الإسلاميون الأتراك .. الانقسام على المشروع
بقلم : حسام تمام
محتويات
- ١ مقدمة
- ٢ أيهما يمثل الحركة الإسلامية؟
- ٣ بدايات الحركة
- ٤ الصناعة نقطة الانطلاق
- ٥ نهوض ثم انهيار
- ٦ لا للتبعية الغربية
- ٧ اتحاد الثمانية الكبار
- ٨ على طريق غاندي
- ٩ جذور الانقسام
- ١٠ "العدالة والتنمية" .. نسخة مناقضة
- ١١ تنازلات بلا حدود
- ١٢ في أحضان الاقتصاد الغربي
- ١٣ الاتجاه بالسياسة غربا
- ١٤ استسلام للمعادلة الدولية
- ١٥ المصدر
مقدمة
حين وقع الخلاف داخل الحركة الإسلامية التركية وانقسم حزبها (الفضيلة وارث حزب الرفاه الذي تم حله) إلى حزبين منفصلين هما "السعادة" و"العدالة والتنمية"، اختلط الأمر على كثير من المراقبين، بل وأبناء الحركة الإسلامية خارج تركيا نفسها، الذين حسب غالبيتهم أن ما جرى هو مجرد خلاف في وجهات النظر في التعامل مع النظام العلماني، أو ربما تنزيل لمشروع الحركة الإسلامية في أكثر من كيان تنظيمي، بل ذهب كثيرون من أبناء الحركة أو تمنوا أنه ربما كان تكتيكا متفقا عليه بين قيادات الحركة للهروب من العلمانيين والعسكر الذين كانوا قد قاموا بانقلاب على زعيم الحركة الإسلامية نجم الدين أربكان أسقطه من رئاسة الوزراء، وحل حزبه، ومنعه من ممارسة السياسة.
أيهما يمثل الحركة الإسلامية؟
لم يكن الالتباس حالة الجماهير وحدها، بل تعداها إلى قيادات الحركة الإسلامية في العالم الذين لم يستطع معظمهم اتخاذ قرار حاسم في تحديد أي الحزبين والمجموعتين يمثل الحركة الإسلامية أو الأقرب إليها، وكان الحسم صعبا؛ فحزب السعادة يحظى برعاية ودعم نجم الدين أربكان الأب الروحي للحركة الإسلامية التركية، فيما يضم العدالة والتنمية أبرز رموز جيل الشباب الذين قادوا الحركة حينا من الدهر، وفي مقدمتهم رجب طيب أردوغان وعبد الله جول، وزاد من صعوبة الأمر أن التلامذة نجحوا في الوصول إلى السلطة بعدما أحرزوا انتصارا تاريخيا غير مسبوق، وشكلوا الحكومة منفردين ودون أية منافسة حقيقية. فصارت لهم شرعية إنجاز لا تقل أهمية عن شرعية التاريخ التي لجماعة أربكان.
لم أكن ممن تفاءلوا بأن الموضوع برمته نوع من المراوغة التي يجيدها الإسلاميون الأتراك، ولكن أعترف أنني وقعت في خطأ التهوين من قدر الانقسام الذي حدث، فظننت أنه ربما نتيجة لخلافات تنظيمية سببها الاختلاف بين طبائع الشباب والشيوخ، أو تباين وجهات النظر في منهجية التعاطي مع حصار العلمانيين للحركة، أو حتى الاحتجاج على أسلوب القيادة الأبوية المهيمنة للزعيم أربكان صاحب الكاريزما الاستثنائية. وكنت أحسب أنه خلاف يسعه المشروع الواحد، وأن الإخوة الأتراك قرروا ألا يدخلوا السياسة من باب واحد وإنما من أبواب متعددة، لكن اقترابا أكثر وزيارات متعددة ولقاءات مباشرة مع الأطراف المختلفة أكدت بما لا يدع للشك مجالا أن الذي جرى فراق من غير رجعة، وأن الخلاف في أصل المشروع.
بدايات الحركة
للوقوف على أصل الخلاف يجب العودة إلى المشروع الأساس للحركة الإسلامية التركية الذي وضعه المهندس نجم الدين أربكان، زعيم حركة الإسلام السياسي في تركيا مواليد أكتوبر (1926) ، ومؤسس أهم حركاتها: حركة الرأي الوطني (مللي جورش) عام 1969. وهو المشروع الذي يسميه أربكان "النظام العادل".
لم يكن نجم الدين أربكان مجرد زعيم إسلامي يبحث عن تطبيق حرفي لنصوص الشريعة وقواعد الأخلاق، فهو يمكن أن ينظر إليه – بحق – كحبة في عقد أوشك أن ينقرض من زعامات حركة الاستقلال الوطني في بلدانهم، وإن كانت خلفيته الإسلامية أوضح من أن تخفى في معقل العلمانية الكمالية ذات الحساسية المفرطة لأي شكل من أشكال الإسلامية.
كان أربكان – وهو في طريقه يلتقي مع الماليزي مهاتير محمد – صاحب مشروع كبير يطمح لبناء دولة تتجاوز في الدور والمشروع حدودها، وتلتقي مع مجالها الجيوستراتيجي الحقيقي حيث ملتقى البحرين، بحر التاريخ والجغرافيا، وبحور أخرى ترفد من حاجز أوربي يقيم سدا عنيدا أمام الأتراك دون غيرهم، ولا يعدم في ذلك الذرائع. وأحيانا من إستراتيجية عالمية تعمل على أن تظل المنطقة في مرمى النيران الإستراتيجية للقوى العالمية المهيمنة فلا يأتي اليوم الذي تخرج فيه من فلكها.
الصناعة نقطة الانطلاق
كان مشروع أربكان يعتمد أساسا فكرة بناء قاعدة صناعية ضخمة، تجعل تركيا دولة صناعية كبرى تقف على قدم المساواة مع الكبار وتعلو بها، وألا تلعب دور الاقتصاد الخادم الذي يقتات فقط من المنح والعطايا أو البقشيش - التيبس - الذي تحصله من صناعة السياحة والخدمات وهي صناعات هشة ومتقلبة! كان بهذا التصور يسعى لفك هيمنة الرأسمالية العالمية على بلاده، في الوقت الذي بلور مشروعا سياسيا مكملا يقوم على أن توجه تركيا الذي ينبغي أن تسير فيه لتصبح دولة عظمي مستقلة يجب أن يكون ناحية الشرق وليس الغرب الذي تعلق عليه النخبة التركية الآمال.
بداية المشروع الأربكاني كانت مع شرخ شبابه، فأربكان الحاصل على الدكتوراه من جامعة أخن الألمانية في هندسة المحركات عام 1956م عمل أثناء دراسته في ألمانيا رئيسا لمهندسي الأبحاث في مصانع محركات "كلوفز - هومبولدت - دويتز" بمدينة كولونيا. وقد توصل أثناء عمله إلى ابتكارات جديدة لتطوير صناعة محركات الدبابات التي تعمل بكل أنواع الوقود، وحين عاد إلى بلاده كان أول ما عمله ولم يزل في عامه الثلاثين تأسيس مصنع "المحرك الفضي" هو ونحو ثلاثمائة من زملائه، وقد تخصص هذا المصنع في تصنيع محركات الديزل، وبدأت إنتاجها الفعلي عام 1960م، ولا تزال هذه الشركة تعمل حتى الآن، وتنتج نحو ثلاثين ألف محرك ديزل سنويا.
لقد كان لدى أربكان وعي مبكر بأهمية بناء اقتصاد وطني قوي ومستقل، واهتم مبكرا بالأنشطة التجارية والاقتصادية حتى نظر إليه في عقد الستينيات وقبل أن يدخل حلبة السياسة باعتباره أحد أعمدة الاقتصاد التركي، وقد كان من أوائل من تبنوا مبدأ ضرورة تواجد الإسلاميين في النشاط الاقتصادي حتى لا يقتصر على العلمانيين والماسون، فلم ينته عقد الستينيات حتى تكونت كتلة قوية من رجال الأعمال المسلمين، تنافس بقوة في المجال الاقتصادي الذي كان يهيمن عليه رجال الأعمال الماسون والعلمانيين.
نهوض ثم انهيار
شهدت حقبة السبعينيات دورا ملموسا من مهندس المحركات أربكان لتشجيع الصناعة الوطنية حين كان وزيرا ونائبا لرئيس الحكومة بولنت أجاويد، واستكمله بعدد من المشروعات أسسها أو احتضن أصحابها مثلما فعل مع مجموعة الشباب الذين أسسوا اتحاد رجال الأعمال والصناعيين المستقلين (موصياد) عام 1990م كاتحاد مقابل للتجمع العلماني الممثل في جمعية رجال الأعمال (توصياد).
وحين تولى رئاسة الوزراء بعد فوز حزبه "الرفاه" في الانتخابات البرلمانية عام 1996م، اعتبرها نجم الدين أربكان الفرصة السانحة لقطع المسافة الأكبر في تحقيق مشروعه، خاصة في جانبه السياسي، من خلال الإسراع في وتيرة التوجه شرقا على كل المستويات وتبنيه لفكرة تأسيس مجموعة الثمانية الإسلامية الكبار، التي تضم أكبر ثمان دول إسلامية يراها بداية تحالف اقتصادي إسلامي عملاق يمكن أن يغير الوضع العالمي، ويخرج بالعالم الإسلامي من أسر الهيمنة العالمية.
لكن ما حدث أن مشروع أربكان كان رغم أهميته قفزة تفوق كثيرا طاقته بل وطاقة بلاده السياسية، كما كان من الخطر بما لم يكن لتسكت عليه دوائر النفوذ والهيمنة العالمية، فحدث الانقلاب العسكري الصامت، وأسقطت وزارة نجم الدين أربكان في يونيو 1997م، ثم صدر قرار المحكمة الدستورية في نوفمبر من العام نفسه بحل حزبه "الرفاه"، ومنعه من العمل السياسي.
لا للتبعية الغربية
في زيارة أخيرة لتركيا التقيت نجم الدين أربكان ضمن تجمع من المثقفين والمهتمين بالتجربة التركية، ودار بيننا نقاش طويل أتبعته بمقابلة خاصة شرح فيها الرجل رؤيته لمشروع "النظام العادل" الذي يبشر به.
يميز نجم الدين أربكان بين ما يسميه بالنظرة الإسلامية وبين النظرة الغربية للعالم، ويري أن هناك فروقا كبيرة تجعلهما نقيضين لا يلتقيان، ويعتقد أن أهم ما يجب على تركيا فعله هو ترك التبعية للغرب والعودة مجددا للعالم الإسلامي الذي يمكن أن تتولى قيادته فيما ستبقى تابعة وذليلة إذا ما أصرت على أن تبقى متوجهة للغرب.
لدى أربكان موقف عدائي للصهيونية العالمية التي يراها مسئولة عن كل مصائب العالم وكوارثه، وتقترب رؤيته لليهود مما ورد في بروتوكولات حكماء صهيون، إذا يرى أن الصهاينة وأعوانهم مسئولون عن إفساد العالم عبر ثلاث وسائل: الحروب (ويرى أن 11 سبتمبر عمل صهيوني لخدمة إسرائيل)، والأفكار المرذولة (مثل أفلام هوليود)، والأنظمة السياسية والاقتصادية الدولية التي تسيطر عليها (مثل: الأمم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدولي).
ويؤمن أربكان بأن هناك تحالفا وثيقا بين الصهيونية والرأسمالية العالمية الفاسدة أدى إلى حصار عالمي على المسلمين، بحيث يتم التحكم في كل تعاملات العالم الإسلامي لتصب - في النهاية - في مصلحة إسرائيل.
اتحاد الثمانية الكبار
ويرى أربكان أنه ليس بإمكان تركيا أن تقيم منفردة تجربة نهضة، بل لابد من أن تكون ضمن مشروع عالمي شامل يعتمد على الإسلام، ولابد أن يؤثر في شكل العالم ليصبح أكثر عدلا، ويدعو الرجل إلى ما يسميه مؤتمر "يالتا الثاني" الذي يجب أن يؤسس لعالم جديد يتجاوز الظلم الذي تسبب فيه تحالف الصهيونية مع الرأسمالية.
يبدأ مشروع النظام العادل الذي تبناه أربكان بتأسيس اتحاد بين الدول الثمانية الإسلامية الكبار (تركيا – مصر – إيران - نيجيريا – باكستان – أندونيسيا – بنجلاديش - ماليزيا)، وهو ما وضع بذرته حين تولى رئاسة الوزراء بتأسيس قمة الثمانية الكبار، على أن يتحول هذا ليكون نواة لتجمع الستين دولة الإسلامية في منظمة واحدة تضمها، يمكن أن تسمى بمنظمة الأمم المتحدة للدول الإسلامية.
وامتدادا لذلك، فمن المفترض أن يتبنى المشروع تأسيس منظمة للتعاون الدفاعي المشترك بين الدول الإسلامية على غرار حلف الأطلسي (الناتو)، ومنظمة لسوق إسلامية مشتركة على غرار الاتحاد الأوربي، والاتفاق على وحدة نقد مشتركة (الدينار الإسلامي) بدلا من التعامل بالدولار، وتأسيس منظمة للتعاون الثقافي للدول الإسلامية على غرار اليونيسكو.
على طريق غاندي
بالرغم من اليوتوبيا التي يقوم عليها مشروعه فإن أربكان ليس هو الثائر الحالم الذي يجري وراء عواطفه من دون حساب، كما أنه ليس الانفعالي الذي قد يضطر إلى العنف، فالرجل طوال عمره لم يلجئه التضييق والاضطهاد إلى العنف أو الخروج على النظام. وقد يصح النظر إلى أربكان كصاحب مشروع انقلابي ولكن على الهيمنة الغربية الرأسمالية على العالم.
حين استفسرت عما إذا كان انقلابيا جديدا، أوضح أربكان أن مقاومته سلمية مثل غاندي، وهي تقوم على مقاطعة النظام الاقتصادي الظالم الذي تتحكم فيه الرأسمالية الغربية المتوحشة، وهو متأثر جدا بنموذج غاندي الذي انتصر على بريطانيا بماعز واحدة؛ شرب لبنها ولبس صوفها مدة ستة أشهر، إذ كان هذا دلالة على قدرته على الاستغناء عن الغرب، وفي النهاية اضطرت بريطانيا إلى القبول بمطالبه. إنه مشروع للتخلص من أسر الاستهلاكية الغربية لإنجاز تحرر حقيقي. ويرى أن العنف لا يجدي، وأن الرصاص الحقيقي الذي يؤثر في الغرب هو التحرر من قبضته وإقامة "النظام العادل".
سعى أربكان لتطبيق هذا المشروع في كل مراحل حياته، ولما وصل إلى السلطة كان لابد أن يخرج منها إذ لم تكن تحتمله المعادلة السياسية ليس فقط في تركيا بل - وهذه هو الأهم - في العالم الذي تتحكم به توازنات دولية لم تكن لتسمح لأربكان ونظامه العادل بالاستمرار، فأسقطت حكومة أربكان، وحل حزبه، ومنع من العمل السياسي، ثم بدأت الحكومات التالية عليه في إلغاء كل ما قام به طوال فترة وزارته، وخاصة مجموعة الثمانية الإسلامية التي تواطئ الجميع على تجميدها ثم إفراغها من مضمونها.
جذور الانقسام
مع انقلاب العسكر في نوفمبر 1997 بدأ الخلاف ومن ثم الانقسام داخل الحركة الإسلامية التركية (مللي جورش)، حيث ثار التساؤل: هل نبقى على مشروع النظام العادل أو الأربكانية الذي تسبب في الانقلاب؟ أم نبدأ تفاهما مع القوى الكبرى الأمريكية والغربية التي بيدها كل أوراق اللعبة بالمفهوم الساداتي؟ (هل هناك وجه شبه بين التجربة الأربكانية والتجربة الناصرية؟!).
لقد دخلت الحركة طريقا طويلا للمراجعات تمايز فيه تياران: الأول يمثله المقربون من أربكان والقادة التاريخيين للحركة، والثاني يمثله الجيل الأصغر سنا والأكثر برجماتية، والذي واجهه أربكان بشدة ظهرت بانحيازه السافر لرجله المقرب رجائي قوطان ضد عبد الله جول في المنافسة على رئاسة حزب الفضيلة (فاز قوطان بصعوبة وبدعم من أربكان). استمر الخلاف أربع سنوات تقريبا، وحين جرى حل حزبها الجديد الرابع (الفضيلة)، خرج الخلاف إلى العلن وانفصل التيار الثاني (الشباب البرجماتيين)، وأسسوا حزبا مستقلا (العدالة والتنمية)، فيما أسس القادة التاريخيون حزب (السعادة) الوارث الحقيقي للمشروع الأربكاني، مشروع النظام العادل.
"العدالة والتنمية" .. نسخة مناقضة
لن نتوقف طويلا عند ملابسات تأسيس حزب العدالة والتنمية وما أحاط به من اتهامات قاسية من قبل القادة التاريخيين للحركة الإسلامية، والتي وصلت إلى حد الاتهام بالعمالة لأمريكا وإسرائيل، والادعاء بأن الورقة التأسيسية للحزب قدمت للسفارات الأمريكية والإسرائيلية والبريطانية قبل أن تقدم للدولة التركية، مثل هذه الاتهامات تبدو على قسوتها متوقعة في الحركات الأيديولوجية التي كثيرا ما تعمد إلى تخوين مخالفيها والخارجين عليها.
لكننا سنتوقف عند معالم المشروع الذي يطرحه حزب "العدالة والتنمية"، والذي سيظهر- عند التحقيق - على النقيض تماما من مشروع الحركة الإسلامية الأم في نسختها الأربكانية.
مباشرة وقبل أن يحصل الحزب على وضعه القانوني أكد قادة "العدالة والتنمية" أنهم خلعوا عباءة الحركة الإسلامية (مللي جورش)، وأن حزبهم هو حزب يميني محافظ لا صلة له من قريب أو من بعيد بـ "الإسلامية"، ولم يتوقف الأمر عند التصريحات التي يمكن أن تكون موضوعا للشك أو المرواغة فقد اتبع الحزب سياسة مخالفة تماما ليس لما كانت عليه الحركة بل ولأي حزب يمكن أن يكون له من "الإسلامية" نصيب.
تنازلات بلا حدود
في المجال الديني الذي كان دائما نقطة الضعف قدّم "العدالة والتنمية" تنازلات مؤثرة هربا من تهمة "الإسلامية" التي تلاحقه، فأبقى على الحظر المفروض على طلاب مدارس الأئمة والخطباء من دخول الكليات العلمية والنظرية، وأبقى على الحظر المفروض على دخول المحجبات في الجامعات، وكان أقصى ما فعله رئيس الحزب رجب طيب أردوغان أن أرسل بابنتيه للدراسة في أمريكا، بل إن الحزب أرسل في تقريره للمفوضية الأوربية لحقوق الإنسان نفيا قاطعا لأن تكون قضية الحجاب موضوعا لانتهاك حقوق الإنسان، وصرح نائب رئيس الوزراء بأنها لا تمثل مشكلة إلا عند 1.5% من الشعب التركي!.
ووافقت حكومة العدالة والتنمية على مطالب الاتحاد الأوربي بإسقاط العقوبات القانونية في حق الزنا، حيث كان فعلا مجرما بنص القانون التركي، أكثر من هذا فقد صدرت ترجمات للقرآن الكريم أسقطت فيها الآيات التي تتحدث عن الجهاد أو اليهود والنصارى. إن مسلسل التنازلات يلخصه ما قاله عبد الله جول - الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية -: "لقد انهارت حضارتنا الإسلامية، ولابد من تغيير قيمنا تبعا للواقع الجديد"!.
أما في الملف الاقتصادي الذي قال الحزب أنه سيكون محور تركيزه بعيدا عن الجدل الديني، سنلاحظ أن الحزب تبنى سياسة اقتصادية تقوم على الإدماج التام لتركيا في الاقتصاد العالمي، وربطها بقوى الرأسمالية الغربية الكبرى دون أية مساحة للاستقلال أو حتى المناورة، ربما نجح الحزب في رفع معدل النمو الاقتصادي وتثبيت سعر صرف العملة الوطنية (الليرة) التي كانت في انهيار مستمر، وربما أعاد للاقتصاد التركي بعضا من الاحترام الذي أهدرته الحكومات السابقة، فأفقدت العالم الثقة فيه، لكن الثمن كان غاليا.
في أحضان الاقتصاد الغربي
لقد ربطت حكومة "العدالة والتنمية" تركيا وإلى غير رجعة بمراكز الهيمنة الغربية التي أنعشت الاقتصاد التركي، ولكن جعلته هشا خاضعا بالكلية لدوائر النفوذ والمال في الغرب، تشير المؤشرات إلى أن 65 مليار دولار من حجم تعاملات البورصة لمستثمرين غربيين، وكلها أوراق مالية لا صلة لها بالاستثمار الحقيقي، وهو ما يهدد الاقتصاد التركي بتكرار تجربة جنوب شرق آسيا أو انهيار النمور الآسيوية في حال رغبة بعض كبار المستثمرين في فعل ذلك.
كما أن 70% من ودائع البنوك التركية هي ودائع غربية، تدفع عليها البنوك التركية فوائد هي الأكبر من نوعها في أوربا (تصل 15 %)، ولن نتوقف طويلا عند قضية الفوائد من الناحية الشرعية بعدما أكد طيب أردوغان أنه لا مفر من الفوائد لبناء الاقتصاد، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع حجم ديون البلاد من 221 مليارا قبل خمس سنوات إلى 383 مليارا.
ورغم ارتفاع معدلات النمو في الاقتصاد التركي في فترة حكم العدالة والتنمية والتي انعكست على شعور المواطن التركي معها بالاستقرار، إلا أنها لم تعكس تحسنا في وضع هذا المواطن بقدر ما ذهبت ضحية سوء توزيع الدخل؛ بسبب هيمنة رجال الأعمال الذين امتصوا هذا النمو، وهو ما يمكن أن نفهمه من الإحصاءات الأخيرة التي نشرتها مجلة فوربس عن أغنى أغنياء العالم، حيث ارتفع عدد المليارديرات الأتراك في السنوات الخمس الأخيرة إلى 24 مليارديرا بدلا من 6 فقط قبل حكم العدالة والتنمية.
الاتجاه بالسياسة غربا
أما في السياسة، فقد تراجع رجب طيب أردوغان عن خط التوجه شرقا (جوهر مشروع أربكان)، بدعوى أنه يسبب الاستقطاب الدولي، فجمّد مشروع الثمانية الإسلاميين الكبار، وأدخل تركيا في أوثق تحالف لها مع الولايات المتحدة بهدف دعمه في مشروعه البديل (اللحاق بقطار الاتحاد الأوربي).
لقد قبل أردوغان مشروع الشرق الأوسط الكبير بكل تفاصيله، بل أعلن دعمه الكامل له وسعيه لتنفيذه، حتى صار يعرف بعرّاب مشروع الشرق الأوسط الكبير، وتحرك في المنطقة لدعم المشروع، بحيث صار أحد أهم الوسطاء لترويج السياسة الأمريكية في المنطقة. لقد تبرعت حكومة العدالة والتنمية بعرض توصيل مياه نهري دجلة والفرات إلى إسرائيل وليس دول الجوار فقط (سوريا والعراق وإيران)، كما سمح بفتح موانئ تركيا وشواطئها لقبرص الجنوبية نزولا على إرادة الاتحاد الأوربي.
حتى والبرلمان التركي يعلن رفضه عبور الطائرات الأمريكية الأجواء التركية لضرب العراق عام 2003م، كانت حكومة حزب العدالة والتنمية صاحبة الأغلبية فيه تسمح فعليا للقوات الأمريكية بضرب العراق سواء من قاعدة أنجرليك أو ميناء الإسكندرونة.
استسلام للمعادلة الدولية
حين تناقشت مع بعض الصحفيين والباحثين الأتراك - ومنهم أعضاء في حزب العدالة والتنمية أو مؤيدون له - في هذا التحول في المشروع وسردت عليهم هذه الوقائع والأرقام، لم يتقبلها البعض ولكن اتفق الجميع على أنه لا يصح قراءتها بل وقراءة التجربة كلها إلا في ضوء تعقيدات الوضع التركي والعالمي.
فليس بإمكان حكومة العدالة والتنمية الدخول في صدام قانوني ودستوري مع القوى العلمانية من أجل قضايا المحجبات أو طلاب مدارس الأئمة والخطباء، ومن الأفضل إنجاز تعديلات عامة في قضايا الحريات يمكن أن تؤدي في النهاية إلى مناخ مناسب مستقبلا لطرح القضايا المتعلقة بالحريات الدينية.
ثم إن بلدا مثل تركيا ليس باستطاعته تبني سياسة الاستقلال عن النظام الاقتصادي العالمي، سواء فيما يتصل بالعلاقة مع المراكز والمؤسسات الاقتصادية العالمية كصندوق النقد الدولي أو الشركات العالمية، أو فيما يتصل بأسس التعاون الاقتصادي العالمي، كما أن الحكومة تبنت بالفعل سياسة الانفتاح الاقتصادي على العالم العربي وآسيا وأفريقيا، ولكن من دون أن تربط هذا الانفتاح بخطاب سياسي أو بشعارات دينية أو قومية، بل بالمصلحة الاقتصادية البحتة.
كما أن المعادلة الدولية الحالية تجعل من المستحيل على تركيا أو غيرها تبني سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة، فضلا عن أن تكون معارضة لها أو ساعية لعمل تحالفات ضدها، وحتى الدول التي تبنى أربكان التعاون معها (الثمانية الإسلامية الكبار) هي دول غير مستقلة في إرادتها السياسية، وتكاد تكون خاضعة تماما للولايات المتحدة. والأفضل فهم التحركات الدبلوماسية التي تقوم بها حكومة العدالة والتنمية باعتبارها تهدف إلى إعادة هيبة تركيا وثقلها في المعادلة الإقليمية والدولية حتى لو بدت لاعبا محسوبا على الإدارة الأمريكية، وأنها مع التزامها التحالف الأمريكي إلا أنها تسعى لتحسين شروط هذا التحالف بما يحقق المصلحة الوطنية التركية.
هذه صورة للمشهد الإسلامي التركي عن قرب، قد يبدو فيها كثير من الغموض لكن الشيء المؤكد فيها أننا بإزاء رؤيتين مختلفتين، بل وربما متناقضتين أيا ما كانت المبررات أو السياقات التي تحكم تجربة كل فريق، فالخلاف بين الأربكانية والأردوغانية يتجاوز التعددية في المشروع الواحد إلى الانقسام من دون رجعة.
صحفي وباحث مصري
المصدر
- مقال:الإسلاميون الأتراك .. الانقسام على المشروعموقع:الشبكة الدعوية