الإسلاميون الجدد

من | Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين |
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الإسلاميون الجدد والعلمانية الأصولية في تركيا
ظلال الثورة الصامتة

بقلم : عبد الحليم غزالي

المقدمة

عدما وصلت إلى أنقرة لأول مرة يوم السادس من يوليو عام 2002 لم أكن أدري أنني جئت للعاصمة التركية في مرحلة مفصلية، أو ما يمكن أن أسميه بـ " المنزلة بين المنزلتين" كان الرجل العجوز المريض بولنت أجاويد الذي لقي ربه في شهر نوفمبر 2006 في أيام حكومته الائتلافية الأخيرة، وكانت النخبة السياسية التقليدية بيمينها ويسارها وعلمانيتها المتطرفة تسير إلى الهاوية المحتومة، لكنها كانت تنازع سكرة السقوط بصراعات سرية وتحالفات مشبوهة، بينما امتلأ رموزها بالخوف والتوجس من حزب العدالة والتنمية، وزعيمه الشاب رجب طيب أردوغان الذي يقود تيار الإسلاميين المجددين من الإصلاحيين، الذين تمردوا على نهج معلمهم وأبيهم الروحي نجم الدين إربكان الزعيم التاريخي للتيار الإسلامي في تركيا، وقد بدا أن الحزب بمثابة توليفة أيديولوجية وحركية جديدة، فيها الكثير من الإقناع لكثير من الجمهور التركي الذي مل الوجوه القديمة الفاسدة وأحزابها الضعيفة، وتناحرها المروع دون مراعاة لمصلحة العباد والبلاد.

ورغم عمر الحزب القصير- وهو أقل من عام حينئذ- فإن استطلاعات الرأي كانت تشير إلى أنه فارس الانتخابات المبكرة المقبلة التي بدت كل الأطراف مقتنعة بحتمية إجرائها في أسرع وقت ممكن، ربما باستثناء حزب الوطن الأم الذي كان يتزعمه مسعود يلماظ الشريك مع حزبي اليسار الديمقراطي بزعامة أجاويد، والحركة القومية بقيادة دولت بهشلي حيث كان يلماظ يستشعر أن هذه الانتخابات ستضع نقطة النهاية على آخر سطور دوره السياسي ومعه حزبه، بل وكل الأحزاب التقليدية من أقصى اليمين لآخر اليسار، أما أجاويد وبهشلي فقد كانا مقتنعين بصعوبة استمرار الوضع الراهن، حيث أصيبت الحكومة بشروخ يصعب علاجها، وبدت أقرب لحكومة صراعية لا ائتلافية، رغم الخوف من المستقبل، وربما كان أجاويد معبأ بثقة زائفة، في حين قبع بهشلي في منطقة ما بين فقدان الأمل لدى يلماظ، والمبالغة الهائلة في هذا الأمل عند رئيس الوزراء العجوز.

وكان هناك عاملان ضاغطان على الحكومة المهلهلة لا يسمحان بالتمسك بأرضيتها الهشة، وأولهما الوضع الاقتصادي الصعب، حيث كانت البلاد لا تزال ترزح تحت آثار الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي ضربتها في فبراير عام 2001، وبدت أقرب للخارج توا من غرفة الإنعاش، رغم الدور الذي لعبه كمال درويش وزير الاقتصاد آنذاك في التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي لإنقاذ هذا الاقتصاد من الانهيار، ومحاولة معالجة الأزمة تدريجيا من خلال "الروشتة" ذات الملامح المعروفة لدى كل البلاد المثقلة بديون ضخمة أوكلت همها للصندوق.

أما العامل الثاني فهو الحرب الأمريكية ضد عراق صدام حسين التي بدأت تلوح في الأفق، وقد وقع الغزو بالفعل، واللافت للنظر أن بول وولفويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق والمهندس الأول للحرب، وصل إلى تركيا في فترة الترنح السياسي هذه ليبشر بالعهد الجديد الذي سيبزغ في العراق والشرق الأوسط بعد الإطاحة بصدام من خلال غزو مسلح، كما وعد بنيل تركيا نصيبها المرضي من الغنائم إذا اختارت طريق مساعدة حليفها الأمريكي الاستراتيجي في الحرب الواعدة، وقد سعت واشنطن لإخراج تركيا من حالة عدم الاستقرار السياسي بتشجيع إجراء انتخابات مبكرة، حتى تستند على حليف قوي وقت الحرب، واستخدمت في ذلك رجلها الأول في تركيا آنذاك كمال درويش في تهيئة الأوضاع للانتخابات الجديدة بتمزيق الائتلاف الحاكم، وخاصة حجر الأساس فيه وهو حزب اليسار الديمقراطي بزعامة أجاويد.

ونجح درويش في إقناع وزير الخارجية إسماعيل جيم، ونائب رئيس الوزراء حسام الدين أوزكان- وهما من قيادات حزب اليسار الديمقراطي- بالاستقالة من حزبهما، على أن يشاركهما تأسيس حزب جديد ينتمي لتيار يسار الوسط، بعدما رأى أن هذا التيار وحده قادر على مواجهة التيار الإسلامي المعتدل ممثلا في حزب لعدالة والتنمية الذي أشارت استطلاعات الرأي في قلب الأزمة السياسية في يوليو 2002 إلى أنه سيحصل على ربع أصوات الناخبين على الأقل، لكن هناك من كان يأخذ نتائج هذه الاستطلاعات باستخفاف، مثل الرئيس السابق سليمان ديمريل حسبما قال لمؤلف هذا الكتاب في مقابلة خاصة في سبتمبر من العام ذاته.

غير أن جيم وأوزكان تلقيا ضربة قاسية من درويش بتخليه عن فكرة الانخراط في الحزب، بعد أن أدرك أنه من الأفضل له الانضمام لحزب الشعب الجمهوري الذي أسسه الزعيم مصطفى كمال أتاتورك، حيث أطهرت استطلاعات الرأي أنه سيحتل المرتبة الثانية في الانتخابات التي أصبحت الشواهد واضحة على أنها باتت قريبة، كما أن دينيز بايكال زعيم الحزب وعد درويش بأن يكون الرجل الثاني فيه، ووجد درويش- الذي يتسم بالدهاء السياسي- مخرجا يتمثل في الدعوة لتوحيد أحزاب يسار الوسط في تكتل واحد، وهو ما كان يدرك صعوبته للتنافر الحاد بين زعمائها، ومن ثم أعلن انضمامه لحزب الشعب الجمهوري تاركا جيم وأوزكان يلعقان مرارة الخيبة مع حزبهما "تركيا الجديدة" الذي تحول لمغامرة غير محسوبة دمرت مستقبل جيم السياسي.

ومن الواضح أن الأحزاب التقليدية الكبرى التي تنتمي ليسار ويمين الوسط، والتي هيمنت على الساحة السياسية طوال حقبتي الثمانينيات والتسعينيات كانت تظن أن بإمكانها تحقيق نتائج جيدة في حالة إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وأنها قد تخسر بعض المقاعد، لكنها ستعود إلى السلطة مرة أخرى، غير مدركة للقبح الذي لطخ صورتها لدى الشعب التركي نتيجة الفساد والانتهازية والتناحر السياسي بين قياداتها.

وحده معود يلماظ زعيم حزب الوطن الأم كان يضغط من أجل عرقلة اتخاذ الائتلاف الحاكم الذي يشارك فيه حزبه قرارا بإجراء هذه الانتخابات، لكن مساعيه باءت بالفشل، حيث واجه تشددا كبيرا من حزب "الحركة القومية" بزعامة نائب رئيس الوزراء دولت بهشلي، ومع فقدان "حزب اليسار الديمقراطي" الشريك الأكبر في الائتلاف الحاكم لأكثر من نصف مقاعده في البرلمان البالغة 129 مقعدا بعدما انضم غالبية نوابه لحزب جيم الجديد، أصبحت الانتخابات المبكرة حتمية، لأن الحكومة فقدت الأغلبية البرلمانية، من هنا جاء قرار إجراء الانتخابات المبكرة في صيف 2002 الساخن، حيث كان الرئيس سيدعو إليها إن لم تبادر الحكومة بذلك فاختارت إجراءها في الثالث من نوفمبر، وذلك في اجتماع عقده قادة الائتلاف الحاكم في أواخر شهر يوليو، وأقر البرلمان ذلك بعد الاجتماع بأيام.

والمثير أن حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان أبدى رفضه إجراء الانتخابات التشريعية في الموعد الذي حدده هؤلاء الزعماء، واعتبر أردوغان بوضوح أن إجراء الانتخابات في الثالث من نوفمبر يستهدف منح الحكومة الدستورية الوقت اللازم للحكم بحظر حزبه من ممارسة العمل السياسي، حيث كان مقررا صدوره في 20 أكتوبر، ودعا أردوغان إلى إجراء الانتخابات في مطلع أكتوبر لقطع الطريق أمام حظر حزبه، مؤكدا أن خطوة من ذلك النوع ستؤدي لزيادة التوتر بالبلاد. المهم أن تركيا اتجهت إلى انتخابات مبكرة، وكانت على موعد مع التغيير التاريخي الذي هو بمثابة ثورة صامتة حسب تعبير أردوغان نفسه، ومن المنطقي أيضا أن نسميها بـ "البيضاء" لأنها تمت دون قعقعة صراع عنيف أو طبول صدام مدو.

والحق أن تجربة حزب العدالة والتنمية تثبت أن إسلاميي تركيا في طبعتهم الجديدة قد تغيروا كثيرا، بينما لا تزال القوى العلمانية المتشددة- وعلى رأسها الجيش- أقل قدرة على مراجعة الذات ، بل إن هذه القوى حولت العلمانية إلى شكل من الأصولية الراسخة التي يصعب زحزحتها إلا أمتارا قليلة في حالة الاشتباك مع الحلم الأوربي فقط.

الفصل الأول

عسكر وإسلاميون.. تاريخ لا ينسى

يثير توصيف حزب العدالة والتنمية إشكالية وجدلا، فعلى الرغم من أن الحزب ينفي عن نفسه صفة الديني أو الإسلامي بشكل قاطع، ويؤكد احترامه للنظام العلماني في تركيا الذي يكرس الفصل الحاد بين الدين والدولة، وهيمنة الدولة على الدين بعكس العلمانيات الأخرى في العالم، إلا أن هناك عاملين يشيران إلى علاقة لا يمكن نفيها عن التيار الإسلامي:

الأول: أن الحزب خرج من عباءة حزب الوفاه الإسلامي، ثم وريثه حزب الفضيلة، اللذين أسسهما أبو الإسلام السياسي في تركيا نجم الدين إربكان، وبدا خروجه ولادة لحركة إصلاحية في إطار انقسام إسلاميي تركيا إلى محافظين وإصلاحيين.

الثاني: أن معظم قيادات الحزب وكوادره الوسيطة لها تاريخ معروف كناشطين، أو رموز للتيار الإسلامي، حتى قبل تأسيس حزب الرفاة- أبرز وأكبر وعاء لهذا التيار- عام 1983 ، ويأتي على رأس هذه القيادات زعيم الحزب رجب طيب أردوغان ونائبه الأول عبد الله جول اللذان يعدان تلميذين لإربكان، التصقا به لفترة طويلة، وبدرجة أقل من قيادات أخرى مثل بولنت أرنج رئيس البرلمان الحالي، وعبد اللطيف شنر نائب رئيس الوزراء.

بالإضافة إلى ذلك يجمع الكثيرون من غلاة العلمانيين في تركيا على أن حزب العدالة والتنمية له " أجندة سرية" كحزب إسلامي، ويخفي هذه الأجندة التي يريد تنفيذها خطوة بخطوة، وعلى مدى طويل، لأنه استفاد من تجربة صدام حزب الرفاة مع السلطة الذي انتهى بحله عام 1988، يعد تدخل الجيش ضده في فبراير عام 1997 أثناء توليه الحكم فيما وصف "بانقلاب 28 فبراير" غير أنه لا يمكن أخذ مثل هذه الاتهامات أو الشكوك دليلا على أن الحزب إسلامي التكوين والتوجه، لكن الشيء الثابت أنه لا يشبه الأحزاب العلمانية القائمة، ومن ثم نذهب إلى تصنيف جديد يتجاوز التصنيفات القائمة، وهو أن حزب العدالة والتنمية يشكل توليفة أيديولوجية تتمثل في الإسلام الروحي والعلمانية السياسية. وربما يكون توصيف عبد الله جول بأنه يشبه الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوربا صحيحا في إطار ما هو معلن عنه من مبادئ وبرامج وممارسات.

وللتعرف أكثر على الجذور الإسلامية للحزب، فمن المفيد البدء باستعراض تاريخ التيار الإسلامي ودوره في الساحة السياسية التركية. وفي هذا الإطار ربما يكون من الأفضل الإشارة أولا إلى حملة مصطفى كمال أتاتورك على المجتمع التقليدي الذي أنتجته الخلافة العثمانية في تركيا، ومحاربته ممارسات هذا المجتمع، وقمعه لرموزه الذي بدأ بإعلان الجمهورية العلمانية في 29 أكتوبر 1923، ثم إلغاء الخلافة الإسلامية في العام التالي، وبعدها المحاكم الشرعية الدينية، ويعد ذلك البدء من عام 1925 في تغريب تركيا ثقافة وحضارة وممارسات، وتكريس دور الجيش كحارس للنظام الجديد. ومن المهم الإشارة إلى أن ذلك العام شهد إصدار مراسيم عدة تضمنت:

- إغلاق الزوايا والتكايا الموجودة بالدولة.

- إلغاء كل أنواع الطرق ومشايخها، وإلغاء ألقاب الدرويش والمريد والسيد والبابا والأمير والخليفة والعرافة، وحظر السحر والتنجيم وكتابة التعاويذ والأحجبة والتمائم.

- حظر استعمال عناوين وصفات وأزياء تدل على الطرق الصوفية.

- إغلاق جميع المزارات وقبور السلاطين والأولياء ومشايخ الطرق.

- تشريع عقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر لمن يخالف هذه المراسيم.

وفي إطار التوجه ذاته استقدمت لتركيا قوانين سويسرية عام 1926، وألغيت القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية في قضايا الأحوال الشخصية، بما في ذلك منع تعدد الزوجات، وإعطاء المرأة المسلمة حق الزواج من غير المسلم، وأن تغير دينها، والمساواة بين الذكر والأنثى في الميراث، كما أعطت القوانين الجديدة للأب حق الاعتراف بولده الذي يولد نتيجة علاقة غير شرعية. وفي نهاية ذلك العام فرض أتاتورك السفور على النساء، وحظر عليهن لبس الجلباب، وألزمهن ارتداء الفساتين، وإلا قدم أزواجهن وأقاربهن للمحاكمة، وواصل محاولة تدمير المجتمع التقليدي بتغريب التعليم من خلال توحيد المدارس، واستبدال الحروف اللاتينية باللغة العربية. واستكمل أتاتورك "ثورته" في عام 1938 قبيل وفاته بإلغاء المادة التي تنص على أن الإسلام دين الدولة في الدستور.

ولمزيد من فهم مدى الارتباط العكسي بين ولادة التيار الإسلامي والمشروع الأتاتوركي، ربما يكون من المفيد أيضا أن نطرح الأفكار المؤسسة للأيديولوجيا الأتاتوركية، التي كان واضعها ومؤسسها مصطفى كمال يعتقد أن افسلام هو سبب ضعف وتمزيق تركيا، وهي:

1- فكرة الجمهورية كبديل للنظام الملكي السلكاني والخلافة الإسلامية.
2- الفكرة القومية، أي أن يكون الرابط الأساسي بين أبناء الشعب التركي "ملية" أو وطنية، وليس الدين.
3- فكرة الشعبية، بمعنى ضرب نفوذ الأرستقراطية العثمانية والملاك والإقطاعيين ورجال الدين بتصعيد الطبقات الدنيا من المجتمع في إطار المساواة بين أبناء الشعب.
4- فكرة هيمنة الدولة وتحولها إلى أداة لفرض العلمانية والتغريب والتحديث الصناعي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
5- فكرة الانقلابية، أي الثورة على كل ما هو سائد من الأفكار والأوضاع والمؤسسات التي تعتبر تقليدية ومتخلفة.
6- فكرة العلمانية، ليست بالسياق المعروف حسب المصطلح المتداول في الغرب، وهو فصل الدين عن الدولة، ولكن سيطرة الدولة على الدين.

وحتى عام 1945 تم تطبيق هذه الأفكار بصرامة وصلت إلى حد الدموية أحيانا في قمع الطرق الصوفية ورموز التيار الديني، وبدا أي شخص متدين كأنه عدو محتمل للدولة إلى أن يثبت العكس. وفي ذلك العام تحدث الرئيس عصمت إينونو خليفة أتاتورك عن رغبته في إجراء إصلاحات سياسية بالسماح بإنشاء حزب معارض للحزب الوحيد الذي أسسه أتاتورك – هو حزب الشعب الجمهوري. وبالفعل في عام 1946 تم تأسيس الحزب الديمقراطي الذي كان تعبيرا عن رغبة شعبية في التغيير نحو مزيد من الديمقراطية والحرية. والجدير بالذكر أن التيار الإسلامي وجد في هذا الحزب متنفسا له، رغم أنه كان ضعيفا، ويعبر عن قطاعات محدودة من الجماهير. وفي انتخابات عام 1946 نجح الحزب الجديد في شغل 61 مقعدا من مقاعد البرلمان من أصل 482 مقعدا رغم الفوز الساحق لمنافسه حزب الشعب الجمهوري الحاكم. وفي انتخابات عام 1950 حقق الحزب الديمقراطي فوزا ساحقا حيث حصل على 403 مقاعد مقابل 69 مقعدا لحزب الشعب الجمهوري، وكان ذلك أبرز تطور في تاريخ الجمهورية التركية منذ وفاة أتاتورك عام 1938.

وفي إطار الحديث عن جذور التيار الإسلامي نشير إلى أن العقد الذي حكم فيه الحزب الديمقراطي بين عامي 1950 و 1960 شهد تعضيد وتوسيع دور الإسلام في الحياة السياسية التركية، حيث تم إلغاء القانون الذي كان ينص على رفع الأذان بالتركية في عام 1950 وعاد للترديد باللغة العربية، وأصبح القرآن يتلى في محطات الإذاعة الرسمية، وبدأ التعليم تدخله دراسات دينية، وجرى إضفاء الشرعية على مدارس الأئمة والخطباء، كما تم بناء 1500 جامع، وترميم العشرات أيضا. كما عادت الطرق الصوفية إلى ممارسة دورها الاجتماعي واقعيا على الرغم من حظرها قانوني، وفتحت تكاياها ومدارسها وزواياها، وأعلنت دخولها الساحة السياسية، حيث أيدت الطريقة النقشبندية الحزب الديمقراطي علنا، وتسلل الإسلاميون إلى أحزاب أخرى أيضا، في اتجاه لمزيد من التبلور في أحزاب مستقلة، ليخلقوا معادلة لا تزال قائمة حتى اليوم في السياسة الداخلية التركية، تتمثل في أن تيار الإسلام السياسي هو المعادل الموضوعي للجيش والنخبة العلمانية.

وبعد انقلاب عام 1960 عاد الإسلاميون إلى التسلل لحزب العدالة الذي حل محل الحزب الديمقراطي في مواجهة حزب الشعب الجمهوري العلماني، وأسفرت المواجهة في انتخابات 15 أكتوبر عام 1961 عن فوز حزب الشعب الجمهوري بـ 36,7% من أصوات الناخبين، مقابل 34,7% لحزب العدالة، وجرى تشكيل حكومة ائتلافية بين الحزبين برئاسة عصمت إينونو. ومن المفارقات الغريبة أن حزب العدالة والتنمية الحالي كان منافسه الرئيس في انتخابات 3 نوفمبر 2002 هو حزب الشعب الجمهوري أيضا، أي بعد حوالي 42 سنة. وفي 1970 أسفر التيار الإسلامي عن وجهه صراحة بتشكيل حزب "النظام الوطني" بزعامة نجم الدين إربكان الذي كان قد انتخب عام 1969 رئيسا لاتحاد الغرف التجارية والصناعية.ويعد إربكان الذي كان قد انتخب عام 1969 رئيسا لاتحاد الغرف التجارية والصناعية. ويعد إربكان أول من أطلق فكرة الإسلام السياسي في نظريته المعروفة بالقومية الإسلامية، أي أن الإسلام هو الذي يجمع الأتراك لا الجغرافيا ولا العراق ولا الدولة ذاتها، وكون إربكان رئيسا لاتحاد الغرف التجارية والصناعية يشير أيضا إلى استناد التيار الإسلامي إلى قاعدة من التجار ورجال الأعمال الصغار والمتوسطين في الأناضول منذ البداية، فيما يمكن أن نسميه قاعدة البرجوازية الصغيرة. ولا تزال هذه القاعدة سندا للتيار الإسلامي الإصلاحي الذي يعبر عنه حزب العدالة والتنمية الآن، الذي بنى علاقات قوية مع الكثير من كبار رجال الأعمال وأصحاب المجموعات الصناعية والتجارية الكبرى أيضا.

غير أنه لم تمض شهور على تشكيل حزب النظام الوطني حتى وقع انقلاب 12 مارس عام 1971 الذي أغلق الأحزاب، ومنها هذا الحزب، وذهب إربكان إلى سويسرا. وفي عام 1972 وبعد عودة الحياة الديمقراطية إلى تركيا، شكل سليمان عارف إيمري صديق إربكان حزب " السلامة الوطني" الإسلامي، وفي عام 1973 تولى إربكان رئاسته، وأصبح الحزب مؤثرا في الحياة السياسية التركية حتى وقع انقلاب عام 1973 ، إلا أنها سقطت بعد شهور قليلة. وبشكل عام كان لحزب السلامة الوطني دور في التفاعلات السياسية في حقبة السبعينات التي شهدت أواخرها تنامي الإسلام السياسي في تركيا بشكل كبير. وأخذ هذا التيار دفعة قوية بعد نجاح الثورة الإيرانية بزعامة آية الله الخميني عام 1979 رغم أنه لم تكن هناك علاقة مباشرة بهذه الثورة .

وفي عام 1983 أسس إربكان "حزب الرفاة" ، وعرض الفكرة القومية الإسلامية بوضوح ، تمثلت أبعادها فيما يلي:

1- الإسلام هو الرابطة الأولى بين الأتراك.
2- دور الدولة المهم في عملية التحديث والتصنيع، حيث كان إربكان معجبا بالنموذج الألماني في التصنيع.
3- على الدولة أن تحقق العدالة الاجتماعية وتكون " دولة رفاه اجتماعي" أو ما أسمي بـ "النظام العادل".
4- رفض النظام المالي القائم على المعاملات الربوية، والدعوة لاقتصاد إسلامي.
5- معارضة الخصخصة والليبرالية، مع الحفاظ على دور الدولة والقيم الدينية بديلا للحريات الغربية.
6- رفض التغريب، والدعوة إلى عودة تركيا إلى جذورها الإسلامية.
7- الاتجاه إلى العالم الإسلامي كمحيط طبيعي لتركيا، ومعارضة فكرة انضمامها للاتحاد الأوربي.

واستطاع إربكان بمبادئه هذه أن يجذب الطبقات المحرومة في الأناضول ، والبرجوازية الصغيرة في كل من الأناضول واسطنبول، بالإضافة إلى أتباع الطرق الصوفية، كما اشتهر عنه حفاظه على ممارسته الدينية حتى في أوقات العمل والسفر إلى الخارج.

وفي الحديث عن تطور التيار الإسلامي يجب ذكر أن جزءا من هذا التيار دخل حزب "الوطن الأم" بزعامة تورجوت أوزال، ولذلك لم يكن غريبا أن بعض قيادات الجناح الإسلامي في هذا الحزب انضمت إلى الرفاة، ثم الفضيلة ، فالعدالة والتنمية فيما بعد. ويقول الكاتب الإسلامي التركي بشار قبلان: إن قادة انقلاب عام 1980 شجعوا تيار الإسلام السياسي بشكل عام على النمو والترعرع بشكل غير مباشر، حيث استخدموا الإسلام كأيديولوجيا ضامنة للنظام في مواجهة الخطر الشيوعي، وهو أمر يشبه ما فعله الرئيس المصري الراحل أنور السادات عندما أراد محاربة الشيوعيين والناصريين في الجامعات بالجماعات الإسلامية في حقبة السبعينيات. وقد فعل هؤلاء القادة ذلك على الرغم من أنهم استشعروا خطورة الإسلام السيسي في شكله المباشر على النظام ، لكن هذا الخطر لم يجعلهم يتراجعون عن استعمال الإسلام في صوغ الأيديولوجيا الرسمية من أجل السيطرة على المجتمع، فقد استشهدوا بالقرآن والأحاديث النبوية في خطبهم، وجعلوا الدروس الدينية إلزامية في المدارس، غير أنه من الضروري فهم فكرة أن الإسلام جزء من الهوية التركية، بالإضافة إلى القومية في المدارس التعامل مع الآخر الأوربي حتى داخل النخبة العلمانية المتطرفة.

وقد كان الطبيعي أن تقود هذه الازدواجية إلى الصدام بين الإسلاميين والدولة في النصف الثاني من التسعينيات بعد الصعود الكبير لهم الذي بدأ بانتخابات عام 1991، حيث حصل الرفاة على حوالي 40 مقعدا من مجموع 450 مقعدا. أما ذروة هذا الصعود فقد تمثلت في الفوز بالمركز الأول في الانتخابات النيابية عام 1995 حيث حصل على 21,389% من أصوات الناخبين، وفي يونيو 1996 شكل إربكان أول حكومة يقودها الإسلاميون في تاريخ تركيا المعاصر بعد التحالف مع زعيمه حزب "الطريق القويم" تانسو تشيللر إثر سقوط الحكومة الائتلافية التي جمعت حزبي تشيللر والوطن الأم بزعامة مسعود يلماظ.

كان قد سبق ذلك نجاح كبير لحزب الرفاة في الانتخابات المحلية عام 1994 الذي وصفه الكاتب التركي نصوح جوجنور بأنه انفجار سياسي، حيث فاز مرشحوه في المدن الكبرى، خصوصا اسطنبول وأنقرة. ويرجع جوجنور صاحب كتاب " الحركة الإصلاحية " هذا الفوز إلى تأييد الطرق الصوفية لأربكان، التي ساندت أيضاف في انتخابات عام 1995 البرلمانية. ويشير الكاتب إلى أ اتباع هذه الطرق هم الذين كانوا وراء نجاح الحركة الإصلاحية في التيار الإسلامي المتمثلة في حزب العدالة والتنمية، خاصة أن الفكرة القومية ثبت فشلها في شكلها الذي قدمه إربكان والذي تمحور حول مصطلح : " النظام العادل" . وفي هذا السياق يقول الدكتور سليمان قرة جولة منظر هذا النظام:" إنه نظام يستند إلى الحق لا القوة، والديمقراطية فيه هي ائتلاف وطني يعترف بحق 99 شاة من أصل مائة، وليس نظام انتخابات يجري كل خمس سنوات، ويعتمد على الأكثرية" . ويصف قرة جولة الانتخابات بأنها صيغة متطورة لسيطرة القوى الذي تخافه الناس فتنتخبه.

أما على الصعيد الخارجي فإن " النظام العادل" الذي يعني النظام الإسلامي في المفهوم المستتر، يحدد أهداف سياسة تركيا الخارجية في الآتي:

1- إقامة منظمة الأمم المتحدة الإسلامية.
2- إقامة منظمة التعاون الدفاعي المشترك للدول الإسلامية.
3- إقامة منظمة التعاون الثقافي للدول الإسلامية.
4- الانتقال إلى سوق اقتصادية مشتركة، ووحدة نقدية مشتركة للدول الإسلامية بواسطة التيار الإسلامي.

وقد مثلت هذه النظرية الشعارات الأساسية لحزب الرفاة في انتخابات عام 1995.

ويرى الكاتب محمد نور الدين في كتابه تركيا في الزمن المتحول:" إن تشكيل حكومة إربكان عام 1996 كان بمثابة منح الاعتراف المتبادل بين النظام العلماني والحركة الإسلامية، خاصة أن إربكان تقدم إلى منتصف الطريق في برنامج حكومته بإعلانه الولاء لمبادئ الجمهورية التي أسسها أتاتورك، وفي مقدمتها العلمانية التي تتناقض مع الفكرة القومية والنظام العادل". غير أن هذا الولاء قوبل بالشكوك ، لأن إربكان سبق أن انتقد العلمانية التركية بشدة، ورآها مختلفة عن العلمانية الغربية المتمثلة في فصل الدين ع الدولة، بل تمارس القمع والعداء للإسلام، والحق أن العلمانية التركية يمكن وصفها بالأصولية حسب تعبير أحد رموز التيار الإسلامي التركي حيث يرى أنها تتسم بالجمود والتشدد.

ولقد أثبت انقلاب الجيش على إربكان عام 1997 بشكل سلمي أن التزاوج لم يحدث، وربما يكون في أيديولوجية حزب العدالة والتنمية تعبير عن تزاوج آخر مختلف سنعرضه فيما بعد. وقد يكون هذا الانقلاب منطقيا بعد أن بات إربكان رمزا لتهديد الأتاتوركية بأبعادها المختلفة، على الرغم من أنه قدم تنازلات فيما يتصل بالمبادئ المنبثقة عن فكرة القومية الإسلامية على الصعيدين الداخلي والخارجي.

وفي 28 فبراير عام 1997 عرض قادة الجيش على مجلس الأمن القومي 18 إجراء يجب على الحكومة تطبيقها، شملت الآتي:

1- منع أية دعوات مؤيدة لتطبيق الشريعة الإسلامية.
2- فرض رقابة على شبكات الإذاعة والتليفزيون الإسلامية.
3- منع ارتداء أي زي يتعارض مع قوانين الدولة، بما يعني حظر الحجاب.
4- فرض إجراءات لمنع تسلل الإسلاميين المتشددين لأجهزة الدولة.
5- فرض رقابة على شراء البنادق قصيرة الماسورة، نظرا لإقبال الإسلاميين عليها.
6- فرض رقابة على الموارد المالية للجمعيات الدينية والطرق الصوفية.
7- إحياء المادة 163 من قانون العقوبات التي تنص على تحريم أي نشاط سياسي بدافع ديني.
8- إلزام الحكومة بالمراقبة الدقيقة لجهود إيران لزعزعة النظام العلماني في تركيا.
9- تحريم العمل ضد النظام الديمقراطي العلماني بصورة مطلقة
10- تطبيق المادة 174 من الدستور الخاصة بعدم التعرض للإصلاحات التي أقرت منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923.
11- الطلب من المدعين العاملين إجراءات فورية ضد أي عمل يعتبر انتهاكا للقوانين، وإغلاق المؤسسات الدينية التي تنتهك هذه القوانين.
12- زيادة مدة التعليم الإلزامي إلى 8 سنوات بما يعني فعليا إغلاق مدارس الأئمة والخطباء.
13- إغلاق مدارس تعليم القرآن التي يديرها الإسلاميون.
14- مساءلة رؤساء الأحزاب عن ت صريحات وبيانات يصدرها رؤساء بلديات ينتمون إليها.
15- حظر قبول أي تمويل أجنبي من منظمات دينية للمجالس البلدية.
16- منع إقامة المسجد الجديد في حي التقسيم بإسطنبول.
17- فصل 160 من ضباط الجيش لانتمائهم للتيار الإسلامي.
18- فصل بعض حكام الولايات المنتمين للتيار الإسلامي.

وحاول إربكان إبداء الاستجابة النظرية لهذه المطالب، لكنه عرقل تنفيذها، وحتى إبعاده عن الحكم في يونيو 1997 لم يغلق سوى 120 مدرسة لتعليم القرآن. وشهدت المرحلة ما بين عرض المطالب واستقالة حكومة إربكان لعبة شد وجذب بين الجيش وإربكان، وانتهى الأمر بإبعاد الأخير عن السلطة بتنسيق بين الجيش والرئيس سليمان ديميريل، الذي كلف مسعود يلماظ زعيم حزب الوطن الأم بتشكيل حكومة جديدة بعد أن استقال إربكان لإفساح الطريق أمام شريكته تانسو تشيللر لتولي السلطة بدلا منه في إطار اتفاق للتناوب على هذه السلطة.

وفي عام 1998 أصدرت المحكمة الدستورية التركية حكما بإغلاق حزب الرفاة ومنعت عددا من قياداته- وعلى رأسهم إربكان ووزير العدل الأسبق شوكت قازان- من ممارسة السياسة لمدة خمس سنوات، ولما كان الحزب قد توقع مثل هذه الخطوة، فإنه شكل قبل ذلك وفي عام 1997 حزب الفضيلة الذي جرى إغلاقه أيضا عام 2001 ، وتشكل في العام ذاته حزبا السعادة، العدالة والتنمية، الأول يمثل الجناح المحافظ من الإسلاميين، والثاني الجناح الإصلاحي، وقد قاده كل من أردوغان وجول. وقد ابتعد الجناح الإصلاحي عن أخطاء إربكان القاتلة، حيث ثبت من الصدام بين الجيش وإربكان بفكرته القومية الإسلامية ورافدها النظام العادل الحقائق الآتية:

1- أن الجيش له حدود في التسامح مع ا لتيار الإسلامي، وأن القوى العلمانية – وعلى رأسها الجيش – لا يمكن أن ت تسامح للدرجة التي يهدد فيها هذا التيار وجودها، ومن ثن فإن هذه القوى تخوض معركة وجود في حالة استقواء خصومها الإسلاميين بالشعب أو الشرعية والديمقراطية.

2- أن تباعد الطرفين – القوى العلمانية والتيار الإسلامي- لا يسمح بالالتقاء على أرضية مشتركة طالما أن وجود أحدهما وقوته يعني إلغاء الآخر.

3- ذهنية إلغاء الآخر هذه التي تحكم الصراع بين الطرفين تعطيه بعدا خطيرا قد يشمل اللجوء للعنف أو الأحكام القضائية الاستثنائية.

4- يرتبط بذلك شيوع ذهنية التقديس من جانب كل طرف لأفكاره ومبادئه، وربطها بأبعاد ميتافيزيقية وقومية ووطنية.

5- أن الصراع بين الطرفين يكرس من أزمة الهوية التركية، حيث لم تنجح التجربة الأتاتوركية في اقتلاع الضمير الديني للأتراك، وكل ما ينتج عنه من أفكار وممارسات، في حين أن التيار الديني لم يقدم شكلا من المواءمة العصرية مع الديمقراطية العلمانية التي يمكن أن تحوز قبولا شعبيا شاملا، بل ساعد على تمزيق اتجاهات الأتراك بين الإحساس بالانتماء لعالمين وثقافتين وحضارتين، وهل كلها ثنائيات متناقضة.

وأيا كان الأمر، فإن تجربة إربكان أثبتت صعوبة السماح للتيار الإسلامي بتطبيق برامجه المناوئة لأسس الجمهورية العلمانية. ومن المؤكد أن حزب العدالة والتنمية استفاد كثيرا من تجربة إربكان، ومن المؤكد أيضا أن ذلك ساعده على الوصول إلى السلطة والبقاء فيها دون أن تصل العلاقات مع الجيش للصدام، رغم الشعور بعدم الارتياح بين الطرفين. من هنا نشير إلى أن تجربة حزب العدالة والتنمية تكشف عن أن المبادرين بها قد وضعوا في أذهانهم التجربة الإربكانية بكل تفاصيلها، مع استشراف الاحتمالات الخاصة بالمستقبل، ومن ثم نجد أن هناك من يصف أردوغان ورفاقه بأنهم إسلاميون براجماتيون، يدركون أن التغيير وفقا للنهج الراديكالي الإربكاني لا تسمح به قواعد اللعبة في البلاد لا داخليا ولا خارجيا بالنظر إلى علاقات تركيا إقليميا ودوليا.

وتشير أغلب كتابات الباحثين الأتراك حول هوية حزب العدالة وتوجهاته إلى هذا المعنى بوضوح. ويصل الأمر إلى حد اتهام حزب العدالة بتبني مبدأ "التقية" الشيعي بعدم الكشف عن هويته الإسلامية، ويبررون حكمهم هذا بأنه لا يعقل أن يغير حشد كبير من السياسيين أفكارهم وأيديولوجياتهم ما بين يوم وليلة، نظرا لإيمانهم بأنهم كانوا على خطأ طوال سنوات طويلة من حياتهم السياسية، فأردوغان كشف عن توجهاته الإسلامية منذ أواخر السبعينيات، وسجن قبل تأسيس الحزب بعامين نتيجة خطابه الإسلامي الزاعق، وتوجيهه اتهامات مبطنة للقوى العلمانية خلال كلمة ألقاها في حشد من الجماهير في مدينة سيرت. ولدى أصحاب هذا الطرح أدلة يرونها مقبولة، فعلى سبيل المثال فإن زعماء الحزب المحليين في أقاليم تركيا الـ (81) بعد عام من تأسيس الحزب كان منهم 32 ينتمون لحزبي الرفاة والفضيلة، مقابل 35 يمارسون نشاطا حزبيا لأول مرة و 14 آخرين كانوا أعضاء في أحزاب غير إسلامية مثل الوطن الأم، والطريق القويم، في حين قدر أعضاء الحزب بحوالي مليون عضو لا يعرف عدد الإسلاميين بينهم.

الفصل الثاني

حزب العدالة .. قصة النشأة

ثمة روايات متعددة وتفسيرات متباينة لنشأة حزب العدالة وولادته كقوة سياسية كبيرة في تركيا، وارتباط هذه الولادة بتطورات داخلية وقوى خارجية.

ونبدأ بالرواية الرسمية، يقول يشار ياقيش نائب – رئيس الحزب للشئون الخارجية، وهو عضو مؤسس للحزب، ولم يسبق له ممارسة أي نشاط حزبي، في حديث خاص لكاتب هذه السطور : " الفهم الأعمق لصعودنا في الحياة السياسية التركية يستلزم النظر في كيفية تشكيل الحزب.. لقد كان معظم مؤسسي الحزب أعضاء في حزب الرفاة بزعامة نجم الدين إربكان، وقد حاولوا كإصلاحيين – ومنهم عبد الله جول وبولنت أرنج ورجب طيب أردوغان- تغيير أسلوب وسياسات إربكان، وأبدوا رفضهم لممارساته، خاصة بناء كل موقف على أساس ديني، ونحن في بلد علماني ومثل هذه الممارسات غير مقبولة. وعندما تم حل الرفاة ظل المحافظون بزعامة إربكان والإصلاحيون الذين كان يقودهم عبد الله جول في الفضيلة، إلى أن تم حله بقرار من المحكمة الدستورية.. عندئذ كان لابد من الانقسام.. أنصار إربكان شكلوا حزب السعادة بزعامة رجائي قوطان، والإصلاحيون شكلوا حزب العدالة والتنمية.. لقد وجدوا أنفسهم في مفترق الطرق، والحياة السياسية تغيرت، فقرروا الانقطاع عن الماضي ممثلا في الرفاة والفضيلة، لكن هذا لا يعني إنكار هذا الماضي أو الهوية التركية". ويضيف ياقيش : " قبل أن يطرح الإصلاحيون برنامجهم السياسي أجروا استطلاعات عدة للرأي .. سألوا الناس ما هي أولوياتكم؟ .. ما هي طبيعة الحزب الذي تقبلونه؟ .. سألوا حتى عن الاسم المناسب والشعار المناسب، من هنا جاء نجاحه، وقد تولى أردوغان رئاسته، فأضاف إليه الكثير، لأنه كان رئيسا ناجحا لبلدية إسطنبول" ويرى ياقيش:" أن الخلافات مع إربكان والمحافظين التي قادت إلى تشكيل حزب العدالة والتنمية سببها الابتعاد من جانب إربكان – عن العلمانية التي تحكم نظامنا، ونحن لا نريد حكومة على أساس ديني كما يرغب حزب السعادة. حزبنا جديد تماما ليس له ارتباطات بالماضي، لكنه يراعي الحساسيات في بلد 99% من سكانه مسلمون، والكثيرون من أبنائه محافظون، ولهم ثقافتهم الإسلامية، وليس من سبيل لإنكار ذلك".

ويرى الكاتب الصحفي فهمي كورو – الذي يوصف بأنه أحد منظري حزب العدالة والتنمية : " إن الصيغة التي يعبر عنها الحزب تتمثل في أن قادته وأعضاءه متدينون، حيث يصلون ويصومون، وزوجاتهم محجبات، لكن الدين لا يلعب دورا محوريا في أنشطة الحزب والحكومة، ولا يشكل مرجعية لسلوك سياسي، صحيح إنهم جاءوا من خلفية إسلامية، لكنهم ليسوا رجعيين. إنهم يدافعون عن القيم الإسلامية، لكنهم مع فكرتي الديمقراطية والعلمانية ليس بمعنى العداء للدين، ولكن بمعنى فصل الدين عن الدولة".

ويؤكد كورو تغير قادة الحزب بشكل راديكالي عما كانوا عليه عندما كانوا أعضاء بارزين في حزب الرفاة، حيث وجدوا أن محاربة العلمانية ليست مناسبة لتركيا، وأن الاستمرار في استخدام الدين في السياسة يخلق مشاكل كبيرة في الدولة وللشعب، وقد رأوا عينات من هذه المشاكل في تاريخ تركيا الحديث والمعاصر.

أيا كان الأمر فنحن أمام تجربة فريدة لحزب معظم أعضائه وقادته إسلاميون، لكنه ليس حزبا دينيا، وهذه هي المعادلة الصعبة التي اثبتت الأحداث أنها من الممكن أن تكون واقعية، لكن لا تنهي الجدل حول هوية الحزب على الساحة السياسية.

ووفقا للوثائق الصادرة عن حزب العدالة والتنمية، فإن هناك أحاديث متفاوتة عن أهداف الحزب ومبادئه وأفكاره التي سنعرضها حسبما وردت في الوثائق المتاحة. وقبل ذلك نشير إلى أن شعار الحزب هو مصباح قاعدته وإطاره أسودان ويخرج منه ضوء أصفر. وهو ما يراه مؤسسو الحزب تعبيرا عن الإثارة والاستنارة.

وقد حددت اللائحة الداخلية للحزب أهدافه كما يلي:

1- تحقيق السيادة – وبدون أي قيد أو شرط – للشعب التركي على الجمهورية القانونية التي تعتبر القوة التي تراعي مصالح الفرد والمؤسسات معا.
2- الحفاظ على وحدة الدولة التركية.
3- الحفاظ على القيم والأخلاق التي تعد بمثابة تراث للشعب التركي.
4- تحقيق الحضارة والمدنية المعاصرة في تركيا وفقا للطريق الذي رسمه مصطفى كمال أتاتورك.
5- تأمين الرفاة والأمن والاستقرار للشعب التركي.
6- تحقيق مفهوم الدولة الاجتماعية التي تتيح للأفراد العيش بالشكل الاجتماعي المطلوب.
7- تحقيق العدالة بين الأتراك والتوزيع العادل للدخل القومي.

أما برنامج الحزب فقد اختصر أهدافه في الآتي: " الدمقرطة، التنمية، النهوض فوق مستوى الحضارة المعاصرة. ويعرض البرنامج وسائل تحقيق تلك الأهداف على النحو الآتي:

1- نشر الوعي القائم على الحقوق المتعارف عليها دوليا، والحريات، وسيادة القانون في جميع أنحاء تركيا.
2- استئصال مشاكل تركيا المستعصية بتعبئة الموارد الإنسانية والطبيعية المهملة بما يجعله بلدا منتجا باستمرار وينمو بالإنتاج.
3- تخفيض معدل البطالة، وردم الهوة في توزيع الدخل مما يزيد من مستوى الرفاة.
4- اتباع سياسات تهدف لتحقيق الكفاءة والفاعلية في الإدارة العامة، وإدخال المواطنين والمنظمات المدنية في عملية صنع القرار.
5- تحقيق الشفافية الكاملة والمحاسبة في كل جانب من جوانب الحياة العامة.
6- اتباع سياسات معاصرة ورشيدة، عملية لإفادة الأمة في مجالات الاقتصاد، والسياسة الخارجية، والثقافية، والفنون، والتعليم، والصحة، والزراعة والثروة الحيوانية.

ومما جاء من مبادئ للحزب في لائحته الداخلية أنه يحترم كافة الحقوق الخاصة بالمواطن، ولا يفرق بين أبناء الشعب على أساس الدين أو المذهب أو العرق، ويرفض كافة أنواع التفرقة والنزعات القومية أو الدينية، ويعمل على تحقيق الديمقراطية بالمفهوم الكامل، وأن ترسم علاقات الدولة والفرد وفقا لهذه القاعدة، وأنه من الضروري حماية الحرية والحقوق الأساسية لإتاحة الفرصة لسيادة الإرادة الوطنية، ويؤمن بضرورة نيل النساء لحقوقهن السياسية، وإتاحة الفرصة كاملة لحرية الفرد والتعبير عن آرائه بشكل مطلق بما يتسق مع القانون، وضرورة منح المؤسسات المدنية الحقوق والحريات والصلاحيات اللازمة لها، كما يؤمن الحزب بضرورة إقامة القواعد اللازمة لخدمة اقتصاد السوق، وحماية البنية الأساسية للاقتصاد، وإزالة انعدام التوازن في توزيع الدخل القومي.

ويرى حزب العدالة والتنمية أن العائلة عي أساس المجتمع التركي وهي جسر يربط الحاضر بالماضي، و " ضرورة الحفاظ على عاداتنا وتقاليدنا ومعتقداتنا والقيم الوطنية التي تنتمي إلى الماضي وعدم الابتعاد عنها" . كما يرى الحزب ضرورة تطوير مستقبل الشباب بحيث يعملون في أطر من الثقة والاستقرار والأمان.

والحزب مصمم على خلق مفهوم جديد للسياسة في تركيا، وأحد أهم أهدافه هو تعزيز ديمقراطية المشاركة بزيادة فعالية الشعب أثناء الانتخابات، ويؤمن الحزب بأن الديمقراطية والشفافية فيما يتصل بالبناء الداخلي للأحزاب تمثلان نواة كفاءة النظام السياسي. ومن أجل إقامة ديمقراطية وشفافية داخل الحزب، فإنه يجب تحقيق التالي:

- جعل الأولوية للانتخابات التمهيدية التي تشمل مشاركة كافة أعضاء الحزب لتحديد المرشحين لمقاعد النواب.

- من أجل سياسة قائمة على المبادئ فإن مدة خدمة رئيس الحزب ونوابه تحدد وفقا للوائح الداخلية للحزب.

- التزام الحزب بإعلام كافة مصروفاته للجمهور ووفقا لميزانية الحزب.

- يقوم الحزب بتخصيص جزء من ميزانيته للأبحاث والتطوير والأفرع الإقليمية للحزب.

- يضمن الحزب لأعضائه التعبير عن آرائهم في إطار لوائح وبرنامج الحزب.

- القدرة والاستحقاق هما أساس الاختيار للمناصب، خاصة الوزراء عندما يأتي الحزب مسألة تشكيل الحكومة.

وفي إطار استعراضنا للجانب النظري لأفكار ومبادئ الحزب تقول أوراقه: إنه يؤكد أن أي نظام ديمقراطي لا يمكن أن يعيش في مجتمع لا يسوده حكم القانون، والديمقراطية تؤكد وجودها من خلال القانون، ولابد من أن يسود مفهوم دولة القانون بدلا من قانون الدولة. ويتعهد الحزب بأنه سيضمن خلق أعلى درجات الثقة في النظام القضائي الذي يعد ضمانا للنظام الاجتماعي. كما يتعهد الحزب بالإعداد لدستور جديد تماما يسمح بحريات تعد استجابة لحاجات المجتمع بأكمله بما يتسق مع مبدأ دولة القانون ومعايير الدول الديمقراطية. ويرى الحزب في الديمقراطية نظاما مبنيا على التسامح، وفي الديمقراطيات ليس من الممكن لبعض المواطنين الاستفادة من حقوق وحريات ومزايا أكثر من غيرهم، فالكل تحت حماية القوانين في هذه الديمقراطيات.

وحسب وثائق الحزب فإنه يعلن وبصورة واضحة أنه يفضل آلية السوق التي تعمل وفق قواعد المؤسسات، وأنه يتبنى مبدأ ان الدولة يجب ألا تدخل في أي نشاط اقتصادي، حيث يحصر الوظيفة الاقتصادية للدولة في إطار التنظيم والإشراف، ويعتقد أن الاستقرار الاقتصادي سيتحقق من خلال النمو الذي يتحقق بدوره بواسطة الاستثمارات، التي يعلن الحزب دعمه لها، وخصوصا ما يزيد فرص التوظيف منها. كذلك فالحزب يرى أن الخصخصة تعد وسيلة مهمة لتشكيل بناء اقتصادي أكثر رشدا. وفي الإطار الاجتماعي يرى الحزب أن الحكومة هي وسيلة لخدمة الشعب، ومن ثم فإنها ستتبع سياسات توفر الرخاء والسعادة لكل المواطنين، وليس لفئة أو شريحة محددة، ويجب عمل برامج للفقراء والأطفال والمحتاجين والعاطلين والمواطنين الذين يواجهون صعوبات معيشية حتى لا يشعروا أنهم بمفردهم، ويعيشوا حياة كريمة. وفي هذا السياق يرى الحزب أن الأمن الاجتماعي يعد حقا دستوريا، وأنه على الدولة أن تجعل هذا الحق متاحا لكل الأفراد، ومن ثم سيقوم بتطوير سياسة أمن اجتماعي تفيد فلسفة الدولة الاجتماعية في إطار الدستور.

وفيما يخص تشكيلات الحزب فإنها أربعة مستويات هي: المستوى المركزي، ومستو ى المحافظات، ومستوى الأقسام، وأخيرا مستوى القرى.

يشمل المستوى المركزي التشكيلات التالية: المؤتمر العام، ورئيس الحزب، والهيئة الإدارية (مركز صنع القرار) ، والهيئة التنفيذية، وأخيرا اللجنة التأسيسية. أما مستويات المحافظات والأقسام والقرى فتشمل التشكيلات الآتية: المؤتمر، ورئيس الفرع، والهيئة الإدارية، وأخيرا الهيئة التنفيذية. وإلى جانب تلك المستويات والتشكيلات التنظيمية يشمل الحزب فروعا نوعية تشمل: فرع النساء، وفرع الشباب، والمؤسسات الأخرى التابعة للحزب. كذلك فهناك المجموعات النوعية الخاصة بممثلي الحزب المنتخبين في مختلف المجالس الشعبية، وتشمل: المجموعة البرلمانية، ومجموعات مجالس المحافظات، ومجموعات مجالس الإدارات المحلية (البلديات).

ووفقا للوائح الحزب فإن الهيئة الإدارية هي صاحبة أعلى سلطة فيه، ويختار أعضاءها ورئيسها – الذي هو رئيس الحزب- المؤتمر العام، المكون من 50 عضوا أساسيا و 25 عضوا احتياطيا. ومن حق رئيس الحزب اختيار خمسة أعضاء أساسيين وثلاثة احتياطيين لتولي المهام الرئيسية في الهيئة، لكن بشرط حصولهم على ضعف ما يحصل عليه الأعضاء الآخرون من أصوات، ويتم توزيع المهام عليهم وفقا لعدد هذه الأصوات. وفي حالة فراغ مقعد خاص بالأساسيين يحل محله احتياطي بناء على ترشيح رئيس الحزب أيضا. ورئيس الحزب هو رئيس الهيئة الإدارية، وفي حالة عدم وجود رئيس للحزب يتولى نائب الرئيس مهامه. وتتخذ القرارات في الهيئة بالأغلبية النسبية، وفي حالة تساوي أصوات الطرفين يتخذ القرار بناء على موقف رئيس الحزب إذا كان التصويت علنيا، أما إذا كان سريا فيعاد التصويت مرة أخرى، وإذا ظل الأمر كما هو يؤجل إلى جلسة قادمة.

وحسب لائحة الحزب أيضا فإن الهيئة الإدارية تجتمع مرة واحدة على الأقل شهريا، وإذا تم تقديم طلب بعقد اجتماع طارئ لها، فيجب أن يتم ذلك بموافقة ثلثي أعضاء اللجنة التأسيسية، وإذا غاب العضو ثلاث مرات عن الاجتماعات بدون عذر مقبول يعتبر مستقيلا منها. ويحدد جدول أعمال الهيئة الإدارية بعد دراسة أعضائها للقضايا المطروحة، ومن حق كل عضو أن يطرح موضوعا لدراسته ثم يجري تصويت على إدراجه في جدول الأعمال. وتلتزم الهيئة الإدارية التي يطلق عليها " مركز صنع القرار" باتباع اللائحة الداخلية للحزب وبرنامجه، على أن تكون المنسق بين تشكيلات الحزب المختلفة. ومن بين مهام الهيئة إعداد برنامج الحزب وخطط تحركه، وتأسيس المكاتب واللجان المختصة، وتنفيذ سياسات الحزب، والمصادقة على تشكيلات الحزب. والهيئة الإدارية للحزب هي المسئولة عن تحديد سياساته، وإعلانها للرأي العام التركي خاصة فيما يتصل بالقضايا الجوهرية التي تواجه البلاد والعالم، وإذا تطلب الأمر فمن الممكن عقد اجتماع مشترك للهيئة الإدارية البرلمانية للحزب. ومن المهام الأخرى للهيئة تحديد أنشطة الحزب والتخطيط المستقبلي له، وإعداد ميزانيته، والتدقيق في قرارات تشكيلات الحزب الأخرى، ولها صلاحية اتخاذ قرارات تشمل الانتخابات الخاصة بالحزب، وتحديد أسماء مرشحي الحزب للبرلمان والبلدية، بالإضافة إلى تحديد الأعمال الإدارية للحزب.

وحسب اللائحة الداخلية يحق للهيئة الإدارية تأسيس معاهد سياسية لترسيخ الديمقراطية، وتدريب أعضاء الحزب، وبناء كوادر مؤهلة لممارسة العمل السياسي والحزبي، وتسلم مهام حساسة بالحزب وفقا للمعايير السياسية التركية والعالمية.

ويتم اختيار رئيس الحزب في المؤتمر العام بواسطة التصويت السري، ومن حق المرشح تولي رئاسة الحزب أربع فترات، والترشيح في نفس الفترات بالتبعية، كما يحق أن يظل رئيسا مدى الحياة للجنة التأسيسية، ويتم انتخاب رئيس الحزب بأغلبية الأصوات المطلقة، وإذا لم يحصل أي مرشح على هذه الأغلبية يجري تصويت ثان، وتتم الانتخابات بالأغلبية النسبية. وتقوم رئاسة ديوان المؤتمر العام بمراجعة قوائم المرشحين لرئاسة الحزب، وتحديد مدى صلاحية كل مرشح، ثم تعلن قائمة المرشحين.

ولرئيس الحزب مهام وصلاحيات عدة، فهو المسئول الشخصي الوحيد من بين أعضاء الهيئة الإدارية، وهو المسئول الإداري والمالي في أية قضايا ترفع ضد الحزب، وهو الذي يتولى التنسيق والإشراف على أنشطة الحزب، على أن تكون قراراته ومواقفه متسقة مع الدستور التركي واللائحة الداخلية للحزب. في حالة استقالة رئيس الحزب أو وفاته فإن الهيئة الإدارية تجتمع خلال عشرة أيام لتحديد عضو لتيسير أعمال الرئاسة بالوكالة حتى عقد مؤتمر عام للحزب خلال 45 يوما.

وربما يشعر بعض القراء بالملل من طرح هذا الجانب النظري، إلا أنني أراه مهما لفهم ظاهرة حزب العدالة والتنمية وممارساته وسياساته بعد توليه السلطة.

الفصل الثالث

وقائع زلزال سياسي

لا يمكن فهم أسباب وملابسات الفوز الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية في انتخابات الثالث من نوفمبر عام 2002 وحصوله على 363 مقعدا من مقاعد البرلمان الـ 550 أي بما يقل عن الثلثين بـ 4 مقاعد للمستقلين ، دون التطرق إلى ظاهرتين مهمتين هما: الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ضربت البلاد اعتبارا من فبراير عام 2001، والأزمة السياسية التي بدأت في يوليو عام 2002 وانتهت بالانتخابات المبكرة في 3 نوفمبر.

فنتيجة سياسات خاطئة للحكومات التركية المتعاقبة، بدت الأزمة تتفجر فجأة في فبراير عام 2001 بعد انخفاض حاد في سعر الليرة التركية أمام الدولار، حيث فقدت حوالي نصف قيمتها، واستدعى الأمر تعيين كمال درويش نائب رئيس البنك الدولي السابق وزيرا للاقتصاد في مهمة إنقاذ ارتبطت بتطبيق برنامج صارم للإصلاح الاقتصادي تحت إشراف صندوق النقد الدولي لمدة ثلاث سنوات، بدأت في فبراير 2001، وشمل البرنامج منح تركيا قروضا قيمتها 16 مليار دولار في صورة أقساط خلال تلك الفترة الزمنية. ومن مظاهر الأزمة التي وصلت أسوأ درجاتها بنهاية عام 2001، رغم برنامج الصندوق ، الارتفاع الهائل في حجم العجز في الميزانية إلى 22,93 مليار دولار بالقياس بـ 2,43 مليار دولار فقط عام 2000. شهد عام 2002 تحسنا محدودا في الأداء الاقتصادي لتركيا، إلا أنه وقت إجراء الانتخابات وصل حجم الديون إلى 203 مليارات دولار، منها 122 مليار دولار ديونا خارجية و81 مليارا ديوانا داخلية، في حين بلغ معدل النمو الاقتصادي 4,5% فيما وصف بأنه أسوأ كساد تشهده تركيا في تاريخها المعاصر. كما وصلت نسبة البطالة وفقا للأرقام غير الرسمية إلى 10% حين أخذت الحكومة في تقليص أعداد العاملين في الدولة تطبيقا لبرنامج الصندوق، بالإضافة إلى ارتفاع مستوى التضخم إلى 35%.

وقد ظهر بعد آخر للأزمة تمثل في بروز درويش كشخصية مهيمنة في الساحة السياسية نظرا لدعم الولايات المتحدة له وارتباطه بها، فضلا عن ارتباط برنامج الصندوق بالدعم الأمريكي أيضا، وبدت فكرة ضرورة الرضوخ لمطالب الصندوق واتباع تعليماته بديهية، ليس فقط بالنسبة للحكومة، بل لعدد كبير من أحزاب المعارضة، لأن أحدا لم يملك بديلا منطقيا وفاعلا لإخراج البلاد من أزمتها، رغم الانتقادات التي وجهت لبرنامج الصندوق وسياساته التي كرست في جوهرها تبعية البلاد بدرجة ما للولايات المتحدة، وزيادة النفوذ الأمريكي فيها.

وقد تمثلت مظاهرها فيما يلي:

1- رفض رئيس الوزراء بولنت أجاويد الاستقالة، رغم تدهور صحته وغيابه عن عمله الرسمي.

2- قيام نائب رئيس الوزراء حسام الدين أوزكان ووزير الخارجية إسماعيل جيم – وهما قياديان في حزب اليسار الديمقراطي- بما يشبه الانقلاب على أجاويد، انتهى بفقدان الحزب الذي ينتمون إليه حوالي نصف مقاعده في البرلمان، وتشكيل حزب جديد بمباركة وتخطيط وزير الاقتصاد كمال درويش غير المنتمي حزبيا، تحت اسم حزب "تركيا الجديدة" حيث ترأسه جيم.

3- دخول البلاد في حالة استقطاب سياسي حاد وصراع بين الأحزاب الثلاثة المشاركة في الائتلاف الحاكم ذات التوجهات المتباينة، وهي اليسار الديمقراطي والوطن الأم والحركة القومية.

4- أسفرت هذه الأوضاع المضطربة عن فقدان الحكومة للأغلبية البرلمانية، ومن ثم لم يصبح هناك مفر من إجراء انتخابات عامة مبكرة، وأقر البرلمان ذلك في 30 يوليو بأغلبية 449 صوتا ضد 62 صوتا للنواب الذين يمثلون حزب اليسار الديمقراطي: وكان قرار البرلمان هو الحبل الذي شنقت به أحزاب الائتلاف الحاكم نفسها، حيث تبين خطأ حساباتها فيما بعد، وحتى حزب المعارضة الرئيسي في البرلمان- "الطريق القويم" بزعامة تانسو تشيللر- بالغ في تقديره لشعبيته، وكان أبرز ما يميز الأحزاب الأربعة أن قياداتها بدت وجوها مستهلكة، وملطخة بالفضائح، وسوء الأداء السياسي.

لقد شارك في الانتخابات مرشحو ثمانية عشر حزبا، وبلغ عدد الناخبين المسجلين: 41 مليونا و 231 ألفا و 967 ناخبا. بلغت نسبة التصويت فيها : 79% من المسجلين (مقابل 85% في الانتخابات السابقة التي جرت عام 1999).

وقد بدت النتائج النهائية (نسبة مئوية من الأصوات الصحيحة) على النحو التالي:

1- حزب العدالة والتنمية : 34,29%.
2- حزب الشعب الجمهوري: 19,34%.
3- حزب الطريق القويم: 9,6%.
4- حزب الحركة القومية: 8,4%.
5- حزب الشباب: 7,2%.
6- حزب ديمقراطية الشعب الكردي "دهب": 6,2%.
7- حزب الوطن الأم: 5,2%.
8- حزب السعادة: 2,5%.
9- حزب اليسار الديمقراطي:1,2%.
10- حزب تركيا الجديدة: 1,1%.

ولم يحصل أي من الأحزاب الثمانية الباقية على نسبة 1% من أصوات الناخبين.

بتلك النتائج لم ينجح غير حزبين فقط في تخطي حاجز الـ 10% المطلوبة للحصول على مقاعد في ا لبرلمان ، وهما حزبا العدالة والتنمية والشعب الجمهوري ، ومن ثم حصدا كافة مقاعد البرلمان، باستثناء تلك التي نالها المستقلون كل حسب نسبة الأصوات التي نالها، وقد خصم منها 9 مقاعد فاز بها مستقلون. وكان توزيع إجمالي مقاعد البرلمان التركي (550 مقعدا) على النحو التالي:

1- حزب العدالة والتنمية: 363 مقعدا.
2- حزب الشعب الجمهوري: 178 مقعدا.
3- المستقلون: 9 مقاعد.

وبتلك النتائج تكون هذه الانتخابات قد شهدت ظواهر جديدة تعرفها تركيا للمرة الأولى في تاريخها المعاصر، أبرزها:

1- وصول حزب- وهو العدالة والتنمية- للسلطة وهناك دعوى قضائية مرفوعة ضده لإغلاقه من جانب المدعي الجمهوري لمحكمة الاستئناف آنذاك صبيح قناة أوغلو.
2- وصول حزب- وهو "العدالة والتنمية"- للسلطة بواسطة الانتخابات وشخص رئيس وزرائه غير معروف، نظرا لأن رئيسه رجب طيب أردوغان منع من خوض الانتخابات.
3- بقاء نسبة كبيرة من الناخبين (45%) غير ممثلة في البرلمان بسبب النظام الانتخابي الذي يلزم كل حزب بالحصول على 10% من الأصوات لنيل التمثيل البرلماني.
4- وصول حزب للسلطة بعد تأسيسه بـ 15 شهرا فقط، حيث تم إنشاء حزب العدالة والتنمية في 8 أغسطس 2001.
5- فوز حزبين فقط في الانتخابات.
6- فشل جميع أحزاب الحكومة الائتلافية في الفوز بأي مقعد.
7- دخول أول حزب شيوعي الانتخابات (الحزب الشيوعي).
8- إعلان رئيس حزب استقالته قبل إعلان النتائج النهائية الرسمية، وهو ما انطبق على سلوك زعيم حزب الحركة القومية دولت بهشلي (تراجع عنها فيما بعد).
9- فشل حزب يقود المعارضة في الحصول على نسبة الـ 10%، وهو ما انطبق على حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشيللر.
10- خوض مالك وسائل إعلام متعددة الانتخابات، وهو ما فعله جيم أوزان زعيم حزب الشباب.

يمكن إجمال أسباب الانتصار الكبير الذي حققه حزب العدالة في عاملين رئيسيين الأول: فشل الآخرين، ورفض الناخبين لمعظم رموز الحركة السياسية من القادة التقليديين، والثاني: هو اجتهاد الحزب وحسن إدارته للحملة الانتخابية، خاصة في إقناع الناخبين باختياره. ومن الضروري إيضاح ملامح الفترة ما بين تحديد موعد الانتخابات وإجرائها حتى نفهم طبيعة الإنجاز الذي حققه حزب العدالة ومقدماته. وتمثلت هذه الملامح في الآتي:

أولا: تعمق الأزمة السياسية بسبب عدد من التطورات، أبرزها:

1- محاولة بعض الأحزاب- مثل حزبي الوطن الأم، وتركيا الجديدة- تأجيل الانتخابات، وتهديد الرئيس أحمد نجدت سيزار بحل البرلمان إذا ما تراجع عن قراره السابق بإجراء انتخابات عامة مبكرة في 3 نوفمبر بدلا من الموعد الدوري في عام 2004.
2- نشوب أزمات ثنائية داخل الائتلاف الحاكم مثل ما حدث بين رئيس الوزراء بولنت أجاويد ونائبه مسعود يلماظ، وبين يلماظ ودولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية.

ثانيا: تحذيرات متصاعدة من جانب أجاويد من خطورة إجراء الانتخابات المبكرة رغم معارضته للتراجع عن موعدها والعودة إلى الموعد الأصلي المقرر سلفا، حيث توقع فوز حزب العدالة والتنمية الذي وصفه بالإسلامي، وما لذلك من خطورة – حسب وجهة نظره- على النظام العلماني في البلاد.

ثالثا: انضمام كمال درويش وزير الاقتصاد السابق الذي كان يوصف بقيصر الاقتصاد إلى حزب الشعب الجمهوري، وفشل محاولته لتوحيد أحزاب يسار الوسط الرئيسة- وهي: الشعب الجمهوري، واليسار الديمقراطي، وتركيا الجديدة- تحت مظلة حزب الشعب الجمهوري، مما أضعف هذا التيار.

رابعا: الصعود الكبير والمريب لشعبية حزب الشباب ذي الميول القومية بزعامة إمبراطور الإعلام جيم أوزان، رغم أن عمر الحزب لم يتجاوز الشهور. وقد استخدم جيم أوزان أمواله الطائلة في إغراء الناخبين وطرح شعارات قومية، وبرنامجا مليئا بالوعود الانتخابية التي هي نتاج حسابات مختلة، وقد جاء هذا الصعود على حساب حزب الحركة القومية الذي كان واثقا من الفوز في الانتخابات.

خامسا: فشل أجاويد في اجتذاب الناخبين بجعل قضية الحرب الأمريكية المحتملة ضد العراق الأولى في حملته الانتخابية مهاجما سياسة واشنطن ومواقفها.

سادسا: اتخاذ الهيئة العليا للانتخابات قرارا بحظر خوض كل من رجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية، ونجم الدين إربكان رئيس الوزراء الإسلامي الأسبق، واثنين من قادة حزب ديمقراطية الشعب (دهب) – الموالي للأكراد- الانتخابات، ورفع المدعي العام الجمهوري لمحكمة الاستئناف صبيح قناة أوغلو دعوى قضائية لحل حزب ا لعدالة قبل الانتخابات بأيام. غير أن المحكمة الدستورية قررت تأجيل البث فيها إلى ما بعد الانتخابات.

سابعا: هيمنة الأزمة الاقتصادية على الحملة الانتخابية، ومن ثم أصبح من السهل شن هجوم على الحكومة وأحزابها الائتلافية الثلاثة.

ثامنا: تحذيرات قادة الجيش الضمنية من صعود حزب العدالة وفوزه في الانتخابات، لكن المؤسسة العسكرية أكدت ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها، وهو نفس موقف رجال الأعمال الذين خشوا من التأثيرات السلبية لتأجيلها على أوضاع البلاد الاقتصادية.

في ظل ذلك يظل السؤال الرئيس هو: كيف حقق حزب العدالة والتنمية انتصاره الانتخابي الكبير؟ ربما كانت القراءة الأكثر رواجا في تركيا لما وراء انتصار حزب العدالة والتنمية في انتخابات 3 نوفمبر هي أن ما حدث كان بمثابة تعبير عن سخط جماهير الأحزاب التقليدية التي احتكرت السلطة وموقع الصدارة في الحياة السياسية لعشرات السنين، وهذا صحيح بشكل جزئي، لكن الرأي الذي يبدو مرجحا أكثر هو أنه بالإضافة إلى العامل السابق، فإن حزب العدالة نجح في إقناع الجماهير بصدق شعاراته وتوجهاته، ورغبته في التغيير الحقيقي، واجتهد وفق منهج واضح ودقيق لكسب أصوات الناخبين وقد نجح في ذلك.

والقراءة الأولى لنتائج تلك الانتخابات عبر عنها الكاتب فروح ديميرمان بقوله:"الانتخابات لم تسجل أقل من ثورة صامتة من جانب الناخبين الذين يرزحون تحت صعوبات اقتصادية ناجمة عن أزمتين في العامين الأخيرين، حيث أطاحوا بأحزاب الائتلاف الحاكم الثلاثة: اليسار الديمقراطي والوطن الأم والحركة القومية، التي اعتبروها مسئولة عن المحنة الاقتصادية" أما الكاتب يوكسال سويلماز فيري أنه: " بالإضافة إلى الاحتجاج الهائل على الأحزاب الحاكمة فإن اختيار الناخب كان وراءه شخصية "رجب طيب أردوغان" الوسيم الطويل الذي لم يجرب من قبل كزعيم للبلاد، وهو الذي ينحدر من أصول متواضعة. إنه شاب نشط (48 عاما آنذاك)... ووجه جديد في الساحة السياسية، صورته الجماهيرية تقول إنه واحد منا.. مخلص.. ذو روحية، له كاريزما، مدافع عن الثقافة والقيم التقليدية". وردا على سؤال حول ما إذا كانت الجذور الإسلامية وراء النجاح الكبير لحزب العدالة في الانتخابات، يقول سويلماز: "الإجابة نعم ولا في نفس الوقت، فالإحساس بالإسلام جزء من الثقافة التركية، والأتراك مسلمون، لكنهم مختلفون في درجات تدينهم . وعلى الرغم من أن الكثيرين منهم يخافون الله، لكن لا يمارسون شعائر الدين بشكل يومي، حيث المسلمون المخلصون ليسوا أغلبية في تركيا (أشارت استطلاعات للرأي إلى عكس ذلك، حيث كشفت عن أن 65% من الأتراك مسلمون مخلصون)، لكن الأحزاب السياسية – بدرجات متفاوتة- حاولت استغلال الحساسيات الإسلامية للأتراك، وحزب العدالة ليس حزبا إسلاميا رسميا، بل إن اسمه علماني، غير أن سمعته كحزب ذي جذور إسلامية اعتبرت ميزة في صورته العامة، مما ساعده في الانتصار الانتخابي. من جانب آخر إذا كان عامل الإسلام حاكما في اتخاذ القرار الانتخابي فلماذا فشل حزب السعادة الإسلامي بزعامة نجم الدين إربكان الذي تتلمذ أردوغان على يديه.. من المؤكد أن حزب العدالة قد طور شكلا أكثر تمدنا واعتدالا من الإسلام".

أيا كان الأمر فإنه لا يمكن إغفال حالة السخط العام على الحكومة وأحزابها الثلاثة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والفساد السياسي والإداري الذي طال رموزا كبيرة مثل مسعود يلماظ زعيم حزب الوطن الأم، وتانسو تشللر زعيمة حزب الطريق القويم، بالإضافة إلى شيوعه في أوساط موظفي الدولة. وعلى سبيل المثال فقد أشارت تقارير المنظمات غير حكومية إلى أن رجل شرطة- من بين كل ثلاثة- في إسطنبول فاسد وملوث بممارسات غير شرعية. وتجدر الإشارة إلى أن حزب العدالة والتنمية ركز أيضا في حملته الانتخابية على محاربة الفساد، بالإضافة إلى تحقيق العدالة بين الأتراك. وقد طرح مؤسسو الحزب أنفسهم كإصلاحيين مستنيرين مؤمنين بالديمقراطية والعلمانية، لكنهم رفضوا تجريد تركيا من هويتها الإسلامية، ودعوا إلى احترام الدين الذي فشلت العلمانية المتشددة في اقتلاعه من نفوس الأتراك، أو حتى في تهميشه على مدار ما يقرب من ثمانين عاما. وقد نجح الحزب في استقطاب سياسيين غير ملطخين بالفساد، ومعظمهم من أحزاب يمين الوسط.

ومن عوامل نجاح حزب العدالة أيضا صموده وزعيمه أردوغان أمام أمواج الاتهامات الدعائية والملاحقات القضائية بما عكس قوة تكوين هذا الحزب الذي طرح نفسه كحزب وسط، وتجنب استدراجه من جانب بعض خصومه إلى معارك جانبية حول الحجاب ومد ى تمسكه بالمبادئ الإسلامية. وقد بدا أن الحزب أكثر التحاما بالجماهير، وذهب أردوغان ومرشحو الحزب إلى القرى والعشوائيات، واختلطوا بساكنيها، واستمعوا إليهم، متجنبين الضجيج الإعلامي في أنقرة وإسطنبول وحملات إعلامية شعواء ضدهم من جانب خصومهم. كما نجح الحزب في طمأنة رجال الأعمال والعمال معا إلى توجهاته الاقتصادية، فضلا عن تأكيده تمسكه بالمواقف القومية لتركيا تجاه المشكلة القبرصية والتمرد الكردي، وأعلن أن انضمام تركيا للاتحاد الأوربي يمثل أحد أهم أولوياته. كما نجح أردوغان وبقية قادة الحزب في نقل صورة إيجابية للحزب إلى الغرب. وتكتمل الصورة بعدم ترك قادة الحزب- وعلى رأسهم أردوغان- أية فرصة لإظهار وتأكيد الولاء للنظام العلماني ولأبي الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك ليغلق بذلك الباب أمام المتربصين بالحزب.

ويمكن القول: إن نتيجة الانتخابات هي بمثابة "انقلاب أبيض" على العلمانية المتشددة ومستغليها من رموز النخبة الفاسدة، لكن ليست انقلابا على النظام العلماني في المطلق، وربما يكون التعبير المناسب أنها "ثورة إصلاحيات" للنظام تستهدف تخليصه من التطرف الذي يقود لإلغاء الآخر. لكن من الجانب الآخر هي اعتراف بفشل التيار الإسلامي التقليدي في الانتصار على العلمانية والحكم باسم الدين. وثمة من يرى أن نجاح حزب العدالة والتنمية هو محصلة فشل تياري العلمانية المتطرفة والإسلام السياسي اللذين طالما قاد الصراع بينهما إلى حالة من تمزق الهوية في نفوس الأتراك، لكن هذه المسألة تظل نظرية بحتة، ومن الصعب الحكم عليها بدقة حاليا.

ولقد شملت الحملة الانتخابية صراعا بين خمسة تيارات هي: التيار القومي، والتيار اليساري، والتيار الإسلامي، وتيار يمين الوسط، وأخيرا حزب العدالة والتنمية الذي لا يصنف نفسه في إطار التيارات السابقة، ويقول إنه حزب وسط. ووفقا لنتائج الانتخابات، فإن التيار القومي على الرغم من فشل كافة أحزابه في دخول البرلمان حقق صعودا واضحا بحصول الأحزاب الكبرى الثلاثة التي تمثله- وهي الحركة القومية، وحزب الشباب، وحزب ديمقراطية الشعب (دهب) الذي ورث حزب الشعب الديمقراطي (هدب) المعبر عن الأكراد، على 30% من أصوات الناخبين مقارنة بحوالي 20% في انتخابات عام 1999. صحيح أن كلا منهما حقق فشلا منفصلا، لكن في المجمل تعكس النتائج أن هذا التيار بشقيه التركي والكردي قوي، بغض النظر عن فشل أي من أحزابه في الحصول على نسبة الـ 10% من أصوات الناخبين اللازمة لنيل التمثيل في البرلمان.

وفي هذا الإطار نشير غلى أن حزب "الشباب" الجديد بزعامة الملياردير جيم أوزان – الذي زايد على حزب الحركة القومية بزعامة دولت بهشلي- التهم جزءا من شعبيته بشعاراته البراقة حول تركيا القومية الساطعة المتفوقة، فعلى الرغم من أن عمره لم يتعد شهورا فقد استطاع الحصول على 7,25% من أصوات الناخبين مقابل 8,34% لحزب الحركة القومية الذي تم تأسيسه في عام 1969. أما حزب "دهب" الكردي فقد حصد 6,22% من أصوات الناخبين مقابل 4,7% في الانتخابات السابقة لحزب ديمقراطية الشعب (هدب) الذي ورثه في إطار محاولة للهروب من محاولة قضائية لإغلاق (هدب) قبل المشاركة في الانتخابات.

ومن المفارقات الغربية أن نسبة الـ 10% التي أصبحت عقبة أمام دخول هذا التيار –بشقيه التركي والكردي- البرلمان، وضعت لإبعاد الأكراد عن المجلس النيابي كما يرى بعض المراقبين. وفي كل الأحوال، فإن هذه النسبة أصبحت حبلا التف على رقبة صانعيه، ليس فقط من القوميين، ولكن من أحزاب تياري اليسار ويمين الوسط أيضا. والغريب أن أغلب الأحزاب الكبرى التي منيت بالفشل في الانتخابات طوقت مبادرة أطلقها حزب تركيا الجديدة بزعامة إسماعيل جيم لتقليل "النسبة العقبة" إلى 5% وبدا كل حزب منها كأنه يستكثر على نفسه أن يظهر ما يشير إلى ضعفه، علما بأن هذه النسبة كبيرة للغاية بالنظر إلى نظم ديمقراطية أخرى تضع حواجز لدخول برلماناتها لتجنب التشرذم والتفتت في مجمل الساحة السياسية.

وتجدر الإشارة إلى أن أوزان الذي أفل نجمه فيما بعد قد نجح في طرح خطاب جذب إليه قطاعات من الشباب الطامح إلى النجاح والحياة الكريمة تحت راية تركيا المتفوقة التي تعطي ظهرها لأوربا. ويرجع النجاح الذي حققه إلى تركيزه على الاقتصاد أكثر من السياسية والنعرة القومية المباشرة التي عكسها حزب الحركة القومية في خطابه السياسي خلال الحملة الانتخابية، ومن هنا يمكن القول إن فشل أوزان في تخطي حاجز الـ 10 في المائة بالنظر إلى كونه حزبا جديدا يعد نجاحا بمعايير "بكارة" الممارسة السياسية، بغض النظر عما يراه بعض المحللين من زيف كثير من شعاراته، والأطروحات المبينة على مغالطات فيما يتصل بالخلاص من الأزمة الاقتصادية التي كانت وقتها تهدد مستقبل تركيا، وتمسك بخناق حاضرها. أما ما حدث لبهشلي مع حزبه "الحركة القومية" فهو نوع من الفشل القاتل الذي لا يعالج، ومن هنا كانت مبادرته إلى التنحي عن رئاسة الحزب قبل إعلان النتائج النهائية للانتخابات محل تقدير لدى ناخبيه الذين حاولوا إثناءه عن الاستقالة بمظاهرات أمام مقر حزبه، لكنه رأى أن حجم الفاجعة لا يحتمل الكذب والتجمل على غرار ما يحدث في بعض بلدان العالم الثالث من الهتاف للمهزومين، وتمجيد الفاشلين بتبريرات الهزيمة بشرف وغيرها من شعارات فجة. ويكفي أن بهشلي رأى أمام عينيه حجم تآكل شعبية حزبه بالأرقام من 18% من أصوات الناخبين في انتخابات عام 1999 إلى 8,34% في 2001 أي أن الحزب فقد أكثر من نصف قاعدة ناخبيه، مما حرمه من دخول البرلمان، في حين أجرين الانتخابات وهو الحزب الأول من حيث عدد النواب، إذ كان يمثله 125 نائبا بفارق 41 نائبا عن الحزب الذي يليه وهو حزب "الطريق القويم" بزعامة تانسو تشيللر، غير أنه من المدهش أن قيادات الحزب أجبرت بهشلي على العودة لرئاسته فيما بعد في ظل غياب شخصية تجمع أعضاءه حولها.

وفيما يتصل بالتيار الإسلامي الذي عبر عنه حزب السعادة الوريث الشرعي لحزب الفضيلة المنحل، فقد مني بهزيمة تاريخية، فبعد أن حصد 15,4% عام 1999 لم ينل سوى 2,48% من أصوات الناخبين في انتخابات 3 نوفمبر، رغم أن أبا هذا التيار في تركيا- رئيس الوزراء الأسبق نجم الدين إربكان – قطع معظم أقاليم البلاد جيئة وذهابا للترويج له، وتحدى الحظر السياسي المفروض عليه ليخطب مناديا بانتخاب مرشحي حزب السعادة. ووصل الأمر إلى حد إطلاق فتاوى قيل إنها شرعية بتصويت الأتراك لصالح حزب السعادة، واستخدم إربكان وزعماء حزب السعادة – وعلى رأسهم رفيق دربه رجائي قوطان – ترسانة من الشعارات الدينية، وانضموا إلى قائمة مهاجمي حزب العدالة وزعيمه رجب طيب أردوغان تلميذ إربكان الذي نبذه وتجنب الوقوع في نفس المصيدة التي سقط فيها أستاذه.

وعند التطرق إلى ما حققه التيار اليساري من نتائج، فنشير أولا إلى أن الحزب الشيوعي الذي خاض الانتخابات لأول مرة، وراهن بعض المحللين على أنه قد يصبح الحصان الأسود في الانتخابات، قد حقق نتيجة متدينة، ولم تنقذه من الموت السياسي الشعارات التي صكت من الغضب تجاه الوضع الاقتصادي المتأزم في البلاد، أو لرفضه الهيمنة الأمريكية على العالم، رغم أن غالبية الأتراك ساخطون في الحالتين. ويكفي أنه لم يحصل إلا على 0,191% فقط من أصوات الناخبين، وتذيل قائمة الأحزاب الثمانية عشرة المشاركة في الانتخابات. والخلاصة أن النتائج تؤكد عمق أزمة الأحزاب الشيوعية في أغلب بلدان العالم، وتبدو أكثر عمقا في الدول التي يمثل المسلمون أغلبية سكانها مثل تركيا.

وعكست النتائج أيضا انخفاض شعبية أحزاب يسار الوسط بالقياس للانتخابات السابقة، على الرغم من تمكن حزب الشعب الجمهوري بزعامة دينيز بابكال الذي ينتمي لهذا التيار من دخول البرلمان، ومضاعفة غلته من أصوات الناخبين تقريبا بحصوله على 19,39% مقابل 8,7% في انتخابات عام 1999 إلا أن مجمل شعبية تيار يسار الوسط تآكلت بشكل كبير حيث بلغت 21,6% من الأصوات مقابل حوالي 30% في ا لانتخابات السابقة. ولعل حزبي اليسار الديمقراطي بزعامة رئيس الوزراء بولنت أجاويد، وتركيا الجديدة بزعامة تلميذه إسماعيل جيم قد تعرضا لهزيمة مذلة. ويكفي أن أجاويد الذي لقب رجل تركيا المريض بجدارة أودى بحزبه في هاوية سحيقة حيث انهارت شعبيته من 22,2% عام 1999 إلى حوالي 1,2% أي إلى أقل من 10% مما حققه سابقا، وهنا لابد من التساؤل : كيف يمكن أن يفقد حزب 90% من شعبيته خلال 3 سنوات فقط، لولا أنه أصيب بما يشبه العمى الكامل على الساحة السياسية وارتكب أخطاء قاتلة؟ قد يقول البعض إن أجاويد سبق أن حذر من إجراء انتخابات مبكرة ستقود إلى كارثة بالنسبة لأحزاب الائتلاف الحاكم الثلاثة (اليسار الديمقراطي إضافة إلى حزبي الحركة القومية، والوطن الأم) غير أن إجراء الانتخابات في موعدها المقرر سابقا وهو عام 2004 لا يعني أنه كان سينقذ حزبه من تجرع هذه الهزيمة وهو في خريف عمره، وله تاريخ حافل في الحياة السياسية لا يخلو من مواقف ساطعة، ويحوز بسببها تقدير قطاعات من أبناء الشعب التركي. وهنا نتوقف أمام إصرار أجاويد على الاحتفاظ بقيادة الحزب والحكومة رغم مرضه، والدور الذي لعبته زوجته "رهشان هانم" التي وصفت بأنها رجل تركيا القوي في تسيير أمور البلاد والعباد. ويكفي أن أجاويد تجاهل استطلاعات الرأي، وتخيل أنه بإمكان سحر الرأي العام بالحديث عن المؤامرة التي تعرض لها حزبه من جانب الثلاثي الذي شارك في تمرد يوليو ضده، وهو وزير الخارجية الأسبق إسماعيل جيم، وحسان الدين أوزكان نائب رئيس الحزب السابق، وكمال درويش وزير الاقتصاد السابق، عندما تعرض الحزب إلى الانشطار ، وانضم نصف عدد نوابه في البرلمان إلى حزب "تركيا الجديدة" الذي شكله جيم.

وهنا نشير إلى الفشل الآخر الخطير لجيم الذي دفع ثمن تخلي درويش عنه، والقراءة غير الصحيحة للساحة السياسية، فلم يكن مقنعا في طرحه بشأن تركيا الجديدة التي يريدها فكانت كارثة حصول الحزب على 1,1% من الأصوات. كما أن كونه وزيرا في الحكومة المغضوب عليها صنفه بين القدماء وليس الجدد. وهكذا شارك جيم بحساباته الخاطئة وأجاويد بتعاميه عن الحقائق فيما حدث لتيار اليسار من تراجع. ولا نظن أنه لو تمكن كمال درويش من توحيد أحزاب تيار يسار الوسط تحت راية حزب بايكال لكان بإمكان هذه الأحزاب تحقيق نتائج أفضل، وربما يكون السبب درويش نفسه الذي تحول في نهاية الحملة الانتخابية من رمز لانتعاش الاقتصاد التركي أو إنقاذه إلى أحد عوامل الأزمة بسياسات صندوق النقد الدولي التي أشرف على تنفيذها، وأدت إلى تزايد البطالة، وكرست النفوذ الأمريكي أكثر، بما وصف بأنه قد يقيد حركة تركيا في سياستها الخارجية ويدفعها إلى مواقف لا تريدها في محيطها الإقليمي.

وبالنسبة لتيار يمين الوسط الذي يمثله حزبا الطريق القويم، والوطن الأم، فنتائجه ليست أقل سوءا، ففي الانتخابات السابقة حصل على حوالي 26% من الأصوات مقابل 14,6% في هذه الانتخابات. وهنا نشير إلى هيمنة هذين الحزبين على الحياة السياسية في البلاد منذ تأسيسهما عام 1983، ولقد كان لابد من اختفاء زعيمي الحزبين مسعود يلماظ وتانسو تشيللر الملطخة سيرتاهما بالفضائح والفساد منذ فترة طويلة، لكنهما كابرا وناورا، ولم ينقذهما تصعيد الهجوم على حزب العدالة والتنمية بدعوى محاولة إنقاذ البلاد من التطرف الإسلامي والانقلاب على العلمانية.

وبعد إعلان الفوز الكبير لحزب العدالة والتنمية في انتخابات 3 نوفمبر بساعات، طالب أردوغان أعضاء الحزب وناخبيه بعدم المبالغة في الاحتفال بالانتصار، وأمر بفض احتفاليات صاخبة أمام مقار الحزب في أنقرة وإسطنبول. وكان أول تصريح له بعد ظهور النتيجة بشكل غير رسمي- واعتراف زعماء أحزاب الائتلاف الحاكم الثلاثة بالهزيمة- أن الحزب متمسك بالدستور الذي ينص على أن تركيا دولة ديمقراطية علمانية، وأن مهام كافة المؤسسات واضحة وفقا للدستور. وطمأن أردوغان المؤسسة العسكرية بقوله:" الجيش قرة أعيننا، ويجب ألا يتدخل أي طرف بيننا وبينه". ووصف أردوغان الحجاب بأنه مجرد غطاء للرأس وليس رمزا أيديولوجيا واستشهد بوجود محجبات بين أعضاء حزب الشعب الجمهوري المعارض. وحرص أردوغان على تأكيد التنسيق مع المعارضة البرلمانية المتمثلة في حزب الشعب الجمهوري، حيث التقى زعيم الحزب دينيز بايكال، وأكد أن الحكومة الجديدة ستنسق مع حزب الشعب الجمهوري في الدورة البرلمانية المقبلة. كما أكد أن الحكومة الجديدة لن تدعم توجيه ضربات عسكرية للعراق ما لم يكن هناك تفويض من الأمم المتحدة بذلك، وأكد الحزب بوضوح أن مشروعه الأساسي هو الحلم الأوربي لتركيا.

وفي اليوم التالي أكد أردوغان أن تركيز الحكومة الجديدة سينصب على حل كافة المشكلات الاقتصادية، ومكافحة الفساد الإداري، وأنه سيتم حل مشكلة الحجاب المتمثلة في حظر دخول الطالبات المحجبات الجامعات، ومنع عمل المحجبات في الوظائف الحكومية، وذلك في إطار ما أسماه بـ "توافق وطني".. وأظهر أردوغان قربه من الشعب في يوم 6/ 11/ 2002 بذهابه إلى منطقة "مامك" العشوائية، واختياره أسرة فقيرة بشكل عشوائي لتناول طعام الإفطار الرمضاني معها. وبعد أسبوع من إجراء الانتخابات- وبالتحديد يوم 10 نوفمبر- زار أردوغان وبرفقته قيادات الحزب ضريح الزعيم مصطفى كمال أتاتورك ، وأصدر الحزب بيانا أكد فيه تمسكه بمبادئ أتاتورك العلمانية، وأشاد بدوره في بناء تركيا الحديثة. وقبل تشكيل الحكومة بدأ الحديث عن اتجاه حزب العدالة والتنمية لتعديل الدستور لتمكين أردوغان من تولي منصب رئيس الوزراء الذي حرم منه، نظرا لأنه ليس عضوا بالبرلمان، وبدأت التكهنات حول رئيس الوزراء المقبل، وأخذ عبد الله جول النائب الأول لأردوغان في رئاسة الحزب في الظهور إعلاميا شيئا فشيئا. وعلى الصعيد الخارجي أبدت الولايات المتحدة دعمها لحزب العدالة بشكل واضح وصريح، حيث صرح السفير الأمريكي يفي أنقرة روبرت بيرسون بأن إدارة الرئيس جورج بوش تتطلع إلى العمل البناء مع الحكومة التي سيشكلها حزب العدالة في سعيها إلى تحقيق جدول أعمال إصلاحاتها الطموح. واعتبر بيرسون أن فوز الحزب جاء نتيجة لتصويت الناخبين لصالح التغيير، وإعطاء الفرصة لقيادة جديدة للحكم في إطار علماني ديمقراطي دستوري ومجهود أقوى لمكافحة الفساد. ووعد بيرسون بتوفير "شبكة أمان أمريكية" للاقتصاد التركي بحيث يعود إلى عهد الرخاء.

وفي 16 نوفمبر تم تكليف عبد الله جول بتشكيل الحكومة الجديدة. وقد تم ذلك التكليف ضمن السياق الدستوري والواقعي التالي: فنظرا لأن أردوغان زعيم الحزب ليس عضوا في البرلمان كان عليه أن يطرح على الرئيس أحمد نجدت سيزار مرشحا لتولي منصب رئيس الوزراء، وحتى يتجنب أزمة في حالة رفض مرشحه من جانب الرئيس، عرض أردوغان على سيزار ثلاثة أسماء هم: عبد الله جول، ووجدي جونول، القاضي السابق والمعروف بميوله العلمانية، وعبد القادر أكسو وزير الداخلية الأسبق في عهد حكومتي مسعود يلماظ ونجم الدين إربكان. ورغم أن الترجيحات كانت تميل لجونول الذي يرتبط بعلاقة زمالة دراسة مع الرئيس، والوحيد من بين المرشحين الثلاثة الذي لا ترتدي زوجته الحجاب، فإن سيزار اختار جول لأسباب لم يكشف عنها، وإن كان من المعتقد أنه رأى أن الرجل هو الأكثر كفاءة بين المرشحين الثلاثة ، خاصة أنه خبير بالشأن الاقتصادي.

وفي اليوم التالي لتكليفه بتشكيل الحكومة حدد جول أولويات حكومته في الآتي:

1- رفع معايير الديمقراطية في البلاد.
2- الوصول باقتصاد تركيا إلى مستوى الدول الغنية.
3- إعادة توزيع موارد البلاد بشكل عادل على الشعب بما يذيب الفوارق بين الأغنياء والفقراء.

وأعلن جول أن الحكومة الجديدة ستذهل القادة الأوربيين باتخاذ خطوات جادة تبرز للعالم أن تركيا دولة مسلمة ديمقراطية معاصرة، بحيث تكون نموذجا لبقية الدول الإسلامية تأخذ طريقها نحو العضوية الكاملة للاتحاد الأوربي.

الفصل الرابع

أردوغان من قاسم باشا إلى رئاسة الوزراء

من المؤكد أن رجب طيب أردوغان المولود في عام 1954 هو الشخص المحوري في حزب العدالة والتنمية الحاكم، وهو في ذلك مثله مثل كافة زعماء الأحزاب في تركيا منذ تأسيس النظام الحزبي في البلاد خلال حقبة العشرينيات من القرن الماضي، حيث رئاسة الأحزاب تعبير جلي عن حالة رعوية بطريركية أبوية، ويختصر الكثير من الأتراك الأحزاب في أسماء زعمائها فيقال مثلا عن حزب الطريق القويم حزب محمد أغار، وعن حزب الحركة القومية حزب دولت بهشلي، وهكذا، غير أنه من الملفت أن حزب العدالة والتنمية لا يوصف بأنه حزب أردوغان، والخروج عن القاعدة ليس بسبب دور أردوغان، ولكن لأن الرجل قوي، والحزب أيضا، وهذا هو الفارق الأساسي مع الأحزاب الأخرى.

والملفت للانتباه أن شخصية أردوغان التي تتسم بالكاريزمية لم تلغ هياكل الحزب كما حدث ويحدث مع أحزاب أخرى، غير أنه لا يمكن إنكار هيمنة الرجل على عملية صنع القرار وتشكيل هيئات الحزب، وهو رجل يتسم بالعناد، ولا يغفر لمن يتحداه، لكن هناك فرق بين الإلغاء والإضعاف، كما أن أردوغان يمارس لعبة الترغيب والترضية أولا، ويتجنب الصدام من يتمردون على هيمنته ما استطاع قبل أن يجد نفسه مضطرا لمواجهة لابد من حسمها بكل الوسائل لصالحه.

وقد أبلغني أكثر من قيادي بارز في حزب العدالة والتنمية أن كل الأعضاء فيه يدركون أن الحزب قائم على شخصيته الكاريزمية الشعبوية القريبة للغاية من الجماهير، والتي تعتمد على مزيج من المهارة والفطرة، فهو قد يذهب لحضور جنازة قروي فقير في قرية نائية ويواسي أهله في مصابهم، مما يخلق شعورا بالفخر والإجلال لدى سكان القرية، وربما القرى المجاورة، ومنذ أن تولى رئاسة الوزراء في مارس عام 2003 وهو يحرص على الإفطار بعض أيام شهر رمضان المعظم مع أسر فقيرة بصحبة زوجته أمينة التي لها حضور وقبول واضحان في الأوساط النسائية والاجتماعية، وهو يأكل من طعام الفقراء في هذه الحالات، ويقترب بحميميته من البسطاء.

وربما يعود قبول الفقراء والبسطاء لهذه الأعمال التي ق تأخذ طابعا إعلاميا استعراضيا أحيانا، حيث يتهمه خصومه السياسيون بأنه ممثل بارع، إلى كونه بسيطا وابنا لأسرة فقيرة في أعماقه، وهو يفتخر بذلك حيث كان ولده يعمل في خفر السواحل في مدينة ريزا الواقعة على ساحل البحر الأسود في شمال شرق تركيا، وعندما كان عمره 13 عاما نزح والده مع أسرته إلى اسطنبول بحثا عن فرصة عمل أفضل لمستقبل أبنائه الخمسة، وبينهم رجب طيب، واسمه مركب مثل معظم الأتراك وقد اضطر رجب طيب وهو في ريعان صباه أن يبيع السميط وزجاجات المياه الغازية والبطيخ، وهو لا يفتأ يذكر ذلك، وقد أكده بوضوح في مناظرة مع دينيز بايكال زعيم حزب الشعب الجمهوري الذي يعطي انطباعا والنسب الارستقراطي في مواجهة بساطة أردوغان عشية إجراء انتخابات نوفمبر 2002.

وقد التحق أردوغان بإحدى مدارس الأئمة والخطباء في اسطنبول بعد استقرار أسرته في حي قاسم باشا الفقير في الشطر الأوربي من المدينة التي تكاد تختصر ملامح تركيا في أزقتها وساحاتها وبيوتها وشخصوها، وخلال دراسته في مدرسة الأئمة والخطباء بدأ يتقن لعب كرة القدم بمهارة في الشوارع والنادي الصغير البائس الذي يضمه الحي، حيث كان يلعب في مركز الليبر أو الظهير الحر، واشتهر بين أقرانه ب، "الشيخ بيكنياور" لأنه كان يشبه نجم منتخب ألمانيا الغربية سابقا فرانز بيكنباور في أسلوب اللعب وطوله الفارع، ولا يزال الرجل يذكر رفض والده انضمامه إلى نادي فندر بخشة أحد أكبر وأعرق الأندية التركية، خشية أن تفسده الكرة وتحرمه من إكمال تعليمه، وحتى الآن لا يخفي أردوغان عشقه للكرة ولفنار بخشة تحديدا، لكنه يحرص على مجاملة الأندية المنافسة في بلد يتنفس الكرة، وعدد من لا يحبونها يعد قليلا للغاية بالقياس لدول أخرى كثيرة، والمثير أن الساسة- بل والعسكر- في تركيا يفصحون عن ميولهم فيما يتصل بالأندية التي يشجعونها.

وفي شهر مايو 2006 شارك أردوغان في مباراة للكرة بين زعماء أوربا وأمريكا اللاتينية أقيمت في فيينا بمناسبة تسلم فنلندا رئاسة الاتحاد الأوربي من النمسا، وقد أعجب الأتراك برئيس وزرائهم وهو يلعب المباراة بلباقة جيدة ويسجل هدفا لصالح الفريق الأوربي، وفي كل الأحوال فقد قربه حب الكرة من الجماهير، وعمق معنى البساطة في صورته الذهنية.

ورغم معاناة أسرته ماديا فقد حصل أردوغان على شهادة جامعية من كلية التجارة والاقتصاد في جامعة مرمرة بإسطنبول، وقد بدا وعيه السياسي يتشكل وهو طالب جامعي، حيث عرف بميوله الإسلامية، وقد انضم لحزب السلامة الوطني الذي أسسه أبو الأحزاب الإسلامية في تركيا نجم الدين إربكان في سبعينيات القرن الماضي، ثم التحق بحزب الرفاة الذي شكله إربكان أيضا في حقبة الثمانينيات ، وفي عام 1985 أصبح أردوغان رئيس فرع الحزب في إسطنبول في وقت بدأت تتسع شعبية هذا الحزب، وواصل أردوغان نشاطه السياسي من خلال الرفاة على مدار ما يقرب من عشر سنوات حتى تم انتخابه رئيسا لبلدية اسطنبول إثر فوز كبير له وللحزب في الانتخابات المحلية عام 1994، وذاعت شهرة أردوغان كرئيس بلدية ناجح على مدى 4 سنوات، حيث انتشل المدينة من الإفلاس، وحل الكثير من مشكلاتها مثل: انقطاع الكهرباء، والمياه، وتفشي القذارة، كما تحولت المدينة في عهده إلى ما يشبه الواحة الخضراء بسبب مشاريع التشجير الكبيرة التي نفذها في أنحائها.

ونجح أردوغان خلال فترة توليه رئاسة البلدية في تعميق صورته كنصير للفقراء والمحتاجين، حيث وفر لهم الكثير من المساعدات العينية والمادية، وقد حرص في الوقت نفسه على إبراز شخصيته كرجل متدين بشكل عميق يحرص على الصلاة من أوقاتها، ويستشهد بالقرآن والأحاديث في خطبه وكلماته، كما أبقى على مسكنه المتواضع في قاسم باشا، ورفض أن ينتقل لآخر يليق برئيس بلدية مدينة ضخمة مثل اسطنبول.

وفي عام 1998 الذي شهد الانقلاب الأبيض من الجيش على حزب الرفاة الإسلامي وزعميه وإربكان الملقب بـ "الخوجة" أو الأستاذ، صدر حكم بسجن أردوغان بالسجن عشرة أشهر بتهمة التحريض على الكراهية الدينية وإثارة الفتنة، بعد أن ألقى خطبة نارية في مدينة سيرت ردد فيها أبياتا لشاعر تركيا الإسلامي محمد عاكف حيث يقول:" المساجد ثكناتنا والقباب خوذاتنا والمآذن حرابنا والمؤمنون جنودنا" وقد أطلق سراحه بعد 4 أشهر فقط لحسن السير والسلوك، وقد استفاد أردوغان من هذه الواقعة بإظهار نفسه كمظلوم حوكم لأسباب سياسية، ورغم أن الحكم تحول إلى أداة من جانب العلمانيين المتشددين لإعاقة مواصلته للعمل السياسي فإنه استطاع ببراعة هائلة أن يتجنبه. وعندما تم تأسيس حزب الفضيلة على أنقاض الرفاة الذي صدر حكم قضائي بحله، قاد أردوغان ومعه عبد الله جول الجناح الإصلاحي من الفضيلة الذي أصبح نواة لحزب العدالة والتنمية كما أسلفنا. ومع تشكيل هذا الحزب ازدادت شعبية أردوغان الذي يتسم بقدرات خطابية كبيرة، ويعرف كيف ينتقي الكلمات التي تمس المشاعر، وتدغدغ الهوية الإسلامية التي طالما عانت من الاضطهاد في نفوس الأتراك، كما أظهر ميلا لنصرة المظلومين، والتعاطف الشديد مع المرضى والمعوقين منذ أن كان رئيسا للبلدية، وهو ذو نشاط ومجهود هائل يصيب من حوله بالإرهاق.

ويذكر لأردوغان كفاحه من أجل الوصول إلى مقعد رئيس الوزراء متخطيا عقبات قانونية وسياسية كبيرة، ولولا نجاح حزبه الكبير في الانتخابات لما تمكن من تغيير القوانين التي كانت قد حظرت عليه ممارسة السياسة، والتي منعته بالفعل من ترشيح نفسه في انتخابات نوفمبر 2002، وبالتالي عدم توليه منصب رئيس الوزراء بعد هذا الفوز مباشرة، حيث تم تكليف نائبه في رئاسة الحزب عبد الله جول الذي يتسم بالعقلانية والميل للهدوء بتولي المنصب، حيث وصل أردوغان إلى البرلمان إثر الانتخابات التكميلية في دائرة سيرت جنوب شرق البلاد في مارس عام 2003، ومن ثم حصل على منصب رئيس الوزراء بعد تنحي جول عنه.

ولا يكاد يمر يوم دون أن يؤكد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه ابن الشعب والجماهير العريضة، وليس النخبة السياسية ذات الأبراج العاجية التي تهتم بالتنظير والجدل الذي لا يفهمه العوام، وقد اقترب أكثر من هذه الجماهير ببدء استقبال رئاسة الوزراء لشكاوي واقتراحات الأتراك عبر الخط الهاتفي المجاني الساخن رقم 150 في عام 2006 حيث تم تخصيص مكتب يعمل فيه العديد من الموظفين للرد على مكالمات أصحاب المشكلات، وكتابة تقارير وافية عن كل مشكلة، ورفعها للمسئولين المختصين ، على أن يتم الرد عبر موقع أنشئ خصيصا على شبكة الإنترنيت للرد غلى كل شكوى تفصيليا خلال أقصر مدة ممكنة، وحتى المشكلات ذات الطابع المحلي للغاية تحال إلى من بإمكانه حلها حتى لو كان "مختارا" في قرية جبلية نائية.

ولكي يتحقق النجاح لهذه التجربة التي تعد الأولى من نوعها في تركيا يتم تسجيل كافة المكالمات التي ترد لرئاسة الوزراء لتقويم أداء الموظفين الذين يستقبلون المكالمات الهاتفية، ومدى دقتهم في كتابة المشكلات والشكاوى وفهم أبعادها، وكذلك قدرتهم على تحمل الأسلوب الجاف، وربما العنيف من جانب بعض المواطنين الغاضبين، وقد أعلنت رئاسة الوزراء أنها ستتقبل أي نوع من الشكاوى حتى لو كانت ضد أردوغان نفسه، ورحبت بشكل خاص بالشكاوى الخاصة بانتهاكات حقوق الإنسان نظرا لخشية البعض من عواقب هذه الشكاوى إذا كشفوا عن مرتكبيها من أجهزة الأمن والشرطة بما لهم من سلطات ونفوذ في بلد توصف فيه هذه الأجهزة بأنها "الدولة العميقة" الأقوى من الدولة الحقيقية، وبأنها فوق القانون.

ومن المعروف أن أردوغان هو أكثر رؤساء الوزراء في تاريخ تركيا تنقلا بين محافظات البلاد، حيث يحرص على مقابلة العوام والاستماع لآرائهم وهمومهم ومشاكلهم دون حواجز المنصب أو فواصل الهواجس الأمنية.

وتشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم يحافظ على شعبيته بسبب وجود أردوغان على رأسه، وفي أحد هذه الاستطلاعات تبين أن 39 في المائة من أنصار الحزب يؤيدونه بسبب رئاسة أردوغان له، ولعل الرجل هو المزية الرئيسة للحزب في مواجهة أحزاب المعارضة التي ترأسها شخصيات باهتة مجهولة أو مستهلكة.

ولدى أردوغان قدرة كبيرة على تغيير مواقف بنسبة 180 درجة كاملة والدفاع عن هذه المواقف في الحالتين بشكل يدهش خصومه، حدث ذلك في قضية مشروع القانون الخاص بتجريم الزنا في عام 2005، عندما أصر على المضي قدما في إقرار المشروع من البرلمان رغم رفض الجيش والمعارضة والاتحاد الأوربي له، وعندما هدد الأخير بعدم منح موعد لبدء مفاوضات العضوية مع تركيا تراجع وسحب المشروع من البرلمان.

ولعل أبرز أخطاء أردوغان ميله إلى الهيمنة الفردية على الحزب والإمساك بكل خيوط السلطة الحزبية في يديه وهو أمر عبر عنه بعض النواب المستقيلين من الحزب في عام 2005 حيث شكوا من أنهم لم تتح لهم الفرصة للتعبير عن آرائهم بشأن الكثير من قرارات الحكومة، بل إن أحدهم قال: إنه لم يسمح له حتى بمقابلة أردوغان للحديث في شئون امة.

وفي أزمة مشروع تجريم الزنا التي نشبت في عام 2005 مع الاتحاد الأوربي، ألغى أردوغان اتفاقا أبرمه نائبه في رئاسة الحكومة والحزب عبد الله جول الذي يشغل أيضا منصب وزير الخارجية بايكال زعيم حزب الشعب الجمهوري- يقضي برفع البند الخاص بتجريم زنا الأزواج من مشروع قانون العقوبات الذي كان معروضا على البرلمان استجابة لمطالب الاتحاد الأوربي، وكان أردوغان وقتها موجودا خارج البلاد، وبعد أن عاد تراجع عن هذا الموقف، وقبل التخلي عن تجريم الزنا، ووقتها قيل: إن أردوغان غضب لأن جول لم يعد إليه في قراره الخاص بالاتفاق مع حزب الشعب الجمهوري رغم أنه تبنى نفس موقف جول فيما بعد.

وقبل ذلك لا يمكن نسيان أن أردوغان قاد عملية تغيير لائحة الحزب الداخلية بعد شهرين ونصف الشهر فقط من الفوز في الانتخابات البرلمانية، حيث أعطى التغيير دورا كبيرا لرئيسه في عملية صنع القرار والاختيارات الخاصة بالمناصب المهمة في الحزب والحكومة، وتلي ذلك إلغاء دور أفرع الحزب المحلية في عملية صنع القرار، والنتيجة هي هيمنة الرجل الواحد على الحزب، وهو ما يعني أن الحزب أصبح مماثلا للأحزاب الأخرى فيما يتصل بهيمنة النظام الأبوي الذي قاد إلى أخطاء جسيمة في ممارساتها انطلاقا من نظرية "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة" كما أن هذا الوضع يعكس عدم خروج حزب العدالة والتنمية عن الثقافة السائدة في البلاد، رغم أنه نظر إليه على أنه انقلاب صريح ضدها.

أيضا يرى البعض أن أردوغان لم يكن حكيما في بعض تصرفاته التي أعطت إحساسا بالعظمة فيما وصف بأنه "أعراض سلطانية" مثل حفل الزفاف الأسطوري الذي أقامه لابنته عام 2005 وتكلف مليوني دولار في بلد حوالي ثلث سكانه تحت خط الفقر أو في حذاه، فضلا عن مسألة تلقيه وزوجته هدايا شخصية ثمينة لا تتسق مع المعايير الغربية.

يضاف إلى ذلك عدم تقبل أردوغان لنقد وسائل الإعلام، حيث رفع دعوي قضائية ضد رسامي كاريكاتير صوروه في إشكال اعتبرها إهانة له، مما أدخله في حرب مع زملائهم، ثمة من رآها غير مبررة، وأنه كان على الرجل أن يظهر تسامحا وتقبلا للنقد بدلا من إعطاء الإيحاء بأن ذاته مقدسة، وفي السياق ذاته أثارت حكومته غضب الصحفيين بتمرير مشروع قانون عقوبات الجرائم الصحفية رغم رفضهم له، واعتبار هذه العقوبات مغلظة وزائدة عن الحد، وقد اضطر في النهاية إلى اتخاذ قرار بإعادة النظر في المشروع بعدما أدرك خطورة جبهة عداء مع الصحفيين في بلد يلعب الإعلام دورا مؤثرا في صنع أحداثه.

ويمكن النظر إلى أردوغان على أنه جزء من تجربة فريدة لحزب معظم أعضائه وقادته إسلاميون، لكنه ليس حزبا دينيا، وهذه هي المعادلة الصعبة التي أثبتت الأحداث أنها من الممكن أن تكون واقعية، ومهما اختلفت التقويمات فإن حزب العدالة والتنمية لا يزال يقف على أرض صلبة، حتى مع ظهور أخطاء وسلبيات لا يوارها النجاح في إدارة شئون البلاد والعباد، ولأردوغان دور كبير في هذا الثبات والصلابة.

والمتأمل لسلوك أردوغان وأقواله في التعامل مع قضايا البلاد الداخلية والخارجية يستطيع أن يتبين بوضوح أن له منهجا في خوض معاركه السياسية يعتمد على عنصرين أساسيين : الأول القدرة على اختيار هذه المعارك وتوقيتها والطرف المعادي له فيها، بحيث لا يسمح بأن تفرض عليه معركة لا يريدها بحكم حسابات الانتصارات والهزيمة فيها، وهو قادر على استخدام سلاح التجاهل الرهيب لتجنب مثل هذه المعركة حتى لو أصر الطرف المناوئ على دفعه لخوضها بكل السبل الممكنة، وقد يعمد هو لخلق معركة أو قضية أخرى بحيث تغطى على ما يراد له الانخراط في مواجهته.

والعنصر الثاني المكمل لذلك هو قدرته على خلق صورة إعلاميه إيجابية ومن قبلها صورة ذهنية مدهشة لدى مستمعيه ومشاهديه، بغض النظر عن جوهر هذه الصورة ومدى صدقه فيما يقول أو منطقية ما يفعله وما يتبناه من مواقف، معتمدا على فهمه الفطري لطبيعة الجماهير التركية بشكل عام، وكذلك قدراته الكاريزمية الشعبوية، والحق أن أيا من بقية قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم لا يمتلك مثل هذه القدرات بمن فيهم الرجل الثاني في الحزب والحكومة عبد الله جول ورئيس البرلمان بولنت أرنج، رغم أن النخبة من المثقفين والسياسيين تبدي إعجابا أكثر بجول الذي يعطي إيحاءات بالصدق والعقلانية، وتمثل القيم الديمقراطية الغربية التي ينحو أردوغان بعيدا عنها في معاركه ومناوراته السياسية أحيانا، كما أن أرنج ليس له صورة البديل لأردوغان، وربما يكون هذا جزءا من أزمة الحاكم المتوارية في أنه يتمحور حول شخص واحد، والمثير أن ا لكثير من أعضاء الحزب ونوابه يرون أن الحزب هو أردوغان، وأردوغان هو الحزب، ولا يتخيلون هذا الحزب من غيره، ويبدو أن الرجل نجح في إيجاد حالة هائلة من الاعتماد عليه في تسيير أمور الحزب، فضلا عن فرديته في اختيار الوزراء والمرشحين للمناصب الحكومية وعضوية البرلمان، والمثير أنهم سعداء بذلك، رغم ميله إلى الدكتاتورية وأحادية الرؤية في بعض القضايا المهمة، وبالقطع لا يعني هذا الكلام أنه لا وجود للحزب إلا في شخص أردوغان، لكن ما نلفت إليه هو هذه الشخصية التي تعد أخطر تهديد لكيان الحزب على المدى المتوسط والبعيد، وخاصة أن الحزب لم يمض على تأسيسه وقت طويل.

وثمة عوامل مساعدة لعدم ظهور آثار سلبية لهذا الوضع في الفترة الماضية أولها ضعف المعارضة ومعاناتها من صراعات داخلية، وعدم قدرتها على الوصول للجماهير، فضلا عن افتقادها للشخصيات الكاريزمية على غرار أردوغان، بالإضافة إلى دعم معظم وسائل الإعلام التركية وكبار رجال الأعمال للرجل وحزبه وحكومته، دون أن يقلل ذلك من نجاحات بارزة له وحكومته على الصعيدين الداخلي والخارجي، خاصة ما يتصل بالتحسن الكبير في الاقتصاد، وبدء مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوربي،والإصلاحات التشريعية والسياسية الضخمة في إطار مساعي التأهل لنيل عضويته.

كما لا يمكن تجاهل عامل سيطرة حزبه على أغلبية مقاعد البرلمان بحيث تبدو المعارضة عاجزة عن اتخاذ إجراء فاعل ضد الحكومة، ومن ثم فإن مواقفها لا تعدو أن ت كون صراخا في قاعة كبيرة مغلقة، وهي بهذا الشكل لا تستطيع أن تنحي وزيرا، أو تحاسب مسئولا، أو تنفذ مبادرة لا يريدها الحزب الحاكم الذي تخضع تماما لجدول أعماله في البرلمان.

والشئ المهم أن أردوغان قادر على إثارة الإعجاب بنشاطه وحيويته وقدراته القيادية، وحتى عندما يكذب ويخطئ ويقفز على ما لا يريد من القضايا والأزمات، وكذلك حينما يصطنع السلوك والكلام، ويتلبس صورة أجمل بكثير من الواقع والجوهر، بشكل حير مؤيديه قبل خصومه.

الفصل الخامس

الحلم الأوربي.. مشروع الإسلاميين الجدد

ركز مؤسسو حزب العدالة والتنمية من الإسلاميين الجدد حتى من قبل تشكيله على فكرة أن مشروعهم الأكبر هو قيادة تركيا لعضوية الاتحاد الأوربي، في خلاف صارخ مع الإسلاميين القدامى الذين كان مشروعهم الأول هو أن تقود تركيا اتحادا لدول العالم الإسلامي، أو على الأقل تكون جزءا منه، وهو أمر غاب عن برنامج حزب العدالة والتنمية، وهناك هدفان أساسيان وراء تبني المشروع الأوربي الأول: النهوض بتركيا إلى مصاف الدول الأكثر تحضرا، والثاني: هو نيل مساحة كبيرة من الحرية والتحركات السياسية، بل والنفوذ في مواجهة سلطة وتحكم النخبة الكمالية التي تتبنى نموذجا متطرفا من العلمانية في مصير البلاد، ومحاصرة التيار الإسلامي بجدده وقداماه وتستند إلى قوة الجيش، وبالفعل فقد حقق الحزب بعضا من هذين الهدفين، وهو يستطيع أن يفاخر الآن بأن تركيا أصبحت أكثر تقدما وتحضرا، وأفضل ديمقراطية مما كانت عليه الأمور قبل صعود الحزب إلى السلطة في نوفمبر عام 2002.

ولعل أبرز إنجاز تحقق في تاريخ الحلم الأوروبي هو قرار دول الاتحاد في ديسمبر 2004 بدء مفوضات انضمام تركيا كعضو كامل، وهو تطور محوري في علاقات الجانبين التاريخية، ولحزب العدالة والتنمية الفضل الأكبر فيه. لقد شهدت تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية إصلاحات غير مسبوقة، خاصة فيما يتصل بالحريات العامة، والعملية الديمقراطية، والحد من دور الجيش في الحياة السياسية بتقليص تمثيله في مجلس الأمن القومي، وكذلك إصلاحات تشريعية واجتماعية، وكان ا لمشروع الأوروبي هو القاطرة التي جرت هذه الإصلاحات، حيث تغلب على معارضة تيارات عدة في المجتمع لها، ولا يمكن تجاهل ما تم بشأن المشكلة الكردية، مثل السماح بالتعليم والبث الإعلامي باللغة الكردية في كسر لمحرم كبير، لكن هذه الإصلاحات في مجملها لم تحقق كل الآمال، ولعله من الملاحظ أن تردد الاتحاد الأوروبي في الاقتراب من تركيا كان عاملا سلبيا، خاصة أنه بدا للأتراك أنه يتعامل مع بلادهم وفق معايير مزدوجة، وليس هناك ضمانات كافية لتحقيق حلمهم في نيل العضوية إذا استجابت تركيا لكل مطالب الاتحاد.

والحق أن الموقف الأوربي هذا يضعف حكومة أردوغان في الصراع مع قوى العلمانية المتشددة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية والرئيس والقضاء والمعارضة، وهناك قاعدة واضحة في هذا الشأن أنه كلما اقتربت تركيا من تحقيق الحلم الأوروبي صارت هذه الحكومة أقوى والعكس صحيح أيضا، لأنها أبدت رهانا كبيرا على نيل عضوية الاتحاد، في حين يبدو ألأمر عملية معقدة وطويلة تواجه مخاطر كبيرة على الجانبين التركي والأوروبي، وهنا نشير إلى أن الضغوط الأوروبية على حكومة أردوغان للاعتراف بجمهورية قبرص تضعها في مأزق قانوني سياسي شعبي مركب، خاصة مع رفضه صيغة "أعترف في ذا الوقت" التي طرحتها أنقرة.

ويبدو أن القادم أسوأ بعد إصرار دول الاتحاد الأوروبي على مطالبة تركيا بضرورة التوقيع على البروتوكول الإضافي الخاص بانضمام الأعضاء العشرة الجدد في الاتحاد إلى الاتحاد الجمركي، مما يعني ضمنا الاعتراف بجمهورية قبرص إحدى هؤلاء الأعضاء الجدد، حيث بادر بعض المسئولين فيها بالقول بأنهم يطلبون فتح سفارة لها في أنقرة، وهو الأمر الذي لن تقبله حكومة أردوغان، لأن تركيا تعترف رسميا فقط بما يسمى "جمهورية شمال قبرص التركية" والاعتراف بجمهورية قبرص التي تمثل القبارصة اليونانيين عمليا يلغي ذلك، وفي كل الأحوال هناك عقبة كبيرة أمام حلم تركيا الأوروبي، هي المشكلة القبرصية البعيدة عن الحل أيضا، بالإضافة إلى عقبات أخرى.

وإذا كان أردوغان ونائبه في الحزب والحكومة عبد الله جول قد هددا بإنهاء مساعي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في حالة الإصرار على لعبة كرة الثلج المتضخمة في التعامل مع تركيا بخلق مزيد من الشروط والمطالب التي لا تنتهي، وأبرزها مسألة دفع تركيا للاعتراف الصريح بجمهورية قبرص، وإجبارها على فتح مطاراتها وموانئها لطائرات وسفن القبارصة اليونانيين، فإن تماسك الموقف الداخلي والإجماع الذي تحظى به سياسة الحكومة بهذا الشأن جعلها أكثر تمسكا بمقاومة الضغوط الأوربية التي تعمق الشعور بالتمييز ضد تركيا لدى النخبة والشعب، وتخلط الحلم الأوروبي بظلال كابوس في حالة الوصول إلى نقطة الفراق بين الجانبين.

وحسب موقف الحكومة التركية فإنه إذا أصرت فرنسا واليونان ومعهما بالطبع جمهورية قبرص على مسألة الاعتراف هذه، وتبني الاتحاد مواقف الدول الثلاث، فإن أنقرة ستكون مضطرة لتوديع الحلم الأوروبي، وهو الأمر الذي باتت تدركه أطراف أوروبية أخرى مثل بريطانيا وإيطاليا وألمانيا، ومن ثم نجحت هذه الحكومة في إعادة تصدير مشكلة الاعتراف إلى الاتحاد الأوروبي ذاته.

ولعل بريطانيا التي تحاول القيام بدور رائد في الاتحاد الأوروبي الدولة ذات الوجود العسكري في الجزيرة القبرصية والمحتلة القديمة لها هي الأكثر استيعابا لحجم المشكلة وتداعياتها، وهي علم جيدا أن الحلم الأوروبي قد قاد إلى تغيير جذري في موقف تركيا، وحرك القبارصة الأتراك الذين قبلوا خطة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان لتسوية المشكلة في الاستفتاء الذي إجراؤه في الجزيرة عام 2004 بين أبناء الجزيرة، في حين رفضها القبارصة اليونانيون، وإنه ليس بالإمكان دفع تركيا إلى ما هو أبعد من مواقفها الحالية.

فالاعتراف بجمهورية قبرص سيعني من الوجهة القانونية سحب اعتراف تركيا بجمهورية شمال قبرص التركية، وعمليا التخلي عن القبارصة الأتراك الذين يعتمدون في بقاء كيانهم حيا على تركيا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وهو أمر سينظر له معظم الأتراك على أنه خيانة لقضية وطنية، مما جعل حكومة أردوغان أو أية حكومة أخرى لا تجرؤ على حتى مجرد التفكير فيه.

كما أن هذا الاعتراف سيجب تركيا على سحب قواتها التي تقدر بعشرات الآلاف من شمال قبرص، لأنها ستصبح قوة احتلال، والانسحاب يعني خلق خطر على الأمن القومي التركي من وجهة نظر أنقرة، كما سيضعف نفوذ تركيا في قبرص بشكل عام.

ومن الواضح أن تركيا لن تقدم على تضحية هائلة بهذا الشكل مقابل وعود غامضة ومشكوك في أمرها، بل ومختلف عليها بين دول الاتحاد الأوروبي، وربما كان الأمر مغايرا لو كانت المعادلة هي الاعتراف مقابل العضوية.

وتدرك تركيا أنه بإمكانها إعادة تسخين المشكلة القبرصية مرة أخرى بقوتها العسكرية ونفوذها لدى القبارصة الأتراك، وهنا نشير إلى أن انهيار الحلم الأوروبي لتركيا سيكون له تداعيات خطيرة على المشكلة القبرصية بقدر ما كان الحلم ذاته حافزا للمرونة والابتعاد عن التعنت من جانب أنقرة.

ولعل إشهار شرط الاعتراف في وجه تركيا قد عمق المرارة لديها، وكذلك لدى القبارصة الأتراك، فالاتحاد الأوروبي يواصل سياسة مكافأة الطرف المتعنت المتشدد، ويعاقب المرن المتساهل، تلك السياسة التي بدأت بقبول عضوية جمهورية قبرص في الاتحاد الأوروبي في عام 2004 عقب رفض القبارصة اليونانيين لخطة أنان، في حين لا يزال القبارصة الأتراك الذين قبلوا الخطة يعانون من الحصار والتجاهل الأوربي.

ومن المؤكد أن تركيا تدرك أن الأطراف الأوروبية الرافضة لعضويتها في الأساس – مثل فرنسا- وجدت في قضية الاعتراف ضالتها، وهي لن تعدم العثور على مبررات أخرى حتى بعد المفاوضات التي من المتوقع أن تستمر ما بين 10 سنوات و15سنة لعرقلة انضمام تركيا للاتحاد.

وفي كل الأحوال فإن إسلاميي تركيا المجددين يرفضون السقوط في فخ إغواء الحلم الأوروبي مهما كان الثمن، رغم أنهم يقودون القاطرة المتجهة إلى هذا الحلم، وليس العلمانيين المتشددين المتغربين قلبا وقالبا.

الفصل السادس

عسكر وإسلاميون.. معركة مختلفة

على مدار السنوات التي تولى فيها حزب العدالة والتنمية السلطة حتى الآن بات أن الحزب يقف ثابتا في جانب، وهناك المعسكر الآخر الجيش، والرئيس أحمد نجدت سيراز، والقضاء، والأحزاب العلمانية المتشددة.

ولا يزال الجيش يظهر الاختلاف مع الحكومة فيما يتصل بمحاولة تغيير مفهوم العلمانية بجعلها أكثر تسامحا مع الدين، وأقل حدة فيم يتصل بمكافحة الدولة لما يمكن وصفه بالأنشطة الدينية، وتسييس الميول الإسلامية، خاصة أن هناك من يرى أن حزب العدالة والتنمية هو نسخة منقحة من حزب الرفاة الإسلامي المحظور، وأن أردوغان هو نجم الدين إربكان العصري، وبعض الجنرالات يعتقدون أن الحزب الحاكم يريد انتهاز أية فرصة تتاح له في إطار التوجه نحو الانضمام للاتحاد الأوربي لتطبيق جدول أعمال خفي يخاطب الميول الإسلامية لقاعدته الشعبية، ورغم كل ما أبدته الحكومة من انفتاح وتمسك بالعلمانية، على ا لقل في خطابها المعلن، فإن الشكوك حولها لم تتبدد، خاصة أن بعض الجهات السياسية والإعلامية الغربية تصفها بالحكومة الإسلامية المعتدلة.

ومن الواضح أن هناك تباينا بهذا الشأن بين رئيس الأركان السابق الجنرال حلمي أوزكوك الذي يوصف بالمعتدل، وقادة عسكريين آخرين يريدون ضرورة تبني مواقف أكثر حزما من حكومة أردوغان، ولقد كان من المثير أن أوزكوك رد على انتقادات تبدو متداولة داخل المؤسسة العسكرية حول تعاونه مع أردوغان ذي الماضي الإسلامي، وقد اضطر أوزكوك للقول بأنه يتعامل مع الرجل كرئيس لوزراء تركيا، وليس بصفته شخصية لها ميول محددة.

والجيش التركي يدرك بوضوح أن الاتحاد الأوروبي يريد أن تكون تركيا مثل دوله في ابتعاد المؤسسة العسكرية التام عن الساحة السياسية، فلا يمكن أن يمثل تيارا أو يستقوي به طرف على الآخرين، وبالطبع يجب أن يتخلى عن دور المراقب لهذه الساحة التي كان بإمكانه أن يقلب المائدة رأسا على عقب فيها إذا رأى أن القواعد المتعارف عليها للعبة السياسية تغيرت، أو في طريقها للتغيير.

وهناك مطالب أوروبية محددة في هذا الشأن، مثل أن يأتمر رئيس الأركان وجميع قادة الجيش بأوامر رئيس الوزراء، وأن تكون الحكومة هي صاحبة الكلمة العليا في التعيينات في المناصب العليا للمؤسسة العليا، وأن يخضع العسكر لقوانين الدولة في المحاكمة، وليس لقوانينهم الخاصة بهم، فضلا عن إنهاء مفهوم الكيان المستقل للجيش الذي يجب أن يكون محترفا لا يخرج نطاق عمله واهتمامه عن فنون الدفاع والحرب.

والشيء المؤكد هو رفض الكثير من قادة الجيش وضباطه لاستدراجه لنظرية الأمر الواقع بالتدريج، بحيث يجئ اليوم الذي ينتهي فيه نفوذه على الساحة السياسية تماما، حيث أشارت تسريبات الصحف التركية إلى أن الغالبية الساحقة من الضباط بجميع رتبهم ابدوا تأييدهم لاستمرار دور الجيش بشكله التاريخي في البلاد، حيث هو حارس المبادئ الأتاتوركية، وأهمها العلمانية.

وبذلك نجد أنفسنا أمام سؤال مهم: ماذا ستفعل تركيا أمام إصرار الاتحاد الأوروبي على تطبيق معاييره بإخراج الجيش من معادلة الحياة السياسية؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن الجيش لا يمكن أن يقبل ذلك، لأن ضباطه تربوا على تشرب دوره السياسي، يبقى الحل الوسط، وهو الحد من نفوذ المؤسسة العسكرية على الأقل في ظواهر الأمور والاكتفاء بنظرية المسكوت عنه، ويعتمد هذا الأمر على مدى انفتاح الاتحاد الأوروبي على تركيا، وعدالته في التعامل معها كعضو مرشح للانضمام إليه.. فقرب تحقيق الحلم الأوروبي لتركيا يعني تقليص نفوذ الجيش، وإيجاد العقبات والصعاب، وتبني معاملات تمييزية ستقود إلى تمترس المؤسسة العسكرية بدورها الذي يضفي عليه قادتها شرعية تاريخية ، حيث يعتبرون أن الجيش هو الذي حمى تركيا من التفكيك ومن العودة إلى الماضي المتخلف، وهو أمر لا يوجد له مثيل في ماضي معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الذي لا يبدو أنه يتفهم خصوصية تركيا في هذه النقطة بالذات.

ويحذر بعض المحللين السياسيين الأتراك من أن بعض الأحزاب والقوى الضعيفة تريد الاستقواء بالجيش، ومن ثم يحاول إيجاد ما يمكن وصفه بفوبيا التفكك والرجعية، وأن التحصن بهذه الفوبيا في مواجهة المتغيرات العصرية العالمية- بما في ذلك الفكر الليبرالي السائد الآن في معظم الدول الأوروبية – هو بعينه الإصرار على جر البلاد إلى ماضي الانقلابات والاضطرابات السياسية.

ويرى هؤلاء المحللون أن تركيا لن تتقدم إلى مصاف الدول الأوروبي إلا بتغيير الذهنية، حيث يتم تكريس نظرية السيف الناعم، وإلغاء الآخر وذهنية التحريم، وما تؤدي إليه هذه المبادئ من قمع وترويع وإقصاء لكل ما هو مغاير للقوالب الجامدة لمعاني الهوية، والوطنية والعلمانية، فلا التعليم باللغة الكردية أو السماح بارتداء الحجاب في الجامعات والمؤسسات الحكومية سيقود إلى تجزئة تركيا أو عودتها إلى الماضي المتخلف، وفي الدول الأوروبية بعض العبر، حيث هناك تعدد ثقافي وديني، ولم يقل أحد فيها أن وحدتها معرضة للخطر.

وفي كل الأحوال فنحن أمام علاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا تتسم بالالتباس والتعقيد والشكوك والرغبات والآمال في آن واحد، وقد أشار الكتاب الأتراك إلى نكتة ذات دلالات عميقة ترددت كثيرا في أروقة الاتحاد الأوروبي قبيل إعلان تقرير المفوضية.

تقول النكتة: إن المفوضية دعت رؤساء وزراء الدول الثلاث التي كانت مرشحة لنيل عضوية الاتحاد، وهل بلغاريا ورومانيا وتركيا، لامتحان نهائي يحدد مصيرها، فسألت البلغاري: متى ألقيت أول فنبلة نووية في العالم؟ فأجاب: عام 1945، ونجح في الامتحان.

ثم سألت الروماني: ما هي المدينة التي ألقيت عليها القنبلة؟ فأجاب: هيروشيما، وكان حظه النجاح أيضا.

وعندما جاء دور رئيس الوزراء التركي كان ا لسؤال: ما هي أسماء ضحايا القنبلة النووية في هيروشيما بالكامل وتواريخ ميلادهم؟

وثمة نكتة أخرى شائعة في تركيا لا تخلو من الدلالات. وهي أن الرئيس الأمريكي جورج بوش ونظيره الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان كانوا يسيرون على البسفور في اسطنبول، فالتقوا بالشيطان ، فطلب من كل واحد منهم ن يسأله سؤالا عن المستقبل:

فسأل بوش: متى تسيطر الولايات المتحدة على العالم تماما؟

فأجاب الشيطان: بعد عشرين عاما، فبكى بوش، لأنه لن يكون رئيسا لأمريكا آنذاك.

وسأل بوتين الشيطان متى تصبح روسيا قوة عظمى مرة أخرى؟

فجاء رد الشيطان: بعد 50 عاما، فبكى بوتين، لأنه لن يكون رئيسا آنذاك.

وجاء الدور على أردوغان فسأل الشيطان: متى تنضم تركيا للاتحاد الأوروبي؟

فانفجر الشيطان في البكاء.

والمعنى أن تركيا لن تصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي أبدا.

الفصل السابع

أزمات ومواجهات

منذ تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا عقب انتخابات نوفمبر عام 2002 وهو يخوض مواجهات، ويصطدم بأزمات تتراوح بين ما هو داخلي ودولي مرورا بالإقليمي، والملفت للنظر هو نجاح هذه الحكومة في الخروج من هذه المواجهات والأزمات بشكل يمكن وصفه بالسالم الغانم أحيانا، وببعض الجراح الطفيفة في أحيان أخرى، ويبدو أن كثرة الأزمات والمواجهات أكسبتها حصانة وقدرة أكبر في التفاعل مع قضايا معقدة، ولها انفجاراتها المفاجئة.

ولا يمكن تجاهل أن دمغ الحزب بـ " الإسلامي" تصريحا أو تلميحا وراء الكثير من هذه الأزمات والمواجهات، وحينما نتأمل المواجهات الداخلية فإننا نجد أن أغلبها كان مع الرئيس أحمد نجدت سيراز والجيش والقضاء، أو المعارضة البرلمانية التي يقودها حزب الشعب الجمهوري بزعامة دينيز بايكال، وفي الكثير من الحالات كان الحزب وحكومته يواجهان ما يشبه التحالف العريض الذي يضم الرئيس والجيش والقضاء وأحزاب المعارضة ومعها وسائل الإعلام التي تبدو أحيانا مستنفرة للتصدي لكل ما يشتم منه رائحة الإسلامي أو تتخيل هذه الرائحة منبعثة منه، وتلك هي لب المشكلة، فالحزب يتم التعامل معه على أنه حالة متقبلة بحكم الأمر الواقع الديمقراطي حيث لا يمكن رفض حزب منتخب بطريقة حرة، وحاصل على أغلبية مطلقة، ويظهر تمسكه بمبادئ الجمهورية الأتاتوركية.

ولا يخلو الأمر من أزمات داخل الحزب نفسه، فقد كانت أول أزمة يواجهها بعد فوزه في انتخابات الثالث من نوفمبر 2003 هي داخلية، عندما أعلن بولنت أرنج أحد أقطاب الحزب والذي يوصف بالمتشدد، ويشار إليه دائما في وسائل الإعلام التركية على أنه التيار "الإربكاني" المحافظ في الحزب، إنه سيرشح نفسه لرئاسة البرلمان قبل أن تتخذ قيادة الحزب قرارها بهذا الشأن، حيث قطع الطريق على أردوغان زعيم الحزب الذي كان يميل إلى إعطاء وجدي جونول- أحد رموز التيار الليبرالي المعتدل في الحزب – هذا المنصب، نظرا لأن زوجته غي محجبة، ولكونه وجها مقبولا لدى جانب كبير من القوى العلمانية المتشددة.

وقد اضطر أردوغان لقبول أرنج رئيسا للبرلمان حتى لا يتعرض الحزب لأزمة خطيرة مبكرة يمكن أن تهدد وحدته خاصة أن أرنج سياسي عنيد، وله أتباعه المؤثرون في صفوف الحزب، وكان قد وعد بالعمل على رفع الحظر المفروض على ارتداء الحجاب بين الموظفات الحكوميات، وفي الجامعات والمدارس.

والمثير أن حجاب "منو هانم" زوجة "أرنج" أثار أزمة أخرى مع القوى العلمانية المتشددة حيث قاطع الرئيس أحمد نجدت سيراز وقادة المعارضة والجيش حفل الاستقبال الذي أقامه أرنج في البرلمان بمناسبة الاحتفالات بعيد تأسيسه يوم 23 أبريل عام 2003م.

والحق أن الحجاب كان العنوان الرئيسي للعديد من الأزمات الأخرى مع ا لقوى العلمانية المتشددة، وكان السيناريو المتكرر في هذه الأزمات اقرب إلى القالب المعروف سلفا، يبدأ بتصريح لأي من المسئولين في الحكومة والحزب عن ضرورة رفع الحظر الفروض على مرتدياته فيجئ الرد سريعا من الرئيس ورجال القضاء وقادة الجيش والمعارضة فيما يشبه الجوقة، حدث هذا في مناسبات عديدة بلا ملل من جميع الأطراف.

غير أن أهم ما يمك استخلاصه من هذه الأزمات أن حزب العدالة والتنمية أيقن أن حظر الحجاب هو قدس الأقداس بالنسبة للقوى العلمانية المتشددة، والمساس به قد يتطلب إسقاط نظرية " الهلال الملون والسيف الناعم" رأسا على عقب، ويدمر تجربة الثورة الصامتة أو البيضاء التي يتحدث عنها أردوغان جهرا وهمسا.

صحيح أن هذا الموقف قد أصاب بعض قواعد الحزب ذات التوجهات الإسلامية الصريحة بالإحباط، لكن بدأت غالبية أعضائه متفهمة لفكرة قدس الأقداس هذه، فضلا عن ارتياحهم لظهور الحجاب في دوائر تابعة للدولة والحكومة، مثل توظيف بعض المحجبات في البرلمان، وحضور السيدة أمينة زوجة أردوغان وخير النساء زوجة جول مناسبات رسمية في الخارج والداخل بالحجاب، وهو أمر لم يكن يخطر ببال أحد قبل زلزال الثالث من نوفمبر السياسي في البلاد.

غير أن أخطر أزمة تعرض لها الحزب والحكومة مع القوى العلمانية المتشددة- غير الحجاب- كانت عندما اغتيل قاض في شهر مايو 2006 على يد إسلامي متطرف، حيث أشعلت القوى العلمانية المتشددة الحادث لدفع البلاد إلى مواجهة كبرى مع الإسلاميين المجددين الممثلة في الحزب وحكومته، غير أن حكومة أردوغان أفلتت من هذا الفخ بالإدانة القاطعة للحادث، ولفظ مرتكبيه، والتأكيد على الالتزام بالعلمانية والديمقراطية، وتحمل بعض سخافات الجبهة الأخرى، مثلما حدث في جنازة القاضي من تهجم لفظي على بعض الوزراء الذين حضروها، ومحاولة الاعتداء عليهم بالأيدي.

وخلال السنوات الأولى من الحكم واجه حزب العدالة والتنمية أزمات أيضا مع الاتحاد الأوروبي، كان أشدها عندما رغب الحزب في تجريم فعل الزنا للمتزوجين في إطار مشروع شامل لقانون العقوبات في أكتوبر عام 2004 وقد تراجع أردوغان عن موقفه بهذا الشأن في نهاية المطاف عندما هدد الاتحاد الأوروبي بعدم منح تركيا موعدا لبدء مفاوضات انضمامها له ما تذعن وتلغي هذا النص، وبالفعل دار أردوغان 180 درجة كاملة بعد أن كان قد شن حملة كلامية على الاتحاد، واتهمه بالتدخل في أدق خصوصيات بلاده باسم الحلم الأوروبي، وقاد هذا التراجع إلى منح الموعد الذي حدد في أكتوبر عام 2005م.

ومن الأزمات التي وقعت في نوفمبر عام 2004 عندما أصدرت لجنة حقوق الإنسان لمجلس الوزراء مثيرا للجدل حول الهوية دعت فيه إلى الاعتراف بهوية ثانوية في البلاد بحيث يقال" تركي كردي أو تركي علوي" مثلا حيث ربطت بين انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد وهي أحد العوائق أمام تحقيق الحلم الأوروبي والإصرار على قولية جميع المواطنين في هوية أحادي هي التركي السامي الذي يقفز على أية عناصر أخرى للهوية، والمدهش أن أردوغان تنصل من التقرير وواضعيه، وحل اللجنة عندما وجد أن ما خلصت إليه نظر إليه على أنه تهديد للجمهورية، وتم تصويره على أنه ثورة مضادة للقيم الكمالية.

وهناك أيضا كارثة تفجيرات في نوفمبر 2003 عندما تم استهداف معبدين يهوديين، ومبنى القنصلية البريطانية، وبنك hsbc في إسطنبول في تفجيرات ضخمة حصدت عشرات القتلى ومئات الجرحى، وكانت ضربة قوية للحكومة، خاصة أن قوى العلمانية المتشددة حاولت توظيف اتهام خلايا محلية لتنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن في وصم والحكومة بالمتسامحة تجاه التطرف الإسلامي، وقد خشيت الحكومة أيضا أن تكون هذه الهجمات ضربة قاصمة للسياحة التي أصبحت أحد أعمدة الاقتصاد النامي بسرعة كبيرة، غير أن الحكومة تجنيت آثار التفجيرات التي دلت أيضا على الخلل في الإجراءات الأمنية في البلاد.

وهناك أزمتان هما من قبيل القضاء والقدر، لكنهما مثلتا تهديدات لحكومة حزب العدالة والتنمية، إحداهما: الزلزال المدمر الذي ضرب محافظة تونجلي في مايو 2003 وحصد أرواح حوالي 170 شخصا، وإنفلزنزا الطيور في يناير وفبراير عام 2006، حيث كشفت الأزمتان الواقع المرير لمناطق جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية التي كانت مركزا لهما، وفضحت فشل الحكومة في القيام بعملية تنمية وتحديث وعدت بأن تكون حلا ناجحا للمشكلة الكردية.

وعلى الصعيد الخارجي أيضا لا يمكن نسيان تأثير الحرب الأمريكية على العراق التي حاصرت خيارات حكومة حزب العدالة والتنمية، حيث حاولت بكافة الوسائل منع هذه الحرب بحشد قوى إقليمية وقوى إسطنبول في مؤتمر يوم 19 يناير 2003 حيث كان أردوغان ورفاقه يدركون أن عجلة الحرب التي حركها المحافظون الجدد المتصهينون في واشنطن قد دارت بالفعل، وقد فشل المؤتمر الذي حضره جيران العراق بالإضافة إلى مصر في أن يعيد هذه العجلة إلى الوراء.

وقبل الحرب بشهور بدت تركيا بأكملها منقسمة تجاه المشاركة فيها مع الولايات المتحدة أو الوقوف على الحياد، لكن الطابع الإسلامي للحزب الحاكم هو الذي حسم الأمر لصالح فكرة الحياد عندا أقر البرلمان في الأول من مارس 2003 عدم السماح لعشرات الآلاف من القوات الأمريكية بالمرور عبر الأراضي التركية لغزو العراق في إطار إستراتيجية للبنتاجون فيما كان يسمى فتح جهة جبهة شمالية ضد صدام حسين، وغسل القرار الذي حظي بدعم شعبي منقطع النظير شوائب المساومات لحكومة حزب العدالة والتنمية مع واشنطن بشأن المشاركة في الحرب عدا ونقدا، ولا يزال هناك غموض بشأن تصويت أكثر من 100 نائب في الحزب الحاكم لصالح قرار رفض الحزب نشر القوات الأمريكية في الأراضي التركية حيث إن أردوغان كان مؤيدا مضطرا لإرادة الحرب الأمريكية، في حين عارضها بقوة رئيس البرلمان بولنت أرنج سيد المحافظين الإسلاميين في الحزب حسب بعض التعبيرات، ولكن الأهم أن القرار خدم أردوغان من حيث لا يحتسب، وإن أصاب العلاقات الأمريكية التركية بجرح غائر.

الفصل الثامن

أم المشاكل المزمنة

تعد المشكلة الكردية في تركيا بؤرة صراع طويلة الآن حتى من قبل تأسيس الجمهورية على يد الزعيم كمال أتاتورك عام 1923، وقد مثلت إرثا ثقيلا موجعا بالنسبة لحزب العدالة التنمية عندما تولى السلطة في عام 2002، ومنذ ذلك الحين كانت ولا تزال المشكلة الأخطر والأسوأ لتركيا، حيث تتسم بتعقيدات تاريخية واجتماعية وإقليمية يصعب فكها أو الفكاك منها.

والحق أن الحزب تبنى قبل توليه السلطة مقاربة تقوم على النظر إلى أن المشكلة الكردية هي في المقام الأول اقتصادية اجتماعية، وأن التنمية في مناطق جنوب شرق تركيا ستنهي هذه المشكلة، ورغم خطأ هذه المقاربة أو جوهرها الأحادي الذي يتجاهل الأبعاد المركبة للمشكلة السياسية والعرقية والتاريخية والجغرافية، وارتباطها بالمشكلة الأكبر المزمنة وهي وضع الأكراد في الشرق الأوسط، وتحديدا في كل من سوريا وإيران والعراق بالإضافة إلى تركيا، فإن حكومة حزب العدالة والتنمية لم تطبق الحل الذي طرحته، حيث أثبتت الأحداث أنه مجرد وعود كلامية، فلا تنمية تحققت، ولا تحسنا اقتصاديا طرأ على أوضاع الأكراد في مناطق جنوب شرق تركيا، بل على النقيض من ذلك شهدت هذه الأوضاع تدهورا ملحوظا في ظل حرب استنزاف بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني حصدت عشرات الأرواح، خاصة أن الحزب استفاد من التغيير الذي شهده العراق بتقوية قواعده في المناطق الجبلية في شمال العراق، وإلزام الولايات المتحدة لتركيا بعدم التوغل في الأراضي العراقية لمطاردة متمردي الحزب، واتهام الأحزاب الكردية العراقية بتقديم الدعم المباشر وغير المباشر لمقاتلي الحزب المتمركزين في هذه المناطق.

وقد شهد عام 2006 اضطرابات شعبية في مناطق جنوب شرق تركيا في ظل تزايد الدعم من جانب حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان الذي يقضي عقوبة السجن مدى الحياة في سجنه بجزيرة إيمرلي التركية.

وعندما نتأمل تعامل القوى السياسية- بما فيها الحكومة وحتى وسائل الإعلام التركية- مع الاضطرابات نجد أن الحكومة ومعظم الأحزاب اعتبرت أن تركيا أمام مؤامرة دبرها حزب العمال الكردستاني المتمرد لتمزيق البلاد، وأنه يحرك الاحتجاجات العنيفة التي أخذت مظاهر إحراق المباني والحافلات العامة وإلقاء الحجارة على الشرطة، كما اعتبرت أن الحزب يعمد إلى الزج بالأطفال والصبية ليكونوا وقود المصادمات مع قوات الأمن والشرطة، وهو ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى بينهم، مما يعد عاملا لإعادة إنتاج الغضب المحك للاحتجاجات.

وما دام الأمر ينطوي على مؤامرة، فالطبيعي أمام الحكومة والسلطات هو تبني الحل الأمني بتدخل قوات الأمن والجيش لإنهاء الاضطرابات، وفرض سلطة الدولة، فضلا عن تعزيز الوجود الأمني في المناطق التي لم تشهد مثل هذه الاضطرابات، وكان من المنطقي أيضا في إطار تفسير الحكومة لما حدث أن يسارع عبد الله جول نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الذي يترأس اللجنة العليا لمكافحة الإرهاب، إلى الإعلان عن خطة لتعديل القانون الخاص بهذه المكافحة، بحيث يشمل إقامة هيئة عامة تحت لإمرة المباشرة لرئاسة الوزراء لتولي التنسيق بين أجهزة الدولة المختلفة في هذا الشأن، فضلا عن فرض عقوبات تصل إلى السجن ثلاث سنوا لمن يبدون علنا تأييدهم لحزب العمال الكردستاني المحظور وزعيمه عبد الله أوجلان، كما أن التعديلات تستجيب لمطالب الجيش بالعودة إلى سلطاته القديمة في التعامل مع مرتكبي أعمال العنف ومن يشتبه في ضلوعهم في أعمال إرهابية، والمعنى أن الحل الأمني هو الذي يهيمن على سياسة الحكومة تجاه المشكلة الكردية، وليس الحل الاقتصادي الاجتماعي الذي تبناه الحزب.

ولابد من الاعتراف بأن هناك حالة من الهيمنة للقومية التركية على الأكراد بمحاولة صهرهم عمدا في هوية لا ينتمون لها عرقيا وثقافيا، وحسب تعبير الكاتب التركي دوغو أرجيل: " فإن الأكراد تعرضوا لحالة إنكار للهوية التي يجدون أنفسهم فيها، رغم أن غالبيتهم تقبل كونهم مواطنين في "الجمهورية التركية" والمكلة تكمن في رفض التيار القومي للاعتراف بهوية ثانوية للأكراد، وهنا نشير إلى ما ذكرناه من قبل عن أن رئاسة الوزراء تنصلت في عام 2005 من تقرير أعدته لجنة لحقوق الإنسان تابعة لها قالت فيه إن هناك ارتباطا بين انتهاكات هذه الحقوق ورفض الاعتراف بالهويات الثانوية لبعض المواطنين مثل الأكراد والعلويين، والإصرار على فكرة الهوية الواحدة المقدسة لكل من يحملون جنسية تركيا".

وكما أسلفنا فإن مناطق جنوب شرق تركيا هي الأسوأ من حيث الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد حيث يصل معدل البطالة في ديار بكر- كبرى مدنها- إلى ما يتراوح بين 40 و 60 في المائة حسب بعض التقديرات، وتقدر نسبة الأمية في هذه المناطق بحوالي 35 في المائة، ويرزح سكانها تحت الفقر والحرمان والتهميش. ويرتبط بذلك عدم وفاء الحكومة بوعودها في إقامة مشروعات تنموية هناك، والأسوأ إحجام كبار رجال الأعمال الأكراد عن الاستثمار في محافظاتهم، وتفضيلهم إسطنبول ومحافظات غربي تركيا بسبب الأمان الذي تتمتع به.

كما لا يمكن تجاهل عدم وجود أية جهود جدية للتوصل إلى تسوية سياسية للمشكلة الكردية تشمل حزب العمال الكردستاني، أو تسحب البساط من تحت أقدامه، وتفقده نفوذه في جنوب شرقي تركيا، فضلا عن الإصرار على الحل العسكري والأمني، رغم أن الظروف المعيشية والجغرافية والإقليمية لا تسمح بانتصار نهائي على المتمردين.

ويجب الاعتراف أيضا بأن الإصلاحات التي أجرتها الحكومة في إطار مساعي التأهل للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتي شملت منح الأكراد بعض الحقوق الثقافية – مثل التعليم والبث الإعلامي بلغتهم- تتم عمليا ببطء شديد، وتجزئة مخلة في بعض الأحيان، مما يفرغها من مضمونها.

وأيا كان الأمل فلابد من رؤية جديدة للمشكلة الكردية تتسم بالشمول والموضوعية بدلا من الاستسلام لمشاعر "التخدير القومي" واللعب على أوتار الحلول المبتسرة، لأن الاضطرابات المتكررة ناموس إنذار خطير مما هو أسوأ ، تكون حكومة أردوغان قادرة على المبادرة، طالما هناك من لا يكف عن رفع فزاعة تهديد وحدة البلاد لها في كل الأوقات.

وهنا لابد من العودة إلى تقرير لجنة رئاسة الوزراء التي رأت أن مجرد وضع مضبطة لانتهاكات حقوق الإنسان، أو وصايا لتجنب هذه الانتهاكات أمر عديم الجدوى ما لم تتم معالجة المفاهيم الأساسية التي تعزز الانتهاكات.. وخلصت إلى أنه قبل الحديث عن حقوق الإنسان، لابد من العودة إلى مسألة الهوية، ورأت أن مفهوم الهوية الذي تتبناه الجمهورية منذ تأسيسها ينطوي على نوع من القولبة لكل الأتراك دون التمييز بين م يفرق بينهم مثل العرق والدين والمذهب، أي أننا أمام هوية تلغي ما دونها من هويات كرست مفهوم الدولة القومية، فيما بدا أمرا مقدسا على مر السنين، فالمطلوب من الكل أن يكونوا أتراكا فقط، ولا يوجد شيء اسمه تركي مسلم أو تركي مسيحي أو تركي كردي أو تركي سني أو تركي علوي.. وحسب تفسير ما جاء التقرير، فإننا أمام هوية أسمي تستحق الهيوات الفرعية ولا تسمح لها بالظهور بتاتا، ومن ثم قادت إلى قمع ثقافي وأيديولوجي في الوقت نفسه، لأنها كرست أيضا مفهوم التركي العلماني كمواطن مثالي تحل فيه قيم الدولة السامية.

وحسب اللجنة، فإن كثيرا من انتهاكات حقوق الإنسان خرجت من هذا المفهوم السامي للتركي، بحيث منعت الأقليات العرقية والدينية من التمتع بحقوقها في التعبير عن نفسها بإيجاد نوع من التعددية الثرية داخل الدولة الموحدة، ولابد من نيل هذه الأقليات لحقوقها، وعند هذه النقطة ابتعد النقاش والجدل عن المفهوم الحقيقي للهوية ليذهب إلى الأطراف بدلا من الجوهر، لدرجة أ وسائل الإعلام التركية أسمت هذا التقرير تقرير الأقليات، وكأن الهدف منه إحياء نزعات الاختلاف وربما الانفصال لدى الأقليات ، وتركزت المخاوف تحديدا على وضع الأكراد، ومما يحقق هذا التوجه أن التساؤلات اختلطت بمخاوف تاريخية مثل استدعاء معاهدة سيفر عام 1920، التي قضت بتقسيم الدولة العثمانية على أيدي القوى العظمى الأوربية.

وتجدر الإشارة إلى أن المعاهدة أقرت منح الأكراد في تركيا حكما ذاتيا تمهيدا لاستقلالهم، فضلا عن اقتطاع أراض ضخمة من الدولة العثمانية، بما فيها مناطق تقع الآن داخل تركيا الحالية وضمها لدول أوروبية. وما أدى إل استذكار معاهدة سيفر أن الاتحاد الأوروبي استخدم تعبير الأقليات 69 مرة في تقرير مفوضيته عام 2005 حول مدى تأهل تركيا لنيل موعد لبدء مفاوضات انضمامها للاتحاد.

وقد أظهرت واقعة محاولة حرق العلم التركي في مدينة مرسين جنوب البلاد خلال الاحتفالات بعيد النوروز عام 2004 وما خلفته من ردود فعل أطال أمد المشكلة الكردية الممتد منذ عشرات السنين، وتبدو مستعصية على التضميد والالتئام.

والواقعة تتمثل في أن مجموعة من الصبية الأكراد قاموا بجر علم تركي على الأرض تمهيدا لإحراقه أثناء مظاهرات الاحتفال بعيد النوروز الذي يحتفي به الأكراد كثيرا وكأنه عيد قومي، ويطلقون عليه " العيد المجيد" حيث يطل كل عام مع بداية الربيع، ويعبرون عن البهجة بقدومه، وعلى الرغم من أن أعراقا أخرى في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى تحتفل به، إلا أنه في تركيا يأخذ طابعا سياسيا ملفتا، ويبدو وكأنه تعبير سنوي عن الهوية الكردية، وفي ذلك العام تحديدا، ومع بدء تطبيق قوانين الانسجام مع الاتحاد الأوروبي اتسعت الاحتفالات بشكل ملفت، وابتعدت السلطات التركية عن أية ممارسات تقيد تحركات وتعبيرات المحتفلين بالنوروز، وحسب الرواية الرسمية فإن شرطيا تمكن من إنقاذ العلم من أيدي الصبية الذين لا تزيد أعمارهم عن 15 عاما، وقد حصل على مكافأة فورية عبارة عن راتب عام كامل، ولم يثبت حتى كتابة هذه السطور أن هؤلاء الصبية تصرفوا وفقا لتخطي مسبق من أية جماعات أو جهات كردية.

وكان منطقيا أن تكون المؤسسة العسكرية الأسرع والأكثر غضبا في البيان الذي صدر عن رئاسة أركان الجيش، ولم يكتف بالإدانة الشديدة للواقعة، بل حذر مما وصفه بإساءة فهم صبر رجاله بدمائهم من أجل هذا العلم مستعد لمزيد من التضحيات حسب نص البيان.

والقراءة الأعمق لموقف الجيش من المشكلة بشكل عام تقودنا إلى أنه يريد إيصال رسالة محددة مؤداها أن قبوله بالإصلاحات المطلوبة أوروبيا- والتي قادت إلى قدر معقول من الحريات السياسية والثقافية للأكراد. الذين رفضوا بوضوح التوصيف الأوروبي هم بأنهم أقلية – لا يعني أنه أسقط خطوطه الحمر فيما يتصل بما يعتبره تهديدا لوحدة البلاد وأمنها القومي، مهما بدا مبتعدا عن الصدام مع النهج الإصلاحي لحكومة حزب العدالة والتنمية، وأن الجيش لا يزال يعتبر نفسه الحارس الأول للجمهورية التي أسسها الزعيم مصطفى كمال أتاتورك، حيث لا يمكن إغفال أنه كان ضابطا في الجيش، ووصل إلى أعلى مراتب القيادة فيه، وينظر إليه على أنه الأب الشرعي الأوحد للمؤسسة العسكرية، وللجمهورية أيضا.

والحق إننا أمام شعور بعدم الثقة متبادل بين الدولة والأكراد الذين بينهم من يرى أن الإصلاحات شكلية، والدليل على ذلك ما يعتبرونه تقييدا لتنفيذها، فالبث الإذاعي والتليفزيوني بالكردية الذي تقوم به الهيئة التابعة للدولة لا يزيد عن ساعتين أسبوعيا، والتعليم بلغتهم مقصور على الدورات الخاصة، وليس المدارس أو الجامعات ، كما أن أجهزة الأمن لم تغير كثيرا من ممارساتها ضدهم، بما في ذلك التعذيب، وأشكال أخرى من انتهاكات حقوق الإنسان، وهناك ما يؤجج هذا الإحساس، مثل حادث قتل صبي وأبيه في بلدة كيزل تبة التابعة لمحافظة ماردين جنوب البلاد عام 2004 على أيدي أفراد في الجندرمة، وهي قوات أمن تابعة للجيش دون مبررات مقبولة.

وقد سبق أن تلقت حكومة حزب العدالة والتنمية ضربة بالحكم الذي أصدرته محكمة حقوق الإنسان الأوروبية في عام 2004 بأن محاكمة عبد اله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني في عام 1999 غير عادلة، وفي كل الأحوال ثمة من يرى أن مضي تركيا في المشروع الأوروبي ستدفع ثمنه فيما يتصل بتقديم تنازلات للأكراد، وقد تعود إلى انفصالهم عن البلاد يوما ما.

وهكذا أثبتت المشكلة الكردية أنها هي والصراع بين الإسلاميين والعلمانيين هما ثنائية الخطر، وبؤرتا الأزمات في تركيا.

وفي لقاء مع كاتب هذه السطور في عام 2004 حذر تونجر باكرهان رئيس حزب ديمقراطية الشعب التركي " دهب" المنحل البالغ من العمر 33 عاما ن أن ذهنية الحظر التي تسيطر على البعض في تركيا تجعل الانفصال خطا حقيقيا. رفض أن ينفي باكرهان وجود اتصالات مع حزب العمال الكردستاني المتمرد، وطالب بعفو عام شامل عن أعضائه، وبتنمية اقتصادية حقيقية في مناطق جنوب شرق تركيا، حيث تعيش الأقلية الكردية من أجل الوصول إلى حل نهائي وجذري لمشكلة الأكراد .

وهو يقول بالنص:

" نحن ننظر بشكل إيجابي إلى التعديلات القانونية التي تستجيب لمطالب الشعب، غير أن هذه التعديلات تبقى حبرا على ورق مهما يكن حجمها، ولا ننكر أنها تستجيب لمطالب الأكراد، لكن ما نراه أمر نظري بحت، ولا نعرف ما الهدف من هذه الإصلاحات، هل تقديم صورة معينة للرأي العام العالمي عن تركيا، أو صورة لوسائل الإعلام العالمية؟ لا ندري، لكن ا لمطلوب بشكل جدي حقيقي هو إجراء تعديلات على الدستور نفسه، وليس القوانين النابعة منه، ودون ذلك لا يمكن تنفيذ مجموعات الإصلاحات التي اقرها البرلمان".

وحسب تعبير باكرهان فإنه من المؤسف أن أشياء تصدر عن مؤسسات الدولة ومحاكمها وجهاتها التنفيذية مناقضة تماما للتعديلات القانونية والإصلاحات التي أجراها البرلمان.

ويضيف باكرهان:" على سبيل المثال فقد تم إجراء تعديل قانوني يسمح للأكراد بإطلاق أسماء كردية على أبنائهم، لكن عندما يذهب الأب إلى السجل المدني لتسمية ابنه بأحد هذه الأسماء يرفض الموظفون ذلك قائلين إنها أسماء إرهابيين على الرغم من أن القانون يعطي الحق للأب في أي اسم يختاره".

ومن المعتقد أن رئيس الأركان الحالي الجنرال بشار بويك أنت المتشدد تجاه الأكراد سيدفع باتجاه تعميق مفهوم الحل الأمني، وقد كان بويك أنت بطلا لحادثة شهيرة في نوفمبر عام 2005 عندما اتهم بالوقوف وراء تفجير متجر لبيع الأدوات الكتابية كان صاحبه عضوا في حزب العمال الكردستاني، وأسفر الحادث عن مصرع شخص وإصابة 4 آخرين وقد تبين أن الجيش والأجهزة الأمنية وراء الحادث بهدف تلطيخ صورة حزب العمال الكردستاني.

وقد يعوق موقف الجيش من المشكلة الكردية أي توجه للحكومة نحو حلها سياسيا في إطار صفقة محتملة مع حزب المجتمع الديمقراطي الذي يمثله الأكراد حاليا، رغم أن أردوغان أبدى مرونة كبيرة بهذا الشأن، واعترف في سابقة تاريخية بوجود مشكلة كردية في البلاد، مما أثار ضجة كبيرة في الأوساط العلمانية المتشددة في صيف عام 2005.

الفصل التاسع

الاقتصاد قبل الأيديولوجيا

عندما نقرأ تجربة حزب العدالة والتنمية في السلطة على مدار خمس سنوات منذ توليه الحكم في نوفمبر عام 2002، نجد اهتماما مركزيا بالوضع الاقتصادي مقابل تراجع كبير لسطوة الأيديولوجيا، حيث هناك وعي بأن لقمة العيش والوظيفة الآمنة أهم الأفكار المبهرة، فثمة إحساس بالتغير الذي يشهده العالم كله، بالاتجاه صوب الواقعية العملية، والاقتصاد هو في قلب هذه الواقعة، وحتى قبل توليه السلطة، أفرد الحزب في برنامجه للاقتصاد مساحة كبيرة، وكان هناك أفكار تفصيلية في هذا الشأن، بعضها وجد طريقه للتطبيق، والبعض الآخر لم تسنح الفرصة لتجسيده في الواقع، ولعل الاهتمام بالاقتصاد كان منطقيا، لأن تركيا كانت قد مرت بأزمة اقتصادية هائلة بدأت في نوفمبر عام 2000 وصلت إلى ذروتها في فبراير عام 2001 وهو ما كان أسوأ أداء للاقتصاد التركي منذ عام 1945 ، وجاء هذا الانكماش بعد تفجير الأزمة التي أدت إلى انهيار تطبيق برنامج التصحيح الاقتصادي الذي كانت تنفذه الحكومة التركية تحت إشراف صندوق النقد الدولي، وانهيار سعر الليرة بنسبة خمسة في المائة.

وكان من ملامح هذه الأزمة أيضا تراجع حجم التجارة الخارجية عام 2001 مقارنة بالعام الذي سبقه بمقدار 9,5 مليار دولار تقريبا، أي بنسبة 11,59 في المائة، فضلا عن انفجار قضية الديون الخارجية ، حيث قفز حجمها في نهاية عام 2001 إلى 180 مليار دولار مقارنة بـ 164 مليار في يونيو من العام ذاته، وقد كان نصيب كل فرد من الديون في تركيا في نهاية 2003 أكثر من ثلاثة آلاف دولار، فضلا عن أن هذه الديون بلغ حجمه أكثر من 80 في المائة من مجمل الدخل القومي , وهو معدل خطير للغاية وفقا للقواعد الاقتصادية العالمية .

كما انخفض معدل دخل الفرد في تركيا عام 2001إلى 2181 دولارا مقابل 2995 دولارا في العام السابق له , وقدر عدد الأتراك الذين يقبعون تحت خط الفقر عام 2001 بحوالي 35 مليون شخص من بين عدد السكان الذين بلغ عددهم حينذاك 68 مليون نسمة أي أكثر من 51 في المائة .

ومن ملامح الأزمة أيضا ارتفاع معدل البطالة بشكل كبير بين السكان , وقد أشارت الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد العاطلين عن العمل في نهاية عام 2001 زاد عن 2.5 مليون شخص , أي بنسبة 12.6 في المائة , وهي أقل بكثير من الواقع حسب آراء الخبراء الاقتصاديين .

ومن أخطر مظاهر الأزمة وصول التضخم إلى معدل قياسي تاريخي عام 2001 وهو 73 في المائة , وهكذا كان هناك طريق وعر للغاية ينتظر حزب العدالة والتنمية وهو على مشارف توليه السلطة في نوفمبر عام 2002 .

ولعل واحدا من مسببات الأزمة الاقتصادية في تركيا كان أجواء عدم الاستقرار في البلاد , والتنازع بين أطراف الحكومات الائتلافية , ومن هنا كان منطقيا أن تدعم جمعيات رجال الأعمال في البلاد تشكيل حكومة من حزب واحد , خاصة أن هذه الحكومة كانت جادة في إنهاء الأزمة الاقتصادية , وهو ما تحقق بالفعل , فقد وصل معدل النمو الاقتصادي في تركيا عام 2005إلى 9 في المائة , وانخفض معدل التضخم إلى 8 في المائة , وهو أقل معدل خلال ما يقرب من أربعين عاما , وقد وصل حجم الصادرات في العام ذاته إلى 70 مليار دولار , لكن حجم الواردات ارتفع أيضا إلى 110 مليارات في العام ذاته , وقد بقيت مشكلة البطالة هي الهم الذي يصعب الخلاص منه ؛ حيث بلغ المعدل الرسمي لها 10 في المائة عام 2005 , في حين تشير التقديرات غير الرسمية إلى أن هذا المعدل أقل من الواقع بدرجة ملحوظة . لكن في كل الأحوال فإن نجاحا باهرا قد تحقق بشهادات دولية معتمدة , حيث بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية 15 مليار دولار بحلول نهاية عام 2005 , وبلغ دخل تركيا من السياحة حوالي 20 مليار دولار , ولعل من ملامح التغير الجذري الذي لحق بالاقتصاد إلغاء ستة أصفار من أوراق العملات التركية مطلع عام 2005 , حيث اختفت الملايين المثيرة للسخرية , وعادت الليرة إلى الرقم الأحادي فالمليون أصبح ليرة واحدة , وهذا يعني الكثير بالنسبة للتضخم والقيمة الشرائية للعملة , كما انخفض معدل الفائدة ألى 14 في المائة بعد أن كانت 70 في المائة , وأصبح الاقتصاد التركي قادرا على امتصاص أية هزة تضربه مثلما حدث في شهري مايو ويونيو عام 2006 حيث تجاوز خطر الانخفاض المفاجئ في قيمة الليرة بنسبة وصلت إلى 17 في المائة .

وبعيدا عن الأرقام فإن الحكومة جعلت من نجاح الاقتصاد أولوية قصوى لها , وسعت إلى إبرام العديد من اتفاقيات التجارة الحرة مع العديد من دول العالم , وإلى جذب الاستثمارات الأجنبية , وخلق فرص استثمار , وإقامة مشاريع ضخمة في الخارج , فضلا عن تشجيع الصناعة بكل الوسائل الممكنة , وكان أحد دوافعها في الرغبة في موائمة هذا الاقتصاد للمعايير التي وضعها الاتحاد الأوروبي لنيل عضويته , صحيح أن هناك الكثير من المواطنين الذين لم يشعروا بالتحسن الهائل في الاقتصاد , إلا أن معظم الخبراء الاقتصاديين يقولون : إن حزب العدالة والتنمية حقق إنجازات اقتصادية لا يمكن تجاهلها , فضلا عن تبني سياسات واستراتيجيات مستقبلية ستضيف المزيد , مثل السعي لأن تصبح تركيا عالميا للطاقة بين مناطق عدة .

وبالقطع لا يخلو الأمر من اتهامات للحكومة , مثل الحملة التي شنها حزب الشعب الجمهوري على وزير المالية كمال أونكتان المقرب من أردوغان بدعوى الفساد في عام 2006 , لكن لم يثبت صحتها , فضلا عن الحديث الخاص بما يسمى الأموال الخضراء القادمة من إسلاميين في دول الخليج وأتراك محسوبين على التيار الإسلامي يعيشون خارج البلاد , خاصة في ألمانيا , وإعطاء الحكومة أفضلية في تعاملاتها الاقتصادية لرءوس الأموال الخاصة بالإسلاميين الأتراك , وهذا يبدو صحيحا , لكن لا يوجد ما يؤكد اقترانه بفساد أو مخافات قانونية , لكن حزب العدالة والتنمية يستند على قاعدة من رجال الأعمال ذوي الميول الإسلامية المنتشرين في أنحاء الأناضول من أصحاب رءوس الأموال المتوسطة والصغيرة , ووفقا للكاتب الصحفي أيهان تشمشك فإن الحزب ورث دعم هؤلاء عن حزب الرفاة , بعد أن أيقنوا أن التيار الإسلامي التقليدي الذي يمثله حزب السعادة الإسلامي حاليا دخل طريقا مسدودا , ولك يستطع الخروج منه حتى الآن في ظل ترصد الجيش ه، وإصراره على إقصائه بعيدا عن السلطة مهما كان الثمن.

وفي كل الأحوال فإن حزب العدالة والتنمية حقق منذ توليه السلطة إنجازات اقتصادية غير مسبوقة، مما جعل جماعات رجل الأعمال تدعم استمرار حكومته حتى في ظل اختلاف بعضها أيديولوجيا معه مثل "التوسياد" التي تجمع حشدا من أغنى أغنياء تركيا، وتتبنى الأفكار الكمالية المعروفة، وهذا أيضا يؤكد فكرة انتصار الاقتصاد على الأيديولوجيا، حيث أنعش الاستقرار السياسي على يد هذه الحكومة صناعتهم وتجارتهم، وحتى استثماراتهم خارج تركيا، وبالتالي تبنوا مبدأ: الإسلامي النافع أفضل من العلماني المضر.

الفصل العاشر

واشنطن ولعبة النموذج الإسلامي

أثبتت الأحداث أن العلاقات بين الولايات المتحدة وحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا – باعتباره نموذجا للأحزاب الإسلامية المعتدلة من وجهة نظر واشنطن – ليست بسيطة، بل تنطوي على مركبات عدة، وتحمل في جوانبها تناقضات لا يمكن تجاهلها، لكن الشيء المؤكد أن الطرفين يدركان أنهما يمارسان لعبة سياسة بعيدة عن ثنائية الأبيض والأسود، لأن هناك حسابات عدة تحكم الطرفين، ورغم ذلك فإن واشنطن لم تغسل يديها من فكرة النموذج الإسلامي التركي، بينما النموذج نفسه لا يزال يرى العم سام حليفا وخصما في آن.

الظواهر السياسية عادة ما تفسر ببداياتها، لكن التفسيرات الأعمق لابد أن تتطرق لما قبل البدايات ، وهذا هو الحال بالنسبة لحزب العدالة والتنمية الذي تم تأسيسه رسميا يوم 21 أغسطس 2001، وهو تاريخ يشير غلى عمر قصير للحزب، ورغم أن الحزب ينفي في خطابه المعلن كونه حزبا إسلاميا، بل ويؤكد قادته – وعلى رأسهم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ونائبه في رئاسة الحزب والحكومة وزير الخارجية عبد الله جول – أنهم لا يعتقدون باتساق كلمتي حزب وإسلامي بمعنى أنهم ضد إقحام الدين في السياسة، غير أن ممارسات الحزب أشارت إلى أن صفة الإسلامي، ليست غائبة عنه، وقد بدت في بعض الممارسات والمعارك السياسية، مثل الحجاب، ومصي خريجي مدارس الأئمة والخطباء الدينية ، ثم إنه لا يمكن تجاهل أن الحزب خرج من رحم التيار الإسلامي التقليدي في تركيا ممثلا في حزب الرفاة، ثم السعادة حاليا- كما سبق أن ذكرنا.

والعلاقات بين الولايات المتحدة وحزب العدالة والتنمية تعود إلى عهد الرفاة في حقبة التسعينيات، وفي هذا الإطار يقول الكاتب السياسي التركي ناصوحي جوجنور: إن الكثيرين من الكتاب والمؤرخين والسفراء والبيروقراطيين الأمريكيين بدءوا يشيرون إلى اسم واحد لقيادة الإصلاحيين الإسلاميين في تركيا هو أردوغان، حيث اعتبروه شخصية معاصرة، وبإمكانه قيادة تركيا منذ أن كان رئيسا لبلدية إسطنبول في الفترة ما بين عامي 1994، و1998، وأن الولايات المتحدة كانت قد تنبهت إلى صعود نجم أردوغان منذ الثمانينيات في إطار اهتمامها الكبير بتركيا ومستقبلها السياسي عندما كانت تعتبرها خط الدفاع الأول ضد اهتمامها الكبير بتركيا ومستقبلها السياسي عندما كانت تعتبرها خط الدفاع الأول ضد الاتحاد السوفيتي والشيوعية في منطقتي جنوب أوروبا والشرق الأوسط. ويشير جوجنور إلى أن ا لعلاقات الحقيقية بدأت بلقاء بين أردوغان والسفير الأمريكي الأسبق مورتن أيرام أوينز في أواخر الثمانينيات عندما كان أردوغان رئيسا لفرع الرفاة في منطقة "بيه أوغلو" في إسطنبول، ثم زار أوينز أردوغان مرارا عندما أصبح رئيسا لبلدية إسطنبول، حيث نقل له رسائل إيجابية من واشنطن، وكانت الزيارات تستغرق ساعات عدة، وتتم من خلال مترجم لعدم إجادة أردوغان أية لغة أخرى غير التركية، وحسب الكاتب فإن جوهر الرسائل التي تلقاها أردوغان هو: " أنت مهم لمستقبل تركيا في الأعوام المقبلة" ولتجنب الحرج فإن أردوغان كان يردد أن اللقاءات والرسائل هي باسم الحزب، ومن بعدها ظهرت ادعاءات بأن أردوغان هو ولي عهد نجم الدين إربكان أبي الأحزاب الإسلامية التركية ذي التوجهات المحافظة.

ويضيف جوجنور أنه بعد ذيوع أمر الاتصالات بين أردوغان وواشنطن بدأ الصراع يتفجر بين الأستاذ وتلميذه" وأخذ أردوغان يستعد لقيادة الإصلاحيين في الرفاة، بعد أن اتضح لهم بعد تجربة الانقلاب الأبيض الذي نفذه الجيش ضد إربكان في 28 فبراير 1998 أنه لا مستقبل في تركيا للأحزاب الإسلامية التي تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتحاول أسلمة كل مظاهر الحياة، ليس فقط بسبب موقف الجيش الذي يعتبر نفسه حارسا أبديا للمبادئ العلمانية للجمهورية حسبما أطلقها مؤسسها الزعيم مصطفى كمال أتاتورك للمبادئ العلمانية للجمهورية حسبما أطلقها مؤسسها الزعيم مصطفى كمال أتاتورك في حقبة العشرينيات من القرن الماضي، ولكن لأن النظام العالمي الجديد الذي بدأ يظهر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 والذي تقوده الولايات المتحدة لن يسمح بتحول تركيا إلى " غيران أخرى".

ويتابع جوجنور قائلا:" إن الخطوة التالية لأردوغان كانت عقد لقاءات مع زعماء الأحزاب السياسية للتشاور بشأن الحركة الإصلاحية، وقبل حوالي عام تقريبا من تأسيس الحزب زار أردوغان الولايات المتحدة، والتقى الشيخ فتح الله جولن زعيم الطريقة النورسية الذي يعيش في المنفى، وكان معارضا لإربكان وسياساته التي قادت إلى إبعاده من السلطة بعد تحالف مع تانسو تشيللر زعيمة حزب الطريق القويم، وقد حصل أردوغان على دعم وسائل الإعلام التي يمتلكها جولن، وتشمل صحيفة "زمان" واسعة الانتشار و "القناة الثامنة".

ووفقا لرأي جوجنور فإن واشنطن رأت منذ البداية أردوغان قريبا منها، ورغم أن خطوطه العريضة وأفكاره لا تتسق تماما مع مصالحها، لكن هو الأفضل لفكرة التصالح بين افسلام السياسي والديمقراطية.

ويقول الكاتب: إن تشكيل حزب العدالة والتنمية تم في إطار توافق إرادات متعددة، منها مؤسسوه، بالإضافة إلى بعض الأجنحة في الجيش من الجنرالات غير الراغبين في استمرار الصدام السياسي مع التيار الإسلامي المعطل للتقدم، والعائق أمام تحقيق الاستمرار، بالإضافة إلى الإدارة الأمريكية، وأطراف أخرى أقل تأثيرا مثل بريطانيا وإسرائيل.

وعندما حقق حزب العدالة والتنمية انتصاره الكبير في الانتخابات البرلمانية التي جرت في الثاني من نوفمبر عام 2002 وحصل على ما يقرب من ثلثي مقاعد البرلمان التركي البالغ عددها 550 مقعدا، استقبلت واشنطن الحدث التاريخي بترحاب كبير، وأبدى دبلوماسيوها في أنقرة تفاؤلا كبيرا بهذه النتائج، واعتبرت واشنطن أن الشعب التركي أزاح النخبة السياسية التقليدية وأتى بأخرى جديدة بعيدة عن الاتهامات بالفساد، كما نظر للحزب الحاكم الجديد على أنه الحل الوسط بين الإسلام والديمقراطية، وبالقطع كانت واشنطن تضع عينها على ما يمكن أن يقدمه الحزب وحكومته في الحرب على العراق التي كانت واشنطن قد أطلقت إشارات التمهيد لها في تركيا بالزيارة التي قام بها أحد منها مهندسيها الكبار وهو بول وولفريتز إليها في يونيو عام 2002، حيث كان الرجل الثاني في البنتاجون آنذاك، وقد أعطى أردوغان إشارات واضحة لواشنطن بدعمهما في الحرب، وتقديم التسهيلات العسكرية اللازمة لها بعد أن أبدى الجيش التركي موافقته على ذلك في أواخر 2002 وأوائل 2003 ، وعلى هذا الأساس استقبل الرئيس الأمريكي جورج بوش أردوغان في مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض في ديسمبر 2003 رغم أنه لم يكن يحمل أي منصب رسمي بعد حرمانه من الترشيح لعضوية البرلمان بسبب سجنه في قضية سياسية اتهم فيها بالتحريض على النظام العلماني عام 1999، وقد كان رئيس الوزراء آنذاك عبد الله جول الرجل الثاني في الحزب ورفيق أردوغان في الكفاح السياسي، وزاد بوش على ذلك بالاتصال بالزعماء الأوروبيين خلال قمتهم في بروكسل في نهاية ديسمبر عام 2002 لحثهم على منح تركيا موعدا لبدء انضمامها للاتحاد الأوروبي، وهو ما لم يثمر لكنه كان رسالة صداقة أخرى من بوش لأردوغان، وخلال الأسابيع التي سبقت بدء الحرب الأمريكية على العراق، بدا أن تركيا قد قبلت مبدأ السماح لعشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين باستخدام أراضيها في غزو العراق، وأنها تساوم واشنطن من أجل الحصول على أكبر ثمن مادي ممكن.

غير أن تصويت البرلمان التركي ضد مشروع قرار بالسماح لههذ القوات بالمرور في الأراضي التركية لغزو العراق، وانضمام حوالي 100 عضو من الحزب الحاكم إلى المعارضة في هذا الموقف قد أصاب واشنطن بمرارة لا زالت في الحلوق حتى الآن، رغم أن أردوغان نفسه أيد بقوة الانضمام لواشنطن في الحرب، لكن الجناح المحافظ في الحزب بزعامة رئيس البرلمان بولنت أرنج عاد إلى جذوره الإسلامية بتبني الرفض، ومن المثير أن إربكان قد بعث إلى نواب حزب العدالة – والكثير منهم كان من أتباعه في الرفاة- برسائل على أجهزة الهاتف المحمول تحذرهم من العقاب الإلهي إذا قبلوا ما وصفه " بدعم الكفار في قتال المسلمين" ، وأخذت واشنطن على أردوغان عدم ممارسته الضغوط الكافية على النواب لتمرير ما تريده، غير أن الرجل كان يدرك حساسية الوضع ، خاصة أن الرأي العام في تركيا كله كان معبأ ضد الولايات المتحدة.

والملفت أن أردوغان حاول الاستفادة من قرار البرلمان بإظهار مزايا الممارسة الديمقراطية، وعدم تجاهل رغبات الشعب، والحق أن الرجل – كما سبق أن أشرنا – لديه قدرة هائلة على القفز بين المواقف المتناقضة بدرجة تذهل من معه ومن ضده في آن واحد ، وحسب آراء بعض المراقبين.

ومن الواضح أن موقف الأول من مارس الفاصل قد جعل واشنطن تعيد النظر في فكرة النموذج، خاصة أن العلاقات مرت بمراحل توتر حتى زيارة أردوغان لواشنطن في مايو 2005 ، حيث ثبت لواشنطن أن أردوغان وحزبه يسايران قاعدتهم الشعبية الإسلامية المحافظة عند اللزوم، ويضحيان بفكرتي النموذج والصداقة لها، ظهر هذا في موجة الهجوم الشعبي والإعلامي على واشنطن بعد بدء الحرب على العراق، ونفس الشيء بالنسبة للعلاقات مع إسرائيل شهدت نفس المنحنى، حيث كال أردوغان الانتقادات لها بسبب الاعتداءات على الشعب الفلسطيني، خاصة وصفه إياها بتبني إرهاب الدولة بعد اغتيال زعيمي حماس الدكتور عبد العزيز الرنتيسي والشيخ أحمد ياسين في عام 2004 ، لكنه أعطى أشارات مغايرة للطرفين أيضا بقبول المشاركة في مشروع الشرق الأوسط الموسع المحوري بالنسبة لبوش، وتحويل تركيا إلى مركز للمؤتمرات واللقاءات الرامية لإغواء العرب والمسلمين بقبول هذا المشروع، ولعب دور عملي تركي في تنفيذه، فضلا عن التقارب مع إسرائيل تفاديا لأزمة ذات ثمن فادح يتمثل في انقلاب اللوبي اليهودي لها في الولايات المتحدة عليه.

ومما يستلفت الانتباه أن واشنطن ترسل من آن لآخر رسائل تهديد لأردوغان وحكومته كلما ترى أنه تمادى في دغدغة المشاعر الشعبية المعادية لها في تركيا، وقد ظهرت كتابات لكتاب وصحفيين أمريكيين ينتمون للمحافظين الجدد تتهجم على أردوغان وحزبه، مثل كتابات الباحث السياسي مايكل روبن صاحب مقال " الأموال الخضراء.. السياسة الإسلامية في تركيا" الذي نشر في مجلة ميدل إيست كوارترلي في مطلع عام 2005 واتهم فيه حكومة أردوغان باستخدام أموال إسلاميين متشددين من دول الخليج في إنعاش الاقتصاد التركي، وبتبني ممارسات إسلامية لا تعبر عن التوجهات الديمقراطية المعلنة للحزب، ولم يشأ روبن أن يمضي عام 2005 إلا بهجوم جديد على حكومة أردوغان وحزبه في مجلة " ناشونال ريفيو" مرددا نفس الأفكار عن تطرف الحزب، وضرب مثالا باتجاه الإدارات المحلية المنتمية له لفرض قيود على تعاطي المشروبات الكحولية، وحث روبن في مقاله الأخير الوسط السياسي في واشنطن على مواجهة أية محاولة لانتهاك القانون والدستور في تركيا، مشيرا إلى تزايد ممارسات الفساد في صفوف حكومة أردوغان.

وتقول الكاتبة التركية عائشة كرابات: إن واشنطن تريد تسييس الإسلام لصالحها، وقد تعاملت مع حزب العدالة والتنمية في هذا السياق ، بمعنى أنها تبحث غن الإسلاميين الأقل راديكالية وهي عندما طالبت بمنع حماس من المشاركة في الانتخابات الفلسطينية على سبيل المثال فإنها كانت تريد الضغط عليها لكي تصبح حركة سلمية، وتتخلى عن الطابع الراديكالي، وترى كرابات أن حزب العدالة والتنمية لا يصلح نموذجا للأحزاب الإسلامية في العالم الإسلامي كما تريد واشنطن، لأن تركيا دولة علمانية، ومن هنا نلحظ أن الحزب ضم ليبراليين ويمنيين لكي يبعد عنه شبهة الإسلامية.

وتخلص كرابات إلى القول أن واشنطن حاولت جعل هذا الحزب نموذجا، لكنها فجعت في بعض مواقفه، مثل قرار الأول من مارس 2003 وهم يدركون الآن الوجوه الأخرى للعبة السياسية الداخلية والخارجية، وهم لم يكونوا مدركين أن الحزب يضم تيارات متباينة.

وفي كل الأحوال يبدو أن اللعبة ستستمر بين واشنطن وحزب العدالة والتنمية حيث أصبح الطرفان يحفظان قواعدهما جيدا، وهي تتم في منطقة ما بين الصداقة المخلصة والعداء الدفين.

الفصل الحادي عشر

تركيا والعرب .. نهج يهزم الماضي

ثمة تساؤلات مهمة حول سياسات تركيا تجاه العالم العربي بعد تولي حزب العدالة والتنمية السلطة فيها، وأبرز هذه التساؤلات : ما هو العنوان الرئيسي للإستراتيجية التركية في التعامل مع العالم العربي؟ وما هي رؤية أنقرة لما يقرب بين الجانبين؟ والأهم هو: هل هي جادة فعلا في إقامة علاقات تعاون مع الدول العربية؟

وفي هذا السياق يقول الدكتور أحمد داود أوغلو كبير مستشاري أردوغان للشئون لخارجية لكاتب هذه السطور: إن تحليله للسياسة الخارجية التركية التي تضمن التعامل مع العام العربي يتمثل في أن هناك عمقين لهذه السياسة، الأول تاريخي، والثاني جغرافي، وأنه من الضروري أخذ العمقين في الحسبان عند وضع تفاصيل السياسة الخارجية، وحسب هذا التصور فإنه يجب أن تكون لتركيا علاقات قوية مع منطقة الشرق الأوسط الكبير الذي يشمل غرب آسيا وشمال أفريقيا، ومن ثم ضرورة تطوير العلاقات مع سوريا والعراق. ويضيف داود أوغلو: إنه عند النظر إلى التاريخ نجد أنه كان هناك تعاون بين مصر وتركيا، وبالنسبة لتريا فإن مصر دولة قائدة في العالم العربي، والعلاقات بين البلدين تتسم بديناميكية خاصة، ويخلص داود أوغلو إلى القول أن علاقات تركيا بالعالم العربي تكاملية وليست تنافسية، ويجب أن يكون هناك تعاون قوي بين الجانبين حسبما يفرضه التاريخ والجغرافيا. والحديث عن العلاقات التاريخية والجغرافية يقود كبير مستشاري الوزراء التركي إلى القول بأن هناك إمكانيات كبيرة لتطوير العلاقات خاصة على المستوى التجاري والاقتصادي.

وهذا الكلام يجعلنا نعود بالذاكرة إلى لقاء عقده أردوغان مع السفراء العرب بعد فوز حزبه في الانتخابات البرلمانية التي جرت في الثاني من نوفمبر عام 2002 ، حيث ركز على أن الاقتصاد هو مفتاح تطوير العلاقات العربية التركية، لأنه يقود إلى خلق مصالح مشتركة أهم من الحديث عن التاريخ والجغرافيا، إذا كان هذا الحديث مجرد كلام لا يؤدي إلى نتائج عملية حقيقية. وتشمل رؤية حكومة حزب العدالة والتنمية لتطوير العلاقات الاقتصادية مع العالم العربي الآتي:

أولا: زيادة حجم التجارة إلى مستويات كبيرة جدا خاصة مع سوريا والعراق وهما جاران لتركيا، حيث توفر الحدود المشتركة فرصة كبيرة لتسهيل انتقال البضائع على جانبي الحدود.
ثانيا: العمل على إقامة مشروعات استثمارية مشتركة سواء في تركيا أو الدول العربية، وهذا جانب آخر لخلق مزيد من التقارب.
ثالثا: تبادل الخبرات البشرية في المجالات المختلفة، وإقامة تعاون معرفي علمي بين الجانبين.

ويمكن فهم هذه التوجهات في إطار المصالح التركية، بغض النظر عن مدى ارتباطها بمشاعر أو أحاديث عن الأخوة، أو إطار العالم الإسلامي، دون أن يحمل الاهتمام بالمصالح نفيا للمشاعر أو الأخوة. وبالنسبة لعلاقات تركيا مع إسرائيل ومدى تأثيرها على التعاون العربي التركي فإن الخطاب السياسي للحكومة التركية يطرح الآتي:

أولا: أن تركيا لا تقيم محورا مع إسرائيل أو حلفا ضد العالم العربي، وإنما العلاقات التركية الإسلامية تهدف لخدمة مصالح أنقرة سواء الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية، دون أن تعني كلمة عسكرية هنا أية أهداف خارجية، ولكن تطوير قدرات تركيا العسكرية في حد ذاتها، وهنا تتساوى إسرائيل مع أي دولة أخرى تقيم تركيا معها علاقات تعاون في المجال العسكري.
ثانيا: أن العلاقات مع إسرائيل- مع اتسامها بالتعاون المستمر والدفء أحيانا – يمكن أن تخدم الاستقرار والسلام في المنطقة ، وأن أنقرة تكتسب صفة المقرب بين الطرفين العربي والإسرائيلي، أو الإسرائيلي والفلسطيني، والإسرائيلي والسوري بشكل أكثر تحديدا، من هنا جاء الطرح التركي بشأن القيام بدور المسهل بين دمشق وتل أبيب ن وأنه من الممكن تحويل هذا الدور إلى وساطة لإحياء عملية السلام على المسار السوري إذا توافرت الظروف الملائمة لذلك.

ويرى مسئول في وزارة الخارجية التركية أن الظروف مهيأة لتعاون واسع النطاق بين العرب وتركيا، خاصة مع اختفاء قلق العرب من مضمون العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وإدراكهم أن هذه العلاقات ليست موجهة ضد أي طرف ثالث. ويؤكد المسئول إن قائم سلام دائم واستقرار حقيقي في المنطقة التي يشترك العالم العربي وتركيا في الوجود بها أولوية بالنسبة لسياسة الخارجية التركية، وأن تركيا تعطي اهتماما كبيرا للتعاون مع العالم العربي، خاصة مصر ذات الدور المحوري في المنطقة.

والمتتبع لما ينشر حول العلاقات بين أنقرة والعالم العربي يتبين له الآتي:

الأمر الأول: أن هناك ارتياحا في الأوساط السياسية والشعبية لرد الفعل العربي تجاه قرار البرلمان التركي رفض السماح بنشر عشرات الآلاف من القوات الأمريكية في الأراضي التركية قبل الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد العراق، حيث كان هدف واشنطن أن تستخدم هذه الأراضي التركية لفتح جبهة شمالية ضد قوات الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، وما يعمق الارتياح أن الكثير من الأتراك ينظرون بفخر لهذا القرار من زاويتين:

الأولى: تحدي الولايات المتحدة – وهي القوة العظمى الوحيدة في العالم – وتفضيل الموقف الشرعي الأخلاقي على المصلحة الخاصة لتركيا، حيث إن دخول القوات الأمريكية من تركيا إلى العراق كان سيفتح الباب أمام نفوذ تركي هناك، ومشاركة في رسم مستقبل الدولة العراقية بعد الحرب حسب رؤية المحللين السياسيين الأتراك.

والزاوية الثانية: درجة الديمقراطية التي تنعم بها تركيا التي جعلت البرلمان يخالف توجه الحكومة التي كانت قد قررت أن تركب سفينة واشنطن بعد حسابات معقدة، ومواقف شائكة، وتأرجح بين أهداف متناقضة.

غير أن هذه الصفحة أصبحت من الماضي، وتجاوز الأتراك الفخر إلى التفكير في مصير العراق في الوقت الراهن، ويرى صانعو السياسة الخارجية التركية أن ما يجري في العراق يقرب بين تركيا والدول العربية، حيث هناك أهداف مشتركة للطرفين تتمثل في الآتي:

1- الحفاظ على وحدة وسيادة أراضي العراق ومنع تجزئته.
2- تجنب قيام حرب أهلية هناك بسبب اختلال موازين القوى بين أعراقه وطوائفه.
3- ضمان التوزيع العادل للثروة النفطية على جميع العراقيين.

وحسب الخطاب الذي يعبر عن صانعي السياسة الخارجية فإن إقامة فيدرالية على أساس عرقي في العراق هي الباب الذي يقود عدم تحقيق هذه الأهداف الثلاثة ، لأن مثل هذه الفيدرالية تكريس لقوة الأكراد وميولهم الانفصالية حسب رؤية أنقرة، وهي لا تريد أن تكون وحدها الرافضة لإقامة فيدرالية على أساس عرقي، وإنما يجب أن تنضم إليها الدول العربية ما دامت هناك أهداف مشتركة كما أسلفا.

والأمر الثاني: الذي يلفت الانتباه فيما يتصل بالعلاقات العربية التركية هو أن الأوساط السياسية التركية ترى أن الانفراجة التي حدثت في علاقات دمشق وأنقرة بعد زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى تركيا في شهر يناير 2004 هي المفتاح الثاني للتقارب العربي التركي.

وثالث الأمور التي يتوقف أمامها من يتأمل مفردات الخطاب السياسي الرسمي والحزبي أن تركيا يمكن أن تكون نقطة وصل بين العالم الإسلامي – وفي قلبه العرب – والعالم الغربي، سواء كان أوروبيا أو أمريكيا، أو الطرفين معا، خاصة بعد أ أصبحت قضية الإرهاب تحوز الاهتمام الأول على المستوى العالمي، وبدأت حملات منظمة لإلصاق صفة الإرهابيين بالمسلمين في كل مكان في العالم. وكثيرا ما أكد أردوغان ووزير الخارجية عب الله جول أن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي- وهو الهدف الأول لحكومة أنقرة الآن – سيساهم في التقريب بين العالمين المسيحي والإسلامي، فيما يمكن وصفه بالجسر الحضاري الذي يهيئ الفرصة لتصالح تاريخي وتفاعل ثقافي مستمر.

مجمل القول أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا يرغب في تعاون عميق مع الدول العربية، وأن يكون بين الطرفين ما يمكن تسميته صداقة المصالح المشتركة والتعايش في المنطقة، على أساس من المساواة والاحترام المتبادل، ودون أية هيمنة أو أنانية، فالخلافات تذهب، والحساسيات تتبخر، والشعارات تسقط، عندما يتحدث الطرفان العربي والتركي بلغة هذه الصداقة المثمرة، وفي هذه الحالة فإن الحديث عن الماضي نوع من الجنون.

الفصل الثاني عشر

معركة الرئاسة .. انفجار حرب الهوية

جاءت أزمة انتخابات الرئاسة في مايو 2007 لتفجر التعايش الهش بين القوى العلمانية وحزب العدالة والتنمية، حيث رفضت هذه القوى ترشح نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية عبد الله جول لمنصب الرئيس الذي كان على وشك الفوز به، بحجة ضرورة عدم السماح بدخول محجبة – وهي خير النساء زوجة جول – القصر الرئاسي الذي كان مقرا لأتاتورك مؤسس الجمهورية الذي أرغم نساء تركيا على نزع الحجاب، وكان لافتا تدخل الجيش ببيان قوي ضد ترشيح جول حتى وإن لم يتضمن اسمه، بحجة حماية القيم العلمانية للدولة، وخاض حزب العدالة والتنمية معركة وجود بالإصرار على مرشحه للرئاسة، بل وللمرة الأولى وجهت الحكومة انتقادات علنية للجيش الذي يقود الجنرال بشار بويك أنت الموسوم بالتشدد من جانب الإسلاميين والأكراد.

لقد انتهت المعركة بخسارة حزب العدالة والتنمية بعد سحب جول لترشيحه، إثر قرار من المحكمة الدستورية ببطلان الجولة الأولى من الاقتراع على جول في البرلمان بحجة عدم حضور نصف أعضائه لجلسة التصويت رغم عدم وجود نص دستوري أو قانوني، وكان يلزم جول بضعة أصوات ليس فقط لتوفير نصاب الجلسة، بل والفوز بمقعد الرئيس بعد أن صوت نواب حزبه الـ 353 لإصلاحه، ومن المهم قراءة وقائع هذه المعركة التي شملت أيضا مظاهرات ضخمة لأنصار العلمانية ضد الحكومة وحزبها بشكل صحيح، ولنبدأ بالمستوى الأول من التحليل، وهو ما يتعامل مع الوقائع المباشرة.

فقد كانت هناك توقعات بحدوث انقلاب عسكري في حالة عدم وقف انتخابات الرئاسة بالشكل الذي تم على يد المحكمة الدستورية التي تأثرت بموقف الجيش – كما اتضح للجميع – في حكمها الذي اتخذ طابعا سياسيا بامتياز.

فقد أخطأ من تصور أن تركيا كانت مقبلة على مثل هذا الانقلاب العسكري، كمحصلة للأزمة السياسية التي قاد الجيش ذو السجل الحافل في ضرب الإسلاميين، محافظين ومعتدلين، المعسكر العلماني فيها.

والمرجح أننا كنا أمام لعبة شد وجذب تحكمها حسابات واضحة من الطرفين بخلاف الضجيج الإعلامي في تركيا وخارجها حول خطورة الأزمة، بما صاحب ذلك من تحذيرات بعودة الماضي الذي حكمه نهج تصفية وإلغاء الآخر على الأقل من جانب الجيش، انطلاقا من أفكار وممارسات مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك المتمحورة حول مبدأ الإبعاد التام لتأثير الدين الإسلامي على الساحة السياسية في إطار مشروع تغريبي متكامل لم يكلل بالنجاح أو يعانق الفشل حتى الآن، بل إنه عمق صراع أزمة الهوية التي تعد محور حركة الأحداث المهمة في تركيا إضافة إلى المشكلة الكردية كما أسلفنا.

أزمة نعم.. ، لكنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، أزمة كبيرة أيضا نعم، لكن من صنعوها عرفوا كيف يخرجون منها عند اللزوم، وهذا تم بدعوة أردوغان لانتخابات برلمانية مبكرة، ولعل الخط الأحمر فيها هو عدم العودة بتركيا إلى وراء لم يعد موجودا أصلا، فتركيا تغيرت والعالم أيضا، ونهج الانقلابات بكافة ألأوانها الحمراء والسوداء والبيضاء أصبح في ذمة التاريخ، كما أن كل أطراف الأزمة كانت تدرك أن منطق " الصدام الوجودي" سيلحق أضرار بالغة بالمصالح العليا للبلاد إن لم يدمرها، وسيدفع الأتراك جميعا إسلاميين وعلمانيين ثمن عودة الماضي، ثمن كان يمكن أن ينال من قوت الشعب وحياته اليومية.

غير أن هناك من رأى أن ما حديث كان انقلابا من صنع الجيش أيضا لكنه انقلاب من النوع الخفيف أو غير المباشر، حيث كان لموقفه أثر في قرار المحكمة الدستورية بإلغاء الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة.

ومن المهم أن نستعرض مواقف كل طرف وأهدافه كما بدت في الأزمة حتى نفهم تفاعلاتها، فبالنسبة لحزب العدالة والتنمية لم يكن ترشيح نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية عبد الله جول لمنصب الرئيس اعتباطا، بل إن هناك ما يدعو للقول بأن تخطيطا سبق هذه الخطوة بكثير، حيث بدأ قبل أكثر من عام بالإصرار على إجراء انتخابات الرئاسة في موعدها، ورفض مطالب حزب الشعب الجمهوري الذي يقود المعارضة في البلاد بحل البرلمان والدعوة لانتخابات عامة مبكرة بهدف حرمان حزب العدالة والتنمية من ميزة تمتعه بالأغلبية المطلقة في البرلمان التي تقترب من الثلثين ( 353 من تجاهل رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء وزعيم حزب العدالة والتنمية هذه المطالب وفندها عندما دعت الضرورة بوضعها في خانة لمحاكمات السياسية التي لا تستند إلى الوجاهة والشرعية .

وخلال الأسابيع التي سبقت الانتخابات نجح أردوغان وحزبه في جعل مركز الانتباه مسألة ترشحه هو نفسه للرئاسة في ظل حالة من الغموض المثير حول هوية المرشح وبوصة تخمينات متصاعدة، وعندما أعلن أردوغان عن ترشيح جول كان قد استنفد طاقات خصومه في رفضهم لشخصه وبدا جول المعتدل بالقياس له في الصورة الذهنية الشائعة لهما قريبا لقبول غالبية الأتراك، بل وأطياف الساحة السياسية التركية.

ومن الواضح أن أردوغان كان يدرك من البداية صعوبة تقلده منصبا كان لأتاتورك نقيضه الأيديولوجي والسياسي وفقا لكل القياسات والحسابات، ويبدو أن الرجل كان يراهن على تحويل مسار المعركة من رفض دخول رمز إسلامي سياسي وهو الحجاب كما يرى العلمانيون إلى رفضه شخصيا، وكان من الممكن أن تسير الأمور كما أراد، لولا بيان الجيش الأخير الذي بدا تراجعا عن تعهد سابق للمؤسسة العسكرية بعدم التدخل في الانتخابات الرئاسية.

وثمة ما يشير إلى أن الجيش كان من الممكن أن يتقبل ترشيح جول، لو عزف جوقة الإعلام والعلمنة في البلاد، على نغمة دخول الحجاب قصر ومنزل أتاتورك مقابل تفاخر لا يمكن إخفاؤه من حزب العدالة وأنصاره بذلك، فضلا عن حديث البعض عن انتقام تاريخي للإسلاميين من أتاتورك ومريديه لقمعهم، وتحويل الحجاب إلى " محرم منبوذ من الدولة " تمثلت مظاهره في حظره في الجامعات والمؤسسات الحكومية.

وبغض النظر عن تغير مجرى المعركة باحتشاد العلمانيين لرفض جول، مضيفين أسبابا أخرى، مثل التوجس من استغلال حزب العدالة لمنصب الرئيس في خلق ما يصفونه بأسلمة أجهزة الدولة، بما لهذا المنصب من صلاحيات في تعيين شاغلي مناصب حساسة، فإننا لا نظن أن أردوغان ورفاقه كانوا بعيدين عن توقع ما حدث.

وفي تقديرنا أن رد الحكومة العنيف على تهديدات الجيش بالتدخل لمنع جول من الوصول للرئاسة ليس بمفاجأة، لأن " بلع" هذا التهديد يعني إظهار الحكومة وحزبها بمظهر الضعف والهوان وهو أمر لا يخدم مستقبلهما السياسي على الإطلاق الحكومة وحزبها بمظهر الضعف والهوان وهو مر لا يخدم مستقبلهما السياسي على الإطلاق ، خاصة أنه من الناحية الشرعية لا يحق للجيش التدخل في انتخابات الرئاسة.

واقع الأمر أن التصعيد خدم حزب العدالة، لأنه دعم مصداقيته لدى ناخبيه، وهم قطاع واسع من الأتراك يتراوح ما بين ثلثهم ونصفهم، ولعل من حسابات حزب العدالة أن وصول الأزمة لحد منع جول من تولى منصب يبدو أمره محسوما بالنظر إلى امتلاك الحزب الأغلبية البرلمانية اللازمة لذلك، ففي هذه الحالة التي دفعت البلاد إلى انتخابات عامة مبكرة، راهن الحزب على ثمار "تلبس" صورة الضحية بتصويت واسع له يمكنه من استمراره في السلطة لخمس سنوات أخرى.

ولا يخفى على المتابعين للشأن التركي أن حزب العدالة راهن أيضا على رفض الاتحاد الأوروبي لتدخل الجيش السافر في الحياة السياسية وهو ما عبر عنه بشكل شبه فوري بعد صدور بيان الجيش بشأن الانتخابات، ولعل حزب العدالة يدرك أن الاتحاد الأوروبي قد يطيح بحلم تركيا في ركوب قطاره السريع الفاخر، في حالة إصرار الجنرالات على العودة للعبة الانقلابات القديمة، ووقتها كان الحزب سيحمل العسكر مسئولية هذا التحول الخطير بعد أن قطعت البلاد شوطا كبيرا من الإصلاحات في ظل حكمه بما يمكنها من الإبقاء على هذا الحلم نابضا بالحياة على الأقل، بغض النظر عن الشكوك التي تساور الأتراك حول مدى تقبل الأوروبيين لهم ككيان ثقافي وديني وجغرافي مختلف عن مكونات القارة العجوز.

وربما كان الموقف الأمريكي من حسابات حزب العدالة أيضا، حيث رجح رفض واشنطن لعودة حليف لصيق إلى زمن الانقلابات والاضطرابات، وهو ما بدا على استحياء في تصريح لمسئول أمريكي.

وعامل الاقتصاد أيضا لم يغب عن حسابات حزب العدالة، حيث إن أي تطور درامتيكي قد يلقي البلاد في هاوية أزمة جديدة بعد التقدم الكبير الذي حدث لهذا الاقتصاد، وهنا تجدر الإشارة لرفض نخبة رجال الأعمال المتنفذين الممثلين في اتحاد "التوسياد" لأية تصعيد من العسكر أو غيرهم.

وثمة عوامل دعمت موقف الحزب في أزمة الانتخابات الرئاسية تتمثل في الآتي:

أولا: أن الحزب ظهر بصورة متماسكة في الأزمة، ولا ينال من هذا التماسك استقالة نائب في البرلمان من الحزب في أوج المعركة التي اشتملت على تهديدات صريحة للحزب من الجيش بكل ما له من جبروت في الانقلابات وفرض مشاريعه وأفكاره على الجميع، فهذه الاستقالة حدث معتاد في تركيا، وتنقل النواب بين الأحزاب ظاهرة متوطنة في الحياة السياسية التركية، بل إن ظهور أحزاب واختفاءها بأكملها من ملامح هذه الحياة.
ثانيا: اختارت قيادة الحزب نهج المواجهة أمام تهديدات الجيش وتحذيراته، وقد حمل هذا رسالة لناخبيه مؤداها أن الحزب قوي ومتمسك بمبادئه وأفكاره رغم الاتهامات التي كيلت له بتقويض الأسس العلمانية والديمقراطية وسط حالة استقطاب وفرز حاد للقوى السياسية والاجتماعية في البلاد.
ثالثا: تمحور معركة انتخابات الرئاسة حول الحجاب يضمن دعم قطاع واسع من الأتراك في بلد ما يقرب من ثلثي نسائه محجبات، فضلا عن أن غالبية الأتراك هم من المتدينين ، ومن المتوقع أن يركز الحزب في خطابه الانتخابي على فكرة تسلط الطرف الآخر العلماني على البلاد والعباد، وإصراره على حرمان الأغلبية من حق شرعي يتسق مع مبادئ الديمقراطية.
رابعا: مزج أردوغان زعيم الحزب بين الجرأة والحكمة في إدارته مع الجيش والقوى العلمانية، حيث انتقد الجيش علنا عندما هدد بالتدخل لمنع انتخاب جول رئيسا للجمهورية، وجاء الانتقاد بكلمات قوية وواضحة. وفي نفس الوقت تجنب اللجوء لخطاب تحريضي حتى لا يفاقم الأزمة، مدركا طبيعة دور رئيس الوزراء، وعندما وجه خطابا للأمة كانت فكرته الرئيسة ضرورة تمسك الأتراك بالوحدة الوطنية، ولم يتحدث لشعبه من منظور طرف في الأزمة له مواقفه وحساباته، فهو رئيس حكومة تركي قبل أن يكون زعيما للحزب الحاكم.
خامسا: تجنب الحزب الاستقواء بالاتحاد الأوروبي علنا، حتى لا يضعف مكانته في الساحة ا لسياسية، وإدراكا منه للروح القومية السائدة للأتراك وحساسيتهم تجاه مبدأ الاحتياج لطرف خارجي، بغض النظر عن أن موقف الاتحاد الأوروبي الرافض لتدخل العسكر في الحياة السياسية هو أحد أوراق الحزب في الأزمة.
سادسا: تجنب الحزب السقوط في مواجهة شارع العلمانيين بسلاح المظاهرات الخطير، وقد منع الحزب كوادره وأنصاره في إسطنبول م النزول لهذه الشوارع خشية انزلاق البلاد إلى حالة من الفوضى تخصم من رصيد الحكومة وتمنح الجيش فرصة مجانية ذهبية لفرض سطوته المباشرة على الدولة والمشهد السياسي بأكمله.

أما الجيش فقد كان له حساباته المختلفة، فهو لم يرد أن يترك لحظة تاريخية تمر دون تسجيل موقفه كحام للقيم العلمانية للجمهورية الأتاتوركية، وقد مارس التهديد لعل حزب العدالة يتراجع خوفا من معركة كسر عظم يبدو هو الأضعف فيها بالقياس للجيش المتحالف ضمنا مع القضاء والأحزاب العلمانية التقليدية.

كما أن تعثر عملية التحضير للانضمام للاتحاد الأوروبي غير المتحمس لقبول تركيا أضعف من شأن حساب العامل الأوروبي في الصراع، يضاف إلى ذلك الشرخ الذي ضرب علاقات واشنطن بحزب العدالة منذ رفض البرلمان السماح بفتح جبهة ضد العراق انطلاقا من الأراضي التركية قبل غزوه في مارس عام 2003.

ومن حسابات الجيش أن تهديده بمنع انتخاب جول رئيسا حمل في طياته تأثيرا كبيرا على القضاء، خاصة أن المحكمة الدستورية قبلت دعوى حزب الشعب الجمهوري بإلغاء الانتخابات بحجة عدم حضور ثلثي أعضاء البرلمان الجولة الأولى للتصويت في البرلمان، وفي هذه الحالة قد تجنب الزج بنفسه في مواجهة تلحق ضررا بالغا بصورته وبالبلاد – كما أسلفنا.

مجمل القول إننا كنا أمام معركة محسوبة من جميع الأطراف حتى وإن انطلقت من حزب الهوية التاريخية، لكن التحليل الإجرائي لما تم لا يعنينا من نظرة أعمق، فمن أعراض الخلل والرجعية السياسية في المنتج الأخير للتجربة التركية، استخدام حزب الشعب الجمهوري والنخبة العلمانية للشارع بحشد مئات الآلاف من الأتراك للاعتراض على فعل ديمقراطي هو انتخاب رئيس من حزب يمتلك الأغلبية التي تؤهله لذلك، والمؤسف أن المشاركين في التظاهرات حتى لو بلغ عددهم المليونين كما ادعى منظموها، يمثلون الأقلية وليس الأغلبية، وكان بإمكان حزب العدالة والتنمية استنساخ المشهد الأوكراني بتسيير مظاهرات مماثلة، وربما أكبر حجما وأعلى صوتا، وأكثر رايات وشعرات، لكنه آثر عدم تحويل الشارع لساحة معركة سياسية، خشية عدم السيطرة عليه، كما أنه تجنب تحويل نفسه للآخر المحدد من قبل العلمانيين وهو المناهض لمبادئ الدولة المعادي للعلمانية. ومهما قيل في سياق تهويلات خطابية مستهلكة فإن صور الأعلام الحمراء ذات الهلال والنجمة الأبيضين في شوارع إسطنبول لا يمكن أن تغتصب مكانة الأغلبية، فحسب استطلاعات أشرفت عليها مؤسسات أوروبية، فإن خمسة وستين في المائة من الأتراك متدينون يمارسون فرائض الإسلام، وذات النسبة تقريبا من النساء محجبات، وكما قال على برداك أوغلو رئيس إدارة الشئون الدينية التابعة للدولة، فتركيا ليست ميداني " تقسيم" و " كيزلاي" وهما الأشهران في إسطنبول وأنقرة.

تركيا الأخرى يقدر عدد أنصار الطرق الصوفية فيها بالملايين، وعدد مرتادي المساجد أكبر بكثير بالقياس للمترددين على الملاهي، بغض النظر عن انحياز الجيش والقضاء والإعلام لثقافة الأقلية، التي يضعفها تمترسها وراء الدبابة والسطوة الأبوية لأتاتورك. وهذا بعيد تماما عن روح وقواعد اللعبة الديمقراطية- كما يرى المراقبون.

لقد كانت معركة كبيرة، ويبدو أن تركيا تنتظر المزيد.

الخاتمة

تجربة لم تنضج بعد

بعد كل ما سبق فإننا أمام تجربة جديدة من المبكر الحكم على نجاحها الكامل أو سقوطها في فخ الفشل، حيث لا تزال تواجه الكثير من العواصف الداخلية والخارجية، وإذا كنا قد وصفنا هذه التجربة بالثورة البيضاء ، فإنها ليست في حالة مناعة من الثورة المضادة.

وهناك عوامل عدة تحكم مدى اتجاهها إلى الرسوخ أو مدى التلاشي، أبرزها الاقتراب أكثر من الحكم الأوروبي أو الابتعاد عنه، وكيفية التصدي للمشكلة الكردية المزمنة، والأوضاع الاقتصادية، ونحسب أن هذه هي العوامل الثلاثة الأكثر تأثيرا في مستقبل تركيا بشكل عام.

لكن لا يمكن تجاهل أخرى مثل احتمالات التقلب في مزاج الرأي العام، وقدرة المعارضة على إعادة رص صفوفها، وقضية الفساد في صفوف الحكومة، سواء بجانبها السلبي المتمثل في تكشف العديد من فضائحها مستقبلا، أو الإيجابي ، ثانيا قدرة الحزب على مواصلة تمثل صورة النقاء السياسي في مواجهة الانهيار الذي لحق بالنخبة القديمة وأحزابها.

وهناك أخيرا عامل الصراع مع الجيش الذي تظهر إشارات على ميله إلى التشدد بعد انتهاء حقبة قيادة الجنرال حلمي أوزكوت وتولي الجنرال بشار بويك أنت لها.

ونحسب أن حزب العدالة والتنمية قد خلق قاعدة شعبية قوية سيسحب لها العسكر ألف حساب عند تفجر قضايا قد تقودهم إلى العودة لأساليب الصراع القديمة مع الإسلاميين القدامى، كما أن قيادة أردوغان للحزب عامل آخر مهم لاستمرار قوته على الساحة السياسية، حيث أثبت الرجل أنه قادر على النجاة من مخاطر عدة، ومواصلة حشد التأييد الجماهيري لمبادئ وأفكار الحزب، بما في ذلك اللعب على أوتار الجذور الإسلامية عند اللزوم، وتلبس الوجه الديمقراطي في ذات الوقت.

غير أنه يخطئ من يتصور أن الحزب قادر على إخراج تركيا من مشاكلها المزمنة ذات الإطار الجغرافي والتاريخي والجيويوليتكي المعقد خلال مدة قصيرة، خاصة أن هذه المشاكل هي التي أعطت تركيا خصوصيتها وتميزها.

ويبقى أيضا مدى محافظة هذه الثورة الصامتة البيضاء على أبنائها، وتجنب الآثار السلبية لهيمنة أردوغان على الحزب، وفي كل الأحوال لا توجد إجابات بسيطة على أسئلة شديدة التعقيد ( والمشكلة الكردية تحمل في طياتها كل مشاكل تركيا).

والأهم أن الاتحاد الأوروبي يريد حلا لهذه المشكلة، ويمارس ضغوطا على أنقرة لدفعها لإعطاء الأكراد مزيدا من الحقوق، لأنه لن يقبل أن يركب التمييز العرقي والتخلف والفقر والجهل والمرض، وهي ظواهر يعاني منها الأكراد، في أقطار الأحلام المتجه إلى القارة العجوز. أيا كان الأمر فعلينا أن ننظر أكثر لنرى تبلور تجربة الثورة الصامتة في تركيا التي يلتصق التناقض بكامل صوره في تفاعلاتها الداخلية والخارجية .

المؤلف

- عبد الحليم غزالي.

- من مواليد محافظة أسيوط في 28/ 10/ 1963.

- حاصل على بكالوريوس إعلام من جامعة القاهرة عام 1985.

- يعمل صحفيا أول في غرفة الأخبار بقناة الجزيرة القطرية منذ عام 2006.

- يعمل صحفيا بالأهرام منذ عام 1988.

- قام بمهام عدة كمراسل متجول لصحيفتي الأهرام والخليج الإماراتية، أبرزها في أفغانستان وباكستان والجزائر والعراق وقبرص وأذربيجان وأوزبكستان والولايات المتحدة ولبنان.

- عمل مراسلا للأهرام في تركيا لمدة 4 سنوات في الفترة بين عامي 2002 و 2006 .

- صدر له كتاب بعنوان " طالبان العمائم والمدافع والأفيون" في عام 2000 / وديوان شعر بالعامية المصرية في عام 2004 تحت عنوان " ندهة حنين".

- نشرت له أبحاث ومقالات في العديد من الصحف والدوريات العربية والتركية.