الإشكالات الجنوبيّة.. لماذا الآن قبيل استحقاقات داهمة؟
بقلم: الأستاذ إبراهيم المصري
الأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان
لا يكاد لبنان يخرج من أزمة (أمنية أو سياسية) حتى يقع في أزمة أخرى أشد وأمضى. فقد جرت الانتخابات البلدية في شهر أيار، وانتخابات الشمال الفرعية في حزيران، وبعدها تأزمت الأمور في لجنة الادارة والعدل حول حقوق الفلسطينين في لبنان، فانقسمت الكتل النيابية طائفياً ولا تزال، الى أن برزت احتمالية وجود كميات من النفط والغاز على الساحل اللبناني، بدءاً من الجنوب حيث أعطى تبني الرئيس نبيه بري وأعضاء كتلته النيابية للقضية بعداً مناطقياً، ومذهبياً.. مما حمّل الحكومة مسؤولية اهمال الكشف عن مورد كبير للثروة الوطنية، اذا قدّر الله واستخرج الغاز أو النفط..
وأخيراً الاشكاليات التي وقعت في قريتي قبريخا وتولين الجنوبيّتين مع المجموعة الفرنسية في قوة الطوارئ الدولية (اليونيفيل) وأدّت الى احتجاز أحد عناصر القوة ورشق سياراتها بالحجارة.. مما استدعى احتجاجات غربية وتداعيات لبنانية بين جناحي السلطة (8 و14 آذار).
معروف لدى الجميع أن قوات اليونيفيل تشكلت بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1701 بعد حرب تموز عام 2006، ومعروف كذلك أن قبول لبنان بالقرار المذكور جاء في اجتماع عقدته الحكومة اللبنانية يوم 16 آب 2006 بكامل أعضائها الثلاثين، وبرئاسة الرئيس فؤاد السنيورة.
وعلى الرغم من ملاحظات أبداها ممثلو الجنوب - لا سيما كتلة الوفاء للمقاومة - حول القرار 1701 الذي اتخذه مجلس الأمن الدولي، الا أن وقف العدوان الاسرائيلي كان أولوية حتمت القبول بالقرار، حتى يتم بموجبه وقف العمليات العسكرية، الجوية والبرية والبحرية، التي كانت تطال كل الأراضي اللبنانية، من أقصى الشمال على الحدود السورية الى أقصى الجنوب.
وكانت القوات الأوروبية الرئيسية التي تشكلت منها اليونيفيل: فرنسية وايطالية واسبانية، اضافة الى قوة المانية بحرية، وقوات هندية وتركية وإندونيسية وغيرها.
والمعروف أن وصول هذه القوات الى الجنوب اللبناني جاء متلازماً مع دخول الجيش اللبناني الى المنطقة، لأول مرة منذ العدوان الاسرائيلي الأول على لبنان عام 1978، ودخول فصائل المقاومة الفلسطينية الى المنطقة بعد أحداث «أيلول الأسود» في الأردن، وبروز ظاهرة جيش لبنان الجنوبي، وصولاً الى العدوان الاسرائيلي الكبير عام 1982 الذي برزت بعده «المقاومة الإسلامية» في الجنوب اللبناني.
بديهي أن المقاومة الإسلامية التي أخرجت قوات الاحتلال الاسرائيلي في أيار عام 2000 من معظم الشريط الحدودي المحتل، وصمدت في وجه الغارات الجوية الاسرائيلية ومحاولات الاختراق البرية عام 2006، أن تكون لها ملاحظاتها على نشر قوات أوروبية غربية على طول الحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأنها كانت مضطرة لقبول شروط القرار رقم 1701 الذي اتخذه مجلس الأمن الدولي من أجل وقف العمليات العدوانية، لكن ما خفف من الآثار السلبية للقرار هو أن هذه القوات تتحرك في مناطق جنوب الليطاني بالتنسيق مع الجيش اللبناني، وكانت علاقة الجيش اللبناني مع المقاومة - ولا تزال - يحكمها تنسيق وتكامل منذ أيام الوجود السوري في لبنان.
وعندما أصبح العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية استمر هذا التنسيق، وهو يحكم تحركات القوات الدولية في الجنوب اللبناني، دون أن يقع أي حادث يذكر خلال أربع سنوات تولت خلالها القوات الدولية ضبط العلاقة مع قوات الاحتلال، وكانت تنسق مع الجيش اللبناني وأهالي المنطقة (الذين تحكم معظمهم توجهات المقاومة الإسلامية)، الى أن كان الاحتكاك الأخير، وأدى الى توتر في العلاقة، واتجاه الى التهديد بانسحاب بعض كتائب قوات الأمم المتحدة (الفرنسية مثلاً)، أو المطالبة بتعديل قواعد الاشتباك في المناطق الجنوبية.
وقد أعقب الأحداث الأخيرة لقاء عقده سفراء الدول الغربية الثلاث المشاركة في اليونيفيل (فرنسا وايطاليا واسبانيا) في مقر قيادة القوات الدولية، ناقشوا فيه الأحداث الأخيرة وتداعياتها.
كما استقبل رئيس الجمهورية السفير الفرنسي في بيروت، والتقى الرئيس سعد الحريري مع وزير الخارجية الفرنسي في باريس برنار كوشنير، كما عقد لقاء مع رئيس الجمهورية الفرنسية نيكولا ساركوزي كل هذا من أجل رأب الصدع الذي وقع، خشية أن يستغله الكيان الصهيوني فيزيد الأزمة حماوة من خلال ممارسات كان يرتكبها وتتولى القوات الدولية معالجتها بالتنسيق مع أهالي المنطقة والجيش اللبناني.
هنا لا بدّ من وقفة تأمل ومراقبة لما حدث. لماذا هذا الاحتكاك الآن وليس قبله أو بعده؟ لقد كانت العلاقة حميمة بين القوات الدولية وأهالي المنطقة، وكان يجري تبادل الزيارات والهدايا والاحتفال في الأعياد والمناسبات.
وكان الجنود (آسيويين وأوروبيين) يرتادون المطاعم والمقاهي، والكنائس والمساجد، ويستقدمون ذويهم وأقرباءهم لقضاء اجازاتهم في الجنوب اللبناني، حتى باتت عناصر اليونيفيل فريقاً سياحياً يبلغ تعداده اكثر من اثني عشر الف سائح.. فلماذا الآن؟!
لقد وقع الاحتكاك مع الكتيبة الفرنسية لأنها لم تنسق تحركها مع الجيش، وقد كان يمكن تلافي الاحتكاك لأن شوارع القرى وأزقتها ليست مغلقة عليهم.
ربما لأن هناك رغبة لدى المقاومة في تعديل «قواعد الاشتباك» بما يمنحها فسحة أكبر لاسترجاع دورها الذي صادرته القوات الدولية!!
وربما لأن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول تطبيق القرار 1701سوف يناقش في مجلس الأمن الدولي بعد أيام (14 تموز الجاري)! وربما هو استباق للقرار الظني الصادر عن المحكمة الدولية حول اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في شهر أيلول القادم (كما يشاع)، حتى يكون رسالة الى الدول الكبرى بأن لها جنوداً يمكن أن يتحولوا الى رهائن فيما لو شكل القرار ادانة لهذه الجهة أو تلك؟!
كل هذا وارد، كما أن الحادثين قد يكونان مجرّد احتكاك عرَضي تسبب به جندي فرنسي أو مواطن جنوبي. ولعل أبرز ما وجده المواطنون من ايجابيات في تشكيل «حكومة الوحدة الوطنية» هو التفاهم على مثل هذه الاشكاليات، حتى يطرح جميع الفرقاء، من 8 أو14 آذار، من فريق المقاومة أو فريق السيادة والاستقلال.. هواجسهم على طاولة مجلس الوزراء وليس عبر وسائل الاعلام، فالبلد لا يحتمل سجالات حادة، ولا تجربة جديدة مع العدوّ الاسرائيلي، لا سيما أهالي الجنوب الذين قدّر الله لهم أن يتحملوا معظم تبعات الاعتداءات، والتحرير، وممارسات القوات الدولية وقوات الاحتلال.
المصدر
- مقال:الإشكالات الجنوبيّة.. لماذا الآن قبيل استحقاقات داهمة؟موقع: الجماعة الإسلامية فى لبنان