افتحوا أبواب الأمل من أجل الإصلاح والتغيير
رسالة من الأستاذ محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين

إلى الحكماء وإلى العقلاء:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ومن والاه..
تعيش أمتُنا العربية والإسلامية ظرفًا تاريخيًّا بالغَ الدقة والحَرَج، تم فيه تغييبُ الشعوبِ وحجْبُ إرادتِها، وسيطرت فيه القوى الخارجية على مقدراتِها، وانفصل الحكامُ عن الشعوبِ، فلم يستمدوا منها عزَّتَهم، ومَنعتهم في وجه الطغيان الأمريكي والدولي، وفقدوا كلَّ شرعيةٍ شعبيةٍ، وتآكلت شرعيتُهم الدستوريةُ والقانونية مع كل تزويرٍ لإرادة الأمة وكبتٍ لحرياتِها وحظرٍ للقوى الشعبية، وخيَّم يأسٌ وإحباطٌ على نفوسِ بعضِ الشبابِ، الذي لم يجد متنفَّسًا له في الحياة السياسية والثقافية والفكرية والاجتماعية.
فانطلق فريقٌ منه يفجِّر نفسَه ويدمِّرُ الآخرين ويُشوِّه صورةَ الإسلامِ والمسلمين في أعمالٍ إجراميةٍ لا يقرُّها عقلٌ ولا دينٌ، تحيطُ بها الشكوكُ من كل جوانبِها، ولا يتم تحقيقٌ نزيهٌ حولها، ولا تصل محاكماتُها إلى وضوحٍ للرؤية؛ مما يستدعي- والأمر كذلك- أن نرفعَ صوتَ العقلِ والحكمةِ، فننادي العقلاءَ والحكماءَ من أبناءِ هذه الأمة أن يصرخوا معنا في وجه الاستبداد والفساد: افتحوا أبوابَ الأملِ من أجل الإصلاح والتغيير بطرق سلمية قبل أن يجرفَنا طوفانُ اليأس والإحباط إلى هاويةٍ ليس لها قرارٌ.
إن الاستبدادَ هو آفةُ هذه الأمة وكلِّ أمةٍ أخرى، ولنا في تاريخِنا الحديثِ والمعاصرِ- بل والقديم والمتوسط- كلُّ درسٍ وعبرةٍ، وقد عانت أممٌ أخرى وشعوبٌ شتَّى من هذه الآفة المدمِّرة التي أزهقت أرواحَ الملايين في حروبٍ عالميةٍ ونزاعاتٍ دوليةٍ وفتنٍ أهليةٍ.
وعرف العقلاءُ من هذه الأمة وغيرِها أن الحلَّ يكمنُ في فتحِ أبوابِ الأمل أمام الشعوب، وبثِ روح التفاؤل في أبناء الأمة، وأن التغييرَ ممكنٌ بطرق سلمية وعبر الوسائل الدستورية والقانونية، وباحترامِ إرادةِ الأمةِ وعدمِ العبثِ باختيارِها السليمِ، وفتحِ أبواب تداولِ السلطة دون هزِّ الأمنِ أو الاستقرارِ، فالحكم لم يكن أبدًا- عند العقلاء والمخلصين- مغنمًا بل كان دومًا في إسلامنا مغرمًا وعبئًا ثقيلاً، ولنا في قولة الفاروق- رضي الله عنه-: "ليت أمَّك لم تلدْك يا عمر" كلُّ العبرة والعظة.
إننا معشرَ الإخوان المسلمين ننادي منذ زمنٍ ليس بالقصير بضرورةِ الإصلاحِ السلميِّ المتدرِّجِ وتغييرِ النفوسِ والسلوكياتِ؛ عملاً بالآيةِ الكريمةِ ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).
ونقول بكلِّ صدقٍ وإخلاصٍ: "إنَّ إطلاقَ الحرياتِ العامةِ- مثلَ حريةِ التنظيمِ والتعبيرِ وتكوينِ الأحزابِ والجمعياتِ، وحريةِ الانتخابِ- سيؤدي إلى تقويةِ الروابطِ والأواصرِ بين أبناءِ الأمةِ، ولن يؤديَ إلى تمزيقِها أو تفتيتِها، وهو المدخل إلى العزَّةِ والمنعةِ والتقدم والرقيِّ".
فالإسلام العظيم الذي يظلنا جميعًا عقيدةٌ للمسلمين، وحضارةٌ وثقافةٌ لكل المواطنين (نصارى ومسلمين) وغيرهم، وقد جمَّعنا على الأخوَّة الإنسانية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات :13).
وهذا الإسلام الذي حافظَ على تنوُّعِ الأقوامِ والشعوبِ داخلَ حضارتِه، وبينَ صفوفِ أمتِه، وصهرَهم جميعًا في بوتقةٍ واحدةٍ، مع احتفاظِ كلٍّ بخصوصيتِه.. عربًا وفُرسًا، كُردًا وتركًا، زنوجًا وبربرَ.. هذه الأخوَّة الإسلامية بين هؤلاء الأقوامِ أدت إلى متانةِ الوحدةِ الإسلامية وقوةِ الشعورِ بالانتماءِ إلى أمةٍ واحدةٍ، فلم تتمزق الأمةُ تحت شعاراتِ القومية والعرقية والوطنية، إلا بعد أن غرسَ الاحتلالُ ذلك في نفوس المتغربين من أبنائها، وعمل على تمزيقها وتفتيتها.. ذلك لأن الإسلامَ جعلَ هذه الخصوصياتِ مدخلاً إلى وحدةِ الأمةِ التي تجمعها وحدانيةُ الإله، والقِبلةُ الواحدةُ، والمشاعرُ والشعائرُ الواحدةُ، بل والمستقبلُ والمصيرُ الواعدُ.
ولقد ساهم كلُّ هؤلاء في صنعِ الحضارةِ العربيةِ والإسلاميةِ العظيمةِ، التي قادت العالمَ قرابةَ ألفِ عامٍ، ونشرت فيه نورَ العلمِ والمعرفةِ، وبدَّدت سُحُبَ الجهلِ والخرافةِ.. مسلمين ونصارى ويهود، عربًا وفُرسًا وكُردًا وتركًا وبربرَ وزنوجًا.
لقد روَّعتنا في السنوات الأخيرة حوادثٌ إرهابيةٌ وإجراميةٌ، امتدت إلى كل بلد تقريبًا، فلم تنجُ منها دولةٌ، بل امتدت إلى خارج حدود العالم العربي والإسلامي؛ مما جمعَ العالمَ كلَّه ضد الإرهابِ.. هذا الوحشِ المفترسِ الذي لم يتوقف أحدٌ عند تعريفِه بصورةٍ دقيقةٍ أو البحثِ في أسبابِه وجذورِه، ومع ذلك لم ينتبهْ عاقلٌ ولا حكيمٌ إلى أن علاجَ هذه الظاهرةِ المدمِّرةِ إنما يكون بمحاربةِ الاستبدادِ والفسادِ والتخلُّفِ، ولن يتم ذلك إلا بإطلاقِ الحرياتِ العامةِ، وتركِ العملِ الأهليِّ يتنفسُ ويحتضنُ الشبابَ، ودعمِ الدعوةِ الإسلاميةِ المعتدلةِ لتربيةِ الشبابِ على قواعدِ الإسلام، ونشرِ ثقافةِ التسامحِ والسلامِ، وفتحِ أبوابِ التغييرِ السلميِّ عبر القنوات الدستورية والقانونية.
إن صراخَنا المستمرَّ ضدَّ الإرهابِ وإدانَتَنا المتواصلة للأعمال الإجرامية لن تؤديَ إلى نتائج ما لم يكفَّ المستبدون عن تزويرِ إرادةِ الأمة ومُصادرَةِ حرياتِها.. إن العويلَ الذي لم ينقطع على ضحايا العنف في كل مكان لن يُجديَ ما لم نحاربْ بكل قوةٍ تحالفَ الفسادِ والاستبدادِ والتخلفِ في بلادنا، وننشرْ روحَ الأمل في مستقبلٍ أفضلَ بالعلم والمعرفة، والحريةِ والعدلِ، والشورى والتنمية.
إننا لا نعتمد بعد الله تعالى إلا على إيمانِ أمتِنا بعقيدتِها ووعيِها بثقافتِها وإصرارِها على نَيلِ حقوقِها وانتزاعِ حرياتِها، ونحنُ نثقُ في قدرةِ هذه الشعوبِ على التمييزِ بين الأُصَلاءِ الصادقين في الدفاع عن حقوقِها وبين المخادعين الذين يُزيِّنون لها القولَ ويحتالون على تزييف إرادتِها.
إن المؤامرةَ الصهيونية- الأمريكيةَ ضدَّ مصالحِ أمتِنا (والتي بدأت بعد الحربِ العالميةِ الثانيةِ وتتوالى فصولُها إلى يومِنا هذا، والتي انتقلت إلى مرحلةٍ جديدةٍ باحتلالِ العراقِ والضغوطِ المتواصلةِ على سوريا، مع تركِ الاستبدادِ في بلادٍ أخرى تحاكِم نظمُها دعاةَ الحقِّ والسلامِ، وتعتقلُ حكوماتٌ أخرى مئاتِ المخلصين وتُسيءُ معاملتَهم في السجون ولا تأبَهُ باحتجاجاتِ المحتجِّين).. هذه المؤامرةُ تحتاج إلى تضافر جهود كل المخلصين من كلِّ التيارات السياسية والاتجاهاتِ الفكرية لمواجهتِها وعدم الوقوعِ في حبائلِها أو الانخداعِ بها.
ونحن نقولُ: إننا ومِن منطلقِ دينِنا نؤمنُ بالتنوُّعِ بين البشرِ وإمكانيةِ التعاونِ بين الشعوبِ والأممِ على قاعدةِ الاحترامِ المتبادَلِ، وتحقيقِ مصالحِ الجميعِ لِما فيه خيرُ البشريةِ، وإننا إزاءَ الظلمِ الواقعِ على أمتِنا لا نملكُ إلا القيامَ بواجبِ المقاومةِ والدفاعِ عن أمتِنا، ودعوةِ الجميع إلى مواجهة الخطر مجتمعين.
ومرةً أخرى ننادي الحكماءَ والعقلاءَ: افتحوا أبوابَ الأملِ من أجلِ الإصلاحِ والتغييرِ قبل أن يفوتَنا القطارُ، وتدهمَنا المخاطرُ، ويغرقَنا طوفانُ اليأسِ والإحباطِ.. ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ (الأنفال: 25).
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.