الاختلاف في الرأى لا يفسد للود قضية
محتويات
مقدمة
تتعلق قلوب المؤمنين دائما بطاعة الرحمن سبحانه، وتهفو لها فتسمو في فضاء القلوب التقية النقية المتعلقة بربها، فإذا عملت الطاعات وأخلصت لله ارتقت في سماء الربانية، فتصير الطاعة سهلة ميسورة على من سهل الله له "ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ" (الزمر:23)
وفي رمضان تسمو هذه النفوس والأرواح لما حباه الله من خصال طيبة تتقارب بالطاعات مع بعضها البعض، وتتنافر وتختلف إذا هبطت وبعدت عن مكارم الأخلاق. وشهر رمضان له خصوصيات لدى كل مسلم يهفو قلبه لرضى الله فيسمو بهذا الرضى في ملكوت المسبحين فلا تراه إلا راكعا، باكيا، خاشعا، متواضعا لله رب العالمين.
غير أن الأمة ابتليت ببعدها عن منهج ربها فترى البعض يبعد بقلبه عن روح الصيام فلا يأخذ منه إلا الاسم، لكنه تحت مسمى إني صائم يرتكب منكر الاختلافات والمشاحنات مع الآخرين، ويتناسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "رُبّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع" (عن أبو هريرة، في صحيح الجامع).
وفي طبائع الناس اختلاف، فمنهم الهين اللين، السهل الرفيق، ومنها الصعب، ومنهم ما سوى ذلك، ومن الناس الطيب المؤمن، ومنهم الخبيث الكافر. إن الاختلاف الايجابي البناء المثبت معناه أن يسعى كل واحد لترويج مسلكه وإظهار صحته وصواب نظرته دون أن يحاول هدم مسالك الآخرين.
أما الاختلاف السلبي هو محاولة كل طرف تخريب مسلك الأخر وهدمه ومبعث ذلك الحقد والعداوة والضغينة..وشهر رمضان يعمل على علاج مثل هذه السلبيات. قال تعالى: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ" (آل عمران: ١٠٥).
فهل نجعل من رمضان شهر شعاره المحبة والإخاء، والعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلافنا فيه، فنخرج من هذا الشهر بروح طيبة تسرى في هذه الأمة، وتوحد الهدف، فتلتقى القلوب على روح السمو الأخلاقي.
رمضان وأسباب الاختلاف
شهر رمضان شهر الحب والعطاء، وهو شهر بناء الشخصية المسلمة التي تملك إرادتها وشهواتها، ولا تملكها الشهوة.. وهو شهر بناء العادات الصحيحة وهدم عادات قاتلة خاطئة..وشهر الإرادة الحرّة التي تحررت من جميع المعبودات وجمعت شتاتها على معبود واحد حقّ. وهو شهر الإنصات والإصغاء لمراد الله منك في كتابه العزيز ليرسم لك آفاق حياتك من جديد.
كما أنه شهر التجدد وشهر الروح والعقل وشهر الإقبال على الأهم والأغلى والأجدى والأثمن في الحياة وترتيب الأولويات بما يحقق خيري الدنيا والآخرة..
كل هذه الخيرات تجعله شهر نبذ للخلاف والتي من أسبابها:
- ضعف ثقافة الحوار: لقد تملكت مجتمعاتنا ثقافة الرأى الواحد والاستبداد به وعدم سماع وجهات النظر الأخرى، وتزداد أحيانا في شهر رمضان لطبيعة الصيام، مما أدى لانتشار مظاهر سيادة الرأي الواحد.
- تدني مستوى التعليم وانتشار الأمية: من الأسباب القوية التي تؤدي للتناحر وعدم تقبل وجهات النظر بسبب ضيق أفق عدم المتعلمين وكما قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ" (رواه الترمذي).
شهر رمضان وتهذيب الاختلاف
لكي يستطيع المرء الفوز في هذا الشهر برضوان الله سبحانه، وبحب الآخرين لابد له من تهذيب السلوك وفق الأهداف الرمضانية، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (البقرة 183).
ولبلوغ ذلك لابد من:
- استحضار النوايا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات).
- التواضع: لكي ينجح الاختلاف البناء الذي يبنى الأمم والشعوب لابد أن يسود التواضع وقبول وجهات النظر الأخرى والتعرف عليها، وشهر رمضان فرصة للارتقاء بهذا الخلق.
- نشر ثقافة الحوار المبنية على التسليم بحقّ الاختلاف والتنوع، فجميل أن نتحاور دون إقصاء أو تهميش، والأجمل أن نتبادل المعرفة والرأي دون ترهيب.
- اجعل الاختلاف في رمضان طاقة إيجابية: إن الايمانيات التي ينشرها شهر رمضان على الأرواح تجعله شهر التقاء لا شهر اختلاف.
- الالتزام بآداب الحوار كالإنصات وعدم قطع الحوار بصوت مرتفع للسيطرة على النقاش، بل يجب مراعاة التكلم بذوق وأدب واختيار الكلمات المعبرة الجميلة.
أثر الاختلاف على الأمم والجماعات
المسلمون يد واحدة وقلب واحد وكيان واحد، وفي رمضان تظهر هذه الوحدة العظيمة؛ فشهر واحد وصيام واحد وقبلة واحدة ومنهج واحد، متوجهين بقلوبهم لرب واحد، تلهج جميع الألسنة في هذا الشهر بكتاب واحد (وهو القرآن الكريم)، ولهذا جعلنا الله أمة واحدة، فلماذا بلغ بنا الحال من هذا الاختلاف.
يا أخي في الهند أو في المغرب
- أنا منك، أنت مني، أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي
- إنه الإسلام أني وأبي
لقد تجرعت الأمة حياة التشرذم والاختلاف حتى أصبحنا كالأيتام على موائد اللئام، فهل يكون رمضان الذي يمر عام تلو العام سببا لوحدتنا، ورفع البلاء عن أمتنا، أم نظل صرعى الاختلاف والتشرذم.
إن من اثر الاختلاف التي تعيشه الأمة الآن:
- الفشل وذهاب الريح: فما نزلت المشاكل بأمه إلا حينما تنازعوا واختلفوا، ونزغ الشيطان بينهم.
- اختلاف القلوب وتفريق الدين.
- إتاحة الفرصة للأعداء للاستقطاب وبث روح التنازع بين الأمة الواحدة.
- إشاعة روح اليأس والإحباط وسط الصفوف المسلمة والتي يحزنها النزاع والحرب التي تندلع بين الأمة بل والجماعة المسلمة.
ومن لوازم إذابة هذه الاختلافات في هذا الشهر الكريم
- "السؤال عن حال أخيك المسلم، زيارته في الله، عيادته إذا مرض، السلام عليه عند اللقاء، البشاشة في وجهه، تشميته إذا عطس، إجابة دعوته، تشييع جنازته، الدعاء له بظهر الغيب، الذب عن عرضه، سد حاجته، الوقوف إلى جانبه، نصره إذا ظلم، نصيحته وتوجيهه".
إن الحوار لا يمكن فرضه بالقوة، ولا استخدام السلطة فهو كالحب لا يولد بالضغط ولا بالترغيب. إنما يولد بالتسامح والانفتاح على الأخر المختلف عنا واحترام وجهة نظره، وتفهمه وعدم رفضه، وقبوله كما هو وكما يحب أن يعيش وكما يرغب أن يكون، لا كما نريد ونحب.
ولا ينبغي أن يكون تفرُّق المسلمين واختلافهم في يوم صومهم وفطرهم ناتجًا عن خلافات سياسيَّة ومذاهب فكريَّة واعتقادات باطلة. فرمضان يدعو إلى وحدة الصف وتتجلى فيه تربية الصائمين على الخشونة والصبر وقوة الإرادة، واحتمال المتاعب، فلا مجال للترف والإسراف، بل سبيل الصائم التقشف وضبط النفس، والحسم والعزم؛ فتكتمل الوحدة على أساس متين من الدين.
مراجع
- جمال البنا: " التعددية في مجتمع إسلامي" ص 10، 11 دار الفكر الإسلامي.
- عائض القرني: ثلاثون درسًا للصائمين، مكتبة لسان العرب، الطبعة الأولى، 1410هـ.
- مجلة بشرى، العدد 77، محرم 1424هـ.
- الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، يوسف القرضاوي، الشروق، ص 231.