الإخوان المسلمون وتنظيم القاعدة
- إعداد
نعيم التلاوي
- إشراف
الدكتور وليد العريض
محتويات
- ١ المقدمة
- ٢ الجزء الأول: جماعة الإخوان المسلمين
- ٣ الجزء الثاني تنظيــــــم القاعـــــــدة
- ٤ الخاتمة
- ٥ = قائمة الوثائق والمصادر والمراجع
المقدمة
مفارقات التاريخ
على الضفاف الغربية لقناة السويس، وبين منتصف المسافة بين مدينتي بورسعيد والسويس، تأسست الإسماعيلية أحدث المدن المصرية، في عهد الخديوي إسماعيل وحملت اسمه، وكانت البداية مع افتتاح قناة السويس التي تربط بين البحرين الأحمر والمتوسط في 16/11/1869. وتأسست المدينة لتكون مركزا لشركة قناة السويس العالمية للملاحة. ومع حلول الإنجليز في مصر انقسمت المدينة، اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، بين ما يعرف بالحي العربي البائس والحي الغربي الراقي، وظلت المدينة تحمل نفس سمات التمايز إلى يومنا هذا.
قبل ثمانون عاما تقريبا شهدت هذه المدينة ميلاد جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928. وفي بضع عقود تلت؛ توسعت الجماعة، بسهولة ويسر، وتشكلت شُعَبها محليا، وفروعها إقليميا إلى أن صارت كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة، والساعية إلى تمثيل مصالح الأمة ابتداء من طرد الاستعمار وتطبيق الشريعة وإقامة الحكم الإسلامي وصولا إلى استعادة الخلافة الضائعة بوصفها نظام حكم للمسلمين ومرجعية تنظم مختلف شؤون حياتهم.
وفي شبه القارة الهندية، وكما فعلت بالعالم العربي، أسست بريطانيا، الدولة المستعمرة للهند، لبذور سايكس – بيكو من نوع مختلف، فقسمت ظهر الهند؛ الدولة شبه الإسلامية، إلى قسمين، انفصل بموجبه أغلب المسلمين فيما عرف بباكستان سنة 1948، قبل أن ينقسم هؤلاء إلى قسمين أيضا هما باكستان الغربية التي تحولت إلى باكستان وباكستان الشرقية التي غيرت اسمها، فيما بعد، إلى بنغلادش إثر حرب السبعين من القرن العشرين. ورغم كل الانقسامات والمسميات الجديدة ظلت مدينة بيشاور كبرى المدن الباكستانية في الشمال الغربي، كما هي في عمق التاريخ، وعلى عكس الإسماعيلية، مفتاحا للغزاة والأباطرة القادمين من الشرق والغرب وحتى من الشمال الأوروبي، ورحىً للحروب والمحاربين في حلِّهم وترحالهم، ومدخلا للعبور إلى أفغانستان، البلاد الشهيرة المسماة، إعلاميا وسياسيا، بمقبرة الإمبراطوريات.
وفي بيشاور ثمة كل الأعراق من البشتون والفرس والهنود البنجاب والطاجيك وكل الطوائف الإسلامية والفِرَق. هؤلاء الذين عركتهم الحروب كلما حلت بين ظهرانيهم على مدار التاريخ حتى صارت جزء من حياتهم وثقافتهم، وخبروا صراع الحضارات، لم يتوانوا عن زراعة الزهور التي باتت إحدى السمات الإنتاجية للمدينة. وحين الغزو السوفياتي لأفغانستان سنة 1979 حصدت بيشاور زهورها ووزعتها على المتطوعين العرب والمسلمين الذين قدموا من شتى أنحا العالم دفاعا عن أفغانستان ونصرة لها، فكانت المدينة المحطة الأولى والمأوى الآمن في حلهم وممرا لعبورهم، ذهابا وإيابا، إلى أفغانستان.
لم يكن أحد يعلم أو يتخيل أن هذه المدينة احتضنت وأنجبت بجهد إخواني «متمرد»، في الواقع، نواة ثاني أكبر الحركات الإسلامية في العالم إلى جانب الإخوان المسلمين. ولم يكن هؤلاء ولا غيرهم ليتصوروا للحظة بأنهم سيكونون، بفعل جهد بعض رموز الإخوان أمثال الشيخ عبد الله عزام وأفكار الجماعة من حسن البنا إلى سيد قطب، على موعد قريب مع ولادة أشرس عدو إسلامي للغرب والقوى المحلية، وأشد الخصوم لهم منافسةً في استقطاب الأنصار، وأول الساعين إلى تجنيد الأمة وتغيير الواقع بالقوة المسلحة بعيدا عن مناهج الإصلاح الوادعة أو أساطير الصوفية الخرافية أو انقلابات حزب التحرير أو «إتيكيت» التبليغ والدعوة أو عبر أولياء الأمور أو حركات التحرر وأيديولوجيات اليسار واليمين وغيرها.
علامات فارقة وتوترات متصاعدة
حين غزت القوات السوفياتية أفغانستان (1978-1989) كان قد مضى على تأسيس الجماعة خمسة عقود كاملة. وكانت الجماعة بالكاد بدأت تخرج من أزماتها الطاحنة مع السلطات المصرية منذ أواخر الحكم الملكي إلى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر مطلع السبعينات من القرن العشرين، لكنها نأت بنفسها عن كل التيارات الجهادية الصاعدة داخل مصر وخارجها. وبدت أميل إلى السكون كما يقول فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وابتعدت عن أي نشاط من شأنه أن يثير غضب الدولة وأجهزة الأمن عليها، ومع ذلك فلم تنج من المضايقات والاضطهاد كالاعتقالات العشوائية والمنظمة بين الحين والحين رغم أن أغلب فروعها في دول أخرى تعيش في بحبوبة من أمرها إلا في أماكن محدودة كتونس وسوريا.
شكل الجهاد الأفغاني الأول في مرحلته الأولى ملاذا لحشود كبيرة من الإسلاميين في شتى أنحاء العالم. وكان تصدر الشيخ عبد الله عزام لقيادة هذه الحشود وتوجيهها أثره على الجماعة التي شعرت بالإحراج بسبب تهربها من الواقع، ومن الأسئلة الحرجة فيما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي أو بتطبيق الحاكمية (= تطبيق الحكم الشرعي). وفي المقابل واصلت الغرق في المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعمل الخيري. وبعد اغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات في السادس من تشرين أول/أكتوبر سنة 1981 بدأ الكثير من أفراد جماعات الجهاد المصرية والعربية بالهجرة إلى أفغانستان طالما أنها لا تستطيع حمل الجماعة على الجهاد في فلسطين رغم أنها على مقربة من دولة اليهود فيها.
وصارت الجماعة تدرك، أكثر من أي وقت مضى، أنها تتعرض لاستنزاف في مبررات وجودها وشكوك في حقيقة أهدافها ونواياها، فما كان من بعض رموزها، وعلى رأسهم شيخ الجماعة في اليمن عبد المجيد الزنداني، إلا مساندة الجهاد الأفغاني، لكن قلّما شاركت الجماعة أو عناصرها في قتال هناك، مفضلة التركيز على الإغاثة وجمع التبرعات واستطلاع الأوضاع. وما أن توارى الكابوس السوفياتي وعاد «الأفغان العرب» إلى أوطانهم حتى تنفست الجماعة الصعداء.
بعد اغتيال الشيخ عبد الله عزام في 24/11/1989 في بيشاور، وابتداء من العام 1996 بدأت المرحلة الثانية من الجهاد الأفغاني في ظل حكم حركة طالبان التي أعلنت عن قيام إمارة أفغانستان الإسلامية. وفي هذه الأثناء كان أسامة بن لادن قد قطع شوطا طويلا في تأسيس القاعدة إلى أن تطورت الأمور بتحالف عقدي مع جماعة الجهاد المصرية بقيادة أيمن الظواهري. ثم ما لبث التحالف الجديد أن أعلن عن تشكيل تنظيم جهادي عالمي باسم: «الجبهة الإسلامية العالمية لمحاربة اليهود والصليبيين سنة 1998». ومثّل هذا الإعلان أول تشكيل إسلامي علني مسلح بعد انهيار نظام الخلافة الإسلامية آخذا على عاتقه تبني مصالح الأمة ضد ما أسماه بقوى العدوان الصائلة في الجزيرة العربية وبلاد المسلمين، والعمل على تحرير البلاد الإسلامية من أيدي اليهود والصليبيين ابتداء من إندونيسيا وانتهاء بالأندلس.
هنا بالضبط كانت العلامة الفارقة بين تنظيم القاعدة وجماعة الإخوان المسلمين. ففي بضعة سنين استطاعت القاعدة، عبر فكرة عولمة الجهاد، أن تقدم أطروحة بديلة عن الفكرة الإصلاحية لدى الإخوان المسلمين، وأن تجد لها من يتبناها في الأمة على نطاق واسع حتى صارت لدى الكثيرين نهج حياة وإيمان. فمن جهة عزمت القاعدة على تجييش الأمة الإسلامية ضد القوى الأجنبية أو مَنْ تعتبرهم «طواغيت» العرب والعجم، ونقل المعركة من الأطراف إلى المركز كما يقول عبد الله النفيسي، عبر هجماتها الكبرى ضد المصالح الأمريكية والغربية ورموز القوة في عقر ديار الغرب. أما الإخوان المسلمين، من جهتهم، فقد غلب عليهم طابع الانكفاء المميز، وهو يؤثر « مبدأ السلامة العامة» على أي استعداد لقبول التحدي الذي تفرضه القاعدة وإجمالي التيار السلفي الجهادي أو ما يُعرف بـ « الجهاد العالمي». لذا فقد تميزت العلاقة بين الجانبين بالتوتر والتشكيك والطعن وكيل الاتهامات المتبادلة إلى حد المواجهة المسلحة في بعض المناطق كأفغانستان والعراق والصومال وأخيرا في قطاع غزة.
السؤال المشكلة
ما بين «الإسماعيلية» و« بيشاور» ثمة فروق جوهرية في تاريخ النشأة والمعتقد ومناهج التغيير لدى كل تيار، وثمة واقع مختلف في الكينونة والأداء، لكن الأهداف، في المحصلة، متماثلة، والمتابع لشأن السلفية الجهادية لا يلحظ توترات ذات شأن يذكر بينها وبين حزب التحرير، مثلا، والذي يلتقي معها في الحاكمية والخلافة ويفترق عنها في المنهج، ولا مع أية جماعة أخرى، رغم اختلافها مع كل الجماعات جذريا على مستوى العقيدة والمنهج، مثلما هو الحال مع الإخوان المسلمين. وقد يمكن التوصل، عبر البحث، إلى ضبط أغلب التوترات، لكن السؤال الكبير الذي نطرحه ونشعر أنه يستحق الإجابة هو: هل يوجد في عقائد الإخوان ومناهجهم ما يبرر التوتر والصدام أكثر مما يبرر التوافق؟ أو: هل المشكلة بين الجانبين كائنة في عقائد ومناهج كل منهما؟ أم في الأداء؟ وأخيرا أين تكمن مؤشرات القوة والضعف لدى التيارين؟
دوافع الاختيار وأهميته
قد تبدو الإجابة على مثل هذه التساؤلات يسيرة حين التصدي لها بالبحث. لكن إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين قد صدرت بحقها، على امتداد عقود، الكثير من الدراسات والأبحاث والمذكرات والسير والحوارات العميقة؛ سواء من داخل الجماعة أو من خارجها أو ممن هجروها؛ فالثابت أن أغلب الباحثين والمراقبين نأوا بأنفسهم عن استهداف التيار السلفي الجهادي بالدرس، وفي مقدمته القاعدة، إلا من بضعة متخصصين أو ممن شاركوا في الجهاد الأفغاني. وربما يعود السبب، في ذلك، إلى حداثة الظاهرة كتنظيم وسرعة صعودها كفكرة في غضون عقد من الزمان على الأكثر، والأهم من ذلك الظروف الأمنية التي تحيط بالتيار من كل جانب بما يكفي لإعاقة أية محاولة في الاقتراب منه، وبالتالي إبقائه على خياراته هو باعتباره تنظيما خفي المعالم وإنْ كان ظاهر الأطروحة.
هذا الجانب الخفي في تاريخ التيار السلفي يشكل، في الحقيقة، رغم حساسية الموضوع خاصة إذا ما تم ربطه بالإخوان المسلمين، فرصة ثمينة ومادة مغرية للباحث، ودافعا قويا في اختيار الموضوع الذي لا يمكن أن تكون دوافع التصدي له تقليدية كالرغبة في إثراء المكتبة أو سد الفراغ العلمي رغم أهمية مثل هذه الدوافع فيما يتعلق بالقاعدة.
أما إذا كان من الواجب التوقف قليلا عند أكثر المبررات إثارة فلا ريب أن المسألة تستحق العناء طالما ظل تنظيم القاعدة الشغل الشاغل للقوى العالمية والمحلية لجهة هوية التنظيم حقيقته، وواقعه ومستقبله. وهي مسائل في صميم استحقاقات البحث العلمي الذي يوجب التقصي أيا كانت الصعوبات، وهنا تكمن أهمية البحث. إذ كيف سيكون الأمر ونحن نترقب جماعة الإخوان المسلمين وهي تغدو هدفا للقاعدة في استنزاف مواردها البشرية والفكرية ولو عبر إحداث التوترات في داخلها، وهو ما تجيده القاعدة، أو عبر استحضار تراثها العقدي ومقارنته بأدائها السياسي وتحالفاتها وإنجازاتها؟ أليس احتمالا وشيك الوقع من هذا النوع؛ كاف لاستنفار مراكز الأبحاث الغربية، وهو ما حصل فعلا، لدراسة الأمر، والعمل سريعا للحيلولة دون هجرة الأفراد من الجماعات التقليدية، كالإخوان وحزب التحرير أو التبليغ والدعوة، إلى ساحات الفكر السلفي الجهادي والقتال تحت رايته؟
نماذج من الدراسات السابقة
في هذه النقطة بالذات لا بد من التذكير بنموذج من الدراسات التي تناولت التيار الجهادي العالمي، من خارجه، كتلك التي أنجزها د. أكرم حجازي في إطار تحليل الخطاب السلفي الجهادي وتفكيك آلياته ومصطلحاته، والتوقف عند علاقته بفلسفات الجماعات الإسلامية الأخرى وحتى بالمذاهب والفلسفات الوضعية، فضلا عن مراقبته، عبر عشرات المقالات والأبحاث، لـ: «التيار الجهادي العالمي». ولعل أميز ما في كتابات الباحث ودراساته أنها تنطلق من رؤيته للتيار بوصفه ظاهرة دينية أكثر منها سياسية بخلاف جماعة الإخوان المسلمين التي تبدو، بنظره، جماعة سياسية ذات طابع ديني. ودون أن نقلل من أهمية دراساته الأخرى تظل الدراسة المعنونة بـ : « مسائل جوهرية في فكر السلفية الجهادية»، الأكثر اهتماما في التوقف عند مجموعة من المصطلحات المميزة للظاهرة كالتوحيد والطاغوت وسايكس – بيكو والدولة الإسلامية والوطن الإسلامي والعلماء.
وفي كل الدراسات التي قدمها كان ثمة إصرار لديه على وجوب فهم السلفية الجهادية من خلال أطروحتها بوصفها تيار ديني لا يصح قراءتها وكأنها حزب أو تنظيم. أما لماذا هذا الإصرار؟ فلأن التيار نفسه لا يعترف بغير العقيدة مرجعية له، زيادة على أنه يسعى إلى هدم الأطروحات الوضعية بقطع النظر عن معاييرها كموازين القوى أو الشرعية الدولية أو النظام السياسي والقانوني أو الدستور أو الأيديولوجيات على اختلافها.
في المقابل لا يبدو أن تجاوز دراسة المؤرخ الأمريكي ريتشارد ميتشل عملا فيه بعض الصواب. فالكتاب الذي ألفه بعنوان: «الإخوان المسلمون» يعد الأشهر من بين كل ما نشر عن جماعة الإخوان المسلمين حتى ترجمته من قبل محمود أبو السعود وتعليق صالح أبو رقيق عليه، ثم نشره للمرة الأولى سنة 1977. بل أنه شهد عدة طبعات وترجمات من أكثر من جهة إلى اللغة العربية. وهو أول كتاب يؤرخ لنشأة الجماعة ويعرض لفلسفتها ونشاطها حتى نهاية حكم عبد الناصر.
فالرجل كان شاهد عيان، وشاهد في بعض قضايا الجماعة أمام المحاكم المصرية، وخبر الجماعة حتى في السجون، وله لقاءاته مع بعض قادتها وأفرادها من الرعيل الأول. وثمة تأريخ واسع النطاق في الكتاب، ومعلومات مؤصلة لم تجد من بعض شيوخ الجماعة إلا الثناء على الكتاب ووصف مؤلفه بالباحث المحايد. والحقيقة أن الكتاب يعج بالتحليلات والشهادات التي لم تنشر من قبل، فضلا عن أنه أول محاولة جادة من الخارج تعمل على قراءة الجماعة من الداخل.
منهجية البحث وتقسيماته
إننا، وإذ ننطلق في البحث، اعتمادا على المنهج التاريخي المقارن لدراسة التيارين فإننا لا نغفل عن الأطروحة الشهيرة للعلامة عبد الرحمن ابن خلدون وهو يقدم لنا رؤيته النقدية في قراءة التاريخ حين يقول في مقدمته أن: «التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار ... وفي باطنه نظر وتحقيق». وفي ظل هذه المقولة سعينا، بقدر الاستطاعة، إلى جعل جزئي البحث متماثلين في العناوين والعروض. ففي كل منهما سنتعرض لأربعة فصول هي:
- تاريخية النشأة
- الواقع
- الفلسفة والمنهج
- المستقبل
واسترشادا بأطروحة ابن خلدون التي نراها ضرورية في إعادة قراءة التاريخ والغوص في بواطن النشأة والتحقيق فيها بلا مواقف مسبقة أو ما علق بالذهن من معلومات باتت، من هول تكرارها والترويح لها إعلاميا وحتى أكاديميا، وكأنها من المسلمات التي لا تقبل النظر والتحقيق. بينما هي، بالنسبة لبعض أجيال اليوم، أبعد ما تكون عن الحقائق الثابتة في الكثير من جوانبها ومضامينها التاريخية وحتى أطروحاتها وعقائدها ومناهجها. فمن طرائف ما لاحظه الباحث فيما يتعلق بجماعة الإخوان المسلمين يكمن في تراث الجماعة الذي اقتصر، في غالبيته المطلقة، على ما خطه الشيخ حسن البنا. ولعل السبب في ذلك أن تراث الجماعة لا يزال خفيا إلى يومنا هذا. أما فيما يتعلق بالقاعدة فقد يَعجب القارئ حين يلاحظ أن القاعدة ولدت كصيرورة لا كتنظيم. بل أنها لم تُسمّ كذلك قبل سنة 1998، وفي إطار الجبهة الإسلامية العالمية لمحاربة اليهود والنصارى وليست مستقلة عنها إلا بعد هذا التاريخ.
إذن أية تاريخية تقف خلف نشأة الجماعة والتنظيم؟ وأي واقع هما عليه الآن؟ وما هي أطروحة كل منهما؟ وما هو المستقبل الذي ينتظرهما خاصة وأنهما يبدوان على طرفي نقيض بحيث يصعب الالتقاء ولو في وسط الطريق؟ هذا ما يتراءى لنا بداية وما سنتابعه في المتون لاحقا.
ملاحظات تقنية ومنهجية
بقي أن نشير إلى أن خصوصية البحث تفرض علينا تثبيت بعض الملاحظات ذات الصبغة المنهجية أو التقنية في الأدوات المستخدمة في التحليل والتوثيق. فلما يحين البحث في نشأة الإخوان المسلمين أو تنظيم القاعدة سنسترشد بمصطلح التاريخية بوصفه منظومة نسق عمل تاريخي. إذ أن هذه التقنية التحليلية تساعد في استكشاف المحطات الكبرى في النشأة، وضبط لحظتها الحاسمة بأوضح صورة، فضلا عن أنها تساهم إلى حد كبير في معاينة مدى قوة التاريخية لكل طرف. بمعني أن البحث عن اللحظة الحاسمة للتأسيس أو النشأة سيقع في نطاق منظومة العمل التاريخي وليس في نطاق العرض الزمني فقط.
أما فيما يتعلق بمسائل التوثيق خاصة للتيار السلفي الجهادي فلا بد من الإشارة إلى أن الرصيد المعرفي للتيار (شرائط مرئية وصوتية، كتب، بيانات، وثائق، دراسات وأبحاث، مقالات ... ) واقع في غالبيته الساحقة في الفضاء السيبيري، وهو في البحث موثق بالكامل مع روابطه الثابتة على الشبكة الإلكترونية. لكن ما ينبغي الإشارة إليه أن أي إصدار إعلامي أو وثائقي رسمي لأية جماعة مسلحة تنتمي للتيار، فكرا أو تنظيما، لا بد، لكي يحظى بالمصداقية والشرعية، أن يمر عبر مركز الفجر التابع لتنظيم القاعدة حتى لو كان صادرا عن مؤسساتها الخاصة بها. وعلى هذا الأساس جرت عملية التوثيق، في البحث، بالنسبة لإصدارات التيار إلا ما بثته القنوات الفضائية فقد تم توثيقه نسبة إليها وليس إلى مركز الفجر رغم صدورها عنه.
ومن جهة أخرى ثمة دراسات تم اعتمادها رغم أنها خلت من أي توثيق فيما يخص المؤلف. لكنها نشرت على الموقع الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين. وثمة مصادر هامشية محدودة جدا وقعت الإشارة إليها، مرة واحدة من باب الاطلاع عليها، لكننا لم نوثقها في القائمة بسبب الصعوبة الفائقة في تحديد الجهة المسؤولة عنها.
الجزء الأول: جماعة الإخوان المسلمين
- النشأة
- الواقع
- الفلسفة والمنهج
- المستقبل
الفصل الأول: تاريخية النشأة
تميزت غالبية الكتابات التي تعرضت لجماعة الإخوان بالتأريخ للجماعة، على كل مستوى، انطلاقا من التراث الذي خلفه المؤسس الشيخ حسن البنا. وهذا قد يوحي، مبدئيا، بأن أية قراءة محتملة يمكن أن تكون من لون واحد بما أنها تستند إلى ما يشبه المصدر الوحيد للمعلومات. والحقيقة أن أية قراءة لا بد وأن تختلف باختلاف القارئ والمنهج المتبع والسؤال المطروح والهدف والأيديولوجيا التي تقف خلف أية قراءة للجماعة. وفي هذه القراءة لا يبدو أننا سنشذ عن القاعدة فيما يتعلق بتحري لحظة النشأة للجماعة خاصة وأن المؤسس هو أول من تحدث عن ميلاد الجماعة في مذكراته، لكننا نجد أنفسنا ملزمون بالتوقف عند قضيتين مركزيتين أولاها حالة المجتمع المصري وثانيهما، وهي الأهم، لحظة التأسيس.
أولا: حالة المجتمع المصري
فيما عدا مجتمعات الجزيرة العربية، لظروف خاصة، فإن حالة المجتمع المصري، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، في بداية القرن العشرين لم تكن لتختلف عن حالة أي مجتمع عربي في بلاد الشام والعراق والمغرب العربي. فكلها مجتمعات استولت عليها شرائح كبار الملاكين والرأسماليين والعائلات والاستثمارات الأجنبية. وفي مصر بالذات، ما بين سنتي 1914 – 1928، هيمنت شريحة صغيرة جدا لا تتعدى نسبتها بحسب البعض 0.5% من إجمالي السكان على الثروة. ويذكر أحد الباحثين، كمثال على الهيمنة، أن أغلب رؤساء مجالس الشركات في مصر حتى تأميمات أوائل الستينات التي قام بها الرئيس جمال عبد الناصر، كانوا من غير المصريين. وتوزعت النسب على النحو التالي:
- 21% مصريون مسلمون.
- 30% أوروبيون.
- 18% من اليهود.
- 11% من الشاميين.
- 8% من اليونان أو الأرمن.
- 4% مصريون أقباط.
وفي الإجمال توضح قوائم الأسماء التي تم وضعها تحت الحراسة، تمهيدا لتمصيرها، أن نسبة المسلمين والأقباط بينهم لم تكن لتزيد عن 28% من المجموع الكلي. لكن مثل هذه البيانات لا تنفع قراءتها، فقط، في ضوء المقارنة مع مجتمعات عربية أخرى بقدر ما يمكن تحسس سطوتها إذا ما تم توضيعها:
في سياق الحكم العثماني وما رسخه من ظلال إقطاعية أو شبه إقطاعية خيمت على المجتمع المصري وجعلته أقرب إلى المجتمع العثماني الذي شهد مرحلة توحش إقطاعي. ولعل المشكلة في الحكم العثماني أنه استحكم، ثقافيا، في مصر بصورة أعمق من أية منطقة عربية أخرى.
في سياق نمط الشخصية المصرية القابلة للتعايش، ردحا طويلا من الزمن، مع ثنائية السيد – العبد، التي تجد صداها في التراث الفرعوني. فالشخصية المصرية، بطبيعتها، شخصية تسلطية. والمسألة هنا لا تتعلق بخضوع العبد للسيد بل بطموح العبد إلى السيادة، فإذا ما واتته فرصة للتسلط على من هو دونه فلن يتوانى عن فعل ذلك.
ففي هذين السياقين يمكن ملاحظة حجم المعاناة التي ضربت مختلف التشكيلات الاجتماعية، خاصة الفلاحين وعمال المدن والريف، في مجتمع تزيد نسبة التريف فيه على 80%. لذا فإن
الجماعة لا تتوانى عن اعتبار البؤس الاجتماعي سببا في ظهورها.
وبطبيعة الحال؛ فليست الحالة السياسية، على جحيم الصراعات التي تعيشها، إلا انعكاسا للحالة الاقتصادية حيث التنافس المحموم على حيازة الثروة والسيطرة على مصادرها. لكن مما زاد في البؤس الاجتماعي تفشي الجهل والأمية على نطاق واسع، والانتشار الكبير للحركات الصوفية. ولعل الحكم العثماني يتحمل قسطا وافرا من المسؤولية في هذا السياق. فالعثمانيون دولة غلب على نشأتها الطبيعة العسكرية التي انشغلت بالحروب ولم تترك الشيء الكثير للمجتمعات. بل أن تبنيها للصوفية خلف ثقافة خرافية خاصة فيما يتعلق بدين الأمة حتى اعتقد البعض أن الدين الإسلامي مرادف للتخلف. لكن أحدا لم يقل، مثلا، أن الصوفية، بعد تشظيها إلى عشرات الطرق، لم تأخذ من الدين سوى الأساطير بعد أن صارت مرتعا للزنادقة والملحدين وأصحاب الآراء الفاسدة كما يقول حسن البنا. فما الذي يمكن أن يدركه المجتمع من أحكام دينه أكثر من ثقافة قبورية صارت ترى في بعض دراويش الصوفية من الأحياء والأموات وسطاء من أهل الله، مَنَّ الله عليهم بكرامات تتحقق بها أماني العباد من سعة وفرج وغفران للذنب وكشف للضر وشفاء من السحر ... إلخ
هذه الثقافة التي خلفت ما يشبه دين الحرافيش في مصر المحروسة، عززتها بقايا الفكر الفاطمي والفرق الباطنية كالبهائية والإسماعيلية والقاديانية، مخلفة الكثير من الفرق الدينية المتصارعة والمنزوية في المساجد والزوايا والأضرحة وما يسمى بحلقات الذكر. ومع ذلك فقد وقعت مصر أكثر من غيرها تحت وطأة التأثر بالثقافة الوافدة. فمن جهة ثمة الاستعمار البريطاني المبكر الذي تعرضت له مصر سنة 1882، ومن جهة ثانية ثمة شريحة المثقفين المصريين الذين نادوا بربط مصر بالحضارة الغربية برمتها.
فقد كان للاستعمار، أيضا، حياته الاجتماعية التي أنتجت مؤسسات ترفيهية تلائم نمط الحياة الغربي من مراقص وملاهي وخمارات وبيوت للدعارة، ومؤسسات تبشيرية وأخرى إعلامية وثقافية وفكرية تبشر بالحرية الغربية والديمقراطية، وتدافع عن نمط الحياة والثقافة الجديدة الوافدة*. ومع تجذر القوى الرأسمالية الغربية في مصر واتجاهها نحو الرأسمالية؛ صار من الطبيعي أن تعمل القوة الاستعمارية على تنمية طبقة محلية ترتبط بها وتخدم مصالحها وتتبنى أطروحاتها. وكانت أطروحات التيار التغريبي الذي بدأه سلامة موسى تكتسح المجتمع المصري وتصيب طبقته المهيمنة بفتنة الحضارة الغربية المتفوقة. ومثلها كانت أطروحات قاسم أمين عن تحرر المرأة من القوة، في ذلك الوقت، ما جرد هذه الأخيرة من حشمتها ودفع بها إلى أتون المسارح والملاهي ودور السينما التي انتشرت كالنار في الهشيم.
هكذا تم اختراق شبكة العلاقات الاجتماعية ومنظومات القيم والأخلاق وحتى الدين حتى غدت عبئا، مخجلا، على حاملها من أبناء الشرائح العليا ممن باتوا يستحيون من ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم «البلدية». فما كان من المنفلوطي إلا أن انفجر في كتابه النظرات واصفا صورة المجتمع الجديد بالقول: « أصبح السيد في بيته يستحي الحياء كله من خادمة غرفته الأوروبية أن تطَّلع منه على جهله ببعض عاداتها وعادات قومها حتى في لبس الرداء وخلع الحذاء أكثر مما يستحي من الله! ».
أما الموجة الموازية التي ضربت الثقافة المصرية والدين وحتى الأخلاق فقد ترافقت مع انهيار نظام الخلافة الإسلامية سنة 1924. وبلغت أشدها مع إعلان تركيا كوريثة للإمبراطورية العثمانية واستقلالها التام عن ولاياتها السابقة سنة 1928، وظهور ما عرف بـ «الكمالية» نسبة إلى كمال أتاتورك وفكره العلماني المنسلخ من كل عقيدة. هنا بالضبط بدأت تجتاح الشرائح المثقفة في المجتمع المصري موجة إلحاد لا فقط تنصلا من الدين. وأخذت بعض ملامح الكمالية تغزو الدولة عبر اعتماد القوانين الأوروبية بدلا من القوانين الإسلامية، فألغيت فعالية المحاكم الشرعية في فض النزاعات واقتصر دورها على أمور الأحوال الشخصية وسادت موجة ضارية من الإباحية والتحلل الأخلاقي حتى وصلت رحاب إحدى الجامعات التي عرف أساتذتها وطلابها بالتحلل والانطلاق من كل القيود.
ثانيا: لحظة ميلاد الجماعة
رغم الظروف السابقة التي أشرنا إليها إلا أن لحظة الميلاد ترتبط من جهة بشخصية الشيخ المؤسس ذات النشأة الدينية، ومن جهة ثانية بتجربته الشخصية، وبطموحه وأمانيه من جهة ثالثة.
- 1) سيرة المؤسس
فقد ولد البنا في 25 شعبان 1324هـ الموافق 14 أكتوبر سنة 1906 في مدينة المحمودية بمحافظة البحيرة شمال غرب القاهرة، لأب تتلمذ على يد الشيخ محمد عبده هو أحمد عبد الرحمن البنا الذي اشتغل بعلوم السنة وعمل مأذونا للقرية وإماما لمسجدها وخطيبا له، واحترف تجليد الكتب وإصلاح الساعات؛ حتى لقب بـ «الساعاتي». وكعادة العائلات ذات البيئة الدينية، تعلما وعبادة، كان على البنا أن يتعلم حفظ القرآن كمقدمة لمواصلة تعليمه الديني خاصة في جامعة الأزهر. وفي الثامنة من عمره التحق بمدرسة الرشاد حيث الشيخ الكفيف محمد زهران الذي كان له حظ وافر من الثناء في مذكرات البنا لما تركه من أثر كبير على شخصيته. لكنه اعتزل المدرسة بعد إعفاء معلمه من مهمته في التدريس فالتحق، وهو في الثانية عشرة، بالمدرسة الإعدادية حيث ستكون أولى مشاركاته في العمل الجماعي عبر تأسيس الجمعيات أو الانتساب إليها. ففيها تأسست «جمعية الأخلاق الأدبية» واختير رئيسا لإدارتها، وكان من مهماتها التمسك بالدين وأداء الصلاة في وقتها والحرص على طاعة الله والوالدين ومن هم أكبر سنا ومقاما، وكذلك مهمات تأديبية عبر فرض غرامات مالية معينة على من يشتم الوالدين أو أحدهما أو التشاجر فيما بين الطلاب واستخدام الأموال فيما بعد في تقديم المساعدات والإغاثة لمن يحتاجها.
يبدو أن العمل الجماعي بدأ يستهوي الطفل الذي أسس ورفاقه جمعية أخرى لكنها مستقلة عرفت باسم «جمعية منع المحرمات» التي أخذت على عاتقها إرسال خطابات نهي مكتوبة، يتقاسم الأعضاء إنجازها ابتداء من تحضير النصوص مرورا بصياغة الخطابات وطباعتها وانتهاء بتوزيعها وتسليمها لمن يرتكبون بعض الآثام أو الأخطاء في العبادات أو الإفطار في رمضان أو التقصير في الصلاة أو عدم الخشوع فيها أو من تحلى بالذهب من الرجال أو امرأة شوهدت وهي تلطم وجهها في أحد المآتم ... . ويقول البنا في مذكراته: « ما كان أحد من الناس صغيرا أو كبيرا يعرف عنه شيء من المآثم إلا وصله خطاب من الجمعية ينهاه أشد النهي عما يفعل».
جرى تعديل حكومي على وضعية المدارس الإعدادية ولم يتقدم البنا إلى المعهد الديني في الإسكندرية ليتخرج منه أزهريا بل إلى مدرسة المعلمين في دمنهور حيث سيتخرج منها معلما بعد أن تجاوز عقبة الأربعة عشر عاما من عمره بتعاطف إداري فرضه ذكاءه ونباهته وجديته. وهناك في دمنهور أعجب بترانيم الطريقة الحصافية الصوفية حتى استغرق فيها، وبايع شيخها، وواظب على حضور حلقات الذكر في مسجد «الإخوان الحصافية»، الأكثر بعدا عن البدع مقارنة بغيرها من الطرق الصوفية آنذاك. ولشدة إعجابه بها استأنف عمله الجماعي فأسس « الجمعية الحصافية الخيرية» التي زاولت عملها، برئاسته، في حقلين مهمين هما:
- الأول: نشر الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ومقاومة المنكرات والمحرمات الفاشية.
- الثاني: مقاومة الإرساليات التبشيرية التي اتخذت من مصر موطنًا، تبشر بالمسيحية في ظل التطبيب، وتعليم التطريز، وإيواء الطلبة.
بعد انتهائه من المدرسة التحق بدار المعلمين العليا في القاهرة في العام الدراسي 1923، 1924، وهناك أصبح عضوا في جمعية « مكارم الأخلاق الإسلامية» الوحيدة في البلد. وانتظم بمتابعة المحاضرات الأسبوعية التي تلقى أسبوعيا بمقرها في دار السادات. كما شارك في تأسيس « جمعية الشبان المسلمين» في القاهرة سنة 1927 وظل عضوا فيها حتى اغتياله! واقترح على بعض أصدقائه إلقاء الدروس القصيرة في المقاهي، ونجحت فكرته فعلا. وما أن شارف على التخرج سنة 1927 حتى تعرض لسؤال في مادة الإنشاء من أستاذه يوسف نجاتي يقول: « اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك، وبيِّن الوسائل التي تعدها لتحقيقها»، فكانت إجابة حسن البنا تقول: « إن أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان:
- 1) خاص: وهو إسعاد أسرتي وقرابتي ...
- 2) وعام: وهو أن أكون مرشداً ومعلماً، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار؛ قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم ومنابع سعادتهم .. تارة بالخطابة، والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة».
ولما تخرج كان الأول على دفعته، ولعل ليلة 16/9/1927 كانت آخر ليلة له في القاهرة حيث توجه في اليوم التالي إلى الإسماعيلية ليتسلم أول عمل له في المدرسة الابتدائية الأميرية. أما الإسماعيلية فهي إحدى مدن قناة السويس حيث شركة قناة السويس الإنجليزية الشبيهة بعملها وأهدافها بشركة الهند الشرقية التي أسسها البريطانيون في الهند لنهبها. وهناك عاين قوة الاستعمار وسطوته وترفه وغناه مقابل ذل المصريين وفقرهم. كما عاين الجانب الاجتماعي بما اشتمل عليه من تحلل أخلاقي، وأخذ على عاتقه دراسة المجتمع بدقة ومعرفة القوى المؤثرة فيه. وفي هذا السياق يقول ( بقليل من التصرف): « كان هدفي في الفترة ما بين بقايا سنة 1927 وأوائل سنة 1928 دراسة الناس والأوضاع دراسة دقيقة، ومعرفة عوامل التأثير في هذا المجتمع الجديد. وقد عرفت أن هذه العوامل أربعة: العلماء أولا، وشيوخ الطرق ثانيا، والأعيان ثالثا، والأندية رابعا».
- 2) لحظة التأسيس
لم يترك البنا أية قوى نافذة في مجتمع الإسماعيلية إلا والتقى بها. فقد جالس العلماء وقدمهم على نفسه، وناقش مشايخ الصوفية ونصحهم وأثنى عليهم، وزار أعيان المدينة ولم يصادمهم، وخبر أحوال العمال في النادي الوحيد في المدينة. ولا يخفي أنه وجد مجتمعا رابه ما يدعو إليه، ولم يستسغ مضمون الخطاب. فاللغة بالنسبة لمجتمع اعتاد التعايش لعقود طويلة مع الاستعمار وثقافته وسط موجات جارفة من التغريب والإباحية والتفكك الأخلاقي والقيمي باتت لغة جديدة وغريبة لا يلقي لها أحد بالا. فلم تنفع الدعوة مع هؤلاء مثلما أنها لم تنفع حتى في المساجد، حيث تكثر المشاحنات والبغضاء بين الفِرَق، وتستعر الخلافات على أتفه الأمور. وبدلا من ذلك عاد إلى مجتمع المقاهي حيث آلاف الرواد البسطاء، ولو أن اللغة بدت غريبة في بادئ الأمر إلا أنها لاقت استحسانا ثم رواجا، وبعدها انتظارا وشوقا لدروس تصدر عن رجل لطيف المعشر، وطيب الكلام، وذا أدب جم؛ يحسن انتقاء كلماته بعيدا عن إحراج الآخرين، ويروم نشر دعوته بحدود عشر إلى خمسة عشر دقيقة لكل موعظة. وهكذا صارت له آذان تستمع إليه، دون ثقل، في أماكن مهجورة أعيد ترميمها لتصبح بين ليلية وضحاها مقرات دائمة تلقى فيها الدروس بانتظام ما بين صلاتي المغرب والعشاء، ثم تبدأ الجولة الثانية من دروس المقاهي. وهكذا ذاع صيت الدروس في البلد مخلفة وراءها المزيد من المريدين.
لم يكد حسن البنا يتجاوز الثانية والعشرين من عمره الحافل بالدعوة والنشاط لما زاره ستة رجال، جميعهم من العمال والحرفيين، كانوا أول المستجيبين لدعوته ، وشكلوا معه أول نواة تعلن عن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين. فماذا يقول البنا عن هذه اللحظة؟
- « في ذي القعدة سنة 1347هـ، مارس سنة 1928م … زارني بالمنزل أولئك الأخوة الستة: حافظ عبد الحميد، أحمد المصري، فؤاد إبراهيم، عبد الرحمن حسب الله، إسماعيل عز، زكي المغربي، وهم من الذين تأثروا بالدروس والمحاضرات التي كنت ألقيها، وجلسوا يتحدثون إلي .. قالوا: لقد سمعنا ووعينا، وتأثرنا .. ولقد سئمنا هذه الحياة: حياة الذلة والقيود، وها أنت ترى أن العرب والمسلمين في هذا البلد لاحظّ لهم من منزلة أو كرامة، وأنهم لا يُعدّون مرتبة الأجراء التابعين لهؤلاء الأجانب.. ولا نستطيع أن ندرك الطريق إلى العمل كما تدرك، أو نتعرف السبيل إلى خدمة الوطن والدين والأمة كما تعرف، وكل الذي نريده الآن أن نقدم لك ما نملك لنبرأ من التبعة بين يدي الله، وتكون أنت المسؤول بين يديه عنا وعما يجب أن نعمل، وإن جماعة تعاهد الله مخلصة على أن تحيا لدينه، وتموت في سبيله، لا تبغي بذلك إلا وجهه، لجديرة أن تنتصر، وإن قل عَددها وضعفت عُددها».
ويبدي البنا تأثره العميق إزاء هذا الموقف ويرد: « شكر الله لكم وبارك هذه النية الصالحة،.. فلنبايع الله على أن نكون لدعوة الإسلام جندا،.. وكانت بيعة… وكان قسما أن نحيا إخوانا نعمل للإسلام ونجاهد في سبيله. وقال قائلهم: بم نسمي أنفسنا؟ وهل نكون جمعية أو ناديا، أو طريقة أو نقابة حتى نأخذ الشكل الرسمي؟ فقلت لا هذا، ولا ذاك..، وليكن أول اجتماعنا وأساسه: الفكرة والمعنويات والعمليات. ونحن أخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن "الإخوان المسلمون". … وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين من هؤلاء الستة، حول هذه الفكرة، على هذه الصورة وبهذه التسمية».
العجيب في هذه الرواية أن الجماعة تشكلت نواتها الأولى، بهذه البساطة الشديدة التي يرويها البنا، من بسطاء الناس ممن باتوا يدركون واقعهم لكنهم لا يدركون السبيل لتغييره. أما مصدر العجب فيكمن في التاريخ الحافل للبنا في تأسيس الجمعيات وقيادتها بنفسه فضلا عن تلك التي انتسب إليها، ومن المفترض أن يكون له رصيد كبير من الأصدقاء والأنصار إلا أنه لم يكن من ضمن المؤسسين واحدا من محيطه التاريخي. وكأن تأسيس الجماعة جاء برغبة من البنا ذاته وبقرار شخصي ونية مسبقة في التأسيس رغم أنه شغوف بالعمل الجماعي.
- هوية الجماعة
لكن أطرف ما في الجماعة كان تعريفه لها في وقت لاحق. فقد جاء المحتوى النظري والعملي لها ليعبر عن تجربته وشخصيته وأفكاره وعلاقاته ورؤيته لدعوته. فهو قد خبر الجمعيات وأهدافها بمختلف ألوانها، من الحث على الصلاة والإغاثة وحماية الآداب مرورا بمحاربة المنكرات والنهي عنها إلى الدعوة وطرق بناء النفس روحيا إلى الائتلاف في صيغة أسرية تمثلت بالإخوان. كما خبر البنا لغة التشكيلات الاجتماعية والنقابية، وبرع في استعمال آداب المعاشرة وحسن الكلام ولينه لكسب الأصدقاء وتجنب الخصومات وتحييد المغرضين، وخبر نسج العلاقات مع الحرص الشديد على «البعد عن مواطن الخلاف» أو عن كل ما يعكر مبادرة العلاقة مع الغير مهما كانت توجهاتهم وأفكارهم.
قد يبدو الأمر غريبا على شاب لم يتجاوز الثانية والعشرين أن ينجح في جمع تجربته وشخصيته وثقافته ويصهرها جميعا في صيغة جماعة منظمة لم يكن لها ولا لأعضائها ولا لقياداتها لاحقا محتوى يزيد عما فعله البنا الذي عرّفها في رسالته إلى المؤتمر الخامس(1939) على أنها:
- « رسالة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية ومنظمة رياضية ووحدة ثقافية تعليمية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية».
هكذا كانت شخصية البنا وتجربته، وهكذا ولدت الجماعة، وهكذا بقيت، وكذا أرادها الأعضاء والشُّعَب والفروع لاحقا. هي باختصار وليدة حالة اجتماعية، بكل محتوياتها، لم تكن بعيدة عن حالة المجتمع العربي، بل أن المذاهب السياسية والطوائف والفرق التي تواجدت في المجتمع المصري كانت هي الأخرى كائنة، بشكل أو بآخر، في المجتمعات العربية. فالعلمانية بكافة مذاهبها القومية والاشتراكية واليسارية والوطنية والكمالية والليبرالية وحتى الفرعونية كانت موجودة. والمذاهب الإسلامية السنية كانت موجودة، والطرق الصوفية كانت موجودة، والإسماعيلية وبقايا الفكر الشيعي القادم من رحم الفاطمية هو الآخر كائن وموجود في مستوى السلوك والاعتقاد. والديانات الباطنية ذات المنشأ الاستعماري كالبهائية والقاديانية أيضا موجودة. وكلّ من هؤلاء يوالي أو يعادي أو يخاصم أو يقبل أو يرفض بحسب ما يؤمن أو يعتقد أو يفهم.
هذه الحالة من التشتت وانعدام الوزن كانت كل المجتمعات العربية تعاني منها. لكنها كانت أكثر تجذرا ووضوحا في مصر وحتى في الجزائر المنسية آنذاك. وكان من الممكن أن تظهر الدعوة والجماعة في الجزائر لولا أن الهامش السياسي فيها منعدم تماما بالمقارنة مع ما توفر في المجتمع المصري من دولة ونظام حكم وحكومة. فكل المجتمعات كانت مهيأة للاستماع لأية أطروحة دينية كانت أو علمانية. أما لماذا راجت الدعوة في مصر فلعل السبب يكمن في وضوح الطبقية من جهة واستقرار كل أطروحة في طبقتها. فالمثقفون والطبقة العليا اختاروا العلمانية بشتى صورها، والعمال في المدن اختاروا الأحزاب السياسية التي لم تقدم لهم أية أطروحة اجتماعية تتعلق بالإصلاح والخروج من حالة التيه أو المأزق الاقتصادي والثقافة الاستعمارية والدونية التي يعيشونها بالمقارنة مع أقرانهم من الأوروبيين الذين يتمتعون بكل الامتيازات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والرفاهية. فكان هؤلاء، ومعهم سكان الريف، ممن وجدوا في أطروحة حسن البنا بعض العزاء والمواساة لدرجة أن البنا ذاته الذي تنقل بين المقاهي ونسج العلاقات مع شتى الأطياف الاجتماعية جعل من ألفي قرية في الريف، من أصل ثلاثة آلاف، مقصدا لدعوته. فكان الريفيون يتعجبون مما يسمعون منه عن الإلحاد والتغريب والتحلل الاجتماعي والإباحية التي ضربت المجتمع المصري ويكأن خيالهم لا يكاد يصدق ما يسمعونه. والحقيقة أن البنا تحدث مع كل شريحة، بل مع كل جماعة، ومع كل فرد باللغة التي تناسبه. وهي ذات اللغة التي يتحدث بها الإخوان منذ ثمانين عاما دون أي اعتبار لأية مرجعيات شرعية أو سياسية.
الفصل الثاني واقع الجماعة
حين تأسست الجماعة لم يكن في أطروحتها سوى المسألة الاجتماعية كما سنرى. لكنها لم تتقوقع داخل حدود مصر. فقد انتشرت إقليميا ودوليا وافتتحت لها فروعا حيث أمكنها نشر دعوتها. وهذا مؤشر، غير مباشر، على أن المسألة الاجتماعية في مصر لم تكن لتختلف عنها في أية دولة عربية أخرى. وهي نتيجة منطقية بما أن أغلب المجتمعات العربية، إن لم يكن جميعها، غدت منذ وقت طويل أحد أشكال المجتمع العثماني مثلما هي الدولة الوطنية حصيلة لمعاهدات استعمارية رسمت خطوطها اتفاقية سايكس – بيكو سنة 1916.
لكن إذا أردنا أن نفهم واقع الجماعة وفروعها وآليات عملها ونمط تفكيرها ومواقفها تجاه الآخرين؛ فلا بد من معاينة بعض ملامح الشكل التنظيمي الذي تأسست عليه أو تواجدت به، وكيف أصبحت بعد ثمانين عاما. والسؤال المطروح هنا: كيف تفهم الجماعة نفسها؟ وكيف تكون، تبعا لذلك، نظرتها للآخرين؟ أما لماذا هذا السؤال؟ فلأن الجماعة ترى نفسها ربانية، الشجرة الباسقة، حصن الأمة، القصر المنيف، السراج المنير ... بينما يراها الآخرون، من غير المنتمين إليها أو ممن هجروها من القيادات والأفراد، جماعة متعصبة، إقصائية، مغرورة، لا تعترف بالمخالف ... .
أولا: بنية الجماعة
- 1) الشكل التنظيمي المركزي
تأسست الجماعة سنة 1928، وسجلت باعتبارها هيأة إسلامية شاملة طبقا لدستور مصر المعمول به سنة 1923. وشهدت مدينة الإسماعلية، تبعا لذلك، تأسيس أول شعبة للجماعة. لكن كأي جمعية أو حزب شهد النظام الداخلي للجماعة تطورات وتحديثات فرضتها نشاطات الجماعة وتوسعها في البلاد. وكان المؤتمر الثالث للجماعة (آذار/ مارس 1935) أول مناسبة تناقش فيه المسائل التنظيمية الناجمة عن ازدياد العضوية وما تتطلبه من مبادئ ومسؤوليات. كما نظر المؤتمر في التنظيم القيادي وهيكل الإدارة وتثبيت الولاء وإيجاد أداة لتنفيذ أفكار الجماعة.
انتقلت الجماعة بعد تأسيسها من الإسماعيلية لتتمركز في القاهرة، ومنها إلى مدن وقرى ونجوع البلاد. وارتبط توسعها بالمؤسس نفسه الذي يقال أنه زار ألفي قرية فيما يقول آخرون أنه زار ثلاثة آلاف. وحيث كان ترك خلفه نواة للجماعة حتى صار لها بحلول العام 1948 ما يزيد على ألفي شعبة تضم قرابة نصف مليون عضو يؤازرهم أضعاف هذا العدد. وبحسب التنظيم الداخلي للجماعة فإن كل شعبة تتكون من 10 – 15 أسرة، وهذه ( الأسرة) أصغر وحدة تنظيمية داخل الجماعة، وتضم في العادة ما بين 6 – 8 أفراد يرأس كل أسرة منها نقيب. ولا ريب، لمن خبر حياة الأسر داخل الجماعة، أنه لاحظ كيف تشكل الأسرة عصب التنظيم من حيث نظام الطاعة الصارم، إلى جانب البيعة، وهما نظاما المراقبة الوحيدين المعتمدين في الجماعة، واللذان يلاحقان العضو حتى في شيخوخته ومنصبه. أما فيما يتعلق بمراتب العضوية داخل الجماعة فثمة أربعة مراتب حدد حسن البنا شروطها في مذكراته:
- الأخ المساعد. وهو أول مراتب العضوية التي يعلن فيها العضو استعداده للصلاح.
- الأخ المنتسب. ويلتزم بحفظ العقيدة والتزام الطاعات والكف عن المحرمات وحضور الاجتماعات الأسبوعية والسنوية وغيرها متى دعي إليها.
- الأخ العامل. ويحتل صاحبها صفة العضوية وشروطها. ويصبح حامل الرتبة عضوا رسميا في الجماعة، ويتعهد بمزيد من الواجبات والالتزام كالتعهد بحفظ ورد من القرآن وحضور مجالسه الأسبوعية والدائرة والاشتراك في صندوق الحج ولجنة الزكاة والانضمام إلى فرقة الرحلات، والتزام التحدث باللغة العربية الفصحى قدر المستطاع … والعمل على تثقيف النفس في الشؤون الاجتماعية العامة والاجتهاد في حفظ أربعين حديثا نبويا، وقبول مناصفات الإخوان التأديبية.
- الأخ المجاهد. أرفع مرتبة تنظيمية. ولا تحق إلا للأخ العامل. وفيها يتهيأ العضو ليصبح داعية. حيث يطلب منه تحرّي السنة المطهرة … في الأقوال والأفعال والأحوال، وقيام الليل وأداء الجماعة والعزوف عن مظاهر المتع الفانية والبعد عن كل ما هو غير إسلامي… والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتلبية الدعوة متى وجهت إليه في أي وقت.
وفي مستوى قيادة الجماعة محليا ودوليا، فقد تشكلت أول هيئة تأسيسية للجماعة سنة 1941 من مائة عضو؛ اختارهم حسن البنا بنفسه، ويعد النظام الأساسي للإخوان المسلمين بمثابة اللائحة الدستورية التي تحدد مستوى العلاقات والروابط بين الجماعة والفروع. وبحسبه، لا يبدو أن أحدا في العالم يمكنه أن ينازع في جنسية المرشد العام بكونه في المحصلة القانونية مصريا، وإلى الأبد قانونيا حتى لو انتخب من قبل الهيئة التأسيسية كما تنص على ذلك المادة 11 من النظام العام للجماعة. أما مكتب الإرشاد العام فمدة ولايته أربع سنوات هجرية، وعدد أعضائه 13 عضوا بينهم ثمانية أعضاء ينتخبهم مجلس الشورى من بين أعضائه من الإقليم الذي يقيم فيه المرشد العام. أما الخمسة الباقون فيُنتخبون من بين أعضاء مجلس الشورى على أن يراعى في اختيارهم التمثيل الإقليمي. وهذه صيغة تضفي على الجماعة الطابع المحلي كجماعة مصرية بالأساس ترى أن لها حقا في القيادة أكثر من غيرها. فمن ناحية قانونية يقتصر تمثيل الجماعة دوليا على خمسة أعضاء هم، على وجه التحديد، الأردن وسوريا ولبنان والجزائر والكويت. وهذا الأمر لم يتغير بعد.
- 2) التوسع الإقليمي والدولي
على كل، فقد اهتمت الجماعة بكل مناحي الحياة كجماعة إسلامية إصلاحية دعوية عملية شاملة، حتى أنها أسست في 26/4/1933 فرع للأخوات المسلمات. واستطاعت التواجد في العديد من المؤسسات العلمية والتربوية والدينية والرياضية. وصارت لها مكانة مالية مدعومة باشتراكات شهرية منتظمة من الأعضاء تعادل 3% - 7% من إجمالي الدخل الفردي. وعملا بمبدأ الجماعة في الحض على تنمية الثروة؛ فقد بنت لها صروحا اقتصادية واستثمارية وتجارية وإعلامية وإشهارية.
انطلاقا من اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ بدأت الجماعة في التوسع الإقليمي. فتواجدت بقوة في فلسطين وسوريا والأردن ولبنان والعراق والسودان واليمن. وصار لكل فرع من هذه الفروع مراقب عام مستقل على صلة تشاورية بالجماعة الأم خاصة في القضايا الكبرى التي لا يستطيع الفرع أن يتخذ قرارات بشأنها بعيدا عن رأي المرشد العام ومكتب الإرشاد. وفي نفس الوقت كان « النظام الخاص» للجماعة الذي قاده عبد الرحمن السندي ينمو، سرا، بالتوازي مع التوسع. ومنذ نشأته، ابتداء من العام 1939، وحتى الآن دار جدل لمّا ينته بعْد حول مسؤوليته عن عدد من الاغتيالات التي طالت شخصيات مصرية كالمستشار أحمد الخزندار (1948) وبعده بقليل النقراشي باشا رئيس الحكومة المصرية (1948) وحتى حادث المنشية (1954) في الإسكندرية الذي استهدف الرئيس جمال عبد الناصر. وثمة مؤشرات كثيرة حتى من داخل الجماعة تقول بأنه القائد الفعلي للجماعة.
ولئن تنوعت الأشكال التنظيمية المنتمية للجماعة خارج المركز الأم؛ إلا أنها احتفظت بشكلها التنظيمي الرسمي في الكثير من البلدان حاملة اسم الجماعة إياه، لكنها، لأسباب سياسية وأمنية وحتى من حيث القبول الشعبي، إما أنها تخلت عن التسمية الرسمية أو أنها استخدمت واجهات أخرى للعمل بأسماء مغايرة. ففي تونس اتخذت اسم حركة الاتجاه الإسلامي في شمال أفريقيا ثم تغيرت التسمية إلى حركة النهضة سنة 1987، وفي الجزائر اتخذت اسم حركة المجتمع والسلم (حمس)، وفي المغرب أسست حركة التوحيد والإصلاح ذراعها السياسي المعروف باسم حزب العدالة والتنمية، وفي الأردن أنشأت حزبا سياسيا باسم جبهة العمل الإسلامي سنة 1989، وفي فلسطين صارت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الاسم المعبر عن الجماعة، وفي الصومال عرفت بأكثر من اسم آخرها حركة الإصلاح، وفي لبنان صار اسمها الجماعة الإسلامية. وفي تركيا اضطرت الجماعة إلى تغيير اسمها أكثر من مرة كحزب الرفاه الاجتماعي ثم الفضيلة وأخيرا حزب العدالة والتنمية.
وفي حواره المطول مع صحيفة «المصري اليوم» سئل مفوض العلاقات الدولية في الجماعة يوسف ندا عن حجم الجماعة ومدى انتشارها عالميا:
- « كم عدد الإخوان في العالم؟ فقال: 100 مليون، وآخر إحصاء كان قد وصلني عام 2007 يؤكد هذا الرقم باستثناء كسور الأرقام».
ثم سئل ثانية:
- « كم عدد الدول التي ينتشر فيها الإخوان المسلمون؟»؛ فأجاب:
تقول الإدارة الأمريكية إننا منتشرون في70 دولة، والإحصائيات عندي تقول 72».
سؤال: موجودون في الدول العربية وأمريكا وأوروبا؟ جواب: في القارات الخمس حتى جزر القمر التي لا يعرف البعض أين هي.. وذات مرة كنت في جزيرة من جزر الكاريبي، وليست البهاما، وجدت هناك «إخوان»، وهي جزيرة صغيرة وليست دولة».
- 3) الأزمة وإعادة الترميم
لكن الجماعة الأم شهدت تصدعات لا بأس بها خاصة بعد صداماتها مع الدولة خلال خمسينات وستينات القرن العشرين. بل أن بعض الفروع حلت نفسها، لاحقا، كما حصل في السودان والكويت وقطر بسبب خلافات داخلية تتعلق بقضايا تنظيمية أو بالدور الذي تلعبه الجماعة والجدوى من وجودها. كما أن أعدادا غفيرة انشقت عنها على خلفية مواقفها من الجهاد في فلسطين مثلا قبل أن تضطر الجماعة في فلسطين إلى الظهور كجماعة تؤمن بالجهاد باسم حركة حماس على خلفية ظهور حركة الجهاد الإسلامي، وأخرى انشقت بسبب الفساد وغياب المحاسبة والشفافية فيها، وقسم آخر هجرها على خلفية التعصب التنظيمي والغلو في مواقفها وتحالفاتها واستيطان قدر ملحوظ من التسلط في التعامل مع الآراء المخالفة عبر العزل والتهميش والشك. ويذكر في السياق أن بعض التيارات الإسلامية انبثقت من رحم الجماعة كتيار السرورية* الذي يعتبر نسخة راديكالية منقحة من الإخوان المسلمين خاصة فيما يتعلق بالموقف من الجهاد والحاكم.
مع وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر في 28/9/1970، ومجيء خلفه محمد أنور السادات أطلق سراح آلاف المعتقلين الإسلاميين من السجون كمقدمة لدفعهم في مواجهة مع القوى اليسارية والقومية بهدف التخلص من تركة ثقيلة للرئيس السابق. وما أن حل العام 1975 حتى لم يبق أحدا من الإسلاميين في السجون. لكن الجماعة كانت، ولمّا تزل حتى اليوم تحت وطأة قرار صدر بحلها في 14/1/1954.
خلفت مرحلة الصادمات والسجون مشكلات تنظيمية خانقة للجماعة وسط هيمنة النظام الخاص على قراراتها. فالجماعة تعاني من مشكلات قانونية صعبة فرضتها طول فترة السجن من جهة والتغيرات التي مست الدستور المصري من جهة ثانية ولم تعد تسمح بإلغاء قرار الحل لأن التعديلات الدستورية لا تسمح بعودتها طبقا للصفة التي سجلت بها سنة 1928.
حاول المستشار حسن الهضيبي المرشد العام للجماعة حل المشكلة، فانتهز فرصة أدائه لفريضة الحج سنة 1973 وعقد اجتماعا موسعا للجماعة في مدينة مكّة هو الأول بعد العام 1954 في محاولة منه لإعادة تشكيل مجلس الشورى بحيث يمكن تمثيل جميع العاملين، وإعادة التحقق من العضوية بعد ضياع السجلات. وتكونت لجان للغرض في دول الخليج وأُعدت الترتيبات لإرساء الجماعة على أسس قانونية، إلا أن المرشد القوي توفي في نفس السنة (11/8/1973). وعاشت الجماعة فراغا قياديا ثانيا استمر حتى 30/12/1976 لما عُين الشيخ عمر التلمساني مرشدا عاما. وفي عهده تلقى اقتراحا من الرئيس المصري لتجاوز المشكلة القانونية بعودة الجماعة للعمل بشرط أن تتنازل عن صفتها الدينية التي لا يسمح بها الدستور، وتستعيض عنها بحزب سياسي، إلا أن قادة النظام الخاص رفضوا الفكرة التي تستبعدهم أصلا من الحزب المقترح. ومع ذلك واصلت الجماعة عملها بموجب ما يمكن اعتباره اتفاق أدبي بينها والسلطة، أي بسياسة غض الطرف. ويبدو أن الإخوان يجمعون على أن اختيار التلمساني لمنصب المرشد العام كان يحظى بتوافق من قبل الجميع بمن فيهم النظام الخاص. وقد نجح فعلا ببناء بعض ما تهدم لكنه لم يكن خارج سيطرة النظام الخاص، فتوفي تاركا الجماعة تتخبط في مشكلاتها التاريخية التي لن ينجح خلفه محمد حامد أبو النصر في حلها (1986).
- 4) التنظيم الدولي
فيما يتعلق بوجود التنظيم الدولي للجماعة فالمسألة، كحال النظام الخاص، واقعة بين النفي والإثبات. لكن بحسب دراسة أبو العلا ماضي فالتنظيم الدولي حقيقة أوجدها المرشد الخامس مصطفى مشهور. فهو الذي أوجد فكرة التنظيم الدولي التي تسعى لربط الفروع بالمركز وليس بالفكرة فقط. وبدأ التحرك في هذا الاتجاه خلال الفترة الواقعة بين سنتي 1982 – 1986 خلال تنقلاته بين الكويت وألمانيا. ويتكون من تشكيلين أساسيين هما:
مجلس شورى التنظيم الدولي، ويتشكل بنسبة انتشار الإخوان في الأقطار المختلفة, مكتب الإرشاد العالمي ويتكون من المرشد إضافة لثمانية أعضاء من بلد المرشد، وعدد آخر ينتخب من مجلس شورى التنظيم الدولي بنسبة توزيع الإخوان في باقي الأقطار المشاركة في التنظيم,
أجهزة وتشكيلات فنية تابعة لهذا التنظيم.
ومثل الجماعة، إذ يعاني من مشكلات قانونية فيما يتعلق باللوائح التأسيسية فضلا، والكلام لأبي العلا ماضي، عن أن الكثير من القرارات التي صدرت من مجموعة مكتب الإرشاد، وخاصة المقيمة في مصر، لم تلتزم بها قيادات الأقطار المعنية، وهذا من شأنه أن يحد من فاعلية التنظيم الدولي دون أن يفقد صفته الاستشارية على الأقل.
ثانيا: جماعة المسلمين؟
يؤمن الإخوان المسلمون أنهم فكرة وقع تبنيها من قبل الكثيرين في العالم الإسلامي وصارت نهجا وعقيدة عندهم. هذه الفكرة ولدت ونمت وترعرعت، حتى الآن، على أطروحة فرد واحد هو المؤسس حسن البنا. وفي هذا السياق يمكن القول أن الجماعة حققت نجاحات واسعة النطاق فيما يتعلق بالانتشار وتحويل الفكرة إلى نمط حياة لدى قطاع لا بأس به من الأمة على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وحتى يومنا هذا لا زالت الجماعة تستمد مشروعيتها وفعاليتها من تراث البنا. ولم تطرح، على نفسها حتى الآن، الأسئلة التالية أو ما شابهها من ضرورات النقد والتقييم: هل حققت الجماعة إنجازا يذكر، على مستوى الأمة، غير الانتشار؟ بمعنى؛ إذا كان البنا قد قدم أطروحة شاملة لمعالجة المسألة الاجتماعية؛ ثم طورها إلى أطروحة عقدية لمعالجة مسألة الحاكمية والدولة الإسلامية؛ فهل نجحت الجماعة في تقديم حلول لأي من المسألتين؟ هل انحسرت موجات التغريب والإباحية والتحلل الاجتماعي والخلقي والقيمي والفساد عن مصر، ناهيك عن ديار الإسلام؟ وهل استطاعت الجماعة أن تقيم الحاكمية في أية دولة أو مجتمع؟ وهل بنيتها القديمة ذات العلل والمشكلات القانونية والاقتصادية والدعوية والسياسية تتيح لها القدرة على تحقيق أي هدف من الأهداف التي طرحتها؟
الإخوان، بحسب يوسف ندا، فكر .. وليست جماعة ولا تنظيم! فكر بوبه، وبلوره، وفصله المؤسس بصورة تنعكس على الوسائل والتصرفات والأهداف التي يتبناها .. وصاغته جماعة وتبنته جماعات كثيرة من المسلمين آلوا على أنفسهم أن يخلصوا في فهمه ويخلصوا في الالتزام به، ويخلصوا في نشره وإيصاله لغيرهم. وحتى لو تباينت عقول البشر، بفعل ثقافتهم وتقاليدهم وعقولهم، فإن هذا التعدد لا يؤدي إلى الاختلاف الذي ينتهي بالتصادم أو التناقض في التصرفات، وقد يحدث من آن لآخر، ولكن مرجعية هذا الفكر تقبل الاختلاف، وترفض التصادم وتفرض التعاون. إنها التعددية في أجمل وأوضح صورها.
لعل ما يعبر عنه يوسف ندا من آراء يعكس اليوم جوهر فهم الإخوان للجماعة، لكنه لا يمكن أن يعكس فكر البنا بالأمس ولا بمقدار نقير. قد يكون الاختلاف والتعددية مقبولة داخل الجماعة حتى لو كانت على النقيض من بعضها وهذا ما هو واقع فعلا، لكن لا يمكن أن تكون هذه الاختلافات، في مستوى الأمة، انعكاسا لـ « التعددية في أجمل وأوضح صورها». فهذا مما يبعث على الدهشة. ففي صراعات الأمة أقدمت بعض الفروع على الدخول في تحالفات مصيرية مع القوى الأجنبية المعادية تاريخيا للأمة كما حصل في العراق وأفغانستان، وحتى في الصومال؛ حيث كانت حركة الإصلاح أقرب إلى تأييد الاحتلال الأثيوبي وهي تقف موقف المحايد منه، أما في الجزائر فقد تحالف الإخوان مع حكم الجنرالات في الوقت الذي لم تستطيع أية قوة دولية أو عربية أن تجاهر بأية علاقة معهم أو تقيم معهم علاقة ولو خفية، هذا إذا استثنيا التحالفات المتناقضة بين الجماعة وفروعها مع إيران وحزب الله اللبناني بصورة تدعو كل باحث إلى طرح عشرات التساؤلات حول منطقها.
أما لماذا يتحدث يوسف ندا وغيره من الإخوان المسلمين بهذه اللغة المتناقضة مع الواقع؟ فلأنه ليس في عرف الإخوان آثم أو مدان. وإنْ حصل ووقعت الجماعة في «موقف مشين»، فإن فكر الجماعة يقبل الاختلاف، ويرفض التصادم ويفرض التعاون كما يرى مفوض العلاقات الدولية في الجماعة. من الواضح أن الجماعة تعمل وفقا لمبدأ « مصلحة الجماعة أو الدعوة» الذي يجد صداه في تراث البنا حين يوصي الإخوان في: « البعد عن مواطن الخلاف الفقهي» في العلاقة مع الجماعات الأخرى والفرق الإسلامية، وحين يتحول هذا المبدأ، بلسان البنا أيضا، إلى قاعدة ذهبية لدى الجماعة تقول: «نتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه». الحقيقة أن المبدأ صار براغماتيا وليس فقهيا.
فليس من المعقول أن يكون التحالف مع الأمريكيين في ضرب المقاومة أو الوقوف على الحياد من الغزو الأجنبي للبلاد مسألة فقهية قابلة للاجتهاد. أما ما طرحه البنا، في حينه، من معنى للمبدأ فهو مخالف جذريا لما هو عليه اليوم.
مع ذلك فإن أكثر خلافات الجماعة مع القوى السياسية والإسلامية يكمن في شعورها بأنها الجماعة الربانية الأحق بالقيادة والريادة من غيرها. وهي الجماعة المؤتمنة على مصالح الأمة والدين، وهي المستخلفة ووريثة الأنبياء والرسل. وقد برزت مثل هذه المواقف أكثر ما يكون في تراث البنا نفسه وفي السجون المصرية.
يروي هاني السباعي، أحد قيادات جماعة الجهاد المصرية، وقائع حوار دار بينه وبين أحد الإخوان المسلمين داخل السجن سنة 1981، ويتعلق برؤية الإخوان للجماعة، فيقول:
- « كانت جدران الزنزانة تضم بين جنباتها أفكاراً مختلفة لجماعات متعددة، وفي إحدى الليالي قام أحد الشباب وكان إخوانياً بإلقاء كلمة عقب صلاة المغرب؛ وذكر أن هناك قصراً حسناً منيفاً جميلاً وظل يصف سعة وحسن وبهاء القصر بأسلوب بلاغي شيق بحق! وظننا أنه يقصد الإسلام بهذا الوصف البديع لأنه المتبادر إلى الذهن! ثم بعد أن انتهى من وصف القصر وأخذ بقلوب الأخوة وهم يستمعون إليه بشغف! ثم استطرد قائلاً من دخل هذا القصر فقد فاز! ومن لم يدخله فلا يلومن إلا نفسه! إن هذا القصر حسن كل ما فيه حسن لأن الذي شيده البنا حسن! هذا القصر هو الإخوان المسلمون!! فهاج الأخوة وماجوا وعلت الأصوات وتداخلت فلم يعد أحد يفهم شيئاً من اختلاط الأصوات! ثم هدأت العاصفة فقام العبد الفقير إلى ربه بإلقاء كلمة بسيطة وتوجهت بعدة أسئلة للأخ صاحب القصر الحسن! أنت قلت من لم يدخل هذا القصر فلا يلومن إلا نفسه! فما مصير من لم يدخله قبل ميلاد الشيخ حسن البنا رحمه الله؟! هل هم على الإسلام الصحيح أم هم أهل شرك أم هم أهل فترة! فضحك الأخوة لما قلت له: (أهل فترة)! .. ثم قلت له: وما مصير أبي وأمي ومعظم أهالي المسلمين الذين لم يتشرفوا بالدخول في هذا القصر الحسن؟! وما حكم من رفض وأصر على عدم الدخول في هذا القصر الحسن؟! ولماذا يلومون أنفسهم ألِأنهم لم يدخلوا هذا القصر الحسن! ».
مثل هذه الرواية نقلها مؤخرا أحمد رائف، أحد قادة الإخوان السابقين ممن تركوا الجماعة، وقدمها بصيغة مصطلح طرح للنقاش في ستينات القرن العشرين، وأثيرت حوله العديد من التساؤلات بعد حادثة مماثلة وقعت في السجن أيضا. وفيها يقول (مع بعض التصرف في تحسين لغة العرض):
- « في سجن الواحات، أيام الرئيس عبد الناصر، كنا نجلس جميعا في جلسات سمر. وفي جلسة من الجلسات؛ أطلق عبد الفتاح المحروقي، وكان من رجال النظام السري، سؤالا حول ما إذا كان الإخوان هم جماعة المسلمين أم جماعة من المسلمين؟ ... ولكن معنى ذلك أن الخارج عن الجماعة هو غير مسلم. واشتد عليهم في الحجج؛ الشيخ فارس فريحة. وهو من علماء الأزهر الشريف وعالم دين جليل. وكانت حجته قوية في الرد علي ما يروجه الإخوان. وذات يوم كان الشيخ فريحة متوجها لأداء صلاة الفجر في المسجد وإذا بشخص يضربه ضربة قوية على رأسه بوتد خيمة ... وكان يقصد قتل الشيخ فريحة لمجرد اختلاف في الرأي. ولم يمت الشيخ من الضربة لكن الإصابة كانت تعني قتله، وظل يعالج منها لمدة ثلاثة أشهر، وتسترت الجماعة على الحادث».
في المحصلة فإن لازم القول ليس بلازم حتى لو صدر عن أعلى سلطة داخل الجماعة، لكنه يكفي أن يكون تهمة. فما بين الروايتين ثمة سؤال حول المصير العقدي لمن قد يكونوا واقعين خارج «جماعة المسلمين»؛ سؤال قد لا يجد جوابا مباشرا لكنه واقع، لا محالة، في سلوك الجماعة تجاه الآخرين أو في تعبيراتها السياسية عن قضايا الأمة بصورة يحق لي ما لا يحق لغيري. ولا ريب أن هذا تنزيه. فمن أين جاء الإخوان بهذا المنطق؟ قد يبدو السؤال مثيرا، لكن الأكثر إثارة في الأمر حين نكشف أنه منطق واقع في صميم تراث المؤسس. فلنقرأ الفقرة التالية للبنا وهو يتحدث عن موقف الجماعة من الدعوات الأخرى:
- « أحب أن أقول لكم هنا بكل وضوح إن دعوتكم هذه أسمى دعوة عرفتها الإنسانية، وإنكم ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه على قرآن ربه وأمناؤه على شريعته وعصابته التي وقفت كل شيء على إحياء الإسلام في وقت تصرفت فيه الأهواء والشهوات وضعفت عن هذا العبء الكواهل». ويتابع:« وإذ كنتم كذلك فدعوتكم أحق أن يأتيها الناس ولا تأتي هي أحدا وتستغني عن غيرها إذ هي جماع كل خير وما عداها لا يسلم من النقص، إذن فأقبلوا على شأنكم ولا تساوموا على مناهجكم واعرضوه على الناس في عز وقوة، فمن مد لكم يده على أساسه فأهلا ومرحبا في وضح الصبح وفلق الفجر وضوء النهار أخ لكم يعمل معكم ويؤمن إيمانكم وينفذ تعاليمكم، ومن أبى ذلك فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه».
لا شك أنها دعوة فيها تزكية وتنزيه بالمقارنة مع ما كان في المجتمع المصري آنذاك من فرق وجماعات بحيث تراءت الجماعة للمؤسس على أنها أسمى من غيرها. لكنها تزكية مشروطة بعبارة واضحة «إذا كنتم كذلك»! وليست صكا من صكوك الغفران. وليس أدل على نوايا البنا مما قاله بنفسه في موضع آخر حول أهلية الجماعة في تولي السلطة حيث قال بأن الإخوان: « لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله ».
يمكن أن تكون الجماعة هي «جماعة المسلمين» في زمانها وظروفها. لكنها لا يمكن أن تكون كذلك إلى الأبد حتى بعرف المؤسس، إلا إنْ كان المؤسس قد غفل عن سنة التدافع والتغيير، وجلَّ من لا يسهو. أما الانتقادات التي خرجت من رحم الجماعة فهي كثيرة خاصة ممن كانوا فيها، وبعضهم لا يزال منتميا إليها فكريا وتنظيميا، ومخلصا لها دعوة وأطروحة. وكان عبد الله فهد النفيسي واحدا من أبرز المنتقدين، ولعله أول من طعن في شرعية الجماعة على خلفية تعيين المرشد وعدم انتخابه، ودعا إلى حلها منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين. ثم جدد دعوته مسترشدا بتوصيف نقله عن زميل له يقول فيه أن الجماعة باتت كالإسفنجة تمتص طاقات الشباب وتجمدها. ومن جهته، وبعد خمس سنوات على دخول الإخوان للعملية السلمية والمشاركة في مجلس الحكم الانتقالي والحكومات اللاحقة، انتقد كبير منظري الإخوان العراقيين المنطق السلمي في التحالف مع قوى الاحتلال في العراق على حساب المقاومة. وثمة الكثير من المراجعات الصادرة وتلك التي تنتظر الصدور ممن أوغلت في نقد التجربة وكشفت عن الكثير من الخفايا والصراعات الدائرة في أروقة الجماعة، والتي تسرب بعضها إلى وسائل الإعلام.
الفصل الثالث فلسفة الجماعة ومنهجها
كل من اطلع على تاريخ الإخوان المسلمين منذ لحظة التأسيس وإلى يومنا هذا لا بد وأنه لاحظ أن الإخوان يمكن أن يختلفوا على كل أمر في تاريخهم وحاضرهم لكنهم لا يختلفون على شخصية حسن البنا. فهو بالنسبة لهم المؤسس والداعية والإمام والمجدد والقدوة والأسطورة. ولو تتبعنا كتاباتهم لوجدناها تعج بعبارات الثناء التي تصفه بالشخصية العبقرية اللامعة، حاد الذكاء، الخطيب المفوه، الساحر، لغز العصر، بعيد النظر، العالم بما يريد، صاحب العزيمة، المرشد، الموجه، المفكر .... كل هذا ولم يكن البنا قد تجاوز الثانية والعشرين من عمره حين أسس الجماعة.
هذه الصورة المثالية للبنا جعلت من أطروحاته المرجعية الأولى والأخيرة للجماعة لاسيما وأن هذه الأخيرة، وإنْ تأثرت بأطروحات كبار مفكري ومشايخ الإخوان، إلا أنها لم تتقبلها لا كعقيدة ولا كمنهج. بل أن الجماعة، طبقا لأطروحاتها الراهنة وسياساتها وتحالفاتها، يمكن أن تتماهى مع شخصية الإمام في بعض أطروحاته، كمؤسس، لكنها لا يمكن أن تتماهى معه في أطروحاته المتأخرة ولا مع أطروحات عبد القادر عودة أو سيد قطب.
ومع أن حسن البنا المؤسس غير حسن البنا الشاب الناضج إلا أن الفلسفة الإصلاحية ظلت تعمل كملاذ آمن للجماعة في مختلف مراحل حياتها ولو بمحتويات ومضامين مختلفة جذريا عن انطلاقتها الأولى. لذا فإن الخوض فيها ستكون عملية شاقة ومتشعبة جدا، وما يسعفنا في العرض هو فقط احتياجات البحث التي تركز على أكثر القضايا إثارة للجدل مع تنظيم القاعدة.
أولا: منهج الجماعة في التغيير
لم يكن البنا في سنوات حياته الأولى ليقدم أطروحة عقدية على الإطلاق. وبطبيعة الحال ليس هذا التشخيص انتقاصا من الرجل وإنجازاته لكنها الحقيقة التي تغيب عن الكثيرين حين التعرض لعقيدة الإخوان المسلمين. فالرجل كان داعية ومصلح اجتماعي دون زيادة أو نقصان. ورغم أن هذا الأمر هيمن على عقله وقلبه حتى نهاية حياته إلا أنه كان، في زمانه، أيضا صاحب نظرة في حاضر الإسلام ومستقبله.
ففي البداية كان قوام الدعوة عنده إصلاح النظام الاجتماعي برمته. بمعنى التدخل في كل تركيبة من تركيبات النظام وتقسيماته سواء على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي ...، أو على مستوى الفرد والجماعة والدين، أو على مستوى الدولة والمؤسسة. وكانت مناهجه التي يعتمدها لتحقيق غايته أو غاية الجماعة هي الدعوة والتربية والإعداد والنصح بعيدا عن أية توترات أو مشاحنات سياسية أو خصومات أو مواقف عقدية مسبقة أو حماسة عاطفية. وتبعا لذلك بلغت المناهج السلمية في التغيير أوجها عبر العلاقة المتينة التي ربطت بين الجماعة والقصر الملكي خاصة بعد تولي الملك فاروق العرش سنة 1936. فقد كانت الجماعة تراهن على القصر متوسمة الخير في الملك خاصة وأنه تلقى تربية دينية رعاها آنذاك شيخ الأزهر مصطفى المراغي الذي تربطه علاقة بالبنا وإنْ كانت سلبية في بعض الأحايين. بل أن الجماعة استبشرت خيرا بحكومة علي ماهر التي تشكلت في آب / أغسطس سنة 1939 وضمت ثلاثة شخصيات من قادة العمل الإسلامي. ولعل أعباء الجماعة، بهذه العلاقات، لم تكن فعلا مهيأة لغير الدعوة بالحسنى والتبشير بأهدافها، ولم يكن لها من مصلحة غير ذلك.
وبحلول العام 1938، وفي فاتحة العدد الأول من السنة الخامسة على صدور مجلة الإخوان المسلمين*، كتب البنا مقالة بعنوان: « فليطمئن الزعماء» اعتبرها توجيها للإخوان حتى فيما سيلاقيهم في مستقبل دعوتهم. وفي المقالة أكد على طبيعة الدعوة ومنهجها السلمي وعلى الموقف من الدعوات الأخرى. ولما نشرها في مذكراته عنونها بـ: « طبيعة دعوتنا البناء وليس من طبيعتها الهدم». وبعيد قليل انعقد المؤتمر الخامس للجماعة، وزاد البنا في طمأنة السلطة، وفي نفس الوقت نصحها، قائلا: « أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وعلاج سريع لهذه المشاكل، فسيؤدي ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح. وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن ويستفحل أمرها بمضي الأيام إلا نذيرا من هذه النذر، فليسرع المنقذون بالأعمال».
وظل البنا يجيب على الأسئلة ويرد الشبهات عن الجماعة في كل مناسبة متمسكا بالمنهج السلمي ابتداء من الإقناع واستعمال كافة وسائل الدعوة والنشر وانتهاء بالنضال الدستوري. وفي رسالته « من هم الإخوان المسلمون؟»، الصادرة عن المؤتمر السادس للجماعة (كانون الثاني / يناير سنة 1941)، والتي جاءت بعد أزيد من ثلاثة عشر عاما على تأسيس الجماعة، عاد ليحدد فيها هوية الإخوان وغايتهم البعيدة التي تتمثل في تحقيق: « إصلاح شامل كامل تتعاون عليه قوى الأمة جميعاً وتتجه نحوه الأمة جميعاً ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل. إن الإخوان المسلمين يهتفون بدعوة ، ويؤمنون بمنهاج ، ويناصرون عقيدة ، ويعملون في سبيل إرشاد الناس إلى نظام اجتماعي يتناول شؤون الحياة جميعاً اسمه (الإسلام) ».
لكن؛ ليس هناك من يقرأ فلسفة الجماعة، بموضوعية، إلا ولا يلاحظ أن الفلسفة الإصلاحية والمناهج السلمية للجماعة في التغيير والتبديل إما أنها تطورت فعلا ولم تبق على حالها حتى في زمن المؤسس، أو أنها بدأت تتكشف إلى حد المجاهرة بها. فقد كان البنا، بنفسه، يلاحظ التغيير الذي كان يترافق مع نمو الجماعة وشعورها بامتلاكها لعناصر قوة ستنعكس لاحقا على توجهات الجماعة وبنائها التنظيمي عبر ما يعرف بتأسيس النظام الخاص الذي قاده عبد الرحمن السندي. وعليه فلم تعد المناهج السلمية تلقى صدى كبيرا مع تجذر الفساد وصعوبة التغيير ما لم تساندها قوة مادية ضاغطة. أما البنا فقد فهم الرسالة جيدا، وكعادته فلم يسع إلى الاصطدام مع التيار المائل إلى استخدام القوة في الجماعة أو من أسماهم بـ « المتعجلين»، لكنه بذل جهودا جبارة لاستيعابه عبر مساندته وتوجيهه بما يخدم مصالح الجماعة.
فالفرق الرياضية الأولى التي أنشئت في مدينة الإسماعيلية (1928) ثم « الجوالة 1935» و « الكتائب-1937 » و « الأُسر» و « النظام الخاص - 1939»، كلها تنظيمات تحمل تعبيرات القوة، وتأسست في خضم الدعوة والعمل الإصلاحي. وخلال انعقاد المؤتمر الخامس (1938/1939) انصب التركيز على ما وصفه البنا بالمرحلة الثانية، مرحلة التكوين. لكن أبرز ما جاء في المؤتمر أن لغته كانت الأشد بأسا وتحديا في تاريخ الجماعة. وعلاوة على تحديده لهوية الجماعة كـ : « رسالة سلفية وطريقة سنية ...»، فقد حدد لأول مرة محتوى « إسلام الإخوان المسلمين». إذ تعتقد الجماعة « أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شؤون الناس في الدنيا وفي الآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف».
ولأن مشاعر القوة بدأت تلقي بظلالها على نفسية الجماعة؛ فقد شقت التساؤلات الباحثة عن الأهداف والخطوات المقبلة طريقها إلى المؤتمر: « هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غاياتهم؟ وهل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة على النظام السياسي أو الاجتماعي في مصر؟». فماذا كان جواب المؤسس؟ لنقرأ:
- « إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة… وسيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولا.. ».
أما بالنسبة لـ «المتعجلين»، فعليهم أن يدركوا أن: « ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ». فما العمل إذن لتهدئة النفوس وتبصيرها بمسؤولياتها؟ لا شيء، من وجهة نظر البنا، إلا الإعداد: « وفي الوقت الذي يكون فيه منكم – معشر الإخوان المسلمين – ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحيا بالإيمان والعقيدة، وفكريا بالعلم والثقافة، وجسميا بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء الله … إني أُقدِّر وقتا ليس طويلا… وقد تستطيعون أنتم معشر نواب الإخوان ومندوبيهم أن تُقَصِّروا هذا الأجل إذا بذلتم همتكم وضاعفتم جهودكم … فلا تضيعوا دقيقة بغير عمل».
لكن وقع الشعور بالقوة على الجماعة كان أثقل من وقع كلمات المؤسس عليها. ويبدو أن غليانا بات يسري في رحاب الشُّعَب والمؤسسات وحتى في عقل المرشد لم يستطع أن يخفيها. وما هي إلا بضعة شهور على انعقاد المؤتمر الخامس حتى استوطنت في الجماعة قناعات جديدة فيما يتعلق بمناهج التغيير وبعظم التحديات ومصدرها وبحقيقة الحكام ونواياهم.
فقد أقرت الجماعة (أولا) بحجم التحديات الأجنبية، واعترفت: « بأن موجة قوية جارفة وتيارا شديدا دفاقا قد طغى على العقول والأفكار في غفلة من الزمن وفي غرور من أمم الإسلام»، حيث: « قامت مبادئ أو دعوات وظهرت نظم وفلسفات وتأسست حضارات ومدنيات ونافست هذه كلها فكرة الإسلام في نفوس أبنائها وغزت أممه في عقر دارها وأحاطت بهم من كل مكان وانخدعت بها دول كانت في الصميم والذؤابة من دول الإسلام»، ولعل ما هو أسوأ من ذلك لما: « نشأ في كل الأمم الإسلامية جيل مخضرم. إلى غير الإسلام أقرب.. احتل مكان الزعامة .. وارتفعت الأصوات: أنْ خلصونا مما بقي من الإسلام وآثار الإسلام» .
ولاحظت (ثانيا) صعوبة تحقيق الإصلاح سلما أو عن طريق القصر خاصة وأن هؤلاء الحكام: « تربوا في أحضان الأجانب.. ولا نبالغ إذا قلنا أن الفكرة الاستقلالية في تصريف الشؤون والأعمال لم تخطر ببالهم فضلا عن أن تكون منهاج عملهم»، ومع أننا: « تقدمنا بهذه الأمنية إلى كثير من الحاكمين في مصر فكان طبيعيا ألا يكون لهذه الأمنية أثر عملي.. وفاقد الشيء لا يعطيه». وعليه فلا مفر من أن تقف الجماعة: « بوجه هذه الموجه الطاغية من مدنية المادة وحضارة المتع والشهوات التي جرفت الشعوب الإسلامية .. حتى تنحسر عن أرضنا.. بل سنلاحقها في أرضها وسنغزوها في عقر دارها». أما من يتهم الجماعة باليأس فليعلم: « أن الدعوة لا تنتصر إلا بالجهاد والتضحية والبذل وتقديم النفس والمال».
وكي تكون الخيارات الجديدة واضحة لا لبس فيها فقد رأت الجماعة (ثالثا) أن تكون « مصر أولا »، نقطة الانطلاق المركزية في العمل.
الثابت أن الجماعة بقيادة مؤسسها اختارت المناهج السلمية بكافة أدواتها ووسائلها لتحقيق أهدافها. لكنها في نفس الوقت لم تكن لتغفل عن الأخذ بالمناهج الأخرى. فقد كانت تعمل عليها داخليا في الإعداد والتربية وبناء التشكيلات المنظمة وشبه العسكرية لكنها لم تكن لتجاهر بها ولا لتدفع بها إلى المقدمة وهي في طور البناء والتأسيس. أما وقد استشعرت بعناصر القوة لديها فمن الطبيعي أن تنتقل إلى مرحلة أكثر تقدما على مستوى الخطاب الذي لم يكن مألوفا قبل المؤتمر الخامس وبنفس الوقت عدم التنازل قيد أنملة عن خطابها الإصلاحي. وهذه بالضبط ميزة المناهج الإخوانية في التعامل مع غيرها. فلا هي تبدو جماعة إصلاحية صافية، ولا هي واضحة المعالم فيما يتعلق بالجهاد. فهل ستكون عقائدها أوضح من مناهجها؟
ثانيا: أطروحات «المحن»!
كالمنهج تماما، وبمحتوى أشمل وأشد أثرا وتأثيرا، مرت دعوة الجماعة بتغيرات جذرية نقلتها من طور إلى طور مختلف، وعرّضتها لحملات قمع شديدة، قبل سنة 1952 وبعدها، من قبل القصر والثورة على السواء فقدت الجماعة بموجبها أعظم رموزها من القادة والمفكرين والعلماء بمن فيهم المؤسس. ويبدو أن الجماعة، التي لم تعتد المصادمات ولا الخصومات ولم تسع إليهما، وقعت تحت هول الصدمة، بعدما شعرت أن ما أصابها من مِحَن، لم يكن إلا بفعل أطروحاتها الجديدة التي كادت تودي بها إلى الهاوية أو تعرضها للفناء إنْ لم تتراجع عنها. وهو ما كان فعلا. فما هي هذه المحن؟ وأين بدأت؟
- الحكم والخلافة
مثلت أطروحات البنا في رسالته إلى المؤتمر الخامس نقلة نوعية في الفكر والعمل. وفيها تطرق لغاية الإخوان وخصائص دعوتهم وإسلامهم وفكرتهم وهويتهم وعلاقاتهم بالهيئات والكبراء والأعيان والأحزاب والأوروبيين وفلسطين. كما تحدث عن الخطوات التنفيذية القادمة مؤثِرا الناحية العملية، وعن انتشار الجماعة في القرى والمدن، وتحدث عن الإخوان والثورة والقوة، وعن موقف الإخوان من الدستور والقانون والوحدة القومية والعربية والإسلامية. وتحدث عن الخلافة والحكم، ثم كرر لغته في المؤتمر السادس (كانون الثاني / يناير 1941) حين تحدث عن الحكومة الإسلامية وبعث الأمة الإسلامية الشامل، وتساءل عن الحاكمية ودولة القرآن مستشهدا بآيات الحاكمية.
وفي أقل من 300 كلمة فقط تحدث البنا عن الخلافة ووجوب استعادتها باعتبارها رمز الوحدة الإسلامية وشعيرة إسلامية يضعها الإخوان على رأس مناهج الجماعة. لكنها ليس مطلبا ملحا. فـ «الإخوان يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها , وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات»، إذ: « لا بد من تعاون تام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات ، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد، وإن ... ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية, حتى إذا تم ذلك للمسلمين نتج عنه الاجتماع على (الإمام) الذي هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض».
لكن البنا كثيرا ما تحدث عن الحكومة الإسلامية أو الدولة الإسلامية. فإذا كان من الممكن تأجيل البت في مسألة الخلافة فإن تطبيق الشريعة لا يمكن تأجيلها. وهذا أمر يحتاج إلى حسم لا إلى الشك أو الحيرة والارتباك. إذ أن: « الإسلام حكم وتنفيذ ، كما هو تشريع وتعليم ، كما هو قانون وقضاء ، لا ينفك واحد منها عن الآخر ... »، أما واقع الحال فيقول أن: « التشريع الإسلامي في واد والتشريع الفعلي في واد آخر», وعليه: « فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف. هذا كلام واضح لم نأت به من عند أنفسنا , ولكننا نقرر به أحكام الإسلام الحنيف وعلى هذا فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله ».
كان البنا يأمل بإقامة حكم إسلامي ودولة إسلامية تطبق الشريعة كخطوة على طريق الخلافة. وحين رد البنا على «المتعجلين»، في رسالته إلى المؤتمر الخامس (1939)، مطالبا إياهم بالتريث والانتظار كان، في الحقيقة، يخاطب «المتقاعدين» ويحثهم على العمل والجهد لاختصار مرحلة البناء والتغلب على دورة الزمن. هذا إذا كان على الجماعة أن تنتقل إلى المرحلة الأخيرة، مرحلة التنفيذ. ومع أن البنا ظل ممسكا بفلسفة الإصلاح وتقديمها على ما عداها من مناهج إلا أنه لم يعد ذلك الداعية المسالم خاصة بعد أن خلصت الجماعة، وهو شخصيا، إلى نتائج تفيد بـ:
أنها وصلت إلى طريق مسدود، وأن أي إصلاح تأمله بصيغتها الدعوية لا يمكن أن يمر طالما أن البلاد محتلة، وأن قوى الاحتلال، بالتعاون مع النخبة التغريبية، هي التي ترسم معالم الأمة جغرافيا وسياسيا وثقافيا. فما الفائدة إذن من التعويل على زعماء تربوا في أحضان الغرب؟
عدم الثقة بالقصر ولا بالحكومات بعد أن تبين أن لغة الخطابات الحميمة والمذكرات الموشحة بالألقاب الجليلة للملك والوزراء والمسؤولين لم تجد نفعا. هذا مع العلم أن هذه الصيغ في المخاطبة ستستمر حتى وفاته.
إن المشكلة اتضحت معالمها باعتبارها مشكلة أمة وعقيدة وليست مشكلة نظام اجتماعي فاسد.
هذه الخلاصات مكنت فرع النظام الخاص في الجماعة من التقدم للأمام في استعداداته. وكانت كافية لتعرية حقيقة نوايا القصر والحكومة في أول لحظة حسم كبرى تمثلت بتقسيم فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل على أراضيها في 14/5/1948. فأي جدوى من دعوة عجزت، بعد ثلاثين عاما من العمل، عن إحداث فارق مميز ينتصر لفلسطين وأهلها، إلا من إرسال ألفي متطوع، بعد فوات الأوان، وبشق الأنفس عبر مفاوضات عسيرة ووساطات كبيرة تدخلت فيها أطراف عدة للسماح للجماعة بدخول فلسطين والمشاركة في الحرب ضد اليهود. وأي جدوى من نهج إصلاحي ولدت إسرائيل فيما سقطت فلسطين، أمام ناظريه، اغتصابا وليس احتلالا فقط؟
فهل كان المرشد المؤسس يوطئ للظروف التي تسمح له أن يرفع من سقف الدعوة لتصل إلى أقصى مدياتها، وأن يكون حاسما في القول، وصريحا بأن الأمة مدعوة إلى خوض المعركة الفاصلة مع القصر، ومع الحكومة، ومع نفسها، ومع الذات الفردية؟ وهل كان عليه أن يخوض معركة عقدية شاملة .. مفتوحة، وعلى كل صعيد. معركة المصحف ضد معركة العلمانية؟ هل أن مرشد البداية فعلا هو غير مرشد النهاية؟
- 2) معركة المصحف
لاحظ أحد الباحثين أن المفكر الإسلامي محمد قطب انفرد بالتمييز بين فكر «البنا» في بداية تأسيس الجماعة وفكره في أواخر أيامه خاصة فيما يتعلق بتطبيق الشريعة قائلا:« لئن كان هذا لم يكن واضحاً تماماً في مبدأ الطريق، أو كان خافياً وراء الحماسة العاطفية للجماهير، فقد اتضح في حس الإمام الشهيد في أيامه الأخيرة على ضوء الخبرة الواقعية كما يبدو ذلك واضحاً متبلوراً» في مقالة: «معركة المصحف – أين حكم الله؟». ولمزيد من التأكيد في تبلور فكر البنا بصورة أوضح يوضح قطب ذلك قائلا: «نعم، لقد اتضح الأمر في حس الإمام الشهيد في أيامه الأخيرة»، ولكنه « لم يُمهَل حتى يرسِّخ هذا المعنى في قلوب أتباعه ... ، فظل ... غير واضح في نفوسهم، ولا تبدو آثاره في تخطيهم وتحركهم وأفكارهم». فما الذي قاله «البنا» في مقالته؟ لنقرأ النص:
بعد إيراده لمجمل آيات الحاكمية التي افتتح مقالته ببعضها واستشهد بالبقية في متن النص؛ أعلن البنا سلسلة من الأحكام الشرعية نثبتها بنصها كما يلي:
- «الإسلام دين ودولة ما في ذلك شك. ومعنى هذا التعبير بالقول الواضح أن الإسلام شريعة ربانية جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية، وكلت حمايتها ونشرها والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها، وتبليغها للذين لم يؤمنوا بها إلى الدولة، أي إلى الحاكم الذي يرأس جماعة المسلمين ويحكم أمتهم».
لكن ما هو الحكم الشرعي إذا لم تطبق الحاكمية؟ يجيب البنا بالقول: «إذا قصر الحاكم في حماية هذه الأحكام لم يعد حاكماً إسلامياً. وإذا أهملت الدولة هذه المهمة لم تعد دولة إسلامية. وإذا رضيت الجماعة أو الأمة الإسلامية بهذا الإهمال ووافقت عليه لم تعد هي الأخرى إسلامية….، ومهما ادعت ذلك بلسانها. وإن من شرائط الحاكم المسلم أن يكون في نفسه متمسكاً بفرائض الإسلام بعيداً عن محارم الله غير مرتكب للكبائر». فهل يكفي أن يكون الحاكم مسلما كي تكون الدولة مسلمة؟
- « وهذا وحده لا يكفي في اعتباره حاكماً مسلماً حتى تكون شرائط دولته ملزمة إياه بحماية أحكام الإسلام بين المسلمين، وتحديد موقف الدولة منهم بناء على موقفهم هم من دعوة الإسلام. هذا الكلام لا نقاش فيه ولا جدل، وهو ما تفرضه هذه الآيات المحكمة من كتاب الله. ولقد كانت آيات النور صريحة كل الصراحة، واضحة كل الوضوح في الرد على الذين يتهربون من الحكم بما أنزل الله، وإخراجهم من زمرة المؤمنين؛
- « ولا يكفي في تحقيق الحكم بما أنزل الله أن تعلن الدولة في دستورها أنها دولة مسلمة، وأن دينها الرسمي الإسلام، أو أن تحكم بأحكام الله في الأحوال الشخصية وتحكم بما يصطدم بأحكام الله في الدماء والأموال والأعراض، أو يقول رجال الحكم فيها إنهم مسلمون سواء أكانت أعمالهم الشخصية توافق هذا القول أم تخالفه. لا يكفي هذا بحال. ولكن المقصود بحكم الله في الدولة أن تكون دولة دعوة، وأن يستغرق هذا الشعور الحاكمين مهما علت درجاتهم والمحكومين مهما تنوعت أعمالهم. وأن يكون هذا المظهر صبغة ثابتة للدولة توصف بها بين الناس، وتعرف بها في المجامع الدولية، وتصدر عنها في كل التصرفات، وترتبط بها في القول والعمل؛
- « في العالم دولة اسمها الاتحاد السوفيتي، لها مبدأ معروف ولون معروف ومذهب معروف، نحن لا نأخذ به ولا ندعو إليه، ولكنا نقول إن هذه الدولة عرفت بلونها هذا بين الناس وفي المجامع الدولية، وهي ترتبط بمقتضياته في كل تصرفاتها وأقوالها وأعمالها. وقد أرادت إنجلترا وأمريكا تقليدها فادعتا أنهما تصطبغان بالدعوة إلى شيء اسمه الديمقراطية، وإن اختلف مدلوله بمختلف المصالح والمطامع والظروف والحوادث. فلماذا لا تكون مصر – وهي دولة مستقلة وذات سيادة – معروفة في المجامع الدولية بتمسكها بهذه الصبغة الإسلامية وحرصها عليها ودعوتها إليها وارتباطها بها في كل قول أو عمل؟ ذلك هو أساس الحكم بما أنزل الله. ومتى وجد هذا المعنى، وارتبطت الدولة بهذا الاعتبار، واصطبغت بهذه الصبغة، فستكون النتيجة ولا شك تمسك الحاكمين بفرائض الإسلام واتصافهم بآدابه وكمالاته، فيتحقق حكم الله فردياً واجتماعياً ودولياً وهو المطلوب».
هذا التوصيف الذي يقدمه البنا للحاكم والدولة والأمة دفعه للتساؤل: « أين نحن من هذا كله؟»، وفي نفس الوقت اضطره للإجابة بلا تردد: « الحق أننا لسنا منه في شيء. وكل حظنا منه نص المادة 149 من الدستور، ثم ما بقى في نفوس هذا الشعب من مشاعر وعواطف وتقدير وأعمال وعبادات. أما الحكومة والدولة ففي واد آخر». إذن، وبحسب البنا فليتحمل كلّ مسؤولياته، فـ :
- « يا دولة رئيس الحكومة أنت المسئول بالأصالة؛ ويا معالي وزير العدل أنت المسئول بالاختصاص؛
- ويا نواب الأمة وشيوخها أنتم المسئولون باسم أمانة العلم و التبليغ التي أخذ الله عليكم ميثاقها؛
- ويا أيتها الأمة أنت المسئولة عن الرضا بهذا الخروج عن حكم الله، لأنك مصدر السلطات».
- 3) المصطلح العقدي بين الصعود والهبوط
كل من قرأ تراث البنا سيدهش وهو يقارن «معركة المصحف» بتراث الدعوة برمته. فقد كانت ذروة ما وصل إليه من تفكير قبل اغتياله بتسعة شهور تقريبا (12/2/1949)، ولعلها ذروة ما أراده للجماعة أن تعمل عليه، ولتكونه في المستقبل. لكن ما لم يكمله «البنا» ويعمل عليه أكمله خلفاؤه من مشايخ الجماعة وعلمائها ومفكريها أمثال عبد القادر عودة وفريد عبد الخالق ومحمد فرغلي والأخوين علي وعبد الفتاح إسماعيل ومحمد الغزالي الذي ألف كتابا بعنوان: «معركة المصحف». لكن يبقى سيد قطب صاحب أوسع وأشمل وأعمق فكر إسلامي قام، في صميمه، على التوحيد، وصاحب أغزر المؤلفات والكتابات والأبحاث، وصاحب أشهر الكتب الإسلامية الحركية حتى يومنا هذا، وصاحب أغرب تاريخ لرجل اتخذ قرار إعدامه بقلمه من داخل السجن قبل أن يصدر به قرارا بالإعدام، حتى أن الكتيب الشهير: «لماذا أعدموني؟» ينسب إليه.
على كل فقد كانت مشاركة الجماعة في حرب فلسطين مقدمة لسلسلة من العواصف التي بدأت تضرب الجماعة سواء من داخلها أو بفعل إجراءات الحكومة. وقبيل ذلك بقليل في 23/3/1948، اغتيل المستشار أحمد الخزندار واتهم الجهاز الخاص للإخوان بالمسؤولية عن الحادثة. وجهدت الجماعة في تبرئة نفسها من المسؤولية حتى قال المرشد العام للجماعة معقبا على الفاعلين بأنهم: « ليسوا إخوانا .. وليسوا مسلمين». وفي أعقاب قرار حكومي بحل الجماعة في 8/12/19948 اغتيل رئيس الحكومة محمود فهمي النقراشي في 28/12/1948.
وهنا بالضبط يبدو أن الجماعة قررت هذه المرة الثورة والانقلاب على القصر خلافا لأطروحة سابقة عبر عنها البنا ونفى فيها أن تكون الثورة من عمل الإخوان أو من مناهجهم. ففي 23/7/1952 استطاع تحالف الإخوان مع مجموعة من الضباط المصريين أن يطيح بالحكم الملكي في مصر. وظن الإخوان أنهم بهذا التحالف قد وصلوا إلى عتبة الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة، إلا أن الرياح سارت بغير ما تشتهيه أشرعة الإخوان. وسرعان ما دبت الخلافات بينهم وجمال عبد الناصر الذي استطاع تحييد الرئيس محمد نجيب المحبب إلى قلوب الإخوان. ولم تنفع محاولات التهدئة بين الجانبين خاصة ذلك الاجتماع الذي عقد بين الجماعة ومجلس قيادة الثورة في منزل عبد الناصر بتاريخ 20/9/1954، فقد رفضت الهيئة التأسيسية الاتفاق الذي نجم عن الاجتماع. ويبدو أن الجماعة تعجلت في السعي إلى وضع أهدافها موضع التطبيق قبل أن تتبين حقيقة الوضع وموازين القوى داخل السلطة الجديدة. وثمة من يرى في ذلك خطأ في ترتيب الأولويات السياسية أدى إلى الاصطدام بالسلطة.
وكان الصدام الحتمي بين الجانبين ينتظر شرارة الانطلاق إلى أن وقعت حادثة المنشية بمدينة الإسكندرية في 26/10/1954. إذ أُطلق فيها على رئيس الوزراء جمال عبد الناصر ثماني طلقات نارية أمام حشود من الجماهير المستمعة لخطاب كان يلقيه بمناسبة التوقيع على اتفاقية الجلاء عن القناة، وهي أحد أكبر مواضع الخلاف مع السلطة في حينه. وينفي الإخوان المسلمون أية علاقة لهم بالحادثة. بل ويعتبرونها من تدبير عبد الناصر ذاته. ومن هنا بدأت أضخم محنة يتعرض لها الإخوان في تاريخهم. وسبق الحادثة حل الجماعة في 14/1/1954. وتبع ذلك مصادرة ممتلكات الجماعة ومطاردتهم والزج بالآلاف منهم في السجون، وفيها قتل العشرات منهم (30 ضحية) وجرح أكثر من ذلك حين فتحت الشرطة المصرية نيران أسلحتها، بشكل مفاجئ، على السجناء في سجن ليمان – طرة في 1/6/1957. وخلال سنتي 1965 / 66 تعرضت الجماعة لموجة ثانية من الاعتقالات توجت في 28/12/1966 بإعدام ثلاثة من قادة الجماعة على رأسهم سيد قطب.
قبل السجن وعلى امتداد خمسة عشر عاما داخله كتب سيد قطب* في الحاكمية والطاغوت والتوحيد والخلافة والمجتمع الإسلامي والفكر الإسلامي، ولعله لم يترك قضية جدلية في الإسلام إلا وتطرق إليها. وقد أثارت أطروحاته جدلا وانقسامات بين القوى الإسلامية خاصة إثر كتابه الشهير معالم في الطريق والذي حدد فيه الكثير من المواقف وخطوات العمل مستخلصا العبر من تجارب الماضي، وقاطعا، كالبنا، أي أمل في إحداث التغيير في المجتمع والدولة. فهو يرى في المعالم أن المجتمع يعيش في جاهلية وأن الدولة غير إسلامية. لذا فهو يقترح تكوين عصبة مؤمنة تنعزل عن المجتمع والدولة وتؤسس لإقامة مجتمع إسلامي نقي يصلح أن يكون نواة للتحرك.
والثابت أن السجون المصرية تسببت بحراك فكري عميق بين السجناء نتج عنه مواقف وأطروحات وتمايزات في صفوفهم لجهة ما طرحه البنا. فالقسم الأول، كسيد قطب، عمق من الأطروحة لدرجة أنه حولها من مصطلحها السياسي والاجتماعي إلى المصطلح العقدي، وحتى إلى مصطلحات حركية تحدد آليات العمل بدقة. وقسم ثاني ذهب أبعد مما ذهب إليه قطب كعبد الفتاح إسماعيل وشقيقه علي وشكري مصطفى الذي أسس لاحقا «جماعة المسلمين» التي اشتهرت إعلاميا بجماعة «التكفير والهجرة». أما القسم الثالث من الإخوان فقد التزم الأطروحة التقليدية للجماعة مبتعدا حتى عن أطروحات البنا ناهيك عن أطروحات سيد قطب وشكري مصطفى رغم أن الإخوان ظلوا على تماس عميق مع أطروحات سيد قطب ولو على المستوى الفردي.
هذه المحن التي تعرضت لها الجماعة أفقدتها خيرة علمائها ومفكريها، ودفعت بمن تبقى منها إلى حظيرة الفلسفة الإصلاحية من جديد. والغريب في التقسيمات الثلاثة أنها جميعا تعرضت لمحنة السجون وصنوف التعذيب التي تشتهر بها الشرطة المصرية. وبدلا من أن تحافظ الجماعة على تقدم أطروحاتها تمايزت صفوفها فأعدم « قضاة» الجماعة وتراجع « دعاتها » إلى المجهول بعد وفاة عبد الناصر وتولي الرئيس محمد أنور السادات للسلطة حيث عمد إلى الإفراج عن كافة المعتقلين الإسلاميين كخطوة لمواجهة القوى العلمانية وتركة سلفه. ومن هؤلاء خرجت من السجون أطروحة « دعاة لا قضاة» للمستشار حسن الهضيبي كتعبير عما يفاخر به الإخوان الآن بأنهم أول من أجرى المراجعات في الجماعة.
وهكذا، ففي الوقت الذي تفرغت فيه الجماعة لإعادة ترميم نفسها مفضلة الأمن والسلامة العامة على التصادم، كانت « تنظيمات الغضب الإسلامي في مصر السبعينات» مثل التكفير والهجرة والجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد وتنظيم الكلية الفنية العسكرية تشق طريقها بسرعة قياسية مشكلة أخطر تحد للجماعة التي انزوت تماما عن أي عمل إسلامي.
واقع الأمر أن تراجع الجماعة ورفضها للأطروحات الجديدة لم يكن يستهدف إعادة تقييم لما جرى سابقا. ولم يكن بنفس الوقت عودة إلى المربع الأول كجماعة دعوية أو إصلاحية. فهي، مع الوقت، صارت أقرب إلى الدعوة السياسية والشركة الاقتصادية بعد أن استنزفت نفسها حتى من أطروحاتها التأسيسية. وكذا لم تعد لها أية مرجعيات إلا ما يلائم مصلحتها ككيان قائم. وقد يكون في هذا التقييم، بنظر الجماعة، بعض المبالغة، لكن هذا ما يظهر منها للعيان. إذ علاوة على تجاهلها لتراث البنا ورفضها لسيد قطب وتخليها عن المنطلقات الأولى فقد أدارت ظهرها للماضي ووقفت فيما تسميه جماعات الجهاد موقف الخذلان، وغرقت في تنمية المال والثروة، وجاهرت بعدم رغبتها بتطبيق الشريعة واندرجت بكامل ثقلها في العمل السياسي والنقابي، بعيدا حتى عن « شعار الإسلام» هو الحل، ودخلت في تحالفات مع الأمريكيين وغيرهم في غزوهم لبعض البلاد الإسلامية، وفي الجزائر تحالفت مع حكم العسكر ضد كافة القوى العلمانية والإسلامية وقدمت له غطاء شرعيا. وعبرت عن تناقضات صارخة في هويتها كجماعة إسلامية بينما تستخدم المصطلحات العلمانية لتقديم نفسها والدفاع عن نواياها وسياساتها، وحتى حركة حماس الفلسطينية لم تفلت من هذا التوجه، ولم تعد تألو جهدا في العمل السياسي تحت الاحتلال الإسرائيلي أو في البحث عن تسوية معه. وكل هذا في كفة وتحالفاتها مع الإيرانيين وحزب الله الشيعي في لبنان في كفة أخرى حتى وصلت إلى حد إجازة التعبد بالمذهب الشيعي، والدفاع عن حق إيران في نشر مذهبها في أوساط السنة. فماذا بقي من الجماعة وتاريخها ومنطلقاتها وأهدافها؟ وكيف تدافع عن برنامج مقاومة هنا وتدينه هناك؟
ولو فتشنا الآن عن مشروع الجماعة في شتى بقاع الأرض لما وجدنا لها مشروعا واحدا تدعو إليه. ثمة تصريحات هنا وهناك تذكِّر بالخلافة أو الحكم الإسلامي لكنها تظل في إطار التعبير عن المواقف الشخصية للجماعة ولا تعبر عن موقفها المعلن.
الفصل الرابع مستقبل الجماعة
لا شك أن البحث في مستقبل الجماعة أمر محير ومربك. فإذا كنا نتحدث عن فكرة فمن الصعب القول بأن الفكرة يمكن أن تنتهي بمجرد استنفاذها لأغراضها، وإذا كنا نتحدث عن جماعة بعينها فهذا لا ينطبق على الجماعة خاصة وأن الفكرة باتت مسلحة بنمط معيش يمكن لأية مجموعة أن تعيد استئنافه، وكذا بعشرات الفروع في شتى أنحاء العالم متخذة من التواجد أشكالا متنوعة وغير تنظيمية، زيادة على أن الجماعة غدت منذ زمن طويل منظومة بنى مادية تشمل مجالات متعددة بدء من الاقتصاد والإغاثة مرورا بالجمعيات والمؤسسات الصحية والدينية والإعلام وغيرها. إذن فلنتحدث عنها كمنهج في إطار نقاط القوة والضعف.
أولا: مؤشرات قوة
- الفلسفة الإصلاحية ومبدأ السلامة العامة
لا ريب أن رفض الخطاب الراديكالي للجماعة، حتى الذي عبر عنه المؤسس، وانتهاج السلامة العامة قد يبدو للخصوم انتكاسة أو حتى خيانة. لكنه بالنسبة للجماعة بديل ناجح. ذلك أن تراث المؤسس نفسه وتعريفه للجماعة بوصفها: « رسالة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية ومنظمة رياضية ووحدة ثقافية تعليمية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية»، يعبر عن مرونة فائقة تتيح للجماعة التأقلم والتشكل مع الظروف بقدر ما تحتاج إليه، ودون أن تتحمل أعباء هي بغنى عنها. كما أن التراث المنهجي للجماعة يمكِّنها من أن تقدم نفسها كحاملة لراية الإسلام الوسطي الأكثر مرونة من غيره بما يكفي ليشكل ملاذا للنفعي بنفس القدر الذي يشكله بالنسبة للجهادي. وفي السياق تبدو شخصية مثل الشيخ يوسف القرضاوي نموذجا مثاليا بما تقدمه من أطروحات سياسية وتبريرات عقدية غاية في التساهل والمرونة لدرجة وصفه من قبل الجماعة ومحبيها بـ «علامة العصر» رغم أنه غادر الجماعة منذ وقت مبكر.
إذن ما من ضوابط عقدية تلزم الجماعة بنهج معين مهما كانت الظروف والأسباب التي تستدعي ذلك. وهذا معطى مغري حتى لمن لا تروقه الفلسفات الوضعية ولا يرغب في الدخول في القضايا الكبرى والمصيرية لكنه يتوق إلى إسلام أدبي يلبي مشاعره وأمانيه أكثر مما يلزمه عقديا ويرهقه جسديا. إذ أن مبدأ الفلسفة الإصلاحية يقوم على توخي الأمن والسلامة العامة. وإذا كان هذا متاح فلِمَ المشقة والدين يسر!؟
الطريف في تعريف الجماعة أعلاه والذي، كما قلنا سابقا، يعكس تجربة البنا وشخصيته لم يشتمل على مصطلح الجهاد، وهذا لأن البنا لم يكن حتى صياغته التعريف قد خاض أية مواجهة مسلحة لا مع الدولة ولا ضد الاحتلال. وهذا الأمر جعل من مسألة الجهاد لاحقا واحدة من أكثر المسائل تغييبا أو تجاهلا سواء في دعوتها أو في سلوكها على الرغم من أن الأمر تغير جذريا في الدعوة وفي فكر المؤسس الذي خصص رسالة كاملة عن الجهاد وجاهر بطلب الإعداد واستعد لغزو كل عنيد جبار وشارك في حرب فلسطين. فقد بقيت مسألة الجهاد، بعد حادث المنشية سنة 1954، مقتصرة على مبادرات الأفراد أو بعض الأجنحة سواء في الجماعة الأم أو الفروع.
لكن أطرف ما في المناهج السلمية للجماعة أن باستطاعة الفرع والفرد أن يتعامل وفقا لظروفه. فإذا كانت الظروف تستدعي أن تكون الجماعة عبارة عن جمعية خيرية فلا بأس، وإذا كانت الظروف متاحة لتنمية الثروة وبناء الشركات الاقتصادية والاستثمارات، كما هو حال الجماعة في أوروبا والولايات المتحدة وآسيا والخليج العربي، فلا بأس بشرط أن تحرص الجماعة على الأمن والاستقرار حيث تتواجد، وتصير أحد أركانه وتدين أي عمل يعكر صفوه سواء جاء من القاعدة أو من غيرها. وإذا كانت الظروف تستدعي أن تكون الجماعة ناد رياضي أو فرق كشافة ومهرجانات خطابية واحتفالات وإقامة صلوات العيدين في الساحات العامة فهذا لا يتعارض البتة مع أهداف الجماعة أو ما أوصى به المرشد المؤسس.
الغالب على أداء الجماعة والفروع أن المنهج السلمي غدا ثقافة تتسع لكل أمر ولكل شيء، بل أن ترقيتها واجبة حيث كان ذلك متاحا. وها هي الجماعة تتربع على أساطيل اقتصادية واستثمارات واسعة النطاق وآلة إعلامية ضخمة. وليس لأية جهة سلطة عليها، بعد أن تحولت إلى نمط اجتماعي وأسلوب حياة بين أعضائها، إلا السوق والفكرة التي تقف وراءها. فمن يستطيع مواجهة السوق إلا السوق نفسه؟ لذا فإن الدعوات المنادية بحل الجماعة لا تبدو عقلانية في سياق السوق وآليات عمله وقيمه. كما أن الأزمات السياسية التي مرت بها الجماعة، على شدتها، لم تنل منها بالأمس ولا اليوم، وليس من المتوقع أن تنال منها مستقبلا. يمكن أن تضعف من قوتها وانتشارها واندفاعها أو تنال من مشروعيتها لكن يصعب القول بزوالها.
- نموذج « الإسلام المعتدل»
طبقا للفلسفة الإصلاحية لا يمكن أن تكون الجماعة إلا جزء من النظام العام سواء كان محليا أو إقليميا أو دوليا. ومن الطبيعي أن يحظى اندراجها في النظام بالتقدير والاحترام ويجعلها مرغوبة، حتى من الخصوم، بوصفها تلعب دور صمام أمان للمجتمعات التي تتواجد فيها، فضلا عن النظر إليها كاحتياط استراتيجي يمكن الاستفادة منه في الوقت المناسب. قد تكون الجماعة تعرضت لنكسات وملاحقات في بعض الدول كتونس وسوريا مثلا لكنها ليست كذلك على الصعيد الدولي حيث استقبلت بترحاب تُحسد عليه. ومؤخرا صار للغرب قراءة جديدة في علاقته بالحركات الإسلامية عموما وبالإخوان المسلمين خصوصا بعد أن أقر بارتكابه خطأ تاريخيا في التعامل معها.
وفي هذا السياق، تقول وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس: « لقد أخطأنا بسياستنا سابقًا بدعم الأنظمة الدكتاتورية لتحقيق الاستقرار على حساب الحريات، وها نحن نجد أننا أفقدنا الشعوب حريتها ولم نحقق الاستقرار». أحد رموز الإخوان صلاح سلطان، رئيس المركز الأمريكي للدراسات، والرئيس السابق للجامعة الإسلاميّة بالولايات المتحدة، علق على هذا الاستنتاج الأمريكي بالإشارة إلى أن: « الأبحاث التي صدرت في هذا الموضوع كلَّفت مليارات الدولارات، وهناك على سبيل المثال بحث واحد عن كيفية مقاومة الإرهاب رُصد له 12 مليون دولار. وقد كشف هذا البحث أنهم أخطؤوا في التعامل مع الإسلاميين بوضعهم في سلة واحدة».
هذه القراءة الأمريكية الجديدة ترجمتها مؤسسة « راند» الأمريكية للأبحاث من جهتها بالتمييز بين أربعة تيارات إسلامية، أما « مجموعة الأزمات الدولية» فقد تخلت عن استعمال مفهوم « الإسلام السياسي»، واستعاضت عنه بمفهوم « الإسلام الحركي» الذي يسمح بقراءة أعمق لمختلف القوى الإسلامية، فالإسلام سياسة ودين، إلا أن التوجهات متعددة، وعلى هذا الأساس يمكن التمييز في إطار الإسلام السني المستهدف في الحوار، بحسب مجموعة الأزمات الدولية، بين ثلاثة تيارات إسلامية تنشط في العالم الإسلامي حاليا بعضها « معتدل» وبعضها الآخر « متطرف»، وهي:
§ الحركات الإسلامية السياسية التي تتمثل في جماعة الإخوان المسلمين في مصر وفروعها في أماكن أخرى،§ وهؤلاء يقبلون الآن،§ بوجه عام،§ الدولة القومية،§ ويعملون ضمن إطارها الدستوري،§ ويتجنبون العنف (باستثناء الظروف التي يكونون فيها تحت الاحتلال الأجنبي)،§ ويُظهرون بوضوح نظرة إصلاحية وليس ثورية،§ ويحثّون على مبادئ ومعايير ديمقراطية شاملة. والناشط المتميّز هنا هو المناضل السياسي المنتمي للحزب.
§ الدعوة الإسلامية المتواجدة في نهجين مختلفين كانت تتمثّل في حركة التبليغ والسلفية الواسعة الانتشار من الناحية الأخرى. وفي كلتي الحالتين،§ فإن السلطة ليست هدفاً. أما الناشطين المميّزين هنا فهم دعاة وعلماء.
§ الجهاد الإسلامي المتواجد في ثلاثة مناهج مختلفة: الداخلي (الذي يقاوم اسمياً الأنظمة الإسلامية التي تعتبر غير ورعة)؛ والتحريريون الوحدويون (الذين يقاتلون لاسترداد الأراضي التي يحكمها غير المسلمين أو الجاثمة تحت الاحتلال)؛ والعالميون (الذين يحاربون الغرب). وبالطبع،§ فإن الناشط المتميّز هو المجاهد.
وبطبيعة الحال؛ يتضح أن الإخوان المسلمين هم المستهدفون، غربيا، بالحوار بصورة لا تقل عن استهداف شريحة العلماء والدعاة، وهم المعنيون بمصطلح « الإسلام المعتدل» الذي يتميز بصفات ومزايا غير عدائية للغرب وقيمه زيادة على أن جماعاته تمثل أكثرية المعارضة وتحوز على قواعد شعبية تزيد عن ثلثي المجتمع، وتقبل بالدولة الحديثة وبقواعد السلوك الدولي المتعارف عليه، وحتى إنْ اختلف معها الغرب في بعض الأمور إلا أنه لا يستطيع إنكار ما هو كائن. بل أن إعادة النظر قد تمكنه من:
- تحييد خطر المتشددين إلى فترة منظورة ريثما يتم ترتيب أوضاع المنطقة لعقدين أو ثلاثة عقود قادمة.
- توسيع جبهة الحرب من خلال حشد جماعات الإسلام المعتدل كالإخوان المسلمين والدعويين والسلفيين ومثلهم ضد ما يسميه الغرب الإرهاب الإسلامي المتطرف.
- الحيلولة دون استنزاف جماعات الإسلام المعتدل من قواعدها باتجاه الجماعات المتشددة في حال التزم الغرب بسياسات قائمة على التمييز بين الجماعات الإسلامية وعدم اعتبارها كلية واحدة ومتماثلة ترفض الغرب وتعاديه.
على هذه الأسس دعمت الخارجية الأمريكية التوجه نحو الحوار وكذا فعل الاتحاد الأوروبي، بل أن الخارجية أوعزت إلى دبلوماسييها وسفاراتها في الخارج بتجاوز القوانين المحلية والأعراف الدبلوماسية والشروع بإجراء اتصالات مع الجماعات المعنية. هكذا يجري ترويج المبادرة الأمريكية من قبل الغرب نفسه وحتى من بعض الكتاب العرب الأمريكيين وغير الأمريكيين.
ثانيا: مؤشرات ضعف
- 1) الولاء والبراء
من الطريف أن مكمن القوة في فلسفة الجماعة ومناهجها هو نفسه مكمن الضعف. إذ منذ لحظة التأسيس لم يكن معيار الولاء والبراء حاضرا في أيديولوجياتها، بل لم يكن ممكن الحضور خاصة وأن الجماعة ليست مهتمة بالمصطلح العقدي بقدر اهتمامها وحرصها على انتشار الدعوة ذات الهدف الاجتماعي قبل أي أمر آخر. هذا مؤشر على أن الجماعة كانت تلوذ بالدين أكثر مما تدافع عنه. وهذا أمر منطقي بما أن الجماعة أصلا هي جماعة إصلاحية وليست عقدية. لكن البعد عن مواطن الخلاف وتجنب الصدام يعني أيضا تجاهل الحكم الشرعي في كافة القضايا المختلف عليها حتى ولو كان الأمر يتعلق بالموقف من الاحتلال أو تطبيق الشريعة.
لعل أطرف ما في المسألة العقدية أن مصطلحات من قبيل «التوحيد» و«الطاغوت» و « الولاء والبراء» لم ترد في فكر الجماعة ولا في خطابها الدعوي ولا السياسي إلا ما تعلق منها بالآيات القرآنية الواردة في أبواب التربية من رسائل حسن البنا، وهي على كل حال نادرة جدا. وحتى في نصوص « معركة المصحف»، على قوتها الشرعية، إلا أن البنا كتبها بلغة سياسية صرفة وهو يوجه خطابه للدولة والحكم والنظام ومسؤوليته عن المعركة، ويستعمل مصطلحات حديثة مثل « دولة رئيس الحكومة» أو « معالي وزير العدل» أو « نواب الأمة». وهذه مصطلحات لا تستقيم مع الولاء والبراء. هذا مع العلم أنه سبق للبنا وأقرّ بأن: « الإخوان المسلمين لم يروا في حكومة من الحكومات التي عاصروها، ولا الحكومة القائمة ولا الحكومة السابقة ولا غيرهما من الحكومات الحزبية، من ينهض بهذا العبء أو من يبدي الاستعداد الصحيح لمناصرة الفكرة الإسلامية، فلتعلم الأمة ذلك، ولتطالب حكامها بحقوقها الإسلامية، وليعمل الإخوان المسلمون».
ليس معيار الولاء والبراء وحده من غاب عن التراث الإخواني، بل ثمة مصطلحات أخرى لم ترد لا في المذكرات ولا بالرسائل كمصطلح « سايكس – بيكو». صحيح أن البنا تحدث كثيرا عن بريطانيا والتقسيم واقتطاعها لأجزاء من الأمة الإسلامية في تراثه لكنه لم يذكر المصطلح برسمه ولو مرة واحدة. ربما لم تكن سايكس – بيكو واضحة في ذهن البنا لا كمعاهدة استعمارية لها تداعيات على جغرافيا العالم العربي ولا كحالة ثقافية يمكن أن ينتج عنها استيطان التقسيم في عقل الأمة. فالمصطلح جديد، ولم يكن قد دخل بعْد طور الاستكشاف، فكيف يمكن التفكير به ناهيك عن تقييم مخرجاته؟ كما أن الدعوة ظهرت بعد خمسة وأربعين عاما على الاحتلال الإنجليزي لمصر (1882-1928) ولم يتغير شيء يلفت الذهن حتى ذلك الحين بحيث تبدو سايكس – بيكو كنتيجة للاحتلال. إذ أن مصر، كتونس والمغرب ودول الخليج، احتلت بموجب معاهدات حماية، وتبعا لذلك ظلت الدولة موجودة والملك موجود والحكومة والمؤسسات والأحزاب قائمة! لكن رغم حلول نظام الانتداب الاستعماري المباشر في بلاد الشام والعراق إلا أن البنا، من حيث لا يدري، كتب وتحدث ودعا طوال عشرين عاما بمقتضى لغة سايكس – بيكو وثقافتها! وكأن البنا والجماعة اعتقدوا بأن نظام الحماية القديم كالجديد لن يختلف عما هو موجود في مصر منذ أول عهد الحماية.
من الأرجح القول أن سايكس - بيكو وقعت في غفلة من أمة نقمت على العثمانيين الذين أداروا ظهرهم لحال مجتمعات تركوها فريسة لأساطير الصوفية والفِرَق والجهل في العلم والدين، فلم يعد لها مرجعية توجهها أو تبصرها بأمور دينها ودنياها، فباتت الأمة كالعذراء البلهاء لا تنتظر إلا الزواج من أي عروس يتقدم إليها.
المهم في الأمر أن غياب الولاء والبراء سيعني بالمحصلة إسقاطا للمحاذير العقدية وتقدما في المصطلح السياسي وما يتطلبه من مرونة في التعامل مع القضايا سواء كانت شكلية أو جوهرية. وفي هذا السياق يمكن ملاحظة الاستنزاف السياسي المستمر في مواقف الجماعة وفروعها تجاه التحالف مع الولايات المتحدة والأنظمة السياسية في أغلب مناطق تواجدها، وكذلك الاستنزاف المستمر في الموقف الشرعي لجهة التخلي عن شعار الإسلام هو الحل أو المجاهرة بعدم تطبيق الشريعة ولي عنق النصوص والأحكام الشرعية بما يلائم الاختيارات السياسية كإجازة التعبد بالمذهب الشيعي أو اعتبار حروب الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم خروجا عن النظام وليس خروجا من الملة، وهو ما لم يقل به أحد من العلماء على امتداد التاريخ الإسلامي.
الآن؛ إذا اعتقدت الجماعة أن بإمكانها احتواء هذه الإشكالية عبر تقديم خطابين واحد للداخل والثاني للخارج فمن الممكن أن تُسَكّن الأمر قليلا، لكن سرعان ما ستضطر إلى التزام خطاب واحد ظاهرا وباطنا. والمشكلة الأكثر حساسية أن تجاهل الولاء والبراء سيعرضها للطعن من كافة الخصوم ويدفع بها إلى مزيد من الغرق في الخطاب العلماني فتفقد آنذاك صفتها كجماعة إسلامية وشرعيتها كجماعة دعوية، ولن ينفع التغني بتاريخ الجماعة ومرشدها وعلمائها وكبار مفكريها طالما أن الواقع يتخارج مع الماضي ولا يبدو أنه يتساكن معه لا في الخطاب التاريخي ولا الخطاب الديني.
- 2) عودة السؤال: من هم الإخوان المسلمون؟
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومضي سنتين على انعقاد المؤتمر الخامس (1938/1939) اختلطت الأوراق في العالم، وساد جو مرعب، وغدا الكل يبحث عن ذاته ويترقب مصيره. ولم تتوانى الجماعة عن دراسة الأمر؛ فانعقد المؤتمر السادس في شهر كانون الثاني / يناير سنة 1941، وجاءت رسالة البنا إلى المؤتمر تحمل في أول الصفحة السؤال الشهير: « من هم الإخوان المسلمون؟»، فماذا قال البنا؟ أجاب على السؤال وتحدث عن فساد النظام الاجتماعي وعن الداء والدواء وعن وسيلة الإخوان في التغيير وموقف الجماعة من الحكومات والأحزاب والفرق والجماعات. أما عن الجماعة بذاتها فلنقرأ بعض ما ورد في رسالته: « أحب أن تتبينوا جيداً من أنتم في أهل هذا العصر؟ .. وما دعوتكم بين الدعوات .. وأية جماعة جماعتكم .. ولأي معني جمع الله بينكم؟
- اذكروا جيداً أيها الإخوة .. أنكم الغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس، وأنكم العقل الجديد الذي يريد الله أن يفرق به بين الحق والباطل في وقت التبس عليها فيه الحق ... واستندتم إلى ركن شديد، واستمسكتم بعروة وثقي لا انفصام لها، وأخذتم بنور مبين وقد التبست على الناس المسالك وضلوا سواء السبيل ... ؛
- واذكروا .. أن الله قد من عليكم ، ففهمتم الإسلام فهماً نقياً صافياً ، سهلاً شاملاً ، كافياً ووافياً، يساير العصور ويفي بحاجات الأمم، ويجلب السعادة للناس، بعيداً عن جمود الجامدين وتحلل الإباحيين وتعقيد المتفلسفين ... وعرفتموه: عقيدة وعبادة، ووطن وجنس، وخلق ومادة ، وسماحة وقوة، وثقافة وقانون. واعتقدتموه علي حقيقته: دين ودولة، وحكومة وأمة، ومصحف وسيف، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين؛
- واذكروا .. أن كل شعبة من شعبكم وحدة متصلة الروح مؤتلفة القلوب، جمعتها الغاية السامية علي هدف واحد وأمل واحد وألم واحد وجهاد واحد ... فلا يمر يوم حتى تتكون لكم شعب وينتصر لمبادئكم عدد غير قليل ممن كانوا يجهلونها أو ييأسون من نجاحها أو يتبرمون بها أو يكيدون لها، وبذلك وصلت دعوتكم إلى مختلف الطبقات، وتغلغلت في المجتمعات، ووجدت الأتباع والأنصار في كل الأوساط البيئات؛ واذكروا ... أن دعوتكم أعف الدعوات ، وأن جماعتكم أشرف الجماعات ، وأن مواردكم من جيوبكم لا من جيوب غيركم ... ؛
- اذكروا ... ، لا للفخر و لا للمباهاة , ولكن لتعلموا أن الله قد كتب لدعوتكم من الإيمان والإخلاص والفهم والوحدة والتأييد والتضحية ما لم يكتبه لكثير من الدعوات الرائجة السوق, العالية البوق, الفخمة المظاهر, وتلك الصفات هي دعائم الدعوات الصالحة. فاجتهدوا أن تحرصوا عليها كاملة، وأن تزيدوها في أنفسكم ثباتاً وقوة ... بعد اثني عشرة عاماً مضت وأنتم تجهرون بدعوتكم وتبلغونها للناس, لا زال هناك فريق يتساءل عن الإخوان المسلمين, ويراهم أمامه جماعة غامضة, فهل أنتم قوم غامضون؟
- يعمل الإخوان المسلمون لغايتين: فأما الغاية الأولى فهي مساهمة في الخير العام أيا كان لونه ونوعه, والخدمة الاجتماعية كلما سمحت بها الظروف ... فهل هذا ما يريده الإخوان المسلمون ويجهزون أنفسهم له ويأخذونها به ؟! لا أيها الإخوان ليس هذا كل ما نريد، هو بعض ما نريد ... ؛ أما غاية الإخوان الأساسية .. أما هدف الإخوان الأسمى .. أما الإصلاح الذي يريده الإخوان ويهيؤن له أنفسهم .. فهو إصلاح شامل كامل تتعاون عليه قوي الأمة جميعاً وتتجه نحوه الأمة جميعاً ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل؛
- إن الإخوان المسلمين يهتفون بدعوة، ويؤمنون بمنهاج، ويناصرون عقيدة، ويعملون في سبيل إرشاد الناس إلى نظام اجتماعي يتناول شؤون الحياة جميعاً اسمه (الإسلام) ... ويريدون بعث الأمة الإسلامية النموذجية التي تدين بالإسلام الحق، فيكون لها هادياً وإماماً، وتعرف في الناس بأنها دولة القرآن التي تصطبغ به والتي تذود عنه والتي تدعو إليه والتي تجاهد في سبيله وتضحي في هذا السبيل بالنفوس والأموال؛
- لقد جاء الإسلام نظاماً وإماماً، ديناً ودولة، تشريعاً وتنفيذاً، فبقي النظام وزال الإمام، واستمر الدين وضاعت الدولة، وازدهر التشريع وذوي التنفيذ. أليس هذا هو الواقع أيها الإخوان ؟! وإلا فأين الحكم بما أنزل الله في الدماء والأموال والأعراض؟» [.
يبدو النص طويلا ولا شك، لكنه ضروري للمقارنة مع نص آخر لا يقل أهمية عنه خاصة وأنه يطرح السؤال ذاته بعد سبعين عاما. فقد دشن الكثير من رموز الجماعة وكتابها وقادتها مرحلة نقد قاسية تناولت أداء الجماعة في علاقتها بنفسها وعلاقتها بالآخرين، وتوقفت عند نمط العقلية التي تهيمن على الجماعة قيادة وأفرادا. ومن بين هؤلاء كتابات ثروت الخرباوي الذي هجر الجماعة كتب مقالة له بعنوان: « من هم الإخوان المسلمين؟ إجابة لسؤال» قدّم فيها، بصيغة أدبية، لكتاب أعده عن تجربته التي استمرت عشرين عاما في الجماعة. وبدلا من أن يخاطب الجماعة في إجابته على السؤال، كما فعل البنا، أجاب ابنته في سؤالها: « من هم؟ وما هي غايتهم وأفكارهم وطموحاتهم؟ وما هي مرجعيتهم المذهبية ومدرستهم الفقهية»، فكتب يقول:
- « الإخوان بنيتي فريق من الأمة ليسوا هم الإسلام ... وليست مخالفتهم مخالفة للإسلام ... وليس هجرهم هجرا للإسلام ... كما أن الدخول معهم والانضواء تحت رايتهم ليس صكا لدخول الجنة ... ولكنهم يتميزون في معظمهم بالعمل بجدية وفقا لقناعات قامت لديهم ، كما يتميزون مثل غيرهم بالغيرة على الإسلام .. يحملون في جوانبهم هموم المسلمين ، وينشدون إعادة دولة الخلافة الإسلامية وتوحيد الأمة تحت رايتها والوصول بها إلى أستاذية العالم الأمة عندهم ليست أقطارا متجاورة .. ولكنها عقيدة تسري في أرجاء العالم فتوحد أصحابها .. والأخوة عندهم هي أخوة العقيدة ... ينادون بوسطية الإسلام واعتداله ظلمتهم الحكومات وتعقبتهم بالحبس والاعتقال والمحاكمة بهدف الإقصاء، وكانت تلك المحاكمات ظالمة في مجملها حيث غيبتهم وراء الأسوار وحرمتهم من الحرية لسنوات وسنوات؛
... منذ أن أقام بنيانهم المرشد الأول حسن البنا وهم يتبعون نفس الوسائل رغم اختلاف الأجيال والواقع والظرف السياسي المحلي والدولي .. وما زالت أفكارهم هي هي قابعة في قالب شديد الصلابة رغم مرونة وسعة أفق بعض الإخوان ممن يحملون بين جوانحهم أفئدة واعية؛
إذا أمعنتِ النظر فيهم وجدتِ معظمهم يضيق بالرأي الآخر، إذ لم يتعود العقل الإخواني في صيغته الحالية على النقد والاختلاف رغم أن البنا كان يرحب بالاختلاف .. يحسبون كل نقد هو من النقد الهدام، ويرفعون راية: « نقبل النقد ولكن ليس في العلن » و: « اذهب يا أخي بنقدك لإخوانك في المكتب ولا تنتقدهم وكأنك تقف في ميدان التحرير » ... أو: « نقدك سيترتب عليه هروب المقبلين على الحل الإسلامي » ... يقولون عن النقد الذي يتناول طريقة إدارتهم للتنظيم: « لا شأن لكم بهذا فهذا من الشأن الداخلي » رغم أنهم يقدمون أنفسهم للأمة كجماعة علنية وليس كتنظيم سري .. يقدمون أنفسهم كأصحاب حل وبحسبهم جماعة إصلاح ، ويجب على من يقدم نفسه للأمة أن يضع نفسه طواعية تحت رقابتها في كل كبيرة وصغيرة حتى يعلم الناس هل هم يتبعون العدالة والشورى ويرحبون بالرأي الآخر بين ظهرانيهم أم لا ؟ فإن افتقدوا هذه المبادئ في داخلهم فكيف سيطبقونها على الأمة حين يحكمونها ؟ .. أما إذا اعتبروا أنفسهم جماعة سرية فحينئذ تكون مقولتهم هذه صحيحة ونكون حينئذ ناقدين لشأن داخلي لا علاقة لنا به. معظمهم ـ من خلال تجربتي التي تحتمل الصواب والخطأ ـ يترسب في ضميره أن:
الأخوة في الله ... هي الأخوة في التنظيم !!! فمن خرج من تنظيمهم خرج من أخوتهم؛
يسعون إلى الشورى كنظام إسلامي ولكنهم لا يطبقونها على جميع مستويات التنظيم .. فضلا عن أنهم لا يطبقونها في معظم الأحوال بزعم التضييق الأمني !!
تسود لديهم ثقافة السمع والطاعة على ثقافة الفهم والمناقشة والاستبصار؛
... استغرقهم العمل السياسي التنافسي ـ أي الانتخابات ودروبها ـ على العمل الدعوي وعن العمل الخيري ..فنضب معينهم من الدعاة .. وأما كبار دعاتهم الحاليين فلا يعرفهم أحد من عموم الناس. بل تستطيع القول أنهم لا يوجد في تنظيمهم الحالي أحد من علماء الأمة أو من كبار دعاتها؛
يصلح مكتب إرشادهم لكي يكون تجمعا لقيادات نقابية أو مهنية أو جامعية أو سياسية فليس فيهم من رجال الدعوة إلا الشيخ الخطيب؛
ليست لديهم الأفكار السياسية الخلاقة التي من شأنها أن تحرك الجماهير نحو صواب الأمة وخيرها، كما أن الناقد البصير يعلم أنهم لم ينجحوا في العمل السياسي الحركي كما ينبغي فخاصمتهم معظم التكوينات السياسية ... وخاصموا من خرجوا من تنظيمهم وتعاونوا مع الحاكم مرات ومرات ... وخاصموه مرات ومرات دون أن تكون لديهم منهجية واضحة في التعاون أو المخاصمة؛
... وفي الآونة الأخيرة انقسم تنظيمهم إلى عدة فرق فكرية وفقهية وحركية مختلفة .. منهم من هو أقرب للسلفيين ومنهم من تماهى مع أفكار سيد قطب .. ومنهم « الحساسنة » وهم من تمازج مع أفكار الشهيد حسن البنا ..ويدور بين هذه الفرق صراع غير ظاهر لا يدركه إلا القليل ...
- هل فهمت بنيتي من هم الإخوان؟» .
جانب المقارنة بين النصين يكمن في الظروف التي طرح فيها السؤال. ففي المرة الأولى (قبل سبعين سنة) أثير السؤال، من قبل جماعة صاعدة وواعدة، على خلفية حدث خارجي مصيري (الحرب العالمية الثانية) كان يهدد الجميع، وكان لا بد من خارطة طريق توضح الهوية والغاية والهدف والموقف مما يجري حتى لا تلتبس الأمور. لكن ( بعد سبعين عاما) أثير السؤال على خلفية حدث داخل الجماعة يهدد بتفككها، وعلى خلفية تجارب مريرة في الأداء تسببت بتسرب كبير منها على مستوى القيادات والأفراد، وعلى خلفية جمود فكري وصراعات وانقسامات وخصومات مع الغير اشتكى منها من هو داخل الجماعة أو خارجها.
- تراث الجماعة ومصالح الأمة
السؤال أعلاه كان في الحقيقة مقدمة لمناقشة تراث الجماعة. فقد أثار ثروت الخرباوي نقطة الرقابة التي تعتبر من الغيبيات أو المحرمات، ومن النادر أن يتحدث عنها أحد في الجماعة. فمن المألوف أن الدول أو الأحزاب تفرج عن بعض وثائقها كلما مر ربع قرن من الزمان ليتلقفها المعنيون في البحث والدرس سعيا للوقوف على جوانب الخطأ والصواب بما يحقق الإفادة للجميع. ومن المألوف أيضا أنه من حق الأمة أن تطلع على تراث قياداتها وقواها الفاعلة ولو بعد ردح من الزمن أطول قليلا.
لكن بالنسبة للإخوان المسلمين فقد يَعجب الباحث حين يكتشف أن الجماعة وتراثها مجرد وقف على بعض ما تم جمعه والتصريح به من تراث المؤسس، وعلى وجه التحديد مذكرات الدعوة والداعية ورسائل الإمام حسن البنا، معطوفا عليها بعض المقالات التي نشرت هنا وهناك بين الحين والحين أو تلك التي ألحقها بعض المفكرين والمؤرخين بكتبهم. ولعل القارئ يلاحظ أن البحث استند إلى هذين الكتابين بالذات.
في كتابات الآخرين ثمة معلومات وأسرار وتحليلات وتأريخ لا بأس به، لكن أغلبه لا تعترف به الجماعة ولا تقبل به حتى من باب المناقشة خاصة تلك التي كتبها من هجروا الجماعة. أما لو تابعنا كتابات الإخوان أنفسهم، من الداخل، عن الجماعة وتاريخها فلن نجدهم يعتمدون مصادر أخرى غير كتابات المؤسس! وبالتالي فلن تحتوي الكتابات أكثر من قال البنا رحمه الله أو أشار البنا أو فعل البنا أو حذر البنا أو بوب البنا أو شرح البنا .... ! حتى صار تراث الرجل كتابا مقدسا لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه!
وليت الأمر يقف عند هذا الحد. فالتعامل مع تراث البنا، على قِلَّته، هو تعامل انتقائي بما يناسب المرحلة. ولعل تصريحات الجماعة والفروع وتحالفاتهم ومواقفهم السياسية والعقدية على النقيض التام مما دعا إليه البنا في معركة المصحف وغيرها من النصوص والشروحات ذات الصلة بالعقيدة والحاكمية ودولة القرآن ونظام الحكم، والتي لم تعد تجد لها أي موضع لا في سياسات الإخوان ولا في تصريحاتهم ولا في دعوتهم ولا في تربيتهم ولا في سلوكياتهم مع أنفسهم أو تجاه الآخرين. ففي هذا السياق ثمة ما يشبه التجاهل التام وشبه المطلق. والعجيب أن الباحث لن يجد أي نقد يذكر للبنا أو قراءة لما كتبه على الإطلاق إلا فيما يتعلق باجترار أقواله مدحا وتزكية، فهل كان البنا معصوما بحيث يتم تنزيهه عن كل قراءة أو نقد؟ وهل من حق الجماعة أن تمارس هذه الانتقائية فتظهر من تراث الرجل ما تشاء وتخفي منه ما تشاء؟
هكذا هي الجماعة، بعيون مخالفيها، وهي تبدو فوق النقد ولا تحتمل مخالفا، وإلا فليتحمل من يقترب من الموضوع كامل المسؤولية إذا ما تعرض للعزل والتهميش أو الطرد والتشويه. أما الغريب في تراث البنا نفسه أنه لم يتحدث بأية صيغة نقدية عن الجماعة إلا في قضية اغتيال الخزندار نافيا أن يكون المتهمين باغتياله من الإخوان أو حتى من المسلمين.
كل جماعة أو حزب أو دولة أو مؤسسة، أيا كانت، لها وثائقها وسجلاتها وأوراقها. والجماعة عقدت على الأقل ستة مؤتمرات. وفيما خلا ما ذكره البنا من مقترحات تضمنتها بعض أوراق قياداتها في المؤتمرات إلا أنها لم تنشر أية محاضر أو خطابات رسمية لها منذ تأسست وإلى يومنا هذا إلا رسائل البنا نفسه. فهل كانت المؤتمرات موقوفة على رسالة المؤسس فقط؟ ألم يتحدث أحد غيره أو يناقش أو يقدم ورقة ما؟ ألم يكن في الجماعة نوابغ ومفكرين وعلماء وقادة غير البنا؟ أليس فيما قالوه أو فعلوه جزء من تراث الجماعة وبالتالي جزء من تراث الأمة؟ بلى. وكل هذا لا يقلل من جهد البنا كمفكر ومبدع ومجتهد حقق إنجازا عظيما على عكس خلفائه الذين اجتروا ما كتب ونزهوه، وأوقفوا تاريخ الجماعة وحاضرها، وربما مستقبلها، على ذمة المؤسس وشخصيته وكتاباته. لكن السؤال هو: هل يحق لجماعة تعلن أنها تحمل هموم الأمة وتسعى لبلوغ مصالحها، من أدنى الحقوق إلى إقامة الدين واستعادة الخلافة، أن تكون خارج الرقابة العامة للأمة؟ وبالتالي خارج المساءلة؟ ثم ألا يسمح استمرار هذا النهج بتعزيز مقولة الخصوم من أن الجماعة باطنية؟ وأن خطابها غامض؟ وأنها تبعا لذلك لا يحق لها أن تتحدث باسم الأمة ولا باسم الوسطية ولا باسم الدين؟
الجزء الثاني تنظيــــــم القاعـــــــدة
- النشأة
- الواقع
- الفلسفة والمنهج
- المستقبل
الفصل الأول هوية القاعدة
للوهلة الأولى، قد يبدو التعرض لتنظيم القاعدة بالبحث والدراسة أمرا يسيرا أو سهل المنال بالنظر إلى فعالياتها المسلحة. لكنه في الواقع أشبه بمغامرة قد تجر على الباحث أوخم العواقب. فنحن بصدد تنظيم خفي، وليس متاحا للدراسة والبحث والاستقصاء حتى من قبل أصحابه. فماذا سندرس إذن؛ إذا كنا نفتقد الوصول إلى مصادر المعلومات كالقيادات والمؤسسات والوثائق ذات الصلة فضلا عن المعاينات الميدانية؟
ومنذ نشأتها المفترضة في أواخر الثمانينات من القرن العشرين وإلى يومنا هذا ظلت القاعدة، إذا ما قورنت بجماعات أو حركات أو أحزاب سابقة عليها أو راهنة، عصية على الفهم من شتى الجوانب حتى تلك التي يمكن التعرض لها بالبحث. فهي، مثلا، :
على المستوى المعرفي، تثير مشكلات في التأريخ والمنهج والفعل والتكوين البنيوي.
وعلى المستوى الفكري تقدم أطروحات جذرية مناهضة لكل ما يتعلق بالمنظومات الفلسفية والأخلاقية أنّى كان مصدرها حتى تلك التي تتعارض معها في الإطار الإسلامي، ولكل منظومات العلاقات الاجتماعية والسياسية، المحلية والدولية.
وعلى مستوى الصراع تبدو ساعية إلى مواجهات حتمية مع خصومها حيث أمكنها ذلك.
إذن؛ أين؟ ومتى؟ وكيف نشأت القاعدة؟ أسئلة أكثر ما يميزها الغموض والشك علاوة على أنها تثير الجدل حين الإجابة على أي منها. فأصحاب الشأن لم يؤرخوا لتجربتهم بعد، ولم يجيبوا، بحسم، على أي من التساؤلات المطروحة والكثير مثلها. فالقاعدة ليست أطروحة حزبية ذات مواصفات تقليدية بحيث يمكن تتبعها عبر مؤسساتها ولوائحها التنظيمية. حتى وإنْ كانت كذلك فليست طوع الدراسة ولا هي في المتناول. فالقيادة والعضوية والتمويل والإعلام والانتشار الجغرافي ووسائل العمل وآلياته كلها معطيات غير متوفرة إلا بالقدر الذي تشي به وسائل الإعلام أو المؤسسات الأمنية أو بعض ما يبوح به الرموز وذوي العلاقة من الكتاب المناصرين أو المحسوبين على القاعدة أو ما يمكن التكهن به أو استنباطه عبر البحث والرصد. وهذه يمكن أن تفرز مجرد مقاربات نظرية لم ترق بعد إلى الإثبات التام. فعلى أي أساس منهجي، إذن، يمكن أن نؤرخ للقاعدة؟ وهل يصح، مثلا، أن نؤرخ لها كتنظيم أو حركة أو جماعة؟ أسئلة محيرة فعلا.
على كل حال؛ تبدو القاعدة أقرب لِأن تكون وليدة لحدث تاريخي يقع في ذروة الحرب الباردة بين منظومتي الرأسمالية والاشتراكية والتي كان الاحتلال السوفياتي لأفغانستان آخر ميادينها الساخنة ، ابتداء من 27 /12/1978- 5/2/1989. وخلال السنوات العشر هذه نشأت القاعدة كصيرورة بحيث يستحيل رد النشأة إلى حدث أو تاريخ معين. وهذا يعني أن أية محاولة لرسم ملامح النشأة أو حتى مضامينها لا بد وأن ينطلق من تاريخية عمل أو مجموعة أحداث شكلت بمجموعها مخرجات لما يمكن تسميته بالقاعدة.
وفي هذا السياق فإن أبرز ما يمكن ملاحظته من التاريخيات المميزة يتمثل في كون القاعدة، بخلاف الجماعات والأحزاب الوطنية، تنظيم لا يمكن نسبته إلى أية أطر سياسية أو جغرافية أو حتى ديمغرافية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بنية النظام الدولي القائم وتقسيماته السياسية وعلاقاته ومؤسساته وقوانينه ونظم الاجتماع السياسي في الدول الحديثة. فهو ليس تنظيما محليا ولا عصابة إجرام دولية ولا إرهابية كما هو شائع في وسائل الإعلام*.
فبالإضافة إلى عشرات آلاف المجاهدين الباكستانيين الذين حضروا وشاركوا من خلال تجمعات ومعسكرات مستقلة أو مع الأفغان مباشرة؛ فقد احتضنت الساحة الأفغانية في مرحلة الجهاد الأفغاني الأول عشرات الآلاف من المتطوعين، من شتى أنحاء العالم الإسلامي، للقتال ضد الاتحاد السوفياتي. وبلغ الحشد ذروته خلال عامي 1988 و1989 ليصل إلى قرابة الأربعين ألفا.
الأعداد التقريبية للمتطوعين في الجهاد الأفغاني حتى سقوط كابول سنة 1991
- البلد الأصلي العدد التقريبي
- السعودية 20000
- اليمن 5000
- مصر 4000
- الجزائر 2000
- المغرب (مراكش) عدة مئات
- ليبيا عدة مئات
- فلسطين والأردن عدة مئات
- إمارات الخليج العربي عدة مئات
- تونس والعراق وسوريا ولبنان وموريتانيا والصومال أرقام تتراوح بين المئات وعشرات
العدد الإجمالي: أكثر من 40000 متطوع
وبالتأكيد فإن هذه الأعداد تجمعت في أفغانستان لأكثر من سبب. فعلى خلفية مقاتلة الملحدين، حظي الجهاد الأفغاني الأول بدعم استراتيجي غير مسبوق من بعض الدول العربية خاصة من السعودية ذات التحالفات الواسعة النطاق مع الولايات المتحدة. وتبعا لذلك ألقت بعض الدول بآلاف المتطوعين من رعاياها في أتون الحرب ضد الاتحاد السوفياتي. لكن واقع الأمر أن بعض الدول رأت في الحرب فرصة مواتية للتخلص من خصومها من الجماعات الإسلامية فعمدت إلى تسهيل سفرهم، بل وأخرجت بعضهم من السجون ليلتحقوا بساحات القتال. وبعض الجماعات الآسيوية قدمت إلى أفغانستان خاصة من الجمهوريات السوفياتية السابقة إما رغبة في التدريب واكتساب الخبرات أو لأداء واجب الجهاد ضد الكفار أو أملا في الانتقام من الروس أو بحثا عن ملاذ وفرصة للحرية من القمع السوفياتي أو لجمع التبرعات.
هذه الوضعية في الساحة الأفغانية أحدثت نقلة نوعية في نمط التفكير والتعامل مع قضايا الأمة قاطبة. وتبعا لذلك مثلت أفغانستان، كحاضنة، علامة فارقة لم تكن في الحسبان سواء بالنسبة للجماعات والقوى الإسلامية كافة أو بالنسبة للقوى التي سهلت لها أو دعمتها لحسابات خاصة بها. لكن كلما اكتشف المجاهدون البعد العالمي للإسلام كعقيدة وشريعة كلما تحولت أفغانستان من جهة إلى:
مَحجٍّ عالمي لكافة الأفراد والجماعات والقوى الإسلامية، وهذا ما لم يكن متاحا قبل ذلك ولا بأية صورة من الصور. فلأول مرة يلتقي إسلاميون من شتى بقاع الأرض يناقشون قضاياهم وقضايا الإسلام وحال الأمة.
ومن جهة أخرى إلى مساهِمة في تنامي الشعور بالقدرة على هزيمة أقوى الجيوش في العالم، الأمر الذي نجم عنه انكسار حواجز الخوف الأمنية التي زرعتها الدول وأجهزتها الأمنية طوال عقود بفعل المواجهات والاعتقالات والمطاردات للقوى الإسلامية. والنظر \إلى البلاد الجديدة كميدان حر لتبادل الخبرات والتجارب ووضع الخطط وإعداد المشاريع المستقبلية لاستئناف العمل إما انطلاقا من أفغانستان أو من البلدان الأم بالنسبة لمن يعودون أدراجهم.
بهذه الكيفية لا يمكن رد نشأة القاعدة، كتنظيم، إلى معايير تاريخية تقليدية لا على المستوى الاجتماعي ولا الديمغرافي ولا الجغرافي ولا الجهاد الأفغاني بصيغته الوطنية. فالقاعدة ليست ذات هوية وطنية، وتبعا لذلك فلا هي أفغانية ولا هي سعودية ولا مصرية ولا باكستانية ولا آسيوية. لكنها قد تكون، ضمن معايير محددة، عربية من حيث الكثافة الديمغرافية للعنصر العربي فيها لكنها أيديولوجيا ليست كذلك أبدا.
- 1) القاعدة كسجل إداري
حظيت الساحة الأفغانية، منذ السنوات الأولى لانطلاق الجهاد الأفغاني فيها، برجلين هما أسامة بن لادن والشيخ عبد الله عزام، اللذان كان لهما الأثر الحاسم في ولادة ما يسمى اليوم بالجهاد العالمي. وقد بدأت الزيارات الأولى لابن لادن، بعد مضي سبعة عشر يوما على احتلال أفغانستان، بدعوة من الجماعة الإسلامية الباكستانية، ونسج علاقات واسعة مع القيادات الإسلامية هناك، ونشط في جمع التبرعات والتعريف بالجهاد الأفغاني. والحقيقة أن الرجلين كانا على طرفي نقيض فيما يتعلق بالتكوين السياسي والأيديولوجي. فلم يُعرف عن بن لادن أية نزعة راديكالية تذكر حتى ما بعد الزيارات الأولى، لكنه بلا شك وقع تحت تأثير عظيم من حالة الأفغان وهم يصارعون أعتى القوى الدولية وسط فقر مدقع وأقرب إلى التخلف من أية مظاهر حضارية. أما عبد الله عزام فهو إنْ صح التعبير الشيخ المتمرد تاريخيا في جماعة الإخوان المسلمين في الأردن منذ أواخر ستينات القرن العشرين، حيث شارك فيما عرف بمعسكرات الشيوخ في الفترة ما بين سنتي 1968- 1970 بعيد انطلاقة الثورة الفلسطينية، وكان أحد قادتها.
وفي مطالع الثمانينات مثلت الباكستان عامة ومدينة بيشاور خاصة المحطة المركزية لتدفق عشرات الآلاف من المتطوعين العرب على أفغانستان. وفيما خلا الزيارات المنظمة التي كانت تقوم بها الوفود الرسمية وبعض الجمعيات ومؤسسات الإغاثة ظلت غالبية المتطوعين تعاني من فقدان الرعاية والتوجيه وصعوبة التأقلم والالتحاق بجبهات القتال. ولا شك أن فتح باب التطوع، في العالم العربي، على مصراعيه لم يرافقه أية رعاية رسمية، اللهم إلا المراقبة الأمنية كما يقول أبو مصعب السوري، خاصة وأن المسألة تتعلق، أصلا، بما يشبه التخلص مما تعتبره الكثير من الدول فائضا عن الحاجة لعناصر طالما شكلت مصدر توترات أمنية لها. لذا كان الأمر أقرب إلى الفوضى في السنوات الأولى من الجهاد الأفغاني من أي عمل منظم.
وقد ظل الأمر كذلك إلى أن جاءت المبادرة سنة 1984 من أسامة بن لادن الذي أسس ما اشتهر في بيشاور ببيت الأنصار أو المضافة، والذي شكل قِبلة ومحطة لكل متطوع. وبالتزامن مع هذه الخطوة أسس عبد الله عزام مكتب خدمات المجاهدين. وقد يبدو الأمر وكأنه تنافس بين الرجلين لكنه، عمليا، أقرب إلى التكامل منه إلى أي أمر آخر. فالبيت اختص باستقبال المتطوعين وتوجيههم إلى ساحات القتال أو استقبال المقاتلين لقضاء بعض الراحة أو تنظيم احتياجاتهم وسفرهم إنْ رغبوا في العودة إلى أوطانهم. أما مكتب الخدمات فقد اضطلع بمهمة الإعلام الجهادي والتعريف بالقضية الأفغانية والاتصال بالقوى الإسلامية والمؤسسات وجمع التبرعات والدعم المادي فضلا عن استمالة الخبرات الطبية والإغاثية لدعم الشعب الأفغاني. ومن الواضح أن بيت الأنصار كان يمثل القاعدة الآمنة للمتطوعين العرب فيما اضطلع مكتب الخدمات بمهمة الدعم اللوجستي على المستوى الدولي.
منذ سنة 1982 شرع بن لادن باختراق الحدود الأفغانية واستطلاع النشاط الجهادي فيها بالقرب من القرى الحدودية مع باكستان، وليس غريبا أن يكون قد شارك ببعض المعارك. وبالتالي فللرجل موطئ قدم مبكر في ساحات القتال بالمقارنة مع السنوات اللاحقة. لكن مع وصول أعداد المجاهدين العرب إلى قرابة الأربعين ألفا أواخر ثمانينات القرن العشرين بدا أن بن لادن عازم على اقتحام ساحات القتال من أوسع الأبواب لاسيما وأن له قاعدة آمنة يمكن الركون إليها. وفعلا. ففي عام 1986 دشن عمله المؤسسي الثاني بعد بيت الأنصار حين نجح، تباعا، في بناء ستة معسكرات كبرى للتدريب والحشد وخوض القتال جنبا على جنب مع المجاهدين الأفغان أولها ما اشتهر بـ «مأسدة الأنصار»، الموقع الذي تأسس من بضعة أفراد لا يزيدون عن خمسة من بينهم أسامة بن لادن! في منطقة جاجي الوعرة وذات الغابات الكثيفة.
وبين عامي 1986 و1988 اشتدت رحى المعارك الكبرى مع الجيش الأحمر، ودخل المقاتلون العرب في خمسة معارك طاحنة أبرزها المعارك الشهيرة التي خاضها مقاتلو موقع مأسدة الأنصار ضد الروس والقوات الحكومية في جلال أباد على مقربة من العاصمة كابول. وتبعا لذلك سقط الكثير منهم في ساحات القتال. وغدا الأهل يتساءلون عن مصير أبنائهم، وتوالت الاستفسارات خاصة من ذوي المتطوعين القادمين من السعودية واليمن، وتسببت بحرج كبير لعدم توفر الإجابات. ومن هنا بالضبط، وابتداء من سنة 1988، برزت الحاجة إلى ضرورة وجود سجلات توثق بالتفصيل لحالات الوصول والشهداء والجرحى. وثمة إجماع لدى الكتاب والباحثين على أن أصل التسمية يبدأ من قاعدة البيانات هذه. ويشير أحد المعنيين في قضايا الجهاد الأفغاني إلى أصول التسمية بالقول:
- « أحس أسامة أن نقص هذه المعلومات أمر مخجل فضلا عن أنه خطأ إداري مبدئي. من هنا قرر أسامة ترتيب سجلات للأخوة المجاهدين العرب. ووسعت فكرة السجلات لتشمل تفاصيل كاملة عن كل من وصل أفغانستان بترتيب من مجموعة الشيخ. ورتبت السجلات بحيث تتضمن تاريخ وصول الشخص والتحاقه ببيت الأنصار ثم تفاصيل التحاقه بمعسكرات التدريب ومن ثم التحاقه بالجبهة. وأصبحت السجلات مثل الإدارة المستقلة، وكان لا بد من إطلاق اسم عليها لتعريفها داخليا، وهنا اتفق أسامة مع معاونيه أن يسمونها سجل القاعدة، على أساس أن القاعدة تتضمن كل التركيبة المؤلفة من بيت الأنصار ومعسكرات التدريب و الجبهات».
وفي السجل اعتمدت خمسة معايير لضبط العضوية ولتقييم حالة المتطوع هي: « (1) اسمه وكنيته، أسماء أقاربه وعناوينهم، تاريخ الميلاد، المراحل الدراسية، العلوم الشرعية وبيان المحفوظات، الخبرات والمهارات الخاصة، الخبرة العسكرية، اللغات التي يجيدها، المهنة الحالية والسابقة، الحالة الصحية، عدد الأفراد الذين يعيلهم، الأمانات المودعة في المعسكر، الوصية .... ، (2) حق الأمير في مساءلة العضو عن نفسه، (3) مراقبة سلوك العضو، (4) خضوع العضو لاختبارات القدرة، (5) سؤال الناس عن العضو وعن حاله قبل التحاقه».
إلى هنا لا يبدو أن القاعدة يمكن أن تكون أكثر من سجل إداري منظم للعضوية يتضمن كل التركيبة المؤلفة من بيت الأنصار ومعسكرات التدريب والجبهات. وستظل كذلك إلى أن تنتهي المرحلة الأولى من الجهاد الأفغاني سنة 1992 بهزيمة الجيش الأحمر وانسحابه من أفغانستان. فهي في الواقع لم تصل، بعد، إلى مرتبة التنظيم ذو القيادة الواضحة والأهداف المحددة المعالم ، لذا فإن قيمة السجل واقعة في أمرين:
- الأول: أنه سيمكن بن لادن في أي وقت من التواصل مع المجاهدين حتى بعد انتهاء المرحلة الأولى من الجهاد الأفغاني.
- والثاني: أن كلمة القاعدة ظلت تستعمل من قبل المجموعة التي استمر ارتباطها بأسامة بن لادن، ولهذا فقد خرج الأمريكيون بانطباع أنها اسم لتنظيم إرهابي.
- 2) القاعدة كشريك للإمارة؟
ما أن انسحب السوفييت من أفغانستان في 5/2/1989 حتى قفل بن لادن عائدا إلى بلاده. وكذا فعلت الغالبية الساحقة من المتطوعين العرب الذين بات الإعلام الدولي وأجهزة الأمن يطلق عليهم تسمية «الأفغان العرب». ولم يكن بن لادن بمنآى عما تعرض له هؤلاء من مضايقات أو اعتقالات، فقد سحبت السلطات السعودية جواز سفره ومنعته من السفر. واشتدت عليه المضايقات بسبب خطبه عن النظام العراقي وجهاد الكفار لتتوج بوضعه تحت الإقامة الجبرية. ولم يتغير حاله حتى بعد غزو العراق للكويت في 2 /8/1990 وتهديده لمعظم دول الخليج العربي. بل أن غضبا استبد به إثر استعانة الحكومة السعودية بالقوات الأجنبية لمقاتلة الرئيس العراقي البعثي صدام حسين. فما كان منه إلا أن غادر السعودية بطريقة ما متوجها نحو أفغانستان حيث الحرب الطاحنة بين رفاق السلاح، فغادرها رفقة عدد من أنصاره إلى السودان أواخر العام 1991 ليبدأ رحلة مشاريع استثمارية ضخمة في شق الطرق وإقامة البنى التحتية متأملا في السودان الذي يطبق أحكام الشريعة الإسلامية بإقامة دولة إسلامية.
لكن السودان التي رحبت بابن لادن المستثمر لم تقو على الاحتفاظ به كمعارض للنظام السعودي أو ساعي لإقامة دولة إسلامية خاصة بعد سلسلة من القوانين الأمريكية سنة 1995، القاضية بتجفيف ما رأته منابع للإرهاب وإغلاق لكافة الملاذات الآمنة له. فما كان منه ومن معه إلا التوجه صوب أفغانستان حيث الإمارة الإسلامية هناك بقيادة طالبان التي سيطرت على الوضع بعد معارك طاحنة بين تشكيلات المجاهدين ابتداء من برهان الدين رباني مرورا بالجنرال الأوزبكي الشيوعي عبد الرشيد دوستم وانتهاء بقلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي. لكنه حلّ منذ وصوله في مدينة جلال أباد ضيفا على الشيخ يونس خالص والقائد العسكري جلال الدين حقاني. ومع أن المدينة لم تكن قد وقعت بقبضة طالبان إلا أنه لم يدخل في أية معارك بين الأطراف المتصارعة، وظل على الحياد محاولا التوسط لوقف القتال دون جدوى.
في هذه اللحظة التاريخية بالضبط ظهر بن لادن وأنصاره كجماعة مستقلة لها القدرة على اتخاذ موقف في أصعب الظروف. ومما ساعده على التمسك بمبدأ الحياد احترام كافة الأطراف المتقاتلة للمقاتلين العرب وتقديرهم للدور الذي لعبوه في مرحلة الجهاد الأفغاني الأول. هذا الموقف سيكون أكثر جرأة في وقت لاحق لما يعلن بن لادن انحيازه التام لطالبان ليس بسبب لقائه الحميم بالملا محمد عمر في قندهار ولا بسبب استعداء قوات الجنرال دوستم له ولأنصاره بل بسبب صدور فتوى من العلماء توجب قتال دوستم وحلفائه من الطاجيك بقيادة أحمد شاه مسعود أو ما اشتهر آنذاك بتحالف الشمال. هذا التحالف حظي بدعم روسي وأمريكي كاد أن يطيح بحكومة طالبان، وكان لانحياز بن لادن أثره الواضح في ميل الكفة ثانية لصالح طالبان، وهو ما حفظته له طالبان إثر هجمات 11 سبتمبر سنة 2001 على أبراج التجارة الأمريكية في ولاية نيويورك حين رفضت مطالب الولايات المتحدة الأمريكية بتسليمها بن لادن.
إذن في الفترة القصيرة جدا ما بين وصوله إلى جلال أباد وانحيازه لطالبان بدا بن لادن وكأنه مجرد ضيف عزيز على البلاد والعباد دون أن تكون له علاقة بما يجري فيها من صراعات. لكن منذ انحيازه لطالبان صار طرفا مستقلا بالتمام والكمال، بل أقرب إلى الشريك في الإمارة خاصة بعد خوضه القتال لنصرتها ومنع سقوطها. هذه الوضعية، بالإضافة إلى أسباب أخرى، مكنته من الدخول في علاقات استراتيجية تمهيدا للإعلان عن ميلاد: « الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين». فطالبان لم تعد بنظر بن لادن ولا أنصاره مجرد حركة جاءت إلى السلطة على أنقاض فوضى عارمة مهمتها ضبط الأمن فقط بقدر ما هي إمارة إسلامية تطبق الشريعة ومستعدة أن تقاتل كل من يعتدي على الإمارة من المسلمين وغير المسلمين.
- 3) القاعدة كتنظيم مستقل؟
صحيح أن القاعدة ظهرت في سلسلة الوقائع التاريخية تارة كسجل وثائقي وتارة أخرى كوسيط أو طرف مستقل وثالثة كشريك لطالبان؛ وصحيح أيضا أن القاعدة لم تظهر كتنظيم مستقل حتى بعد أن بدت أشبه بالشريك لطالبان. لكنها ضمن منظومة نسق الفعل التاريخي انفردت بسلسلة من المواقف والأفعال عبر بيانات صدرت باسم أسامة بن لادن لتمثل، بالإضافة لما سبق، علامات واضحة في تبلورها كتنظيم. فقد لعبت المذكرات والمراسلات والمناصحات للنظام السعودي دورا بارزا في تميز بن لادن كشخصية صارمة غير مهيأة لازدواجية في التفكير ولا الدخول في مجاملات أو مناورات سياسية على ما يعتبرها مسائل عقدية.
فعلى مستوى الفعل التاريخي انتقل بن لادن من صيغة النصح إلى صيغة المرجعيات الشرعية لحمل الحكومة السعودية وعامة المسلمين على إعلان الجهاد ضد الكفار. وفي السياق أثمرت جهوده عن فتوى أصدرها كبار العلماء في السعودية يتقدمهم الشيخ محمد بن صالح العثيمين تبيح محاربة الكفار. وحقق استفادة ملحوظة لجهة عودة أعداد كبيرة من المتطوعين ثانية إلى أفغانستان. وفي 2/8/0199 غزت القوات العراقية الكويت وتحققت نبوءة بن لادن وتحذيراته من خطورة النظام العراقي، وبدا الحدث، بالنسبة لرجل شغله الجهاد، فرصة ثمينة للحث عليه وفتح جبهات للقاعدة ضد اليمن الجنوبي الشيوعي والعراق البعثي انطلاقا من السعودية واليمن الشمالي لمحاربة من يعتبرهم كفارا. لكنه لم يجد إلا الصد والتحذير من السلطات السعودية. ولم يقتنع بن لادن بعدم جدوى محاولاته إلا بعد أن طلبت السعودية المساعدة العسكرية من الولايات المتحدة والغرب لردع النظام العراقي وإجباره على الانسحاب من الكويت.
ولا شك أن استدعاء القوات الأمريكية وحلولها في بلاده مثل نقطة تحول لدى بن لادن الذي كان إلى حين يحسن الظن بالسلطة. إذ لم يستسغ الدعوة إلى مجاهدة الكفار في أي مكان بينما عشرات الآلاف من القوات الغربية تحط رحالها في أرض الحرمين مدججة بالسلاح وبدعوة من ولي الأمر وبصورة لم يسبق لها مثيل منذ البعثة النبوية. وحتى لا يدخل في تناقض مع نفسه فضل ترك البلاد، بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، والرحيل إلى أفغانستان بعد أن تمكن، بحيلة معينة عبر شقيق له كانت تربطه علاقة بالأمير أحمد بن عبد العزيز نائب وزير الداخلية، من استعادة جواز سفره وإقناع السلطات بضرورة المغادرة مع وعد بالعودة لاحقا. لكنه لم يعد حتى الآن مكتفيا بالاعتذار لأخيه.
ومع أن فتوى كبار العلماء مثلت صيدا ثمينا بالنسبة لبن لادن إلا أنها حققت أغراضها، فقط، فيما يتعلق بالحشد. أما الظروف التي كانت عليها أفغانستان من صراع بين المجاهدين فلم تسمح بانطلاق أية عملية جهادية من هناك. فما كان منه إلا المغادرة باتجاه السودان. وهناك، حيث لاقى ترحيبا من الحكومة السودانية، بدأت علاقاته تتسع على نحو كبير سواء مع رجال الأعمال والمستثمرين أو مع قادة الحركات والجماعات الإسلامية أو مع الشخصيات الإسلامية، بل أن منزله تحول إلى محج لوسائل الإعلام والوفود من كل حدب وصوب. وفي السودان بدأت مواجهاته مع الحكومة السعودية التي اتخذت قرارا بتجميد أمواله. لكن أهم مواجهة كانت في إصداره أول بيان مستقل وقعه باسمه حين أعلنت الحكومة السعودية سحب الجنسية منه في أول العام 1994 بعد أن فشلت كافة محاولات استعادته.
عنى صدور البيان في حينه، مبدئيا وعمليا، بأن القاعدة لم تكن قد اتخذت الطابع التنظيمي بعد. وفي نفس الوقت ظهر بن لادن كشخصية مركزية في الصراع القادم مع النظام السعودي، وفي أي ترتيب تنظيمي قادم إذا ما استمر في سعيه لمجاهدة الكفار. فقد أعقب البيان بداية للتوجه العلني في العمل عبر تأسيس ما عرف بـ «هيئة النصيحة والإصلاح» التي أسست لها مكتبا في العاصمة البريطانية لندن وأصدرت سلسلة من البيانات لم تكن لتلائم عقلية بن لادن، وتبعا لذلك لم تكن لتحدث الأثر المرجو منها. وفي الأثناء كان بن لادن يستعد لمغادرة السودان باتجاه أفغانستان مع حلول صيف العام 1996. فما الذي فعله لدى وصوله؟
أصدر بن لادن بيانه الأول ضد الولايات المتحدة بعنوان: «إعلان الجهاد لإخراج الكفار من جزيرة العرب»، في شهر نوفمبر سنة 1996، بعد تفجيرات الخُبر في السعودية التي وقعت في 25/6/1996. وقبل هذا البيان لم يكن بن لادن يجاهر بعدائه للولايات المتحدة ولا للغرب. لكنه هذه المرة أراد أن يكون لبيانه عمقا شرعيا يلقي بظلاله على الأمة علماء وأفرادا. وعبر علاقاته الواسعة مع علماء طالبان وباكستان نجح: « في نهاية عام 1997 وبداية 1998 ... في استصدار فتوى من حوالي أربعين عالما من علماء أفغانستان وباكستان تؤيد بيانه لإخراج القوات الكافرة من جزيرة العرب».
من الواضح أن البيان كان يضع الجزيرة العربية في قمة أولوياته فيما يتعلق بإعلان الجهاد ولو أنه لم يشر إلى مناطق أخرى تستحق الاهتمام كفلسطين مثلا. لكن إلى أي مدى يمكن أن ينجح هذا الإعلان وهو يبدو كمن يميز بين أوطان وأوطان لها شأن عظيم في العقيدة والتاريخ الإسلاميين؟ لعله تساؤل كان أقرب إلى ذهن جماعة الجهاد المصرية بقيادة د. أيمن الظواهري من قربه لعقلية بن لادن غير الخبيرة في السياسة والتجارب التاريخية. لذا فقد مثل الإعلان فرصة ذهبية لجماعة الجهاد كي تدخل على الخط وتعمل على بلورة فكرة أوسع من قتال الكفار فقط في الجزيرة، فالكفار موجودون في شتى أنحاء العالم وليس في الجزيرة وحدها، والأولى قتالهم في فلسطين بوصفها قضية تحظى بإجماع الأمة بما يوطئ لِأن يكون للإعلان بعدا إسلاميا شرعيا وعالميا. وهذا لا يعني قط أن فلسطين غائبة عن عقلية بن لادن، فهو في الحقيقة تأثر بجماعات الجهاد المصرية أيما تأثير خاصة خلال السنوات الفارقة بين مكوثه في السودان وعودته إلى أفغانستان، لكنه كان يرى في الجزيرة العربية بما فيها اليمن أولوية لانطلاقة واعدة.
فالقصة باختصار، إنْ أريد لها النجاح، تبدأ بالنسبة لجماعة الجهاد في استعادة الإسلام لعالميته في مواجهته لأمم الكفر، وبالتالي فلا بد من عولمة الجهاد، ولا بد من تحقيق ربط شرعي محكم بين الحرمين في الجزيرة وثالثهما في بيت المقدس. هذه الفكرة بالذات كانت بمثابة الدينامو الذي حرر القاعدة من التيه التنظيمي إلى العالمية التنظيمية، لكن ليس عبر القاعدة بل عبر «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين». إذ قريبا من مدينة خوست الأفغانية، وفي 26/2/1998 أعلنت سلسلة من المجموعات المقاتلة في أفغانستان عن الاندماج فيما بينها عبر تشكيل إطار جبهوي أعلن عنه في بيان وقعه كل من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. ولم يسبق أن ظهرت القاعدة كتنظيم مستقل بقيادة بن لادن قبل هذا الإعلان. ومن المفارقات العجيبة أنها لم تظهر إلا بالصفة العالمية التي سبق وظهر بها بيت الأنصار لدى تأسيسه! فهل يكفي هذا لفهم تاريخية النشأة؟ لنرى لاحقا.
الفصل الثاني واقع التنظيم
حين التحدث عن الجبهة العالمية كتنظيم دولي فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو:
البحث عن مكوناتها؛
وموقع القاعدة فيها؛
ومنظومة العلاقات بين القاعدة أو الجبهة وحركة طالبان؛
وأخيرا الأدوات الضاربة أو القوى المنضوية في إطارها فكرا أكثر منه تنظيما.
أولا: مكونات الجبهة الإسلامية العالمية
بدأت المرحلة الثانية من الجهاد الأفغاني فعليا منذ اللحظة التي تأسست فيها الإمارة الإسلامية تحت حكم طالبان ما بين عامي 1996- 2001 حيث انهارت بفعل الغزو الأمريكي في أعقاب هجمات 11 سبتمبر التي نفذتها القاعدة ضد رموز القوة في الولايات المتحدة الأمريكية. وكالمرحلة الأولى فقد ضمت المرحلة الثانية متطوعون من جنسيات مختلفة، لكن بكثافة بشرية لا تتعدى بضعة آلاف مع عائلاتهم كما يقول أو مصعب السوري أشهر مؤرخي التيار الجهادي. وبحسبه فقد تواجد نوعين من المجموعات:
المجموعات العربية التي ضمت كل من تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن والجماعة الإسلامية المقاتلة بليبيا بقيادة أبو عبد الله والجماعة الإسلامية المجاهدة في المغرب (مراكش) بقيادة أبو عبد الله الشريف وجماعة الجهاد المصرية بقيادة أيمن الظواهري والجماعة الإسلامية المصرية وتجمع المجاهدين الجزائريين وتجمع المجاهدين من تونس وتجمع المجاهدين من الأردن وفلسطين بقيادة أبو مصعب الزرقاوي ومعسكر خلدن ( معسكر تدريبي عام ) وقاده ابن الشيخ – صالح الليبي ومساعده أبو زبيدة الفلسطيني ومعسكر الشيخ أبو خباب المصري ( معسكر تدريبي عام ) ومجموعة معسكر الغرباء التي قادها أبو مصعب السوري.
ومن غير المجموعات العربية يشار إلى المجموعات الأوزبكية ومثلها من تركستان الشرقية المحتلة من قبل الصين بقيادة أبو محمد التركستاني ومجموعات من تركيا.
والحقيقة أن الساحة الأفغانية ظلت مفتوحة لكافة الجماعات والشخصيات الإسلامية والمتطوعين من شتى أنحاء العالم. أما تكوين الجبهة فقد جمع أربع جماعات على الأقل من بينها القاعدة وجماعة الجهاد المصرية بالرغم من الجهود المضنية التي بذلت لجمع شتات كافة الجماعات. ولعل في امتناع الكثير من الجماعات أسباب كثيرة من أبرزها:
- تحفظات عقدية أبدتها بعض المجموعات فيما يتعلق بمبايعة الجبهة لطالبان بالنظر إلى الاختلافات حول المذهب الحنفي الماتريدي فضلا عما رآه البعض من شركيات وقبوريات تدخل في سلوك الأفغان العقدي. وكان من أبرز المتحفظين في هذا السياق مجموعة أبو مصعب الزرقاوي. فضلا عن الكثير من طلبة العلم ممن تشددوا في مواقفهم.
- تحفظات أمنية من الاجتماع في منطقة واحدة بحيث يسهل ضربها من قبل القوى المعادية. وكانت الجماعة الليبية المقاتلة من أبرز المعارضين رغم أنها لا تؤمن بتعدد الجماعات الجهادية حتى في بلادها.
- اختلاف الأجندات القطرية لجماعات أخرى جاءت إلى أفغانستان بغرض اكتساب الخبرات وليس بغرض الاندماج أو القتال.
- عدم استساغة بعض المجموعات لصيغ العمل الجماعي خاصة وأنها قادمة من أطر تنظيمية قطرية شبه مغلقة.
- انقسام الرأي حتى داخل الجماعة الواحدة كما حصل مثلا بالنسبة للجماعة الإسلامية في مصر حيث وقع رفاعي طه على البيان التأسيسي لإعلان الجبهة ثم قيل أنه انسحب لاحقا بعد الانتقادات التي تعرض لها من جماعته.
لكن بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان تغيرت المواقف جذريا وانضوت جميع الجماعات تحت قيادة بن لادن. حتى أن الجماعة الليبية المقاتلة بقيادة صالح الليبي (الشهير بابن الشيخ الليبي) وأبي الليث الليبي كانت أول المجموعات العربية التي أعادت بناء نفسها وباشرت في شن الهجمات ضد القوات الأمريكية والإيساف في أفغانستان.
ثانيا: مكانة القاعدة في إطار الجبهة
مثل الإعلان عن الجبهة الميلاد الحقيقي والرسمي للقاعدة كتنظيم مركزي. هذا صحيح إلى حد كبير. لكنه ميلاد في إطار الجبهة وليس خارجها. وتبعا لذلك كان من المفترض أن تظهر الجبهة كحاضنة يندمج فيها الجميع ومفتوحة لانضمامات أخرى، وفي نفس الوقت المعبر، أيديولوجيا وعقديا، عن الجهاد بصيغته العالمية. إذ ما من منطق أن تلتحم الجماعات فيما بينها بأيديولوجية جديدة ومؤسسة تنظيمية جديدة وقيادة علنية رسمية ثم تبقى في أطرها التنظيمية التقليدية بناءً والقديمة أداءً. لكن هذا لم يحصل إطلاقا. وعلى العكس من ذلك؛ فلا الجبهة ظهرت بمضمونها الجديد ولا الجماعات المنضوية في إطارها احتفظت بصيغها الأولى من الانتظام والعمل. والملاحظ أن القاعدة امتصت الجبهة واستحوذت على كل مكوناتها التنظيمية وهوياتها وحتى تاريخها من أولها إلى آخرها حتى أنه لم يعد للجبهة أي وجود تنظيمي سوى البيان التأسيسي لها. ومن ينقب عن بياناتها اللاحقة على التأسيس فمن الأرجح أنه لن يقع على أي بيان عنها فيما عدا بيان التأسيس. والثابت الأوضح أنها لم تتبن أي عمل مسلح أو سياسي لاحق باسمها. فما الفائدة إذن من إعلانها؟ وبماذا نفسر الزوبعة التي رافقت تأسيسها بينما خيم الصمت المطبق على غيابها؟
الحقيقة المبدئية أن ميلاد الجبهة كان في الواقع إعلانا عن الميلاد الرسمي للقاعدة وليس للجبهة التي لم تكن ذات قيمة بدون القاعدة. لذا لم يأبه الإعلام ولا الأجهزة الأمنية ولا حتى مراكز الأبحاث بالاسم الجديد خاصة وأن اسم القاعدة قد وجد له حيزا واسعا في اهتماماتها منذ وقت مبكر. أما الحقيقة الأبلغ دلالة في اعتماد القاعدة كتنظيم إرهابي من قبل الولايات المتحدة والغرب فتقع في صلب الأيديولوجية الداعية إلى قتال اليهود والنصارى. هذه الأيديولوجية (قتال الكفار دون تحديد لهويتهم) كانت شائعة بين عموم المجاهدين العرب وغير العرب، جماعات وأفراد وحتى شخصيات، منذ مرحلة الجهاد الأفغاني الأول ثم ورثها بن لادن إلى أن تبلورت واقعا في الإعلان التأسيسي عن الجبهة. بمعنى أن القاعدة، من جهة، ظلت غائبة إلى أن جاهرت رسميا بهوية العدو الذي ستقاتله رغم أنها ميدانيا كانت كذلك منذ بداية التسعينات من القرن العشرين*، ومن جهة أخرى شعور العدو بأنه بات مستهدفا بشكل رسمي ومنظم من أصحاب الأيديولوجيا إياهم بقطع النظر عن التسمية الجديدة.
ولو تتبعنا السنوات الفارقة بين تأسيس الجبهة وضربات 11 سبتمبر (ثلاث سنوات ونصف تقريبا) فسنلاحظ أن الجبهة لم تكن واقعة حتى ضمن خيارات المؤسسين في التعبير الإعلامي عن كل العمليات المسلحة التي وقعت كاستهداف السفارات الأمريكية في كينيا وتنزانيا (7/8/1998)، وكذا ضرب المدمرة الأمريكية « يو إس إس كول» بتاريخ 12/10/2000 في ميناء عدن اليمني. إذ لم يصدر أية بيانات باسم الجبهة. وحين صدرت لاحقا كانت باسم القاعدة وليس باسم الجبهة. أما الضربة القاضية التي تلقتها الجبهة فكانت إثر هجمات نيويورك وواشنطن سنة 2001، حيث لم يعد أحد يتحدث عنها أو يحملها أية مسؤولية عن أفعال لا يستسيغ أحد نسبتها لغير القاعدة. وبفعل الضربات المدمرة حصل اسم القاعدة على هويته العالمية وهو يلاقى أضخم تغطية إعلامية لم تحلم به أية منظمة أو جماعة في تاريخها. وهكذا استقرت التسمية في وجدان المؤسسين الذين رأوا في القاعدة تنظيم ذو جاذبية صارخة ورصيد إعلامي هائل ففضلوا التعامل مع الواقع الذي يتقبل القاعدة شعبيا ويأبى أن يتقبلها جبهة حتى إعلاميا.
ولا شك أن هجمات 11 سبتمبر أسبغت مشروعية على القاعدة التي صارت، تبعا لذلك، قِبلة لكافة الجماعات المسلحة التي تعتقد بذات الأيديولوجيا المناهضة للولايات المتحدة والغرب وحتى لأنظمتها السياسية. فكل جماعة، من الآن فصاعدا، تعلن ارتباطها بالقاعدة ستلجأ إلى تغيير اسمها على الفور في بيان الإعلان، وهو ما حصل في العراق بالنسبة لـ «جماعة التوحيد والجهاد» بقيادة أبو مصعب الزرقاوي حيث تغير الاسم إلى « قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين (8/1/2004)» وفي الجزائر حيث تغير الاسم من «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» إلى « قاعدة الجهاد في المغرب الإسلامي (13/9/2006)» وكذا الأمر فيما يتعلق بأحد أجنحة «الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد » في مصر والتي اتخذت من « قاعدة الجهاد في أرض الكنانة (5/8/2006)» اسما لها بقيادة محمد خليل الحكايمة. أما فيما يتعلق بـ «الجماعة الإسلامية المقاتلة» في ليبيا فالمسألة تتعلق بانضمام كوكبة من الجماعة وليس كلها كما قال الظواهري، وهي المجموعة التي التحقت بأفغانستان بإيعاز من قيادة الجماعة في ليبيا.
ثالثا: منظومة العلاقة بين القاعدة وحركة طالبان
غالبا ما يجري الحديث عن سوء في العلاقة ما بين القاعدة وطالبان، وفي أحايين كثيرة يجري الحديث عن طالبان وهي تعاني من أعباء القاعدة كونها تسببت في خسارة الإمارة الإسلامية، وفي أحايين أخرى يجري التركيز على إمكانية فك الارتباط بين الطرفين. لكن ما يحكم سمت العلاقة بين الطرفي مسألتين: هما رؤية الأفغان للعرب في ضوء مرحلة الجهاد الأفغاني الأول ثم مبايعة القاعدة للملا عمر خاصة في المرحلة الثانية منه. ودون ذلك فهو أقرب إلى لغة الخصوم الذين يحاولون توظيف ما يعتبرونه خلافات سابقة بين الجانبين يمكن البناء عليها في تحقيق اختراقات سياسية أو أمنية.
فالأفغان يتعاملون مع المقاتلين العرب باعتبارهم موطن السلالة النبوية المصطفاة لآخر الرسالات السماوية. ومن هذا الباب لم يكونوا يرغبون في إقحام المتطوعين منهم في أي عمليات قتالية ولا إرهاقهم أو زجهم في شظف الجهاد والحياة الأفغانية. ولعل في هذا ما يبرر، نسبيا، تأخر العرب في الدخول في المعارك بشكل منظم. لكن بعد اشتراكهم في قتال الاتحاد السوفياتي صاروا ينظرون إليهم بقدر كبير من الإعجاب الشديد خاصة وأنهم أثبتوا شجاعة وجدارة في المعارك يحسدوا عليها. ولأنهم جعلوا من الجهاد الأفغاني قضية كل مسلم حيث كان، وساهموا بفعالية في استقطاب عشرات الآلاف من المتطوعين والشخصيات والجماعات الإسلامية لدعم الشعب الأفغاني ومناصرته والدفاع عنه، وحالوا دون سقوط كابل بيد التحالف الشمالي المناهض لطالبان بقيادة أحمد شاه مسعود في أول عهد حركة طالبان في الحكم. ولا ريب أن هذا الفعل التاريخي «جميل» لم يستطع الأفغان تجاوزه أو الانقلاب عليه حتى هذه اللحظة.
هذا «الجميل» عبر عنه أغلب قادة الجهاد الأفغاني الأول مثل يونس خالص وجلال الدين حقاني وصولا إلى قلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي الذي قال في شريط مصور له:
- «... نحن نشكر جميع المجاهدين العرب بالأخص الشيخ أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري وغيرهما من القادة الذين ساعدونا في جهادنا ضد الروس ... وقدموا تضحيات باهظة لن ننساها لهم نحن والأجيال القادمة على هذا المعروف الكبير، ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا ويساعدنا في أداء واجبنا تجاههم ويمكننا من رد الجميل على ما قدموه لنا من الدعم والتضحيات ونتمنى أن نشاركهم في معركة يقودونها هم، رايتها بأيديهم، ونحن واقفين بجانبهم كأنصار لهم».
وبالإضافة إلى بيانات طالبان وخطاباتها التي تؤكد على ذات العقيدة والمنهج مع القاعدة فيما يتعلق بقتال الكفار فإن تصريحات المسؤولين كانت أكثر حسما في وضوح العلاقة مع القاعدة. فقد سئل أمير طالبان الملا محمد عمر عن أسامة بن لادن فيما إذا كان حيا أو ميتا فأجاب قائلا: «الحمد لله ما زال الشيخ أسامة على قيد الحياة. وهذا الأمر صار حسرة في قلب بوش الذي يعد شعبه بقتل أسامة وهو لا يعلم أن الأعمار في يد الله تعالى، فهو الذي يحيي ويميت». وفي خطابه بمناسبة الذكرى الثانية لهجمات سبتمبر قطع الملا عمر الطريق على من يحمل القاعدة مسؤولية الغزو الأمريكي للبلاد وخسارة الإمارة الإسلامية في أفغانستان فقال: « إن أمريكا عندما حاربت أفغانستان أرادت بالدرجة الأولى القضاء على النظام الإسلامي ومنع تطبيق الشريعة الإسلامية ومنع إحياء الدين الإسلامي الذي يخيفها.. وإذا كانت أمريكا قد جعلت من عمليات 11 سبتمبر ذريعة لضرب إمارة أفغانستان الإسلامية وإعلان الحرب على المسلمين فإننا نعلم أن ذلك ليس هو السبب الوحيد ، ونعرف أن أمريكا كانت تريد ضربنا والقضاء على الإمارة الإسلامية قبل ذلك بكثير وكانت تحاول إيجاد المسوغات ، ولو لم توجد 11 سبتمبر لوجدت أمريكا غيرها... »، مضيفا: « نحن والعالم كله يعرف أن الذي حصل لأمريكا يوم 11 سبتمبر هو حصاد ما زرعته ... من الظلم والغطرسة وقهر الشعوب والاستعلاء على الضعفاء، وحرمانهم وتفقيرهم والاعتداء على حقوقهم وأكل خيراتهم تحت مسمى النظام العالمي والعولمة وغير ذلك».
وفي برنامج لقاء اليوم على قناة الجزيرة الفضائية تعرض الملا محمد حسن رحماني عضو مجلس الشورى العالي لحركة طالبان الأفغانية والمستشار الخاص للملا محمد عمر لسؤال من قبل مدير مكتب الجزيرة في الباكستان عن أسامة بن لادن والعلاقة مع القاعدة، فيما يلي نصه والإجابة عليه:
- « أحمد زيدان:
هل أنتم في حركة طالبان الأفغانية نادمون على عدم تسليم أسامة بن لادن أو على عدم إبعاده من أفغانستان؟ وبسبب هذا القرار هل أنتم تعانون ما تعانون طوال سبع سنوات والشعب الأفغاني؟
الملا محمد حسن رحماني:*
تعلمون جيدا بأن طالبان مجاهدون يؤمنون بعقيدة قوية وإيمان راسخ ويجاهدون من أجل ذلك. لذا كيف يعقل أن يندم المجاهدون على عدم تسليم أسامة بن لادن؟! إن من أساسيات عقيدتنا وإيماننا هو أن نحفظ كل مسلم من الكفر وأن ننقذه من الكفر وأهله، إذ لا يعقل أبدا ولا يمكن أن يساورنا أي تفكير بالندم على عدم تسليمه للعدو فهو محل فخرنا واعتزازنا ونحن نعتز بوقوفه في وجه الكفر وأهله ومواجهة أعداء الإسلام، والشيخ أسامة، وهكذا غيره من المسلمين، لا نقبل بتسليمهم إلى الكفر وأهله ولا يمكن أن نسلم أي مسلم بأي حال من الأحوال، وهذا ما لن يحدث أبدا».
هذا التقدير للعرب من قبل الأفغان ظل يقف سدا منيعا أمام كل الخلافات التي تطرأ بين الحين والحين بين الجانبين ومحاولات الاختراق. ربما يكون الملا محمد عمر قد عبر عن غضبه فعلا من أسامة بن لادن في أكثر من مناسبة سواء في نشاطه الإعلامي منذ حل ثانية بأفغانستان أو بسبب بعض العلميات المسلحة ضد المصالح الأمريكية في أفريقيا أو بسبب إعلان الجبهة الإسلامية العالمية أو بسبب ما جرته ويلات 11 سبتمبر على إمارة طالبان والشعب الأفغاني؛ لكن مبدئية العلاقة وعقَديتها، وإنْ كانت تسمح بالتعبير عن الغضب إلا أنها لم تتبلور في أقصى حالاتها إلى ما يمكن تسميته بمنزلقات عقدية كان من الممكن أن تفضي إلى تسليم بن لادن للأمريكيين دون أن تنجو الإمارة من الغزو الأمريكي، كما عبر عن ذلك الملا عمر في خطابه أعلاه! فكل ما يمكن اعتباره تجاوزات مصيرية لبن لادن خلال مرحلة الإمارة كانت تراه طالبان وخاصة الملا عمر خروجا عن التفاهمات أو الالتزامات الأدبية مما لا يرقى إلى مستوى الخروقات الشرعية التي لا يتسامح معها الملا عمر إطلاقا.
وتأسيسا على ذلك، وحتى الآن لم يثبت أنه ثمة قيود طالبانية على القاعدة فيما يتعلق بضرب المصالح الغربية خارج أفغانستان، وعلى العكس من ذلك فقد ضربت القاعدة في بالي في أندونيسيا (12/10/2002) ومدريد (11/3/2004) ولندن (7/7/2005) وغيرها. كما لم يثبت وجود قيود عليها فيما يتعلق بالتحريض على الجهاد، وفتح جبهات مسلحة خارج أفغانستان، أو تلقي مبايعات من جبهات مفتوحة كالجزائر والعراق. ولم يثبت أيضا وجود قيود على القاعدة فيما يتعلق بنسج تحالفات استراتيجية مع القوى الإسلامية الباكستانية ومساهمتها في تأسيس طالبان الباكستانية وقيادة التنسيق بين هذه القوى وطالبان الأفغانية. لكن أين هي القاعدة من جهاد طالبان؟
هنا يمكن القول أن القاعدة مرتبطة ببيعة عقدية مع الملا عمر الملقب بأمير المؤمنين، لكن هذه المرة تبدو القاعدة ملتزمة فيما يتعلق بالشأن الأفغاني. وحتى إن صحت بعض الشائعات عن الدور المحوري الذي تلعبه القاعدة في المراكز القيادية الحساسة لطالبان والمشاركة في إعداد الخطط العسكرية* وتنفيذها إلا أنها لا تبدو مخولة بأدنى خروج عن البيعة. فهي واقعة في صميم الشؤون السياسية والأمنية والعسكرية والاجتماعية وغيرها لكن التعبير عنها يتم عبر بيانات رسمية تصدرها إمارة طالبان فقط. وهذا يعني أن القاعدة لا تستطيع أن تنفرد بالعمل داخل أفغانستان خارج إرادة طالبان، ولا هي بوارد الإتيان بخطوة من هذا القبيل كون العلاقة التي تحكم الطرفين هي علاقة عقدية وليست حزبية أو سياسية. لذا فمنذ 11 سبتمبر وإلى يومنا هذا لم يصدر بيانا واحدا عن القاعدة يتحدث عن نشاطها المسلح داخل أفغانستان رغم كثرة عدد قتلاها حتى من العرب.
رابعا: القاعدة وامتداداتها
لكي نفهم آليات عمل القاعدة جيدا كتنظيم مركزي انطلق من أفغانستان ينبغي التمييز، في مرحلة أولى، بين مستويين رئيسيين في القيادة والعمل. ونقصد بذلك المستوى الشرعي والمستوى العسكري. صحيح أن الفارق بين المستويين يكاد يكون واهيا بالنظر إلى الشروط الصارمة التي تعتمدها القاعدة في صناعة القيادة. فهي تفرق مثلا بين القائد العسكري والمدير، لكنها لا تعتمد عضوا ما قائدا إن لم يحسن الإدارة على أن يتوفر على قدر لا بأس به من العلم الشرعي. في هذا المستوى بالذات تعاقب على المسؤولية العسكرية للقاعدة عدة شخصيات كان أولها عادل حبيب (أبي عبيدة البنشيري) الذي غرق في بحيرة فيكتوريا بأوغندا في أوائل شهر حزيران / يونيو سنة 1996، ثم محمد عاطف المكنى بأبي حفص المصري الذي قتل خلال الغزو الأمريكي لأفغانستان، وأخيرا القائد الحالي مصطفى أبو اليزيد*.
وبما أن الجانب العسكري طغى على فعاليات القاعدة وطبع نشاطها منذ أوائل تكوينها فقد احتل المسؤول العسكري الأول فيها حيز الصدارة ميدانيا وليس إعلاميا ولا شرعيا. لكن ثمة قادة آخرون مخضرمون عسكريا لا يقلون أهمية وبريقا عن المسؤول العسكري وهم المختصون بالمسألة الشرعية كالشيخ أبي يحيى الليبي الذي يتولى مهمة اللجنة الشرعية في القاعدة. وفي الواقع فإن المسؤولين العسكريين والشرعيين هم القادة الفعليون للقاعدة. وهذا يعني أن المرحلة الثانية من التوصيف ستعمل على ترقية بن لادن والظواهري إلى المستوى الرمزي كمرشدين أو موجهين ليس فقط للقاعدة في أفغانستان بل ولجميع امتداداتها في الخارج على مستوى الأفراد والجماعات.
هذا التوصيف يعني أن القاعدة وإنْ كانت تتمتع بصفة المركزية في التوجيه على مستوى الرموز إلا أنها لا تمتلك القرار النهائي فيما يتعلق بالفروع، الأمر الذي يتيح لهذه الأخيرة التمتع في الصفة المركزية حيث تكون. ولا ريب أن هذه الوضعية التنظيمية مكنت أصحاب النظرية التي تعتقد بأن القاعدة تطورت إلى فكرة أكثر منها تنظيم؛ وأن لها خلايا نائمة تتمتع بمصداقية تحسد عليها. وتأسيسا على ذلك فإن الحديث عن تنظيم القاعدة على مستوى العبور القاري والأيديولوجي، وانطلاقا من السلفية كمنهج في العمل والتفكير، يمكن ملاحظته، بحسب أحد الباحثين المتخصصين، كمجموعة تنظيمات تقع في مستوى:
الخلايا الفاعلة والخلايا النائمة في بلدان عديدة في العالم.
الجماعات والتنظيمات الإسلامية المتهمة بموالاة القاعدة وذات النشأة المختلفة أو ذات الارتباط الفكري أو التنظيمي بها مع تمتعها باللامركزية في العمل. وبالرغم من صعوبة رصد مثل هذه الجماعات إلا أنه يمكن الإشارة إلى بعض من أبرزها مثل تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، وتنظيم الجماعة الإسلامية في اندونيسيا والتي ينسب لأحد أعضائها تفجيرات بالي، وتنظيم جيش عدن أبيَن الذي بايع بن لادن على الولاية سنة 1998، وينسب له تفجير المدمرة الأمريكية كول سنة 2000، والجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر والجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وتنظيم جماعة أنصار الإسلام في كردستان العراق، وحركة الشباب المجاهدين التي انبثقت من رحم ميليشيات المحاكم الإسلامية في الصومال، وقاعدة الجهاد في بلاد الكنانة بزعامة محمد خليل الحكايمة من الجماعة الإسلامية في مصر، وتنظيمات متعددة باسم جند الشام أو جند الإسلام في أوساط العرب والسنة الإيرانيين وأخيرا مقاتلي الحزب الإسلامي الأفغاني بزعامة حكمتيار.
الجماعات والتنظيمات الإسلامية المسلحة وغير المسلحة وغير الموالية للقاعدة ولكنها، إن لم تكن مناصرة وداعمة فهي محايدة على الأقل، وبالتالي قابلة للتحول والعمل وفق منهج القاعدة بفعل ظروف سياسية قد تضطرها إلى الإفلات من حالتي التردد والجمود والانخراط بفكرة الإسلام العالمي المقاتل، جزئيا أو كليا، كحزب التحرير* وبعض تيارات الإخوان المسلمين والتبليغ والدعوة وحتى من داخل حركة حماس والجهاد الإسلامي وغيرها.
بعض الجماعات المسلحة الوطنية غير المرتبطة بأية أيديولوجيا إسلامية ولكنها تظهر تعاطفا كبيرا مع الفكرة ولعلها تشهد تحولا بطيئا نحو صريح الفكرة، وتشكل بعض الأجنحة العسكرية لحركة فتح أمثلة ملموسة بالإضافة إلى لجان المقاومة الشعبية وجناحها العسكري ألوية الناصر صلاح الدين.
كل هؤلاء يقعون في مستوى الأنساق الرأسية لما بات يسمى بظاهرة التيار الجهادي العالمي، لكن للظاهرة أنساق أفقية أكبر وأخطر وأدعى لاستمراريتها، كشرائح العلماء والفقهاء وطلبة العلم الشرعي والأنصار والقيادات المتوارية عن أنظار الإعلام وكل المؤمنين بفكرة الجهاد العالمي سواء المؤطرين منهم في تنظيمات مسلحة أو ممن ليست لهم أية سوابق تنظيمية. وهؤلاء هم الذين تسببوا بميلاد ما يسمى بتيار السلفية الجهادية كما سنرى لاحقا
الفصل الثالث فلسفة القاعدة ومنهجها
ليست القاعدة تنظيما مستقلا عما بات يعرف بتيار «السلفية الجهادية»، وليست هذه، كتيار عقدي، سوى محصلة لتراكمات تنوعت مصادرها الفكرية لتشمل، بحسب أبي مصعب السوري: «أساسيات من فكر الإخوان المسلمين + المنهج الحركي للشهيد سيد قطب + الفقه السياسي الشرعي للإمام ابن تيمية والمدرسة السلفية + التراث الفقهي العقدي للدعوة الوهابية ← المنهج السياسي الشرعي الحركي للتيار الجهادي». والثابت أن مصطلح «السلفية الجهادية» بحد ذاته هو مصطلح إعلامي ليس له علاقة باختيارات القاعدة ولا من ينهج نهجها. لكنه مصطلح لا يخلو من دلالات عميقة رغم حداثة ظهوره.
أولا: «السلفية الجهادية»: أصل المصطلح
مبدئيا فقد ظهر المصطلح على أنقاض مصطلح إعلامي آخر هو «الأفغان العرب» الذين قاتلوا في مرحلة الجهاد الأفغاني الأول وعادوا إلى بلادهم بعد انتصار المجاهدين وإعدام الرئيس الأفغاني نجيب الله في وسط العاصمة كابل في 16/4/ 1996. أما ظروف النشأة فتبدأ من عند انفجارات مدينتي الرياض (13/11/1995) والخُبر (25/6/1996) في السعودية وتأييد الكثير من المشايخ والعلماء وطلبة العلم لها. وأسفرت الانفجارات وما تلاها من إجراءات أمنية عن عملية تمايز في الموقف الشرعي بين من يؤيدون الجهاد بصيغته العالمية ومن يعارضونه. وقبل ذلك لم يكن مصطلح السلفية الجهادية ليجد له حيزا في المدرسة السلفية السعودية على وجه التحديد، ولا حتى لدى الجماعات الجهادية أيا كانت هويتها. فقد كانت السلفية عموما قد انخرطت في سياق التحريض الكبير على محاربة العدو الملحد في أفغانستان. ولاقت خطبها في المساجد ودعواتها إلى الجهاد صدى رسميا وشعبيا واسع النطاق في البلاد تمخض عنه التحاق الآلاف من السعوديين في جبهات القتال في أفغانستان. لكن الصورة انقلبت مع الانفجارات وصار من الممكن ملاحظة أكثر من موقف في صفوف العلماء والمشايخ وطلبة العلم وأتباع كل منهم ومناصريه مثل:
- موقف هيئة العلماء الرسمية ومن يدور في فلكها من تيارات وفرق تبنت جميعها موقف الدولة ورددت خطابها السياسي والأمني الذي يعتبر القاعدة ومناصريها « فئة ضالة» أو «خوارج».
- موقف محايد لم يؤيد ولم يعارض. أي لم يجاهر بتأييده للجهاد بصيغته العالمية وفي نفس الوقت لم يتبن خطاب الدولة ومن يساندها من العلماء وغيرهم. وهذا في الحقيقة موقف فقهي حذر، وله انتقاداته الصريحة للقاعدة رغم أنه لم يؤيدها صراحة أو يعاديها.
- موقف صريح في تأييده للقاعدة أولا، وللجهاد العالمي ثانيا، وفي كل ساحاته ثالثا. وهؤلاء هم الذين يطلق عليهم الإعلام السعودي الـ « فئة ضالة»، وتمتلئ بهم السجون باعتبارهم المنظرين لما بات بعرف بـ «الجهاد العالمي» أو تيار «السلفية الجهادية».
أما تاريخية المصطلح فتتصل بالدرجة الأساس بالدعوة الوهابية التي ظهرت في السعودية على يد محمد بن عبد الوهاب، قبل ثلاثة قرون، والتي شرحها ودافع عنها لاحقا ما اشتهر بأئمة الدعوة النجدية. لكن المشكلة تبدأ من عند الدولة السعودية الثالثة بزعامة الملك عبد العزيز آل سعود. فمن المعروف أن كتاب «التوحيد» للشيخ محمد بن عبد الوهاب جاء كذروة سنام لدعوته التي استهدفت محاربة شرك القبور وشرك الحاكمية، وإعادة ترسيخ مبدأ التوحيد في الدعوة النبوية على خلفية ما شاع في الجزيرة العربية من أعمال وعبادات اختلط فيها الشرك بالتوحيد وبلغت الضلالات فيها مبلغا عظيما حتى كاد الدين يضيع في مهده. وفعليا نجحت الدعوة بالتحالف مع آل سعود في محاربة شرك القبور وأعادت للدين، علما وحكما، مكانته التي افتقدها بفعل تراخي الدولة العثمانية التي تبنت الصوفية وتسببت، بدرجة كبيرة، بدخول الشركيات إلى رحم العبادات والمعتقدات.
حتى أوائل السبعينات ظلت السلفية في السعودية متوافقة مع الدولة. لكنها وإن نجحت في تثبيت محاربة شرك القبور إلا أنها فشلت، بنظر السلفية الجهادية، في محاربة شرك الحاكمية. وبمعنى أدق ترى السلفية الجهادية أن السلفية العلمية، ممثلة بكبار العلماء، نجحت نظريا في إثبات شرك الحاكمية بالدليل الشرعي لكنها فشلت فشلا ذريعا في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع. بل أن رموزها انقسموا ما بين مؤيد ظاهر لتنزيل الحكم الشرعي أو خفي أو مرجئ في أو مبرر للواقع أو مميع أو متهرب من الجهر به.
على هذه الخلفية صار هناك تمايز واضح. فالذين يؤمنون بالجهاد منهجا للتغيير هم الذين يتبنون أطروحة الجهاد العالمي ويدعون لتنزيل الحكم الشرعي على الواقع. وهؤلاء هم الذي أُسميوا، إعلاميا، بتيار «السلفية الجهادية». ومن الواضح أن المصطلح ولد في بيئة إسلامية وعلمية شرعية خصبة بالنظر إلى وفرة ومكانة العلماء الشرعيين في السعودية، وكثرة منتسبي التيار ممن جاهدوا في أفغانستان بالإضافة إلى تاريخية المصطلح. ومع ذلك لا يتقبل التيار السلفي الجهادي المصطلح خشية حصر التيار في مساحة مذهبية معينة كالمذهب الحنبلي بينما هو يفضل الانتساب إلى ما يسميه بـ «أهل السنة والجماعة» انتسابا منهجيا لا مذهبيا. وفي هذا السياق يقول أحد أبرز منظري التيار حين سئل عنه:
« أولا: أحب أن أنوه بأننا لم نتسم بهذا الاسم وإنما نعتنا به من سمانا به من الناس لتمسكنا بما كان عليه السلف الصالح من الاعتقاد والعمل والجهاد». ونفس الكلام ردده الكثير من علماء التيار بمن فيهم الشيخ عطية الله الليبي أحد قادة القاعدة. وتأسيسا على ذلك لم نقع على أي تبني للمصطلح في أدبيات التيار، اللهم إلا دعوة أبو عمر البغدادي المسمى أميرا لـ « دولة العراق الإسلامية» الوحيد الذي استعمل المصطلح مرتين في أحد خطاباته، وكذلك وزير دفاعه أبو حمزة المهاجر*.
ثانيا: الأطروحة العقدية للتيار
في قراءتها لواقع الأمة، خاصة ما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وزوال نظام الخلافة الإسلامية رسميا سنة 1924، تميزت الأطروحة العقدية للسلفية الجهادية بفرادة الدعوة والأهداف عبر المصطلح الشرعي مقارنة بغيرها من الأطروحات الإسلامية والعلمانية على السواء. لكنها بنفس الوقت امتازت، ولفترة طويلة ولمّا تزل، بالكثير من التعقيد، كونها أطروحة شرعية يصعب فهم لغتها حتى على الباحث المتخصص إلا إنْ كان في مخزونه الثقافي بعض العلم الشرعي بما يكفي لإدراك مضامين الأطروحة من جهة لتحويل لغتها الشرعية إلى لغة يمكن فهم معانيها في الواقع. أما الصعوبة في الفهم فيمكن ردها نسبيا لأسباب موضوعية تتعلق بالدرجة الأساس بـ:
1) غياب الخطاب السلفي الجهادي الجامع الذي يمكن من خلاله الاطلاع على أهداف وآليات العمل لدى التيار أو أدواته الضاربة. فكل ما هو كائن، رغم غزارة الإنتاج المعرفي، مواقف فقهية تجاه مسائل خلافية. بمعنى أن المرجعية الوحيدة للفهم عند السلفية الجهادية هي الأحكام الشرعية فيما يتعلق بالكائن من المسائل أو ما يستجد من مسائل في النوازل. هكذا تقدم نفسها حتى في بياناتها وخطابات القادة ولقاءاتهم الإعلامية التي تجريها بعض وسائل الإعلام فضلا عما تصدره المؤسسات الإعلامية ذات الصلة من شرائط مصورة ووثائقية أو خطابات صوتية تنشرها غالبا شبكات إلكترونية.
2) غياب المجتمع السلفي الجهادي الرسمي والشعبي. فلا وجود لحزب ولا تنظيم ولا جماعة ولا مؤسسات ولا نقابات ولا أية جهة تمثيل حقيقية يمكن الاتصال بها أو التواصل معها لاستنطاقها وسبر أغوار أفكارها وعقائدها.
وتأسيسا على ما سبق أعلاه، فإن ضبط الأطروحة السلفية الجهادية، على أي مستوى، مسألة شديدة الصعوبة وعميقة الجذور وواسعة النطاق. وبما أن مرجعية الأطروحة تكمن في الإطار العقدي والشرعي تجاه المسائل والنوازل فمن الأفضل، منهجيا:
توخي الحذر من توصيف الأطروحة بالفقر أو الجهل أو أي من التوصيفات ذات الطابع الإعلامي أو السياسي أو الأمني أو المذهبي*. فثمة فرق بين فهم الأطروحة ومحاربتها. لذا من الأفضل توخي الحذر من تجميع الأطروحة وعرضها استنادا إلى المناهج والمصطلحات التقليدية كالتي استعملت في فهم القوى المخالفة للسلفية. إذ أن القاعدة لن تسمح بقراءتها خارج ا|لأطروحة الدينية التي تسمح بتمددها بالقدر الذي يكفي لاستيطانها، فكرا وأهدافا، كبعض الجماعات الإسلامية المسلحة، فضلا عن المحاولات المستميتة من قبل الأفراد لاستنبات جماعات أخرى، في مناطق مختلفة، حتى لو كانت صغيرة أو عاجزة عن البقاء*.
لا شك أن الباحث سيواجه مأزقا في أية انطلاقة منهجية تستهدف التعرف على الهوية العقدية للسلفية الجهادية وأطروحاتها. لكن للخروج من هذا المأزق بأقل التكاليف يمكن الاستعانة، منهجيا، بأطروحة أبو محمد المقدسي كونها تشتمل على المفاهيم الكبرى للتيار وعلاقته بالقوى الأخرى. فبالنسبة له فإن:
« • السلفية الجهادية تيار يجمع بين الدعوة إلى التوحيد بشموليته والجهاد لأجل ذلك في آن واحد، أو قل هو تيار يسعى لتحقيق التوحيد بجهاد الطواغيت .. هذه هي هوية التيار السلفي الجهادي والتي تميزه عن سائر الحركات الدعوية والجهادية.
فبعض الحركات السلفية تقزم وتحصر دعوة التوحيد على شرك التمائم والتولة والقبور ولا تتعرض من قريب أو بعيد إلى شرك الحكام والمشرعين والقوانين والقصور،
بل قد تكون ممن يسير في ركاب الحكام ويعمل على تثبيت عروشهم.
كما أن بعض الحركات الجهادية تبوتق جهادها وتحصره في منطلقات وطنية وترفض رفضا جازما وحاسما أن تتعدى بجهادها حدود الوطن.
فالتيار السلفي الجهادي يخالف هؤلاء وهؤلاء. ومن أجل ذلك فهو يدعو إلى التوحيد بشموليته وفي كل مكان فحيث وجد الخلق شرعت دعوتهم إلى التوحيد بشموليته وحيث وجدت هذه الدعوة وجد الجهاد من أجلها وفي سبيلها ... ولذلك فأنت ترى أن هذا التيار لا يحصر جهاده في بقعة معينة من الأرض من منطلقات قومية أو أرضية بل ميدانه هي الأرض كلها فتجد أبناءه يجاهدون في شتى بقاع الأرض،
وإن كانت هناك أولويات نحبها وندعو إليها بحسب السياسة الشرعية ومصلحة الدعوة والجهاد .. ولكن فرق بين الاجتهادات النابعة من السياسة الشرعية وبين الثوابت والأصول النابعة عن الوطنية أو نحوها من الموازين الجاهلية».
هذا التعريف لهوية التيار تكمن قوته في ثلاثة مستويات تشكل جواهر الأطروحة السلفية الجهادية في صميمها. ونعني بذلك:
طرح التيار لمفهوم التوحيد مقرونا بالجهاد بصورة لا فكاك منها.
العلاقة بين التيار وسائر الحركات الإسلامية والوطنية.
الإشارة إلى أن الاجتهاد يقع فقط وفقا للمرجعية الدينية وما تفرضه السياسة الشرعية ومصلحة الدعوة والجهاد وإسقاط لكافة المرجعيات الأخرى.
بطبيعة الحال ما يهمنا هو مناقشة المستويين الأول والثاني واستخراج ما أمكن من الأطروحة السلفية الجهادية بشرط الالتزام بمنهجية التيار، في التعريف بنفسه، كما هي في المستوى الثالث إنْ لم يكن وجوب التسليم بها دون نقاش. بمعنى أنه لا يجوز مناقشة مسألة التوحيد مثلا استنادا إلى فلسفات وشرائع وضعية أو أيديولوجيات حزبية أو حتى إسلامية سابقة كون السلفية الجهادية لا تعترف بها أصلا ولا تقيم لها وزنا.
- مفهوم التوحيد
- 2) التوحيد بوصفه دعوة وغزوة
يشكل المفهوم قوام الفكر السلفي الجهادي برمته. بل أن قيمة التيار خارج المفهوم لا تساوي شيء يذكر. وبالتالي فهو أهم أطروحة قدمتها السلفية على الإطلاق. وبعيدا عن المضامين الشرعية له فإن تاريخية حضوره الراهنة لا تقع فقط في إطار الأطروحة السلفية الجهادية بقدر ما يضرب جذوره عميقا في تراث الدعوة الوهابية بدء من كتاب «التوحيد» وانتهاء بـ «الدرر السنية»، وكذلك في التراث المعرفي الضخم لسيد قطب ومحمد قطب و« رسالة الإيمان» لـ: صالح سرية وأطروحة عمر عبد الرحمن و «الفريضة الغائبة» لعبد السلام فرج، وحتى في فكر الشيخ حسن البنا خاصة سلسلة مقالاته المتأخرة عن « معركة المصحف». وكل ما فعلته السلفية الجهادية أنها قامت بتفعيل المفهوم نظريا وعمليا حتى وصل إلى مديات واسعة في المحتوى أسفرت عن «إعلان الجهاد لإخراج الكفار من جزيرة العرب - 1996» وفي مرحلة لاحقة، مع تأسيس الجبهة الإسلامية العالمية، أضيفت عبارة « سائر البلاد الإسلامية».
يمكن القول بداية أن التوحيد هو نقيض الشرك وأصل الإيمان، ولا مجال لفهم التوحيد إلا بالكفر التام بـ «الطاغوت» والبراءة منه وإظهار معاداته والتصريح ببغضه ومجاهدته. وبهذا المعنى يكون التوحيد كـ « دعوة وغزوة» واقعا ضمن شعار « قرآن يهدي وسيف ينصر».
أما باعتباره دعوة فيعني بالنسبة للسلفية الجهادية تمكين المفهوم من اختراق كافة مناحي الحياة تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية وإعلان الخلافة واستئناف نشر الدعوة النبوية في شتى أنحاء الأرض دون عقبات محلية أو خارجية. ولتحقيق هذه الأهداف المركزية الكبرى لا بد من إعادة قراءة التاريخ والاقتصاد والاجتماع والسياسة والتجارة والثقافة وكل العلوم الشرعية والدنيوية استنادا إلى التوحيد، وإعادة بناء كافة المنظومات الأخلاقية والقيمية بعد أن تشوهت بالجهل والشركيات والثقافات الوافدة وابتعدت عن الأخلاق والتعاليم الشرعية، وكذا إسقاطه على كافة المؤسسات والجماعات وتجريدها من الأحكام الوضعية، ومراقبة الأفراد في أنماط الفعل والسلوك والاعتقاد.
أما التوحيد بوصفه غزوة، فالقضية تتعلق بحال الأمة والتجهيل المضروب عليها ومنع تقدمها واحتجاز حريتها زيادة على اغتصاب سلطتها وثرواتها وهيبتها واستضعافها وتمزيقها وإذلالها وتعرضها لاحتلالات أجنبية واعتداءات طالت الإسلام برمته بما في ذلك شخص الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أنها وضعية مزرية لا يمكن الخروج منها إلا باستعمال القوة المسلحة وليس الدعوة فقط خاصة بعد أن استنفذت كافة الأيديولوجيات والفلسفات ووسائل الإقناع أغراضها من أن تحقق ولو هدفا واحدا أو أن تنتزع حقا من حقوق الأمة.
لكن كيف يمكن لأمة بهذا المستوى من الضعف والإرهاق أن تغامر شريحة منها وتقوم بنقل المعركة مع الغرب من الأطراف إلى المركز، وتقاتل ما تصفه السلفية بـ «هبل» فضلا عن «اللات» و «العزى»؟ كيف يمكن لهذه الشريحة أن تزج بالأمة بحروب طاحنة لا قبل لها بها؟ وبأي حق تُعرِّض مثل هذه الفئة الدعوة إلى الخطر وتشويه الإسلام والمسلمين والتضييق عليهم؟ ثم أليست الجماعة الإسلامية محقة في توصيفها للقاعدة بأنها تؤمن بـ « سياسة الهدف المستحيل»؟
- 2) نماذج من لحظات التوحيد في تاريخ الأمة
إن مثل هذه التساؤلات التي أثيرت من الساسة والقوى الدعوية والإسلامية وفرت مادة غزيرة من الردود التي تكفل بها رموز التيار من قادة ومشايخ. وبعضها وردت مكثفة في مؤلف المقدسي « ملة إبراهيم». ومنطق الردود يتعلق بجوهر التوحيد كمفهوم لا يقيم وزنا لا لكثرة ولا لموازين قوى ولا لأية حسابات دنيوية. فالسلفية الجهادية تؤمن بالجهاد عبادة تتقرب بها إلى الله ولا تنتظر نصرا بموجب سياساتها وفعالياتها الميدانية، بل هي تستشهد بآيات النصر القرآنية التي تجعل من النصر هبة ربانية يدافع الله بها عن الذين آمنوا. وثمة الكثير من الشواهد العقدية منذ بدء الرسالات الإلهية فضلا عن الحوادث التاريخية التي لم يكن لأية معايير دنيوية فيها شأن يذكر. ولا ريب أن مثل هذه الشواهد والحوادث تصنف باعتبارها لحظات توحيد خالصة ليس على المسلم إلا الالتزام بالعمل بموجبها وإحالة النتائج إلى الله وليس إلى القدرة البشرية.
فإذا تجاوزنا الشواهد العقدية التي جسدتها دعوات الأنبياء والرسل بمراقبة من الوحي فما من معنى لبعض النماذج من الأحداث إلا أن تكون لحظات توحيد في الصميم. فلو أخذنا مثلا حادثة الردة التي ضربت المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن قرار الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يعبر عن لحظة توحيد خالصة لا تشوبها أية شائبة تذكر. فالردة أطبقت على الجزيرة العربية ولم يبق منها في الإسلام سوى مكة والمدينة، والفتنة طالت حتى كبار الصحابة بمن فيهم عمر بن الخطاب الذي راجع الصديق في قتاله للمرتدين لكونهم امتنعوا عن أداء فريضة الزكاة خاصة وأنهم موحدون، فرد عليه الصدّيق: « أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام .. والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه حتى يؤدونه». ثم اقترح بعض الصحابة على الصديق أن يؤخر بعث أسامة للتفرغ لقتال المرتدين، فرد قائلا: « والله لا أؤخر بعثا بعثه رسول الله ». وقال: « لو نهشت الكلاب جثث أمهات المؤمنين في الشوارع ما رضيت بأن ينقص الدين وأنا حي».
كان المسلمون في وضع لا يحسدوا عليه. فمن جهة شغلهم حزنهم على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن جهة ثانية أمْرُه بإنفاذ بعث أسامة قبل وفاته، وثالثة في الردة التي اكتسحت الأخضر واليابس. فماذا كان سيفعل رجل ضعيف البنية ورقيق القلب وبكّاء كأبي بكر في مثل هذه العواصف التي تكفي الواحدة منها في أيامنا هذه لِأنْ تطيح بأعتى الطغاة والجبابرة؟
لو استعملنا معايير القوة الراهنة للدولة كالإمكانيات المادية والمعنوية ووضعناها ضمن حسابات: (1) الانهيار الداخلي للدولة والمجتمع و (2) موازين القوى الداخلية والخارجية و (3) العلاقات الدولية و (4) منظومات التشريع و (5) منظومات حقوق الإنسان و (6) الأصدقاء والأعداء و (7) الحركات الاجتماعية وغيرها من الحسابات؛ فهل من الممكن القول بأن أبا بكر كان عاقلا في ذلك الوقت لما اتخذ قرارا بإنفاذ جيش أسامة وفي نفس الوقت إعلان الحرب على المرتدين؟!!! فلو أجل جيش أسامة لقلنا ثمة بعض العقلانية لدى أبا بكر، لكن أن يتخذ جملة من القرارات كلها خاسرة بالمعايير العقلية والوضعية فهذا هو الجنون بحد ذاته.
فالحدث والقرارات التي اتخذت كانت طاعة وتعبيرات خالصة عن لحظة توحيد واقعة في صميم الإيمان وليس في العقل، ولو كانت كذلك لما اتخذها أبو بكر. ولو فعلها، عقليا، لكان نصيبه الفشل الذريع، لأن كل المؤشرات العقلية كانت ضده. هكذا فإن لحظات التوحيد لا تتعلق البتة بأية موازين قوى ولا بالظروف ولا بالمعايير العقلية على الإطلاق، ولهذا فإن كلمة « مستحيل» ليست واردة في قاموس التوحيد إطلاقا. لكن الأعجب في قرارات « الصّديق» هي في ربطه للتوحيد ليس في فريضة الزكاة، على عظمتها، كركن من أركان الإسلام، بل حتى في مقدار عقال بعير!! فلو قسمنا مشاكل الأمة اليوم وكوارثها بمقدار عقال بعير! فكم عقالا سيكون لدينا؟ وكم سيكون وزن التوحيد؟
في الواقع فإن لحظات التوحيد في تاريخ الأمة كثيرة. وقد كان كبار المشايخ والأئمة روادها كالإمام أحمد بن حنبل خلال أحداث فتنة خلق القرآن، ومن بعده شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الذي استودع الله به علما تصدى به لكل الفرق وأصحاب البدع والضلالات وأعتى أشكال الغزوات التي ضربت عقر ديار الإسلام، وحفظ الله به الأمة والدين، وفتاوى العز بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء وبائع الملوك. وحتى جهاد يوسف بن تاشفين هو الآخر كان لحظة توحيد خالصة وهو مع جيشه في عرض البحر تتلاطمه الأمواج العاتية من كل حدب وصوب، وحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية لما تصدى لكل أنواع الشرك والبدع، كانت هي الأخرى لحظة توحيد خالصة لا تشوبها شائبة.
لكن ما ينبغي ملاحظته، وفقا للأطروحة السلفية الجهادية أيضا، أن معارك الأمة، حتى التاريخية منها، لم تقع جميعها بمقتضى التوحيد المطلق. إذ أن بعض الغزوات والحروب كانت تفرضها الاحتياجات الأمنية والعسكرية أو أنها ذات طابع دفاعي أو تحريري. وهذا كائن في التاريخ الإسلامي. وأمثلته متوافرة بكثرة. وعليه فإن اللحظات التوحيدية، في تاريخ الأمة سواء الداخلية منها أو الخارجية، هي فقط تلك التي كانت تستهدف، سلما أو حربا، نشر الإسلام أو حمايته أو تثبيت الدعوة من أية محاولات تحريفية تمس العقائد والتشريعات أو، في الإجمال، الدفاع عن بيضته.
- 3) الولاء والبراء
وهذا يعني أن التوحيد يمكن أن يكون نسبيا لكنه ليس شرعيا. وحتى لا تكون المسألة خاضعة للهوى فلا بد من معايير لقياسه. وهنا تجهد السلفية الجهادية في استحضار معيار الولاء والبراء وترقيته إلى أقصى مدى ممكن. فهو المعيار الصارمة الذي يحدد مدى صفاء التوحيد في كل مسألة ونازلة. فهو، من جهة، يلزم المسلم بأن يكون ولاؤه قاطعا لله ولرسوله وللمؤمنين مثلما يلزمه، من جهة أخرى وبنفس المقدار، بالتبرؤ التام من الطواغيت والشرك والمشركين وكل ما يعبد من دون الله أيا كانت النتائج وإلا فإن أحكام الكفر أو الظلم أو الفسق ستكون له بالمرصاد.
وحين يبدو التوحيد كمفهوم صارم في السياسة تجاه الحكم بغير ما أنزل الله فلأنه لا يقبل التجزئة ولا القسمة ولا المساومة أو المداهنات والمجاملات. إذ لا فرق بموجب التوحيد بين مسلم ومسلم بقطع النظر عن البقعة الجغرافية التي يعيش فيها هذا أو ذاك. فالوطن الإسلامي هو وطن العقيدة وليس وطن الجغرافيا. وعليه فإن دولة التوحيد هي دولة جميع المسلمين حيث يكونون. أما الزعم بأن الدولة الفلانية ذات الحدود الجغرافية المعترف بها بموجب النظام الدولي القائم هي دولة توحيد وتلتزم بتطبيق الشريعة بينما تتنصل، في المقابل، من مسؤولياتها تجاه باقي المسؤولين فهذا انتقاص من شمولية التوحيد، ومحض زعم ليس له أصل في الشريعة ولا بالولاء والبراء خاصة وأن التوحيد لا يمكن تجزئته ولا قسمته بحيث يستجيب في موضع ويساوم في موضع آخر ويوالي الأعداء في مواضع أخرى.
بطبيعة الحال فإن مثل هذا الفهم لدى السلفية الجهادية قد يبدو ضربا من الجنون في عصرنا الراهن إذا ما ركنا إلى تقنيات تحليل تعتمد على معايير دنيوية. بمعنى أن النظام الدولي القائم وعلاقاته وتشكيلاته القانونية والسياسية لا يمكن له أن يتقبل مثل هذه الأطروحات حتى في العالم الإسلامي. وهذا صحيح مائة بالمائة، لكن الأطروحة بموجب المرجعية الدينية والرؤية السلفية لا تتقبل هي الأخرى هذا النظام ولا معاييره. والحقيقة أن هجمات 11 سبتمبر، بقطع النظر عن الموقف منها، مثلت مناسبة قوية جدا لوضع مفهوم التوحيد تحت الاختبار الصارم، فبالنسبة لبن لادن فقد اتخذ قرارا بمهاجمة ما يعتبره صنم العصر دون أن يكترث بأية تداعيات عليه أو على الأمة، وفي المقابل كان موقف الملا محمد عمر القاضي بعدم تسليم بن لادن للولايات المتحدة الأمريكية تعبيرا هو الآخر عن لحظة توحيد صارخة لم تأخذ بعين الاعتبار لا موازين القوى ولا النتائج المترتبة على قراره رغم عدم علمه بخطط بن لادن.
أخيرا فإن أقوى مخرجات التوحيد بالمفهوم السلفي تتجلى في التربية والإعداد وخاصة في ميادين القتال. فالحروب التي تخوضها القاعدة وشقيقاتها في عدة جبهات امتازت بالشدة البالغة والقسوة في التعامل مع الأعداء. والأهم من ذلك السرعة الفائقة في الإنجاز. فبالكاد سقط العراق ضحية غزو أمريكي- بريطاني شارك فيه نحو 32 دولة حتى ظهرت المقاومة في الأيام التالية بسرعة غير مسبوقة. وكذلك الأمر حصل بالنسبة لطالبان التي ما أنْ انهارت وقاربت على الانقراض حتى استعادت أنفاسها في بضع سنين وصارت تتحدث عن النصر. ونفس النموذج وقع في الصومال في أعقاب انهيار حكم المحاكم الإسلامية حيث خرجت حركة الشباب المجاهدين لتنجح في إجبار القوات الأثيوبية على سحب قواتها ومحاصرة العاصمة مقديشو والقوات الأفريقية الدولية.
- السلفية الجهادية والقوى الأخرى
تقع علاقة التيار السلفي مع غيره من القوى في مستويين أيديولوجيين يمكن في ضوئهما استخراج بعض المفاهيم الأخرى المميزة وتطبيقاتها الميدانية. مستوى القوى العلمانية ممثلة بالأحزاب المحلية وحركات التحرر التي تعتنق أيديولوجيات وفلسفات وضعية كالقومية والماركسية والقطرية، ومستوى الجماعات الإسلامية ذات الطابع الوطني. وكلا المستويين، وإنْ بدت مدخلاتهما الفلسفية متباينة، إلا أن مخرجات فعالياتهما، فيما يتعلق بحال الأمة جاءت متماثلة. والسؤال هو: لماذا هذا التماثل؟
من حيث المبدأ فالسلفية الجهادية ما كانت لتظهر وتتسع لو أن القوى الإسلامية والعلمانية احتفظت، على الأقل، بمواقعها. فالواقع يؤكد أن هذه القوى، كالنظام السياسي، إنْ لم تجن الفشل من تجاربها فهي عجزت عن تحقيق أية إنجازات تذكر على صعيد التحرر والتنمية والتقدم (بالنسبة للقوى العلمانية)، ولم تحقق أي من شعاراتها وأهدافها فيما يتعلق بالحل الإسلامي أو إقامة الدولة الإسلامية أو إقامة الحاكمية أو هداية المجتمع (بالنسبة للقوى الإسلامية). وعلى العكس من ذلك بات حال الأمة يعاني من ثلاث مشكلات كبرى هي: الطغيان السياسي وسوء توزيع الثروة والتحلل الاجتماعي. فأين يكمن القصور: هل هو في الأطروحة؟ أم في النظام؟ لعله يكون في الاثنين معا، لكنه، بحسب أطروحة السلفية الجهادية، يكمن في منظومة « سايكس – بيكو »*.
- 1) مخرجات العقائد القومية واليسارية
فقد كتب الكثيرون من دعاة العلمانية ورموزها عما فعلته المعاهدة من تجزئة في الوطن العربي والأمة وتفكيك لعرى الاتصال والتواصل التاريخي بين أبناء الأمة الواحدة وشطْر الجغرافيا العربية إلى شطرين من خلال زرع الكيان الصهيوني لمنع أية محاولة للتوحد مجددا. لكنها كتابات أشبه بكتابات الإسلاميين وأطروحاتهم، فقد صبت جميعها بلا استثناء بما هو أسوأ من سلة سايكس – بيكو. فعلى خلفية التجزئة ظهرت الأحزاب القومية والاشتراكية التي قدمت أطروحتها على أساس إنجاز الوحدة العربية. بل أن الأحزاب القومية العربية وصلت إلى قمة السلطة في أكبر الدول العربية، لكنها بعد عقود قليلة سعت هي والحركة الوطنية الفلسطينية إلى البحث عن الحلول السلمية مع إسرائيل وانتهت إلى توقيع معاهدات سلام معها كما فعلت مصر والأردن، ودول أخرى أقامت علاقات سياسية وقنصلية وتجارية، وثالثة لم تنقطع علاقتها مع إسرائيل أصلا، ودول تمردت أعيد احتلالها من جديد.
ولما جاءت الأحزاب اليسارية العربية كانت أول من اعترف بإسرائيل لدى إعلان مجلس الأمن الدولي تقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة للعرب وواحدة لليهود. ففي دراسة للحزب الشيوعي المصري وصل الموقف إلى حد انتقاد «التدخل» العربي في فلسطين عام 1948 والمطالبة بسحب الجيوش العربية «الغازية» منها معتبرين الحرب مؤامرة استعمارية رجعية تهدف إلى منع قيام دولة يهودية. بل أن مواقفهم تجاه الدولة اليهودية اتسمت بالحميمية، فبحسب الدراسة ورد ما يلي: « يرجع فهم الواقع الحالي لفلسطين من تطور اليهود فيها ونموهم كأمة جديدة .. أن الحالة الجديدة في فلسطين لم تكن نتيجة لبعث الوطنية لدى يهود العالم كما تدعي خطأ الصهيونية، بل نتيجة لمولد وطني جاء على أثر تجمع عوامل تاريخية متعددة أدت إلى جعل يهود فلسطين أمة ... وإذا قلنا أمة وجب أن نعترف بحق تقرير المصير.. وإذا قلنا حق تقرير المصير، فمعنى ذلك تخويل الأمة حق الانفصال.. فإذا اعترفنا بحقيقة تكوين اليهود في فلسطين كأمة ، فلا يمكن أن ننكر عليها حق الانفصال عن الأمة العربية وتكوين دولة يهودية في جزء من البلاد».
أما اليسار الثوري الجديد، الذي تعتبر الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بزعامة نايف حواتمة نفسها ممثلة لتاريخ ولادته سنة 1968 على أنقاض حركة القوميين العرب، فلم يكن بأحسن حال وهو يراهن على الحل السياسي عبر التحالف مع قوى اليسار اليهودية في إسرائيل، بل أنه برر موقف الاتحاد السوقياتي تجاه الاعتراف بالدولة اليهودية مذكرا بسياسة الزعيم السوفياتي آنذاك جوزيف ستالين الذي قال: « زرعنا بذلك خازوقا لخوزقة الأنظمة الإقطاعية العربية». وبدا «حواتمة» منتشيا وهو ينتزع هذا التفسير بعد محاولات مضنية، كما يقول، مع المسؤولين السوفيات الذين كان جوابهم حسب ما يروي: «إنهم أيضا محتارون مستغربون». أما «حواتمة» فيفسر هذا التبرير «الستاليني» بأن: « بيروقراطية الدولة السوفياتية اعتقدت في حينها أن الدولة العبرية التي ستنشأ في فلسطين ستنتهج سياسة اشتراكية في إطار صهيوني! وهذا ممكن أن يؤدي إلى قيام دولة اشتراكية في الشرق الأوسط». إن هذا الموقف: « خطأ مبدئي كبير تجاه حق شعب فلسطين بأرضه وتقرير مصيره بنفسه »!
مثل هذه الأيديولوجيات لم يعد لها أي تأثير يذكر في وقائع الصراع العربي الإسرائيلي ولا في حال الأمة وما أصابها بعد انزواء الاتحاد السوفياتي وانتهاء دورها التاريخي. ولو توقفنا قليلا عند القومية العربية كأيديولوجيا كان لها شأن في يوم ما لكثرة ما حظيت به من كتابات ومؤتمرات ومهرجانات لوجدنا مخرجات الأطروحة بارزة في:
دول أعلنت تبنيها الأطروحة القومية والتزمت فعليا بأطروحة قطرية فجة ترقى في كثير من الأحايين إلى العنصرية ( = الاستعلائية ) إن لم يكن الانغلاق.
- تربية أجيال بحالها على القطرية والاعتزاز بالذات القطرية، آل بعضها أو أقسام كبيرة من السكان إلى التنكر للعروبة والأصول القومية.
- التشدد في ممارسة المركزية كخيار الدولة العاصمة نجم عنه إيقاع للتمايز واللامساواة داخل البلد الواحد وعدم التوزيع العادل للثروة.
- ظهور الأطروحة القومية كأطروحة نخبوية وليس كأطروحة شعبية، بمعنى أن التفاعل في الأطروحة القومية ولد ونشأ وترعرع في مستويات ثقافية وسياسية عليا لم يكن للتشكيلات الاجتماعية شأن بها، وإن تفاعلت معها في بعض الأحايين.
- تحول الأطروحة القومية إلى مادة للسخرية والحقد والانتقام لدى كافة التشكيلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية جزئيا أو كليا، في الداخل القطري والخارج الإقليمي.
- تفكيك الجغرافيا والديمغرافيا القطرية إلى جزر طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية متصارعة إلى حد التناحر.
- 3) مخرجات القوى الإسلامية
هي مخرجات أكثر أهمية وحساسية بالنسبة للسلفية الجهادية. إذ أن الفرق بين الأطروحة الدينية والأطروحة الأيديولوجية هو حكما فرق في الاعتقاد. وبالأصح هو فرق في الإيمان، فإذا كان من الممكن أن يتخلى الفرد عن الأيديولوجيا أو يستبدلها في لحظة من الزمن فمن غير الممكن حدوث الأمر نفسه إذا ما تعلق الأمر في العقيدة. لكن إذا كان هذا المبدأ السلفي ينطبق على القوى العلمانية؛ فهل كانت القوى الإسلامية أصلح حالا من القوى العلمانية؟
لا ريب أن الساحة العربية والإسلامية تعج بالفِرَق والجماعات الإسلامية بحيث تبدو خريطة هذه القوى متماثلة في أية دولة سواء سرا أو علانية. فالصوفية موجودة والتبليغ والدعوة موجودة والإخوان المسلمون موجودون وحزب التحرير موجود والسلفية موجودة. وحديثا ظهرت فِرَق جديدة كالمدخلية والجامية وحتى ما يسمى بالديانات الاستعمارية المنشأ كالبهائية والقاديانية وكذلك الأمر فيما يتعلق بالفرق الباطنية كالدرزية والعلوية وغيرها. لكنها أكثر انقساما من القوى العلمانية فيما يتعلق بالعقيدة والمنهج وفيما يتعلق بتحالفاتها ومواقفها تجاه قضايا الأمة.
فالصوفية مسكونة تاريخيا بالبدع والأساطير الخرافية، وعلى رأي المثل «أكل ونوم وحسنات بالكوم». وهي إنْ لم تكن أقرب إلى صف القوى المعادية إلا أنها لم تكن في يوم ما في صف الأمة حتى أنها صارت النموذج المفضل للإسلام المعتدل عند الغرب. وهي الآن منتشرة بشكل كثيف جدا في مناطق آسيا الوسطى خاصة في وادي فرغانة حيث تحظى بدعم سافر من الأمريكيين ومن الحكومات المحلية التي تستعملها في مواجهة حزب التحرير واستنزاف أفكار الجماعات الإسلامية المناهضة للنظام عبر إشاعة إسلام خالي من أية عقائد صحيحة إلا من الأساطير وتحريم الخروج على ولي الأمر والإشادة في الحكم القائم كما هو الحال في الجمهوريات السوفياتية السابقة خاصة في كازخستان وأوزباكستان وتركمانستان وطاجكستان.
أما التبليغ والدعوة فهي جماعة وادعة حتى أنها تشترط على مناصريها أو أعضائها المبايعة على الالتزام بعدم ممارسة أي عمل سياسي والتعامل بأدب جم مع المستهدفين بالدعوة والإصلاح. وعقيدتها محصورة بما تسميه بـ «الصفات الست». وأكثر ما يميزها العزلة عن العالم، فتكتفي بـ «هداية» المنحرفين والمجرمين ودعوة العامة لحضور الدروس في المساجد لكنها لا تستطيع الاحتفاظ بتائب. ولأنها جماعة متأثرة بالجانب الخلقي للصوفية فهي أقرب ما تكون إلى الروحانيات في دعوتها لدرجة أنها تتمسك بكتاب « رياض الصالحين» وتحث أتباعها على التعلم منه في جلسات تنعقد، عالبا، كل خميس إلى قيام الساعة. وأشد ما تتميز به هو تفسيرها لمفهوم «الخروج»* بكونه خروج للدعوة إلى البلدان والقرى حتى أنها جعلت من هذا المصطلح «الركن الأساسي الذي لا تصح الدعوة دون القيام به». وعلى هذا فليس لها أي رصيد سياسي ولا جهادي، مع أن عددا لا بأس به من أتباعها التحقوا بساحات الجهاد في أفغانستان والشيشان حتى أن الشيخ عبد الله عزام أثنى على لطفهم وأخلاقهم وإخلاصهم قائلا: « رأيت أحسن المجاهدين أخلاقاً الذين كانوا قبل جهادهم في جماعة التبليغ»، وهو ما يركزون عليه في تربية الفرد.
أما مشكلة السلفية الجهادية مع حزب التحرير (1952) فتكمن في عقيدته فضلا عن منهجه الذي تغير من حال إلى حال منذ أواخر ستينات القرن الماضي. ومبدئيا يلتقي الحزب مع السلفية عقديا في مسائل شتى كالكفر بالطاغوت والمذاهب والفلسفات الوضعية ودخول المجالس النيابية وغيرها رغم أنه أقرب إلى الحزب السياسي من الجماعة الإسلامية. لكنه لا يلتقي معها في المنهج. فهو كان صاحب عقيدة انقلابية تؤمن بإقامة الدولة الإسلامية بسرعة عبر انقلاب سياسي يمكنه بالنهاية من استعادة الخلافة وإعلان الجهاد، لكنه تخلى عنها وصار له نهج سلمي في التغيير. لهذا فإن أكثر ما يثير السلفية في الحزب، فضلا عما ينسب إليه من فتاوى عجيبة ذات طابع اجتماعي، وقفه الجهاد على ظهور الإمام. فبالنسبة إليه «لا جهاد بلا إمام» حتى في فلسطين باعتبار أهلها أسرى كما أفتى مؤسسه تقي الدين النبهاني. وهذا ما لا يوافقه عليه أحد لا من الجماعات الوطنية ولا الإسلامية ولا حتى من العلماء. وبالتالي فإن أهم معتقداته في هذا السياق تبدو أقرب إلى الأيديولوجيا من قربها لأي حكم شرعي أو فقه.
مع ذلك فقد ظهر الحزب بقوة في مناطق الضفة الغربية في فلسطين، واستطاع أن يحشد عشرة آلاف عضو في مظاهرة غير مسبوقة بمناسبة الذكرى الثمانين لانهيار الخلافة، وفعل الأمر ذاته بتنظيمه مؤتمرا دوليا حاشدا في إندونيسيا إحياء لنفس المناسبة. وبدا نشطا في فلسطين وهو ينتقد حركة حماس فيما يتعلق بتوجهها السلمي ودخولها العملية السياسية. وإذا ما تغير منهج الحزب خاصة في فلسطين فقد يصبح الرديف الأقوى للسلفية والخصم اللدود لحركة حماس والحافز الأكبر في جر فروع الحزب إلى المواجهة في مناطق عدة من العالم خاصة وأن فرعه الفلسطيني يحظى بمشروعية التأسيس التاريخي فضلا عن المكانة الشرعية لفلسطين في العقيدة والتراث الإسلاميين.
من جهتها تظل جماعة الإخوان المسلمين الأكثر إثارة لغضب التيار السلفي الجهادي الذي يميز بين عقيدتين ونهجين ومرحلتين مرت بهما الجماعة انتقلت فيها من الدعوة إلى الحل الإسلامي وإقامة الحاكمية عبر رموزها التاريخيين بدء من المؤسس الشيخ حسن البنا وانتهاء بالمفكر الإسلامي سيد قطب إلى التخلي عنهما تماما وصولا إلى تحالف عدد من فروعها مع الأمريكيين والقتال معهم في عدة بلدان إسلامية مثل أفغانستان والصومال والعراق وسعيها الحثيث للتقرب من السلطة. وفي هذا السياق يصف أبو مصعب السوري حال الجماعة بالقول:
- « أن مناهج الإخوان المسلمين وفروعهم من الحركات الإسلامية قد شهدت انقلابا على كثير من أساسيات المنهج الذي بني على أفكار مؤسسة الأوائل كحسن البنا وعبد القادر عودة وخاصة سيد قطب رحمهم الله تعالى وازدادت زاوية الانحراف المنهجي انفراجا بسبب التسكع على أبواب السلاطين وتسلم المناصب في مؤسساتهم العلمانية القائمة على أصول الردة والتشريع من دون الله والولاء للكفرة وأعداء هذه الأمة».
ولم تفلت الجماعة بكافة فروعها من الانتقادات الشديدة التي وردت على ألسنة رموز التيار وقادته ابتداء من بن لادن والظواهري وحتى حركة الشباب المجاهدين في الصومال، وقد وصفهم أبو حمزة المهاجر « وزير دفاع ما يسمى بدولة العراق الإسلامية» بذوي «التاريخ النكد» الذين تبنوا «عقيدة الإرجاء»* وعمموها « في أفضح وأظهر صورها»، فكانت نتيجة عقائدهم الجديدة أن: « أولاً: شاركوا وأعانوا على احتلال بلاد المسلمين. ثانياً: أسسوا وشاركوا في حكوماتٍ باطلة خارجةٍ عن الشريعة وأضفوا الشرعية عليها. ثالثاً: ثبطوا الناس عن الجهاد العيني المفروض عليهم. رابعاً: سبـّوا المجاهدين وافتروا عليهم وطعنوا في منهجهم، واليوم يحاولون تفريق جمعهم وتشتيت شملهم. خامساً: روّجوا لعقيدتي الإرجاء والتكفير بين عوام المسلمين». وتأسيسا على ذلك ترفض السلفية الجهادية الاعتراف للجماعة بحق القيادة أو الوصاية على الأمة وهو ما أكده عطية الله الليبي أحد قادة القاعدة بصريح العبارة حين رد على سؤال بهذا الخصوص حيث قال: « لن تقبل الحركة الجهادية اليوم بعد هذا الوعي والنضج وهذه التجارب وهذه المعاناة، أن تسلّم القيادة للإخوان المسلمين أو مَن قاربهم وشابههم، هذا واضح، وأرجو أن تكون عبارتي واضحة لا تحتاج إلى كبير شرح وتحرير»!
وحتى المواقف الرسمية للجماعة، بما فيها مواقف قيادات حركة حماس الفلسطينية، لا تقل بأسا عن انتقادات السلفية لها، بل هي أقرب إلى العدائية الصريحة بما يجعلها أبعد ما تكون عن أية تقاطعات بين الجانبين. إذ أن تصريحات مرشد الجماعة محمد مهدي وصلت إلى حد إنكار وجود القاعدة: « أنا شخصيا لا اعتقد أن هناك تنظيم القاعدة» واعتبار الفكر السلفي الجهادي: « فكر منحرف يسري بين شباب الأمة بتحريض من العدو الصهيوني والأمريكي وتصرفاته ضد العرب والمسلمين»، والأكيد أن مثل هذه التصريحات منسجمة إلى حد بعيد مع توجهات الجماعة التي اشتهرت، بعد إعدام سيد قطب أواخر ستينات القرن العشرين، بإيثارها لـ « مبدأ السلامة العامة» كما وصفها به فتحي الشقاقي الأمين العام المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية حين أشار إلى: « سكونية مناهج التكوين لدى حركة الإخوان المسلمين والتخبط في طرائق العمل وإهمال جانب التخطيط وطغيان مبدأ السلامة والمبالغة فيها».
واختصارا؛ فإن السلفية ترى في الجماعة، وهي تبحث عن الأمن والسلامة العامة وتنمية الثروة والاستثمار في السياسة والاقتصاد والمجتمع، إما مشاركة في السلطة أو حليفة لها أو ساعية إليها بقطع النظر عن هويتها سواء كانت محلية أو قوة احتلال أجنبية.
- 4) سايكس – بيكو
لا شك أن التيار السلفي، بهذه المواقف، يبدو في جانب وبقية القوى في جانب آخر. وإذا اعتبرنا أن هذه القوى ممثلة بقدر لا بأس به لشرائح واسعة من الأمة فسيكون القول المأثور عن السلفية بأنها تجيد صناعة الأعداء أكثر مما تجيد صناعة الأصدقاء أو الاحتفاظ بالمتوفر منهم صحيحة إلى حد ما. لكن الحقيقة أن عقيدة السلفية لا تتيح لها مساحة كافية للمناورة خاصة في القضايا العقدية. والسؤال: ماذا تعني « سايكس – بيكو» بالنسبة لها؟
لعل « سايكس – بيكو» مفهوم لا يقل في طرافته وأهميته عما طرحته السلفية بخصوص مفهوم «التوحيد» أو مفهوم «الطاغوت» الذي فعَّله المقدسي. فهو أكثر التصاقا بعقلية الناس وشعورها به. وبالتالي فهو أكثر وضوحا وتداولا وفهما عند السلفية وأنصارها الذين يرون فيه طاغوت عظيم حلّ بالأمة. فهم يتحدثون عنه كثقافة لها بناها وميكانيكيات اشتغالها وليس، فقط، كمعاهدة استعمارية قسمت منطقة جغرافية إلى أجزاء استقلت كل منها بدولة حديثة لها مؤسساتها ورجالها.
ولعل توصيف أحد الباحثين لحال الأمة بعد تنفيذ اتفاقية سايكس - بيكو، جغرافيا وسياسيا، لا يخلو من طرافة وهو يقول:
« كان لدى العرب أرض واحدة وأمة واحدة وعقيدة واحدة وثقافة واحدة وحاكم واحد ونظام واحد واقتصاد واحد وبضعة بحار وقانون واحد، والآن لديهم 22 دولة و22 بقعة جغرافية و22 شعب و22 أمة و22 قومية يحكمها 22 نظام سياسي و22 عقيدة و22 حضارة و22 تاريخ و22 ثقافة و22 نظام تعليمي و22 اقتصاد و22 سياسة و22 دستور و22 بحر و22 فضاء، وكان لديهم حرمان شريفان فصار عندهم نجف أشرف! وقائمة لا تنتهي من التمزق. أما لو أسقطنا سايكس – بيكو على دولة الخلافة كرمز اجتماع العالم الإسلامي فلنتصور حجم التمزق الذي وقع على أمة الإسلام والمسلمين، إذ سيكون لدينا سايكس _ بيكو سياسي وثقافي وعنصري وعقدي وعلمي وتاريخي وحضاري واقتصادي وتجاري وطائفي وقبلي وعائلي وجاهلي ... وهكذا في قائمة لا تنتهي وكأنه انشطار ثقافي لا نهائي. والأهم من هذا أن مثل هذه الثقافة تسري كالإشعاع النووي لا تتوقف إلا بعد أن تحدث دمارا يغير من كل طبيعة أصيلة، لاسيما وأن أحدا من الأجيال الراهنة، حكاما ومحكومين، لم يعش في حياته لحظة عروبة واحدة ولا لحظة توحيد صافية منذ مائتي عام على الأقل».
إذن سايكس - بيكو هي بالمحصلة دولة مستقلة لها علم ودستور وأرض وشعب وثقافة وحضارة ومؤسسات مستقلة؛ فما الذي يريده القوميون والإسلاميون منها؟
أما المطلوب منها قوميا أو وطنيا هو أن تحقق ثلاثة أهداف كبرى هي التحرر والوحدة والتقدم. ولا يهم أيهما يسبق الآخر باعتبار أن هناك قوى علمانية تقول بأن الوحدة تسبق التحرير وأخرى تعاكسها في الاتجاه. هذه القوى تعلم علم اليقين أن الوطن العربي لم يكن له وجود في أية خريطة سياسية في يوم ما، ولم يحتل أدنى حيز جغرافي له في التاريخ، ولم يكن جزء ثقافيا في تاريخ الأمة، بل أن بعض القوى القومية كالحزب السوري القومي الاجتماعي اكتفت منذ البدايات الأولى لعصر الانتداب الأجنبي بالتحدث فقط عن وحدة إقليمية لبلاد الشام تاركة الوحدة العربية للمستقبل. فعن أي وطن يجري الحديث؟ وعن أي وحدة عربية يتحدث القوميون العرب؟ وأي تضامن عربي جرى الدفاع عنه لعقود خلت قبل أن ينهار وتنهار معه الأطروحة؟
كنا قد لاحظنا أن القوى الإسلامية إما أنها تبحث عن السلامة والأمن وإما أنها حليفة للقوى الغربية أو أنها غير عابئة بالسياسة أصلا أو أنها تنصلت من مسؤولياتها فأحالت الأمر إلى الإمام المنتظر . لكن الأهم من ذلك أنها قبلت جميعها في الوضع القائم وعملت بموجب تقنيات وآليات اشتغال سايكس – بيكو نفسها. والسؤال: كيف يمكن لمعاهدة صممت مدخلاتها لتعمل بموجب التقسيم والتفكيك والتمزيق أن تؤدي مخرجاتها إلى التحرر والوحدة والتقدم؟ وكيف يمكن للقوى الإسلامية أن تقنع المسلمين باعتماد المنهج السلمي في تغيير معاهدة جاءت على أنقاض الإسلام ونظام الخلافة؟
أيا كانت مواقف القوى وأدواتها في العمل؛ وأيا كانت نواياها، وأيا كانت تضحياتها أو مبرراتها، وأيا كانت أيديولوجياتها وأنماط التفكير لديها فهي ليست سوى عناصر بنيوية تقع في صميم سايكس - بيكو ما لم تلتزم بعقيدة الولاء البراء وتتبرأ من عقائدها وأفعالها، فـ: « في عرف السلفية الجهادية فإن كل مكونات سايكس – بيكو ليست سوى منتجات لأيديولوجيا غير مشروعة. فالقضاء منظومة قانونية ودستورية وضعية، والحكم في الدولة يستند إلى مؤسسات تشرِّع من دون الله، والتعليم غيَّب العلم الشرعي وأنتج علماء وفقهاء يشرِّعون للوضع القائم، والاقتصاد تحكمه قوانين الربا، والتجارة بيد نخبة تمارس الاحتكار والهيمنة والربح غير المشروع، والثقافة غربية الطابع، والعلاقات الدولية مرهونة بإرادات القوى العظمى ومصالحها، والبلاد بعضها مغتصب والآخر محتل أو مهدد، والدين ضائع ومضيَّع، ولا شك أن القائمة لا تنتهي».
فبحسب نظرة: « الماركسية إلى المجتمع باعتباره مكون من بنية تحتية وبنية فوقية؛ (فـ) إذا وضعنا سايكس – بيكو في مستوى البنية التحتية فإن كل ما أنتجته وتمظهر في البنية الفوقية هو بالتأكيد من ذات الصناعة والمحتوى. وهو بلغة ماركسية مجرد أيديولوجيا لا أكثر ولا أقل. لذا فإن السلفية الجهادية ترفض كل البناء باعتباره بناء باطلا ومخالفا للشريعة. وعليه ينبغي هدمه من الأساس لإعادة البناء من جديد على أسس شرعية، فهل يكفي هذا التوصيف لنفهم حقيقة العبارة التي ترددها السلفية وأنصارها على الدوام والتي تحولت إلى أساس كل صراع "الدم الدم والهدم الهدم"»؟
الفصل الرابع مستقبل القاعدة
إن أي تنبؤ بمستقبل القاعدة يعني بالضرورة التنبؤ بمستقبل التيار السلفي الجهادي برمته باعتبار القاعدة جزء منه. هذا الربط لا يعني بأي حال أن فشل القاعدة أو نجاحها، كتنظيم مركزي للتيار، في تحقيق بعض أو كل أهدافها سيؤدي إلى نتائج مماثلة في ساحات أخرى ساخنة. فالسلفية، بالمقارنة مع ما سبقها من تيارات على مستوى الأمة منذ انهيار نظام الخلافة وإلى يومنا هذا، تثبت أنها تيار ديني وليست حزبا أو تنظيما سياسيا تقليديا. وتبعا لذلك فهي تتعامل مع الجهاد باعتباره عبادة لا ينتظر من ورائها مغانم دنيوية سواء على مستوى العضوية أو التنظيم أو السياسة. وإذا توقفنا عند أبرز نقاط القوة والضعف لدى التيار فقد يمكننا التنبؤ بمستقبل التيار والقاعدة بوضوح مقبول إلى حد ما.
أولا: عناصر القوة
- ماهية عدو التيار
يتطلب الحديث عن مستقبل التيار السلفي التحديد الدقيق لماهية العدو الذي يواجهه. ولأن التيار ذو مرجعية دينية تسعى لبلوغ مصالح الأمة الإسلامية حيث كانت العقيدة فهذا يعني، حين تحديد الحكم الشرعي تجاه الدولة والحاكم والفلسفات الوضعية والمذاهب والفِرَق والجماعات المنحرفة وما يماثلها، اعتبارها، بموجب مفهوم التوحيد وشروطه، « طواغيت» يجب التبرؤ منها وإظهار معاداتها وبغضها وحتى مقاتلتها إذا أمكن. وبحسب ما تفرضه السياسة الشرعية من مصلحة، كما يقول المقدسي وغيره من رموز التيار، فليس اليهود والنصارى وحدهم العدو، إذ أن إيران تحتل مكانة العدو بصيغتها الرافضية الصفوية حيث كانت ابتداء من أفغانستان ومرورا في العراق وانتهاء في أي بلد آخر تظهر فيه ملامح الصفوية.
كل هؤلاء يشكلون، بالنسبة للتيار، سلسلة عقدية من الأعداء من شأنها أن تمكنه من الاستمرارية طالما بقي هؤلاء يجاهرون بعداوتهم للسنة من المسلمين بقطع النظر عن وجود توترات، أمنية أو سياسية ظاهرة، في العلاقة فيما بينهم. كما أن هذا الموقف سيضع التيار في مساحة مشتركة، حيث تتقاطع المصالح، مع الجماعات السنية والتيارات السلفية التقليدية، على اختلاف توجهاتها، والتي تعادي التيار أو تتجاهله لكنها بنفس الوقت تعبر عن مواقف عدائية لإيران جذريا. وفي المقابل يبقى التيار الجهادي حذرا من التقاطعات تحسبا من أن يبدو مؤيدا لما يعتبره رايات عميّة. وفي المحصلة فإن تقاطع المصالح بين الجانبين لا يبدو أنه يصلح لبناء أية أرضية مشتركة توطئ لتقارب بسبب تباين العقائد والمناهج بينهما. فما من علاقة ودية بين السلفية الجهادية التي تنتهج الجهاد وسيلة للتغيير وبين جماعات أخرى تسعى إلى التغيير لكنها تعمل بموجب ثقافة سايكس – بيكو. وما من توصيف إلا لعلاقة عدائية مع السلفية الجهادية فيما يتعلق بالفرق الإسلامية التي هيمنت على خطابها الشرعي عدم الخروج على ولي الأمر.
- 2) قيادة الأمة ورايتها
رغم أن الجبهة الإسلامية العالمية تأسست لمقاتلة اليهود والصليبيين إلا أن ضرباتها وجهت إلى المصالح الأمريكية وليس اليهودية ولا إسرائيل. ولو وجهتها لإسرائيل، مثلا، لربما تسببت بمولد الهولوكست الثاني، وقدمت خدمة جليلة لها في العالم كنموذج إسلامي على اضطهاد اليهود. لكنها ضربت الولايات المتحدة بالذات كون هذه الأخيرة تتربع على قيادة العالم وتقود النصارى في حرب طاحنة ضد الإسلام والمسلمين وتمثل رأس الأفعى. لذا فقد استهدفت الضربات، كما يقول بن لادن «هبل العصر»، لتحقق هدفين رئيسيين مثّلا الانطلاقة العالمية الصارخة للتيار السلفي الجهادي الذي بات على كل لسان ودخل كل بيت:
- الإعلان عن ولادة قيادة للأمة كما أن للغرب قيادته. فالقاعدة ترى أن الأمة فقدت قيادتها واغتصب سلطانها وثرواتها،§ ولأنه من المستحيل أن تفرز ثقافة سايكس – بيكو قيادة للأمة فلا بد من إظهار قيادة جديدة لها تأخذ على عاتقها تمثيل مصالح الأمة وبلوغها حيث تكون.
- بيان وجود راية واضحة لا لبس فيها ولا هي وليدة لأية فلسفة أو مذهب غير الإسلام. راية توحيد قائمة على عقيدة الولاء والبراء في علاقتها مع القوى الأخرى. إذ أن ثمانية عقود على الأقل مما تعتبره القاعدة أو التيار عموما رايات عميّة لم تحقق إي إنجاز يذكر فضلا عن أنها سقطت في أول اختباراتها وانتهت بقضايا الأمة إلى المساومات وضياع الحقوق وهدر الدماء بلا جدوى في الدنيا والآخرة. لذا،§ وكما للغرب رايته المميزة في العداء ضد الأمة وعقائدها،§ فلا بد أن يكون للأمة،§ هي الأخرى،§ رايتها العقدية المميزة.
- 3) انتشار التيار
لم تكن القاعدة ولا التيار السلفي الجهادي بذلك الانتشار العالمي قبل هجمات 11 سبتمبر على رموز القوة الأمريكية رغم سلسلة هجماتها الفريدة على بعض المصالح الأمريكية في السعودية واليمن وكينيا وتنزانيا. فقد بلغ التيار وقياداته وأهدافه كل بقاع الأرض، وغدا حديث الدول وأجهزة الأمن والجامعات ومراكز الأبحاث والعلماء والأحزاب والتنظيمات والجماعات والفرق ورجال الدين والمشايخ والفقهاء وطلبة العلم والأصدقاء والأعداء.
لكن على مستوى شعبية التيار في نطاق الأمة فإن ما فعله تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، بالقوات الغازية خاصة الأمريكية منها، منذ لحظة سقوط بغداد في 10/4/2003 مثّل نقلة نوعية للتيار السلفي الجهادي، ونشوة لم تكن القاعدة لتحلم بها. فقد قادت بزعامة أبو مصعب الزرقاوي حربا شعواء ضد قوات الاحتلال لم يسبق لها مثيل في أي من الساحات الساخنة للقاعدة في العالم لاسيما في سرعة انطلاقتها وإرهاقها للقوات الأمريكية. بل أن خطاب الزرقاوي الوحيد الذي كشف به لثامه مثّل هو الآخر لحظة انكشاف كبرى لإجمالي التيار خاصة وأن الكثير من المراقبين كانوا يشكون حتى تلك اللحظة بوجوده كشخصية حقيقية كما عبر عن ذلك نوري المرادي حين استضافته قناة الجزيرة في برنامج الاتجاه المعاكس قبل شهر من اغتياله في 8/6/2006.
فما حصل في العراق خلال مرحلة الزرقاوي ذكّر «الأفغان العرب» خاصة بما جرى في أفغانستان خلال الاحتلال السوفياتي، وعزز من رصيد الثقة لديهم بإمكانية هزيمة أقوى دول العالم والإطاحة بها. ومع الوقت ازدادت هذه القناعة في ضوء فعاليات حركة طالبان في أفغانستان والمأزق الحرج الذي تعيشه القوات الأمريكية والأطلسية في مواجهاتها المسلحة ضد طالبان. ونفس الأمر ينطبق على الدور الكبير الذي لعبته خاصة حركة الشباب المجاهدين ضد قوات الغزو الأثيوبية في غضون سنتين فقط من تدخلها فيما عرف بحرب الوكالة عن الولايات المتحدة*.
- 5) جاذبية الخطاب السلفي الجهادي
تشكو الكثير من الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة من جاذبية الخطاب السلفي الجهادي لدى العامة من الناس. ويرى البعض أن هذه الجاذبية تقع في مستويين:
مستوى الجماعات الإسلامية
كل هذه وغيرها أمور تشكل عناصر جذب للتيار بالمقارنة مع الجماعات الإسلامية الأخرى. لكن الأهم يكمن في الخطاب السلفي الجهادي الذي وضع كافة الجماعات الإسلامية والعلمانية تحت مجهر الفعل التاريخي والحكم الشرعي في ضوء مصطلحات توحيد الحاكمية والولاء والبراء والطاغوت والجهاد والنصرة وغيرها كمفاهيم تشكل مادة شرعية جديدة وجذابة، وخطاب جديد، في التعامل مع قضايا الأمة، يستحق الاطلاع والمتابعة. أما الجماعات الإسلامية، على وجه الخصوص، فقد اشتمل خطاب بعضها على مفردات أثارتها السلفية وجعلتها مادة للطعن كالإرجاء والإرجاف والتخذيل والرِّدَّة وأمثالها، وبعضها الآخر لم يعتد مساءلته عن عقائده ومناهجه، وفريق ثالث فوجئ بأن هناك من يسعي إلى ضبط حقيقة مواقفه. والثابت أن مثل هذه المواجهات لم تكن موجودة قبل ظهور السلفية الجهادية، بل أن أحدا لم يكن ليتنبه لمثل هذه الفروقات في العقائد والمناهج أو يلقي لها بالا. لهذا تبدو السلفية منبوذة من أغلب هذه القوى كونها تطرح مفاصلة تختلف، مثلا، عن مفاصلات الإخوان المسلمين سابقا فيما يتعلق بالانتقال من الدعوة إلى الجهاد. فالمفاصلة التي تقيمها السلفية هي مفاصلة عقدية وشرعية وليست تنظيمية. الأمر الذي وضع هذه الجماعة وغيرها أمام تحد غير مسبوق أقله أنها تتعرض لاستنزاف في بنيانها الفكري والتنظيمي فضلا عما تحدثه من بلبلة في صفوفها، وخشية وصلت حد المواجهات الدموية في أغلب المناطق الساخنة بما فيها قطاع غزة في فلسطين.
أما بالنسبة للأنصار والأفراد غير المنتمين فهم يشعرون أنهم مشاركون، بصيغة ما، في صياغة الخطاب الشرعي والسياسي للتيار الجهادي العالمي الذي يتعاملون معه كونه يمثل بالنسبة لهم تنظيم من لا تنظيم له. فلا وجود لقيود وغيرها إلا ما توجبه المناصرة من التزام بتوجهات التيار وعدم الدخول في معاداته أو تشويهه. فأي نصير للسلفية يمكنه أن يشارك في الحوار بحيث يثني ويمتثل مثلما يناصح وينتقد ويجاهر بخلافه مع رموزها الكبار دون أن ينتظر تهميشا أو نبذا أو تجميدا لعضوية أو تهديدا بقطع الراتب أو فقدان لضمانات الرعاية والصحة والتعليم والتشغيل وغيرها مما يُكَبَّل به الأعضاء عادة. كما أنه، تنظيميا، لا وجود لامتيازات فردية لا على مستوى الأفراد ولا القيادات. بل أن بعض المعلومات التي تسربت ونسبت إلى القاعدة في العراق كشفت عن سِيَر ذاتية اشتملت على بيانات بحجم الأموال الموجودة بحوزة المتطوعين لدى التحاقهم بالقاعدة.
مستوى الأداء المسلح في جبهات القتال
لعل ابرز ما في تيار السلفية الجهادية قدرته على خوض مواجهات مسلحة طاحنة مع أعدائه. صحيح أن الإعلام ساهم بفعالية في التعريف بقدرات التيار عسكريا وشدة بأسه في ميادين المعارك حتى أن صورته تجلت في انفجارات ضخمة للعربات العسكرية والدبابات وسقوط الطائرات وأشلاء الجنود وهي تتطاير في السماء أكثر مما تجلى في خطابه العقدي. لكن ثمة معطى بالغ الأهمية يتعلق بالتصميم على الدخول في مواجهة حاسمة مع الغرب مهما كانت النتائج، والقطع تماما مع أية فرصة للعودة أو التراجع أو التفاهم سواء مع أعدائه العقديين أو حتى مع خصومه. هذا التصميم وجد صداه في تصريحات لأبي حمزة المهاجر وزير ما يسمى بدولة العراق الإسلامية وهو ينتقد الحزب الإسلامي في العراق والإخوان المسلمين قائلا: « لا نريد منكم شيء، فقط دعونا والعدو فإن انتصرنا عليه فهو عزّ الدنيا والآخرة لنا ولكم، وإن قضي علينا فهي شهادةٌ لنا وتكونوا قد استرحتم منا ولن تلقوا الله بدمائنا». حتى الأمريكيين يقرون بأن القاعدة، حيث كانت، هي خصم* عنيد لا يستجيب ولا يمكن التفاهم معه.
أما المعطى الآخر الذي عبر عنه أبو مصعب السوري فيقضي بتهيئة مقاتل إسلامي عالمي يواجه المقاتل الغربي الذي يصول ويجول في شتى بقاع الأرض. لكن هذا المعنى لا يتعلق، فقط، بالقوة ولا بالشجاعة التي تفوق ما لدى أي مقاتل في العالم بل باستعادة خصائص المقاتل الإسلامي في زمن النبوة والفتوحات والغزوات الإسلامية وهو يجوب العالم محصنا بعقيدة ليست على شاكلة مقاتل سايكس – بيكو، بل مقاتل يحكمه ويوجه خياراته التوحيد وليس موازين القوى. ولا ريب أن هذا الأداء المسلح لتيارات السلفية الجهادية، بعد تجارب أفغانستان والعراق والصومال والشيشان، من المفترض أنه ساهم في تحقيق نوع من الردع تجاه سياسة الاحتلال التي شرعت الولايات المتحدة بتدشينها في البلاد الإسلامية. فمع انتشار فكرة التيار شعبيا لم يعد سهلا المغامرة باحتلال بلدان أخرى خشية الوقوع في فخ القاعدة التي تقوم استراتيجياتها العسكرية على التواجد في مناطق الاحتلال والتوتر والضعف المركزي للسلطة.
كل هذه العناصر وغيرها تشكل عناصر قوة ذاتية لإجمالي التيار السلفي الجهادية تنبئ باستمرارية الظاهرة مستقبلا رغم صعوبة قياسها ميدانيا. والأكيد أن هناك عناصر أخرى تتعلق بأداء الولايات المتحدة خاصة والغرب عامة تجاه التيار والإسلام، بالإضافة إلى أداء الحكومات المحلية التي وقعت بين المطرقة والسندان. فلا هي قادرة على اجتثاثه، خاصة وأن أطروحته دينية وليست أيديولوجية يمكن حتى للزمن أن يستنزفها إنْ لم تستنزفها الحوارات والسياسات، ولا هي قادرة على التوافق معه أو تجنبه وهو يستهدفها بأحكام التكفير والردة ويدعو للتبرؤ منها ومقاتلتها. لكن ما هي عناصر الضعف التي تشكل عقبات فعلية أمام التيار؟
ثانيا: عناصر الضعف
- 1) تعدد الجبهات الساخنة
لا ريب أن المطلع على الفعاليات المسلحة للقاعدة قد لاحظ أن فتح جبهات المواجهة تحتل الحيز الأكبر في استراتيجياتها تجاه الأعداء والخصوم سواء ضد الغرب أو ضد الحكومات المحلية. فالحرب القائمة في الصومال تمتد جذورها إلى أوائل تسعينات القرن العشرين، في أعقاب سقوط نظام الرئيس محمد سياد بري سنة 1991 ومذابح قبيلتي التوتسي والهوتو في رواندا سنة 1994، حين أرسل أبو حفص المصري القائد العسكري للقاعدة خلفه أبو عبيدة البنشيري في مهمات استطلاعية شملت القرن الأفريقي وغرب أفريقيا. وهناك، في الصومال وكينيا، أرست القاعدة نقطتي انطلاق لها، كان لهما أثرهما في المواجهات التي أجبرت القوات الأمريكية على الانسحاب من الصومال. أما حركة الشباب المجاهدين الذراع الأطول في الصومال فقد ظلت، كتنظيم سلفي جهادي، خفية لأكثر من عقد من الزمان. ولم تظهر مستقلة إلى السطح إلا في أعقاب التدخل الأثيوبي (24/12/2006) وسقوط نظام المحاكم بقيادة الرئيس الحالي شيخ شريف أحمد. ولم تكن، في الحقيقة، إلا ثمرة لجهود قديمة تمتد حتى أفغانستان حيث كان يتدرب بعض قياداتها هناك.
نفس الأمر حصل في العراق حيث بايع أبو مصعب الزرقاوي بن لادن بعد سلسلة مراسلات تضمنت اعتراضات منه على سياسة القاعدة التي كانت تروم تحييد الطرف الشيعي في الصراع. إلا أن الزرقاوي، الباحث عن غطاء شرعي وسياسي لقتاله، رفض رأي القاعدة بحجة أنه أعلم بما يجري في الميدان من علم قيادة القاعدة في أفغانستان. وفي النهاية انتهت المراسلات باعتماد أولوية التحييد مع منح الزرقاوي صلاحية التصرف بما يراه مناسبا وفق الواقع الميداني. وهكذا تغيرت « جماعة التوحيد والجهاد» إلى « تنظيم القاعدة في بلاد الرافضين».
ولئن كانت جبهة أفغانستان مفتوحة على مصراعيها منذ الغزو السوفياتي للبلاد إلا أن الجبهة الباكستانية ومنطقة وزيرستان على وجه الخصوص لم تكن بتلك السعة والتوتر لولا أن اتخذت منها القاعدة ملاذا آمنا فضلا عن مساهماتها الفعالة في تأسيس طالبان الباكستانية ومن ثم التمدد باتجاه وادي سوات وشبه السيطرة التامة على مدينة بيشاور الحدودية. ولو تتبعنا الاستراتيجية العسكرية للقاعدة في فتح الجبهات، خاصة في السعودية واليمن، لما كانت الجزائر ومصر استثناء ولا بعض دول آسيا الوسطى التي تعشش فيها خلايا السلفية الجهادية، خاصة في أوزباكستان، حتى منذ أيام إمارة طالبان، فضلا عن مناطق بلوشستان داخل إيران وصولا إلى جماعة أنصار الإسلام الكردية في العراق بزعامة أبو عبد الله الشافعي والتي تعتبر أول جماعة سلفية دعت إلى تطبيق الشريعة في العراق منذ شهر كانون الأول / ديسمبر سنة 2001، أي قبل أن يدخل الزرقاوي إلى البلاد وتتأسس القاعدة فيه.
ولو تساءلنا: هل حققت القاعدة أيا من أهدافها من وراء فتح هذه الجبهات والتهديد بفتح أخرى كما صرح بذلك بن لادن والظواهري في أكثر من مرة؟
بطبيعة الحال لا يمكن أن يتعلق الجواب بإعادة الخلافة. فلم تقل القاعدة ولا أي من تيارات السلفية الجهادية أنها نجحت في ذلك أو أنها قريبة من تحقيق هذا الهدف. ولا يتعلق الأمر أيضا بإقامة إمارات إسلامية تحظى بتمكين فعلي على الأرض. ففيما يتعلق بدولة العراق الإسلامية فقد فشلت التجربة، كإطار سياسي وشرعي، بعد تحالفات مناهضة لها حتى من قِبَل الكثير من جماعات الجهاد ذات الطابع الوطني فضلا عن بعض القوى السنية المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية والمشاركة في الحكومة العراقية. أما إذا كان الأمر يتعلق بتطبيق الشريعة فالحقيقة يصعب النفي أو الإثبات في ضوء استمرار الحروب المفتوحة رغم أن بعض الجيوب تؤشر على نجاحات جزئية أو ظرفية بعضها فشل كما هو الحال في وادي سوات في باكستان والعراق وبعضها نجح خاصة في جنوب الصومال حيث تُحكِم حركة الشباب المجاهدين قبضتها على المنطقة وتطبق فيها أحكام الشريعة الإسلامية.
لكن أهم ما يلحظ في مسألة تعدد الجبهات، رغم أنها تؤشر على نقطة قوة، هو التذمر الدائم من
الإرهاق المالي والبشري الذي تعاني منه الجبهات المفتوحة. فلطالما دعت القاعدة خاصة في أفغانستان والعراق إلى مزيد من الموارد البشرية وطلب الدعم المالي. ولأنه من الصعب جدا التحقق من مدى تلبية الدعوة إلا أن استمرار الدعوات يؤشر، على الأقل، على ضائقة بشرية ومالية تعاني منها أغلب الجماعات السلفية المسلحة. وهذه لا شك نقطة ضعف كبيرة لاسيما فيما يتعلق بفتح جبهات أخرى.
- 6) القاعدة المدنية
كنا قد ناقشنا سابقا جاذبية القاعدة على الصعيد الشعبي. وهذا يعني أن القاعدة منتشرة كفكرة، ولعلها تخترق كافة التشكيلات الاجتماعية وحتى السياسية مثلما تخترق المؤسسات المدنية والسياسية من جامعات ومعاهد ومدارس ومساجد وأحزاب ونقابات ومنظمات حكومية وغير حكومية. ليس هناك أمر مستبعد في هذا السياق. لكن نقطة الضعف البارزة تكمن في عدم مأسسة هذا الاختراق من جهة وسريته من جهة أخرى. هذا الضعف يؤشر على أكثر من حقيقة علمية تشي بأن:
القاعدة ما زالت تنظيما نخبويا وليس شعبيا. والمقصود بالنخبة هنا ليس، فقط، حصر المناصرة بشريحة معينة لا تقوى حتى على حماية نفسها من الملاحقة القانونية والتضييق عليها وحتى إدانتها إذا لزم الأمر؛ بل أن المسألة تتعلق بجوهر الأطروحة السلفية بوصفها أطروحة دينية تقع في مستوى نخبة ذات مواصفات دينية بالدرجة الأساس بقطع النظر عن مستوياتها الثقافية أو مكانتها الاجتماعية والاقتصادية.
وجود مصلحة مشتركة بين أغلب الجماعات الإسلامية، فضلا عن المؤسسات والأفراد، والأجهزة الأمنية للدول في محاربة الفكر السلفي الجهادي وفرض حصار خانق عليه للحيلولة دون انتشاره بين العامة، إما بدعوى محاربة الإرهاب (بالنسبة لخطاب الدولة) أو عبر وصفه بالتطرف ( بالنسبة للجماعات الإسلامية التي تؤمن بما تعتبره الوسطية والاعتدال).
جهل العامة والخاصة في تاريخية الفكر السلفي الجهادي ونشأة التيار وأطروحاته، والاكتفاء بالخطاب الأمني والإعلامي. هذا الخطاب إنْ لم يشوه الأطروحة السلفية فعلى الأقل كاف لإيقاع المتلقي بحيرة وارتباك تجاهه مما يساعد على العزوف عنه.
رفض القوى العلمانية (القومية والوطنية واليسارية) للفكر السلفي الجهادي خاصة في دعوته لتطبيق الشريعة. فهذه القوى بعضها معادي للإسلام قلبا وقالبا، وبعضها الآخر يخشى من تدمير ما يعتبره مكتسبات حضارية تواكب العصر، وبعض ثالث لا يثق بالجماعات الدينية خشية إسقاطها الفقه وأحكام الشريعة على العامة بصورة تعسفية ووحشية فيما لو تولت السلطة.
استهداف التيار السلفي الجهادي للدولة ومؤسساتها ورجالها بالتكفير والحرب عليها. ولعل هذه المشكلة تسببت ببغض التيار والتحريض عليه، والشعور بأن كل من له علاقة بالدولة غدا مستهدفا، ولا بد له من أن يدافع عن نفسه وإيمانه كمسلم. فالدولة، بقطع النظر عن مشروعيتها أو شرعية الحكام فيها، تظل كيانا يمثل خلاصة الاجتماع السياسي والإنساني ولا يمكن إلغاؤه أو تعديله بسهولة. فلماذا يتحمل الناس وزر وجوده أو العمل به وقد بات ضرورة أيا كان محتواه؟
الشعور بخيالية أهداف القاعدة أو ما يسميه ناجح إبراهيم، أحد قادة الجماعة الإسلامية في مصر، إيمان القاعدة بـ «الهدف المستحيل». فمن باستطاعته إعلان الحرب على الولايات المتحدة وهو لا يملك من القوة والإعداد شيء يذكر؟
رغم خطابات كبار قادة السلفية الجهادية عن وجوب نصرة فلسطين وأهلها إلا أنها عجزت عن التواجد الفعال في فلسطين أو توجيه ضربات قوية لإسرائيل واليهود كما فعلت في الولايات المتحدة ودول أوروبية وأفريقية أخرى. فالشارع لا يتفاعل مع الوعود، ولا يتوقف عند التبريرات، أيا كانت مشروعيتها، ولا يلقي بالا حتى للحكم الشرعي بقدر ما يتفاعل مع الوقائع والأحداث وما تحدثه من آثار. ودون ذلك فالقاعدة، بنظر العامة، إنما تحارب في المكان الخطأ حتى لو كانت هذه الحرب باسم «الله أكبر» ومن أجل «لا إله إلا الله».
كان للماركسية، كحركة تغيير شمولية حاربت الرأسمالية، مصطلحاتها كمصطلح «الامبريالية» الذي ساد كثقافة بين نصف سكان الكرة الأرضية أو أكثر. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالرأسمالية التي قدمت مصطلح «الليبرالية» في محاربة قرينتها الماركسية. لكن فيما يتعلق بالتيار السلفي الجهادي فلم يستطع حتى الآن إبداع أي مصطلح يمكن أن يجتمع عليه المسلمون في العالم ناهيك عن بقية البشر. ولا شك أن مصطلحي «التوحيد» و«الطاغوت» الذي جاء به أبو محمد المقدسي من أقوى المصطلحات التي تقدمها السلفية، لكن هذه المصطلحات، رغم شرعيتها الدينية، إلا أن مخرجاتها الميدانية والفقهية والاجتماعية تسببت بتنفير العامة منها، وطبعت السلفية بطابع التكفير والغلو وأظهرتها كوصية على الدين بعيون خصومها.
كل هذه الأمور وغيرها أبعدت أنصار التيار الجهادي عن المجتمع والدولة، وفرضت عليه العيش بسرية أو التواري، بأسماء مستعارة، خلف الفضاء السيبيري آخر النوافذ الإعلامية المتاحة بعد سياسات الحصار الإعلامي عليه من قبل الفضائيات التلفزيونية، وغيبت ما يمكن تسميته بـ «القاعدة المدنية». ولو قارنا بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين للاحظنا بسهولة الامتدادات السياسية والاقتصادية والاستثمارية والإعلامية والعلمية والصحية الضخمة للجماعة حيث تواجدت، بينما لا نكاد نلحظ وجودا للسلفية الجهادية.
- جهاد يتيم سياسيا وشرعيا
إذا افترضنا جدلا أن حقبة الجهاد الأفغاني الأول، إضافة إلى الجهاد البوسني والشيشاني، قد حظي بمشروعية سياسية ودينية تمخض عنها دعم بشري ومادي وفقهي واسعي النطاق؛ فإن هذه المشروعية بكل ما اشتملت عليه انتهت تماما مع الانسحاب السوفياتي من أفغانستان. وحتى قوى المقاومة الوطنية، كحزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، تعرضت لضغوط شديدة تراوحت ما بين الإدانة والحصار إلى الدعوة لنزع سلاحها أو إجبارها على انتهاج طرق سلمية حتى في مصارعة إسرائيل. والثابت أن الأمر لم يعد مقتصرا على القاعدة وأخواتها. فلو أخذنا العراق كمثال؛ فما من جماعة جهادية أو حركة مقاومة حظيت بغطاء سياسي أو شرعي رسمي من أية جهة كانت. وذات الأمر ينطبق على الصومال، وصار ينطبق، بطبيعة الحال، على الشيشان وكشمير. لكن فيما عدا الجماعات السلفية المسلحة يمكن القول بوجود علاقات خفية بين مستويات رسمية وبعض الجماعات الإسلامية ذات الطابع الوطني. وأغلب الظن أنها علاقات أمنية أكثر منها سياسية*. ولما يغدو الجهاد أو المقاومة خارج حسابات الدول فمن الطبيعي أن يغدوا يتيمين سياسيا. فهل يختلف موقف العلماء الشرعيين عن مواقف الدول والساسة؟
لا شك أن المواقف تتباين على المستوى الشخصي للعالم أو لطالب العلم، وعلى المستوى الرسمي وعلى مستوى الجهة المعنية بالمناصرة. فـ «الجهاد الوطني»، كما تمثله حركة حماس، ما زال يحظى بالتأييد والمناصرة من العلماء وطلبة العلم الشرعي، غير الرسميين، مستفيدا من ثقل الإخوان المسلمين ومناصريهم، ومشروعية قتال اليهود عقديا، وتذبذب الموقف الرسمي بحسب الحاجة السياسية. لكن على مستوى «الجهاد العالمي» فثمة انقسام واضح بين مؤيد علني انتهى به الأمر في السجون أو مؤيد خفي لا يخفى كثيرا على أجهزة الأمن والسلطة، وبين معارض له، إلى حد العداء السافر، سرا وعلانية. أما المستوى الرسمي فلا يتزحزح عن موقف الدولة قيد أنملة.
والملاحظ أن ما يثير السلفية الجهادية في مواقف الكثير من العلماء يكمن فيما تراه من تناقض تجاه تنزيل الموقف الشرعي على النوازل التي تحل بالأمة. ففي حين يكون الجهاد في أفغانستان مشروعا ضد السوفيات فإنه يبدو على النقيض منه إذا ما تعلق الأمر بجهاد الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق أو الروس في الشيشان أو الأثيوبيين في الصومال. لكن في المحصلة فقد التيار الغطاء الشرعي مثلما فقد الغطاء السياسي. أما نقطة الضعف هنا فتكمن في اعتماد التيار على الغطاء الشرعي الذي يوفره العلماء وطلبة العلم بما يشكله من رافعة يمكن أن تحمل الأمة على مساندته والجهاد معه وتوجيه مساراته الشرعية بدلا من الطعن به. ولأن القاعدة تفتقر لمثل هذه الرافعة نراها تجعل من شروط القيادة لديها التحصن بالعلم الشرعي فضلا عن الكفاءة العسكرية.
في كل الأحوال فإن أبرز ملاحظة على القاعدة أنها ولدت فكرة منذ البداية ولم تولد تنظيما أبدا. وهذا يعني أن زوالها مرتبط بزوال الفكرة ذاتها وليس بزوال الأشخاص. وبما أنه ثمة فرق شاسع بين العقيدة والأيديولوجيا، وهو ما يدركه الغرب جيدا، فلا ريب أن توقع حرب على العقيدة سيكون أسهل على الأمريكيين من تمني نجاح أية مراجعات عقدية قد تحد من اندفاعة تيار جهادي عالمي بالكاد بدأ فعالياته. وليس أدل على ذلك من فشل معظم المحاولات في هذا السياق، ناهيك عن أن التيار يصنف نفسه خارج نطاق المراجعات أو ما يعتبره مجرد تخذيل وإرجاف لا يعنيه طالما أنه يعتقد بأن أبناء الطائفة المنصورة من «غرباء» هذا الزمن «لا يضرهم من خالفهم».
الخاتمة
هذه الدراسة جاءت لتقدم صورة واضحة، قدر الإمكان، عن أهم جماعتين عاملتين على الساحة الإسلامية العالمية، عبر إخضاعهما لمقارنة استهدفت (1) تاريخية النشأة و (2) واقع كل منهما و (3) فلسفته ومنهاجه في العمل والتغيير، وصولا إلى (4) محاولة استقراء مستقبل الجماعتين، مع الأخذ بعين الاعتبار التطورات والنجاحات والإخفاقات التي واكبت أعمالهما. فلنتوقف، إذن، عند بعض النقاط الختامية ذات الصلة:
- مفارقات النشأة والقدرة على الفعل
فمن ناحية نستطيع القول أن الإخوان المسلمين هي جماعة إصلاحية اجتماعية، تطورت ووصلت إلى مستوى متقدم من القدرة على التعاطي مع الأحداث السياسية المحلية سواء على مستوى الجماعة الأم أو على مستوى الفروع، وفي مستوى آخر إلى القدرة على التدخل وإبداء الرأي في وقائع وأحداث السياسية الدولية في بعض الأحايين. هذه القدرة على الحركة مصدرها استلهام الأداء الفعال الذي قدمه المؤسس في سنواته العشرين التي أسس فيها الجماعة وقادها. فقد كان خطاب المؤسس وأداء الجماعة يتناسبان طرديا مع امتلاك القدرة على الفعل، وكذلك قوة الجماعة ووزنها البشري والمادي والمعنوي في المحيط الذي تعمل فيه. ونستطيع القول، اليوم، أن الإخوان المسلمين باتوا جماعة سياسية .. اجتماعية واقتصادية وثقافية يحكمها الواقع والظروف أكثر مما يحكمها الدين. بمعنى أن مصلحة الجماعة ومصلحة أفرادها هو الهدف الأهم بالنسبة للجماعة.
وفي المقابل فإن الظروف العامة والخاصة، زيادة على البيئية الجغرافية والوسط الاجتماعي لمن ساهموا في تأسيس تنظيم القاعدة، وآليات النشأة، كانت مختلفة كليا عن ظروف المجموعة الأولى التي وضعت النواة الأولى لجماعة الإخوان المسلمين. إذ بخلاف الإسماعيلية كانت الساحة التي برزت فيها القاعدة، في أفغانستان ورديفتها منطقة الحدود الباكستانية المجاورة ممثلة بمدينة بيشاور، ساحة قتال وجهاد ومدافعة ضد عدو صائل. والمجموعات التي شكلت القاعدة كانت قد تنادت وجاءت من ساحات متعددة ومناطق مختلفة، استجابة لنداء الجهاد والقتال والدفاع عن حياض الأمة.
وغالبا ما كان معظم الأفراد والجماعات القادمة متمردة على واقعها وحتى على جماعاتها في مواطنهم الأصلية وليسوا مجرد متذمرين أو ساخطين. بل أنهم كانوا ينظرون للجهاد، بحسب لغة سيد قطب، على أنه بذل النفس والجهد والمال لإزالة كل العقبات والطواغيت الأرضية والمادية التي تقف بوجه الدعوة، أيْ دعوة تعبيد العباد لرب العباد. وبالتأكيد فإن قناعات من هذا النوع وعلى هذا المستوى لا تعنيها المسائل الاجتماعية كثيرا ولا المناهج السلمية كما هو حال الإخوان المسلمين. فالذي يأخذ بمبدأ الجهاد في التغيير الجذري يختلف ويتناقض جذريا مع من يؤمن بالعمل الإصلاحي والسلمي في التغيير حتى لو تقاطع الطرفان في خاتمة المطاف عند الأهداف المشتركة، أي الوصول إلى تحكيم شرع الله وإقامة الدولة الإسلامية وإعلان الخلافة واستئناف الحياة الإسلامية.
- عملية الحكم على الواقع وطريقة التعامل معه
فالإخوان يرون في واقع الأمة الإسلامية بأنه واقع غير سليم أو منحرف، ويسعون في ترميمه وإصلاحه وإعادة بنائه بالدعوة والتربية والإعداد، ويأملون في تهيئته لتقبل المجتمع الإسلامي العتيد. ويسترشدون برؤية البنا في التهيئة عبر إصلاح الفرد والأسرة والمؤسسة والبيت والشارع وصولا إلى المجتمع، ويقولون: إذا صلح الفرد صلح المجتمع. أما الانحرافات التي طرأت على هذا الواقع فيعزونها إلى تراكمات تاريخية وفكرية واجتماعية ومادية، وبالتالي فهم بحاجة إلى فسحة من الزمن لكي يستطيعوا إصلاحها، لكن بالتدرج والمرحلية. أما تنظيم القاعدة فيتعامل مع الواقع على أنه واقع جاهلي. وأن جاهليته نابعة من غياب الولاء والبراء، وإسناد البشر للبشر حق التشريع والحكم. وهم يستندون في ذلك إلى اجتهادات شرعية وعقدية معززة بالدليل الشرعي. وللخروج من حالة الجاهلية فإن تنظيم القاعدة يؤمن، بداية، بوجوب امتلاك الأمة لعناصر القوة ثم استخدامها في عملية التغيير وصولا إلى التأثير في مجريات الأمور والأحداث، بل وأكثر من ذلك العمل بفاعلية وإصرار على صناعة الحدث في كل أرجاء العالم.
فما الأحوال التي آل إليها واقع المسلمين إلا نتيجة لأفعال قام بها عدو خارجي وآخر داخلي للأمة. فهو الذي اغتصب سلطانها، وأسقط هيبتها، وجزأ أراضيها وصنع دولا وأنظمة، على عينه، تأتمر بأمره وتسعى لتحقيق مصالحه في إدامة التبعية والهيمنة والسيطرة ونهب الثروات وامتهان الكرامات. والقاعدة تقول، ومعها التيار الجهادي العالمي، أنه لا مجال للتصالح مع هذا العدو أو استمالته سلميا بحيث يغير من أفكاره وممارساته تجاه الأمة، ولأنه ما من وسيلة لإرغامه على رفع يده عن مقدرات الأمة؛ فلا مفر من السعي لامتلاك القوة ومجاهدته سواء كان عدوا قريبا أو بعيدا. لذا فالجهاد، بالنسبة لهؤلاء، كفيل باستنزاف العدو وإضعافه، وفي نفس الوقت، كفيل بحشد أعداد كبيرة من الأمة للمشاركة في هذا الجهاد وتقديم الدعم المادي والمعنوي له، إلى أن يتمكن من امتلاك القدرة الكافية واللازمة للتغيير والتحرير.
- الأهداف والمواقف بين الحكم الشرعي والواقع
لم يعد الإخوان المسلمون، بعد ثمانين عاما على نشأة الجماعة، أزيد من حركة سياسة اجتماعية. أما فكرهم الذي يوجه اختياراتهم فهو ناتج عن إفرازات الواقع المعاش واحتياجات الجماعة وأفرادها. وهذا مؤشر على أن الأهداف التي يرسمونها لأنفسهم لا تخرج الآن عن مبدأ السلامة العامة والقدرة الدائمة على التكيف مع الأحداث الطارئة. أما تنظيم القاعدة فإنه يستند في أفكاره إلى أسس دينية اعتقادية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير في حكمها على الواقع، أو في طريقة التعامل معه إلا فيما توجبه السياسة الشرعية في فهمها للواقع واحتياجاته. فهم يقولون أن الأصل بالأعمال هو التقيد بالحكم الشرعي، حتى لو بدا أن هذا الحكم يتعارض مع ظاهر المصلحة. وبالتالي فإن الأهداف عند التيار السلفي الجهادي هي وليدة الحكم الشرعي وليس الواقع. كما أن المواقف تتحدد بموجب الحكم الشرعي. وكان هذا الأمر جليا وواضحا في رفض حركة طالبان فكرة تسليم بن لادن إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.
- مشروع العمل
من خصوصيات القاعدة أنها تضع أهدافا مرحلية وأخرى استراتيجية واضحة لا تجادل فيها ولا تدخل في مناورات سياسية، وتسعى إلى تحقيقها والوصول إليها كونها ترى في الانتصارات أداة في تحقيق الأهداف. واستنادا إلى الآية الكريمة: ** إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } النصر1، ترى القاعدة أن هذه الانتصارات كفيلة بإقناع الأمة باتباع نهجها وأسلوبها وطريقتها في التغيير والتحرير، فتحرص كل الحرص على خوض أشد المواجهات المسلحة في جبهات القتال لتلفت أنظار الأمة إلى جهادها وجديتها في الوصول إلى ما تسعى إليه.
أما الإخوان المسلمون فلا يبدو أن لهم هدفا واضحا أو مشروع عمل يمكن معاينته. فهم واقعون في تحالفات مع القوى الأجنبية ضد القوى الجهادية في بعض الساحات الساخنة، وعبروا عن إدانة لفعاليات التيار الجهادي العالمي، ولديهم مشكلات قانونية وأخرى تنظيمية، وعلى امتداد العالم العربي، يجهدون في تشكيل أحزاب سياسية أو التصالح مع الدولة أو الدخول في العملية السياسية والتحدث بلغة علمانية والتخلي عن أي حديث يتعلق بتطبيق الشريعة بل والتنصل منها، وعبر حركة حماس الفلسطينية سعوا إلى البحث عن تسوية سياسية، وثمة في السياق حديث عن الاعتراف بإسرائيل، وتراجع في مستوى الدعوة والتربية تكشفه مدونات الإخوان وهي تعبر عن حاجتها إلى إسلام منفتح على كافة الثقافات. وهذه كلها مؤشرات على غياب الهدف والمشروع المحدد. أما مقياسهم في العمل فهو القدرة على الاستمرار والحراك حتى لو كانت مخرجاتهما القريبة والبعيدة تهدد بتماسك الجماعة أو بقائها.
- الخطاب العالمي والخطاب القطري
تقدم القاعدة نفسها بوصفها مشروع قيادة للأمة، وتتبنى الدفاع عن مصالحها. وتحشد كل ما لديها من خطابها الفكري والسياسي للتأكيد على هذا الأمر رافضة على الملأ أن تكون القيادة بيد الإخوان المسلمين. أما هؤلاء؛ ففي الغالب لم يعد خطابهم السياسي يتجاوز إطار الجماعة أو القطر، وبما يتلاءم مع احتياجات فروعهم وظروفها الخاصة رغم تخطيهم لهذا الأمر أحيانا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع مع اليهود.
- وأخيرا
بالنسبة لتوقعاتنا فيما يتعلق بمستقبل الجماعتين فنستطيع القول أن الإخوان المسلمين يمتلكون من المرونة والليونة ما سوف يمكنهم من الاستمرار والبقاء حتى لو حصل بينهم خلافات وتشذر.أما استمرارية القاعدة فتكمن، إلى حد كبير، في تبني قضايا الأمة النازفة، وحرصها على التواجد في الساحات الساخنة، وقدرتها على فتح ساحات لمعارك جديدة مع أعداء الأمة. وبحسب ما تطرح فإن تعاظم قدراتها مرتبط بقدرتها على تحقيق إنجازات ملموسة في ميادين الحروب.
نستطيع القول أن جاذبية خطاب القاعدة وفعالياتها المسلحة قد تشكل خطرا في المستقبل على تنظيمات وفروع الإخوان المسلمين فيما يتعلق بالقدرة على استمالة أفراد الجماعة. إذ من السهل انتقال الأفراد من صفوف الإخوان إلى صفوف القاعدة وليس العكس بصحيح. لذا فإن المرحلة القادمة قد تكون، على الأرجح، مرحلة تصادم وتنافر قوية بين فكر الإخوان وممارساتهم وفكر القاعدة وأتباعها في ساحات متعددة. وهذا الأمر بدا أو ضح ما يكون في الساحات الساخنة وخاصة في العراق وقطاع غزة في فلسطين.
= قائمة الوثائق والمصادر والمراجع
- أولا: المصادر الوثائقية
الأرشيف الجامع لخطب وكلمات أبو مصعب الزرقاوي: « رِسَالةٌ مِنْ أبِي مُصْعَبٍ الزَّرْقَاوِيّ إِلى الشَّيخِ أُسَامة بن لادِنَ (15/2/2004) »، ( شبكة البراق الإسلامية سابقا والفلوجة حاليا، 10/6/2006)، على موقع الشبكة: الرابط .
بيان الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر بعنوان: « بيان*وبشرى بانضمام ومبايعة الجماعة السلفية للدعوة والقتال»، بتاريخ 13 / 9 / 2006، على أرشيف الجهاد: . الرابط
بيان خادم الإسلام والمسلمين، الملا محمد عمر «مجاهد»، الأربعاء 5 رجب 1423هـ 11/9/2002م.
حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية، (القاهرة، جمهورية مصر العربية، الزهراء للإعلام العربي، 1990.
حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، (جمهورية مصر العربية، مطابع الوفاء، المنصورة، بدون تاريخ).
الشيخ عطية الله، « لقاء خاص مع مركز اليقين»، وبحسب المركز فقد [أنجز اللقاء عبر المراسلة في العشر الأواخر من جمادى الأولى 1428 هـ/ يونيو2007 م.
لائحة النظام الداخلي للإخوان المسلمين.
«السيرة الذاتية لزعيم القاعدة أسامة بن لادن»، وكالة الأنباء الإسلامية بتاريخ 23/10/2007: الرابط
- ثانيا: الشرائط المرئية أو الصوتية
أبو اليزيد (مصطفى)، « سلسلة ريح الجنة 3، الجزء 2»، (شريط مرئي، مركز الفجر - مؤسسة السحاب، محرم 1430 هـ).
أبو اليزيد (مصطفى)، « لقاء خاص»، (مركز الفجر - مؤسسة السحاب، شهر أيار / مايو 2007).الوحيشي (أبو بصير)، «إعلان اندماج جناحي القاعدة في الجزيرة العربية»، ( شريط مرئي 23/1/2009).
آل الشيخ (عبد العزيز)، مفتي السعودية، «خطبة جمعة حول الجهاد في العراق»،(تسجيل صوتي، جامع الأمير تركي بن عبد الله - 28/6/2007)، موقع البث الإسلامي:
(الرابط) ، وفي 2/10/2007 تناقلتها وكالات الأنباء والصحف كـ « فتوى» للشيخ.
البغدادي (أبو عمر)، أمير دولة العراق الإسلامية، « وإن تنتهوا فهو خير لكم»، خطاب صوتي، (مركز الفجر - مؤسسة «الفرقان» الإعلامية التابعة لـ « دولة العراق الإسلامية» 7/8/2007).
بن لادن (أسامة)، «العلم للعمل- الجزء الثاني »، (شريط مرئي، مركز الفجر - مؤسسة السحاب، 7/9/2006).
حكمتيار (قلب الدين)، « كلمة مصورة باللغة العربية، (قناة الجزيرة، 4/5/2006).
جماعة «أنصار المجاهدين»، جزر المالديف، شريط مرئي (17/11/2007).
ملا داد الله القائد العسكري لطالبان قبل اغتيال (13/5/2007) في برنامج «لقاء اليوم»، ( قناة الجزيرة، 2/3/2007).
رحماني (ملا محمد حسن)، عضو مجلس الشورى العالي لحركة طالبان الأفغانية والمستشار الخاص للملا محمد عمر، « لقاء اليوم»، ( قناة الجزيرة، 29/7/2008). على موقع القناة: الرابط
الظواهري (أيمن)، « أجوبة اللقاء المفتوح مع رواد الشبكات الجهادية»، الحلقة الثانية، ، (تسجيل صوتي، مركز الفجر - مؤسسة السحاب، 1429هـ).
الظواهري (أيمن)، « انضمام كوكبة من الجماعة الليبية المقاتلة إلى القاعدة»، قناة الجزيرة الفضائية، 5/2/2006).
الظواهري (أيمن)، « دروس وعبر وأحداث عظام في سنة 1427هـ»، ( شريط مرئي، مركز الفجر - مؤسسة السحاب، 1428هـ).
المهاجر (أبو حمزة)، وزير الدفاع، دولة العراق الإسلامية، « قل موتوا بغيظكم»، ( تسجيل صوتي، مركز الفجر - مؤسسة الفرقان، 5/5/2007).
محمد خليل الحكايمة (أبو جهاد) « مقابلة خاصة»، (مركز الفجر- مؤسسة السحاب، مايو 2006).
النفيسي (عبدالله فهد)، ندوة بعنوان: « أثر التحولات العالمية والإقليمية على مواقف التيارات الإسلامية في منطقة الخليج»، ( قناة الجزيرة ، 25/6/2006).
- ثالثا: المصادر والمراجع
أبراش (إبراهيم)، « البعد القومي للقضية الفلسطينية، فلسطين بين القومية العربية والوطنية الفلسطينية»، ط1، ( بيروت- لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، نيسان/ أفريل1987).
الأيوبي ( نزيه نصيف)، الدولة المركزية في مصر»، ط1، ( بيروت- لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، 1989).
أحمد (رفعت سيد)، « تنظيمات الغضب الإسلامي في السبعينات»، ط1، ( مكتبة مدبولي، القاهرة، جمهورية مصر العربي، 1989).
أحمد (رفعت سيد)، « قرآن وسيف: من الأفغان إلى بن لادن»، ط1، (القاهرة - مصر، مكتبة مدبولي، 2002).
تورين(ألن)، إنتاج المجتمع، ط1، (دمشق - الجمهورية العربية السورية، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، 1976) ، ترجمة إلياس بديوي.
حسين (فؤاد)، « الزرقاوي: الجيل الثاني للقاعدة»، ط1، (بيروت – لبنان، دار الخيال، 2005).
حواتمة (نايف)، نايف حواتمة يتحدث … »، ط2، (عمان - الأردن، دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، 1996).
الجمحي (سعيد علي عبيد)، « تنظيم القاعدة: النشأة .. الخلفية الفكرية .. الامتداد (اليمن أنموذجا)»، ط1، (القاهرة – مصر، مكتبة مدبولي، 2008).
الراشد (محمد أحمد)، « نقض المنطق السلمي»، أيلول / سبتمبر 2008. على موقع إسلام أون لاين: [١]
الفهد (ناصر)، الشيخ، « الدولة العثمانية وموقف دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب منها». متوفرة على موقع منبر التوحيد والجهاد لأبي محمد المقدسي. الرابط.
قطب (محمد)، « واقعنا المعاصر»، ط2 ، (جدة- السعودية، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر، 1987).
علي فهمي، « دين الحرافيش في مصر المحروسة، ندوة الدين في المجتمع العربي»، ط1، (بيروت- لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، 9019).
عمر عبد الحكيم (أبو مصعب السوري)، «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية»، (طبعة ذي القعدة 1425هـ/ ديسمبر 2004). موقع أرشيف الجهاد: . الرابط
ريتشارد ميتشل، « الإخوان المسلمون» - ترجمة، محمود أبو السعود/ تعليق، صالح أبو رقيق – ط1، (مصر، مكتبة مدبولي، 1977)،
المقدسي (أبو عبيدة)، « شهداء في زمن الغربة»، (مركز الفجر للإعلام، ربيع الأول 1428 هـ)، موقع شبكة الفلوجة: http://alflojaweb.com/vb/showthread.php?t=75182.
المقدسي (أبو محمد)، « ملة إبراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين وأساليب الطغاة في تمييعها وصرف الدعاة عنها»، موقع أرشيف الجهاد: . الرابط
ناجي (أبو بكر)، إدارة التوحش، على موقع الأرشيف: الرابط
النفيسي (عبد الله فهد)، تحرير وتقديم، « الحركة الإسلامية، رؤية مستقبلية: أوراق في النقد الذاتي- الإخوان المسلمون في مصر: التجربة والخطأ»، ط 2، (تونس، دار البراق للنشر، 1990).
- رابعا: دراسات وأبحاث
حجازي (أكرم): « تاريخية البرجوازية العربية – مجرد بروليتاريا»، (رام الله– فلسطين، مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، تشرين أول – أكتوبر 2006)، العدد الثامن.
د. حجازي (أكرم): « رحلة في صميم عقل السلفية الجهادية: القاعدة نموذجا»، ( لندن، صحيفة القدس العربي، 28/9 – 31/9/ 2006).
حجازي (أكرم): « مسائل جوهرية في فكر السلفية الجهادية: من التوحيد إلى صناعة القيادة»، تشرين أول / أكتوبر 2007، موقع الباحث: . الرابط
حجازي (أكرم): « مدخل إلى السلفية الجهادية ومشروعها الجهادي: نموذج العراق»، (عمان – الأردن، المعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية، 11 شباط / فبراير 2008).
عمارة (محمد): « مائة عام على ميلاد الإمام الشهيد حسن البنا (ح1 / 6): بطاقة حياة»، ( مجلة المجتمع الكويتية، 14/10/2006)، العدد 1723، موقع المجلة: . الرابط
عمارة (محمد): « مائة عام على ميلاد الإمام الشهيد حسن البنا: من معالم التجديد في مشروعه الحضاري (ح5 / 6) »، مجلة المجتمع الكويتية، العدد 1727، 18/11/2006، موقع المجلة الرابط:
- خامسا: دراسات وتقارير ووثائق غربية
« تقرير وزارة الخارجية الأميركية عن الإرهاب الدولي في العام 2006- المملكة العربية السعودية»: (واشنطن، مكتب منسق مكافحة الإرهاب، وزارة الخارجية الأمريكية، 30 نيسان/أبريل، 2007). على الشبكة الرابط: .
بينارد (شيريل): « الإسلام المدني الديمقراطي: شركاء وموارد واستراتيجيات»، (مؤسسة راند، قسم أبحاث الأمن القومي، 8/4/2004)، ملف باللغة العربية على موقع المؤسسة: الرابط
مجموعة الأزمات الدولية: « تفهم التيار الإسلامي»، تقرير 37، (القاهرة – بروكسل، 2 /3/2005)، ملف باللغة العربية على موقع المجموعة: الرابط
وثائق وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) حول تنظيم القاعدة: وثيقة «AFGP-2002-003345_Original»، (مركز مكافحة الإرهاب، ويست بوينت، أكتوبر / تشرين أول سنة 2001). موقع المركز: الرابط .
- سادسا: مقالات وتصريحات على الشبكة الإلكترونية
إبراهيم (ناجح)، « تنظيم القاعدة: دعوة للمراجعة»، 4/12/2007، موقع الجماعة الإسلامية الرابط،
«إخوان مصر يتبرأون من حملة على « فيس بوك» لإعادة الخلافة الإسلامية»، 25/6/2008، موقع فضائية العربية: 2008/07/25/53696.html الرابط
بلا اسم (دراسة)، «الظروف السائدة بمصر قبل نشأة جماعة الإخوان (1)، 2/11/2003، الموقع الرسمي، إخوان أن لاين: الرابط
بلا اسم، « المرشد الأول ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين»، 2/8/2003. الموقع الرسمي، إخوان أن لاين الرابط : .
تصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما. « أوباما: القاعدة ما زالت الخطر الأكبر على أمريكا»، ( وكالة الأنباء البريطانية « رويترز»، 16/11/2009).
«الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية والجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية». موقع قناة الجزيرة الفضائية على الشبكة، ضمن « تغطيات 2001: حرب أمريكا»، مقالة بعنوان: « الأفغان العرب ... تاريخ وواقع» : الرابط
حجازي (أكرم)، « تأملات في الحالتين التنظيمية والسياسية لحركة حماس ما بعد غزة»، صحيفة الحقائق الدولية، 29/11/2005، على الشبكة: الرابط .
حجازي (أكرم)، « ثمانون عاما وهي خاوية على عروشها! (4): تحالفات «الإخوان» و «حماس» بين الخطر والعجب»، 16/9/2009. على موقع الباحث: الرابط
حجازي (أكرم)، « ثمانون عاما وهي خاوية على عروشها! «معركة المصحف» بلا مصحف (5) »، 1/10/2009. على موقع: الرابط
الخرباوي (ثروت)، « من هم الإخوان المسلمين؟ إجابة لسؤال»، صحيفة المصريون، 2/12/2009. موقع الصحيفة: الرابط
رايس (كونداليزا)، وزيرة الخارجية الأمريكية، وكالات، نقلا عن حديث لقناة «فوكس» الأمريكية، 2/7/2007.
السباعي (هاني)، « كلما نزلوا ساحة قتال أفسدوها»، ( لندن، مركز المقريزي للدراسات التاريخية، 16 ربيع الثاني 1428هـ - 4/5/2007)، على الشبكة: الرابط
سلطان (صلاح الدين)، « العرب صدروا الديكتاتورية لأمريكا»، 8/8/2005، موقع طريق الإيمان، على الشبكة : الرابط.
شوير (مايكل)، « أفغانستان و نسيان دروس التاريخ»، مقالة مترجمة صدرت على موقع جيمستاون الرابط ، ضمن ( نشرة TERRORISM FOCUS بتاريخ 6/3/2007).
الشريف (محمد)، « عاكف يتحدث عن نشأة الإخوان لتليفزيون فرنسا»، 21/12/2004، الموقع الرسمي، إخوان أون لاين: الرابط
صحيفة الشرق الأوسط السعودية، (لندن، 17 مايو / أيار 2002).
النفيسي (عبد الله فهد)، « أحداث سبتمبر والهزة التاريخية في الفكر الأوروبي والأمريكي»، ( مجلة العصر الإلكترونية، 10/9/2006). الرابط
النفيسي (عبد الله فهد)، « مفكر إسلامي خليجي يدعو إلى حل تنظيم الإخوان المسلمين ...»، صحيفة المصريون، 10/2/2007. موقع الصحيفة: الرابط
ماضي (أبو العلا)، « الحالة التنظيمية لحركة الإخوان المسلمين»، 3/10/2004، موقع قناة الجزيرة الفضائية الرابط :
الموعد (حمد سعيد)، « المصادر الفكرية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين»، صحيفة الحياة، ( لندن، المملكة المتحدة - 27 كانون الثاني/ يناير 1995).
وكالة رويترز البريطانية للأنباء (تقرير)، 27/6/2008.
- سابعا: حوارات ومقابلات
(أحمد رائف )، « مفاجأة جديدة يكشفها أحمد رائف القيادي السابق في الجماعة المحظورة»، صحيفة الأهرام المصرية، 19/9/2009. على الموقع: الرابط
عبد الباري عطوان (رئيس التحرير)، «مقابلة مع بن لادن»، صحيفة القدس العربي، لندن، تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1996.
(محمد مهدي عاكف )، « عاكف لـ «النهار»: لا مانع من المد الشيعي.. فعندنا 56 دولة سنية»، صحيفة النهار الكويتية، 24/12/2008، موقع الصحيفة: الرابط .
(محمد مهدي عاكف )، « مرشد جماعة الإخوان المسلمين مهدي عاكف يرد على أسئلتكم»، ( منتدى حوار موقع الـ BBC، شباط / فبراير 2007). الرابط
يوسف ندا (مقابلة)، لا يوجد تنظيم عالمي للإخوان المسلمين»، (صحيفة المصري اليوم (4)، 31/5/2008)، العدد 1448. موقع الصحيفة: الرابط .
يوسف ندا، « الأمريكيون استخدموا مصر « سلخانة»، (صحيفة المصري اليوم (3)، 30/5/2008)، العدد: 1447. موقع الصحيفة: الرابط .
المقدسي (أبو محمد)، « حوار»، (الأردن، مجلة العصر الإلكترونية وصحيفة المرآة، 1423هـ)، وبحسب منبر التوحيد والجهاد فقد: « نشر أجزاء من هذا الحوار في مجلة المرآة في الأردن ونشر في مجلة العصر الإلكترونية ثم سحب بعد دقائق!! ». على الشبكة: الرابط
ملخص البحث
الإخوان المسلمون وتنظيم القاعدة
(دراسة تاريخية مقارنة)
بحث بإشراف: د. وليد العريض
هذا البحث يعقد مقارنة بين جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة بوصفهما جماعتين عاملتين على المستوى الإسلامي والعالمي. أما المقارنة فتقع في أربعة مستويات:
- الأول: تاريخية النشأة.
- الثاني: واقع الجماعة أو التنظيم
- الثالث: المنهج والفلسفة
- الرابع: مستقبل الجماعتين
لا ريب أن دراسة الماضي بدقة، وعلى أسس منهجية واضحة، أمر من شأنه أن يساهم في فهم الكثير مما يجري في الحاضر، ويوطئ للتنبؤ، بأكبر قدر ممكن، فيما سيكون عليه المستقبل.
الواقع السائد يشي بأن الفلسفات والأيديولوجيات والمذاهب الوضعية باتت لغة مقبولة لأكبر الحركات الإسلامية كجماعة الإخوان المسلمين، سواء في بلد النشأة أو في الفروع، حتى أنها غدت منذ بضعة سنين فقط تتحدث بلغة علمانية، بشهادة لغة الغرب نفسه معها، مستفيدة من أجواء الانفتاح الغربي في التعامل مع الحركات والجماعات الإسلامية.
وفي المقابل ثمة جماعات، كتنظيم القاعدة وتيارات السلفية الجهادية، لم تعد تؤمن بأية أطروحة وضعية مفضلة العودة إلى العقيدة في التعامل مع القضايا المصيرية الكبرى بعد أن رأت أن المناهج والفلسفات الإصلاحية لم تعد قادرة على التعامل مع التحديات التي تواجهها الأمة.
كلا الجماعتين أو التنظيمين يعملان على تمثيل مصالح الأمة، لكنهما باتا على نقيض حتى في مستوى العلاقات فيما بينهما خاصة وأنهما يتنافسان على كسب الرأي العام. لكن أيهما سيتقدم أو يتراجع؟ هذا ما يحاول البحث الإجابة عليه في المحور الرابع الذي يُجري بعض التحليلات المقارنة على أساس حصر أهم نقاط الضعف والقوة لدى كل منهما.
Abstract
Muslim Brothers and al-Qaeda
(Comparative Historical Study)
A Research Supervised by Dr. Wleed al-Areed
This research compares between Muslim Brothers Group and al-Qaeda as groups working on the Islamic and the global levels. The comparison is held on four levels:
The first: the historical origin
The second: the reality of the group or the organization
The third: approach and philosophy
The fourth: the future of both groups
There is no doubt that studying history accurately, according to clear and systematic bases, is an issue participating in understanding various things from those which occur these days. The prevailing reality demonstrates that philosophies, ideologies, and positivisms have become an accepted language among the most popular Islamic movements—Muslim Brothers Group, for instance—either in the country of origin or even the branches. Moreover, it started to speak in a secular language only couple years ago, with the West itself agreeing with it, taking advantage of the Western openness in dealing with the Islamic movements and groups.
On the other hand, there are several groups—such as al-Qaeda and the jihadist salafist currents—that do not believe in any positivism theses, preferring to come back to Islamic faith in dealing with the most crucial issues after realizing that reforming curricula and philosophies are not, anymore, able to deal with the challenges confronting our nation.
Both groups or organizations are working on representing the interests of the nation, but they became in contrast even in the relationship between each other, especially because they participate to gain the public opinion. But which one of them will develop and which will retreat? This is what the research is trying to answer in the fourth axis that make some comparative analyses to limit the most important points of weakness and strength among each one of them.