الإخوان و سفينة جدي
كان جدي هو سيد البحار بلا منازع , كان اشهر واعظم صيادي البحر , وكانت لديه سفينة كبيرة يعيش بها هو وابنائه , وكانت تصل بهم الى اعالي البحار , فيتزودون بخيرات لا يصل لها اي صياد آخر , فكانوا هم أكابر البحر .
عاش أبي وأعمامي في سفينة العائلة أعواما عديدة و كانت تجمعهم كحضن دافئ , وتعلو بهم كمنارة عظيمة , تربوا فيها جميعا على العزة والكرامة , و كانت سفينتنا تسمى سفينة العزة , وظللنا على ذلك الحال زمنا طويلا , حتى تزوج ابي وتزوج اعمامي وتقاسموا بينهم غرفات السفينة , فكان نصيب كل منهم واحدة من الغرف , يعيش فيها هو اولاده واسرته , ثم مات جدي سيد البحار ,.
وبدأت من بعدها الخلافات تدب بين أبي وأعمامي , وتشاحنوا كثيرا وتباغضوا كثيرا , ولم يتفقوا قط على وجهة واحدة تتجه لها السفينة , فتوقفت السفينة على الشاطئ , ولم تبحر إلى أي مكان , وصارت كل السفن تتقدم في أعالي البحار وتحصل على خيرات البحر , بينما نحن في مكاننا لا نبرحه , حتى وصلنا لمرحلة في غاية الضعف والهوان , وهنا تجرأت علينا كل السفن الأخرى , حتى تقدم أحد قراصنة البحر واشهر سارقي السفن , فاستولى على سفينتنا , ولكي يضمن ان يظل ابي واعمامي على خلافهم وضعفهم قام بفصل غرف السفينة بعضها عن بعض , وقام ببناء حوائط أسمنتية عظيمة بين الغرف , .
واقنعهم انه يجب ان يظل كل واحد منهم داخل غرفته يدافع عنها ويحميها ويبعد عنها بقية إخوته , وينسى تماما أمر السفينة , فيظل ذلك القرصان متحكما في دفتها , ومسيطرا على شباكها , و تصبح كل خيرات السفينة له , .
ومن بعدها يقوم بتوزيع ما بقي منه من الفتات على أبي وأعمامي , وبقيوا هكذا سنوات عجاف , حتى جاء اليوم الذي استطاعوا فيه بفضل كفاح ابنائهم أن يطردوا ذلك القرصان , ويحرروا السفينة منه , ومع ذلك ظلت السفينة على حالها مقطعة و مقسمة غرفاتها فيما بينهم , .
ولأنهم لم يتفقوا مرة على توجيه دفة السفينة نحو الجهة التي يريدونها , مازالت السفينة رابضة على الشاطئ , وجميع السفن من حولهم تروح وتتقدم وتمتلئ بالخيرات ,.
وظللت الوحيد بين إخوتي احلم بتوحدنا ثانية في سفينتنا كي نستطيع أن نبحر بها ونتقدم إلى أعالي البحار , فعقلي لم يقتنع للحظة ان تلك الحوائط والحدود التي وضعها ذلك القرصان يمكن ان تفصلني عن باقي أفراد عائلتي , فانتمائي هو لكامل سفينتنا والتي بدونها لن نتقدم شبرا واحدا داخل البحر , ولفرط حبي لسفينتنا اتهمني إخوتي أنني لا أحب غرفتنا , وأني لا أنتمي لها بقدر إنتمائهم هم لها ... .
مع أن مشاعري أنا هي الأكبر والأسمى , فأنا مؤمن أن قيمة غرفتنا لن تعلو سوى بعلو شأن سفينتنا وإنتمائنا جميعا لها ...
وأنا شأني كشأن ملايين من المصريين تربيت في صغري على يد أفراد من جماعة الإخوان المسلمين , حتى وإن لم أكن جزء منهم حينما كبرت , إلا أنني أعترف بفضلهم علي , فقد تشربت على أيديهم حب الدين والأخلاق و عرفت قيمة الوطن وتعلمت حبه والتضحية من أجله , .
ولأن تلك الجماعة كان هدف مؤسسها في الحياة هو خلق مجتمع مسلم قوي وامة إسلامية عظيمة تقود العالم , هذا العالم الذي لا يعترف بالآحاد , ولا يلقي بالا للمنبوذين والفرقاء , ولا يحترم سوى الكيانات القوية والكبيرة , فقد تربيت على أن إنتمائي دوما هو لأمتنا الإسلامية الكبرى ... تلك السفينة التي منذ أن تم تقطيعها غرفا , لم تبحر شبرا واحدا في البحر , .
واصبحت في ذيل الأمم , و أرى أنني أحب غرفتنا وأنتمي لها أكثر من باقي إخوتي , ولأني أحبها كثيرا , أريد أن تصبح لها قيمة ومكانة في هذا العالم , وهي لن تصبح كذلك سوى إن كانت جزءا من سفينة عظيمة , أو بيتا فسيحا ..إن حالي هذا كحال كل الإسلاميين في مصر وعالمنا العربي , جميعنا يحب غرفته كثيرا بل أكثر من باقي إخوته , ولكنه يدرك جيدا معنى كلمة بيت وقيمة الإنتماء له .
شاهدت في صغري أحد الأفلام التسجيلية والتي كانت تحكي قصة لمجموعة أطفال في مدرسة بريطانية , يتعلمون فيها درسا عن الإنتماء , وبدأت المعلمة ترسم على السبورة دوائرا متداخلة , وكتبت في أول دائرة اسم المدرسة التي يدرس بها الأولاد وفي ثاني دائرة اسم المقاطعة التي بها المدرسة , ثم في ثالث دائرة كتبت اسم البلدة , وفي الرابعة : كتبت بريطانيا , وفي الخامسة كتبت قارة أوروبا وفي السادسة كتبت : كوكب الأرض , وذكرت للأطفال أن تلك الدوائر هي دوائر إنتماءاتهم ..
فبينما يتعلم الأطفال في العالم كله أنه يجب توسيع دوائر إنتماءاتنا وإعلاء غايتنا , نصر نحن في دولنا العربية أن نتقوقع داخل بلداننا , وننشغل بدواخلنا وننكفئ على ذواتنا , فأصبح العالم جميعه يتحرك ومازلنا نحن في مكاننا , إن ذلك الجدل العقيم والأحمق , وتلك التهمة الظالمة والباطلة لجماعة الإخوان المسلمين بعدم حبهم لوطنهم مصر ..لابد لها أن تنتهي , و لابد أن يتصدر خطابنا الإعلامي عقلاء بلادنا وليس السفهاء والمعاتيه , لابد أن يتعلم ابنائنا في مصر من مختلف التيارات والتوجهات والأديان .. ما هي دوائر إنتماءاتهم ??
فهم ينتمون اولا للحي الذي يسكنون فيه ثم لمدينتهم ثم لمحافظتهم التي يعيشون بها ثم لجمهورية مصر العربية ثم لقارة إفريقيا , ثم للعروبة , ثم بعد ذلك لحضارة عظيمة قادت العالم قرونا مديدة , حضارة تستوعب الكون كله , وتقوم على أسس دين يسمى دين الإسلام , وكل الدول التي يحكمها ذلك الدين العظيم تدخل في نطاق أمة تسمى الأمة الإسلامية ,.
ثم بعد ذلك تأتي دائرة العالم كله , ولا بد أن يعي ابنائنا أن تلك الأمة الإسلامية التي ننتمي لها يمكنها أن تستوعب وتحتضن وتجمع كل الحضارات الأخرى والأديان المختلفة والأعراق المتنافرة , لأن ذلك الدين الذي يحكمها إنما هو كتالوج إلهي , ( مانفيستو ) وضعه الصانع بنفسه , وهو الأدرى طبعا بشأن صنعته , إنه الإسلام , كتالوج البشرية ومنهاج حياتها لتعيش في أحسن حال على كوكب الأرض , هذه هي داوئر إنتماءاتنا الكبرى والتي تزيد من حبنا لبلادنا ..وتعلي من شأنها ..حيث يصبح حبي لوطني : مصر أو سوريا أو فلسطين أو المغرب أو تركيا , إنما هو حب ينبع من عقيدة راسخة , وتصبح مشاعري تلك دين أتعبد به إلى الله وانتظر منه وحده الجزاء عليه , بل وتجعلني افتدي وطني بروحي , فإسلامي يعدني بالجنة إن مت في سبيل الوطن ..
هذا هو الفارق بيني وبين من يتشدق بحب مصر وهو يريد أن يحولها إلى غرفة صغيرة وينتزعها من سفينتها الكبرى , والتي بدونها لن تبرح شبرا واحدا في بحر تلك الحياة .
المصدر
- مقال:الإخوان و سفينة جديموقع:نافذة مصر