الإسلاميون والسلطة
بقلم: د. عصام العريان
ألقى الجنرال برويز مشرف ورقته الأخيرة في لعبة الاحتفاظ بالسلطة في باكستان بقوله لهيئة الإذاعة البريطانية إنه فرض حالة الأحكام العرفية (الطوارئ) وحل البرلمان، وأجَّل الانتخابات، واعتقل الآلاف، وأبقى زعماء المعارضة في بيوتهم إقامةً جبريةً؛ من أجل منع المتطرفين من الحصول على السلاح النووي، وليحمي باكستان من الوقوع في قبضة التيارات المتشددة.
وهكذا عكست أزمة باكستان بصورةٍ شديدةِ الوضوح أزمة شرعية النظم الحاكمة في البلاد العربية والإسلامية، تلك التي باتت تخاطب شعوبها ولا تحاور النخب السياسية التيارات الشعبية في بلادها، بل تتجه مباشرةً إلى مصدر الإسناد السلطوي الذي تعتمد عليه.
كما أثارت من جديد علاقة التيارات الإسلامية بمسألة السلطة، وإلى أي مدى تُشكِّل أهميةً لديها، وكيف تصل إلى الحكم؟ وكيف تستمر فيه؟
ومن قديمٍ كانت التيارات الإسلامية ترى السلطة بطريقة مختلفة، فهي نتيجة عمل تغييري مستمر في المجتمع وثمرة لجهود متواصلة تؤدي في نهاية المطاف إلى تأييد الشعوب للحركات الإسلامية السلمية التي تعمل وسط الناس بتوعيتهم وإرشادهم وخدمتهم وتبصيرهم بحقوقهم، وهذه هي مدرسة الإخوان المسلمين التي تبلور فكرها في نهاية المطاف بتأسيس أحزابٍ سياسيةٍ تنافس على كسب ود الشعوب عبر الانتخابات الدورية النزيهة، وبتحقيق برامجها الإصلاحية تستمر في حيازة ثقة الناس فتحتفظ بالحكم أو تخسر بعد فشلها فتترك الحكم لمَن يُعطيه الشعب ثقته، وتعود هي إلى المعارضة من جديد.
بينما ظهرت بعد ذلك تيارات عنيفة ترى العكس، وأن أداة السلطة لها فعل السحر، وقد شكَّلت السلطة التنفيذية عند الحركات الإسلامية عاملاً حاسمًا ومهمًّا في الوصول إلى غايتها وأهدافها الذي تلخصه عبارة "تطبيق الشريعة الإسلامية" أو وضع شعارها العام "الإسلام هو الحل" موضع التنفيذ، وقد أدرك الإسلاميون منذ انهيار الخلافة الإسلامية أن الاكتفاء بالوعظ والإرشاد أو التنبيه والتحذير لن يؤدي إلى نتيجةٍ طالما أن سلطة التنفيذ لا تستجيب لهذه النداءات والمناشدات.
وقد سلك الإسلاميون بعد ذلك مسلكًا واضحًا رسمه الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية وأقدمها يعتمد على الآليات التالية:
- نشر الوعي الإسلامي في صفوف الشعب بالدعوة والإرشاد.
- تربية الأمة على القيم والمبادئ والأخلاق الإسلامية.
- مواجهة الدعوات الهدَّامة التي تخرب الأمة وتهدف إلى تغريبها بالحجة والبرهان وإثبات زيغها وخطورتها على الاستقلال الوطني.
- المشاركة النشيطة في آليات العمل السياسي كالانتخابات والسعي إلى الوصول إلى مقاعد البرلمان للتأثير في القرار السياسي التنفيذي ومراقبة السلطة التنفيذية وتأسيس أحزاب سياسية.
وقد أدرك الإخوان أن التصدي لاستلام السلطة التنفيذية دون إكمال الوعي العام للأمة واستكمال استقلالها الحضاري والتخلص من هيمنة القوى الأجنبية السياسية والاقتصادية سيكون من العبث، وأنه لن يؤدي إلا لصعوباتٍ ومشكلاتٍ حقيقيةٍ أكثر من تلك الحالية، وبذلك اعتمد الإخوان المسلمون سياسة النفس الطويل والتدرج في الخطوات والمرحلية المتأنية والتدريب على المعارضة في البرلمانات.
لكن حدث تطورٌ خطيرٌ ومهم في مسيرة الشعوب العربية والإسلامية أثَّر سلبًا على الحركات الإسلامية، وهو الانقلابات العسكرية منذ الأربعينيات، فقد قطعت الانقلابات العسكرية الطريق على أي تطورٍ ديمقراطي واحتكرت كل شيء، ليس السلطة التنفيذية فقط، بل كل السلطات، وصادرت حق الشعوب في المشاركة النشيطة أو الحلم في التغيير، وليس مجرد القدرة على التغيير، فلم تعد هناك حياة برلمانية حقيقية ولا فضاء عام تتحرك فيه الحركات الشعبية، وانتهت التعددية السياسية، واختفت الانتخابات الحرة.
ودخلت الحكومات العسكرية في صدامٍ مريرٍ مع الحركات الإسلامية في كلِّ البلاد العربية والإسلامية التي استلمت فيها السلطة، ودخل الإسلاميون في محنٍ متتاليةٍ في سجون وتعذيبٍ وإعدامات، ونشأت حركات إسلامية جديدة لم تعد مقتنعةً بأسلوب الإخوان لتصورها أن الطريق مسدود أمام التغيير السلمي المتدرج، ولاستعجالها الوصول إلى الحكم عبر القوة؛ ولأن الانقلابات قدَّمت النموذجَ والمثالَ الذي أصبح مطردًا في البلاد العربية الثورية، وبسبب غياب أصحاب السبق والخبرة في غياهب السجون ظهرت التفسيرات المتشددة في المجال الإسلامي الذي وصل إلى تكفير الحكام ليبرر السلوك الانقلابي عليها عن طريق العنف الذي ترفضه المدرسة الإخوانية؛ مما دفعها إلى نقد هذه التفسيرات المتشددة في الكتاب المشهور "دعاة لا قضاة"، والذي لم تمنع ظروف المحنة والسجون والتضييق الشديد من خروجه إلى النور ليصبح الفيصل بين نهجين ومدرستين.
بررت مدرسة العنف الوصول إلى السلطة لنفسها؛ مما دفعها إلى محاولة الانقلاب المسلح، وأصبح هاجس السلطة مؤرقًا للشباب المسلم، ومع توحش السلطة التنفيذية وتغولها على كل السلطات الأخرى برلمانية وقضائية ساد فكر العنف والعنف المضاد، وظهر الإسلاميون كأنهم جميعًا متشوقون إلى السلطة وساعون إليها بكل الطرق، وعبر كل السبل، حتى أصبح الاتهام معلقًا على رءوس الجميع أنهم طلاب سلطة، بينما الواقع يقول بكل وضوحٍ أن الطريق مغلقٌ أمام الجميع في الوقت الحالي إلا مدرسة التغيير السلمي عبر الانتخابات الدورية؛ لأن الإصلاح السياسي والدستوري مفقود، ولا يوجد دوران للسلطة، وأيضًا مسدود أمام مدرسة العنف والانقلاب؛ لأن الجيوش وأجهزة المخابرات أصبحت من الخبرة بمكانٍ؛ مما جعل الانقلابات والعنف تُدمِّر أصحابها قبل غيرهم، ولم ينجح انقلاب السودان إلا بشروطٍ سودانيةٍ، ولعل أصحابه الآن راجعوا أنفسهم، وسمعتُ من أكثر من واحدٍ منهم أنه لو عاد الأمر مرةً أخرى لصوتوا ضد فكرة الانقلاب، وعلى رأسهم الدكتور حسن الترابي نفسه في أحاديث تليفزيونية.
اتضح للمستعجلين للوصول إلى السلطة أن التغيير الفوقي ليس سهلاً ولا ميسورًا كما يتصورون، وأن ملفات السلطة معقدة جدًّا، وأن هاجس الاحتفاظ بالسلطة التي وصلوا إليها بالقوة يجعل كل الملفات مؤجلةً أمام أهمية الاحتفاظ بها، بينما يقوم التصور السلمي على أن الشعوب نضجت بما فيه الكفاية للحفاظ على آلية التغيير الديمقراطي، وأن وسيلة الاحتفاظ بالسلطة هي ثقة الشعب بالحاكم؛ وذلك لن يتم إلا بتنفيذ برامج إصلاحية وتنموية حقيقية يشعر بها الناس ويثقون في القائمين عليها، وأن مواجهة ملفات الحكم بدعمٍ شعبي كبير يجعل هاجس الأمن والخوف من الانقلاب يقل كثيرًا؛ مما يُوفِّر الوقت والجهد لمعالجة المشكلات المتراكمة في الاقتصاد والتعليم والزراعة والصناعة والعلاقات الدولية وغيرها.
كان يبدو للمتعجلين أن معالجة الملفات الداخلية بكفاءةٍ عاليةٍ سيزيد حجم التأييد الشعبي لاستمرار البقاء في السلطة، إلا أن التجارب التي جرت خلال العقدين الأخيرين أوحت بجلاءٍ أن ملف العلاقات الإقليمية والدولية احتلَّ مكانةً عظمى في هموم الحكومات العربية والإسلامية، وأن قضايا مثل النفط ومواجهة العدو الصهيوني والإرهاب ومكافحته واكتساب القدرات العلمية والتقنية كالطاقة النووية.. إلخ
أصبحت هي مبررات القوى الدولية للإطاحة بحكوماتٍ تحظى برضا شعبي أو إسناد حكومات لا تحظى بأي شعبيةٍ، وبالتالي فإن وعي الشعوب ونضجها وقدرتها على مقاومة الاخترق الأجنبي والوقوف في وجه الضغوط الدولية بات عاملاً مهمًّا وحاسمًا لنجاح أي سلطةٍ واستمرارها.
إذن لم يعد موضوع "الإسلاميون والسلطة" بسيطًا أو سهلاً كما يصوره الكثيرون من الشباب المسلم أو من المراقبين أو من المستبدين الذين يستخدمون فزَّاعة التأييد الشعبي لتخويف الغرب أو النخب الاقتصادية والسياسية، ويبررون به بقاءهم في الحكم مستبدين بأمر الشعوب، ويؤرخون به أي إصلاحاتٍ سياسيةٍ؛ الأمر بات معقدًا، والسلطة لم تعد مغريةً لأحد، وهمومها وملفاتها لا تجذب إلا المغامرين، وعلى الحركات الإسلامية والشباب المسلم أن يركزوا جهودهم على الأمة لا الحكومة، وعلى الشعوب لا الحكام، وأن يصبروا ويصابروا ويرابطوا ويتقوا الله لعلهم يفلحون.
المصدر
- مقال:الإسلاميون والسلطةإخوان أون لاين