الإسلام والمسلمون الملتزمون بالإسلام
'بقلم / الأستاذ عصام العطار
كتبتْ لي سيّدةٌ مسلمةٌ تعيشُ في بلدٍ أوروبيّ تقولُ ما خلاصتُه : إننا نعيش في الْحَيِّ الذي نُقيمُ فيه بشيءٍ من القَلَق ، فبعضُ الناسِ في حَيِّنا ينظرون إلينا وإلى أبنائنا نظرةَ شَكٍّ وريبة ، وربّما عَبّروا عن خوفِهم من الإسلامِ والمسلمينَ تصريحاً أو تلْميحاً ، فالإسلامِ والمسلمونَ عندَهم ، لا يُرجَى منهم أيُّ خَيْرٍ لِلْغَرْب ، ولا يُؤْمَنُ شرُّهمُ وأَذَاهُمْ في الغرب .. فهلِ الإسلامِ والمسلمونَ الملْتَزِمونَ بإسلامِهمْ هم في حقيقةِ أمرِهم كما يَظُّنُّ بِهِمْ أوْ يَتّهِمُهمْ هؤلاء ، وهل يُرَبيّ الإسلامِ أبناءَه حقيقةً على إيذاءِ الآخَرين ، وقَبْضِ أَيْديهِمْ عَمّا ينفعُ البلادَ والعبادَ في البلادِ التي يَعيشونَ فيها مع غير المسلمين ؟! ، أرجو جوابَك على هذا السؤالِ الجارحِ المؤلم
وجوابي القاطِعُ على سؤالِ السيدةِ الكريمة : كلاّ ، بَلْ إنَّ ما يُتَّهَمُ به الإسلامِ والمسلمونَ الملتزمونَ بالإسلامِ يُجَافي الحقيقةَ مجافاةَ النقيضِ للنقيض
وقد ذَكَّرَنَا من قريبٍ أخونَا الجليلُ العلاّمةُ الدكتور محمد لطفي الصبّاغ ، بحديث رسولِ الله r الذي رواه أحمدُ والتِّرمِذِيُّ وابنُ حِبّان :« أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مِنْ شَرِّكُمْ ؟ خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ ، وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ ، وَشَرُّكُمْ مَنْ لاَ يُرْجَى خَيْرُهُ وَلاَ يُؤْمَنُ شَرُّه »
فَخيرُ المسلمينَ بمقياس الإسلامِ من يَبْسُطُ يدَه بالخير ، ويُرْجَى منهُ الخير ، ولا يُخْشَى من جانِبِه الشرّ
وشرُّ المسلمينَ من يُخْشَى من جانبِه الشرّ ، ولا يُرجى منه الخير
ثمَّةَ مقاييسُ وضعَها الإسلامِ للحكمِ على الناسِ والمفاضلةِ بينَ الناس
ومن هذه المقاييسِ موقفُ المسلمِ مِنَ الناس مسلمينَ كانوا أو غيرَ مسلمين
هل يحبُّ لهم الخيرَ ، ويريدُ بِهِمُ الخيرَ ، ويُقَدِّمُ لهمُ الخير ، أَمْ لا يحبُّ لهم خَيْراً ، ولا يُريد بِهِمْ خيراً ، وربّما نالَهُمْ منهُ الأذَى
المسلمُ بالمواصفاتِ الأُولَى هو المسلمُ الأفضلُ بمقياسِ الإسلامِ ، وهو الذي يُجَسِّدُ تعاليمَ الإسلامِ ، وأخلاقَ الإسلام ، وما يَرجوه الإسلامِ في أبنائِه ومِنْ أبنائِه ؛ والمسلمُ الآخَرُ بالمواصَفاتِ الأُخرى هو شرُّ المسلمين ، ولا يرضى تَوجُّهَهُ ولا مَسْلَكَهُ الإسلام .
ويَضْطَرِدُ هذا المقياسُ في علاقاتِ المسلمِ بزوجهِ وأهلهِ وأصحابهِ وجيرانهِ وأقربِ الناس إليه ، وعلاقاتهِ بسائرِ البشرِ ، وسائرِ المخلوقات
يقولُ رسولُ الله :
« خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي » رواه ابن حبان وابن ماجة والحاكم وكلمةُ (الأهل) تَعْني في العربيّة الزوجةَ ، كما تعني الأقاربَ والعشيرة
ويقول :
« خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ » رواه أحمد والترمذي
ويقول :
« خَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلْنَّاس » رواه الطبراني والدار قطني
ويُفْهَمُ من (الناس) الثانية ما يتجاوزُ حدودَ الزوجةِ والأهلِ والعشيرةِ والأصحابِ والجيرانِ إلى سائرِ البشر
« الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيالُ اللهِ فأَحبُّهم إليه أنفعُهم لعياله » رواه الطبراني وعبد الرزاق
وهكذا يَعْطِفُ الإسلام قلبَ المسلمِ على سائرِ الناس والمخلوقات ، ويجعلُ الأَحَبَّ إلى اللهِ الأحسنَ رِعايةً ونفعاً لِمَنْ خَلَقَ اللهُ ولِمَا خَلَق الله
ولقد وعى سلفُنا الصالحُ هذه المبادئَ والتوجيهاتِ الإسلاميّة ، وعَبَّرَ عنها بعضُهم أوضحَ تعبيرٍ فقال :
وَخَيْـرُ عِبـادِ اللهِ أنفعُهُمْ لَهُمْ
- رَواهُ عنِ الأصحـابِ كلُّ فقِيهِ
أما الخيانةُ والغدرُ وإيذاءُ الجيرانِ في السَّكَنِ والوَطَنِ -كما يَتَخَوَّفُ جيرانُ الأختِ الكريمةِ صاحبة السؤال- فمّما يُحَرِّمُهُ الإسلام على أبنائِه ، ولا يقبلُه بحالٍ منَ الأحوال
واللهُ تعالى يقول : ) ... وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً ( [الإسراء : 34]
ويقول عن المؤمنين المفلحين : ( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ) [المؤمنون : 38]
ويقول :( ... إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ) [الأنفال :58]
( ... إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) [البقرة : 190]
(... إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) [القصص : 77]
(... وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) [آل عمران : 57]
وروى البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة t عنه أن النبي e قال :« وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ »قِيلَ : مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ » (أي : غوائلَهُ وشُرورَه وأذاه) .
وفي رواية لمسلم : « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ » وهذا -كما يقول علماؤنا- عَامٌّ في كلِّ جارٍ فَهُوَ يشملُ المسلمَ وغيرَ المسلم .
والمسلم ، بعد كلِّ ما قلناه عن الإسلام ، بَشَرٌ كَغَيْرِهِ من البشر ، فهو يَعْلَمُ ويَجْهلُ ، ويَقْوَى ويَضْعُف ، ويُصيبُ ويُخطِئ ، ويَخْضَعُ لِمَا يَخضعُ له سِواه من العوامل والمؤثِّرات والظروف : ولكنَّ خَطَأَهُ يَقِلّ ، وصَوابَه يَكْثُر ، وعطاءَهُ الإيجابِيَّ يَزْدَادُ ويزدادُ بمقدارِ إيمانهِ بربّهِ ، ومعرفتهِ بدينهِ ، والتزامِهِ بإسلامهِ ، على الصعيد الفرديّ ، والاجتماعيّ ، والصعيد الوطني والإنساني ..
فَعَلى المجتمعاتِ الغَربيّةِ ألاّ تُضَيِّقَ على المسلمينَ في تعلُّم دينِهم ، وممارسةِ حياتهم وشعائرهم ، وألاّ تَخَافَ من المتديّنين الواعينَ المبصرين ، فهؤلاء خيرٌ لهذه المجتمعاتِ ، وأمنٌ لهذه المجتمعاتِ ، وثراءٌ وعطاءٌ على كلّ صعيد
وهنالك أمر لا بدَّ من الإشارة إليه في موضوعنا الذي نتكلم فيه ، وفي كلّ موضوع يتعلّق بالوجود الإسلاميّ في الغرب ، وفي علاقات الإسلام والمسلمين بالعالم ، وشعوب العالم ، وحضاراته المختلفة
هذا الأمر هو عجزُ المسلمين الصارخ ، وقصورُهم المخزي في إيصال حقيقة الإسلام إلى مجتمعاتهم التي يعيشون فيها ، وعالمهم الذي يعيشون فيه ، رغم ما يضعه العصر في أيديهم وأيدي غيرهم من وسائل التقدّم والفعل ، ووسائل الاتصال والتواصل والبيان ؛ ولكن هذا موضوعٌ مصيريٌّ كبيرٌ خطير ، يجب أن نهتمّ به غايةَ الاهتمام ، وأن نستمعَ فيه إلى كثيرين من أصحابِ العلمِ والفكرِ والاختصاصِالأمناءِالصادقين