تكون الطبيب المفرد المتوحد في صناعتك وهذه النفخة تعتاد أمير المؤمنين فلا تزيلها عنه وتتلطف في حسم مادتها حتى لا ترجع إليه. والله لئن عادت هذه العلة عليه لأضربن عنقك.. وانصرف ابن ماسويه فحدث بعض من يثق به بما قال المعتصم فقال له: تدري ما قصد المعتصم؟ قال : لا . قال : قد أمرك بقتله حتى لا تعود النفخة إليه وإلا فهو يعلم أن الطبيب لا يقدر على دفع الأمراض عن الأجسام وإنما قال لك لا تدعه يعيش ليعود المرض إليه. فتعال ابن ماسويه ( تمارض) وأمر تلميذا له بمشاهدة النفخة والتردد إلى المأمون نيابة عنه. والتلميذ يجيئه كل يوم ويعرف حال المأمون وما تجدد له. فأمره بفتح النفخة. فقال له: أعيذك بالله ما احمرت ولا بلغت إلى حد الجرح، فقال له: امض وافتحها كما أقول لك ولا تراجعني . فمضى وفتحها ومات المأمون".
وعلق ابن أبي أصيبعة على ذلك قائلا:" إنما فعل ابن ماسويه ذلك لكونه عديم المروءة والدين والأمانة وكان على غير ملة الإسلام وليس له تمسك بدينه أيضا" وابن أبي أصيبعة يقوم ، إذا صحت روايته، بواجبه العلمي الأخلاقي حين يدين ابن ماسويه على هذه الخيانة، ولكن كان عليه أن يبدأ بالمعتصم لأنه الآمر، والطبيب الخائن هو المأمور. ومن المعلوم أن المعتصم هو أخ المأمون وولي عهده ولعله فكر أن مدة أخيه قد طالت فخاف أن لا يلحقه دور في الخلافة فاستعجل موته.
ولئن كان قد حسب هذا الحساب لقد أصاب لأن خلافته لم تدم أكثر من ثماني سنوات ويخبرنا الطبري أنه حين احتضر قال : لو علمت أن عمري هكذا قصير لم أفعل ما فعلت.
روى الطبري أن ابن ماسويه كان عند المأمون ساعة احتضاره وكان عنده رجل يلقنه الشهادة فقال له ابن ماسويه : دعه فإنه لا يفرق في هذه الحال بين ربه وماني.. ففتح المأمون عينه وأراد أن يبطش به فعجز عن ذلك وأراد الكلام فعجز عنه. إن هذا الاستخفاف يصدر عن نفس الخليفة التي عرفناها لهذا الطبيب ولكنه يحمل من جهة أخرى دليل اطمئنان على عدم العقوبة من ولي العهد والخليفة المقبل. وإنه ليبدو لي فضلا عن ذلك أن ابن ماسويه لم يكن ليستخف بالخليفة وهو يحتضر لو أنه كان يموت ميتة طبيعية. إن مثل هذا التصرف يمكن أن يمثل سلوك متآمر يشهد ساعة احتضار ضحيته، حيث يمتزج الشعور الخفي بنشوة القدرة على الإيقاع بالغير بشيء من الاستصغار يتحسسه متآمر سيء السلوك تجاه ضحيته التي تجسدت فيها فاعليته أمام عينيه، بعد أن تكون قد فقدت قدرتها على الاستجابة.
بناء على هذه الملابسات يكون المأمون قد مات اغتيالا. لكن سكوت المصادر الرئيسية عن ذلك يمنعنا من البت في رواية ابن أبي أصيبعة التي تبقى في هذه الحال ترجيحا يحتاج لكي يبت فيه إلى المزيد من الروايات الموثقة.
موت شاعر
كان ابن هاني الأندلسي باطنيا صارما فخرج من الأندلس مضطرا واتصل ببعض المتنفذين في المغرب قبل أن يكتشفه المعز لدين الله الفاطمي فيصبح شاعره الخاص. وكان يمدح المعز عن عقيدة كما كان نظيره المشرقي أبو الطيب المتنبي يمدح سيف الدولة عن قناعة.. وهو أول شاعر يتكلم عن التشيع بصوت مجلجل كانت تدوي من خلاله أصداء الانتصارات الكاسحة التي حققها الفاطميون في شمال أفريقيا. وكان ابن هاني شاعرا فحلا من أصحاب المطولات. ولشعره من شدة الإيقاع وجمال العبارة وعمق المضمون ما يعطيه سلطة النفاذ إلى قلوب متلقيه في مجتمع يشكل الشعر جزءا عضويا من ثقافته. وكان هو يشعر بثقل وطأته على أعداء الدعوة من أمويي الأندلس وعباسيي المشرق وتمنيهم لو ظفروا به: ولو علقته من أمية أحبل لجب سنام من بني الشعر تامك وما نقموا إلا قديم تشيعي فنجي هزيرا شده المتدارك
ولكن هل نجاه شده المتدارك حقا؟
ثمة اتجاه عام في المصادر إلى أن الشاعر الباطني قد مات اغتيالا. ويتفق المؤرخون على أنه كان مع المعز الفاطمي حين فتحت مصر وقرر التوجه إليها، وأنه استأذن خليفته وإمامه ليعود إلى المغرب فيأخذ عياله ويلحق به، وأنه تجهز وعاد. ولما وصل إلى برقة في ليبيا وهو في طريقه إلى مصر مات فجأة . لكن كيفية موته غير متفق عليها. يصرح كل من ياقوت والصفدي وابن تغري بردي وأبو الفدا وابن خلكان- في روايتين – بأنه قتل ، بينما يذكر لسان الدين بن الخطيب أنه سكر مع مضيفه ونام عريانا فمات متجمدا . ونومه عريانا يتكرر في المصادر لكنها، عدا ابن الخطيب، لا تفسر موته بالتجمد وإنما تتراوح بين التساؤل عن سبب موته والتصريح أنه وجد مخنوقا في ساقية بتكو سراويله.
ويثير شارح ديوانه الدكتور زاهدي الشك في هوية المضيف وقد ذكره ياقوت على أنه من أعيان برقة لكنه لم يصرح بشيء عنه. وأنا مع شكوك الدكتور زاهدي، لكن رواية ابن الخطيب تمنعني من الجزم بالاغتيال آخذا في الحسبان أن ابن هاني كان سكيرا فلا يستبعد منه أن ينام عريانا بعد أن تلعب الخمرة برأسه. ويمنعني مع ذلك من ترجيح هذه الرواية والاكتفاء بها للبت في مصير الشاعر كونها شاذة عن مجمل الروايات الأخرى التي نصت على أنه مات ميتة غير طبيعية. ويمكن أيضا أن نتساءل أيضا كيف يتم لشاعر خطر أن يبلغ به الاستهتار والتراخي إلى حد فقدان الوعي والنوم عريانا؟ ولماذا ترك دار مضيفه لينام في الطريق؟ إن مثل هذه التصرفات يمكن أن تصدر عن أبو نواس وليس عن صاحب رسالة كابن هاني. ولعمري لئن كان قد فعلها لقد بالغ في الإهمال والتفريط وإلا فهو ضحية مؤامرة أموية أو عباسية..
ثاني ملوك غرناطة
هو محمد بن محمد الملقب بالفقيه. لم يكن من المعدودين فيهم لكنه كان أطولهم حكما فقد استمر في السلطنة ثلاثين عاما. قال ابن الخطيب إنه مات فجأة وهو يصلي المغرب. وفي صباح اليوم التالي حضر طبيب يدعى ابن السراج فسأل عن آخر أكلة أكلها فقيل له أنه أكل كعكا وصل إليه من ولي عهده وهو ابنه محمد. يقول ابن الخطيب: فقال، أى الطبيب ابن السراج، كلاما أوجب نكبته فامتحن بالسجن الطويل والتمست الأسباب الموصلة إلى هلاكه، ثم أجلي إلى العدوة (وهي مجاز الأندلس إلى المغرب) ثم دالت الأيام فعاد إلى وطنه مستأنفا ما عهده من البر وفقده من التجلة.
لم أكن في حاجة غلى وضع السلطان محمد الفقيه في باب الوفيات المشبوهة مع هذا البيان الوافي من لسان الدين لولا أن مصادره الأخرى دأبت على القول بأنه توفي سنة 701 هـ دون أن تضيف شيئا.
على أى حال، وبموجب غرناطة الأكبر. يكون ثاني ملوك غرناطة قد لقي المصير الذي يمكن أن يكون قد سبقه إليه المأمون، وللسبب نفسه. فقد خاف ولي العهد أن تطول المدة فلا يناله نصيبه من الحكم فسعى للتعجيل برحيل صاحبه. والكلام الذي أوجب نكبة الطبيب، الملتزم بقوانين ممارسة المهنة، لا يمكن أن يتجاوز الإيماء إلى كون الكعك الذي أرسله ولي العهد مسموما.ولعل السم كان من اللطافة بحيث مات المسموم فجأة ودون أية أعراض. أما مصدر نكبة الطبيب فهو ولي العهد الذي تسلطن بعد الوالد المسموم. وأما عودة الطبيب إلى وطنه بعد نفيه فتمت بعد خلع الغادر وهو ما يعنيه ابن الخطيب بعبارة:" ثم دالت الأيام" وحادث خلع ثالث ملوك غرناطة مشهور ولا علاقة له بموضوع بحثنا.
احتياطات ضد الاغتيال
كان من المتوقع والطبيعي للمشتغلين في السياسة أن يتخذوا ما يحرسهم من مخاطر الموت اغتيالا. وقد تفاوتت وسائل الاحتراس باختلاف وسال الاغتيال. وفيما يخص المباغتة بالسلاح كانت الوسيلة الأرأس هي الحراسة المسلحة، مع التحوط، والحذر. وأقدم من اتخذ الاحتياطات ضد هذه المخاطر هو معاوية بن أبي سفيان بعد محاولة اغتياله التي أشرنا إليها في القسم الثاني. وقد اتخذ معاوية لنفسه مقصورة يصلي فيها لكي يحتاط ضد المباغتة أثناء الصلاة. وأصبح الخلفاء ومن يليهم من المسئولين في المركز والأمصار لا يسيرون إلا بحراسة.
ومع تعقد جهاز الدولة والتوسع في أبطرة مظاهرها صار الخلفاء يعيشون ويمارسون مهامهم في قصور حصينة كانت تتحول بالتدريج إلى مدن متكاملة المرافق مفصولة عن العاصمة. وكان بعض السلاطين يبالغون في تكثيف الجو الإرهابي المحيط بهم فيتخذون لهم أسودا تقاد مع مواكبهم أو تربط في مداخل قصورهم. وكان بعضهم يجلس مجلسه العام وعلى جانبيه أسود مربوطة بالسلاسل . ولما تصاعدت موجة الاغتيالات الباطنية ظهرت وسيلة جديدة للاحتياط ضد الاغتيال وهي الدروع الواقية التي كانت تلبس تحت الثياب لإبطال مفعول السلاح. وقد اتخذت ههذ الوسيلة لأن الإسماعيليين كانوا في الغالب يستعملون الخناجر والسكاكين في تنفيذ ضرباتهم.
فيما يخص الاحتراز من السم، أورد ابن عساكر حديثا عن البيهقي يفيد أن النبي كان لا يأكل الهدية حتى يأكل منها من أهداها إليه. وكان السبب هو تعرضه لمحاولة تسميم حين أهدت إليه امرأة شاة مسمومة في أيام فتح خيبر. وكان قد أكل من هذه الشاة ولكنها لم تضره كثيرا. ولو أن كتب السيرة تزعم أن هذه الأكلة كانت سببا في وفاته التي جاءت بعدها بأكثر من أربع سنوات. وهو زعم أريد به القول أن النبي مات شهيدا . وبعد أن كثرت حالات التسميم في الأحقاب التالية أخذت مسألة الاحتراز من السموم أهمية أكبر. وبالطبع فإن الجهة الأكثر اعتناء بهذه المسألة هم الحكام. وقد تضمن كتاب دهائي عنوانه " المنهج المسلوك في سياسة الملوك" ألفه عبد الرحمن بن نصر لصلاح الدين الأيوبي فصلا هاما عرضت فيه وسائل للكشف عن السموم في الأطعمة والمشروبات والملابس والأواني وغيرها مستمدة من كيمياء السموم مع شيء من علم الحيوان وعلم النفس. ولأهمية هذا الفصل أنقله بنصه المأخوذ من طبعة القاهرةلسنة 1326هـ .في معرفة ما يكاد به الملوك في غالب الأحوال" ...
أكثر ما رأينا يحدث في غالب الأحوال من أمور نحن ذاكروها إن شاء الله تعالى. فمن ذلك السموم القاتلة التي يتلطف بها الأعداء في الحيلة بوصولها إلى الملوك عل يد النسوان والغلمان. وهو يصنع غالبا في عشرة أشياء : في السرج والسرير والكرسي والحلي والآنية والطعام والفاكهة والثياب والفراش. وسنذكر من العلامات الواضحة في هذه الأشياء ما فيه كفاية للفطن بحيث إذا رآها علم أنه مسموم. وينبغي للملك أن يتفقد ثيابه كل يوم وفراشه أيضا وغاشيته الذي على سرج الحصان وكرسيه الذي يجلس عليه، فإن علامة ذلك إن كان مسموما أن يظهر في صفاء ألوانها لمع كالرسخ يضرب إلى سواد من غير وسخ، وهدبها وحواشيها في نظر العين كأنها بالية.
وأما ظاهر السرج والسرير والكرسي إذا كان ملطوخا بالسم يكمد لونه ويعلوه كالغبرة. وأما لحلي والآنية وما يستخرج من معادن الأرض كالذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد فإن ذلك كله إن كان مسموما يعلوه كالرسخ. وأما أواني الخزف والفخار فإنها إن كانت مسمومة تحدث دسومة وزهومة ( رائحة اللحم الفاسد) وربما أفرط صفاء لونها حتى رؤي فيها بريق ليس من ذاتها، وربما ذهب بريقها الذي هو من ذاتها.
وأما الطعام المسموم فيستدل عليه من وجهين أحدهما بالنار، فإن الطعام المسموم إذا وضعت منه شيئا في النار لم يصعد دخانه مستطيلا غلى الهواء بل يدور على ذلك.الطعام ويسمع له صوت. وأيضا يكون طرف ما ينبعث من النار كأنه عنق الطاووس. وأيضا مما يظهر منه احترق رائحة منتنة. الوجه الثاني أن يعرض الطعام على الطير والدواب التي هي معدة في دار الملك لمعرفة الطعام المسموم، أما الطير فمنها الغراب فإنه إذا أكل من الطعام المسموم انكسر صوته، أما الصرخد والقفعاء فإنهما إذا شما الطعام المسموم صوتا بأعلى صوتهما. ومنها طائر من جنس الإوز الصيني يقال له الهيش فإنه إذا رأى الطعام المسموم وشم رائحته هرب منه ورجع يتعثر في مشيته.
ومنها الكركي فإذا شم رائحة الطعام المسموم وأكله يدور حتى يظن أنه غشي عليه. ومنها الفواخت والعقعق فإنهما يموتان بأكل الطعام المسموم وكذلك إذا شما رائحته. ومنها الطاووس فإنه إذا رأى الطعام المسموم تشوف إليه وطفق يأكله ويهواه. ومنها طائر من طيور الماء أحمر العينين يقال له حيوحين فإنه إذا نظر غلى الطعام المسموم خر إلى الأرض مغشيا عليه. وأما الدواب المعدة لذلك فمنها السنور فإنه إذا أكل من الطعام المسموم أو شم رائحته نفر من موضعه ولم يستقر فيه. ومنها القرد فإنه إذا قدم إليه المسموم أيضا لم يتمالك حتى يهرب منه ويصعد في الأشجار والحيطان. فهذا كله يستدل به على الطعام المسموم. فينبغي للخادم المقدم للطعام أن يمتحنه بالنار ويعرض على الطير والدواب التي ذكرناها قبل إحضاره بين يدي الملك.
وإذا كان الطباخ بصيرا حاذقا عرف السم إذا طرح في القدر بالأمارة (العلامة) الدالة عليه فإن قدر الأرز إذا وضع فيها السم أبطيء نضجها وإذا أنزلت عن النار انعقد فيها سريعا وصلب حبه ويفور من القدر بخار كلون عنق الطاووس. وقدر المرق إذا وضع فيها السم فلا يلبث إلا قليلا حتى تنشف المرقة منها ويبقى اللحم يابسا لا مرقة عليه. ومهما بقي منه تغير لونه وكدر. وأما معرفة السم في الشراب المسموم فإن كل شراب حلو إذا طرح فيه السم يظهر فيه خط مستطيل كلون النحاس ويظهر من المحيط خطوط من الخضرة والصفرة والسمرة. ويظهر في ماء العسل خط كلون شعاع الشمس ويظهر في الماء والنبيذ خط أسود.
وأما معرفة الفواكه المسمومة فإن ما لم يدرك منها يظهر للعين كأنه مدرك (ناضج) والتي قد أدركت منها تظهر كأنها لم تدرك لتغيرها وانقباضها، وكل رطب منها تراه كالمهري وكل يابس تراه منقبضا متشنجا وجميع الفواكه يذهب لونها ويعلوه غبرة وكدرة ويصير اللين منها صلبا والصلب منها لينا.
واعلم أن واضع السم في بعض هذه الأشياء هو صانع مكيدة من مكايد الأعداء من النسوان أو الغلمان أو الخدم وغيرهم لابد أن يظهر عليه من الريبة إمارة لا يخفى فيها على الفطن اللبيب، فينبغي للملك أن يتصفح وجوه خدمه وغلمانه وجواريه ونسائه في كل وقت فإن المريب لا يملك نفسه أن يصفر لونه أو يخضر أو يبتلع ريقه ويخفق فؤاده أو يعض على شفته السفلى أو يكثر تلفته وترعد فرائصه أو يتعثر في مشيته أو يكثر تثاؤبه أو يعرق جبينه أو يفتل أهداب ثيابه ويعبث بها أو ينكش الأرض بإبهامه الكبيرة من رجله أو ينقطع عما يريد أن يتكلم به أو يكثر القيام في العمل الذي يعمله ولم يتمه لغير عذر ، فجميع هذه الإمارات تدل على الريبة، فليراعها الملك من متولي طعامه وشرابه ، ومتولي خزانة ثيابه وفراشه وسروج دوابه وغيرهم من خدم داره.
أما الأحوال التي يترصدها أهل المكايد في الغالب فمنها المواضع الضيقة والجهات المجهولة من الطرقات فلا ينبغي أن يسلكها حتى يكون أمامه خبير بذلك الموضع ويتقدمه في ذلك جماعة من أعوانه. ومنها ازدحام المواكب عليه في المواضع الضيقة أو في الأعياد أو المحافل فلا يؤمن أن يلج بين خواصه من يريد له شرا. ومنها الإمعان في طلب الصيد والانفراد فيه عن الخاصة وثقات الأعوان، فلا يؤمن أن يدس عليه أهل العداوة ممن يوقع به الفعل أو يكمن له الأعداء على الخيول السريعة في المواضع الوعرة، أو يعرض له أحد السباع الضارية عند انفراده.
ومنها الورود على الأنهار فإن اغتيال المرء صاحبه في الماء الجاري أسهل منه على ظهور الخيل لأن الماء معين له على هربه لا سيما إذا كان رجال الملك وراء ظهره فينبغي أن لا يردها حتى يتقدمه من أعوانه من يخبر شطوطها ومشارعها . ومنها حالة شدة المطر وحال شدة الحر وحال ظلام الليل فإنه في هذه الأحوال تقل الحفظة(الحراس)' ويشغل كل منهم بمصلحة نفسه. ومنها حال سروره ولهوه وطربه في مجلسه وسكره وشرابه فإن الحفظة أيضا يسكرون أو ينامون فيتمكن منهم المحتال. فليراع الملك جميع ما ذكرناه وما يخطر بباله من أشياء ذلك وأمثاله مع تسليمه الأمر لله تعالى وقضائه وقدره.